المقدمة

مقدمة

لا يخفى أن للاتجاهات الفكرية تأثيرها الكبير في المواقف والمعاملات وجميع التصرفات، فالفكر هو مقدمة السلوك ومنبعه وأصله الذي منه يستمد، ومن المجانبة للصواب أن نحلل أي قضية دون الرجوع إلى منابعها الفكرية التي منها انطلقت، وخاصة إذا مست القضية تاريخ أمة وثقافتها ودينها.

وانطلاقا من هذا التصور البديهي والمنهجي، نحاول في هذا الجزء أن نتعرف على المنابع الفكرية التي يستقي منها كل من جمعية العلماء المسلمين الجزائريين والطرق الصوفية، لاعتقادنا بأن تلك المنابع هي التفسير الصحيح، بل والوحيد لكل ما حصل من توافق أو خلاف.

وعلى الرغم من بديهية هذا الطرح ومنهجيته إلا أنا – للأسف – لم نر تطبيقيا حقيقيا له في الواقع البحثي والأكاديمي فيما يرتبط بالتعامل بين الجمعية والطرق الصوفية، فقد دأب أكثر من اطلعنا على دراساتهم على الاقتصار على الرجوع لرجال الجمعية في مواقفها من الآخر، واعتبار ما ذكرته هو الحقيقة المطلقة من جميع جوانبها، من غير النظر فيما كتبه الآخر أو دافع به عن نفسه، أو التعرف على الأصول التي جعلته يعتقد ذلك الاعتقاد.

وقد أدى هذا المنهج إلى تحول أكثر الباحثين إلى مجرد أبواق تردد ما ذكره الإبراهيمي أو ابن باديس أو الميلي أو غيرهم من غير أن يكلف هؤلاء أنفسهم التحقيق في مدى صحة ما قالوا، أو الرجوع للذي شنت تلك الحرب للتحقق من مدى صحة الجرائم التي اتهم بها.

بناء على هذا التنبيه أو النقد الذي رأينا ضرورة طرحه نحاول في هذا الباب أن نتجنب هذا الخطأ العلمي والمنهجي والأخلاقي، وذلك بالرجوع إلى كل طرف من طرفي التعامل للتعرف على المدرسة الفكرية التي ينتمي إليها، وعلى المشروع الإصلاحي الذي يحمله من غير أن نسيء به الظن، أو نقوله ما لم يقل، أو نتجنى عليه بأي جناية تصطدم مع العلم والدين والأخلاق.

ولا نكتفي بذلك، بل نحاول أن نرجع إلى مصادر الفكر ومنابعه التي منها يستمد، ذلك أن النظرة الموضوعية التي هدانا إليها ما وقع في جميع التاريخ الديني والثقافي للعالم الإسلامي هو أن جمعية العلماء في حقيقتها ليست سوى امتداد لمدرسة أو مدارس فكرية وسلوكية موجودة منذ فجر التاريخ الإسلامي.

والطرق الصوفية لا تختلف عنها في ذلك، فلها هي الأخرى امتدادها التاريخي والجغرافي في جميع العالم الإسلامي.

وكما أن للمدرسة الأولى علماؤها ورجالها الذين ينافحون عنها، فكذلك للمدرسة الثانية علماؤها ورجالها وأطروحاتها.

ولهذا فإن من المخالفة للمنهج العلمي أن ندرس كلا التيارين مبتورا عن الجذور التي أنبتته بالشكل الذي هو عليه.

انطلاقا من هذا قسمنا هذا الجزء إلى ثلاثة فصول:

حاولنا في الفصل الأول أن نتعرف على المدرسة الفكرية التي تنتمي إليها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، والمشروع الإصلاحي الذي تريد تنفيده في الواقع الجزائري.

وفي الفصل الثاني تناولنا المدرسة الفكرية التي تنتمي إليها الطرق الصوفية، والمشروع الإصلاحي الذي تريد تنفيذه في الواقع الجزائري.

وفي الفصل الثالث: تناولنا أثر الاتجاهات الفكرية والإصلاحية لجمعية العلماء والطرق الصوفية في التعامل بينهما.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *