المبحث الثاني: جوانب الخلاف بين الجمعية والطرق الصوفية حول ميسرات السلوك ومنشطاته

جوانب الخلاف بين الجمعية والطرق الصوفية حول ميسرات السلوك ومنشطاته
بالإضافة إلى الممارسات السلوكية التي ترى الطرق الصوفية ضرورتها للسلوك هناك ما يمكن أن نسميه (ميسرات السلوك ومنشطاته)، باعتبار تأثيرها الجاذب للمريدين، والمخفف عن التعب والإرهاق الذي قد يصيب السالك في سلوكه.
وقد تفطن المستشرق الصوفي المتخصص نيكولسن إلى أهمية هذا الجانب في التصوف، بل وضرورته للسلوك، فقال: (وسرعان ما عرف الصوفية أن الإنجذاب يمكن أن يستعان عليه بالصنعة لا بجمع الفكر وبالذكر وغيرها من طرق التنويم الذاتي وحدها، بل كذلك بالموسيقى والغناء والرقص، وهذه جميعا تدخل تحت كلمة (السماع) التي لا تدل إلا على الاستماع للغناء)([1])
بناء على هذا، وبناء على ما ذكرنا سابقا من ممارسات الطرق الصوفية في هذا الجانب، نكتفي هنا بذكر ما نتج عن تلك الممارسات من مناقشات علمية أو غير علمية.
وقبل أن نذكر ذلك ننقل كلمة للشيخ ابن عليوة يرد بها على الشيخ عثمان بن المكي الذي لم يكتف بتحريم بعض هذا النوع من الممارسات، وخاصة العمارة منها، وإنما راح يكفرهم بسبب ذلك، يقول الشيخ ابن عليوة ردا عليه: (ولكنّك ظننت أنّ التصوّف عبارة عن جماعة من الناس يجتمعون للرقص، وإنشاد الأشعار لا غير، ومثلك كمن قصد راعي الغنم بالليل يطلبه أن يتصدّق عليه بماشية، فأذن له في ذلك فذهب ليأخذ ماشية، فوقعت يده بالليل على كلب الحراسة الذي هو عادة يكون مختلطا بالمواشي، فلمّا أصبح الصباح وجد بيده كلبا فأخذ يتهم راعي المواشي، ويلقبّه براعي الكلاب، وهذا ما يقتضيه لسان ما جمعتموه لأنّكم أقصرتم التصوّف على الرقص وما في معناه)([2])
وهذه هي الحقيقة للأسف التي تعاملت بها الجمعية مع الطرق الصوفية، فهي لم تلاحظ إلا هذا الجانب خصوصا، فأكثر ما كتبته الجمعية في الرد على الطرق الصوفية مرتبط بالحضرة أو بالموالد أو ما تسمى بالزرد ونحوها، وكأن التصوف والصوفية ليس إلا هذه الأمور.
يعتبر السماع وما يصاحبه من حركات واهتزازات ركنا أساسيا في أكثر الطرق الصوفية، ولو أنهم – كما ذكرنا- لا يعتبرونه ركنا في السلوك، ولا شرطا فيه، بل يعتبرونه من الوسائل المساعدة التي يحتاج إليها أكثر الناس للنهوض والسير.
ولهذا نجد كبار المشايخ ينكرون على من يعتمد عليه، أو يعتبر الأحوال الناشئة عنه أحوالا حقيقية يمكن التعويل عليها، وهم يتفقون في كثير من هذا مع ما يذكره الفقهاء والسلفيون منهم خصوصا.
بناء على هذا نحاول في هذا المطلب بعد تحديد المفاهيم أن نرى موقف الجمعية والطرق الصوفية من هذا الركن المهم من الأركان المساعدة على السلوك الصوفي.
من خلال الاطلاع على ما كتبه علماء الجمعية وغيرهم حول السماع والرقص الصوفي نجد إجماعا على إنكاره، بل اعتباره من البدع الخطيرة التي تسيء إلى الدين والمجتمع، ولعل أكبر صوت منكر لهذا النوع من الممارسات الطرقية الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، فقد قال في معرض حملته الشديدة على التصوف، بل على كلمة (التصوف): (فقد أصبحت هذه الكلمة التي غفلوا عنها أمًّا ولودًا تلد البر والفاجر. ثم تمادى بها الزمن فأصبحت قلعة محصنة تؤوي كل فاسق وكل زنديق وكل ممخرق وكل داعر وكل ساحر وكل لص وكل أفاك أثيم.. وإن هذه القلعة لهي المعقل الأسمى والملاذ الأحمى لأصحابنا اليوم. فكل راقص صوفي، وكل ضارب بالطبل صوفي، وكل عابث بأحكام الله صوفي، وكل ماجن خليع صوفي، وكل مسلوب العقل صوفي، وكل آكل للدنيا بالدين صوفي، وكل ملحد في آيات الله صوفي، وهلم سحبًا)([3])
ونفس الموقف يقفه عضو الجمعية الشرفي محمد تقي الدين الهلالي، فقد قال في كتابه (الحسام الماحق): (فدخل في ذلك البدع الحقيقية، كالتقرب إلى الله بالرقص، وقرع الطبول ونحو ذلك)([4])
وقال في كتابه: (الدعوة إلى الله في أقطار مختلفة): (وأما عبادة الحمير فأذكر فيها قصتين: إحداهما وقعت في طرابلس الغرب على ما حدثني به ثقة، وذلك أنه كان في تلك الديار شيخ متصوف اسمه عبد السلام الأسمر كان يرقص مع أصحابه ويضربون بالدفوف حتى يخروا صرعى على الأرض، ويعتقدون أن الدف الذي كان يضرب به الشيخ عبد السلام نزل من الجنة، وكان يضرب به علي بن أبي طالب للنبي، والشيخ عبد السلام والمريدون المنقطعون للعبادة معه لم يكونوا يكتسبون معيشتهم لأنهم كانوا بزعمهم متوكلين. وكان للشيخ المذكور حمار يطوف على بيوت البلدة وحده كل صباح ومساء وعليه خرج فكلما وقف بباب بيت يضع أهله شيئا من الطعام في ذلك الخرج فيرجع إلى الشيخ والمريدين بطعام كثير غدوة وعشية، فلما مات الشيخ وتفرق المريدون وبقي الحمار بلا عمل فصار الناس يقدمون له العلف ويتبركون به إلى أن مات فدفنوه وعكفوا على قبره يعبدونه) ([5])
واستمر هذا الموقف من الجمعية بعد الاستقلال، فقد كان الشيخ أحمد حماني – مع حساسية المناصب التي تولاها- يتحين كل فرصة لينكر على الطرق الصوفية هذا النوع من الممارسات، ومن تصريحاته في هذا ما كتبه في كتابه (صراع بين السنّة والبدعة): (كان من مقاتل خصوم الإصلاح عبادة الله (بالرقص)… هذا ما كان ينكره حزب الإصلاح على الطرقيين عموما وقد التزمه العليويون ودافعوا عنه ووضعوا له آداب وأسماء، واستشهدوا بأحاديث لا يعترف بها المختصون من رجال الحديث ولا تصح عندهم ولا تستحسن)([6])
وقد ذكر بعض تلك الأحاديث التي تصور أنها كل ما عند أصحاب الطرق من أدلة، فقال: (وأما الاهتزاز والرقص فقد احتجوا له بما زعموه مرويا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ليس بالكريم من لم يهتزّ عند ذكر الحبيب…سبق المهتزّون بذكر الله…يضع الذكر عنهم أثقالهم فيأتون يوم القيامة خفافا).. ورائحة الوضع تفوح من هذا الكلام، ومنذ عهد السلف كان من أكبر الوضّاعين للحديث جهلة المتصوّفة)([7])
وقال ردا على استدلالهم بما نقل بعض أهل التفسير أنّ ابن عمر وعروة ابن الزبير وجماعة من الصحابة خرجوا يوم العيد وقاموا يذكرون الله على أقدامهم: (من أنكر المنكر أن يستدلوا لشرعية هذه (الحضرة) بعمل بعض الصحابة والتابعين، ذكروا أنّ بعض أهل التفسير (الألوسي) نقل أنّ ابن عمر وعروة ابن الزبير وجماعة من الصحابة خرجوا يوم العيد للمصلى فجعلوا يذكرون الله تعالى فقال بعضهم لبعض أما قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191]، فقاموا يذكرون الله على أقدامهم.. لو صح النقل والخبر، واستقام عند أرباب الصناعة فليس فيه إذن باجتماع القوم، والقيام، والجهر، والتطريب والتلحين ولروي عنهم بجماعة مستفيضة، لو صحّ لما دلّ مطلقا على (الحضرة) التي عرفت عن القوم وصورها بأمانة قلم الشيخ المفتي، وحدد لها شروطها وآدابها، وعين لها ألفاظا ليس فيها ما هو من الذكر الشرعي سوى كلمة (لا إله إلا الله) ووضع لها أسماء الهيللة، والاسم الأعظم واسم الهويّة وهو اسم المتأوهين والمعنون عنه باسم الصدر واسم المتولهين، أمّا كلمات (هو) و(أهـ) و(هـ) إلخ فإنّها أصوات الحيوانات العجمى أشبه منها بأصوات العقلاء)([8])
وقد سبق أعضاء الجمعية في هذا الكثير من المصلحين الجزائريين الذين نظروا بعين النقد لما يحدث في تلك المجالس، ولعل أشهرهم الشيخ عبد الرحمن الأخضري الذي قال في منظومته التي نقد فيها الصوفية:
والرقصُ
والصراخ والتصفيق |
عمداً بذكر الله لا يليق |
وإنما
المطلوبُ في الأذكارِ |
الذكرُ بالخُشوع والوقارِ |
فقد
رأينا فرقةً إنْ ذَكَروا |
تَبَدَّعوا وربّما قد كفروا |
وفعلوا
في الذكر فعلاً منكراً |
صعباً فجاهدهم جهاداً أكبرا |
خلّوا
من اسم الله حرف الهاء |
ألحدوا في أعظم الأسماء |
لقد
أتوا والله شيئاً إدا |
تخرمنه الشامخات هدا |
والألف
المحذوف قبل الهاء |
قد أسقطوه وهو ذو إخفاء |
وزعموا
أن لهم أحوالا |
وأنهم قد بلغوا الكمالا |
والقوم
لا يدرون ما الأحوال |
فكونها لمثلهم محال |
حاشا
بساط القدس والكمال |
تطؤه حوافر الجهال |
والجاهلون
كالحمير الموكفه |
والعارفون سادة مشرفة |
وقال
بعض السادة المتبعة |
في رجز يهجو به المبتدعة |
ويذكرون
الله بالتَّغْبِير |
ويشْطَحون الشَّطح كالحمير |
وينبحون
النبح كالكلاب |
طَريقُهم ليست على الصَّواب |
وليس
فيهم من فتى مطيع |
فلعنة الله على الجميع |
قد
ادَّعوا مراتباً جليلة |
والشرع قد تجنَّبوا سبيله |
قد
نبذوا شرعة الرسولِ |
والقوم قد حادوا عن السبيلِ |
لم
يدخلوا دائرة الحقيقة |
كلا ولا دائرة ا لطريقة |
لم
يقتدوا بسيد الأنام |
فخرجوا عن ملَّة الإسلام |
لم
يدخلوا دائرة الشريعة |
وأولعوا ببدعٍ شنيعة |
لم
يعملوا بمقتضى الكتاب |
وسنَّةِ الهادي إلى الصَّواب |
قد
مَلَكَت قلوبَهم أوهام |
فالقوم إبليس لهم إمام |
والجمعية في موقفها هذا ترجع إلى مصدريها المعتمدين لديها: السلفية التنويرية، والسلفية المحافظة، وسنلخص هنا باختصار ما يعتمد عليه هذان المصدران من الأدلة:
وأهم دليل يعتمد عليه – بالإضافة إلى ما سنراه من أدلة المحافظين – هو أن ما يحصل فيه تلك المجالس مما يسيئ للإسلام، وإلى السلوك الحضاري الذي جاء به الإسلام، أو كما عبر عن ذلك الشيخ محمد الغزالي حين سئل عن (طائفة من العباد يجتمعون على ذكر الله بأسمائه الحسنى كلها أو بعضها، وقد يتمايلون أو يهتزون، فما حكم هذه العبادة؟)
فأجاب قائلا: (هذه بدعة قديمة استحدثها بعض أصحاب المشاعر المضطربة، وقد سماها بعض الصحافيين الأجانب (الرقص الديني) وهي تسمية يحس المسلم بالخزي إذا سمعها، لأنها تجعل الإسلام أشبه بالعبادات التي يمارسها الزنوج في أفريقية وهذه فتنة مزعجة، وإهانة شديدة للإسلام)([9])
وقريب من هذا التبرير نجد الشيخ محمد البشير الإبراهيمي يخاطب الطرق الصوفية لا بمنطق الأدلة التي تعتمدها السلفية المحافظة، وإنما بمنطق الواقع والمقاصدية التي تعتمدها السلفية التنويرية، فيذكرهم بعواقب ما يقومون به من اهتزاز ورقص، فيقول: (تدرون عواقب ما صنعتم بهذه الأمّة؟ إنكم اقتلعتم ببدعكم كل ما غرس الإسلام فيها من فضائل فمكّنتم فيها لأعراض الانحلال والتفكك والسقوط. وأتيتم على ما فيها من ذكاء ونشاط وعمل فأصبحت بين الأمم وهي مضرب المثل في البلادة والجمود والكسل ولو كنا وحدنا في أرض الله لهان الأمر في الجملة ولكن من ورائنا الأجانب عن هذا الدين يتربّصون به الدوائر فيأخذونكم في عداد أبنائه ويأخذون أعمالكم في عداد أعماله. فهل في أعمالكم ما يبيّض وجه الإسلام ويدفع عنه عادية الألسنة والأقلام، وإن منكم من يرقص أمام أولئك الأجانب رقص القرود وتلبسه شيطانيته فيلتهم الزجاج والحديد والحيات وهم يضحكون ولا رأي لهم إلا أن هذا هو الإسلام وهذه هي تعاليمه وهذه آثاره، ولا منطق لهم إلا أن هؤلاء أتباع طريقة كذا، وطريقة كذا من الإسلام، فهذا هو الإسلام ونحن نقول لهم إن الإسلام لا يعرف طريقة كذا ولا طريقة كذا فهو بريء من هذه البعران والتماسيح وهو من أفعالهم أبرأ)([10])
وهو من أشد من وقف من هذه الظاهرة، ولعل أسبق من تحدث عنها، وألف فيها الرسائل والقصائد الشيخ ابن القيم في كثير من كتبه، وخاصه كتابه (إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان)، فمما جاء فيه قوله: (ومن مكايد عدو الله –أي الشيطان- ومصايده، التى كاد بها من قلّ نصيبه من العلم والعقل والدين، وصاد بها قلوب الجاهلين والمبطلين، سماع المكاء، والتصدية، والغناء بالآلات المحرمة، الذى يصد القلوب عن القرآن، ويجعلها عاكفة على الفسوق والعصيان، فهو قرآن الشيطان، والحجاب الكثيف عن الرحمن)([11])
ويصف ابن القيم بدقة ما يحصل في عصره في مجالس السماع، وهو يشبه كثيرا ما يحدث في كثير من مجالس الطرق الصوفية، فيقول: (حتى إذا عمل السكر فيهم عمله، وبلغ الشيطان منهم أمنيته وأمله، واستفزهم بصوته وحيله، وأجلب عليهم برجله وخيله، وخَزَ فى صدورهم وخزاً. وأزَّهم إلى ضرب الأرض بالأقدام أزا، فطورا يجعلهم كالحمير حول المدار، وتارة كالذباب ترقص وسُيَطْ الديار. فيا رحمتا للسقوف والأرض من دك تلك الأقدام، ويا سوأتا من أشباه الحمير والأنعام، وياشماتة أعداء الإسلام، بالذين يزعمون أنهم خواص الإسلام قضوا حياتهم لذة وطرباً، واتخذوا دينهم لهواً ولعباً)([12])
ومن المصادر التي اعتمدتها الجمعية في موقفها هذا ما كتبه الشيخ أبو بكر الطرطوشي، فقد سئل عن (جماعة من رجال فيكثرون من ذكر الله تعالى وذكر محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ثم إنهم يوقعون بالقضيب على شيء من الأديم ويقوم بعضهم يرقص ويتواجد حتى يقع مغشيا عليه، ويحضرون شيئا يأكلونه هل الحضور معهم جائز أم لا؟)([13])
فأجاب الطرطوشي: (يرحمك الله مذهب الصوفية بطالة وجهالة وضلالة، وما الاسلام إلا كتاب الله وسنة رسوله، وأما الرقص والتواجد، فأول من أحدثه أصحاب السامري لما اتخذ لهم عجلا جسدا له خوار قاموا يرقصون حواليه ويتواجدون فهو دين الكفار وعباد العجل.
وأما القضيب فأول من اتخذه الزنادقة ليشغلوا به المسلمين عن كتاب الله تعالى وإنما كان يجلس النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أصحابه كأنما على رءوسهم الطير من الوقار فينبغي للسلطان ونوابه أن يمنعهم من الحضور في المساجد وغيرها ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم ولا يعينهم على باطل هذا مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم من أئمة المسلمين وبالله التوفيق)([14])
ومن المصادر التي اعتمدتها الجمعية موقف أبي إسحاق الشاطبي، فقد قال في إنكار السماع والرقص الصوفي: (وأما المقلد فكذلك أيضا لأنه يقول فلان المقتدى به يعمل بهذا العمل ويتنى كاتخاذ الغناء جزءا من أجزاء طريقة التصوف بناء منهم على أن شيوخ التصوف قد سمعوه وتواجدوا عليه ومنهم من مات بسببه وكتمزيق الثياب عند التواجد بالرقص وسواه لأنهم قد فعلوه وأكثر ما يقع مثل هذا في هؤلاء المنتمين إلى التصوف، وربما احتجوا على بدعتهم بالجنيد والبسطامى والشبلى وغيرهم فيما صح عندهم أو لم يصح ويتركون أن يحتجوا بسنة الله ورسوله وهي التي لا شائبة فيها إذا نقلها العدول وفسرها أهلها المكبون على فهمها وتعلمها، ولكنهم مع ذلك لا يقرون بالخلاف للسنة بحتا بل يدخلون تحت أذيال التأويل إذ لا يرضى منتم إلى الإسلام بإبداء صفحة الخلاف للسنة أصلا)([15])
ومن المصادر التي اعتمدتها الجامعية، وهي أقرب المصادر إليها ما كتبه الشيخ عثمان بن المكي العالم السلفي التونسي في كتابه (المرآة لإظهار الضلالات)، والذي رد عليه الشيخ ابن عليوة في رسالته (القول المعروف في الرد على من أنكر التصوف)
وقد لقيت رسالة ابن المكي اهتماما كبيرا خاصة في السعودية وغيرها، وقد طبعت طبعة أنيقة وحققت بالإضافة إلى انتشارها الواسع في النوادي والمواقع المختلفة.
وهي مع ذلك تفتقر – كما يفتقر الكثير من كتب الاتجاه السلفي- إلى اللغة العلمية المؤدبة، بل حتى إلى التوثيق العلمي، وكمثال على ذلك أن المحقق عبد الله بن صالح البراك لم يعلق على النصوص الكثيرة التي أوردها ابن المكي، والتي لا سند لها، بل هي ظاهرة الوضع، بل لو كان سندها صحيحا لكانت دليلا يحتج به الصوفية، ومن ذلك قوله (سُئل الحسن البصري عن اجتماع جماعة من أهل السنة والجماعة يقرؤون القرآن في بيت أحد ويصلُّون على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويدعون لأنفسهم ولجماعة المسلمين؟ فنهى عن ذلك أشدَّ النهي؛ لأنه لم يكن من عمل السلف الصالح، وما لم يكن عليه عمل السلف، فليس من الدين؛ فقد كانوا أحرص الناس على الخير من هؤلاء، فلو كان فيه خير لفعلوه..)([16])، وهكذا لا نعلم من أين اعتمد على هذا النقل، الذي يحمل دلائل بطلانه، فلم يكن في ذلك الحين هذا المصطلح (أهل السنة والجماعة)
ثم إنه إن صح هذا النقل كان دليلا للصوفية، كما قال الشيخ ابن عليوة في رده عليه: (فإذا كان هذا الذي ضاق به صدرك من أحوال القوم حتى أنّك لم تجد له قولا بالجواز، حيث إنّهم يجتمعون في بيت أحدهم يقرؤون القرآن ويصلّون على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، ويدعون لأنفسهم ولجماعة المسلمين فظهر لك أنّه معصية مخالف لما كان عليه السلف، فأنا أقول: اللّهم اجعل معاصينا ومعاصي أصدقائنا ومعاصي عموم المسلمين من هذا القبيل إن كان بالاجتماع على وجه ما ذكرتموه، وإن كان فيه زلّة لم تتضح، فالله يعصمنا وإيّاكم من الزلل، ثمّ أقول إنّ هذا النقل إن صحّ عن الحسن البصري فلا يفيدنا عموم النهي عن الاجتماع بصفة ما ذكر، وإن كان الحسن مجتهدا فلا يبعد أن يكون مجتهد غيره في عصره إن لم نقل في تلك الجماعة نفسها، لأنّ العصر عصر التابعين وثانيا إنّ هاته الواقعة تصلح أن تكون حجّة للصوفيّة لا عليهم حيث إنّكم قررتم أنّ الاجتماع وقع بتلك الصفة في عصر التابعين لأنّ المتعين علينا الاهتداء بهداهم، وهل تظنّ أنّ هاته الطائفة الميمونة وضعت دعائمها على غير أساس متين؟)([17])
بل إن من العجب أن يستدل الشيخ عثمان ابن المكي على شيء يتصور أنه يكفر فاعله بإسرائيليات لا سند لها إلا تلك الأسانيد التي وضعها كعب الأحبار ووهب بن المنبه الذين هم من أئمة الدين وثقاته عند الاتجاه السلفي، فقد قال في معرض رده عن الرقص الصوفي: (أمّا الرقص والتواجد، فأول من أحدثه أصحاب السامري، فإنّهم لمّا عبدوا العجل صاروا يرقصون حوله ويتواجدون فهو دين الكفار وعبّاد العجل)([18])
وقد رد عليه الشيخ ابن عليوة بقوله: (ولم يكفكم حتى وضعتم عليهم تشبيها بليغا أخرجهم من دائرة الإسلام والمسلمين، وهو قولكم نقلا عمن لا يتقي الله مثلكم، أو لم يقصد بذلك إلاّ جماعة بعينها.. وفي ظنّي أنّكم تجاوزتم الحدّ فيما ارتكبتموه، فلا مسلك وخيم في أعراض أهل الله إلاّ وسلكتموه، ثمّ أقول: إن كان تشبيهكم هذا للفقراء بعبّاد العجل فيه إصابة من حيث الهيئة الموجودة في الفريقين، وقد صادفتم فيما زعمتم، فهل صادفتم وجه الشبه فيما بين المعبودين المتواجد من أجلهما بين عجل الإسرائيليين وإله الذاكرين؟، فتعالى الله عمّا يقول الظالمون)([19])
لا نجد طريقة من الطرق الصوفية – ما عدا الطريقة التيجانية فيما نعلم – لا تهتم بهذا الجانب، وذلك لأهميته الكبرى في نشر المعاني الروحية التي يحرص الصوفية بكل الوسائل على نشرها في عالم النفس والمجتمع.
بناء على هذا نحاول هنا أن نطرح هذه المسألة الخطيرة من زاويتين:
الأولى: هي بيان أهمية السماع وتوابعه التربوية، والتي جعلت الصوفية يحرصون عليه.
الثانية: بيان أدلتهم على شرعيته ما يمارسونه في هذا الجانب من طقوس.
وكلا الجانبين مرتبط بالآخر، وكلاهما يوجه الكلام فيه للمخالفين سواء من رجال الجمعية، أو من أصحاب الاتجاه السلفي، أو من الفقهاء المتشددين.
أشاد الصوفية وغيرهم بأهمية السماع في التربية والسلوك والترقي، واختلفت عباراتهم في ذلك، فهذا ذكر العلامة الإسفاريني يذكر في (غذاء الألباب) الدواعي التي جعلت الصوفية يولون هذا الجانب تلك الأهمية الكبرى مع كونه من ميسرات السلوك، وليس من أصولها، ولا من شروطها، فيقول: (والسماع مهيج لما في القلوب، محرك لما فيها، فلما كانت قلوب القوم معمرة بذكر الله تعالى، صافية من كدر الشهوات، محترقة بحب الله، ليس فيها سواه، كان الشوق والوجد والهيجان والقلق كامن في قلوبهم كمون النار في الزناد، فلا تظهر إلا بمصادفة ما يشاكلها، فمراد القوم فيما يسمعون إنما هو مصادف ما في قلوبهم، فيستثيره بصدمة طروقه، وقوة سلطانه، فتعجز القلوب عن الثبوت عن اصطدامه، فتبعث الجوارح بالحركات والصرخات والصعقات، لثوران ما في القلوب)([20])
وهذا أبو حامد الغزالي يذكر وجه تأثير السماع في النفس، ودوره بالتالي في التربية والترقية، فقال: (اعلم أن السماع هو أول الأمر، ويثمر السماع حالة في القلب تسمى الوجد، ويثمر الوجد تحريك الأطراف، إما بحركة غير موزونة فتسمى الاضطراب، وإما موزونة فتسمى التصفيق أو الرقص)([21])
ثم يعقب على هذا ببيان أنه لا يوجد أي دليل في تحريم السماع والرقص المرتبط به، فقال: (والقول بأن السماع حرام معناه أن الله يعاقب عليه، وهذا الأمر لا يعرف بمجرد العقل، بل بالسمع، ومعرفة الشرعيات محصورة في النص أو القياس إلى المنصوص، ولم يستقم في هذا المجال نص ولا قياس، وبهذا يبطل القول بتحريمه، ويبقى فعلا لا حرج فيه كسائر المباحات)([22])
بل إنه فوق ذلك يذكر أن (هناك نصوصا تدل على إباحته، فالغناء سماع صوت طيب مفهوم المعنى محرك للقلب، وسماع الصوت الطيب بالنسبة لحاسة السمع كرؤية الخضرة والماء الجاري بالنسبة للعين، فلا يحرم، فإن أدى المنظر إلى الاطلاع على شيء حرام حرم النظر كالنظرة إلى العروة، وكالنظر بشهوة وكذلك يحرم السماع إذا كان سماعا لشيء غير حلال أو أدى بطريق انحرف عن الحلال)([23])
بل إن الغزالي، وهو الفقيه والمربي يجعل كتابا كاملا في إحيائه خاصا بهذا الموضوع على اعتبار أهميته التربوية والسلوكية والروحية، والتي نص عليها بقوله: (لله تعالى سر في مناسبة النغمات الموزونة للأرواح حتى إنها لتؤثر فيها تأثيرا عجيبا، فمن الأصوات ما يفرح، ومنها ما يحزن، ومنها ما ينوم، ومنها ما يضحك ويطرب، ومنها ما يستخرج من الأعضاء حركات على وزنها باليد والرجل والرأس..) ([24])
ثم يلخص ذلك كله بقوله: (إن تأثير السماع في القلب محسوس، ومن لم يحركه السماع فهو ناقص مائل عن الاعتدال بعيد عن الروحانية زائد في غلظ الطبع وكثافته على الجمال والطيور بل على جميع البهائم فإنها جميعا تتأثر بالنغمات الموزونة)([25])
فما دام للسماع كل هذا التأثير، فما المانع من استثماره في التربية والسلوك، بل وترقية المريدين في درجات العرفان، يقول الغزالي: (سماع من أحب الله وعشقه واشتاق إلى لقائه فلا ينظر إلى شيء إلا رآه فيه سبحانه ولا يقرع سمعه قارع إلا سمعه منه أو فيه فالسماع في حقه مهيج لشوقه ومؤكد لعشقه وحبه ومور زناد قلبه ومستخرج منه احوالا من المكاشفات والملاطفات لا يحيط الوصف بها يعرفها من ذاقها وينكرها من كل حسه عن ذوقها)([26])
ثم يذكر تأثير تلك المستخرجات التي استجرجها السماع وما عقبه من الوجد، فقال: (ثم تكون تلك الأحوال أسبابا لروادف وتوابع لها تحرق القلب بنيرانها، وتنقيه من الكدورات كما تنقى النار الجواهر المعروضة عليها من الخبث، ثم يتبع الصفاء الحاصل به مشاهدات ومكاشفات، وهي غاية مطالب المحبين لله تعالى ونهاية ثمرة القربات كلها)([27])
وبناء على هذا يخلص الغزالي إلى أن السماع وما يتبعه بالنسبة للصوفية ليس مباحا فقط، وإنما هو من المستحبات، فقال: (.. فالمفضي إليها – أي لتلك الأحوال التي سبق ذكرها- من جملة القربات لا من جملة المعاصي والمباحات)([28])
ثم بين أن المنكر لهذا منكر للطبع والفطرة السليمة التي فطر الله عليها الأنفس، والتي تميل إلى الغناء جبليا من غير تكلف، ولهذا فإن من ينكر هذا يسميه الغزالي (البليد الجامد القاسي القلب المحروم عن لذة السماع) ذلك أنه (يتعجب من التذاذ المستمع ووجده واضطراب حاله وتغير لونه تعجب البهيمة من لذة اللوزينج، وتعجب الصبي من لذة الرياسة واتساع أسباب الجاه، وتعجب الجاهل من لذة معرفة الله تعالى ومعرفة جلاله وعظمته وعجائب صنعه)([29])
ثم بين علة هذه البلادة، فقال: (ولكل ذلك سبب واحد، وهو أن اللذة نوع إدراك، والإدراك يستدعي مدركا، ويستدعي قوة مدركة، فمن لم تكمل قوة إدراكه لم يتصور منه التلذذ، فكيف يدري لذة الطعوم من فقد الذوق، وكيف يدرك لذة الألحان من فقد السمع، ولذة المعقولات من فقد العقل، وكذلك ذوق السماع)([30])
وبناء على هذا نجد الطرق الصوفية في الجزائر تولي أهمية كبرى للسماع، بل لو قلنا بأن الفن الجزائري بأنواعه المختلفة الشعبية والأندلسية وغيرها كان مصدره الطرق الصوفية لم نبالغ في ذلك، وللأسف عندما رمي التصوف بالبدعة والضلال، ورميت البردة التي كانت تنشد في الأعراس والجنائز بالشرك والإلحاد، ورميت تقاليدنا وعاداتنا الطيبة المحافظة بالتخلف استبدل الناس بدلها هذه الأغاني الفاسقة الفاجرة، وللأسف لا نجد من التيار السلفي من يحمل عليها حملته على التصوف والطرق.
لكن أهم طريقة أولت هذا الجانب أهمية كبرى بالإضافة إلى الطريقة العيساوية الطريقة العلاوية فقد كان لها اهتمام خاص بهذا الجانب، خاصة وأن للشيخ ابن عليوة ديوان مشهور، لا تزال قصائده يغنى بها في جميع العالم الإسلامي، وقد كان للغته الغنائية البسيطة تأثيرها الكبير في النفوس خاصة في ظل الاستعمار الفرنسي، الذي لم يكن للجزائري مجال للاسترواح فيه غير هذا المجال.
وقد كان الشيخ يعطي أهمية بالغة للإنشاد والغناء، بل كان محاطا دائما بمجموعة من الطلبة لهم أصوات شجية يقومون بأداء القصائد الصوفية بألحان عذبة لها تأثيرها الكبير في النفوس، ولم يكن يمزجها بالآلات الموسيقية، إما رعاية لما وقع في ذلك من خلاف فقهي، أو كما علل ذلك لأوغسطين بارك عندما قال له: (إن الموسيقى ليست جافة كالكلمات، إنها تنساب كالجدول وتصل بالإنسان إلى الله)([31])
والقصائد التي كانت تنشد في المجامع العلاوية عادة تتشكل من قصائد ابن الفارض أو الشيخ أبي مدين أو الشيخ عبد القادر الجيلاني، أو قصائد أبي الحسن الششتري، وهي القصائد التي تنشد عادة عند أصحاب الطريقة الشاذلية، وخصوصا الدرقاوية منها.
إلى جانب قصائد الشيخ ابن عليوة التي كانت غنائية بالأساس، وقصائد شيخه البوزيدي، ثم أضيفت بعد ذلك قصائد تلميذه وخليفته الشيخ عدة بن تونس، وقد جمعت كلها في ديوان واحد تحت عنوان (آيات المحبين)، ويعتبر الآن مصدرا للأغاني الصوفية في العالم الإسلامي، خاصة في المناطق التي تنتشر فيها طريقته كالشام والمغرب.
بناء على ما ذكرنا سابقا من رد الشيخ ابن عليوة على ما أورده الشيخ عثمان ابن المكي حول الرقص الصوفي، نذكر هنا أمرين كلاهما مرتبط بالأدلة:
الأول: إجابة الطرق الصوفية على ما أورده المخالفون من الأدلة.
الثاني: هو الأدلة التي يعتمدونها بحسب تصورهم للجواز أو للاستحباب.
وسنورد هنا ذلك باختصار باعتبار أن المسألة تكلم فيها الكثير من رجال الطرق الصوفية، وبسطت فيها الأدلة المفصلة.
إجابة الطرق الصوفية على ما أورده المخالفون من الأدلة:
ابتدأ الشيخ ابن عليوة رده على عثمان ابن المكي من حكمه على مجوزي الرقص بالكفر بناء على نقل نقله من ابن وهبان حيث قـال: (ومن يستحل الرقص قالوا بكفره ولا سيما بالدف يلهو ويزمر)، ونقله عن المعيار عن جماعة من الشيوخ: (إنّ من حبس زاوية أو غيرها على فقراء الوقت فحبسه باطل لأنّه على معصية)([32])
وقد رد عليه الشيخ ابن عليوة بقوله: (وهكذا شأنك مهما وجدت سيرة شنيعة أو حالة فظيعة إلاّ وألصقتها بجنب الذاكرين تدليسا منك على القارىء حتى لا يتبادر لفهمه من مذهب التصوّف إلاّ مجرد ما ذكرته من الرقص واللهو والتزمير ونحو ذلك، ألا ترى أنّه تقرّر لديك أنّ مستحل الرقص قالوا بكفره، فكيف بك إذا بلغك أنّ الحبشة دخلوا مسجد النبّي صلى الله عليه وآله وسلم يوم العيد على هيئتهم المعروفة من الرقص ونحوه، وهو عليه الصلاة والسلام ناظر لهم وعائشة تتطلع عليهم من خلفه، حتى فرغوا من أعمالهم، ولم ينكر عليهم عليه الصلاة والسلام، فبالله عليك أي شيء تفهمه من ذلك وأنت تقول الرقص حرام مطلقا، وهل تراه عليه الصلاة والسلام يقرر على الحرام؟، وهلا تجد فرقا بين رقص السفهاء المتخنثين وبين رقص الحبشة؟)
ثم احتج عليه بما ورد في حديث جعفر بن أبي طالب، واهتزازه طربا عندما قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أشبهت خلقي وخلقي)([33])
قال تعليقا على هذا الحديث، وردا على الشيخ عثمان بن المكي: (ولم ينكر عليه ولم ينهه، وهلا يفيدك هذا إباحة في الحكم؟، وهل يصح التطبيق بين رقص جعفر وبين الرقص المشار إليه في قصيدة ابن وهبان؟، ألم تعلم أنّ التخصيص يفيد الإطلاق؟، وهل ترى أنّ الصوفيّة يقولون بتحليل الرقص مطلقا كما قلت أنت بتحريمه مطلقا؟، كلا وإنّما هم أوسع منك نظرا لا يقولون في دين الله بغير علم)([34])
ثم ذكر أنه في انتصار للصوفية في هذا الجانب لا ينتصر للرقص، وإنما ينتصر للأمة التي حكم عليها بالردة، فقلا: (إنّ ما قررناه في هاته النازلة ليس مجرد انتصار لجانب الرقص، كلا، وإنّما هو إظهار للحكم وانتصار للأمّة المحمديّة التي قضيت بالكفر على الجلّ منها، لأنّ الغالب فيها يعتقد جواز الاهتزاز، وأمّا المنتسبون فيعتقدون مطلوبيته)([35])
ثم ذكر له العلة في إنكاره على الصوفية وعدم فهمه لسر حركاتهم، فقال: (وبالطبع كلّ حبيب يرتعد عند ذكر حبيبه، وإنّي على علم من أن الحجّة لا تقوم عندك بما ذكرناه، لأنّك لم تذق طعم المحبّة، ولو دبّت في مفاصلك لاشتهيت أن تسمع ذكر الله ولو من كافر، ثمّ نقول كما قال سلطان العاشقين ([36]):
ولي ذكرها يحلو على كلّ صيغة |
وإن مزجوه عذّالي بخصام |
وحينئذ تعرف معنى الوجل، وتنظر هل تملك نفسك أم لا؟)
ثم ذكر له ما قصه القرآن الكريم من شأن نسوة مصر، فقال: (ألم يبلغك في كتاب الله خبر النسوة اللاتي قطعن أيديهن لمّا خرج عليهن يوسف عليه السلام، {وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا } [يوسف: 31]، فإن كان مثل هذا يقع بمشاهدة جمال مخلوق، فلم لا يقع ما يقرب منه عند مشاهدة جمال خالقه إذا ظهر بسلطان كبريائه)([37])
ثم نبهه إلى خطورة تكفيره لأصحاب الطرق الصوفية، ونتائج المترتبة على ذلك، فقال: (ألم تعلم أنّك إذا قلت بكفر مؤمن، فقد حكمت بإباحة ماله ودمه وبخلوده في النـار؟، ألم تعلم أنّ حرمة المؤمن عند الله أعظم من حرمة الكعبة، وإنّ هدمها عنده أهون من تكفير المؤمن المعلن بكلمة الإخلاص المردّدة لها في سائر الأنفاس، وإنّي أحذرك الله أن تتقيه في أهل لا إله إلاّ الله ولا تقل فيهم برأيك، فإنّهم أقوام خلقهم الله لذكره واختارهم في سابق علمه، فعلى الأقل أن تراقبهم لله وتحترمهم في الله، والإضافة تغنيك والله يلهمك ويهديك)([38])
بالإضافة إلى ما ذكره الشيخ ابن عليوة تناول المنتسبون للطرق الصوفية النصوص التي استدل بها المخالفون ووجهوها التوجيه الذي تتناسب مع موقفهم، وهذه بعض تلك النصوص، وموقفهم منها:
1 ــ قوله تعالى: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61)} [النجم: 59 – 61]، فقد نقل المنكرون للسماع الصوفي في تفسير هذه الآية أن ابن عباس (سامدون) بالغناء بلغة حمير، وقد رد الغزالي على هذا الدليل بقوله: (ينبغي أن يحرم الضحك وعدم البكاء أيضا، لأن الآية تشتمل عليه، فإن قيل: إن ذلك مخصوص بالضحك على المسلمين لإسلامهم، فهذا أيضا مخصوص بأشعارهم في معرض الاستهزاء بالمسلمين، وكما قال تعالى {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء: 224]، وأراد به شعر الكفار ولم يدل على ذلك تحريم نظم الشعر في نفسه) ([39])
2 ــ قوله تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ } [الإسراء: 64]، وقد استدلوا على هذا بما روي عن ابن عباس من أن المراد بذلك الغناء، وقد عبر ابن القيم – وهو من أكبر المعارضين للغناء والسماع الصوفي وغير الصوفي- عن هذا بقوله: (ومن المعلوم أن الغناء من أعظم الدواعي إلى المعصية، ولهذا فسر صوت الشيطان به وقول مجاهد إنه الغناء الباطل. ورواية أخرى عنه: صوته هو المزامير) ([40])
وقد رد الصوفية على هذا الاستدلال بأن أكثر المفسرين ذهبوا إلى إلى تفسيرها (بصوتك)، وصوته كل داع يدعو إلى معصية الله تعالى لذلك فلا وجه للتخصيص بالغناء فقط، وإنما بكل وسيلة تكون سببا إلى معصية الله.
بالإضافة إلى هذا، فإن الغناء وإن استعمله الشيطان في سبيل الضلالة، فيصح أن يستعمله غيره في سبيل الخير والاستقامة، فما هو إلا أسلوب حسنه حسن، وقبيحه قبيح.
الأدلة المجيزة للسماع والرقص الصوفي:
من الأدلة التي ذكرها الشيخ ابن عليوة، وغيره من رجال الطرق الصوفية على صحة ما يمارس في مجالس الطرق الصوفية من السماع والرقص:
1 ــ قوله تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا } [الأنفال: 2]، وقد علق الشيخ ابن عليوة على هذه الآية بقوله: (فها هو تعالى أخبرك عمّا يلحق الذكر من الوجل وجعله من أخص صفة المؤمنين)([41])
بل ذكر – مخاطبا الشيخ ابن المكي- منبها له أن ما يفعله الصوفية ليس مقصودا لذاته، وإنما (هو نتيجة الوجل الذي عدمتموه)([42])
2 ــ أن الله تعالى أثنى على أهل الكتاب بما يحصل لهم من الوجد، فذكر أحد لوازمه أبلغ ما يكون من المدح فقال: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 83]، وقد علق الشيخ ابن عليوة على هذه الآية بقوله: (أو ليس هذا ما يدّل على وقوع حركة في باطن المؤمن من أجل ذكر الله واستماع كلامه؟)([43])
3 ــ أنّ الصحابة رضوان الله عليهم تناشدوا الأشعار بحضرة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ولم ينكر عليهم، وفي قصة كعب بن زهير كفاية لمن تدبرها كيف استمع منه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قصيدته المعروفة: (بانت سعاد)، مع ما فيها من التغزّلات، وكيف جزاه بالعفو والبردة زيادة له عن تقريره له في إنشاد الشعر بحضرته([44]).
ومن ذلك ما حدث به أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان في سفره وكان غلام يحدو بهن يقال له أنجشة فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (رويدك يا أنجشة سوقك بالقوارير) قال أبو قلابة: يعني ضعفة النساء) ([45])
ومن ذلك ما حدث به عامر بن سعد قال: دخلت على قرظة بن كعب وأبي مسعود الأنصاري في عرس وإذا جوار يغنين فقلت أي صاحبا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن أهل بدر يُفعل هذا عندكم؟!… فقالا: اجلس إن شئت فاستمع معنا وإن شئت فاذهب فإنه قد رخص لنا في اللهو عن العرس([46]).. وغيرها من النصوص الكثيرة.
المطلب الثاني: الموالد (الزردات)
من الأمور التي تكاد تكون مختصة بالطرق الصوفية، وإن شاركها فيها غيرهم، الاحتفالات التي يقيمونها في مناسبات مختلفة، إما إحياء لذكرى ميلاد شخص يعتقدون ولايته، أو وفاته، أو لأجل غرض من الأغراض المختلفة، والتي يطلق عليها في المجتمع الجزائري اسم (زردة)([47])، ويطلق عليها كذلك اسم (الجموع) و(الاحتفالات) و(الموالد) بحسب الطرق المختلفة.
وعلاقة هذا بالممارسات الميسرة للسلوك الصوفي واضحة، وهي أنه في هذه التجمعات يلتقي إخوان الطريقة من كل البلاد، ويتذاكرون، وينشدون القصائد، ويكتسبون أفرادا جددا في الطريقة، بالإضافة إلى ما يقام في تلك المناسبات من ولائم، وهي كلها مما ترغب فيه النفس، ويميل إليه الطبع، وهي بذلك تعطي شحنات إضافية للسالك يتزود منها مدة طويلة.
بالإضافة إلى ما في تلك الموالد من آثار اجتماعية تربط المجتمع بعضه ببعض، بل تربط المجتمع بتاريخه وثقافته والرجال الذين يميل إلى تقديسهم، وبالتالي فللموالد أثرها البعيد في تشكيل الهوية، والحفاظ عليها.
والطقوس في هذه الموالد تختلف من مجتمع إلى آخر، والالتزام الديني فيه كذلك يختلف من طريقة إلى أخرى، وبالتالي، فإن الحكم على هذه الموالد سلبا أو إيجابا يحتاج إلى النظر في كل مولد على حدة، وإلا كان في الحكم جورا وخطأ كبيرا.
بناء على هذا نحاول في هذا المطلب أن نتعرف على موقف الجمعية من تلك الموالد، ثم نقارنه بموقف الطرق الصوفية.
موقف جمعية العلماء المسلمين الجزائريين من الموالد:
لعل أهم ما اهتمت الجمعية بقلعه من عادات وتقاليد المجتمع الجزائري ظاهرة الموالد والزردات، والتي أصبح يطلق عليها عند الجمعية بأعراس الشيطان، حتى أن الأمر وصل بها إلى تحريم أكل الطعام الذي يعد في تلك المناسبات، بل وصل الأمر إلى أخطر من ذلك حين اعتبرت الموالد مواسم شركية لا تختلف عن تلك الاحتفالات التي كان يقيمها العرب في الجاهلية للات والعزى وغيرها من الأصنام.
ولعل أهم من ركز اهتمامه على محاربة هذه الموالد من غير هوادة الشيخ البشير الإبراهيمي، ونحب – للتعرف على موقفه من الموالد- أن نقتصر على تحليل مقال له نشره البصائر([48]) بعنوان (أعراس الشيطان)([49])، استهله على طريقته في تغليب الأدب على العلم، والبيان على البرهان، فهو بدأ بذكر الشيطان وتأثيراته المختلفة بطريقته تهكمية ساخرة، فقال: (كنا نفهم أن الشيطان يطوف ما يطوف ثم يأوي إلى قلوب أوليائه، لينفث فيها الشر، ويزين لها معصية الله، ويحركها إلى الفساد والمنكر، ويذكرها بسننه المنسية لتتوب إليه من إهمالها وإضاعتها؛ وما كنا نعلم أن للشيطان مراج خاصة لا يبرحها في فصلين من السنة، ومعظمها في (العمالة الوهرانية)، وما ذلك لطيب في هوائها، أو عذوبة في مائها، أو اعتدال في جوها، فالشيطان غني عن هذا كله، ولا يعبأ بهذا كله، وإنما ذلك للذة يجدها الشيطان في هواها… وسهولة انقياد يجدها في أوليائه بها، وقابلية للتسويل والتزين قلما يجدها في غيرهم من رعاياه، وصدق الله العظيم، فإن الشياطين لا تنزل إلا على كل أفاك أثيم)([50])
بعد هذا الاستهلال الذي خصصه للشيطان مع أن الحديث مرتبط بالموالد، أخذ يربط بين الشيطان والموالد، فقال – بأسلوبه التعميمي الذي لا يحب الاستثناء-: (هذه (الزرد) التي تقام في طول العمالة الوهرانية وعرضها هي أعراس الشيطان وولائمه، وحفلاته ومواسمه، وكل ما يقع فيها من البداية إلى النهاية كله رجس من عمل الشيطان، وكل داع إليها، أو معين عليها، أو مكثر لسوادها فهو من أعوان الشيطان)([51])
ثم ذكر المبررات الداعية إلى هذا الحكم الشديد، فقال: (ألم تر إلى ما يركب فيها من فواحش ومحرمات؛ وما يهتك فيها من أعراض وحرمات؟ كل ذلك مما يأمر به الشيطان البدوي، وكل ذلك مما ذكرنا به القرآن، وبين لنا أنه من أمره ووعده، وتزيينه وإغوائه)([52])
ولم يذكر الشيخ أي دليل على هذا القذف العام لكل الموالد من دون استثناء، وكأنها جميعا مناسبات للمنكرات والفواحش، ولا حظ فيه لعبادة أو دين أو علم.
ولم يكتف الشيخ بهذا القذف العام لجميع المجتمع الجزائري، وإنما راح يشهر سلاح التكفير والرمي بالشرك الأكبر الذي تلقفه من شيخه محمد بن عبد الوهاب، فقال: (كلما انتصف فصل الربيع من كل سنة تداعى أولياء الشيطان في كل بقعة من هذه العمالة إلى زردة يقيمونها على وثن معروف من أوثانهم، يسوله لهم الشيطان وليا صالحا، بل يصوره لهم إلها متصرفا في الكون، متصرفا في النفع والضر والرزق والأجل بين عباد الله، وقد يكون صاحب القبر رجلا صالحا، فما علاقة هذه الزرد بصلاحه؟ وما مكانها في الدين؟ وهل يرضى بها لو كان حيا وكان صالحا الصلاح الشرعي؟ وقد كانت هذه الزرد تقام في أيام الجدوب للاستسقاء غير المشروع، فأصبحت عادة مستحكمة، وشرعة محكمة، وعبادة موقوتة، يتقرب بها هؤلاء المبتدعة إلى أوثانهم في أوقات الجدوب والغيوث على السواء، يدعوهم إليها شيطانهم في النصف الأخير من كل ربيع، فإذا جاء الغيث نسبوه إلى أوثانهم، وإذا كان الجدب نسبوه إلى الله، عكس ما قال الله وحكم، ثم إذا جاء الصيف فاءوا إلى الأعمال الصيفية مضطرين، فإذا أقبل الخريف عادوا إلى تلك العادة النكراء فأنفقوا فيها كل ما جمعوه، وتداينوا بالربا المضاعف بما لا تقوم به ذممهم ولا أموالهم؛ فإذا ثقل الدين وألح الدائن، باع من يملك قطعة أرض أرضه، وباع من يملك دابة دابته، وتلك هي الغاية التي يعمل لها الشيطانان، شيطان الجن، وشيطان الاستعمار!)([53])
بعد هذا الحكم القاسي الشديد المفتقر إلى اللغة العلمية والحكمة في معالجة الظواهر، راح يعتبر أن ذلك التقديس الذي جبل عليه الجزائريون للأولياء والصالحين هو نفخة من نفخات الشيطان أو كيد من كيد الاستعمار، وأنه لا علاقة له بحب الصلاح والولاية والتدين، فلا يحب الصالحين إلا من يحب الصلاح نفسه، ولا يعظم أهل الدين إلا من سبق تعظيمهم لهم تعظيم الدين نفسه.
يقول الإبراهيمي: (سر ما شئت في جميع الأوقات، وفي جميع طرق المواصلات تر القباب البيضاء لائحة في جميع الثنايا والآكام ورؤوس الجبال، وسل تجد القليل منها منسوبا إلى معروف من أجداد القبائل، وتجد الأقل مجهولا، والكثرة منسوبة إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني. واسأل الحقيقة تجبك عن نفسها بأن الكثير من هذه القباب إنما بناها المعمرون الأوربيون في أطراف مزارعهم الواسعة، بعد ما عرفوا افتتان هؤلاء المجانين بالقباب، واحترامهم لها، وتقديسهم للشيخ عبد القادر الجيلاني، فعلوا ذلك لحماية مزارعهم من السرقة والإتلاف. فكل معمر يبني قبة أو قبتين من هذا النوع يأمن على مزارعه السرقة، ويستغني عن الحراس ونفقات الحراسة، ثم يترك لهؤلاء العميان- الذين خسروا دينهم ودنياهم- إقامة المواسم عليها في كل سنة، وإنفاق النفقات الطائلة في النذور لها وتعاهدها بالتبييض والإصلاح، وقد يحضر المعمر معهم الزردة، ويشاركهم في ذبح القرابين، ليقولوا عنه إنه محب في الأولياء خادم لهم، حتى إذا تمكن من غرس هذه العقيدة في نفوسهم راغ عليهم نزغا للأرض من أيديهم، وإجلاء لهم عنها، وبهذه الوسيلة الشيطانية استولى المعمرون على تلك الأراضي الخصبة التي أحالوها إلى جنات، زيادة على الوسائل الكثيرة التى انتزعوا بها الأرض من أهلها)([54])
ثم بين أثر الحركة الإصلاحية في قلع هذه العادات، ويقر في نفس الوقت بأنه لم يمض عليها زمن حتى عادت من جديد من غير أن يبحث في سر عودتها، فقال: (ولقد ماتت هذه العوائد الشيطانية قبل الحرب الأخيرة أو كادت تموت، بتأثير الحركة الإصلاحية المطهرة للعقائد، ثم قضي عليها بتأثر الناس بالحرب ولأوائها، وقد عادت في السنتين الأخيرتين إلى ما كانت عليه)([55])
ثم ختم مقاله بفتاوى خطيرة تفتقر إلى لغة الفقهاء، فقال: (يا قومنا، أجيبوا داعي الله، ولا تجيبوا داعي الشيطان، يا قومنا إن أصول هذه المنكرات مفسدة للعقيدة، وإن فروعها مفسدة للعقل والمال، وإنكم مسؤولون عند الله عن جميع ذلك، يا قومنا إنكم تنفقون هذه الأموال في حرام وإن الذبائح التي تذبحونها حرام لا يحل أكلها، لأنها مما أهل به لغير الله؛ فمن أفتاكم بغير هذا فهو مفتي الشيطان، لا مفتي القرآن)([56])
وعلى هذا المنهج المتشدد نرى الشيخ مبارك الميلي الذي استنسخ المنهج الوهابي كاملا غير منقوص، وخاصة في كتابه (رسالة الشرك ومظاهره) الذي حكم به على شرك جميع الجزائريين، بل على شرك جميع المسلمين الذين يزورون الأضرحة أو يتوسلون بأصحابها.
بل إنه يعتقد ما كان يعتقد الشيخ ابن عبد الوهاب من عودة الجاهلية الأولى، بل إنه يرى أن الجاهلية الآخرة أشد، فيقول: (ولقد سادت هذه الحالة العالم الإسلامي، فانتهوا إلى جاهلية كجاهلية العرب في الدين لا في اللسان والبيان، فقد ارتقى العرب أيام جاهليتهم في معرفة معاني الكلام والإبانة عما في أنفسهم بالألفاظ المؤدية لأصل المعنى، ولكن المسلمين شمل انحطاطهم هذه الناحية أيضا؛ فلم يكونوا مثل أولئك العرب في فصاحة اللسان ووضع الأسماء على مسمياتها؛ فتراهم يعتقدون في الغوث والقطب وصاحب الكشف والتصريف معنى الألوهية، ولكن لا يسمونهم آلهة!! ويخضعون لأوليائهم ويخشونهم كخشية الله أو أشد، ولا يسمون ذلك عبادة!!)([57])
ويخاطب الذي يشكك في كون المسلمين تحولوا إلى مشركين لا يختلفون عن أبي جهل وأبي لهب، إن لم يكونوا أشد منهم شركا، فيقول: (ألست ترى في أوساطهم قبابا تبذل في تشييدها الأموال، وتشد لزيارتها الرحال؟! أم لست تسمع منهم استغاثات وطلب حاجات من الغائبين والأموات؛! أم لم تعلم بدور تنعت بدار الضمان تشترى ضمانتها بالأثمان؛! أم لم تجتمع بذرية نسب للمرابطين إعطاؤها بقوة غيبية؟! أم لم تتكرر عليك مناظر مكلفين إباحيين يقدسون بصفتهم مرابطين أو طرقيين؟! هذا إلى اجتماعات تنتهك فيها كل الحرمات باسم الزردات، أو تحت ستار الاعتقادات والدعوة إلى أوضاع مبتدعة صدت الناس عن اتباع السنة المطهرة.. والخبير بحياة أهل عصره، العالم بأصول دينه، لا يتردد في ظهور الشرك وانتشاره، وتعدد مظاهره وآثاره، والعامي الفطري لو سألته وأفهمته؛ لوجدت عنده الخبر اليقين لإثبات أن أمثاله- وما أكثرهم- في ضلال مبين)([58])
والشيخ مبارك الميلي كالشيخ البشير الإبراهيمي يفتي بحرمة الطعام الذي يقدم في تلك المحال، لأنه في تصوره مما أهل به لغير الله، على الرغم من أن الذابحين لتلك الأنعام يذكرون اسم الله عليها، ويطبقون فيها ما يذكره الفقهاء من أحكام الذبائح، فيقول: (هذه الزردة يذكرون اسم الله على ذبيحتها، ونيتهم الذبح للصالح عندهم، فأعمل الجامدون من الطلبة جانب اللفظ، ورأوا إباحة أكلها، وهم يقرؤون قول خليل في نية المصلي ولفظه: (وإن تخالفا، فالعقد)؛ يريد أن العبرة عند اختلاف القلب واللسان بما يعقده القلب لا بما يلفظه اللسان، وهي قاعدة عامة في جميع الطاعات)([59])
ولسنا ندري كيف اطلع الشيخ على نية الذابح، وهي باطنة لا يمكن لأحد الاطلاع عليها إلا ربها أو صاحبها، ولكنه مع ذلك يصر على أنهم يريدون بها غير وجه الله، ويعتبر أن المخالف في ذلك جامد ومغرض، فيقول: (وقد يقول الجامدون والمغرضون: إنا نحكم بالظواهر والله يتولى السرائر، وقد ظهر من حال الذابح أنه ذكر اسم الله، فلا نبحث عن نيته الباطنة! فنقول لهم: أولا: إن المفتي لا يقتصر دائما على الظواهر؛ ففي الأيمان والطلاق مسائل تنبني على النية والقصد، ويختلف حكمها باختلاف النية مع اتحاد اللفظ، بل تقدم قريبا الاستناد إلى النية في حكم الذبائح عن علي وغيره.. وثانيا: إن من السرائر ما تحف به قرائن تجعل الحكم للنية ولا تقبل معه الظواهر.. وذبائح الزردة من هذا القبيل؛ فإن كل من خالط العامة يجزم بأن قصدهم بها التقرب من صاحب المزار)([60])
ثم اعتبر من القرائن الدالة على أن الذبح فيها لغير الله، وهي لذلك محرمة، والأخطر من ذلك الحكم على فاعل ذلك بالشرك الجلي، لأنه قدم القرابين لغير الله، فيذكر([61]):
الأول:ـ أنهم يضيفون الزردة إلى صاحب المزار؛ فيقولون: زردة سيدي فلان، أو: طعام سيدي عبد القادر، مثلا.
ثانيها: أنهم يفعلونها عند قبره وفي جواره، ولا يرضون لها مكانا آخر.
ثالثها: أنهم إن نزل المطر إثرها نسبوا إلى سر المذبوح له، وقوي اعتقادهم فيه وتعويلهم عليه.
رابعها: أنهم إن نهوا عن فعلها في المكان الخاص، غضبوا ورموا الناهي بضعف الدين أو بالإلحاد، وقد يجاوزون الجهر بالسوء من القول إلى مد الأيدي بالإذاية.
خامسها: أنهم لو تركوها فأصيبوا بمصيبة نكسوا على رؤوسهم وقالوا: إن وليهم غضب عليهم لتقصيرهم في جانبه.
ثم علق على هذه القرائن بقوله: (فهذه دلائل من أحوال الناس وأفعالهم وأقوالهم التي لم يلقنها لهم المكابرون المتسترون وراء التأويل تريك أن ذبائح الزردة مما ذبح على النصب وأهل به لغير الله وإن ذكر عليها اسمه)([62])
بل حكم عليها بأنها من (من الشرك، فيجب على العلماء تحذير الأمة منها والنصح باجتنابها، ويجب على الأمة الاتباع والمبادرة إلى الإقلاع)([63])
واستدل لذلك بـ (مشابهتها في المعنى لعتائر الجاهلية وقرابينها واجتماعاتها على أنصابها وأصنامها، وتقدم حكم الشرع في ذلك، ومشابهتها في الصورة لعقر الجاهلية على قبور أجاودهم)([64])
ثم عاد كرجال الجمعية جميعا إلى الشاطبي ليستند إليه في الدلالة على أن ما يقوم به المسلمون البسطاء أمام أضرحة من يعظمونهم من الصالحين شرك جلي لا يختلف عن شرك الجاهلية، فيقول: (كان أهل الجاهلية يعقرون الإبل على قبر الرجل الجواد؛ يقولون: نجازيه على فعله، لأنه كان يعقرها في حياته، فيطعمها الأضياف، فنحن نعقرها عند قبره؛ لتأكلها السباع والطير، فيكون مطعما بعد مماته كما كان مطعما في حياته… ومنهم من كان يذهب في ذلك إلى أنه إذا عقرت راحلته عند قبره؛ حشر في القيامة راكبا، ومن لم يعقر عنه، حشر راجلا)([65])
ولسنا ندري العلاقة بين ما ذكره الشاطبي عن أهل الجاهلية وبين ما يفعله المسلمون أمام أضرحة من يصومون ويصلون ويذكرون الله ذكرا كثيرا.
وهكذا يسترسل الشيخ مبارك الميلي في النقول والاستدلالات المبنية جميعا على أساس أن أولئك البسطاء الذين اجتمعوا قصدوا بذبحهم غير الله، وبالتالي صار حكمهم حكم المشركين، وهو الكفر البواح.
وقد ذكرنا سابقا عجبنا من تساهل الجمعية في النيات في أمر أخطر من هذا، وهو الردة، حيث أفتى الشيخ العربي التبسي أن الذي يسب الله ورسوله بالألفاظ الصريحة لا يقصد ذلك، وأن نيته طيبة رغم أنفه، أما الذي يسمي الله عند الذبيحة فكاذب لأن نيته غير الله، وهذا من المكاييل المزدوجة، ومن الانتقائية التي تمارسها الجمعية في فتاواها.
وقد استمر – للأسف – منهج خلف الجمعية على درب سلفها في هذه المواقف الخطيرة المفتقرة إلى اللغة العلمية، والمتسرعة في الحكم بالتكفير، حيث نجد الشيخ أحمد حماني الرجل المتساهل في الكثير من الفتاوى يتكلم بنفس تلك اللغة التي تكلم بها الإبراهيمي والميلي، فيقول – متأسفا-:(وفي الجزائر ينادي كل قوم برجلهم: أهل الغرب بسيدي بومدين وسيدي الهواري وفي الوسط سيدي عبد الرحمان وسيدي محمد وسيدي منصور، وأهل الشرق سيدي الخير وسيدي راشد، وسيدي عبد القادر للجميع للجميع،وقد كانت الدعوة الإصلاحية قضت على معظم هذه البدع ورجعت بالناس إلى ذكر الله وحده، ولكننا عدنا إلى سماع هذا حتى في إذاعتنا ووسائل إعلامنا، وما كان يجوز هذا في أمة موحدة وإنما يذكر عندنا اسم الله وحده،فإننا أمة وحدها الإسلام)([66])
ولسنا ندري ما الحرج في أن تشتهر المناطق المختلفة بأسماء الأولياء والصالحين، بل نرى في ذلك تشجيعا للصلاح والتقوى التي أهلت أولئك ليتبوؤوا تلك المكانة الرفيعة في المجتمع.
ولكن الجمعية للأسف، والتي بالغت في تقديس أعضائها لم ترض للناس أن يقدسوا أحدا غيرهم، وهي تعلم أن المجتمع إن لم يرفع الصالحين فسيرفع غيرهم لا محالة، فهي سنة اجتماعية، فلكل مجتمع أبطاله ورجاله وأهل القدوة فيه، فإذا ما ضربوا ضربت هوية المجتمع معهم، وللأسف فقد استبدل الناس بعد أولئك الصالحين – بغض النظر عن حقيقة صلاحهم ومدى صدقهم فيه- بمطربين ومهرجين ولاعبين وسياسيين.. ولم نجد أحدا ينكر ذلك.
والأخطر من هذا أن الشيخ أحمد حماني الذي أتيحت له فرص كثيرة بعد الاستقلال ضيعها جميعا، ولم يجد شيئا ينكره إلا هذه العادات ليقتلعها من جذورها من غير أن يضع أي بديل صالح لها، وكمثال على ذلك أنه طرح عليه في الإذاعة الوطنية هذا السؤال: (عادة موروثة كانت منتشرة فينا ورثناها عن الأجداد وهي إقامة حفلات الزردة، يتهيأ لها الناس…ويجتمعون بمكان ولي فينحرون البقر ويذبحون الشياه…وتقام الاحتفالات بالحضرة والآلات والتهوال ويضرع للأولياء والصالحين فيمدونهم بالبركات والخيرات،اختفت هذه العادة أيام الثورة لكنها عادت بعد 1962 وكان الناس فيها قسمان مؤيد ومعارض)([67])
فأجاب عن هذا السؤال بنفس الحمية التي كان ينطق بها الشيخ الإبراهيمي والتبسي والميلي، فذكر أن آخر زردة كانت في قسنطينة سنة 1937 لأن إقامتها ليست من الإسلام في شيء لما فيها من مظاهر الشرك ودعاء للأولياء والذبح لغير الله،زيادة على أنها من مظاهر التخلف ووراءها الاستعمار وقد اختفت هذه البدع بعد الاستقلال حتى عادت للظهور من جديد في الثمانينيات، ووجه حماني لومه للمذيع والإذاعة الوطنية أنه لو احترم نفسه كصحافي صادق لقدم لأمته الحقائق لتتمسك بها بما يفيدها وتهجر القبيح الذي يضرها([68]).
ولسنا ندرى لم لم ينكر الشيخ تلك الاحتفالات الكبرى أو أنواع الزردة التي تقام في ملاعب كرة القدم، والتي استبدل بها المجتمع احترامه وتعظيمه للصالحين بتعظيمه للاعبين، فحصد نتيجة ذلك صراعات كبرى بين أهل المناطق المختلفة من أجل هدف أو لاعب أو حكم، ولم يكن للشيخ أحمد حماني في ذلك الوقت – للأسف- إلا أن ينضم إلى قائمة المشجعين، فيشجع فريقا على حساب فريق([69]).
بل إن الشيخ لم يكتف بالتبشير في الإذاعة التي هي ملك للجزائريين جميعا بهذه التصريحات الخطيرة، بل راح في كل النوادي يبشر بها، وكأنها قضية الساعة، فقد وردت إليه استفتاء([70]) حول الزردة، فأجاب بلغة لا تختلف عن لغة الوهابيين التكفييريين، نجتزئ منها – من باب الاختصار- هذه العبارات المفرقة الدالة على المنهج الفكري للشيخ وللجمعية جميعا.
فقد ذكر أن المقصودين بالزيارة (كانوا عاطلين عن كلّ ما يؤهّلهم للزيارة ! فلا علم ولا زهد ولا صلاح ولكن نسب مرتاب في صحّته)
وذكر أن الممارسات التي تؤدى عند الأضرحة ممارسات شركية، فقال: (إنّ مثل هذا التمسّح نوع من الشرك ولا يكون إلاّ للحجر الأسود بالكعبة فقط مع التوحيد الخالص لله وقد قال له عمر يخاطبه: (والله ما أنت إلا حجر لا تنفع ولا تضر ولو لا أنّي رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك)، فإن كنت مع الحجر الأسود كما قال عمر فلا بأس أن تقبّله، أمّا غيره فلا يجوز لك التمسّح به فإنّ التمسّح به وتقبيله شرك يتنَزّه عنه المؤمن الموحّد)
ثم إنه حكم بالشرك حتى على التوسل الذي لم ير الشيخ ابن باديس فيه أي حرج، فقال: (إنّ التوسّل الشائع بين الناس وهو الدعاء – الدعاء هو مخ العبادة – شرك محض، فالتوحيد أن تدعو الله الذي خلقك – ولو عظمت ذنوبك – فإنه معك يسمع دعاءك فإن كان لا بدّ من التوسّل فتوسّل بصالح أعمالك كما فعل الثلاثة اصحاب الغار حينما نزلت عليهم الصخرة وسدّته عليهم، فاستجاب لهم من يعلم شدّتهم. هذا هو التوسّل الصحيح وغيره قد يوقع صاحبه في الشرك، فلا تحم حوله)
ثم اعتبر كالوهابيين جميعا أن الأضرحة ليست غير أصنام لا تختلف عن أصنام الجاهلية، فقال: (وكانت هذه الزردة كثيرة لأنّ لكلّ قوم لإلههم من أصحاب القبور من حدود تبسة إلى مغنية، كانت القبور تعبد من دون الله ولكلّ قوم من يقدسونه. فـ(سيدي سعيد) في تبسة، و(سيدي راشد) في قسنطينة و(سيدي الخير) بسطيف و(سيدي بن حملاوي) بالتلاغمة، و(سيدي الزين) بسكيكدة و(سيدي منصور) بولاية تيزي وزو و(سيدي محمد الكبير) في البليدة، و(سيدي بن يوسف) بمليانة و(سيدي الهواري) بوهران و(سيدي عابد) بغليزان و(سيدي بومدين) بتلمسان و(سيدي عبد الرحمن) بالجزائر، ويزاحمه (سيدي امحمد)، وليعذرني الإخوة ممن لم أذكر آلهة بلدانهم وهم ألوف، ففعل هؤلاء القوم مع هؤلاء المشايخ يشبه فعل الجاهلية مع هبل واللات والعزّى وخصوصا إقامة الزردة حولها والذبح لها والتمسح بالقبور، أفترانا نحيي آثار الشرك ونحن الموحدون؟)
ثم أفتى بأن (الطعام واللحم المقدّم في الزردة لا يحلّ أكله شرعا لأنّه مما نصّ القرآن على حرمة أكله فإنه سبحانه وتعالى يقول: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ } [المائدة: 3] فاللحم من القسم الرابع أي مما أهل لغير الله، أي ذبح لغير الله بل للمشايخ، فزردة (سيدي عابد) أقيمت له وهكذا (سيدي أحمد بن عودة) و(سيدي بومدبن).. أقيمت له الزردة ليرضى وينفع ويدفع الضّر، وتقول إنّ هذه الذبائح قد ذكر اسم الله عليها، فأقول: ولو ذكر اسم الله فإنَّ النّية الأولى وهي تقديمها إلى صاحب المقام، يجعلها لغير الله)
اهتم الصوفية ابتداء من ظهور ظاهرة التكفير المرتبطة بالموالد والأضرحة ونحوها بكتابة الرسائل والكتب التي ترد على هذا، وتبين مدى مشروعية ما يمارس في تلك الموالد، بغض النظر عن بعض الممارسات الخاطئة التي يتفق الصوفية والسلفية على إنكارها، كدخول بعض الفساق والمنحرفين إلى تلك المحال، لأن ذلك لا علاقة له في الأصل بالمولد ولا بالضريح.
وقد ذكرنا الكثير من المؤلفات في الرد على الحركة الوهابية في الفصل الخاص بأساليب تعامل الطرق الصوفية مع الجمعية، وفي معظم تلك المؤلفات نرى الردود المرتبطة بهذا الجانب، باعتباره أخص خصائص الحركة الوهابية والحركات السلفية التي نشأت عنها، ومن ضمنها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين.
ولعل أهم من كتب في هذا الجانب مما له علاقة بالطرق الصوفية الجزائرية ما كتبه العلامة الحافظ المغربي أبو الفيض أحمد بن الصديق الغماري الحسني في رسالته التي خصصها لهذا، وعنوانها (إحياء المقبور من أدلة جواز بناء المساجد والقباب على القبور)، ومثله كتاب (مفاهيم يجب أن تصحح) للشيخ العلامة محمد علوي المالكي الحسني، فكلاهما من المراجع المعتمدة عند الطرق الصوفية في هذا الباب.
وقد ردا في هذين الكتابين على دعوة الوهابية لتهديم الأضرحة، وحكمهم قبل ذلك بكفر زوارها معتمدين في ذلك على مجموعة من الأدلة الحديثية، منها: ما روي عن علي أنه قال له: (أبعثك علي ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا تدع تمثالاً إلا طمسته ولا قبراً مشرفاً إلا سويته)([71])
وما روي عن جابر بن عبد الله قال: (نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن تجصص القبور وأن يكتب عليها وأن يبنى عليها وأن توطأ)([72])
وقد أجاب الشيخ الغماري على هذا بمجموعة من الأدلة قدم لها بقوله – بعد عرض الكثير من النصوص التي يعتمد عليها الوهابيون- مخاطبا مستفتيه: (وذكرت أنه أشكل عليك أمر هذه الأحاديث ولم تدر وجه الجمع بينها وبين ما اتفقت عليه الأمة المعصومة في اتفاقها من الخطأ على بناء الأحواش والقباب والمساجد قديماً وحديثاً بمشارق الأرض ومغاربها على القبور، ورجوت أن نبين لك على وجه الجمع بين ذلك ونوضح لك الحق في المسألة، ونذكر لك من دلائل القول المختار ما يسفر عن وجه الصواب ويزيح عنه كل شك وارتياب)
ولا يمكننا في هذا المحل الضيق أن نستوعب كل ما ذكر في المسألة من إجابات، ولكنا سنحاول فقط من خلال ذينك المرجعين وغيرهما وخصوصا ما كتبه أبو الفيض أحمد بن الصديق الغماري الحسني في رسالته (إحياء المقبور من أدلة جواز بناء المساجد والقباب على القبور) – باعتبار أنها مستوعبة للكثير مما ذكره المتقدمون عليه- أن نبين مباني الأدلة التي يعتمدون عليها في المسألة، وبعض فروعها.
وقد رأينا من خلال تحليل ما يمارس في الموالد والزردات أنها تحتوي – عموما- على خمسة أشياء:
1 ــ تعظيم المناسبة أو المكان المرتبط بالمولد.
2 ــ البناء على القبور.
3 ــ التوسل والاستغاثة بأصحاب القبور.
4 ـ إقامة الولائم على القبور.
5 ـ الذكر والإنشاد عند القبور.
فهذه الأمور جميعا، والتي تشكل باجتماعها ما يسمى بالمولد والزردة، هي التي على أساسها قامت الجمعية بذلك النكير الشديد الذي وصل إلى حد الحكم بالشرك الأكبر متابعة في ذلك لما يذكره الوهابيون من غير اطلاع على ما يورده المخالفون لهم من الأدلة.
بناء على هذا نحاول هنا باختصار أن نذكر الأدلة الكثيرة على ما ذهب إليه الصوفية من جواز البناء على القبور وغيره([73])، وسنوردها هنا، لا من باب تأييد موقفهم في ذلك، وإنما من باب بيان أن المسألة من مسائل الخلاف الفقهي، وأنها لا ترقى إلى الحد الذي بلغت بها الجمعية تبعا للوهابيين من اعتبارها من مسائل الشرك والإيمان، فالحكم بالشرك لا يكون في أمر مختلف فيه.
ويمكن من خلال ما طرحه الغماري تصنيف ما أورده من أدلة كما يلي:
اختلاف الفقهاء في مشروعية البناء على القبور:
يورد الشيخ الغماري كغيره من فقهاء ومحدثي الصوفية الخلاف الفقهي في هذه المسألة بشقيه المجيز وغير المجيز، ليذكروا للمخالف أن الأمر متسع للجميع، وأن الأمة لم تختلف في هذه المسألة إلا لكون النصوص الواردة فيها غير قطعية أو معارضة بغيرها.
وليقولوا لهم كذلك: لا حرج عليكم أن لا تبنوا أو أن لا تزوروا، ولكن كل الحرج عليكم أن تنكروا على من خالفكم لأن من أصول النهي عن المنكر أن يكون من المتفق عليه لا المختلف فيه، وقد قال الشيخ ابن عليوة مخاطبا مخالفه الذي اعتبر ما يفعله نهيا عن المنكر: (وكلّ ذلك أصابك ولعلّه من عدم الفقه في دين الله، ولهذا اشترط عليه الصلاة والسلام في حق الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يكون فقيها فيما يأمر به فقيها فيما ينهى عنه، لئلا يأمر بمنكر وينهى عن معروف، ومن أجل ذلك تورّع أكابر العلماء عن القول في دين الله بغير نصّ صريح، أو ما هو كالصريح، ذكر ابن عبد البر، عن عطاء، أنّه قال: (لا ينبغي لأحد أن يفتي الناس حتى يكون عالما باختلاف الناس، وإن لم يكن كذلك ردّ من العلم ما هو أوثق من الذي هو في يده)([74])، فإنّ من الحق عليك أن تنكر ما علمت إنكاره من الدين بالضرورة، وتأمر بما تحققت معروفيته من الدين بالضرورة، وتحسن الظنّ فيما تفرّع عن اجتهاد المجتهدين من أئمة الدين من الصوفيّة وغيرهم، أو ليس في علمك قد يوجد من المشتبه ما ثبت حرمته في مذهب وإباحته في آخر، أو ندبه في مذهب، وكراهيته في الآخر؟)([75])
بناء على هذا نحاول أن نسرد هنا باختصار بعض ما ذكره الشيخ الغماري من خلاف في المسألة، مصنفين له بحسب المسائل ليتيسر على الباحث بعدها أن يتعرف على الدليل من جميع نواحيه.
1 ــ أن الدفن في البناء على القبر لا شبهة في جوازه كما نص عليه الفقهاء إلا أحمد بن حنبل الذي رأى – مع الجواز – أن الدفن في مقابر المسلمين أولى مراعاة لعمل أكثر الناس، ورأى أن دفن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في البناء لأجل التمييز اللائق بمقامه الأرفع صلى الله عليه وآله وسلم وهذا لا يخفي ما فيه لأنه تخصيص بدون مخصص.
وأورد الغماري للدلالة على هذا حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال فيه([76]): (إنما تدفن الأجساد حيث تقبض الأرواح)، وعلق عليه بقوله: (ومعلوم أن الأرواح تقبض غالباً في البيوت، فمقتضى هذا أن الدفن في البناء أولى)([77])
بالإضافة إلى هذا، فقد اتفق الصحابة على دفن أبي بكر وعمر مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم يبق بعد هذا وجه لما قاله أحمد.
2 ــ أن البناء بعد الدفن إذا كان في الملك، فقد كرهه الجمهور كراهة تنزيه إذا أمن نبش سارق أو سبع أو سيل وقصد به إحكام البناء والبقاء والزينة وإلا جاز عندهم، وزاد المالكية التصريح بحرمته إذا قصد به المباهاة وأجازه آخرون مطلقاً، ولو قصد به المباهاة، وقيد الأكثرون جوازه إذا قصد به التمييز، وصرح أكثرهم بحرمته ووجوب هدمه إذا وقع في الأرض الموقوفة للدفن، ومنهم من قيده بما إذا كان كبيراً زائداً على قدر القبر وهذا أمر خارج عن حكم البناء نفسه، وفصل جماعة بين ما كان فوق القبر نفسه وبين ما كان حوله دائرً به كالحوش فأجازه الأكثرون، ومنهم من قيد بما إذا كان صغيراً على قدر الحاجة ولم يسقف ولم تطل أسواره ومنهم من صرح بجوازه ولو كان بيتاً وهو قول المحققين من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم([78]).
3 ــ أن تخصيص الصالحين ببناء الأضرحة والقباب قد نص جماعة من العلماء على جوازه، بل استحبابه في حقهم تعظيماً لحرمتهم وحفظاً لقبورهم من الامتهان والاندثار الذي يعدم معه الانتفاع بزيارتهم والتبرك بهم([79]):
ومنهم العز بن عبد السلام الذي أفتى بهدم القباب والبيوت والأبنية الكثيرة الواقعة في قرافة مصر، لأنها واقعة في أرض موقوفة على دفن المسلمين، واستثنى من ذلك قبة الإمام الشافعي معللا لذلك بأنها مبنية في دار ابن عبد الحكم، وهذا منه ذهاب إلى جواز بناء القباب على مثل قبر الإمام الشافعي إذا كان ذلك في الملك ولم يكن في أرض الحبس.
ومنهم الحافظ السيوطي الذي أفتى باستثناء قبور الأولياء والصالحين ولو كانت في الأرض المحبسة ووافقه جماعة ممن جاءوا بعده من فقهاء الشافعية وقد ذكر هو ذلك في جزئه الذي سماه (بذل المجهود في خزانة محمود)، ونقل كلامه بطوله في المسألة.. وهكذا ورد في الكثير من كتب الفقهاء من المذاهب المختلفة.
وفي مصباح الأنام وجلاء الظلام للعلامة علي بن أحمد الحداد الذي أشرنا إليه سابقا: (ومن قال بكفر أهل البلد الذي فيه القباب وإنهم كالصنم فهو تكفير للمتقدمين والمتأخرين من الأكابر والعلماء والصالحين من جميع المسلمين من أحقاب وسنين مخالفاً للإجماع السكوتي على الأنبياء والصالحين عصور ودهور صالحة، قال تلميذ ابن تيمية الإمام بن مفلح الحنبلي في الفصول: (القبة والحظيرة في التربة يعني على القبر إن كان في ملكه فعل ما شاء وإن كان في مسبله كره للتضييق بلا فائدة ويكون استعمالاً للمسبلة فيما لم توضع له)، قال ابن القيم الحنبلي: (ما أعلم تحت أديم السماء أعلم في الفقه على مذهب أحمد من ابن مفلح)، وقوله في المسبلة بلا فائدة إشارة إلى أن المقبور غير عالم وولي، أما هما فيندب قصدهما للزيارة كالأنبياء عليهم السلام وينتفع الزائر بذلك من الحر والبرد والمطر والريح والله أعلم لأن الوسائل لها حكم المقاصد)([80])
4 ــ أن الفقهاء والمحدثين الكبار نصوا على صحة الوقف لضرائح الأولياء، وقد نقل الغمار في ذلك عن ابن حجر قوله في التحفة في كتاب الوصايا: (ويظهر أخذا مما مر ومما قالوه في النذر للقبر المعروف جواز صحتها كالوقف لضريح الشيخ الفلاني ويصرف في مصالح قبره والبناء الجائز عليه ومن يخدمونه أو يقرءون عليه، ويؤيد ذلك ما مر آنفاً من صحتها ببناء قبة على قبر ولي وعالم، أما إذا قال الشيخ الفلاني ولم ينو ضريحه ونحوه فهي باطلة أي الوصية)([81])
ونص أيضاً على أن القبة في غير مسبلة على العالم والولي من القرب، فقال في التحفة في باب الوصية: (وإذا أوصى لجهة عامة فالشرط أن لا يكون معصية.. وشمل عدم المعصية القربة كبناء مسجد ولو من كافر ونحو قبة على قبر عالم في غير مسبلة اهـ. ومنعه في المسبلة على العالم ونحوه رده عليه الحلبي المحشي على المنهج وعبارته، واستثنى قبور الأنبياء (عليهم السلام) والصحابة والعلماء والأولياء (رحمهم الله) فلا تحرم عمارتها في المسبلة لأنه يحرم نبشهم والدفن في محلهم، ولأن في البناء تعظيماً لهم وإحياء لزيارتهم ولا تغتر بما وقع لابن حجر كغيره في هذا المحل أي في المسبلة لا في المملوكة)([82])
وقد علق طاهر بن محمد العلوي على ابن حجر بقوله: (وإنما جعل ابن حجر وغيره القبة على الولي في غير المسبلة والموقوفة قربة لأن العلماء نصوا على أن تمييز العالم والصوفي حياً وميتاً مطلوب أخذا من قوله في حق نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ } [الأحزاب: 59]، وقد علمت أن القبة من عصور وقرون عليهم وعلى الأنبياء (عليهم السلام) قال ابن حجر في شرح العباب: وأما المحرمات فلم يعهد في زمان من الأزمنة إطباق جميع الناس خاصتهم وعامتهم عليها كيف وهذه الأمة معصومة من الاجتماع على ضلالة وإذا عصمت من ذلك كان إطباقهم جميعاً خاصتهم وعامتهم على أمر حجة على جوازه في أي زمان كان سواء الأزمنة الأولى أ, الأزمنة المتأخرة، وكلام الأصوليين صريح في أن الإجماع الفعلي حجة كالقولى)([83])
5 ــ أن الفقهاء نصوا على جواز بناء القباب على الصالحين وتعليق ستور الحرير وغيره عليها، وإيقاد المصابيح ونحو ذاك، ونقل من ذلك النصوص الكثيرة، ومنها ما ورد في مسائل الصلاة من نوازل البرزلي: سئل عز الدين عن نصب الشموع والقناديل في المساجد للزينة لا للوقود وعن تعليق الستور فيها هل هو جائز أم لا؟. وكذلك فعل مثله في مشاهد العلماء وأهل الصلاح فأجاب: (تزيين المساجد بالشمع والقناديل لا بأس به لأنه نوع من الاحترام والإكرام، وكذلك الستور وإن كانت من الحرير احتمل أن تلحق بالتزيين بقناديل الذهب والفضة واحتمل أن يجوز ذلك قولاً واحداً لأن أمر الحرير أهون من الذهب والفضة. ولذلك يجوز استعمال المنسوج من الحرير وغيره إذا كان الحرير مغلوباً ولا يجوز مثل ذلك في الذهب والفضة، ولم تزل الكعبة تستر إكراماً لها واحتراماً فلا يعد لحاق غيرها من المساجد بها وإن كانت الكعبة أشد حرمة من سائر المساجد. وأما مشاهد العلماء وأهل الصلاح فحكمها حكم البيوت فما جاز في البيوت جاز فيها وما لا فلا)([84])
6 ــ أن الذي يدل عليه الدليل ويقتضيه النظر أن البناء حول القبر جائز سواء كان حوشاً أو بيتاً أو قبة أو مسجداً، وما يذكره الفقهاء من الشروط والاحترازات أمر خارج عن حكم البناء في ذاته، لأنها عوارض لها حكم خاص بها يوجد بوجودها وينتفى بانتفائها ككونه في الأرض الموقوفة أو المسبلة أو قصد به المباهاة أو الزينة ونحو ذلك، فإنه لا تعلق له بحكم البناء، فلا نتعرض له لأنه خروج عن الموضوع، وإنما المقصود بيان حكم البناء في ذاته وهو جائز حول القبر بالكتاب والسنة والإجماع والقياس([85]).
دفع عموم الأدلة التي استدل بها المخالف:
حيث بين الشيخ الغماري كغيره من فقهاء الصوفية أن ما ورد من النصوص الناهية عن البناء على القبور ليست عامة، وإنما هي خاصة بأحوال معينة، وهذا تصنيف مختصر لبعض ما أورده من أدلة:
1 ــ نشأ الخلاف في جواز البناء حول القبور نتيجة الخطأ في الاستدلال وعدم إحكام النظر في الدليل من جهة عدم فهم معناه وتحقيقه أولا، ثم من جهة عدم فهم مراد الشارع من ذلك المعنى المفهوم ثانياً، ثم من جهة الإعراض عن النظر في الأدلة المعارضة له ثالثاً، فإن النهي الوارد في البناء على القبور واتخاذ المساجد عليها غير عام في نفسه، ولا في كل زمان بل هو خاص بنوع من أنواعه ثم هو غير تعبدي، بل هو معقول المعنى معلل بعلل يوجد بوجودها وينتفي بانتفائها شأن كل حكم معلل كما هو معروف، ومع هذا فهو أيضاً معارض بما هو أقوى منه مما يجب النظر في الجمع بينهما وجوب العمل بالنص والتمسك بالدليل ويحرم الإعراض عن أحدهما والتمسك بالآخر حرمة الإعراض عن النص ومخالفة الدليل لأن الكل شرع مفترض طاعته واجب قبوله والعمل به فالإعراض عن أحدهما دون دليل، مسوغ إعراض عما أوجب الله طاعته وفرض على العبد اتباعه وتفريق بيم المتماثلين وترجيح بين الدليلين بدون مرجح وهو باطل بالإجماع([86]).
2 ــ أن القائل بكراهة البناء فهم أن النهي عن البناء عام، والدليل يدل على أنه خاص بالبناء الواقع فوق القبر نفسه دون الواقع حوله، لأن ذلك هو الذي يدل عليه معنى حرف (على) الموضوع للاستعلاء، فالبناء على القبر هو الذي علاه وكان فوقه لا ما كان حوله دائراً به قريباً منه على قدر حرم القبر، فكيف بما يكون واسعاً بعيداً عنه كالحوش والقبة والمدرسة، فإن اللفظ لا يتناوله، وعلى فرض أن هناك ما يدل على العموم فهو عام مخصص لورود الأدلة الدالة على تخصيصه أو على إرادة الخصوص به([87]).
3 ــ أن القائل بالكراهة لا يخلو أن يكون أعرض عنه وجمد على الظاهر كأنه تعبدي غير معقول المعنى ولا ظاهر العلة وليس هو كذلك بالاتفاق، لورود النصوص بالعلة أو يكون أخطأ في تعيين مراد الشارع وتحقيقه أو أصابه ولكنه أخطأ في عدم تنقيحه، فإنه لا بد من تحقيقه ثم تنقيحه حتى لا يعم ما هو خارج عنه غير داخل في حكمه أو أخطأ في اطراد العلة وهي غير مطردة ولا موجودة في كل بناء، وإنما هي موجودة في نوع من أنواعه فإن العلماء اختلفوا في العلة التي من أجلها نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن البناء على القبر على أقوال([88]):
منها أن العلة في ذلك كون الجص والآجر مما مسته النار، ولا ينبغي أن يقرب ذلك من الميت إما تفاؤلاً كما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحب الفأل الحسن ويستبشر به في الأقوال والأفعال والصفات والأسماء وسائر الأشياء، وإما لمعنى يعرفه الشارع فيما مسته النار. ولذلك أوجب منه الوضوء في أول الأمر ثم نسخه للضرورة ورفع الحرج والمشقة.
ومنها إن العلة فيه وجود الثقل على الميت والمطلوب التخفيف عنه، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتسوية القبر وعدم وضع التراب فوقه، ونص الفقهاء على أنه يكره أن يجلب له تراب زائد على الذي خرج منه.
ومنها أن العلة كون البناء فيه تمييز عن سائر قبور المسلمين حوله.
ومنها أن البناء يمنع من دفن الغير معه، لأن قبور أهل الحجاز والأرض الصلبة على كيفية اللحد.
ومنها أن فيه تشبهاً بفعل الكفار من أهل الكتاب والمشركين من أهل الجاهلية، لأنهم يضعون الرخام على قدر القبر أو يبنون فوقه. وقد بنيت الشريعة في كثير من أحكامها على مخالفة الكفار والمشركين.
ومنها أنه في الزينة الدنيوية ولا ينبغي فعل ذلك بمن انتقل إلى الآخرة.
ومنها أنه يدعو إلى الجلوس على القبر. والجلوس عليه منهي عنه لما فيه من أذية الميت بامتهانه ولهذا استحبوا أن يكون القبر مسنماً ولا يكون مسطحاً لأن التسنيم يمنه من الجلوس، ذكره بعضهم.
ومنها إنه يحول بين الميت وسماع النداء والذكر وتلاوة ما يتلى على قبره من القرآن وسلام المسلم عليه.
وقد أورد الشيخ الغماري لكل علة من العلل الثماني ما يدل عليها، وناقشها، وبين أن العلة الوحيدة المعتبرة، هي البناء على نفس القبر، فقال: (فلم يبق مقبولاً إلا العلل الأخرى وهي خاصة بالبناء الواقع على نفس القبر فوقه لا الذي حوله دائراً به، فلذلك كان مخطئاً من حمل النهي على العموم وأدخل فيه القباب والمدارس والأحواش، لأنها غير داخلة في النهي)([89])
وكمثال على مناقشته العلل مناقشته للعلة المتعلقة باعتبار البناء من الزينة التي لا تنبغي لأهل الآخرة، وقد ناقشها من وجهين([90]):
أحدهما: أن البناء على القبر ليس من الزينة في شيء ولا يراد به الزينة، وإنما يراد به حفظ القبر من الدوس والامتهان واندثار الأثر الذي لا يعرف معه القبر، وإذا قصد به بعضهم الزينة وفعل به ما هو منها فذاك أمر زائد على البناء، فيكون الحكم متعلقاً به لا بنفس البناء.
الثاني: أن كون الزينة الدنيوية لا تنبغي لأهل الآخرة دعوى مجردة عن الدليل فهي باطلة. فإن الشارع أمر بتزيين الميت وتحسين كفنه وتطييبه، ونص الفقهاء على استحباب تقليم أظافره وإصلاح شعر لحيته ورأسه ونحو ذلك من أمور الزينة التي لم تطلب للحي إلا في العيدين والجمعة.
4 ــ أن التعليل بخشية عبادة القبر غير صحيح، وذلك لــ (رسوخ الإيمان في نفوس المؤمنين وتنشئتهم على التوحيد الخالص واعتقاد نفي الشريك مع الله تعالى، وأنه سبحانه وتعالى المنفرد بالخلق والإيجاد والتدبير والتصريف لا فاعل غيره ولا مؤثر في ملكه سواه وأن المخلوق الحي لا قدرة له على جلب منفعة لنفسه ولا دفع مضرة عنها إلا بخلق الله تعالى وإيجاده فضلاً عن الميت المقبور، وبانتفاء العلة ينتفي الحكم المترتب عليها، وهو كراهة اتخاذ المساجد والقباب على قبور الأولياء والصالحين، فإن من يتخذها عليهم لا يفعل ذلك لأجل أن يعبدهم ويتخذ قبورهم مساجد يسجد إليها من دون الله تعالى، أو يجعلها قبلة يصلى إليها، بل هذا ما سمع في هذه الأمة ولا وجد قط من مسلم يدين بدين الإسلام وإنما قصد بتلك القباب مجرد الاحترام وتعظيم قبور الصالحين وحفظها من الامتهان والاندراس الذي ينعدم به الانتفاع بزيارتهم والتبرك بهم، فإذا فرض وجود من بنى قبة أو مسجداً على قبر ليعبده ويتخذه قبلة فهذا كافر مرتد يجب قتله وهدم ما بناه، لأنه لم يبن مسجداً بل بنى كنيسة في صورة مسجد مع أن شيئاً من هذا لم يقع في هذه الأمة والحمد لله)([91])
أما ما يفعله بعض جهلة العوام إذا أتوا قبور الصالحين (من التعظيم ما يشبه صورته صورة العبادة لا يكون موجباً لكراهة البناء، لأن ذلك لم يأت من جهة البناء ولا هو العلة فيه، إنما علته الجهل بطرق التعظيم والحد اللائق به شرعاً، ولو كان البناء هو علة ذلك للزم ألا يتخلف عند وجوده مع أن جل من يزور الأولياء المتخذ عليهم القباب والمساجد لا يوجد منه ذلك، وإنما يوجد من قليلين جداً من بعض جهلة العوام. كما أنه يلزم أن لا يوجد إلا عند القبور المبني عليها مع أننا نرى بعض الجهلة يفعل ذلك أيضاً ببعض قبور الأولياء التي لم يبن عليها مسجد ولا قبة وليس عليهم بناء أصلاً)([92])
5 ــ أن تعظيم الصالحين لا يرتبط بالبناء وحده، فإنه حتى لو هدمت الأضرحة يبقى التعظيم، لأن الباعث على ذلك هو الاعتقاد الناشئ عن ولايتهم وصلاحهم ومكانتهم السامية عند ربهم الذي وضع لهم المحبة والاعتقاد في القلوب، ولهذا، فإن (على الجهلة القرنيين([93]) المبتدعة الضالين أن يهدموا الاعتقاد ويقلعوا أثره من النفوس ويقضوا على الصلاح والولاية والتقوى والخشية التي يكرم الله تعالى صاحبها، بوضع ذلك في القلوب حتى يستريحوا من تعظيم المخلوق والتوسل والاستغاثة به أما هدم البناء فلا يأتي لهم بنتيجة ولو أتى بها لما احتاجوا إلى حراس عند القبور يمنعون من ذلك بعد الهدم)([94])
وتحدث الشيخ الغماري عن نفسه في تلك الفترة التي قام فيها الوهابيون بهدم القباب، فقال: (فأنا زرت قبر حمزة بعد هدم البناء الذي عليه بأزيد من خمس عشرة سنة ووجدت الحارس قائماً عند قبره يمنع الزوار من القرب من القبر والتمسح به وتقبيله، ولم يكف مضي خمس عشرة سنة على الهدم في قلع ذلك من النفوس، وهكذا يبقى ذلك ما بقي الإيمان ومحبة الله تعالى ورسوله ومحبة أوليائه وأصفيائه. والمقصود أن البناء لا دخل له في تحقيق علة النهي وثبوتها في هذه العصور المتأخرة، بل ذلك قد زال من البناء وانتقل إلى المحبة والاعتقاد فلم يبق حكم متعلق بالبناء، وكان المتمسك بظاهر النهي المعرض عن تحقيق علته ومراد الشارع منه مخطئاً في حكمه غير مصيب في اجتهاده وفهمه)([95])
6 ــ أن القائل بكراهية البناء على القبور تمسك بالنهي ولم يلتفت إلى ما يعارضه من الأدلة، وذلك مما يوجب الخطأ في الحكم وعدم الإصابة في الاجتهاد، فإن الجمع بين الدليلين واجب مفترض والإعراض عن أحدهما دون ثبوت النسخ حرام والحكم باطل، فإن النهي عن البناء ورد ما يعارضه مما هو أقوى منه ثبوتاً ودلالة فلا يقبل حكم مع الإعراض عنه، وسنورد هذه الأدلة المعارضة في العنوان التالي.
الإجابة على النصوص التي أوردها المخالفون:
وقد رد على كل ما أورده المخالفون من نصوص ببيان سوء فهمهم لها، ومن الأمثلة التي أوردها لذلك ما ورد في الحديث من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (قاتل الله اليهود اتخذوا من قبور أنبيائهم مساجد)([96])، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم لأم سلمة حين ذكرت له كنيسة رأتها بأرض الحبشة، وما رأت فيها من الصور: (أولئك قوم إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله)([97])، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ألا إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد إلا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك)([98]) وقد رد على ما فهمه المخالفون بالوجوه التالية([99]):
1 ــ أن الله تعالى حكى مشروعية البناء عن المؤمنين في سورة الكهف، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم حكاه عن اليهود والنصارى وفرق بين حال الفريقين، فإن المؤمنين فعلوا ذلك للتبرك بآثار الصالحين الذين أكرمهم الله تعالى بهذا الآية وحفظ أرواحهم وأجسامهم تلك القرون الطويلة. واليهود والنصارى يفعلون ذلك للعبادة والإشراك مع الله تعالى. فالدليلان غير متواردين على محل واحد. فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما لعن اليهود والنصارى على اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد يعبدون فيها تلك القبور ويسجدون إليها أو يجعلونها قبلة لاتخاذهم الأنبياء شركاء مع الله تعالى فيما يستحقه من العبادة، والدليل على هذا قوله صلى الله عليه وآله وسلم في نفس الحديث: (ولا يبقى دينان بأرض العرب)، أي لا تفعلوا مثلهم فتكفروا فيكون بأرض العرب دينان.
2 ــ أنه لو كان كل من بنى على المسجد قبراً ولو للتبرك والزيارة ملعوناً كما في الحديث لكان هؤلاء المؤمنون الذي حكى الله عنهم ملعونين أيضاً داخلين في لعنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على من فعل الذي حكاه الله عنهم، ولو كانوا كذلك لكا سكت الله تعالى عن ذمهم ولعنهم والإشارة إلى ضلالهم وخروجهم عن الصراط المستقيم فيما أتوا كما عرف من عادته في كتابه الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
3 ــ أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أولئك كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح اتخذوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تماثيل)([100])، فاتخاذهم الصور والتماثيل فيه دليل على أنهم يفعلون ذلك لأجل عبادتهم، وقد شهد العيان بذلك وأثبت التاريخ مثله، وأنهم ابتدأوا عبادة الأصنام بعبادة صور الصالحين وقبورهم، وهذا لا يوجد منه شيء عند المسلمين.
4 ــ أنه معلل بخشية العبادة، وكما هو مصرح به في الحديث نفسه فلا يكون تشريعاً عاماً في كل زمان، بل هو التشريع المؤقت بزمن خشية وجود العلة، وهو زمن قرب عهد الناس بالإشراك دون الزمان الذي لم يعد أهله شركاً ولا دار في خلدهم شيء منه، بل نشأوا على الإيمان واليقين والتوحيد واعتقاد انفراد الله تعالى بالخلق والتدبير، وأنه لا فاعل إلا الله تعالى، فهو غير معارض لدليل الكتاب العام في كل زمان، بل هو مخصص لعمومه بزمن ارتفاع خشية العبادة، وهو زمن استقرار الإيمان وانتشار التوحيد ورسوخ العقيدة رسوخاً لا يتطرق معه أدنى خلل ولا شك في وحدانية الله تعالى وتفرده بكل معاني الألوهية والربوبية.
ومثل هذا في الشريعة كثير جداً وهو التشريع المؤقت الذي يشرع لعلة ثم يزول بزوال علته، إلى أنه تارة يكون منصوصاً عليه من الشارع نفسه وهو الناسخ ,المنسوخ، وتارة لا ينص الشارع على زوال الحكم ونسخه لاحتمال وجود العلة في كل وقت، ولكنه يشير إلى أن ذلك الحكم غير لازم على الدوام إنما يلزم عند وجود علته فيقول أو يفعل ما يخالف الحكم الأول حتى يظن في بادئ النظر أن بين الأمرين تعارضاً.
وضرب مثالا على هذا بنهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن زيارة القبور([101]) أولاً لما كانوا قريبي عهد بالشرك، فلما استقر الإيمان في نفوسهم أباح لهم زيارتها للاعتبار والتذكر والزهد في الدنيا، وكذلك نهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث وعن ادخارها لأجل مجاعة ألمت بالناس، فلما ذهبت قال: (إنى كنت نهيتكم عن زيارة القبور وأكل لحوم الأضاحى فوق ثلاث، وعن نبيذ الأوعية ألا فزوروا القبور فإنها تزهد فى الدنيا وتذكر الآخرة، وكلوا لحوم الأضاحى وأبقوا ما شئتم فإنما نهيتكم عنه إذا لخير قليل فوسعه الله على الناس ألا إن وعاء لا يحرم شيئا وإن كل مسكر حرام)([102])
الأدلة على مشروعية بناء قبور الصالحين وتعظيمها:
وقد ذكر الشيخ الغماري خمسة عشر دليلاً معارضا نقتصر منها على ما يلي([103]):
1 ــ قول الله تعالى في قصة أصحاب الكهف: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا } [الكهف: 21]، والذين غلبوا على أمرهم هم المؤمنون على الصحيح، لأن المسجد إنما يبنيه المؤمنون، وأما الكافرون فقالوا: ابنوا عليهم بنيانا، والدليل من هذه الآية إقرار الله تعالى إياهم على ما قالوا وعدم رده عليهم، فإن الله تعال إذا حكى في كتابه عن قوم مالا يرضاه ذكر معه ما يدل على فساده وينبه على بطلانه إما قبله وإما بعده، فإذا لم ينبه على ذلك دل على رضاه تعالى به وعلى صحته إن كان عملاً وصدقة إن كان خبراً.
2 ــ أن الله قضى في سابق علمه باتخاذ المسجد على قبر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم مع أنه عند ربه جل وعز أعلى قدراً وأحمى جانباً من أن يقع بجسده الشريف ما هو محرم مبغض لله تعالى ملعون فاعله، بل هذا من المتيقن المقطوع ببطلانه لأهل الإيمان، فلو كان اتخاذ المسجد عليه صلى الله عليه وآله وسلم ممنوعاً متخذه لحمى الله تعالى جانب نبيه صلى الله عليه وآله وسلم منه، ولصرف العباد عنه كما صرفهم عن غيره، فلما لم يفعل ذلك دل على أنه جائز ومطلوب، (ومن اعتقد خلاف هذا فهو قرني ممقوت لم يذق للإيمان طعماً ولا عرف من منزلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم العليا ومكانته السامية عند ربه شيئاً فهو مدخول العقيدة مختل الإيمان)([104])
3 ــ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر أن يدفن في البناء فقال: (لن يقبر نبي إلا حيث يموت فأخروا فراشه، وحفروا له تحت فراشه)([105])، وهو دليل صريح على وجود البناء حول القبر، وأن النهي خاص بما كان فوقه، لأنا بالضرورة نعلم أن النهي عن البناء ليس هو عن فعل الفاعل وبناء البناء، وإنما هو عن وجود نفس البناء على القبر، وإذا جوز الشارع وجود الميت داخل البناء فقد جوز البناء إذ لا فارق بين أن يوجد بعد الدفن أو قبله، لأن الغاية واحدة والصورة متفقة وهي وجود القبر داخل البناء، وإذا جاز ذلك فلا فرق بين أن يكون البناء بيتاً أو قبة أو مدرسة لأن الكل بناء والعلة في ذاته لا في أشكاله وصوره فليس النهي متعلقاً بصورة القبة أو المدرسة، بل بذات البناء كيفما وجد([106]).
4 ــ إذا ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر أن يدفن في بيته الذي هو بناء فقد تقرر في قواعد الفقه أن الرضي بالشيء رضى بما يؤول إليه ذلك الشيء، وبيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان ملاصقاً للمسجد وبابه شارعة إليه حتى كان صلى الله عليه وآله وسلم إذا اعتكف يخرج رأسه الشريف إلى عائشة فترجله وهي في البيت وهو في المسجد، وقد علم صلى الله عليه وآله وسلم أن أمته ستكثر، وأن المدينة ستتسع وتعظم حتى يصل بناؤها إلى سلع كما أخبر هو صلى الله عليه وآله وسلم بذلك، وأمر بشد الرحلة إلى زيارة قبره الشريف وإلى مسجده للصلاة فيه ورغب في ذلك بقوله: (من زار قبري وجبت له شفاعتي)([107]) و(صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام)([108])، ومسجده صلى الله عليه وآله وسلم كان في عصره صغيراً لا يسع عشر معشار ربع من يقصده من أمته.
5 ــ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبر بأن قبره الشريف سيكون داخل مسجده، وزاد فأخبر بـ (أن ما بين قبره ومنبره روضة من رياض الجنة)([109])، وهذا منه صلى الله عليه وآله وسلم إشارة إلى استحباب إدخال قبره الشريف في المسجد لأنه ترغيب يدعو إلى ذلك، إذ المراد فضيلة الصلاة ما بين القبر والمنبر والترغيب فيها في ذلك الموضع إذا لم يكن القبر الشريف داخل المسجد لا تتصور الصلاة بين القبر والمنبر ولا يتأتى التعبير بقوله: (ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة)، لأنه إذا كان المنبر وسط المسجد والبيت الذي فيه قبره الشريف خارج المسجد لم يصح في العادة التعبير بالبينية خصوصاً عند إرادة الصلاة، فإن البيت وسوره حاجز بين القبر والمنبر مانع من الصلاة في موضعه.
6 ــ إجماع الصحابة واتفاقهم بعد الاختلاف في موضع دفنه على دفنه في بيته عملاً بما أخبرهم به أبو بكر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلو كان ذلك غير صحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو منسوخاً بما ذكره في مرض وفاته مع أن الخبر لا يدخله النسخ لما أجمع الصحابة عليه. وقد قام الدليل على حجية الإجماع ولا سيما إجماع الصحابة.
7 ــ إجماع التابعين ومن بعدهم في عهد وجود كبار أئمتهم مثل عمر بن عبد العزيز والحسن وابن سيرين وفقهاء المدينة والكوفة والبصرة والشام وغيرها من أقطار الإسلام، ثم أجمعت الأمة بعدهم على إدخال بيته المشتمل على قبره داخل المسجد وجعله في وسطه، وإجماعهم حجة ولو كان ذلك منهياً عنه لاستحال أن تتفق الأمة في عصر التابعين على المنكر والاجتماع على الضلالة لولا أنهم فهموا من النهي أن المراد به علته التي زالت باستقرار الإيمان ورسوخ العقيدة، ولا يقال إنهم سكتوا على ذلك لأجل ضرورة توسعة المسجد فإنه كان في الإمكان توسعته من جهة القبلة والجهة المقابلة لها والجهة الجنوبية لها دون الجهة الشمالية الواقع فيها قبره صلى الله عليه وآله وسلم.
8 ــ أن الصحابة بنوا على القبر مسجداً في حياته صلى الله عليه وآله وسلم فأقرهم على ذلك ولم يأمرهم بهدمه ويستحيل أن يقر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على باطل، ويدل لذلك ما رواه ابن عبد البر في الاستيعاب في ترجمة أبي بصير من أن أبا جندل دفن أبا بصير في مكانه الذي مات فيه، ووصلى عليه وبنى على قبره مسجداً)([110])
9 ــ أنه جاء في عدة أحاديث وآثار أن جماعة من الأنبياء والمرسلين مدفونون في المسجد الحرام ما بين زمزم والمقام، وأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن منهم نوحاً، وهوداً وصالحاً، وشعيباً، وأن قبورهم بين زمزم والحجر، وكذلك ورد في قبر إسماعيل أنه بالمسجد الحرام، وهو أشرف مسجد على وجه الأرض هو ومسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلو كان وجود القبر في المسجد محرماً لذاته لنبش النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخرجهم فدفنهم خارج المسجد، فإنه أخبر الله أن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء، وأنهم أحياء في قبورهم([111]).
من النتائج المهمة التي يمكننا استخلاصها من هذا الفصل:
1 ــ رأينا أن أكثر ما توجه إليه النقد من طرف جمعية العلماء المسلمين الجزائريين للطرق الصوفية هو تلك الممارسات التي يمارسها الفقراء أو الإخوان مما تعتبره الجمعية – بسبب توجهها السلفي أو التنويري – بدعا وزيادات في الدين، بل وضلالات تنحرف بالدين عن مساره الصحيح الذي رسمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سنته، ورسمه السلف الصالح في هديهم واتباعهم.
2 ــ رأينا أن المواطن التي توجه إليها النقد من طرف جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، ومثلها الاتجاه السلفي، وخصوصا الاتجاه السلفي المحافظ، وقد وجدنا أنه يمكن تقسيمها إلى قسمين:
قسم مرتبط بما يراه الصوفية ضروريا في السوك، كالشيخ المرشد المربي، والتزام الأذكار بصيغها وهيئاتها المختلفة، أو ما هو من الممارسات التي تختلف الطرق في شأنها، كالأوراد، والخلوة، فهي تختلف هيئاتها بحسب الطرق.
وقسم لا تراه الصوفية ضروريا، ولكنها ترى أهميته في تيسير السلوك على المريد، لإزالة الكثير من الإرهاق الذي يصيبه خلال السير، وقد وجدنا بناء على استقراء ما يفعله الصوفية، وما توجه إليه النقد أنه أمران: ــ السماع والرقص، والموالد والزيارات، أو ما يسميه علماء الجمعية(الزردة)، أو (أعراس الشيطان)
3 ــ أن الصوفية يفرقون بين شروط السلوك وممارساته، فالشروط ضرورية لا مندوحة عنها لمن أراد السلوك إلى الله، أما الممارسات، فيمكن أن تختلف وتتغير بحسب الأحوال، وهذه من النقاط المهمة جدا، والتي نرى أن الجمعية أساءت فهمها حين تصورت أن كثرة الطرق دليل على الصراع، وهذا خطأ، لأن الطرق الصوفية مثل المدارس النفسية، فكل مدرسة ترى أسلوبا خاصا للعلاج النفسي، ولهذا، فإن المريد إن لم يستطع أن يسلك في طريقة من الطرق، أو لم يجد مأربه فيها ينتقل إلى طريقة أخرى.
4 ـــ وردت الكثير من التصريحات من رجال الجمعية الكبار تصف مشايخ الطرق الصوفية بكونهم دجالين انتهازيين يتاجرون باسم الدين، ليخرجوا الناس من الدين، والطرق الصوفية لا تخالف الجمعية كما لا تخالف الاتجاه السلفي في وجود انحرافات في بعض الطرق، أو في بعض المشايخ، أو في بعض المنتسبين لهم، ولكنها لا تعتبر ذلك مبررا لإلغاء ضرورة الشيخ في السلوك إلى الله، ولا تعتبر ذلك مبررا للقعود عن البحث عن الشيخ المربي.
5 ــ اهتمت الطرق الصوفية بالأذكار، باعتبارها أقرب طريق إلى الله، بل يعتبرون أنه لا يمكن أن تكون هناك طريقة من دون أذكار، وقد وافقتهم جمعية العلماء في هذا الاعتبار، واختلفت معهم في بعض الرسوم التي تمارس بها تلك الأذكار، كالجهر بالذكر، والاجتماع عليه، والالتزام ببعض الصيغ فيه، وخصوصا الذكر بالاسم المفرد، ونحوها.
6 ــ تتفق الطرق الصوفية جميعا على ضرورة التزام المريد بمجموعة من الوظائف التعبدية التي تشمل عادة: الاستغفار والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكلمة التوحيد، وبعض السور القرآنية، وبعض الصلوات التي وضعها المشايخ كصلاة الفاتح والمشيشية ونحوها، وقد كان الورد بهذه الصورة محل خلاف بين الجمعية والطرق الصوفية.
7 ــ بالإضافة إلى الممارسات السلوكية التي ترى الطرق الصوفية ضرورتها للسلوك هناك ما يمكن أن نسميه (ميسرات السلوك ومنشطاته)، باعتبار تأثيرها الجاذب للمريدين، والمخفف عن التعب والإرهاق الذي قد يصيب السالك في سلوكه.
8 ــ يعتبر السماع وما يصاحبه من حركات واهتزازات ركنا أساسيا في أكثر الطرق الصوفية، ولو أنهم – كما ذكرنا- لا يعتبرونه ركنا في السلوك، ولا شرطا فيه، بل يعتبرونه من الوسائل المساعدة التي يحتاج إليها أكثر الناس للنهوض والسير، وقد خالفتهم الجمعية في هذا، حيث نجد إجماعا على إنكاره، بل اعتباره من البدع الخطيرة التي تسيء إلى الدين والمجتمع، ولعل أكبر صوت منكر لهذا النوع من الممارسات الطرقية الشيخ محمد البشير الإبراهيمي.
9 ــ من الأمور التي تكاد تكون مختصة بالطرق الصوفية، وإن شاركها فيها غيرهم، الاحتفالات التي يقيمونها في مناسبات مختلفة، إما إحياء لذكرى ميلاد شخص يعتقدون ولايته، أو وفاته، أو لأجل غرض من الأغراض المختلفة، والتي يطلق عليها في المجتمع الجزائري اسم (زردة)، ويطلق عليها كذلك اسم (الجموع) و(الاحتفالات) و(الموالد) بحسب الطرق المختلفة، وقد خالفتهم الجمعية في هذا، حتى أن الأمر وصل بها إلى تحريم أكل الطعام الذي يعد في تلك المناسبات، بل وصل الأمر إلى أخطر من ذلك حين اعتبرت الموالد مواسم شركية لا تختلف عن تلك الاحتفالات التي كان يقيمها العرب في الجاهلية للات والعزى وغيرها من الأصنام.
10 ــ
اهتم الصوفية ابتداء من ظهور ظاهرة التكفير المرتبطة بالموالد والأضرحة ونحوها
بكتابة الرسائل والكتب التي ترد على هذا، وتبين مدى مشروعية ما يمارس في تلك
الموالد، بغض النظر عن بعض الممارسات الخاطئة التي يتفق الصوفية والسلفية على
إنكارها، كدخول بعض الفساق والمنحرفين إلى تلك المحال، لأن ذلك لا علاقة له في
الأصل بالمولد ولا بالضريح.
([1]) أرنولد رينولدز نيكلسون، فى التصوف الإسلامى وتاريخه، مجموع مقالات ترجمها الدكتور أبو العلا عفيفى، القاهرة 1947م. (ص66)
([2]) ابن عليوة، القول المعروف في الرد على من أنكر التصوف، ص65.
([3]) آثار الإبراهيمي: 1/175.
([4]) ا محمد تقي الدين بن عبد القادر الهلالي، لحسام الماحق لكل مشرك ومنافق، دار الفتح – الشارقة; 1415 (ص: 47)
([5]) محمد تقي الدين بن عبد القادر الهلالي، الدعوة إلى الله في أقطار مختلفة، دار الطباعة الحديثة الدار البيضاء (ص: 24)
([6]) صراع بين السنّة والبدعة (1/169).
([7]) صراع بين السنّة والبدعة : 1/171.
([8]) صراع بين السنّة والبدعة : 1/171.
([9]) محمد الغزالي، مائة سؤال عن الإسلام، دار نهضة مصر للنشر، (ص366)
([10]) آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (1/ 120)
([11]) محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله، إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان، تحقيق : محمد حامد الفقي، دار المعرفة – بيروت، الطبعة الثانية، 1395 – 1975، (1/ 224)
([12]) إغاثة اللهفان (1/ 224)
([13]) نقلا عن: الجامع لأحكام القرآن (تفسير القرطبي) (11/ 237)
([14]) تفسير القرطبي (11/238)
([15]) الإعتصام (ص 405-406).
([16]) ابن المكي، المرآة لإظهار الضلالات، ص11.
([17]) ابن عليوة، القول المعروف، ص29، 30.
([18]) ابن المكي، المرآة لإظهار الضلالات، ص13.
([19]) ابن عليوة، القول المعروف، ص29، 30.
([20]) محمد بن أحمد بن سالم السفاريني الحنبلي، غذاء الألباب شرح منظومة الآداب، تحقيق : محمد عبد العزيز الخالدي، دار الكتب العلمية – بيروت / لبنان – 1423 هـ – 2002 م، الطبعة : الثانية، (1/127)
([21]) إحياء علوم الدين (2/ 268)
([22]) إحياء علوم الدين (2/ 270)
([23]) إحياء علوم الدين (2/ 270)
([24]) إحياء علوم الدين (2/ 275)
([25]) إحياء علوم الدين (2/ 275)
([26]) إحياء علوم الدين (2/ 279)
([27]) إحياء علوم الدين (2/ 279)
([28]) إحياء علوم الدين (2/ 279)
([29]) إحياء علوم الدين (2/ 279)
([30]) إحياء علوم الدين (2/ 279)
([31]) نقلا عن: غزالة بوغانم، الطريقة العلاوية في الجزائر ومكانتها الدينية والاجتماعية 1934 – 1909، ص 180.
([32]) المرآة لإظهار الضلالات: ص14.
([33]) قوله a : ( أشبهت خلقي وخلقي) موجود في صحيح البخاري (3/ 242) من غير ذكر اهتزازه طربا، وفي (مسند أحمد بن حنبل (1/ 108) عن على قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وجعفر وزيد قال فقال لزيد أنت مولاي فحجل، وقال لجعفر أنت أشبهت خلقي وخلقي قال فحجل وراء زيد قال وقال لي أنت منى وأنا منك قال فحجلت وراء جعفر.
([34]) ابن عليوة، القول المعروف، ص65.
([35]) ابن عليوة، القول المعروف، ص66.
([36]) ابن عليوة، القول المعروف، ص67.
([37]) ابن عليوة، القول المعروف، ص67.
([38]) ابن عليوة، القول المعروف، ص68.
([39]) إحياء علوم الدين للغزالي (2/351)
([40]) إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان لابن قيم الجوزية (1/255)
([41]) ابن عليوة، القول المعروف، ص67.
([42]) ابن عليوة، القول المعروف، ص67.
([43]) ابن عليوة، القول المعروف، ص68.
([44]) ابن عليوة، القول المعروف، ص68.
([45]) صحيح البخاري (8/ 58)
([46]) سنن النسائي (6/ 135)
([47]) عرف الشيخ مبارك الميلي الزردة بقول: (وأما الزردة؛ فهي في لسان العرب: المرة من زرد اللقمة- كفهم- زردا: بلعها، وازدردها: ابتلعها، وهي في عرفنا طعام يتخذ على ذبائح من بهيمة الأنعام عند مزارات من يعتقد صلاحهم، ولها وقتان: أحدهما: في فصل الخريف عند الاستعداد للحرث. والآخر: في فصل الربيع عند رجاء الغلة. والغرض منها التقرب من ذلك الصالح كي يغيثهم بالأمطار تسهيلا للحرث أو حفظا للغلة، فهو عندهم كوزير عند ملك يرشونه بالزردة ليقضي حاجتهم عند الله!! ما أجهلهم بمقام الألوهية!! (انظر: رسالة الشرك ومظاهره (ص: 379)
([48]) في العدد 95 من جريدة «البصائر»، 14 نوفمبر سنة 1949.
([49]) انظر: آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (3/ 319)
([50]) آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (3/ 319)
([51]) آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (3/ 320)
([52]) آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (3/ 320)
([53]) آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (3/ 320)
([54]) آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (3/ 321)
([55]) آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (3/ 321)
([56]) آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (3/ 322)
([57]) رسالة الشرك ومظاهره (ص: 162)
([58]) رسالة الشرك ومظاهره (ص: 164)
([59]) رسالة الشرك ومظاهره (ص: 379)
([60]) رسالة الشرك ومظاهره (ص: 380)
([61]) رسالة الشرك ومظاهره (ص: 380)
([62]) رسالة الشرك ومظاهره (ص: 381)
([63]) رسالة الشرك ومظاهره (ص: 381)
([64]) رسالة الشرك ومظاهره (ص: 381)
([65]) رسالة الشرك ومظاهره (ص: 382
([66]) أحمد حماني: حياة وآثار ،شهادات ومواقف، دار الأمة، 2001، ص 123.
([67]) أحمد حماني: الفتاوى ،الجزء 3،، ط 1، قصر الكتاب ،البليدة، 2001 ،ص 312.
([68]) أحمد حماني: الفتاوى ،الجزء 3،، ص 312.
([69]) وردت الكثير من الروايات التي تدل على غرام الشيخ أحمد حماني بزرد كرة القدم، وقد ذكر الأستاذ محمد الهادي الحسني ذلك، فقال: (ذات مرة ركبت إلى جانبه في الطائرة المتوجهة إلى تبسة، فقلت له: يا شيخ أريد أن أسألك، فرد علي انتظر حتى أكمل قراء مقال عن (الموك) مولودية قسنطينة.
وذكر أنه في أحد الاجتماعات الرسمية الخاصة بموسم الحج، سمع الحاضرون صوت المذياع، واستفسر مسير الاجتماع عن هذا الصوت فقيل له، إنه الشيخ حماني يتابع مقابلة مولودية قسنطينة.
انظر: مقال بعنوان (الشيخ المرحوم أحمد حماني كما عرفته عائلته ومقربوه) ورد على هذا الرابط (http://www.rayanaljazair.com/vb/t5133.html)
([70]) جريدة الشعب الجزائرية الصادرة بتاريخ 18 /11 / 1991 الصفحة 9.
([71]) رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجة من حديث أبي الهياج الأسدي، انظر: أبو الفيض أحمد بن الصديق الغماري الحسني، إحياء المقبور من أدلة جواز بناء المساجد والقباب على القبور، طبعة دار النفائس1419 – 1999 الطبعة الأولى، ص3.
([72]) رواه أبو داود والترمذي، وكذلك هو عند أحمد ومسلم والنسائي بنحوه، انظر: إحياء المقبور من أدلة جواز بناء المساجد والقباب على القبور، ص3
([73]) ركزنا هنا الحديث عن البناء على المقابر ووضع القباب عليها وتعظيمها باعتبار أن ذلك من أهم ما توجه إليه إنكار المخالفين، أما الموالد الزمنية، فالجمعية لا تنكر الاحتفال بمولد الرسول a، وبالتالي فإنها تتفق مع الطرق الصوفية على الأقل في هذه الناحية، أما التوسل، فقد ذكرنا أن ابن باديس لا ينكره.
([74]) انظر: يوسف بن عبد البر النمري، جامع بيان العلم وفضله، دار الكتب العلمية، بيروت، 1398، (2/ 46)
([75]) ابن عليوة، أعذب المناهل في الأجوبة والمسائل، نقلا عن: صفحات مطوية في التصوف الإسلامي، ص202.
([76]) ذكر الغماري أن الحديث رواه ابن سعد في الطبقات، انظر: إحياء المقبور من أدلة جواز بناء المساجد والقباب على القبور، ص4.
([77]) إحياء المقبور من أدلة جواز بناء المساجد والقباب على القبور، ص4.
([78]) إحياء المقبور من أدلة جواز بناء المساجد والقباب على القبور، ص4.
([79]) إحياء المقبور من أدلة جواز بناء المساجد والقباب على القبور، ص6، وما بعدها.
([80]) إحياء المقبور من أدلة جواز بناء المساجد والقباب على القبور، ص7.
([81]) إحياء المقبور من أدلة جواز بناء المساجد والقباب على القبور، ص8.
([82]) إحياء المقبور من أدلة جواز بناء المساجد والقباب على القبور، ص8.
([83]) إحياء المقبور من أدلة جواز بناء المساجد والقباب على القبور، ص8.
([84]) إحياء المقبور من أدلة جواز بناء المساجد والقباب على القبور، ص8.
([85]) إحياء المقبور من أدلة جواز بناء المساجد والقباب على القبور، ص8.
([86]) إحياء المقبور من أدلة جواز بناء المساجد والقباب على القبور، ص8.
([87]) إحياء المقبور من أدلة جواز بناء المساجد والقباب على القبور، ص8.
([88]) انظر هذه العلل مفصلة مع أدلتها في: إحياء المقبور من أدلة جواز بناء المساجد والقباب على القبور، ص11، وما بعدها.
([89]) إحياء المقبور من أدلة جواز بناء المساجد والقباب على القبور، ص14.
([90]) إحياء المقبور من أدلة جواز بناء المساجد والقباب على القبور، ص13.
([91]) إحياء المقبور من أدلة جواز بناء المساجد والقباب على القبور، ص13.
([92]) إحياء المقبور من أدلة جواز بناء المساجد والقباب على القبور، ص13.
([93]) يقصد الوهابيين.
([94]) إحياء المقبور من أدلة جواز بناء المساجد والقباب على القبور، ص13.
([95]) إحياء المقبور من أدلة جواز بناء المساجد والقباب على القبور، ص13.
([96]) محمد بن حبان بن أحمد أبو حاتم التميمي البستي، صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان، تحقيق : شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة – بيروت، الطبعة الثانية، 1414 – 1993 (6/ 95)
([97]) صحيح البخاري (1/ 117)
([98]) صحيح مسلم (2/ 67)
([99]) انظر هذه العلل مفصلة مع أدلتها في: إحياء المقبور من أدلة جواز بناء المساجد والقباب على القبور، ص11، وما بعدها.
([100]) إسحاق بن إبراهيم بن راهويه الحنظلي، مسند إسحاق بن راهويه، المحقق : د. عبد الغفور بن عبد الحق البلوشي، مكتبة الإيمان – المدينة المنورة، الطبعة : الأولى، 1412 – 1991، (2/ 264)
([101]) نص الحديث كما في (صحيح مسلم (3/ 65): (نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ونهيتكم عن لحوم الأضاحى فوق ثلاث فأمسكوا ما بدا لكم ونهيتكم عن النبيذ إلا فى سقاء فاشربوا فى الأسقية كلها ولا تشربوا مسكرا)
([102]) أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي، السنن الكبرى وفي ذيله الجوهر النقي، مجلس دائرة المعارف النظامية الكائنة في الهند ببلدة حيدر آباد، الطبعة الأولى 1344 هـ، (4/ 77)
([103]) انظر هذه العلل مفصلة مع أدلتها في: إحياء المقبور من أدلة جواز بناء المساجد والقباب على القبور، ص11، وما بعدها.
([104]) إحياء المقبور من أدلة جواز بناء المساجد والقباب على القبور، ص25.
([105]) مسند أحمد (1/ 7)
([106]) إحياء المقبور من أدلة جواز بناء المساجد والقباب على القبور، ص26.
([107]) أحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخُسْرَوْجِردي الخراساني، أبو بكر البيهقي، شعب الإيمان، تحقيق: الدكتور عبد العلي عبد الحميد حامد، ومختار أحمد الندوي، مكتبة الرشد للنشر والتوزيع بالرياض بالتعاون مع الدار السلفية ببومباي بالهند، الطبعة: الأولى، 1423 هـ – 2003 م، (6/ 51)
([108]) صحيح البخاري (2/ 76)
([109]) نص الحديث (ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة) (انظر: مسند أحمد بن حنبل (3/ 64)
([110]) أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي، الاستيعاب في معرفة الأصحاب، تحقيق: علي محمد البجاوي دار الجيل، بيروت، 1412، الطبعة الأولى، (4/ 1613)
([111]) إحياء المقبور من أدلة جواز بناء المساجد والقباب على القبور، ص33.