المظلومية.. واللعب بالعواطف

ليس من المنطق، ولا من الشرع، ولا من الأخلاق أن ننكر المظالم التي تقع لأي جهة من الجهات إذا ما ثبتت، ولم تكن كذبة أو خدعة، أو مسرحية كتلك المسرحيات التي تمثل كل حين في سورية لضرب استقرارها، وتفتيت وحدتها، وزرع الفتن بها.
ولكنا في نفس الوقت نحتاج إلى أن يكون لنا الكثير من الحكمة التي تتيح لنا التحقيق في المظلومية نفسها، وهل كان المظلوم فيها مستفزا للظالم، أم لم يكن مستفزا؟.. وهل كان الظالم مبادرا للظلم، أم أن المظلوم هو الذي جره إلى ذلك؟.. وهل كان من الممكن تفادي كل ذلك، أم أن كل ذلك كان فرضا شرعيا لا يمكن الفرار منه؟
هذه أسئلة كثيرة نحتاجها قبل أن نقرر الوقوف مع المظلوم، ذلك أنه قد يكون ظالما من حيث لا يشعر.. فالبت في مثل هذه القضايا من قبيل البت في الأحكام القضائية التي تقتضي التريث والتحقيق والبحث الدقيق؛ فلا يصح أن يكون الشخص شاهدا وحاكما ومحاميا وقاضيا في نفس الوقت.
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى في قوله تعالى في عتاب داود عليه السلام: { وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ } [ص: 24]، فداود عليه السلام ـ كما ذكر المفسرون ـ عوتب في كونه اكتفى بالسماع لأحد الخصمين، الذي قال له: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص: 23]، فراح داود عليه السلام ـ وبالعاطفة التي تميل بكل إنسان إلى المظلوم، ولو من غير تحقيق ـ يقول للخصم الآخر: {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} [ص: 24]، وهنا عوتب على الحكم في صالح الخصم الأول، قبل سماعه للخصم الآخر.
وهذا العتاب يوجه مثله للكثير من الذين يسارعون إلى لوم الأنظمة والجيوش، بل يستعملون كل الوسائل العاطفية لتشويهها، بحجة ضربها للمسالمين، ولا يسألون أبدا هل كان أولئك المسالمون حقيقة مسالمين؟.. وهل ضرب الجيش حقا بتلك الوسائل؟
وأسئلة أخرى كثيرة على العاقل أن يجيب عنها قبل أن يقف أي موقف، أو يحكم أي حكم، أو يدافع عن أي جهة، وأولها عن الجهات التي تنشر مثل هذه الأخبار، وتسربها، وتصورها، وهل لها مصالح في ذلك أم لا؟
حتى يكون حكمه مستقيما، ولا يعاتب على التسرع في الحكم، أو الانسياق وراء العاطفة المجردة، التي هي طبع إنساني كريم، ولكنه قد يصبح أداة من أدوات الشيطان لإغواء الأنسان.
وكمثال بسيط على هذا، ويتعلق بما يستخدمه الإعلام المغرض مما يسمى [مظلومية حماه]، وما فعل بها الرئيس السوري السابق.. وهم يتداولون هذا الكلام، وينشرونه من غير تحقيق، ولا تثبت ولا معرفة الأسباب.
ولو أنهم فعلوا ذلك.. بل لو اكتفوا بالذهاب إلى علماء حماه حينها، بل حتى حركييها الذين ندموا على تلك المواقف، لخففوا من غلوائهم، وعلموا أن أولئك المظلومين ليسوا سوى ظلمة روعوا الناس، وأطمعوا الأعداء في سورية، وهددوها بالتقسيم، حتى بادر الجيش السوري كأي جيش في العالم ليحرر المدينة من أيديهم.
ولذلك وقع ضحايا، ولابد أن يقع ضحايا.. لكن من المسؤول عنهم، ومن فعل ذلك التصرف المشين الذي جعل أولئك الضحايا يسقطون.. وما علاقة الجيش السوري بذلك، وهو لم يؤد إلا دوره في استعادة المدينة، بعد أن نشر المنشورات، وطلب من المتمردين العودة إلى عقولهم، وإلقاء السلاح، لكنهم لم يفعلوا.
وهكذا لا زالوا يمارسون ذلك، فالرئيس السوري ـ اقتداء بما فعله نظيره الجزائري من سياسة [الوئام الوطني] ـ يدعو المسلحين كل حين، بأن يضعوا أسلحتهم، ويعودوا إلى حضن الوطن، وأنه لن يحصل لهم شيء.. لكنهم يأبون، فإذا ما ضربوا بفعل تمردهم، قامت القيامة على الجيش الذي أدى دوره كأي جيش في العالم.. وينسون أن ذلك السلاح الذي كان بيد المتمرد والإرهابي لم يكن لعبة، بل كان سلاحا أيضا، وكان يقتل به أبناء شعبه.. وكان من الممكن أن يسقط به ذلك الجندي الذي نتهمه بالظلم.
ونفس الأمر ينطبق على كل ما مارسته الحركة الإسلامية، وتاريخ مظلوميتها الطويل، والذي كتبت فيه القصائد الطوال والقصص الكثيرة لتملأ عواطف الناس بالحقد على الأنظمة.
فهل كان أولئك الحركيين مظلومين حقيقة، أم كانوا ظالمين في صورة مظلومين.. فلو أن الإخوان اكتفوا بالدعوة إلى الله، وتربية الناس وتوعيتهم وتعليمهم.. بل حتى لو ذهبوا إلى أبعد من ذلك، فشرحوا شمولية الإسلام لكل شؤون الحياة.. هل كانت الأنظمة ستضربهم؟
وأنا أجيب هنا بكل بساطة: إنها لن تفعل.. لأن الكثير فعلوا ذلك، ولم يحصل لهم شيء.. بل ذهبوا بعيدا في انتقاد الأنظمة، ولم يحصل لهم شيء.. لكن عندما تنشأ التنظيمات، ومعها التخطيطات، ومعها المظاهرات والعصيان المدني، هنا يأتي دور السلطة لتستعيد هيبتها، وهنا يسقط الضحايا الذين تسبب في سقوطهم عدم الوعي بما يفعلون.
وللأسف هؤلاء يدخلون ما فعله الإمام الحسين في هذا الجانب، وهو وهم كبير، فالإمام الحسين كان إمام الأمة حينها، وكان مفترض الطاعة من جميع الأمة، وكان على الأمة أن تسير خلفه عندما خرج.. لكنها عندما تأخرت عنه، فعل ما فعل بأمر من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لإقامة الحجة وحفظ الدين.. ليس لجيله فقط، وإنما للأجيال جميعا. ولهذا لم نر سائر الأئمة من أهل البيت يفعلون ذلك، بل كانوا ينهون عنه.
ولهذا، فإن الفارق عظيم بين ذلك السلوك العظيم، والتضحية الفذة، وبين ما تمارسه تلك الحركات التي لم تنل نصيبها من المصداقية عند الأمة، ولم تنل حظها من البيعة، ولا حتى من الفهم السديد للإسلام.. ولذلك كانت تصرفاتها في هذا الجانب أشبه بالغوغائية منها بالعمل الإسلامي الرشيد.