المقدمة

مقدمة السلسلة

يخطئ الكثير من الناس حين يتصورون أن مطامع أعداء الأمة الإسلامية محصورة فقط في فلسطين أو في القدس أو في بعض تلك المدن التي كانت ولا تزال قبلة للأحرار في العالم.

فالجشع الاستعماري والحقد الغربي لا يكتفي بتلك الدولة، ولا بتلك المدن التي تتشكل منها، وإنما يمد يد مطامعه وأحقاده إلى جميع بلاد العالم الإسلامي، ليلتهمها دولة دولة، ومدينة مدينة، وشارعا شارعا.

وهو يستعمل لكل دولة أو مدينة أسلوبه ووسائله وذرائعه الخاصة.. فقد ضرب بغداد التي كانت عاصمة الحضارة والثقافة الإسلامية لقرون عديدة، عبر استعداء إخوانها من المدن العربية، ومن خلال قواعده فيها نشر الخراب والدمار، ولا يزال ينشر الفتنة، وبأياد وأموال عربية تكذب على نفسها حين تتصور أنها مع فلسطين والقدس، ويستحيل أن يكون مع فلسطين والقدس من لم يكن مع العراق وبغداد والنجف وكربلاء، وكل تلك المدن المضمخة بعطر العلم والإيمان والحضارة.

وهكذا ضُربت سورية بأموال عربية، وبمرتزقة عرب، يتوهمون أنهم مع قضايا الأمة، مع كونهم أشد أعدائها، شعروا بذلك أو لم يشعروا.. حتى الإسلاميون الذين يشنعون على العدو الصهيوني ضربه لغزة والضفة الغربية، راحوا يباركون له ولأمريكا وكل الدول الإمبريالية الغربية ضربها لدمشق وحلب وحمص، تلك المراكز الكبرى للحضارة الإسلامية، ولقرون طويلة.

وهكذا نجد أعداء الأمة يستخدمون أولئك المغفلين من العرب والمسلمين لينهشوا كل مرة قطعة جديدة من أرض العالم الإسلامي، ويركزون بصورة خاصة على العواصم الحضارية التي كانت بمثابة المنارات التي أضاءت للبشرية قرونا طويلة، ولذلك يريدون أن تنكس أعلام تلك المنارات، حتى لا يمتد ضياؤها أو يعود لها بريقها وإشعاعها.

ومن تلك الدول التي لا يمكن لأحد أن يستبعد دورها المهم في التاريخ والحضارة الإسلامية (الجمهورية الإسلامية الإيرانية).. تلك الدولة التي لا تحوي مركزا واحدا فقط من مراكز الحضارة، بل تحوي مراكز كثيرة جدا.. فهي البلاد التي تضم أصفهان وشيراز وقم ومشهد ونيسابور وطهران وكاشان والكثير من المدن التي يتربع في كل شبر منها فقيه أو محدث أو مفسر أو أديب أو طبيب أو فلكي أو كيميائي.. ويتربع في كل قطعة منها أثر من آثار الحضارة الإسلامية، والقيم العظيمة المرتبطة بها.

ولذلك كانت الحملات الشديدة عليها، لا من أمريكا أو إسرائيل وحدهما، وإنما من أولئك العرب المغفلين الذين راحوا يشوهون إيران، ويدعون المتآمرين لضربها، ولم يكتفوا بذلك، بل راحت كل وسائل إعلامهم تشيطنها بدل أن تشيطن أمريكا، أو العدو الصهيوني.

وإن نسينا فلن ننسى أبدا ذلك الموقف الذي وقفه السلفيون والحركيون، حين عقدت بعض الاتفاقات في مصر لفتح المجال للزيارات السياحية المشتركة بين طهران والقاهرة، حينها راح السلفيون من معهم من الحركيين يدعون إلى الذهاب إلى المطارات، ومنع كل سائح إيراني من الدخول إلى مصر، في نفس الوقت الذي يدخل فيه الإسرائليون والأمريكيون، وعبدة الشياطين والهييز.. وكل من هب ودب.

ولن ننسى أبدا تلك القنوات التي لا هم لها إلا تصوير إيران بكونها شيطانا أكبر، وأنه لا غرض لها إلا هدم الأمة، وتفريق صفها، واستعمار أرضها، والهيمنة على خيراتها، في نفس الوقت الذي نرى فيه تلك الخيرات توهب هكذا مجانا، وبمئات الملايير من الدولارات لترامب وزوجته وابنته.. وكل المقربين أو المبعدين منه.

وقد بدأت هذه الحملة منذ لبست إيران لقب (الجمهورية الإسلامية)، حينها فقط تحولت إلى مشروع مجوسي وصفوي وفارسي، أما قبل ذلك، فقد كانوا مقربين جدا منها يستقبلون الشاهنشاهات بالأحضان، ويرفضون أي إساءة لهم، لسبب بسيط هو أن أولئك الشاهنشات كانوا أصدقاء لأمريكا وإسرائيل والغرب.

ولذلك كان الواجب على كل مسلم أن يقف في وجه هذه المؤامرات الموجهة للعالم الإسلامي، ولمراكز الحضارة فيه، فالغرب لا يستهدف فقط ديننا وقيمنا، وإنما يستهدف كذلك أرضنا، ويستعمل بعضنا بعضا وسيلة لتحقيق ذلك.

وبناء على هذا حاولت في هذه السلسلةأن أقوم بواجبي الشرعي في الذب عن هذه القطعة المباركة، التي لا يمكن أن أنكر دورها العظيم علي وعلى جميع المسلمين.. فأكثر التراث الإسلامي الفقهي والأدبي واللغوي والصوفي جاءنا منها.

وأذكر أن من أوائل كتب الأدب التي شغفت بها كتاب (الأغاني)، لأبي فرج الأصفهاني، وهو من أصفهان الإيرانية.. وهكذا كان من أوائل الشخصيات التي قرأت كل كتبها، وامتلأت تعظيما لها، وأنا لا أزال شابا يافعا، أبو حامد الغزالي، وهو من طوس، وقبره قريب من مقام الإمام الرضا في مشهد… ومثله الفيض الكاشاني، وهو من كاشان، ومثلهما فريد الدين العطار وأشعاره الجميلة، وهو من نيسابور.. وهكذا كان أكثر الأعلام الذين تتلمذنا على أيديهم من صوفية وفقهاء وشعراء ومحدثين ومفسرين من تلك البلاد الممتلئة بالجمال والقيم الرفيعة.

لكن مع ذلك كله، وفجأة، ومن غير مقدمات تحولت إيران من تلك البلاد التي تضم أكبر مراكز الحضارة، وأكثر محاضن العلم والمعرفة، ومهد المدارس الإسلامية بجميع تفرعاتها، إلى بلد المؤامرات على الإسلام والمسلمين، وطيلة تاريخها.

حيث حولتها الكثير من الأقلام المأجورة، ومعها المؤسسات الإعلامية الضخمة، ومعهما سيل كبير من المغفلين الطائفيين الذين أعمتهم الأحقاد عن أن يبصروا الحقائق؛ فراحوا يشككون في إسلام إيران، ويطرحون بين عوام الناس وخواصهم أن الإيرانيين ليسوا سوى مجوس تستروا بالإسلام ليقضوا عليه.

وراحوا يبتدعون في سبيل ذلك الكثير من المصطلحات الغريبة التي لم نسمع بها طيلة التاريخ الإسلامي من أمثال: (المشروع الصفوي)، و(الإمبراطورية الفارسية) و(الفرس المجوس) و(الخطرالفارسي) و(جاء دور المجوس)، وغيرها، وهي من الكثرة بحيث لا تحتاج أي توثيق، لأن الجميع صار يسمعها ويرددها من غير أن يحاول التأكد منها، أو التثبت من معانيها، ذلك أنه يسمعها من كبار رجال العلم والدين في الأمة، ومن كبار الحركيين والقيادات الاجتماعية فيها.

والطامة الكبرى، والتي لا يمكن تفسيرها هي أن أكبر من حمل لواء العداء لإيران، وفي ثوبها الإسلامي، هم أولئك الإسلاميون الذين يدعون أنهم يطمحون إلى تحقيق المشروع الإسلامي على أرض الواقع، ليستعيدوا بذلك أمجاد الإسلام، ويحققوا قيمه في البلاد الإسلامية، ويحققوا معها معاني الحاكمية التي جاءت النصوص المقدسة بالدعوة إليها في كل مجالات الحياة.

لكنهم، وبعد فترة قصيرة من نجاح الثورة الإسلامية الإيرانية، راحوا يخونون ويشيطنون نظام (ولاية الفقيه)، الذي اعتمده الشعب الإيراني، وصوت عليه، وقبله نظاما لحكمه، وهو نظام يدعو إلى (الحاكمية لله)، وينفذها في الواقع بطريقة علمية سمحة ممتلئة بكل القيم الحضارية، مع مراعاة حقوق الشعب في اختيار قادته ونوابه.

وكان المنتظر من الإسلاميين أن يفرحوا بذلك، وأن يساندوه باعتباره المشروع الذي ظلوا طول أعمارهم ينادون به، لكنهم بدل ذلك راحوا يسبون الفقيه، ويكفرونه، ويعتبرونه متآمرا على الإسلام.. وراحوا يمدون أيديهم لجميع أعداء الأمة التي تخلت عن كل مشاريعها، لتجعل هدفها الوحيد والأكبر هو صد ذلك الزحف من الوعي الذي مثلته الجمهورية الإسلامية بوقوفها مع جميع القضايا العادلة.

ولأجل هذا حاولنا في هذه السلسلةأن نجمع كل تلك الشبهات التي استعملها الإسلاميون وغيرهم لضرب الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتشويهها وشيطنتها، لاعتقادنا أن ذلك من الواجبات الكبرى التي لا يجوز لنا السكوت عنها، فالشبهات التي تطال الإسلام لا تكتفي فقط بالشبه المرتبطة بتصوراته العقدية، أو أحكامه الفقهية، أو قيمه السلوكية.. بل هي تتعدى ذلك إلى الشبهات التي تطال شعوبه وبلاده وتاريخه وحضارته.. ذلك أن تشويه تلك الشعوب، ليس سوى تفريغ للإسلام من كل المنتسبين إليه.

وهو يدخل ضمن ما أُمرنا به من الذب عن إخواننا المسلمين والانتصار لهم، ورد الظلم عنهم؛ فلا يجوز لمسلم يسمع من يكفر إخوانه المؤمنين الطيبين في إيران أو في أي مكان، ويرميهم بالعظائم، ثم يظل ساكتا لا يتحرك للدفاع عنهم، لأنه يكون بذلك شريكا للمتآمرين الظالمين.

وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الواجب الشرعي في قوله تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } (لأنفال:72)

ففي هذه الآية الكريمة حض على نصر المؤمنين بعضهم بعضا؛ فلا يصح أن ينعم المسلم بالأمن والعافية والسمعة الطيبة والثناء العريض، في الوقت الذي يصاب إخوانه في إيران بكل أنواع البلاء، من الحصار الجائر، والحرب الضروس الظالمة، ومعهما كل تلك المكاييل التي لا عد لها من السباب والشتائم والتكفير والتبديع.

وهكذا دعانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نبرهن على إسلامنا بنصرة إخواننا في أي مكان تعرضوا له لأي أذى، ففي الحديث قال صلى الله عليه وآله وسلم: (المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة.. بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وعرضه، وماله)([1])

وهكذا نجد النصوص المقدسة تدعونا إلى نصرة إخواننا في كل أرض، وفي كل حال، ففي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:( انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً)، قيل: يا رسول الله! أنصره مظلوماً، فكيف أنصره ظالما؟)، قال:(تمنعه من الظلم؛ فذلك نصرك إياه)([2])

وهكذا نص جميع العلماء من جميع المذاهب الإسلامية على أنه لا يجوز للمسلم أن يسكت عن الذب عن غرض إخوانه إذا ما انتهك، حتى لا يكون شريكا للمنتهكين، يقول الغزالي عند تعديده لحقوق الأخوة الإسلامية (ذب الأخ عن أخيه في غيبته مهما قصد بسوء أو تعرض لعرضه بكلام صريح أو تعريض، فحق الأخوة التشمير في الحماية والنصرة وتبكيت المتعنت وتغليظ القول عليه، والسكوت عن ذلك موغر للصدر ومنفر للقلب وتقصير في حق الأخوة.. فأخسس بأخ يراك والكلاب تفترسك وتمزق لحومك وهو ساكت لا تحركه الشفقة والحمية للدفع عنك وتمزيق الأعراض أشد على النفوس من تمزيق اللحوم ولذلك شبهه الله تعالى بأكل لحوم الميتة فقال:{ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً } (الحجرات: 12))([3])

ولهذا، فإنا في هذه السلسلةنحاول أن نطبق بقدر المستطاع هذه الواجبات الشرعية التي تحرم علينا أن نسكت عن الظلم الموجه لعشرات الملايين من إخواننا الذين يغتابهم في كل لحظة الإعلام المغرض، والأقلام المأجورة، والخطباء المغفلون، والسياسيون المتلاعبون..

وقد التزمت في هذه المقالات الحياد المطلق، والموضوعية التامة، فلم أذكر أي مسألة إلا مشفوعة بأدلتها والوثائق التي تثبتها، ذلك أن الشريعة التي أمرتنا بنصرة إخواننا والذب عنهم، هي نفسها التي أمرتنا بأن نكون موضوعيين وعلميين، وألا نتبع الهوى، فالحق أحق أن يتبع، وقد قال الله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (الإسراء: 36)، وقال: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } (المائدة: 8)

ولهذا نحن نسعد بكل من ينتقدنا، أو يصحح ما قد نورده من معلومات يرى خطأها، ذلك أننا لم ندع عصمة إيران، ولا الشعب الإيراني، كما لم ندع عصمة أي دولة أو أي شعب من الشعوب.. لكن نريد فقط من الذي ينتقد أو يرد أن ينتقد بعلم، وبموضوعية، وبحياد تام، وبما هو ظاهر.. لأن الكثير للأسف يدخل تخميناته وحدسه وكشفه الباطن في هذا المجال..

حيث يذكرون لنا أن إيران وأمريكا وإسرائيل يشكلون حلفا مشتركا لمواجهة الأمة، وتخريبها.. فإذا ما طالبتهم بالدليل ذكروا لك أن ذلك يجري في الخفاء، ومن وراء الكواليس، وما تحت الطاولة..

فإذا سألتهم عن مصدر تلك المعلومات الخطيرة لم يجيبوك بشيء، لأنهم يتوهمون أن أوهامهم وحدسهم وكشفهم الباطن وحدها الدليل على تلك الادعاءات العريضة التي يدل كل شيء على نقيضها.

ولهذا لا نحترم أمثال تلك الدعاوى لأن الله تعالى نهانا أن نرجم بالغيب، أو نبني أحكامنا على سوء الظن، بل طولبنا بأن نتعامل بالظاهر، وأن نكل إلى الله النيات والسرائر، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا ولا تنافسوا، ولا تدابروا ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله إخوانا)([4])

وقبله قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} (الحجرات: 12)، بل اعتبر أن أكبر حجاب وقع فيه المنحرفون عن الأنبياء هو سوء ظنهم بأنبيائهم، كما قال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} (الأنعام: 116)

ولهذا، فإن عقولنا لا تستطيع أن تصدق تلك الأراجيف والوساوس، في نفس الوقت الذي ترى فيه الجمهورية الإسلامية الإيرانية تدفع الغالي والنفيس في صراعها مع جميع قوى الاستكبار العالمي من أجل مواقفها الشجاعة والصادقة من القضية الفلسطينية، ومن الحروب الناعمة والصلبة التي تسلط على العالم الإسلامي.

مقدمة الكتاب

يحاول هذا الكتاب الذي جعلناه الجزء الأول من هذه السلسلة التعريف بجانبين مهمين في إيران تاريخا وواقعا، وهما:

أولا ـ بيان أن الإيرانيين مسلمون منذ الفتح الأول، لم يتزحزحوا عن إسلامهم شعرة واحدة، وأن إسلامهم كان صادقا كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنهم لم يتآمروا على الإسلام بتحريف أحكامه، ولا على المسلمين بإعلان الحرب عليهم، كما يزعم المغرضون.

وذكرنا في الكتاب الكثير من التجليات والشواهد والبراهين الدالة على ذلك، ابتداء من اهتمامهم تاريخا وواقعا بالقرآن الكريم قراءة وتفسيرا وتفعيلا في كل جوانب الحياة.. ومثله اهتمامهم بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحسب ما وصلت إليهم نصوصها، وأنهم لأجل ذلك مؤمنون بعقائد الإسلام، ومنفذون لشرائعه، ومتحلون بقيمه الأخلاقية والروحية والحضارية، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.

ثانيا ـ بيان أن إيران لم يكن تمسكها بدينها تمسكا أنانيا، احتكرته لنفسها، وإنما راحت تستعمل كل الوسائل لخدمة الإسلام والمسلمين ابتداء من القرن الأول، حيث كانت أرضها منبعا لكل العلوم الإسلامية، ومحلا لتدريسها والكتابة فيها.

ففيها ظهرت أكبر تفاسير القرآن الكريم، وأكثر مجامع السنة النبوية، ومعظم ما كتب في العقيدة والفقه والأخلاق والعرفان وكل العلوم العقلية والكونية.

وفيها كانت المدارس التي نشأ فيها كبار العلماء، وتتلمذت فيها أجيال طويلة من المسلمين، الذين استقر بهم الإسلام، وامتد في الأرض، لينشر هداية الله، ويلبس في كل عصر اللباس الذي يتناسب معه.

وقد حاولنا في هذا الكتاب كذلك أن نبين أن المشروع الحالي لإيران ليس سوى امتداد لمشروعها القديم في خدمة الإسلام، بل إن هذا المشروع حاول أن يستفيد من كل ما حصل في التاريخ من عبر، ليؤسس من خلالها دولة إسلامية قوية، تحمل هم طرح القيم الإسلامية بحسب ما هي عليه، بعيدة عن كل التحريفات التي وقعت عبر التاريخ.

وحاولنا أن نفند عند ذكرنا لهذا المشروع كل الشبه التي يذكرها المغرضون، والتي على أساسها حولوا من إيران دولة العداء للإسلام، بدل أن تكون دولة الخدمة للإسلام، وقد استندنا في ذلك إلى ما ذكره القادة الفكريون لهذا المشروع من خلال كتاباتهم وطروحاتهم المختلفة.

وقد قسمنا الكتاب إلى سبعة فصول، كما يلي:

أولا ـ إيران.. والقرآن الكريم: وذكرت فيه تعلق الإيرانيين بالقرآن الكريم قراءة وتدبرا وتفسيرا وحفظا، ورددت فيه بتفصيل على تلك الشبه المغرضة التي تصور أن لإيران قرآنا غير قرآن المسلمين، وبينت أن مشروع إيران الحديث ليس سوى محاولة لتطبيق القرآن الكريم في الواقع بجميع مجالاته.

ثانيا ـ إيران.. والسنة النبوية: ورددت فيه على تلك المغالطات التي يستعملها المغرضون، ليشوهوا بها إيران من خلال تصويرهم لها بأنها بلد البدعة والضلالة، وأنه لا علاقة لها بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد ذكرت فيه أن إيران ليست متمسكة بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في واقع حياتها فقط، وإنما هي أكبر من خدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفي جميع مراحل التاريخ، فأكثر كتب السنة رواية ودراية كتبت من طرف أعلامها الكبار.

ثالثا ـ إيران.. والعقيدة الإسلامية: وقد بينت فيه بالأدلة الكثيرة مدى التزام الإيرانيين بالعقيدة الإسلامية ونصرتها من خلال من ظهر فيها من المتكلمين الذين لم يظهر مثلهم في جميع بلاد العالم الإسلامي، كما رددت فيه على تلك الشبه التي يذكرها المغرضون، والتي يحاولون من خلالها شيطنة إيران وتكفيرها.

رابعا ـ إيران.. والشريعة الإسلامية: وبينت فيه من خلال الأدلة الكثيرة مدى اهتمام الإيرانيين بتطبيق بالشريعة الإسلامية في جميع مجالات حياتهم، وأن المشروع الحالي الذي أُعلن الحرب عليها بسببه ليس سوى تجسيد للنظام الإسلامي الذي استنطبه الفقهاء من المصادر المقدسة المعصومة.. بالإضافة إلى ذلك ذكرت مدى اهتمام الإيرانيين بخدمة الشريعة الإسلامية، والكتابة في فقهها وأصولها، وضمن الرؤى المختلفة للمذاهب الإسلامية.

خامسا ـ إيران.. والقيم الروحية: وبينت فيه ـ من خلال الأدلة الكثيرة ـ مدى تمسك الإيرانيين بالدين من خلال التزامهم بشعائره التعبدية، وما تنطوي عليه من سمو روحي، بالإضافة إلى ذكر الكثير من مساهماتهم في خدمة هذا الجانب، من خلال كبار الروحانيين الذين عاشوا فيها، وكتبوا في التصوف والعرفان والحياة الروحية.

سادسا ـ إيران.. والقيم الأخلاقية: وبينت فيه مدى اهتمام الإيرايين بالسلوك الأخلاقي، والدوافع التي دفعتهم لذلك، كما بينت مدى اهتمام المشروع الإسلامي الحديث بتنمية هذا الجانب في الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي وكل المجالات.

كما ذكرت فيه مساهمات الإيرانيين في التأسيس لعلم الأخلاق، والكتابة فيه، وهي المجال الذي كانت لهم الريادة فيه بجدارة.

سابعا ـ إيران.. والقيم الحضارية: وبينت فيه مدى تمسك الإيرانيين بالحضارة، وعراقتهم فيها، وفي القيم المرتبطة بها، وذكرت ـ من خلال الأدلة الكثيرة ـ أن مشروعها للأمة ليس مشروعا استعماريا، ولا تسلطيا، ولا مشروع هيمنة، وإنما هو مشروع حضاري راق، يريد أن يخرج الأمة من تبعيتها لتبني حياتها وفق الرؤية الإسلامية الحضارية التي جاء الأنبياء جميعا لتحقيقها في أرض الواقع.

هذه هي الفصول الكبرى التي قسمنا على أساسها مباحث الكتاب، والتي اعتمدنا في كتابتها على مصادر تاريخية وفكرية كثيرة، ومن المدارس المختلفة، وقد وثقنا كل ذلك بحسب ما أطقنا، حتى يتمكن القارئ من العودة إلى المصادر والتأكد بنفسه.

ونحب أن نبين أننا ـ لصعوبة الإحصاء ـ اكتفينا بذكر النماذج من كل قضية نطرحها، ذلك أنه من الصعب أن نؤرخ في هذا الكتاب المختصر لكل المفسرين والمحدثين والفقهاء والمتصوفة وعلماء الفلك والطب والفلاسفة وغيرهم.. ولذلك اكتفينا بذكر نماذج عنهم، وعن كبارهم الذين أسسوا للمعارف، أو كانت لهم إسهاماتهم الكبرى فيها.

ومثل ذلك لم نفصل كثيرا في ذكر النواحي المختلفة المرتبطة بالمشروع الحضاري الجديد، ذلك أننا خصصنا بالكتاب الثاني من هذه السلسة، والذي عنوناه بـ [إيران.. نظام وقيم]، والذي تناولنا فيه الشبهات بالمزيد من الردود العلمية المفصلة، كما وضحنا فيه القيم التي يتبناها هذا النظام ومدى شرعيتها.

ونحن وإن كنا بذلنا جهدا كبيرا في البحث والتحقيق إلا أننا لا ندعي العصمة، ولذلك يسرنا أن نجد من يوجهنا أو يصحح أخطاءنا، على أساس النصح والنقد البناء الذي ينهض بأمتنا، لأنا عند حديثنا عن إيران، لم نتحدث إلا عن قطعة كريمة من بلاد الإسلام، وتكريمها لا يعني تحقير غيرها، ولا التهوين من شأنه.

وإنما خصصناها بالحديث، ردا للظلم الذي يطالها، والذي أمرنا بالوقوف في وجهه، فالعقل والشرع والأخلاق الرفيعة تدعونا للنهوض لنصرة المظلوم، والدفاع عنه، وهذا ما حاولنا فعله في هذا الكتاب، ونستغفر الله من التقصير في أداء الواجب.


([1])  رواه البخاري 9 / 171، ومسلم رقم (2563).

([2])  رواه البخاري 5 / 70، والترمذي رقم (2256).

([3])  إحياء علوم الدين (2/ 181)

([4])  رواه أحمد (2/482)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *