المبحث الثاني: جوانب الخلاف بين الجمعية والطرق الصوفية في المعارف الصوفية

المبحث الثاني

 جوانب الخلاف بين الجمعية والطرق الصوفية في المعارف الصوفية

على الرغم من التوجه السلفي لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين إلا أنها لم تختلف كبير اختلاف مع الطرق الصوفية في المدرسة العقدية، ذلك أن الجمعية لم تكن ترى في المذهب الأشعري مذهبا يناقض السنة أو يختلف معها([1])، بل نجد من أعضاء الجمعية من يصرح بقبول المذهب الأشعري، ويعتبره من مذاهب السنة المعتبرة، بل يعتبر الجمعية فوق ذلك أشعرية الأصول كما أنها مالكية الفروع.

هذا من جهة المدرس العقدية، أما نقاط الخلاف الكبرى، فكانت تتمثل في المعتقدات التي تتصور الجمعية أنها معتقدات لا تخالف السنة فقط، بل تخالف الإسلام أيضا، ولذلك تحكم على معتقدها بالكفر، ثم تطبق هذا الحكم على أصحاب الطرق نفسها.

وهي لا تفعل ذلك من لدن نفسها، بل تعود في ذلك إلى التيار السلفي الذي تنتمي إليه، وهي في هذه الناحية خصوصا أميل إلى المدرسة السلفية المحافظة منها إلى المدرسة السلفية التنويرية.

ومن خلال استقراء ما ورد في جرائد الجمعية ومقالاتها وكتبها، رأينا أن هناك تهمتين خطيرتين توجهت بهما للطرق الصوفية عموما، وللطريقة العلاوية خصوصا، وهما:

الأولى: ترتبط بـ (المعارف الإلهية)، وهي – كما عرفنا سابقا – رمي الصوفية بالقول بالحلول والاتحاد ووحدة الوجود.

والثانية: ترتبط بما يطلق عليه (وحدة الأديان).

وسنحاول في هذا المبحث أن نبحث هذين الجانين من وجهات النظر المختلفة مع أدلة كل فريق، وقد خصصنا كل جانب منها بمطلب خاص.

المطلب الأول: المعارف الإلهية بين الجمعية والصوفية

تعتبر المعارف المرتبطة بالإلهيات، وما يتعلق بها من تفسير لكيفية الخلق ونظام القدر ونحوهما من الأسس التي يقوم عليها الدين، كما هي من الأسس التي يقوم عليها التدين.

ذلك أن مبنى الدين على معرفة الله، فالله خلقنا ليتعرف إلينا، كما قال ابن عباس في تفسير قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]: (إلا ليعرفون)([2])

ومبنى التدين كذلك، فالغافل عن الله بعيد عنه، ولو تقرب إليه بجميع أنواع القربات، لأن القصد منها جميعا هو الوصول إلى الله والقرب منه، كما قال تعالى في الصلاة: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14]

ونتيجة لهذا، فإن التدين، وما يرتبط به من مواقف مختلفة يتأسس على نوع المعرفة التي يحملها المتدين عن ربه، فإن عرفه لطيفا كريم رحيما كان أميل إلى الرجاء والمحبة، وإن عرفه جبارا قهارا عزيزا منتقما كان أميل إلى الخوف، وإن جمع بين هذه المعارف استوت شخصيته، وتقومت نفسيته، وإن زاد عليها، فعرف الله لذاته، زاد في كماله بحسب معرفته بربه.

وبناء على هذا، فإنا لو حللنا شخصية أصحاب التوجه السلفي، والتي مبناها على اعتقاد بينونة الله عن خلقه بالمكان، وأن الله في تصورهم ليس سوى جرم من الأجرام السماوية العلوية، نرى أثر ذلك الكبير في شخصيتهم وفي موقفهم من الآخر.

وهكذا بالنسبة للصوفي المتهتك الذي خرج به التصوف إلى إلغاء الخلق بالخالق، أو إلغاء الخالق بالخلق، فإنه لا محالة يقع في انحرافات كبيرة حذر منها الصوفية أنفسهم كما سنرى.

بناء على هذا نحاول أن نتعرف في هذا المطلب على موقف الجمعية من الطرق الصوفية في هذه القضية الخطيرة، ونتعرف في نفس الوقت على حقيقة مذهب الصوفية في هذا المجال، وخصوصا الطريقة العلاوية التي كفرت بسبب اتهامها بالقول بالحلول والاتحاد ونحوهما.

ثانيا ــ موقف الجمعية من المعارف الإلهية الصوفية

سبق أن ذكرنا في مواضع مختلفة اتهام الجمعية للطرق الصوفية بالحلول، ووحدة الوجود، وتكفيرهم لها على أساس ذلك.

وقد توجه التكفير خصوصا للطريقة العلاوية، وشيخها ابن عليوة على الرغم من أن كل الطرق الصوفية تتفق في مشاربها الروحية، فلها نفس المصادر، ونفس الأفكار، ونفس الأهداف، وقد عرفنا – سابقا – مدى اهتمام الكثير من مشايخ الطريقة الرحمانية بابن عربي، في نفس الوقت نرى الجمعية، أو الكثير من أعضائها يحترم الطريقة الرحمانية، أو على الأقل لا يسميها (طريقة حلول)، وهذا من الانتقائية التي تمارسها الجمعية في أكثر أحكامها.

وقد كتب ابن باديس تحت عنوان (دعوى النبوة)([3]) محاولا الربط بين جميع الطوائف الضالة والعلاوية – من غير أن يسميها- قائلا: (قد ضلت وهلكت باتباع أشخاص ادعوا النبوة من هذه الأمة طوائف كثيرة، وقد كان منهم أول الإسلام مسيلمة الكذاب والأسود العنسي، ثم كان المختار بن عبيد الثقفي، ثم كان منهم في عصرنا قبيله الباب، وإليه تنسب البابية، والبهاء وإليه تنسب البهائية، وغلام القادياني وإليه تنسب القاديانية، وقد كادت هذه القاديانية تدخل الجزائر على يد طائفة الحلول وشيخها لولا أن قام في وجوههم العلماء المصلحون وفضحوهم على صفحات (الشهاب) أيام كان أسبوعيا فرد الله كيدهم ووقى الله الجزائر شرا عظيما)([4])

قد يشكك البعض في كون المشار إليها هي الطريقة العلاوية، ولهذا نحب أن ننقل هنا ما كتبه الشيخ ابن باديس حول علاقة العلاوية بالقاديانية في مقال نشره في جريدة (الشهاب)([5]) سنة 1927م، جاء فيه قوله: (شر الطوائف التي أصيب بها الإسلام من أوائل نهضته هي طائفة الباطنية الملاحدة الذين جاؤوا بالمجوسية والهندية وحملوا عليها مقتطعات من الآيات والأحاديث حملا تتبرأ منه العربية التي هي لغة القرآن وصاحب القرآن، وفهموا من تلك المقتطعات – بزعمهم- ما هو مضاد تمام المضادة لما فهمه أهل القرن الأول من الصحابة وهم العرب الأقحاح، والفقهاء الأبرار؛ والأتقياء الأطهار؛ الذين اختارهم الله لصحبة نبيه عليه السلام، ونقل دينه، ونشره بين الأمم بالقول والعمل. وتعاملوا عن مأخذ تلك المقتطعات من سوابقها ولواحقها، وما طفحت به الشريعة من كثرة النصوص المحكمات؛ فظلوا وألحدوا في ذلك الحمل؛ وذلك الفهم، وهذا الإقتطاع. وزادوا إلى هذا كله ما جاؤوا من عند أنفسهم من كلمات باطلة نسبوها إلى النبي عليه الصلاة والسلام. ثم عملوا لترويج هذا الكفر والأنكر والتزوير الأقذر بالتظاهر بسمة الصلاح والزهد والدعوة إلى الخير ونشر الإسلام، فراجت دعوتهم على العامة وعلى كثير ممن يعدون من الخاصة ولم ينج من فتنتهم إلا الفقهاء بالسنة، والبصراء بأحوال العمران، والمتمسكون بهدي السلف في فهم النصوص والعمل بها)([6])

وبعد أن قدم هذه المقدمة التي تبين مصادر الانحراف في تصوره أخذ يبين نوع الانحراف، وهو يدل على موقف الجمعية وخصوصا شيخها ابن باديس من المعارف الصوفية، وقبل ذلك تصوره لها، فقال: (وشر ما جاءت به هذه الطائفة من عقائدها الزائفة هي عقيدة حلول الخالق في المخلوق ووحدة الوجود وإنه ما ثم إلا شيء واحد هذه المرئيات مظاهره؛ فلا خالق في الحقيقة – عندهم- ولا مخلوق؛ ولا رب ولا مربوب، ولا عابد ولا معبود، وهنا يسقطون التكاليف ويخلعون ربقة التشريع ولا يبقى -عندهم- معنى للدين) ([7])

وبعد بيانه لما تراه الصوفية والفرق الباطنية من عقائد بين الحكم الشرعي المتعلق بها، فقال: (وهذا عند كل مسلم – بأدنى تأمل- من الكفر الصراح، المنافي للقطعيات الضروريات)

ولم يكتف الشيخ ابن باديس بهذا، بل راح يبين الطريقة التي يوصل بها الباطنية والصوفية عقائدهم، فقال: (وهم لو ابتدؤوا دعوتهم بهذا التصريح لقابلتهم عامة المسلمين بالسخرية والإعراض؛ بل ربما قابلتهم بالضرب والتقتيل. ولكنهم لخبثهم ودهائهم يبتدئون دعوتهم بتلقين سري… وحث على العبادة ومشاهدة الله! ثم بالرقص الذي تتهيج فيه الأعصاب وينفتح فيه الخيال، ثم بالخلوة والجوع والسهر فيها حتى تتغلب عليه سوداؤه ويستولي على عقله وهمه وخياله فيخرج وهو يقول: إنه لا يشهد إلا الله، وإنه ما في الكون إلا الله، وإن الله هو، وإنه هو الله، إلى هذيانات لا تقبلها ملة ولا يصدقها عقل؛ غير ملة الحلولية وعقل من قضى مدة تحت تأثير الأوهام والمخدرات) ([8])

وبعد كل هذه المقدمات يصرح الشيخ ابن باديس بأن الطائفة المقصودة بكل هذا الوصف هي الطريقة العلاوية، فيقول: (هذه هي النحلة الحلولية التي جاء بها ابن عليوة ينشرها بين المسلمين بديوانه، وهذه هي النحلة التي جاءت ورقة الحلوليين للدفاع عنها. ولقد اختارت – كما هي سنة الباطنية الحلولية من قديم- التستر باسم التصوف والتمويه بالدفاع عنه لتغر العامة الجاهلين وتستهوي أفئدة الطلبة الجامدين)([9])

ثم يستدل الشيخ لهذا بما ورد في ديوان الشيخ ابن عليوة، فيقول: (ولقد كان في ديوان الضلال كفاية للدلالة على باطن هذه الطائفة وسواء قصدها..) ([10])

وليس ابن باديس وحده من وقف هذا الموقف، بل أكثر كتاب الجمعية وقفوه، بل لعل ابن باديس كان أرحمهم، وأرقهم عبارة، ومن شاء الاطلاع على ذلك، فيمكن أن يرجع إلى جرائد الجمعية ليرى كيف يتهم كتاب عوام بسطاء الطرق الصوفية بهذه التهمة، ولا يجدون من ينشر لهم غير الجمعية وصحفها([11]).

ثالثا ــ موقف الطرق الصوفية

تعتبر المعارف الإلهية عند الصوفية أدق المعارف وأرقها وأعمقها، ولذلك تختلف عباراتهم فيها اختلافا شديدا تتيح لكل من يشاء أن يتحدث عنهم بوصف يجد له من المبررات ما يدل عليه، فمن شاء أن يرميهم بالحلول والاتحاد وجد من عباراتهم ما يسعف عليه، ومن شاء أن يرميهم بوحدة الوجود، ولو في أخطر ألوانها وجد كذلك ما يدله عليه، ومن شاء أن يبرئهم من كل ذلك، بل يجعلهم أشاعرة أو ماتريديين أو حتى سلفيين وجد ما يدله على ذلك.

ولهذا لا نعتب على الجمعية ولا على السلفية قبلها وبعدها مواقفها السابقة، ولكنا نعتب عليها أنها اكتفت بتلك المواقف المبنية على بعض النصوص التي اطلعت عليها، ولو أنها أكملت المسار وواصلت البحث لوجدت أشياء أخرى قد تهدم جميع ما بنته من أحكام.

والعتب يشتد عندما نرى الجمعية تحكم بالكفر على الطرق الصوفية بناء على هذا، وهي بذلك لا تكفر الطرق الصوفية الجزائرية فقط، بل تكفر الطرق الصوفية في العالم أجمع، وفي كل الأزمنة، وهو ما يجعلها وهابية مكفرة بامتياز.

ومواقف الصوفية في هذا المجال لا تعود إلى التناقض الصوفي الذي قد يتصوره البعض، ولكنها تعود بالدرجة الأولى إلى عظمة المعرفة الإلهية وعدم إمكانية الإحاطة بها، ولهذا تختلف العبارة والإشارة بحسب المرتبة والحال مع أن الحقيقة واحدة في الجميع.

وبناء على هذا نحاول في هذا المحل أن نذكر تشعب المعاني الصوفية، وكيف استطاعت أن توفق بينها جميعا، ولعل في هذا إجابة عن تهمة الكفر التي اتهمت بها ولا تزال تتهم.

1 ــ عدم التعارض بين المعرفة الصوفية والمعرفة الكلامية:

يذكر أكثر الصوفية أن عقائدهم لا تختلف عن عقائد المسلمين، ولهذا نرى جميع الطرق الصوفية الجزائرية تدرس المتون الأشعرية كالجوهرة والخريدة ونحوها، بل نراها فوق ذلك تردد شعارها الذي ذكره ابن عاشر، وهو([12]):

في عقد الأشعري وفقه مالك
 
وفي طريقة الجنيد السالك
 

وليس هذا خاصا بالطرق الصوفية في الجزائر، بل هو عام، فمنذ نشأ التصوف كان للصوفية علاقة بالمدارس العقدية الموجودة في عصرها.

ولكن بما أن أكثر المذاهب العقدية انتشارا هو المذهب الأشعري، اشتهرت العلاقة بين الأشاعرة والصوفية حتى أنه يندر أن لا نجد صوفيا إلا وهو ينتمي إلى المدرسة الأشعرية، والعكس صحيح.

وقد ذكر أبو المظفر الإسفراييني في كتابه (التبصير في الدين) فصلاً للصلة بين الأشاعرة والصوفية، بعنوان: (من فصول المفاخر لأهل الإسلام وبيان فضائل أهل السنة والجماعة وبيان ما اختصوا به من مفاخرهم)([13])، فعدد العلوم التي يفضلون بها غيرهم، وذكر منها: التصوف فقال: (وسادسها علم التصوف والإشارات وما لهم فيها من الدقائق والحقائق لم يكن قط لأحد من أهل البدعة فيه حظ بل كانوا محرومين مما فيه من الراحة والحلاوة والسكينة والطمأنينة)([14])

وذكر الحافظ ابن عساكر طبقات الآخذين عن الأشعري والمنتسبين إليه. وهي خمس طبقات، وفي كل طبقة يوجد الكثير ممن ينتسب إلى الصوفية:

فمن جملة من ذكر في الطبقة الأولى الآخذين عن أبي الحسن الأشعري: أبو عبدالله محمد بن خفيف.. وفي الطبقة الثانية وهم من تلقى الأشعرية عن أصحاب الأشعري: ذكر أبا علي الدقاق.. وفي الطبقة الثالثة: ذكر أبا ذر الهروي.. وفي الطبقة الرابعة ذكر أبا القاسم القشيري.. وفي الطبقة الخامسة: أبا حامد الغزالي([15]).. وهؤلاء كلهم من الصوفية.

هذا في الطبقات الأولى من الأشاعرة، أما من بعدهم، فقد كان لأكثرهم ميل للصوفية إن لم يكن صوفيا، ولهذا كان معظمهم من الذين ردوا على ابن تيمية وعلى ابن عبد الوهاب من بعده ما أوردوه مما يخالف الصوفية، ومن الأمثلة على هذا:

1) السبكي: الذي ألف كتابه: (شفاء السقام في زيارة خير الأنام)، يرد به على ابن تيمية في مسألة شد الرحال.

2) ابن حجر الهيثمي: الذي ألف كتابه: (الجوهر المنظم في زيارة النبي المعظم) يرد به على ابن تيمية كذلك.

3) الباجوري، وقد ذكر في آخر شرحه تحفة المريد على جوهرة التوحيد شيئاً من مبادئ التصوف([16]).

4) محمد الأمير، وهو صاحب الحاشية المشهورة على شرح جوهرة التوحيد، وقد ذكر عن نفسه بعد فراغه من حاشيته على شرح الجوهرة التي هي في عقيدة الأشاعرة أنه مالكي المذهب شاذلي الطريقة([17]).

5) أحمد دحلان وهو شافعي المذهب، أشعري العقيدة، وقد أشرنا إليه سابقا، وهو يعتبر من مراجع الطرق الصوفية الكبار، وخاصة في ردودهم على الوهابية، فقد ألف كتابه: (الدرر السنية في الرد على الوهابية)

6) النبهاني، وهو شافعي المذهب، شاذلي الطريقة، أشعري العقيدة، ألف كتابه (شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق)، وللطرق الصوفية الجزائرية علاقة كبيرة به أيضا، وبكتبه وأشعاره.

وكمثال على اهتمام الصوفية بعرض عقائدهم حتى لا يتهموا فيها ما فعله القشيري في رسالته التي هي مرجع الصوفية في جميع العالم الإسلامي إلى وقتنا الحاضر، فقد بدأ فصلها الأول، بـ (بيان اعتقاد هذه الطائفة في مسائل الأصول)، عرض فيه مقتطفات من كلمات الصوفية تدل على أن عقائدهم هي نفس عقائد المسلمين، قال في مقدمته: (اعلموا، رحمكم الله، أن شيوخ هذه الطائفة بنوا قواعد أمرهم على أصول صحيحة في التوحيد، صانوا بها عقائدهم عن البدع ودانوا بما وجدوا عليه السلف وأهل السنة من توحيد ليس فيه تمثيل ولا تعطيل، وعرفوا ما هو حق القدم. وتحققوا بما هو نعت الموجود عن العدم، ولذلك قال سيد هذه الطريقة الجنيد، رحمه الله: (التوحيد إفراد للقدم من الحدث)، وأحكموا أصول العقائد بواضح الدلائل، ولائح الشواهد، كما قال أبو محمد الجريري، رحمه الله: (أن لم يقف على علم التوحيد بشاهد من شواهده زلت به قدم الغرور في مهواة من التلف) يريد بذلك: أن من ركن إلى التقليد، ولم يتأمل دلائل الوحيد؛ سقط عن سنن النجاة؛ ووقع في أسر الهلاك، ومن تأمل ألفاظهم، وتصفح كلامهم، وجد في مجموع أقويلهم ومتفرقاتها ما يثق – بتأمله – بأن القوم لم يقصروا في التحقيق عن شأو، ولم يعرجوا في الطلب على تقصير، ونحن نذكر في هذا الفصل جملا من متفرقات كلامهم فيما يتعلق بمسائل الأصول، ثم نحرر على الترتيب بعدها ما يشتمل على ما يحتاج إليه في الاعتقاد، على وجه الإيجاز والاختصار، إن شاء الله تعالى)([18])

وهكذا نرى الغزالي يفتتح كتابه (إحياء علوم الدين) الذي هو مرجع الصوفية الأكبر بعقيدة لا تخرج عن العقائد التي تنتشر بين أوساط عامة المسلمين، وقد عنونها بـ: (كتاب قواعد العقائد)، وقد وضعها في أربعة فصول، خص الفصل الأول منها بـ (ترجمة عقيدة أهل السنة في كلمتي الشهادة التي هي أحد مباني الإسلام)، وهو متن مبسط مختصر في العقيدة، مما جاء فيه قوله: (نقول وبالله التوفيق الحمد لله المبدىء المعيد الفعال لما يريد ذي العرش المجيد والبطش الشديد الهادي صفوة العبيد إلى المنهج الرشيد والمسلك السديد المنعم عليهم بعد شهادة التوحيد بحراسة عقائدهم عن ظلمات التشكيك والترديد السالك بهم إلى اتباع رسوله المصطفى واقتفاء آثار صحبه الأكرمين المكرمين بالتأييد والتسديد المتجلي لهم في ذاته وأفعاله بمحاسن أوصافه التي لا يدركها إلا من ألقى السمع وهو شهيد المعرف إياهم أنه في ذاته واحد لا شريك له فرد لا مثيل له صمد لا ضد له منفرد لا ند له وأنه واحد قديم لا أول له أزلي لا بداية له مستمر الوجود لا آخر له أبدي لا نهاية له قيوم لا انقطاع له دائم لا انصرام له لم يزل ولا يزال موصوفا بنعوت الجلال)([19]) إلى آخره، ثم ضم إليه في الفصول اللاحقة ما يحتاج إليه من الأدلة ونحوها.

وعلى درب هؤلاء نجد الشيخ ابن عليوة يصرح بعقيدته التي لا تختلف عن سائر عقائد المسلمين في رسالة (القول المقبول فيما تتوصل إليه العقول)، وهو جواب لسؤال موجه له من بعض المريدين يطلب منه نبذة من عقائد الدين بكيفيّة يسهــل تناولها للمبتدئين بدون احتياج لفهم اصطلاح المناطقة في ترتيب المقدمات والبراهين.

وفي هذه الرسالة المختصرة يجمل الشيخ العقائد الواجبة التي يعتقدها، وتعتقدها معه الطريقة العلاوية، وقد قسمها إلى ثلاثة أقسام، هذا ملخص مختصر لها([20]):

القسم الأول: وقد تناول فيه ما يجب على المكلّف العلم به من الصفات الإلهية، فقال: (يجب على كلّ ذي إدراك أن يستشعر وجود المدبر لشؤونه بقدر الإمكان من حين بلوغه مـــع اعتبار ما يستحقّه من الصفات الخاصّة بذاته تعالى بطريقة الاستدلال كما يجب عليه الاعتناء بمرتبـة النبوءة وبصفاتها الخاصّة وبجميع ما جاءتنا به)([21])

وقد ذكر سر تعبيره بالاستشعار بدل العلم، فقال: (وقولنا يستشعر وجود المدبّر أي يستحضره زيادة على الإقرار به)([22])

وقد ذكر في نهاية الرسالة (أنّ الإيمان الذي عليه المعول هو عبارة عن تصديق يقع في القلب يمنع الفكر من أن يتصـوّر ضدّه، وله استحكام في الفؤاد بقدر ما له من الصفاء، وله تسلط على الجوارح فيمنعها من الوقوع فـي المنهيات بتوفيق الله عزّ وجلّ)

وهو بهذا يصور العلاقة بين الإيمان والعمل، ويبين شروط الإيمان الصحيح، وهو نفس ما يذكره المتكلمون.

بناء على هذا أخذ الشيخ يذكر الصفات الواجبة لله كما يذكرها المتكلمون، فقال: (والمراد بالوجود كينونة الحقّ الآن وقبل الآن وبعد الآن، أي هو مستمّر الوجود أولا بـلا ابتداء، وهو المعبّر عنه بالقدم ومستمّر الوجود آخرا بلا انتهاء، وهو المعبّر عنه بالبقاء، كما يجب عليـه أيضا أن يعترف له بالغنى اللازم لذاته، وهو عبارة عن قيامه بنفسه وبشؤونه غير مفتقر لشيء ما، وأن يعترف له بالوحدانيّة وهو عبارة عن انفراده تعالى في ذاته وصفاته وأفعاله، وليحترز أن يرى لغيـره تأثيرا في شيء ما، ثمّ يجب عليه أن يعترف له بالقدرة المحيطة بكلّ مقدور، وهي عبارة عن قوّة لازمة لـذات الألوهيّة صالحة لكلّ ما يمكن إيجاده وإعدامه، ثمّ يجب عليه أن يصفه تعالى بالإرادة وهي صفة تستلزم لموصوفها أن لا يكون في ملكه إلاّ ما صدر عن قصد واختيار منه، كما يجب عليه أيضا أن يعترف له بالعلـم اللازم لذاته تعالى، وهو عبارة عن صفة توجب لموصوفها أن يحيط خبرة بكلّ معلوم كيفما كان، كما يجب عليه أن يعترف له تعالى بالبصر الذي هو عبارة عن صفة توجب لموصوفها أن يتضّح له كــلّ موجود حيثما كان إلاّ الأصوات فإنّها من متعلّقات السمع وهو صفة لازمة لذات البارىء توجب لـه تعالى أن لا يخفاه شيء هاجسا كان أو حسّا أو من مادة أو من الأصوات، ويجب عليه أيضا أن يعترف لـه بالكلام وهو عبارة عن معنى لازم لذاته سبحانه وتعالى يتأتى به الإفصاح عن كلّ مراد يفهمه كلّ من طرق سمعه، ولو كان من الجمادات وأنّه مغاير للحروف والأصــوات، وأمّا الحياة فإنّها لا تخفى نسبتها لله تعالى، لأنّها شرط في سائر الكمالات، وبالخصوص)([23])

وهكذا ذكر الشيخ ابن عليوة نفس ما يذكره الأشاعرة من صفات المعاني، ثم أخد يعدد أدلة هذه الصفات على حسب ما يذكره المتكلمون أيضا.

ونحن نتعجب للجمعية التي حكمت على الشيخ بالحلول كيف لم تطلع على هذه العقيدة، فهي وحدها كافية لتبرئته من التهمة التي رمتها به.

القسم الثاني: وقد تناول فيه الشيخ ما يجب على المكلّف التسليم فيه من قضايا القضاء والقدر، فقال: (وذلك أن نسلّم له جلّ شأنه في سائر الأفعال والأحكام، ونعتقد أنّ الكلّ جائز في حقّه، والمعنى أنّه {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23]، والكلّ كائن بقضائه وقدره صادر عــن قصده واختياره من طاعة وعصيان، وله سبحانه وتعالى أن يرحم من يشاء ويعذّب من يشاء فهــو الفاعل المختار في الخلق {لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ } [الرعد: 41]، ولنتحرّز من أن نعترض عليه في شـيء من ذلك وإيّاك أن تقول: كيف يقدر الذنب ثمّ يعاقب عليه، فتأخذك رحمة بالعاصي فتعترض علـى خالقه فهو سبحانه وتعالى أرحم منك بك)([24])

وهكذا يردد نفس ما ذكره الأشاعرة في قضايا العقائد، فيقول مثلا: (ولنحترز من أن نرى فعلا لغيره كيفما كان ذلك الفعــل إلاّ وقدرته تعالى هي التي أبرزته والإرادة خصّصته والفاعل فيه هو الله: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } [الصافات: 96]، وليس للمخلوق في الوجود أدنى تأثير إلاّ مجرّد النسبة المعبّر عنها بالكسب، ولا ننكر شيئا من الأفعال إلاّ مـا أنكره الشرع، امتثالا لأمره لا لكونه فعلا لغيــــــــــره)([25])

القسم الثالث: وقد تناول فيه الشيخ ما يجب على المكلّف التسليم فيه من قضايا الغيبيات والسمعيات، فقال: (وينحصر فيما جاءتنا به الرسالة لا غير بدون استثناء، ومن ذلك الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فالإيمان بالله لا يصحّ لصاحبه إلاّ إذا كان موافقا لما فـي نفس الأمر حسبما جاءنا به الشرع، وهو الذي قدمناه في القسم الأول باختصار، أمّا ما يتعلّق بالملائكة فهو أن يعتقد المكلّف أنّ لله تعالى ملائكته لا يعلم عددهم إلاّ هو، ومـن جهة وصفهم فهم إلى التنزيه أقرب منه إلى التشبيه بالبشر، وإنّهم ملازمون لبواطن الأشياء، ومن خاصتهم جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل ومنكر ونكير ومالك ورضوان ورقيب وعتيــد، وفيهم من هو قادر على التشكّل كالروح الأمين، فإنّه تمثّل لمريم بشرا سويا)([26])

.وهكذا يعدد ما يذكره المتكلمون من الصفات الواجبة والممكنة والمستحيلة المتعلقة بالقضايا العقدية المختلفة مع أدلة مختصرة عليها.

ونحن نعجب للباحثين الذين اهتموا برسالة ابن باديس المسماة (رسالة العقائد الإسلامية من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية)، والتي جمعها تلميذه (محمد الصالح رمضان) مدير التعليم الديني بوزارة الأوقاف (سابقا)، ومبالغتهم في شأنها مع بساطتها وعدم وفائها بما يحتاجه الباحث البسيط في العقائد الإسلامية، وإعراضهم عن مثل الرسالة التي كتبها الشيخ ابن عليوة.

مع أن رسالة ابن باديس لا تختلف عما يفعله الوهابية من جمع للنصوص القرآنية أو الأحاديث النبوية تحت عناوين معينة لا تعطي صاحبها أي علم، لأنها تكلفه فوق طاقته من البحث في معانيها وتفسيرها وكيفية الاستنباط منها، بالإضافة إلى غياب المنهج العقلي.

وكمثال على ذلك ذلك ما جاء في هذه الرسالة تحت عنوان (الإيمان بمحمد هو الأساس)، ثم جاء في متن الرسالة هذا النص: (لا يدخل أحد الإسلام إلا بالإيمان بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ } [النساء: 170]، ولقوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158]، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة: يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار)([27])([28])

ثم انتهى الفصل المعد لبيان هذه القضية الخطيرة، وهي إثبات أن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم هو الأساس، ولو كانت هذه الرسالة مجرد رسالة من مجموع كتب أخرى لكان ذلك مقبولا، لكن للأسف ليس في كتب الجمعية مما يتعلق بالعقائد إلا هذه الرسالة مع كونها في كل محل تدندن بأن هدفها هو حفظ عقائد الجزائريين.

والأسف الأكبر ليس على هذا، وإنما على استغلال أعضاء الجمعية الذين أتيحت لهم المناصب بعد الاستقلال ليؤسسوا الأجيال على مثل هذه البساطة والسطحية، فقد قال (محمد الصالح رمضان) الذي كان حينها مديرا للتعليم الديني بوزارة الأوقاف: (ألقيت هذه الدروس املاءً عن أستاذنا الإمام مباشرة في حلق دراسية مسجدية بالجامع الأخضر بقسنطينة في الفترة ما بين 16 رجب 1353 و25 صفر 1354 هجرية (الموافقة لأكتوبر 34 وماي 35 من السنة الميلادية) أي في ثمانية أشهر بنسبة حصة واحدة في الأسبوع لا تتجاوز الثلاثين دقيقة وسط جمع من الطلاب يقارب أحيانا المئة فى أول عهدي بالدراسة العربية الإسلامية، ولما احتجنا إلى هذه الدروس للتعليم الديني بوزارة الأوقاف لنقدمها إلى تلاميذ معاهدنا الإسلامية في فاتح السنة الدراسية (63 – 64) عكفت على تبيضها والتعليق عليها بما لا يتنافى والروح السائدة فيها وأنهيت هذا العمل ليلة الإثنين ثاني رجب 1383 الموافقة لليلة 18/ 11/1963م)([29])

وقد بين سر اختياره لها، فقال: (وأنا واثق من أن هذه الطريقة السلفية التي سار عليها أستاذنا الإمام في عرض العقيدة الاسلامية هي الطريقة المثلى لأنها تتماشى والفطرة البشرية التي جاء بها القرآن لهداية الناس فكانت من جملة أسرار تأثيره في النفوس التي فهمته وتأثرت به من أول وهلة، وانطلقت من جزيرة العرب، تاركة الأهل والعشيرة والوطن لتبشر برسالة الله وتنشرها في الخافقين مستهينة بكل شيء مستعذبة الموت في سبيلها، فكان النصر حليفها، واندهش العالم للفئة القليلة تقهر الفئات الكثيرة باذن الله)([30])

وهذا يبين سبب ضعف التعليم الديني في الجزائر بعد الاستقلال وسطحيته ذلك لأن الذين تولوا المناصب في تلك الفترة تبنوا السطحية السلفية والفطرة البدوية في عالم يموج بالأفكار والأطروحات، وتصوروا أنهم من خلال تلك السطحية يستطيعون أن ينشئوا أجيالا صالحة وقوية، وهذا مستحيل، فعالم الأفكار لا تثبت فيه إلا العقول القوية، لا العقول البدوية السلفية السطحية.

2 ــ الحاجة إلى العرفان العملي لفهم العرفان النظري:

لا يعني ما ذكرنا من أن عقائد الصوفية لا تخرج عن العقائد الواردة في النصوص أن حظ الصوفية وخصوصا العارفين منهم من العقيدة والإيمان هو نفس حظ العوام، وإلا لما افترق العوام عن الخواص، وإنما للصوفية حظ خاص، لا يتناقض مع الحظ السابق، وإنما يضيف إليه ويعمقه.

لكن خصومهم من السلفيين وغيرهم يضعونهم بين خيارين إما أن يقتنعوا بما يفهمه العامة من العقائد مع سطحيته ومحدوديته بل وتناقضه أحيانا كثيرة، وبين أن يتهموا بالحلول والاتحاد والكفر.

ولهذا يحرص الصوفية على أن ينبهوا على أن عقائدهم ومعارفهم الإيمانية هي نفس العقائد الموجودة عند المسلمين لكن الله فتح عليهم بمزيد من الفهم والتفصيل والعمق لم يتح للعوام الحصول عليه بسبب الحجب الحائلة بينهم ونين الوصول إليها.

ولهذا ينبهون إلى ضرورة ما يسمونه (العرفان العملي) لفهم (العرفان النظري)، أو كما عبر ذلك ابن عطاء الله السكندري بقوله: (كيف يُشرقُ قَلْبٌ صُوَرُ الأكوانِ مُنْطَبِعَةٌ في مرآته؟ أمْ كيف يرحلُ إلى الله وهو مكَبَّلٌ بشَهواته؟ أم كيف يطمع أن يدخل حضرةَ الله وهو لم يتطهَّر من جَنَابَةِ غَفَلاتِهِ؟ أم كيف يرجو أن يفهم دقائقَ الأسرارِ وهو لم يَتُبْ من هَفَواتِهِ؟)([31])

ويذكر ابن عجيبة ضرورة الصحبة المصححة لمقاصد المجاهدة، فيقول: (واعلم أن هذا العلم الذي ذكرنا ليس هو اللقلقة باللسان، وإنما هو أذواق ووجدان، ولا يؤخذ من الأوراق وإنما يؤخذ من أهل الأذواق، وليس ينال بالقيل والقال وإنما يؤخذ من خدمة الرجال وصحبة أهل الكمال، والله ما أفلح من أفلح إلا بصحبة من أفلح)([32])

وحتى نقرب هذا المعنى نستشهد له بمثال يتعلق بمعارف البشرية عن الكون قبل اختراع التلسكوب، وبعده، فقبل اختراع التلسكوب كانت المعارف بسيطة محدودة، وأحيانا خاطئة، لكنه باختراع التلسكوب وغيره من الأجهزة المتطورة تغيرت النظرة للكون، وتعمقت، وهكذا كلما زاد تطور الأجهزة كلما زادت صورة الكون عمقا ودقة.

وهكذا الأمر بالنسبة للمقصود من العرفان العملي وعلاقته بالعرفان النظري، فدور العرفان العملي هو تطوير الأجهزة الاستكشافية في الإنسان للتوصل إلى الحقائق بدقة وعمق.

فالحقائق موجودة، ولكن الحوائل النفسية تحول بين الإنسان والوصول إليها، ولهذا ذكر الغزالي عند حديثه عن علوم المكاشفات التي توصل إليها بعد ممارسة العرفان العملي المتمثل في الخلوات وأنواع المجاهدات والرياضات، كيف عرف الحقائق بصورتها الحقيقية بعد أن كانت مجرد ألفاظ وحروف، فقال: (علم المكاشفة هو عبارة عن نور يظهر في القلب عند تطهيره وتزكيته من صفاته المذمومة وينكشف من ذلك النور أمور كثيرة كان يسمع من قبل أسماءها فيتوهم لها معاني مجملة غير متضحة فتتضح إذ ذاك حتى تحصل المعرفة الحقيقية بذات الله سبحانه وبصفاته الباقيات التامات وبأفعاله وبحكمه في خلق الدنيا والآخرة ووجه ترتيبه للآخرة على الدنيا والمعرفة بمعنى النبوة والنبي ومعنى الوحي ومعنى الشيطان ومعنى لفظ الملائكة والشياطين وكيفية معاداة الشياطين للإنسان وكيفية ظهور الملك للأنبياء وكيفية وصول الوحي إليهم والمعرفة بملكوت السموات والأرض ومعرفة القلب وكيفية تصادم جنود الملائكة والشياطين فيه ومعرفة الفرق بين لمة الملك ولمة الشيطان ومعرفة الآخرة والجنة والنار وعذاب القبر والصراط والميزان والحساب ومعنى قوله تعالى اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ومعنى قوله تعالى وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون ومعنى لقاء الله عز وجل والنظر إلى وجهه الكريم ومعنى القرب منه والنزول في جواره ومعنى حصول السعادة بمرافقة الملأ الأعلى ومقارنة الملائكة والنبيين ومعنى تفاوت درجات أهل الجنان حتى يرى بعضهم البعض كما يرى الكوكب الدري في جوف السماء إلى غير ذلك مما يطول تفصيله)([33])

ثم بين العلاقة بين المعارف العمومية السابقة، وهذه المعارف التي لا تتجلى إلا بعد تطهير القلب الذي هو تلسكوب الحقائق، فقال: (إذ للناس في معاني هذه الأمور بعد التصديق بأصولها مقامات شتى فبعضهم يرى أن جميع ذلك أمثلة وأن الذي أعده الله لعباده الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وأنه ليس مع الخلق من الجنة إلا الصفات والأسماء، وبعضهم يرى أن بعضها أمثلة وبعضها يوافق حقائقها المفهومة من ألفاظها وكذا يرى بعضهم أن منتهى معرفة الله عز وجل الاعتراف بالعجز عن معرفته، وبعضهم يدعي أمورا عظيمة في المعرفة بالله عز وجل وبعضهم يقول حد معرفة الله عز وجل ما انتهى إليه اعتقاد جميع العوام وهو أنه موجود عالم قادر سميع بصير متكلم)([34])

ويبين الحاجة الشديدة للعرفان العملي في هذا المجال، فقال: (نعني بعلم المكاشفة أن يرتفع الغطاء حتى تتضح له جلية الحق في هذه الأمور اتضاحا يجري مجرى العيان الذي لا يشك فيه وهذا ممكن في جوهر الإنسان لولا أن مرآة القلب قد تراكم صدؤها وخبثها بقاذورات الدنيا وإنما نعني بعلم طريق الآخرة العلم بكيفية تصقيل هذه المرأة عن هذه الخبائث التي هي الحجاب عن الله سبحانه وتعالى وعن معرفة صفاته وأفعاله وإنما تصفيتها وتطهيرها بالكف عن الشهوات والاقتداء بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم في جميع أحوالهم فبقدر ما ينجلي من القلب ويحاذي به شطر الحق يتلألأ فيه حقائقه ولا سبيل إليه إلا بالرياضة التي يأتي تفصيلها في موضعها)([35])

بناء على هذا المعنى المتفق عليه عند الصوفية، فإن الذي يريد أن يجادل الصوفية في الحقائق التي يوردونها ويتفقون عليها ينبغي أولا أن يتحصل على الجهاز الذي حصلوه، وإلا فإنه من مخالفة المنهج العلمي أن يجادل العامي الفلكي في حقائق الكواكب والمجرات.

قد يقال بأن حقائق الدين واضحة، وقد تكفل القرآن الكريم ببيانها، وهكذا يقال كذلك بأن السماء واضحة، ولكن الفلكي يرى في السماء ما لا يرى فيها العامي، وهكذا القرآن الكريم يرى فيه الصوفي العارف المحقق ما لا يرى فيه العامي البسيط.

ولذلك فإن الباحث الذي يحترم نفسه يقع بين خيارين إما أن يسلم للصوفية بما ذكروه من أن معارف الباطن لا تتناقض مع معارف الظاهر، وإنما هي عمق من أعماقها، ولذلك يحكم لهم بما يحكم لسائر المسلمين من الإيمان.

وإما أن لا يكتفي بهذه المرتبة، وهو في هذه الحالة بين خيارين كذلك: إما أن يستعمل الأجهزة التي استعملوها، ليصل إلى الحقائق التي وصلوا إليها، وذلك يقتضي منه السلوك والسير إلى الله والمجاهدة في ذلك، وإما أن يسلم لأمر اتفق عليه الآلاف المؤلفة من الصالحين في كل زمان ومكان.

وهناك خيار ثالث بعد هذا، وهو أن يتوقف فلا يحكم لهم بإسلام، ولا يحكم لهم بالكفر.

أما الخيار الأخطر فهو أن يتجرأ فيحكم عليهم بالإلحاد والحلول والكفر، ليطهر الأمة من كل الذاكرين والصالحين، ولا يبقى في الجبة إلا السطحيون والسلفيون والوهابيون، وهذا ما فعلته الجمعية للأسف.

ولهذا نجد الشيخ ابن عليوة في دفاعه عن الصوفية في هذا المجال يعتب بشدة على المعترضين على الصوفية من غير أن يفهموا مقاصدهم، والتي لا يمكن أن تفهم من غير السلوك، كما لا يمكن للبصر الضعيف أن يرى ما في السماء من عجائب، فقال: (وإذا استقر في ذهنك أيّها القارىء اللبيب أن نقطة الباء جامعة لسائر الأحكام والرسوم والمعارف والفهوم، فمن باب أولى وأحرى الكلمة، فسلّم لأهل هذا العلم ولا تستغرب إن رأيتهم استخرجوا من المعنى الواحد معاني شتى، ومن الكلمة الواحدة كلمات جمّة، فلهم أن يستخرجوا ما شاءوا من أي شيء شاءوا، تالله لو أراد أحدهم أن يستخرج العسل من الخل لفعل: { يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [الروم: 19]، وكلّ ذلك دليل على ما منحهم الله من الأسرار والمعارف والأنوار، فلا تغتر يا أخي بأقوال المغرورين الذين ينقصون أولياء الله، ويخوضون في أعراضهم، ويزعمون أنّ لهم يدا عليهم، وما هم إلاّ بمنزلة الصبيان معهم، لكونهم لا يدرون من أي بحر غرفوا، ولا لأي جهة من الجهات توجّهوا) ([36])

ونقل عن الشيخ (الصقلي) ذكره لبيان المواقف المختلفة من العرفان الصوفية وعلاقتها بالعرفان الصوفية، فقال: (كلّ من صدّق بهذا العلم فهو من الخاصّة، وكلّ من فهمه فهو من خاصّة الخاصّة، وكلّ من عبّر عنه وتكلّم فيه فهو النجم الذي لا يدرك، والبحر الذي لا يترك) ([37])

وأشار إلى ما ذكرناه من أن المعرفة لا تتناقض مع الحقائق الإيمانية الواردة في النصوص المقدسة، بل هي عمق من أعماقها، فقال: (ولا نفهم من أخذهم باطن الألفاظ أن يتركوا ما يقتضيه الظاهر حاشاهم من ذلك، بل يأخذون ما لا يقدر أن يأخذ به غيرهم من العزائم وسيرتهم في ذلك مشهورة، ولا يناقض هذا أقوال بعض أهل الجذب الغالب عليهم الحال، لكونهم ناقصين عن درجات الكمال، وأمّا الكمّل فأقوالهم مشهورة في عدم انفكاك الحقيقة عن الشريعة، أو العكس منها قولهم: (الحقيقة عين، والشريعة أمرها)، ومنها قولهـــــم: (من تحقّق ولم يتشرّع فقد تزندق، ومن تشرع ولم يتحقق فقد تفسق، ومن جمع بينهما فقد تحقق)، ومنها قولهم: (الحقيقة باطنة في الشريعة كبطون الزبد في اللبن فبمخض اللبن يظهر الزبد)، ويقـال: (أنّ الحقيقة شجرة والشريعة أغصانها)، ويكفي في هذا ما قيل: (الشريعة مقالي، والطريقة أفعالي، والحقيقة حالي)([38])، وإذا كان هذا وصفه عليه الصلاة والسلام فكيف يتأخر عن هذا المقام مثل هؤلاء القوم، قد زيّنوا ظاهرهم بالشرع وجمّلوا باطنهم بالجمع، وأخذوا من الشرع ما لا يقتضيه الطبع، ولا يسبق إليه السمع، فمن أجل ذلك صار جميع ما يفهمونه عن الله في سائر أحوالهم مأخوذا من الكتاب والسنّة، وقلّما تجد قولا من أقوالهم في الشريعة إلاّ ولهم فيه جميع مراتب الشريعة كالإسلام والإيمان والإحسان، وإن شئت قلت الشريعة والطريقة والحقيقة بخلاف ما عداهم فإنّهم لا يأخذون من القول سوى الظاهر من غير التفات لما له في الباطن من الأسرار القدسيّة والمعاني الغيبيّة، ولهذا احتجب عنهم ما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من نظرهم لباطن الأشياء لما وقف الناس مع ظاهرها، وقد مدحهم عليه الصلاة والسلام بقوله: (سيروا هذا جمدان سبق المفردون، قالوا: ما المفردون يا رسول الله؟، قال: الذاكرون الله كثيرا والذاكرات)([39]) ([40])

3 ــ موقف الصوفية من (وحدة الوجود)

قبل أن نذكر موقف الطرق الصوفية من التهمة التي وجهها إليهم خصومهم من جمعية العلماء المسلمين الجزائريين أو من التيارات السلفية أو من غيرهم أن نبين أن (وحدة الوجود) كمصطلح فلسفي وديني له دلالات مختلفة متناقضة لا يمكن الجمع بينها في أحيان كثيرة، وللأسف فإن الكثير من الباحثين يحملون ما شاءوا من المعاني على هذا المصطلح، وبالتالي يحملون الصوفية جرائر كل من يقول بهذا المصطلح حتى لو كان ملحدا.

ولهذا فإن المنهج العلمي يتطلب منا الرجوع إلى الصوفية أنفسهم ليشرحوا لنا مرادهم من (وحدة الوجود)، وعندما نفعل ذلك نجد تعبيرين: تعبيرا شاعريا، وتعبيرا فلسفيا:

التعبير الشاعري عن وحدة الوجود:

وربما يكون أحسن معبر عنه هو ما ورد في الحديث من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أشعر كلمة تكلمت بها العرب كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل) وفي رواية: (أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل)

ففي هذا البيت الذي أقره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تعبير شاعري جميل عن أن الحقيقة الوحيدة الموجودة في الكون هي (الله)، وما عداه باطل ووهم وخيال.

وهذا التعبير هو الذي يدور حوله التراث الأدبي الصوفي من الشعر والمناجاة والصلوات والحكم ونحوها، فكلها تستنسخ ما ذكره لبيد، وهكذا لا نجد في كتب الصوفية الأوائل تلك التحاليل الفلسفية التي نجدها في كتب المتأخرين من الذين حاولوا أن يفلسفوا هذا المعنى.

ولهذا يصطلح البعض على التعبير عن وحدة الوجود بالنسبة لهؤلاء بمصطلح (وحدة الشهود)، أي أن هؤلاء الصوفية لم يذكروا الحقيقة كما هي في الواقع، وإنما ذكروا مشاهدتهم لها، والمشاهدة لا تعني بالضرورة الحقيقة المطلقة.

ولهذا فإن أول ما يفعله شيوخ الطرق الصوفية – كما رأينا عند ذكر الخلوة- هو إخراج المريد من رؤية الأكوان، لأنه لا يمكن أن تجتمع الرؤيتان: رؤية الله التي هي مطلوب العارف، ورؤية الكون الذي هو حجابه.

والكون الحجاب – كما يرى الصوفية – هو الكون القائم بذاته، أو الذي يستمد وجوده من ذاته، كما يستمد تدبيره من ذاته، وهذا الكون لا حقيقة وجودية له، وبالتالي فإن أول ما يفعله الصوفي هو خلع لباس هذا الكون، أو خلع الشعور به، أو إعدامه، وهذا الإعدام يعبرون عنه بالفناء([41]) عن رؤية الأكوان، ويعرفونه بأنه (اضمحلال ما دون الحق)، فيضمحل عن القلب والشهود.

قال الغزالي عند ذكره لمراتب السالكين في التوحيد:(الرابعة أن لا يرى في الوجود إِلا واحداً، وهي مشاهدة الصديقين، وتسميه الصوفية الفناء في التوحيد؛ لأنه من حيث لا يرى إِلا واحداً، فلا يرى نفسه أيضاً، وإذا لم ير نفسه لكونه مستغرقاً في التوحيد، كان فانياً عن نفسه في توحيده، بمعنى أنه فني عن رؤية نفسه والخلق)([42])

وقد ذكر الشيخ ابن عليوة في خطابه للمعترضين على الصوفية من الجمعية وغيرهم أن العلماء الذين يرجعون إليهم لا يخالفون في هذا المعنى، فقال: (إن حضرة ابن القيم زيادة على كونه يحترم مذهب القوم ويجله فإنه خاض في معانيه، وتفنن في معارفه، وشارك في غوامضه، ومن أراد الوقوف على ذلك بنفسه فما عليه إلا أن يتصفح شرحه المسمى بـ (مدارج السالكين على منازل السائرين) للإمام الهروي الحنبلي في غوامض التصوف، فإنه أودع فيه من الحقائق الاختصاصية والمعارف اللدنية ما يثبت له حق المشاركة في الفن)([43])

ثم نقل بعض ما ذكره الشيخ ابن القيم مما تنكر مثله الجمعية، بل تعتبر المعتقد له (شيخ حلول)، فقال: (ومن ذلك ما ذكره في معنى الفناء عند القوم قال: (ليس مرادهم (يعني الصوفية) فناء وجود ما سوى الله في الخارج، بل فناؤه عن شهودهم وحسهم فحقيقة غيبة أحدهم عن سوى مشهوده، بل غيبته أيضاً عن شهوده ونفسه لأنه يغيب بمعبوده عن عبادته وبمذكوره عن ذكره، وبموجوده عن وجوده وبمحبوبه عن حبه وبمشهوده عن شهوده وقد يسمى حال مثل هذا سكراً واصطلاماً ومحواً وجمعاً وقد يفرقون بين معاني هذه الأسماء وقد يغلب شهود القلب بمحبوبه ومذكوره حتى يغيب به ويفنى به فيظن أنه اتحد به وامتزج بل يظن أنه نفسه، كما يحكى أن رجلاً ألقى بنفسه بالماء فألقى المحب نفسه وراءه فقال له ما الذي أوقعك في الماء؟ فقال: غبت بك عني فظننت أنك أني. وهذا إذا عاد إليه عقله يعلم أنه كان غالطاً في ذلك وأن الحقائق مشيدة في ذاتها فالرب رب والعبد عبد والخالق بائن عن المخلوقات ليس في مخلوقاته شيء من ذاته ولا في ذاته شيء من مخلوقاته ولكن في حال السكر والمحو والاصطلام والفناء قد يغيب عن هذا التمييز فهذه الحال قد يقول صاحبها ما يحكى عن أبي يزيد أنه قال (سبحاني) أو (ما في الجبة إلا الله) ونحو ذلك)([44])

وقد علق على هذا النص بقوله: (ولا شك أن هاته المخارج لا تتسع لها إلا صدور من تشبعت قلوبهم من حسن الظن برجال التصوف بعد ما سبروا حسن مقاصدهم وسلامة عقائدهم)([45])

ويوجه الشيخ ابن عليوة الجمعية التي تشددت معه في موقفها من ديوانه إلى النظر في طريقة تعامل ابن القيم مع الهروي في أبيات لا تقل عن الأبيات التي كتبها في ديوانه، فقال: (الذي نراه أبلغ في التماس المخارج مما سبق من حضرة ابن القيم رحمه الله هو تأويله الأبيات الآتية للإمام الهروي في معنى التوحيد عنده وفيه يقول:

ما وحد الله من واحد
 
إذ كل من وحّده جاحد
 
توحيد من ينطق عن نعته
 
عارية أبطلها الواحد
 
توحيده إياه توحيده
 
ونعت من ينعته لاحد
 

فقال في معنى هاته الأبيات: (أنه ما وحد الله عز وجل واحد توحيده الخاص الذي تفنى فيه الرسوم ويضمحل فيه كل حادث ويتلاشى فيه كل مكون فإنه لا يتصور منه التوحيد إلا ببقاء الرسم وهو الموحد وتوحيده القائم به فإذا وحده شهد فعله الحادث واسمه الحادث وذلك جحود لحقيقة التوحيد الذي تفنى فيه الرسوم وتتلاشى فيه الأكوان فلذلك قال: إذ كل من وحده جاحد، هذا أحسن ما يحمل عليه كلامه)([46])

ثم علق على هذا بقوله: (وهكذا كان شأنه وشأن من هو على شاكلته فيما يصدر عن القوم من الكلمات التي يستعصي فهمها على الأكثر من ذوي الإدراكات المستعدة)([47])

وعند الرجوع إلى مواقف ابن تيمية الذي هو شيخ السلفية ومنظرها الأكبر نجد اعتدالا كبيرا في هذه المسألة مقارنة بموقف جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وكأنها للأسف لم تقرأ شيئا من كتبه على الرغم من احترامها الشديد له، فقد ذكر ما يعبر عنه الصوفية بالفناء كثيرا في رسائله، وإن كان يعيب عليه نقصه عن الكمال وهو يتفق في ذلك مع كل من تحدث عن هذا الحال..

يقول في مجموع الفتاوى:(الفناء الذي يوجد فى كلام الصوفية يفسر بثلاثة أمور: أحدها فناء القلب عن إرادة ما سوى الرب والتوكل عليه وعبادته وما يتبع ذلك، فهذا حق صحيح وهو محض التوحيد والإخلاص، وهو فى الحقيقة عبادة القلب وتوكله واستعانته وتألهه وإنابته وتوجهه إلى الله وحده لاشريك له، وما يتبع ذلك من المعارف والأحوال، وليس لأحد خروج عن هذا، وهذا هو القلب السليم الذي قال الله فيه: {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 89]، وهو سلامة القلب عن الإعتقادات الفاسدة ومايتبع ذلك.. وهذا الفناء لاينافيه البقاء، بل يجتمع هو والبقاء، فيكون العبد فانيا عن إرادة ما سواه وإن كان شاعرا بالله وبالسوى وترجمته قول (لا إله إلا الله)، وكان النبى r يقول:(لا اله الا الله ولا نعبد إلا إياه له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن) وهذا فى الجملة هو أول الدين وآخره.. الأمر الثانى فناء القلب عن شهود ما سوى الرب، فذاك فناء عن الإرادة، وهذا فناء عن الشهاده، ذاك فناء عن عبادة الغير والتوكل عليه، وهذا فناء عن العلم بالغير والنظر إليه، فهذا الفناء فيه نقص، فإن شهود الحقائق على ما هي عليه، وهو شهود الرب مدبرا لعباده آمرا بشرائعه أكمل من شهود وجوده أو صفة من صفاته أو اسم من أسمائه، والفناء بذلك عن شهود ما سوى ذلك)([48])

وقال في موضع آخر:(.. وهذا فناء عن ذكر السوى وشهوده وخطوره بالقلب، وهذا حال ناقص يعرض لبعض السالكين، ليس هو الغاية، ولا شرطا في الغاية، بل الغاية الفناء عن عبادة السوى.. وهو حال إبراهيم ومحمد الخليلين ـ صلى الله عليهما وسلم ـ فإنه قد ثبت في الصحاح عن النبي r من غير وجه أنه قال:(إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا)([49]).. وحقيقة هذا الفناء هو تحقيق الحنيفية، وهو إخلاص الدين لله وهو أن يفني بعبادة الله عن عبادة ما سواه، وبمحبته عن محبة ما سواه، وبطاعته عن طاعة ما سواه، وبخشيته عن خشية ما سواه، وبالحب فيه والبغض فيه عن الحب فيما سواه والبغض فيه، فلا يكون لمخلوق من المخلوقين لا لنفسه ولا لغير نفسه على قلبه شركة مع الله تعالى)([50])

فهذه النصوص وغيرها تدل على أن حال الفناء الذي تحدث عنه الصوفية حال معتبر عند كثير من علماء السلفية أنفسهم، وأن ما يدعيه من يدعي صحبتهما من الدعاوى لا دليل عليه، وهو محض أحقاد تمتلئ بها النفوس، لا علم معتبر يمكن أن يناقش.

أما ما ذكراه من نقص هذه الحال، فهو صحيح لا شك فيه.. والمتوقف عند هذه الحال والمستلذ لها انقطع به الطريق.. أولم يفهم الغاية منه.. فالخالع للكون الفاني لن يفهم مراد الله من رسائل الكون حتى يعيد لبسه من جديد، باسم الله لا باسمه الذي لا وجود له.

ولكن استنقاص العارفين المتحدثين عن هذه الحال غير صحيح.. ومقارنتهم في ذلك بالسلف الصالح من الصحابة وغيرهم، واعتبار كلامهم بدعة بسبب ذلك أبعد عن الصواب.

ذلك أن الكلام في هذه المسألة يشبه الكلام في التفسير والفقه.. وغيرها من علوم الشريعة.

فكلام المفسر في تفسير غريب القرآن ربما يكون بدعة لم يخض فيها السلف، لا لكونها بدعة، ولكن لكون ذلك الغريب كان مشهورا غير غريب عندهم.

والكلام في دقائق الفقه، وتقسيمه إلى سنن وفرائض وموانع وأسباب.. وغير ذلك بدعة بالنسبة لفقهاء الصحابة.. فلم تدعهم الحاجة في وقتهم إلى مثل هذه المصطلحات.. وهكذا الأمر في هذا الباب..

بناء على هذا، فإن الفناء – عند الصوفية – ليس سوى مرحلة من مراحل السير، أو هو لمعة تلمع في ذهن العارف ووعيه بعد المكابدة والتأمل، ليعود بعدها إلى الكون الحقيقي، وهو الكون المؤسس بنور الله، والموجود بإبداع الله، ليقرأه باسم الله.

فالعارف لا يحتقر الكون بإعدامه، وإنما يرفعه بأن يلبسه لباس العبودية والتوجه إلى الله.

وكما أن أي لابس يحتاج لخلع ثوبه القديم ليلبس الجديد، فكذلك العارف يفني الكون القديم، أو لباس الكون القديم، وهو لباس لا اسم له، ليلبسه لباس الانتماء إلى الله.

ولذلك لا يوجد من يحترم الكون كاحترام العارفين، ولا يوجد من ينسب الكون إلى مصدره كما ينسبه العارفون، فهم لا يقصرون الشرك على الاعتقاد بوجود الند لله، بل يعتبرون من الشرك أو أساس الشرك نسبة الوجود الذاتي للأشياء.

وعلى هذا المعنى اتفق العارفون، وقد جمع ابن عطاء الله كل أقوالهم في ذلك بعبارة مختصرة فقال:(الأكوان ثابتة بإثباته، وممحوة بأحدية ذاته)([51])

فالأكوان ـ كما يراها العارفون، وكما هي في حقيقة الحال ـ عدم محض من حيث ذاتها، وما ثبوتها إلا بإثباته تعالى وإيجاده لها وظهوره فيها.

وهم يستشهدون لهذا المعنى بالمعنى الإشاري المبثوث في ثنايا قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88]، فيفهمون منها أن كل ممكن هو باعتبار ذاته هالك، أو هو عدم محض ونفي صرف، وإنما له الوجود من جهة ربه، فهو هالك باعتبار ذاته، موجود بوجه ربه، أي أن وجوده قاصر على جهة ربه.

وربما يفيد سياق الآية هذا المعنى، فهو قد ورد في أثناء الدعوة إلى توحيد الله في الدعاء والعبادة، ليقول من جهة لا تتخذ أي ند تدعوه من دون الله فسيأتي اليوم الذي يهلك فيه، فلا يبقى شيء غير الله، وقد تفيد ما يريده خالعو لباس الكون المعدوم من نفي الوجود الذاتي، فلذلك يكون من دعا غير الله، متوجها بالدعاء إلى الوهم، قال تعالى: {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 88]

ولا تنافي بين المعنيين، ولا تصادم بينهما، ولا يلغي أحدهما الآخر([52])، بل إن المعنى الأول مؤسس على المعنى الثاني.

وهكذا يفهم العارفون من كل النصوص الواردة في إثبات وحدانية الحق أو أحديته أو أحقيته:

وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا قام إلى الصلاة في جوف الليل قال من ضمن دعاء التهجد:(أنت الحق ووعدك الحق وقولك الحق ولقاؤك الحق والجنة حق والنار حق والساعة حق والنبيون حق ومحمد حق)([53])

ففي قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(أنت الحق) أي واجب الوجود؛ فأصله من حق الشيء أي ثبت ووجب، فوجود الله هو الوجود الحقيقي إذ وجوده لنفسه، لم يسبقه عدم ولا يلحقه عدم؛ وما عداه مما يقال عليه هذا الاسم مسبوق بعدم، ويجوز عليه لحاق العدم، ووجوده من موجده لا من نفسه، فهو معدوم باعتبار ذاته في كل الأحوال، كما قال الشيخ أبو مدين([54]):

الله قل وذر الوجود وما حوى
 
               إن كنت مرتاداً بلوغ كمال
 
فالكل دون الله أن حققته
 
عدم على التفصيل والإجمال
 
واعلم بأنك والعوالم كلها
 
لولاه في محو وفي اضمحلال
 
من لا وجود لذاته من ذاته
 
فوجوده  لولاه عين محال
 
والعارفون بربهم لم يشهدوا شيئاً
 
سوى  المتكبر  المتعال
 
ورأوا سواه على الحقيقة هالكاً          
 
في الحال والماضي والاستقبال
 

وعبر الآخر عن انشغال العارف بالله عن الكون بقوله:

شغل المحب عن الهواء بسره
 
في حب من خلق الهواء وسخره
 
والعارفون عقولهم معقولة
 
عن كل كون ترتضيه مطهره
 
فهم لديه مكرمون وفي الورى
 
أحوالهم مجهولة ومستره
 

وباعتبار هذا المعنى كان أصدق كلمة قالها الشاعر، كما ورد في الحديث كلمة لبيد([55]): ألا كل شيء ما خلا الله باطل([56]).

ومن هذا الباب جاءت أسماء الله تعالى التي نص عليها قوله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [الحديد: 3]

فالتأمل في المعاني العميقة التي تحملها هذه الأسماء يلبس الأشياء جميعا ثوب العدم، ليبقى الحق وحده هو المتفرد بالوجودالحقيقي.

يقول سيد قطب مبينا عمق المعاني التي تدل عليها هذه الأسماء الحسنى:(وما يكاد يفيق من تصور هذه الحقيقة الضخمة التي تملأ الكيان البشري وتفيض، حتى تطالعه حقيقة أخرى، لعلها أضخم وأقوى. حقيقة أن لا كينونة لشيء في هذا الوجود على الحقيقة. فالكينونة الواحدة الحقيقية هي لله وحده سبحانه ؛ ومن ثم فهي محيطة بكل شيء، عليمة بكل شيء {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [الحديد: 3]

ويقول عن المعاني التي يستشعرها، وهو يعيش في ظلال هذه الأسماء:(الأول فليس قبله شيء. والآخر فليس بعده شيء. والظاهر فليس فوقه شيء. والباطن فليس دونه شيء.. الأول والآخر مستغرقا كل حقيقة الزمان، والظاهر والباطن مستغرقا كل حقيقة المكان. وهما مطلقتان. ويتلفت القلب البشري فلا يجد كينونة لشيء إلا لله. وهذه كل مقومات الكينونة ثابتة له دون سواه. حتى وجود هذا القلب ذاته لا يتحقق إلا مستمدا من وجود الله. فهذا الوجود الإلهي هو الوجود الحقيقي الذي يستمد منه كل شيء وجوده. وهذه الحقيقة هي الحقيقة الأولى التي يستمد منها كل شيء حقيقته. وليس وراءها حقيقة ذاتية ولا وجود ذاتي لشيء في هذا الوجود)([57])  

ونحب أن نبين أن سيد قطب رحمه الله على الرغم من عدم انتمائه لأي طريقة صوفية، ومع ذلك رمي بسبب هذه الكلمات بالقول بوحدة الوجود.

التعبير الفلسفي عن وحدة الوجود:

وهو محاولة تفسير تلك المعاني الشهودية، والتعبير عنها بلغة فلسفية، وأحيانا الاستشهاد لها بما يستشهد به الفلاسفة من أنواع البراهين، ولعل أول من اهتم بهذا، ومارسه إلى أن نسبت وحدة الوجود له هو الشيخ محيي الدين بن عربي، والذي تلقى منه الصوفية بعد ذلك، وصاروا يكررون ما يذكره من معان.

وكمثال على تأثر المدرسة الصوفية الجزائرية بابن عربي تأثر الأمير عبد القادر به إلى درجة كبيرة جدا، جعلت منه نسخة من الشيخ محيي الدين نفسه.

وهكذا الأمر، وبصورة أقل الشيخ ابن عليوة، وكمثال على ذلك ما ورد في تفسيره لما يصطلح عليه الصوفية بالنقطة البائية([58])، والتي بناها على ما ورد في بعض الآثار من أن: (كل ما في الصحف في الكتب الأربعة، وكل ما في الكتب الأربعة في القرآن العظيم، وكل ما في القرآن العظيم في فاتحة الكتاب، وكل ما في فاتحة الكتاب في البسملة، وكل ما في البسملة في بائها، وكل ما في الباء في نقطتها)، فتحصل من هذا أن الكتب المنـزلة على الأنبياء من أبينا آدم إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع ألفاظها ومعانيها وأحكامها مجتمعة في نقطة الباء مع صغر جرمها، وبذلك فإن نقطة الباء: جامعة لسائر الأحكام، والرسوم، والمعارف، والفهوم([59]).

وقد خص هذه الباء برسالته التي سبق الحديث عنها، والتي عبر فيها عن مفهوم وحدة الوجود بلغة فلسفية تميل إلى بعض الشاعرية، ونحب أن نذكرها هنا كما ذكرها، لنرى مدى الانسجام بين لغة ابن عربي ولغة ابن عليوة.

ونحب – قبل أن نورد النص- أن ننبه إلى ما ذكرنا سابقا من أن اللغة الصوفية لغة تعتمد الرمز مطلقا سواء ما كان منها شاعريا أو فلسفيا، ولهذا لا يمكن للعقل الحسي الذي لم يترق إلى التجريد وفهم الرموز أن يفك المعاني المرادة في حديثهم.

قال الشيخ ابن عليوة: (كانت النقطة في كنزيّتها قبل تجليها بذات الألف، وكانت الحروف مستهلكة في كنهها الغيبيّ إلى أن ظهرت بما بطنت وتجلّت بما استترت، فتشكلت في مظاهر الحروف كما ترى، وإذا تحقّقت لم تجد إلاّ ذات المداد المعبّر عنه بالنقطة حسبما قيل:

إنّ الحروف إشارات المداد فلا
 
حرف هناك سوى ذات المداد طلا
 
طلا الحروف اللواتي صار صبغتها
 
وهما وصبغته صارت وما انتقلا
 
بطونها كان في غيب المداد كم
 
ظهورها كان بالتقدير من إلى
 
فإنّه كان من قبل الحروف ولا
 
حرف ويبقى ولا حرف هناك ولا
 
فللحروف ظهور وهي خافية
 
وذاك عين ظهور للمداد جلا
 
والحرف ما زاد شيئا في المداد ولم
 
ينقصه شيئا ولكن فصل الجملا
 
وما تغيّر بالحرف المداد وهل
 
مع المداد وجود للحرف إلاّ
 
وأين ما كان حرف لم يزل معه
 
مداده فاعقل الأمثال ممتثلا
 

والمعنى أنّه ليس شيء هناك ظاهر في نفس الحروف سوى ذات النقطة المعبّر عنها بالمداد المطلــق من أجل ما تضمنته من استهلاك سائر الحروف في حقيقتها قبل التجلّي وبعده، إذ ليس للحـــرف وجود في الخارج ولو بعد التجلّي إلاّ نفس المداد، فالحروف كائنة بكينونة النقطة لا باستقلالها مــن استهلاك سائر الكتب في نفس الكلام، واستهلاك الكلام في نفس الكلمة، واستهلاك الكلمة في نفس الحرف، والمعنى أنّه يلزم من عدم الحرف عدم الكلمة، ومن عدم الكلمة عدم الكلام، ومن عــدم الكلام عدم الكتاب إذ لا وجود للكلمة إلاّ بوجود الحرف إمّا لفظا وإمّا خطا والتفصيل فـــرع الإجمال {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39])([60])

بعد أن بين علاقة النقطة بالحروف رد على توهم القصور والمحدودية فيها، فقال: (جاءت النقطة على خلاف ما في الحروف {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الشورى: 11]، فلهذا لا يقع عليها حــدّ التعريف كما يقع على غيرها من الحروف، فهي منزّهة عن كلّ ما يوجد في الحرف من طول أو قصر واحتداب، فلا تعقل بما يعقل به الحرف رسما ولفظا فبينونتها من الحرف معقولة وكينونتها فيـــه مجهولة إلاّ لمن كان بصره حديد { أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37]، وإن كانت الحروف من صفتها فحقيقا لا تحيط الصفة بالذات، والمعنى إنّها لا تخص بما تخص به الذات من جميع الوجوه، فالذات مختصة بالتنزيه والصفة قائمة بالتشبيه وإن كان التشبيه هو عين التنزيه من حيث وحدة المداد، لأنّ الحروف تشابهت ببعضها، والتشبيه لا يناقض تنزيه المداد في نفسه، ولا يناقض وحدته الموجودة في كلّ حرف، فلهذا كان التشبيه عين التنزيه حيث تشبه المداد بنفسه لنفسه: ({وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ } [الزخرف: 84]، فكيفما كان وحيثما كان فهو إله، ولا يمنعك ما تراه في أرض التشبيه عمّا هو عليه في سماء التنزيه، فكلّ من التنزيه والتشبيه: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115])([61])

ثم بين أن ما ذكره جميعا ليس سوى (الوصف العام المتدفق من فياض النقطة على افتقار الحروف، وأمّا وصفها الخاص اللازم لكنهها الغيب فهو لا يمكن ظهوره في الحروف بحال، فالحرف لا يحمل شيئا من لوازم النقطة لا في الصفة ولا في المعنى)([62])

ثم أعطى تشبيها مقربا لذلك، فقال: (ألا ترى أنّك إذا رسمت بعضا من الحروف الهجائية كما هنـا (أ ب ت ث) فإنّك تجد لكلّ حرف حرفا آخر مماثلا له، فالباء تماثلها التاء مثلا، ثمّ إذا أردت النطق بحرف من هاته الحروف تجد له مخرجا في النطق يخصّه، وليس للنقطة مخرج خصوصي حتى أنّك إذا رسمتها كما هنا تجد صورتها مباينة لجميع الحروف، وإذا أردت التلفظ بحقيقتها فإنّك تقول النقطة فيجنح بك اللفظ إلى حروف ليست من ذاتها وهي النون والقاف والطاء والتاء فاتضح لنــا أنّ النقطة معناها لا تحويه الألفاظ)([63])

وانطلاقا من هذا يقرر هذه الحقيقة العظيمة التي تجعل من هذا المفهوم مفهوما إسلاميا خالصا، بل مفهوما عميقا لا صلة له بما يورده الفلاسفة الملحدون الذين يجعلون الله عين الكون، والكون عين الله، فيقول: (فكنه ذات البارئ جلّ شأنه ليس له لفظ يفصح عن ماهيته، ومـن أجل هذا كلّما تكلّم عارف بكلام يريد به التنزيه أو نقول البيان الكلّي لأوصاف الذات يبرز مباينـا لقصده لضيق العبارة {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } [الأنعام: 91])([64])

ثم بين الإشكالية الكبرى التي تعترض الصوفية دائما، وهي القدرة التعبيرية عن الحقائق، ذلك أن الحقائق من العظمة بحيث لا يطاق التعبير عنها، ومن أراد التعبير يقع دائما في الخلل، فقال: (وربّما تبرز الكلمة لتقترب من التشبيه أو التعطيل، وليس مقصود العارف إلاّ التوحيد المحض، ألا ترى أنّ المتلفظ بالنقطة هــل أراد التلفظ بها أم بالحروف الثلاثة {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد: 33]، ولولا قيوميتّه لم ير موجود قائم البنية لذاته بهذا الاعتبار)([65])

ثم بين علاقة النقطة بالقدرة المطلقة التي تبرز ما تشاء كيف تشاء، فقال: (وبذلك أيضا اتسعت دائرة الكلمات فكانــت لا نهاية لها {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا } [الكهف: 109]، وكيف ينفد من لا نفاد له، وهذه الكلمات هي المتجليّة بسائر الكلام {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171]، أي تجلّى بها إلى مريم {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم: 17]، فكلّ كلام مفرع عن الكلمة، فالكلمة كناية عن تجليه بنفسه لنفسه، والكلام كناية عن تجليه بخلقه لخلقه، فالكلام فرع الكلمة، والكلمة فرع الحروف، والحروف فـرع النقطة، والنقطة هي السرّ المحيط بالجميع {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا} [النساء: 126]، وعليـه إذا جرّدت الحرف من النقطة لم تجد شيئا، ووجدت الله عنده وتعرف حينئذ أنّ النقطة هي الظاهـرة بكلّ شكل ومبنى وصورة ومعنى، كانت النقطة في عمائها الأول حين لا فصل ولا وصل ولا بعد ولا قبل ولا عرض ولا طول، وكلّ الحروف مستهلكة في كنهّها الغيبيّ كما تقدم كما كانت الكتب مستهلكة في الحروف على اختلاف مدلولاتها، واستهلاك الكتب في الحروف يشعر به كلّ من له أدنى شعور إذ لو فتشت الكتاب لم تجد فيه ظاهرا على صفحاته حاملا لمعانيه غير الثمانية وعشرين حرفا فهي المتجليّة بكلّ لفظ ومعنى، تتلّون بالألفاظ المختلفة والمعاني المتباينة إلى {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } [مريم: 40]، {أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ } [الشورى: 53]، فتصير الحروف إلى مركزها الأصليّ حين لا شيء إلاّ ذات النقطة)([66])

ثم بين سر الرحمة التي نشأت منها كلمات الكون جميعا، فقال: (ثمّ اعلم: أنّ النقطة كانت في عمائها حالة استهـلاك الحروف في ذاتها، وكان لسان كلّ حرف يطلب ما تقتضيه حقيقته من طول وقصر وعمق وغير ذلك، وهكذا تحرّكت دواعي الكلام على وفق ما تقتضيه أوصاف النقطة الكامنة في ذاتها))([67])

بهذه اللغة البسيطة الممتلئة بالأمثلة المبسطة حاول الشيخ ابن عليوة أن يفلسف سر نشأة الكون وعلاقته بخالقه، ويفسر على أساس ذلك مشاهدات العارفين، وهو بذلك يطرح التصور الصحيح لمعنى وحدة الوجود الذي لا يلغي الخالق، ولا يلغي الخلق، وإنما يجعل الخلق قائما بالخالق، مفتقرا إليه في كل نفس.

وقد شرح الشيخ ابن عليوة – قبل ذلك كله- مراده من رموزه مع وضوحها لمن له اطلاع على كتب الصوفية، فقال: (وكلّما ذكرت آدم فنعني به نزول الحقّ إلى سماء الدنيا, ونعني بالدنيا بطون الكائنات في غياهـب الأسماء والصفات, ونعني بالصفات ظهور الحقّ لنفسه عند تجليه الأول, وبالأسماء ظهور الصفات لنفسه عند التجلي الثاني, والأول هو عين الثاني, وهذان رتبتان: هما المعبّر عنهما بالأوليّة والأخريّة, والظهور والبطون, فظهوره في بطونه, وأوله في آخره ومن هنا يقال: لا نفي ولا إثبات إنّما هو ذات في ذات وهاته الذات هي المعبّر عنها في لسان القوم بوحدة الشهود والمشار إليها في الأثر الشريف بالنقطة, وهي التي تدفقت منها سائر الكائنات حسبما تقتضيه الأسماء والصفات, وكّلما ذكرت النقطة فنعني بها غيب الذات المقدّسة المسمّاة بوحدة الشهود, وكلّما ذكرت الألف فنعني به واحد الوجود المعبّـر عنه بالذات المستحقّة للربوبيّة, وكلّما ذكرت الباء فنعني بها التجلّي الأخير المعبّر عنه بالروح الأعظـم, ثمّ بقيّة الحروف, والكلمات والكلام فعلى حسب ما يقتضيه المقام)([68])

هذا هو التوضيح الممكن في هذا الباب، أما ما عداه فغير ممكن، لأن لكل فن لغته الخاصة به، ولا يمكن لأي لغة في الدنيا أن تعبر عن مثل هذه الحقائق العظمى، فلذلك يعوضها الصوفية بلغتهم الرمزية البسيطة الجميلة الواضحة.

والعجب من الذين ينكرون هذا لعدم فهمهم له، ونحن نقول لهم: إن أكثر الناس لا يفهم نظرية النسبية، ولا سر أرقامها ورموزها، وذلك لا يعني أن نظرية النسبية غير صحيحة ولا غير واقعية.

والسر في هذا أن الحقائق الكبرى لا يمكن التعبير عنها بلغة لم توضع أصلا إلا للحسيات، وهي لذلك أضعف من أن تطيق حمل مثل تلك المعاني العالية التي يشير إليها خاصة خاصة الأمة.

وللأسف فإن الذين ينكرون هذا يحملون عادة تصورا مشوها عن الله بحيث يعتبرونه كجرم من الأجرام السماوية المحدودة المجسمة، وإذا ما عرضت عليهم مثل الطروحات الممتلئة بالتنزيه والتعظيم خلطوها بما في نفوسهم من التبشبيه والتجسيم، فلم يجدوا إلا أن يضللوا قائل ذلك أو يكفروه.

وللأسف وقعت الجمعية في هذا لا مع الصوفية وحدهم، بل مع التنويريين أيضا، والذين رأينا مدى الصلة التي تربطهم بهم، فابن باديس حكم بضلال عمدة من عمد السلفية التنويرية وهو الأستاذ محمد فريد وجدي عند عرضه لكتابه (الإسلام دين علم خالد)([69])، فمما جاء في عرضه له قوله: (ألف الأستاذ محمد فريد وجدي كتابا تحت هذا العنوان بحث فيه في الوحي والدين والإسلام، فوفى البحث حقه. وقد كان بعض المعجبين بالأستاذ أطلعني على الكتاب فوقفت فيه على أشياء أنكرتها منها: تعبيره عن موجد الكون بروح الكون وجعله الحياة الإنسانية قبسة من الحياة الوجودية، ويعني بالحياة الوجودية ما عبر عنه بروح الكون وهذا صريح في أن الروح الإنسانية مأخوذة من الله تعالى، جل الله عن ذلك، وكيف يؤخذ الحادث من القديم؟ ومنها زعمه عن الموجودات (ص 12) أنها سابحة في روح الوجود سبح الحيتان في المحيط الزاخر، منه وجدت وبه تحيا وفيه تفنى، وكما كان تعبيره عن موجد الكون بروح الوجود من العبارات الحلولية الموهمة أن الموجد سار في الموجودات فقد كان تعبيره هنا بأنها سابحة فيه وتفنى فيه مقتضيا أنها حالة فيه وكلا الأمرين محال باطل اعتقاد)([70]) إلى آخر ما أنكره عليه.

ولست أدري لم لم ينكر قبله على الشيخ محمد عبده، فقد كتب في (رسالة الواردات في سر التجليات)([71]) ما هو أخطر من هذا من كثير، فالكتاب مبني على منهج ابن عربي وأمثاله، ولسنا ندري هل الجمعية اطلعت على الكتاب وكتمته خشية أن تنتصر لشيخ الحلول وطريقته، أم أنها لم تطلع عليه، وهذا يدل على جهل كبير بالشيخ الذي تعتبره أستاذا لها.

ولهذا نجد الشيخ ابن عليوة في ردوده على الجمعية وغيرها من المنكرين يذكر لهم مواقف الشيخ محمد عبده من مثل هذه القضايا، فقد ذكر أن الشيخ محمد عبده لم يكن صوفيا سلوكيا فقط، بل كان فوق ذلك صوفيا عرفانيا، يقول الشيخ ابن عليوة: (أما معلوماته في مشرب القوم الصوفية فهي تبرهن بنفسها على أن له قدماً راسخةً في معلوماتهم وإن شئت قلت: رحمه الله من المتغالين في إثبات وحدة الوجود على ما يشبه مشرب (ابن العربي الحاتمي) حسبما قدمناه) ([72])

ومما نقله عنه في هذا المجال (ما جاء عنه في الجزء الثاني من رسالته (المسماة بالواردات)، فقد جاء فيه ما نصه بعد كلام: (ولنرجع لتحقيق الحق فنقول أنت تعلم أنه لما لم يكن وجود إلا لذاته فحقيقته حقيقة الحقائق وذاته ذات الذوات وجميع ما تتوهمه إنما هو من الاعتبار لتلك الذات فلابد أن تقول أن علمه عين ذاته وهو عين علمه بذاته وهو عالم بجميع شؤونه وأطواره وأن جميع ما تشرف بالبروز فإنما هو تجلي ما في العلم ولكن لضيق ظرف الخارج عن أن يسع المراتب الغير المتناهية التي يقتضيها حسبما لكل شيء في ذاته حصل الترتيب في التجيلات فكما أن ذاته واحدة بالذات والكثرة إنما وقعت في عالم التجليات فما برز في الوجود إلا ما كمن في العلم الذاتي، ولا فصل إلا ما أجمل فيه، فهو العالم بكل شيء لا يعزب عنه مثقال ذرة، فدقق النظر، وإياك أن تحجبك الكثرة عن ذات الوحدة، فإن البحر لو علم بذاته فليس يحتاج إلى علم آخر يعلم به أمواجه، وهذا قد يوافق وجه قول من يقول أن العلم قديم ومتعلقه حادث، ولكن قد ضل سواء السبيل فوقع في تيه الأباطيل وأيضاً يقرب مما يقال أن للأشياء وجوداً علمياً ووجوداً شهودياً ومما يقال أن للشيء وجوداً بحسب ذاته ووجوداً في ذات العلة فتفطن وطبق إن كنت من أهل النظر)([73])

وقال في ثبوت الواجب بعد كلام: (فإذاً حدوث شيء من العدم الصرف محال وهذا حكم بديهي قد نبهناك عليه فإذاً جميع ما صدق عليه اسم الممكن محتاج إلى علة ليست تلك العلة مباينة له بالمرة، وتلك العلة تنتهي إلى مرجع خارج عن ماهية الإمكان وهو الواجب الحقيقي الذي هو وجود لذاته، وكل مقيد فهو محتاج إليه وهو منتهى التقيدات ومرجعها {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ } [هود: 123] مع كون المعلول ليس مبايناً لعلته كذلك هو ليس عين العلة، ولكن طور من أطوارها وشأن من شؤونها ولا وجود له إلا وجودها، فإذاً ليس في الوجود الحقيقي الذاتي إلا ذات مطلقة واحدة لا تعدد فيها إلا بتعدد اعتباراتها، ولا تقييد فيها بوجه من الوجوه وهو واجب الوجود فافهم. ليس في الإمكان أوسع من هذا البيان، وتوضيح الواضح مشكل، فالحق بين يديك ظاهر فلا تشغل نفسك بأباطيل التسلسل فإنه تحتاج إلى أوهام ملء الأكوان)([74])

ثم ذكر أمثلة على ذلك تقترب كثيرا مما يضربه الصوفية من الأمثلة، فقال: (تقريب لا تستبعد أن المعلول شأن من شؤون علته فإنك لست تغفل عن كون البيت شأناً لأجزائها واعتباراً من اعتباراتها، والشجرة طور من أطوار الحبة وشأن من شؤونها، والأمواج طور من أطوار البحر وشأن من شؤونه، وهكذا جميع الأمور.. والعجب للمتكلمين والحكماء المقلدين لما عجزوا عن الارتقاء إلى درجات الكمال كيف اتخذوا العدم سلماً لتطلع الحقيقة، ويزعمون أن هذا تنزيه لحضرته، ولكن نحن نقول فليس وجود إلا وجوده وليس وصف إلا وصفه فهو الموجود وغيره العدم.. قال الأمراء الأولون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ما رأيت شيئاً إلا رأيت الله قبله أو بعده أو فيه أو معه كل واحد من هذه الأقوال ينسب لواحد منهم ولا يقعن في وهمك أن هذا قول بالحلول فالحلول إنما يكون بين وجودين أحدهما حال في الآخر ونحن نقول لا وجود إلا وجوده)([75])

4 ــ موقف الصوفية من (الحلول والاتحاد)

بناء على ما سبق من مفهوم (وحدة الوجود) عند الصوفية، فإن أي عاقل يجزم باستحالة قولهم بالحلول أو الاتحاد، ولو لم يطلع على إنكارهم لذلك.

ولهذا فإنا نرى أن في جمع الجمعية للتهمتين جميعا في محل واحد، ورميهم للطرق الصوفية بهما دليل على أنهم إما لم يفهموا المراد من وحدة الوجود، أو لم يفهموا المراد من الحلول والاتحاد، أو لم يفهموهما جميعا، وهذا هو الظاهر باعتبار أن ثقافة رجال الجمعية فيما يخص المعارف العقلية والصوفية محدودة جدا، حتى أنا لا نرى من خلال مقالاتهم الرجوع إلى أبسط المصادر الصوفية كالإحياء ونحوه، وكيف يمكن لمن لم يدرس كتب أي طائفة ويفهم مقاصدها أن يحكم عليها.

ولهذا فإنا نرى أن الجمعية في هذا الباب لم تفعل سوى التقليد لأعدى أعداء الصوفية، وأنها تجنبت حتى مقولات علماء التيارين السلفيين المحافظ والتنويري، فلو أنها طالعت كتب ابن تيمية أو ابن القيم أو محمد عبده لم تقع في مثل تلك الأحكام.

ولهذا فإن الشيخ ابن عليوة – كما ذكرنا في محال سابقة- يرشد الجمعية إلى مطالعة كتب ابن تيمية، وكيف تعامل مع الصوفية والتصوف، وقد قال فيما يرتبط بهذا المحل: (إن ابن تيمية رحمه الله ما كان من عادته أن يجر ذيل الإنكار على مذهب التصوف برمته، ولا عرف بنظير ما تظاهرتم به أنتم ومن تقاسمكم في غلطكم، انما في غلطكم إنما ينتقد بعض كلمات على جماعة مخصوصين، ومع ذلك تجده يلتمس ما يستطاع من الأعذار لرجال التصوف، وهكذا تجده يحرص جهده في طريق حمل ما يصدر عن القوم من الألفاظ المبهمة والمتشابهة على ما ينبغي حمله عليه)([76])

ثم نقل عن ابن تيمية من كتابه (الجواب الصحيح في الرد على من بدل دين المسيح) بعد تمهيده لما يصدر عن الصوفية من الشطحات أو الألفاظ الموهمة للحلول والاتحاد فقال: (وهذا يكون اما لضعف العقل او قوة سلطان المحبة والمعرفة فيغيب الانسان بمعبوده عن عبادته وبمحبوبه عن محبته وبمشهوده عن شهود العبد لا انه بنفسه يُعدم ويبقى من لم يزل في شهوده ومن هذا المقام ما يحكى عن ابي يزيد البسطامي من قوله (سبحاني) او (مافي الجبة إلا الله)([77])

ونقل عنه في هذه حكاية وهي (ان شخصاً كان يحب آخر فألقى المحبوب نفسه خلفه فقال له انا وقعت فلم وقعت أنت؟ فقال غبت بك عني فظننت انك اني، فهذا العبد المحب لما استولى على قلبه سلطان المحبة صار قلبه مستغرقاً في محبوبه لا يشهد قلبه غير ما في قلبه وغاب عن شهود نفسه وأفعاله فظن أنه نفس المحبوب إلى أن قال ومن تصور له هذا الأمر تبين له أن لفظ الحلول قد يعبر به عن معنى صحيح وقد يعبر به عن معنى فاسد إلخ)([78])

ونقل عنه (في معنى الاتحاد الذي قد يؤخذ من كلام الصوفية بعد كلام وتمهيد إنما العقلاء تتوجه قلوبهم إلى المقصود المراد دون الوسائل ويعبرون بعبارات تدل على ذلك لظهور مرادهم كما يقول لمن يعرف علم غيره ولمن يأمر بأمره ويخبر بخبره هذا فلان اي المطلوب هو مع هذا فيعبرون عن أحدهما بلفظ الآخر كما يقال (عكرمة هو ابن عباس) وأبو يوسف هو أبو حنيفة وهذا هو الاتحاد الذي يشير له القوم. ومن هذا الباب ما يذكر عن المسيح عليه السلام انه قال: (أنا وأبي واحد، من رآني فقد رأى أبي)، وقوله تعالى فيما حكاه عنه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم: (عبدي مرضت فلم تعدني.. عبدي جعت فلم تطعمني)([79]) ويشبهه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح: 10]، فينبغي أن يعرف هذا الكلام فإنه تنحل به إشكالات كثيرة فإذا كان مثل هذا موجوداً في كلام الله ورسوله وكلام المخلوقين في عامة الطوائف مع ظهور المعنى ومعرفة المتكلم والمخاطب أنه ليس المراد أن ذات أحدهما اتحدت بذات الآخر بل أبلغ من ذلك يطلق لفظ الحلول والاتحاد ويراد به معنىً صحيحاً)([80])

ثم علق على هذا النقل بقوله: (وأطال النفس في ذلك كثيراً، وهذا شأنه في التماس المخارج للسادات الصوفية وكثيراً ما يشاركهم في أذواقهم ومشاربهم العذبة)([81])

بناء على هذا لا نرى أننا نحتاج إلى أدلة الصوفية المطولة في بيان استحالة الحلول والاتحاد، ولكنا مع ذلك نذكر كلاما مختصرا رد به الشيخ ابن عليوة على المنكرين عليه ما ورد في ديوانه من أبيات توهم الحلول أو الاتحاد، وهي رسالة بعث بها إلى أحد الأساتذة المدرسين بحاضرة تونس (جامع الزيتونة)، ومما جاء فيها مما له علاقة بهذا قوله: (ذكرتم في مضمونها أنّ في إنشادنا من الألفاظ ما لا يخرج عن القـول بالحلول أو الاتحاد إلاّ بالتأويل البعيد، وهذا أيضا ينظر فيه، لأنّك إمّا أن تريد بقولك هذا تحقيق المذهب من جهة مصطلح القوم، وما بنيت عليه قواعدهم، وهذا قد حصل فيه للأمّة المحمديّة ما يقرب من الإجماع، من جهة تسليمهم للقوم في شطحاتهم، وإنّ القوم أنفسهم لا يكلفون الناس العمل بمقتضى شطحاتهم، فهي عندهم إلى الرد أقرب منها إلى الأخذ، وعلى هذا فلا يبعد أن يكون ما صدر منا داخلا فيما قبله، وإن أردت أن تستصغر ممّا سمعته منّا فلتطبقه على ما قبله من أقوال غيرنا، ثمّ تحكم بمقتضى الإنصاف وهذا إن لم تكن ترد معارضتنا شخصيّا، حتى لو قلنا لك قصدت ذلك على احتمال، فلا يتسنى لكم أن تفردوا لنا حكما بالخصوص دون ما يصدق على كلّ من يشاركنا في القول المحكوم به علينا، وقبل هذا يثبت الحكم، بأن لا يتعجّل بالحكم قبل أن يتخيّل إفراد المحكوم عليهم من سلف الأمّة وخلفها)([82])

ونحسب أن هذا الدليل كاف في بيان أن مراد الشيخ مما كتبه في ديوانه ليس على ما يتوهم من الحلول والاتحاد، وإنما هو على طريقة الشعراء، وابن تيمية كما رأينا وإن كان ينكر ذلك إلا أنه لم يتجرأ على الحكم على أصحابه بأنهم مشايخ حلول كما فعلت الجمعية.

المطلب الثاني: وحدة الأديان بين الجمعية والصوفية

من التهم التي اتهمت به الجمعية الطرق الصوفية، ولكن في إطار محدود اتهامهم لها -وخصوصا الطريقة العلاوية – بكونها من القائلين بوحدة الأديان([83]).

ولعل من أهم ما يدل على هذا ما ذكره الزاهري من أن من أتباع الطرق الصوفية يهود ظلوا على يهوديتهم، وأن العلاقة التي تربط مريدي الطريقة بهم أكثر من العلاقة التي تربطهم بالمسلمين، فيقول – على لسان هذا الطرقي التائب -: (كان اليهود في بعض نواحي الصحراء، قد دخلوا هم أيضاً في الطرق الصوفية، من غير أن يدخلوا في الإسلام، وكان قد اعتنق طريقتنا منهم عدد غير قليل، فجعل سيدنا عليهم (مقدما) يهودياً منهم.. ولا أكتمكم، أننا كنا نحب هذا المقدم اليهودي، ونحب هؤلاء اليهود الذين هم إخواننا من الشيخ أكثر مما نحب أي مسلم من المسلمين، الذين يتبعون الطرق الأخرى،وكما أن اليهود يسمون غيرهم-[الكوييم]- فإننا نحن أيضاً نسمي غيرنا من المسلمين باسم القراميط.. وبالجملة،فلم نكن نعرف الحب في الله،والبغض في الله،وإنما كنا نعرف الحب في الشيخ والبغض في الشيخ)([84])

ولتبين حقيقة هذه التهمة نحب أن نراجع ما كتبه الصوفية، وخصوصا رجال الطريقة العلاوية، لنرى محل هذه التهمة من الصحة وعدمها.

ومن خلال هذه المراجعة نرى أن للصوفية ثلاث مقامات في العلاقة مع الأديان، وهي ترتبط بمقاماتهم الثلاثة: الشريعة والطريقة والحقيقة.

فالمقام الأول: هو مقام الشريعة، والمقام الثاني: هو مقام الطريقة، والمقام الثالث: هو مقام الحقيقة.

وسنبحث عن موقف الطرق الصوفية وخصوصا الطريقة العلاوية من هذه المسألة وفق المقامات الثلاث.

أولا ــ مقام الشريعة:

من خلال الاطلاع على ما كتبه الصوفية في هذا المقام نجدهم لا يختلفون عن سائر المسلمين في موقفهم من الأديان، وبطلانها، وأن الدين الوحيد الذي يجب اتباعه هو الإسلام، وأن كل ما عداه ضلالة، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]

وبما أن التهمة موجهة خصوصا للطريقة العلاوية، فإنا نحب أن نرجع هنا إلى شيخ الطريقة العلاوية نفسه لنتين من خلاله تعامله الشرعي مع غير المسلمين، وخصوصا المسيحيين، وخصوصا منهم من كانوا في الجزائر في ذلك الحين.

ومرجعنا في هذا ثلاثة رسائل من أهم رسائل الشيخ لم تلق العناية الكافية، وهي جميعا موجهة لغير المسلمين خصوصا، فمن خلالها نستطيع أن نرى موقف الشيخ من سائر الأديان، وهل يقول بوحدة الأديان في هذا الجانب أم لا؟

1 ــ الأبحاث العلاوية في الفلسفة الإسلامية:

وهي الرسالة الأولى، والتي طبعتها (جمعية أحباب الإسلام)، بباريس باللغتين العربية والفرنسية (1984)، تحت عنوان (الأبحاث العلاوية في الفلسفة الإسلامية)، وهي مجموعة أبحاث أراد الشيخ من خلالها بيان ضرورة الشيخ وأهميتها لحياة الإنسان والمجتمع، وقد صاغ أبحاثة فيها على شكل فلسفي منطقي حتى يقرب معانيها لغير المسلمين أولا، وللمسلمين المترددين في صلاحية الدين ثانيا.

وقد تحدث في هذه الرسالة عن حقيقة الإنسان، ووظيفته في المجتمع الذي يعيش فيه، وافتقار المجتمع الإنساني إلى السلطة التي تسوسه، وكون التشريعات الوضعية المتغيرة لا تحل محل الشرائع الإلهية الثابتة الحقائق، وخلوها من الأغراض الشخصية التي لا تنفك عنها تشريعات البشر، لكون العقل يتطرقه الخطأ كغيره من المدركات، وأن الفلسفة الصحيحة لا تنفي وجود المدنية لهذا العالم لأن التدين غريزة البشر، والإنسان العصري أحوج إلى التدين من الإنسان الغابر، ويقرر الشيخ أن مقاصد الشرع لا تخرج من مراعاة حفظ الضروريات للإنسان.

وهو في هذه الرسالة كما نرى لا يدعو إلى الدخول في الإسلام فقطـ، بل يدعو إلى تحكيمه في الحياة جميعا.

وعلاقة هذا الكتاب بما نحن فيه واضحة، فالشيخ لا يدعو إلى تحكيم اليهودية ولا النصرانية، وإنما يدعو إلى تحكيم الشريعة الإسلامية.

ولا بأس من عرض بعض الاقتباسات هنا لنتبين من خلالها الطريقة التي يدافع بها الشيخ عن الشريعة وضرورة تحكيمها في الحياة:

ففي المبحث الرابع من مباحث الرسالة يرد على من يقول: (إنّ صوت الضمير ينوب عن الدين في ردع الإنسان عن المنكـــرات)([85])، ولا شك أن هذا ليس خطابا للمسلمين وحدهم، بل هو خطاب لغير المسلمين، ففكرة الضمير ونيابته عن الشريعة فكرة غربية، ولهذا راح الشيخ يرد عليها.

وقد استفتح رده بتوضيح الشبهة وأدلتها: (من المحتمل أن يقال إنّ ما أجمع عليه القدماء من لزوم مراعاة الشرائع الإلهيّة في حفظ ما للإنسان، وما عليه هو من ضرورة الظروف الغابرة جريا على محاولة الغاية التي يرمي إليها كلّ مصلح، وليس هي إلاّ استتباب الأمن وتقرير أسبابه بين أفراد البشر، أمّا الآن فقد تهذبت الأفكار وترّقت العقول إلى غاية كفيلة بتنظيم مهماتها على طريقة لا تفتقر معها إلى شيء من نحو الشرائع الإلهيّة تستند إليه وإنّ الإنسان يكفيه صوت الضمير زاجرا من باطنه عن ارتكاب ما لا ينبغي ارتكابه)([86])

ثم أخذ يرد عليها بقوله: (فأقول: إنّها خزعبلة قد تنخدع لها صغار النفوس، ودعوة باطلة منقوصة بالظواهر حسبما تشهد به الإحصاءات من الجرائم اليوميّة، وتلك الجرائم ضرورة صادرة عن غير المتدينين في الغالب وأين أولئك من أصوات ضمائرهم إن كانت لهم ضمائر لها أصوات زاجرة كما يقولون، ولكنّها الإباحة إذا تسرّبت إلى أمّة تجعل الإيمان يتسلل منها رويدا إلى أن تحل مكانه، وإذا لا تكتفي إلاّ برفع الحواجز التي من جملتها صوت الضمير أيضا، لأنّه حائل بين المرء وشهوته فهو ضرب من التقيّيد الذي يعتقد الإباحي أنّ الراحة من ورائه، وهذا إن كان له صوت ينازعه للعمل ولا يكون إلاّ ضئيل النزال معدوم النتيجة لانتهاك قواه بانتهاك الإيمان بالغيب، وحيث إنه غيب يعتمد في مذهب الإباحي فيكون وجوده يعتبر ضربا من الوسوسة عنده التي هي أحرى بالتغفّل عنها سعيا وراء صفاء الوقت في صريح الانهماك.. وبالجملة إنّ الاعتماد على صوت الضمير في حفظ ما للإنسان، وما عليه لا تقوم به حجّة عند المنصف، أمّا من غلبت عليه شقوته فلا يرى إلاّ قضاء شهوته بأي طريق كانــــت)([87])

ثم ينتهي بخلاصة ينص عليها بقوله: (إنّ الخلاصة والفائدة من هذا ليتحقّق الإنسان أن لاشيء جدير بالاعتماد عليه في مؤازرة السلطان في حفظ ما للإنسان، وما عليه من الوازع الدينيّ، وتنمية الشعور بما بعد الموت إلاّ الإيمان)([88])

وهكذا يستمر الشيخ من مقدمة إلى مقدمة، حتى ينتهي في الأخير إلى النتيجة التي أرادها من خلال هذه الأبحاث، وهي ضرورة الشريعة الإسلامية للحياة بجميع جوانبها.

ولعل أحسن تعبير يدل على هذه النتيجة ما أورده في (البحث الرابع والعشرين)، والذي خصصه لبيان (كون الشرائع الإلهيّة لم توضع إلاّ لحفظ قوام الإنسان، ومراعاة مصالحـه)، ومما جاء فيه قوله: (غير خاف في كون الإنسان ذا مصالح يعسر تتبعها تفصيلا غير أنّها لا تخرج عن ضروب ثلاثة. فهي إمّا أن تكون ضروريات لوجوده، وإمّا حاجيّات لقوامه، وإمّا تكميليّات لتوسعاته في المعاملات، وكلّ ضرب منها موقوف على ما قبله: فالحاجيّات لا يلتفت إليها قبل الضروريّات، والتكميّلات لا يلتفت إليها قبل الحاجيّات، وكيفما وقع التفريع فأصول الضروريّات لا تخرج عن خمسة أشياء جاء الشرع الإلهيّ بالمحافظة عليها، وهي: النفس والعقل والعقيدة والنسل والمال، وهاته الأصول لا يستمرّ وجودها الإنسان غالبا إلاّ بجميعها، وكلّ منها يعتبر أصلا تنبني عليه أصول، والمعنى أنّ لكلّ ضروري منها ضروريّات، وأحرى ما وراء ذلك من الحاجيّات والتكميليّات)([89])

وبعد أن بين ما يذكره المقاصديون من أنواع الضرورات والحاجات والتحسينات، قال: (أمّا الشرع الإلهيّ لا يسمح بأي خلل أو نقص يلحق مصالح الإنسان، ولهذا حفظ لنفسه حقّ التدخل في سائر شؤونه بما أنّه لا يعترف برشد الإنسان، ولن يعترف به وإلاّ لتركه وما صنع، وماذا عسى أن يصنع أكثر ممّا هو صانعه الآن، وقبل الآن وهكذا بعد الآن {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34].. إنّ الخلاصة والفائدة من هذا ليعلم الإنسان أنّ الشرع الإلهيّ له تمام التدّخل في المحافظة على مصالح الإنسان في سائر أطواره وعموم تقلباته، وهكذا يبقى أحبّ الإنسان أم كره)([90])

والرسالة في جملتها مفيدة جدا وخاصة في مواجهة اللادينيين والعلمانيين ونحوهم، وفيها الأدلة الكثيرة على أن التهمة التي يوردها خصوم الشيخ حول اعتقاده بوحدة الأديان لا مبرر لها.

2 ــ مظهر البينات في التمهيد بالمقدمات

وهي مقدمة مهد بها الشيخ ابن عليوة لكتابه (الأجوبة العشرة)، وتتضمن مقدمة مستفيضة في خمسة وعشرين فصلا، وقد عرفت الرسالة بأنها تبحث في (أهم مسألة تشغل العالم أجمع، وهي ضرورة الشرائع الإلهية لبني البشر، وان الإنسان لابد له من دين يتضمن سعادة الدارين، ومركزه الأهم التوحيد، ثم الانقياد فيما أمر ونهى وأراد حسبما تتوقف عليه ما يوافق الحاضر، وفيها رد على الفلاسفة والدهرين الذين ضل سعيهم في العلم الإلهي بسبب استخدام العقل في ما وراء طوره، وفيها دعوة أوروبا العظمى إلى الإيمان بالقرآن الذي يلائم مدنيتها الحاضرة)([91])

3 ــ الأجوبة العشرة:

وهي أكثر الرسائل ردا على التهمة السابقة، وقد كتبها الشيخ ردا عن أسئلة عشرة وجهها شارل طابيي (عبد الرحمان طبي) للشيخ واشترط في تحرير إجابتها منهجية معينة، وتعهد بأن يتولى هو ترجمتها للفرنسية، وتمثلت الأسئلة العشرة كما نقلها الحسن بن عبد العزيز عن السائل بعد أن ترجمها للشيخ فيما يلي:

الأول منها: هل الإسلام يضمر سوءا لمن سواه من الأمم أو يسمح بالمودة والبر؟

الثاني: ما هي عقيدة الإسلام في الأناجيل الموجودة الآن بين أهلها؟

الثالث: هل ترون أن المسيحيين يلزمون باعتناق الدين الإسلامي أم لا؟

الرابع: هل أحكام الإسلام تطابق المدنية العصرية أم لا؟

الخامس: هل يوجد في الأحكام الشرعية منافع دنيوية زيادة عن كونها تعبدية؟

السادس: ما هي عقيدة الإسلام في الإله وما هي دلائل وجوده عندكم؟

السابع: ما هي عقيدة الإسلام في محمد عليه السلام وما هي دلائل نبوته؟

الثامن: ما هي فائدة الأمة الفرنسوية لو اعتنقت الدين الإسلامي على التقدير؟

التاسع: هل يوجد في الإسلام من الرخص ما يوافق حال المبتدئين إن قصدوا الدخول فيه؟

العاشر: بأي قول أو فعل يلزم من أراد اعتناق الإسلام بحيث يكون كافيا له في كونه مسلما([92]

ولا نستطيع في هذا المقام أن نتعرض بتفصيل لما ذكره الشيخ، ولكن المهم فيها والذي يتعلق بغرضنا هو أن الشيخ في هذه الرسالة دعا المسيحيين إلى الإسلام، ولو أنه كان يقول بوحدة الأديان لما فعل ذلك.

فمما جاء فيها قوله: (وأي لوم يلحق المسيحيين لو التفتوا أدنى التفات للبعثة المحمديّة، مع التأمّل في جيئها بعد المسيح، لينظروا ما عسى أن يكون ذلك المبشّر به في الإنجيل، وهل لا يجعلون للبشائر المسيحيّة أدنى مكانة: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} [البقرة: 210]، جاء محمد صلى الله عليه وآله وسلم عقب بعثة المسيح بنحو خمسمائة سنة، فقال: (أنا دعوة أبيكم إبراهيم وبشارة عيسى)([93])، فآمنت به طائفة من النصارى، وكفرت به طائفة، وذلك بسبب توهمّها أنّه ليس هو ذلك المبشر به، فقد اتضح الآن صدقه، كما اتضح صدق المسيح عليهما السلام بتصريحه عن المبعوث بعده.. ويتّضح لنا صدق ذلك من خلاصة أقوال سيّدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنّه هو ذلك المبعوث في الإنجيل، وليس بعده نبيّ حتى ينتظر.. إنّ هذا الخبر إلى الصدق أقرب، وبالواقع أنسب، بما مرّت عليه من السنين وعددها أربعة عشر قرنا، وهي كفيلة في تحقيق صدقه في كونه هو ذلك المبشّر به)([94])

إلى آخر النصوص الكثيرة التي نتعجب أن يدعى بعدها بأن الشيخ يقول بوحدة الأديان.

ونحن نتأسف أن تظل مثل هذه الرسائل مخطوطة، أو في حكم المخطوط، بل إن بعضها كاد ينقرض، في نفس الوقت الذي نهتم فيه بإحياء الجدال والسباب والمناقشات العقيمة، لا لشيء إلى لأننا غلبنا البيان على القرآن، وغلبنا الألفاظ على المعاني، وغلبنا الأهواء على الحقائق.

ثانيا ــ مقام الطريقة:

وهو المقام الثاني في التعامل مع الأديان، وهو مقام قد يثبت التهمة لمن لم يفهمه أكثر من أن ينفيها، ونحن لا يعنينا هنا أن ننفي التهمة، وإنما يعنينا أن نعرف الحقيقة المجردة، ثم نترك للقارئ بعدها ليحكم ما يريد.

وينطلق الصوفي في هذا المقام من قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران: 64]، ففي هذه الآية دعوة لأهل الكتاب إلى القاسم المشترك بينهم وبين المسلمين، وهو عبادة الله وتوحيده، باعتبار أن الله الذي يعبده أهل الكتاب هو نفسه الله الذي يعبده المسلمون كما قال تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [العنكبوت: 46]

وبناء على هذا يظهر التسامح الصوفي مع الآخر مقابل التشدد السلفي معه، وبناء على هذا أيضا نفهم السر في كون الصوفية هم الأكثر استعدادا لنشر الإسلام بين الطوائف المختلفة.

فهم لا يمتنعون أن ينتمي لطريقتهم – كما ذكر الزاهري ناقدا- اليهودي والمسيحي واللاديني حتى لو بقي على دينه وملته.. ذلك أنهم لا ينظرون إليهم بتلك النظرة القاسية التي ينظر بها المخالفون، وخاصة من أصحاب التيار السلفي الذين يدعون إلى التكبر على الآخر والاستعلاء عليه، والتجهم في وجهه ونحو ذلك.

وقد عبر عن هذه النظرة الصوفية الجميلة آخر شيوخ الطريقة العلاوية الشيخ خالد عدلان بن تونس في كتابه الذي لقي ضجة كبيرة (التصوف الإرث المشترك)، والذي أصدره بمناسبة الذكرى المئوية لتأسيس الطريقة الشاذلية الدرقاوية العلاوية تناول فيه تاريخ التصوف منذ بداية الإنسانية، والنبوة، والرسالة، والبعثة المحمدية، والمدارس، والطرق الصوفية، وغير ذلك.

وقد لقي هذا الكتاب معارضة كبيرة من طرف جمعية العلماء المسلمين الجديدة، ومن طرف شيخها عبد الرحمن شيبان، والذي أعاد بذلك الصراع القديم بين الجمعية والطريقة العلاوية.

وسبب الصراع – للأسف – ليس ما طرح في الكتاب من أفكار، فالجمعية لا زالت على عهدها بالتقصير في المطالعة، وإنما سبب الحملة الشديدة ما رأوه من صور رمزية تاريخية توهموا أنها تجسد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مع أن الكتاب في أصله خطاب للآخر، وهو يهتم بمثل هذه الفنون.

وحتى لا نكون موالين لأي جهة من الجهات، ننقل الخبر ومفرزاته كما أوردته جريدة (صوت الأحرار)([95])، فقد ورد فيها هذا الخبر: ورد إلى (صوت الأحرار) أمس بيان شديد اللهجة حمل توقيع الشيخ عبد الرحمن شيبان رئيس جمعية العلماء المسلمين الذي قال فيه إن جمعيته تلقت باستغراب واستنكار ما نقله صاحب كتاب (الصوفية الإرث المشترك)، حيث أشار البيان إلى أن هذا الكتاب تضمّن فعلا صورا للرسول الكريم وحوله صحابته رضوان الله عليهم يلقنهم القرآن، بالإضافة إلى صور سيدنا جبريل عليه السلام في هيئة امرأة.. ولم يفوّت الشيخ شيبان الفرصة لشجب كتاب بن تونس زعيم الطريقة العلاوية حيث أوضح بشأنه أن فيه مساسا بالمقدسات الإسلامية والرموز الوطنية على اعتبار أن المؤلّف تضمّن كذلك صورة للأمير عبد القادر وسط نجمة داوود رمز الصهيونية والكيان الصهيوني، ووصل الأمر برئيس جمعية العلماء المسلمين إلى حد مطالبة السلطات الرسمية في البلاد للتصدي لمثل هذه الاختراقات والتجاوزات التي تتنافى مع تعاليم الإسلام وتسيء إلى الجزائر وإلى التصوّف الحق.. وأكثر من ذلك فإن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي كانت أول من يهاجم هذا الكتاب الذي جاء في ما يزيد عن 400 صفحة، أكدت أن التصوّف الحق يرفض مثل هذا التصرف المناقض للقرآن والسنة والمخالف لإجماع الأمة، قبل أن تطالب بإلحاح على لسان الشيخ عبد الرحمان شيبان بسحب هذا الكتاب من التداول في السوق)([96])

هذا ما نقلته صور الأحرار عن موقف جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، أما موقف الطريقة العلاوية على لسان جمعيتها الثقافية فقد عبرت عنه بقولها: (وبالموازاة مع ذلك انتقدت جمعية الشيخ العلاوي للتربية والثقافة، بشدة، ردود الفعل التي تركها صدور كتاب خالد بن تونس الموسوم الصوفية الإرث المشترك، واعتبرت أن كل ما صدر من الجهات التي هاجمت الجمعية بمثابة بلبلة من أناس لا يفرقون بين الكاريكاتور والمينياتور (مجسّمات)، كما نفت في المقابل وجود أي خروقات أو تجاوزات أو حتى إساءة للإسلام ورموزه وبخاصة المساس بالرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم.. وأفاد الحاج عدة بن تونس رئيس الجمعية العلاوية في اتصال مع (صوت الأحرار) أمس أن الأجدر لكل من انتقدوا وهاجموا الكتاب أن يطّلعوا على مضمونه، مدافعا عن الشيخ خالد عدلان بن تونس الذي قال إنه معروف عنه دفاعه المستميت عن الإسلام وبالتالي لا داعي للمزايدات ومحاولة زرع البلبلة لأننا لم نأت بأمور جديدة حتى ننتقد بهذا الشكل..، ليضيف متسائلا: هل يجوز لشيخ مثل بن تونس أن يسيء للرسول الكريم مثلما تروّج له بعض الجهات؟)([97])

وبخصوص الصور التي ثارت حولها تلك الضجة قالت الجريدة: (وتابع محدثنا أن ما نشر في كتاب زعيم الطريقة العلاوية من صور ليس بالجديد لأنه مقتبس من التراث الإسلامي بحيث يعود عمرها إلى ثمانية قرون مضت، مشيرا إلى أنها كانت موجودة أفغانستان وبلاد الفرس وحتى في العهد العثماني، نافيا مجدّدا أي إساءة لرموز الإسلام، كما أقرّ بأن هناك صورتان في الكتاب للرسول الكريم ولكن، يضيف الحاج عدة، بها حاجب، ليؤكد أن الغرض من إبرازها هو ضرورة إعادة الاعتبار لأضرحة الصحابة وعائلة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم المحطمة في المملكة العربية السعودية بدل مهاجمة الطريقة العلاوية على هذا الكتاب.. أما بشأن صورة الأمير عبد القادر وسط نجمة داوود، فقد علّق عليها رئيس الجمعية العلاوية بأنها لا نتمثّل أي إساءة من منطلق أن النجمة من التراث الإسلامي وهي على علاقة بالدين الإسلامي وبرسولين بعثهما الله ويتعلق الأمر بسيدنا سليمان وسيدنا داوود، يبقى فقط – بحسب الحاج عدة – أن اليهود استغلوها واستعملوها في علمهم، واليوم أصبحنا نرى من يحرّمها وهذا جهل لتاريخنا، والنجم السداسي موجود في العهد العباسي وكذا العثماني، وبناء على ذلك أوضح محدثنا أنه ليس هناك تجاوزات ولا خروقات ولا ما يضر لا بالإسلام ولا بالرسول الكريم، وكل ما في الأمر أن الكتاب جمع ما هو موجود في التراث الإسلامي، مضيفا أن لا أحد يمكنه التشكيك في الشيخ خالد بن تونس، كما شدّد أنه باستثناء بعض الأصوات فإن الكتاب لقي صدى إيجابيا لأنه يرجع إلى التاريخ الإسلامي ويتضمن 900 صورة أغلبها تنشر لأول مرة.. وعليه فقد قلّل من أهمية الدعوات إلى سحبه)([98])

هذا ما نقلته الجريدة، ونترك الحكم بعدها للقارئ ليرى: هل في هذا من دعوة لوحدة الأديان بالمفهوم السلبي الذي يطرحه الوهابيون ومن يحوم حول حماهم من علماء الجمعية القدامى والمحدثينن أم لا؟

ثالثا ــ مقام الحقيقة:

يعتبر العارفون المسلمون – من الذي يصنفون ضمن مدرسة (التصوف العرفاني) أو (التصوف الفلسفي)، أو (التصوف البدعي!) – كما يلقبهم خصومهم – العرفان والذوق المصاحب له أساس جميع الفضائل الأخلاقية، وهو يتجلى أكثر ما يتجلى في التعايش مع الآخر والنظر إليه بنظرة مختلفة عن النظرة الدونية التي ينظر إليه بها المقتصر على ظواهر الشريعة، والذي يجعل من نفسه قاضيا يحكم على من يوافقه بدخول الجنة، ويحكم على المخالف بدخول النار.

وبناء على هذا، فقد كانت النظرة العرفانية للآخر هي أساس تهمة وحدة الأديان، ولهذا نحتاج إلى بعض التفصيل في طرحها حتى يتبين سرها وعلاقتها بهذه التهمة الخطيرة.

 ويمكننا من خلال استقراء الدوافع العرفانية للصوفية في هذا المجال أن نقسمها إلى ثلاثة أقسام أو ثلاث مراحل:

1 ــ نفي العبثية عن النظام الكوني:

فالعبثية تعني أن هناك أخطاء وانحرافات في النظام الكوني الذي أبدعه الله تعالى، وذلك محال، فالله تعالى يقول: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ } [ص: 27]

وما دام الأمر كذلك، وما دام الأمر بيد الله هو الذي يقلب المقادير، فلا معنى لرفض الآخر، أو عدم التعايش معه، أو النفور منه، وقد عبر ابن عربي عن هذه المعرفة عند ذكره لأخلاق الفتيان، فقال: (فالفتى من لا خصم له، لأنه فيما عليه يؤديه وفيما له يتركه فليس له خصم، فالفتى من لا تصدر منه حركة عبثا جملة واحدة ومعنى هذا أن الله سمعه يقول: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا } [ص: 27]، وهذه الحركة الصادرة من الفتى مما بينهما، وكذلك حركة كل متحرك خلقه الله بين السماء والأرض فما هي عبث، فإن الخالق حكيم)([99])

ثم يبين أثر هذه المعرفة في نفس الفتى وسلوكه، فيقول: (فالفتى من يتحرك أو يسكن لحكمة في نفسه، ومن كان هذا حاله في حركاته فلا تكون حركته عبثا.. وإذا كانت الحركة من غيره فلا ينظرها عبثا فإن الله خلقها أي قدرها، وإذا قدرها فما تكون عبثا ولا باطلا فيكون حاضرا مع هذا عند وقوعها في العالم فإن فتح له بالعلم في الحكمة فيها فبخ على بخ وهو صاحب عناية، وإن لم يفتح له في العلم بالحكمة فيها فيكفيه حضوره في نفسه أنها حركة مقدرة منسوبة إلى الله، وأن الله فيها سرا يعلمه الله فيؤديه هذا القدر من العلم إلى الأدب الإلهي)([100])

2 ــ الكمال الكوني:

وهو ما عبر عنه أبو حامد الغزالي في مقولته المشهورة: (ليس في الإمكان أبدع مما كان)([101]) وعبر عنه ابن عربي في مقولته: (لا تحقر أحدا من خلق الله، فإن الله ما احتقره حين خلقه)([102])

فكلا المقولتين تعبران عن النظرة الصوفية العرفانية للكون، فالكون بما فيه في غاية الإبداع والكمال، ولا محل للنقص فيه.

وقد شرح الغزالي مقولته بقوله: (لا ريب أن الله عز وجل لو خلق الخلق كلهم على عقل أعقلهم وعلم أعلمهم، وخلق لهم من العلم ما تحتمله نفوسهم، وأفاض عليهم من الحكمة مالا منتهى لوصفها، ثم زاد مثل عدد جميعهم علما وحكمة وعقلا، ثم كشف لهم عن عواقب الأمور وأطلعهم على أسرار الملكوت، وعرفهم دقائق اللطف وخفايا العقوبات حتى اطلعوا به على الخير والشر والنفع والضر، ثم أمرهم أن يدبروا الملك والملكوت بما أعطوا من العلوم والحكم لما اقتضى تدبير جميعهم مع التعاون والتظاهر عليه أن يزاد فيما دبر الله سبحانه الخلق به في الدنيا والآخرة جناح بعوضة، ولا أن ينقص منها جناح بعوضة)([103])

ثم استدل لهذا بأن كل (ما قسم الله تعالى بين عباده من رزق وأجل وسرور وحزن وعجز وقدرة وإيمان وكفر وطاعة ومعصية فكله عدل محض لا جور فيه وحق صرف لا ظلم فيه، بل هو على الترتيب الواجب الحق على ما ينبغي وكما ينبغي بالقدر الذي ينبغي، وليس في الإمكان أصلا أحسن منه، ولا أتم ولا أكمل، ولو كان وادخره مع القدرة ولم يتفضل بفعله لكان بخلا يناقض الجود، وظلما يناقض العدل، ولو لم يكن قادرا لكان عجزا يناقض الإلهية)([104])

3 ــ التجليات الجمالية في النظام الكوني:

فصوفية العرفان لم يكتفوا بالتسليم للإرادة والقدرة الإلهية وعدم الاعتراض عليها، وإنما ارتقوا إلى اعتبار كل ما في الوجود من صور وأحداث قد تبدو متناقضة تجليات للجمال الإلهي، وفي هذه المرحلة يرتقي التسامح العرفاني إلى أرقى درجات الكمال، لأنه يخرج من دائرة المعارف إلى دائرة الأذواق والمواجيد، والتي عبر عنها ابن عربي في أبياته المعروفة، والتي أسيء فهمها، والتي يقول فيها([105]):

لقد صار قلبي قابلا كل صورة
 
فمرعى لغزلان ودير لرهبان
 
وبيت لأوثان وكعبة طائف
 
وألواح توراة ومصحف قرآن
 
أدين بدين الحب أنى توجهت
 
ركائبه فالحب ديني وإيماني
 

فابن عربي في هذه الأبيات – حسبما نرى- لا يعني المفهوم الخاطئ لوحدة الأديان الذي يحاول البعض أن يلصقه بصوفية العرفان، ثم ينطلقون من هذا أن هذا التصوف يسوي بين الأديان جميعا، وأنه لا ثواب ولا عقاب على مجانبة الدين الحق، وأنهم بذلك يصطدمون بقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]

وإنما ينظر إلى المسألة من زاوية أخرى، ربما يكون أقرب مثال لها هو ما يحصل لنا من التأثر والانفعال عند مشاهدة لوحات الفنان المبدع، فنحن نعجب بها جميعا حتى لو كانت تحمل مناظر قاسية على نفوسنا، لأن الجمال البديع لا يتجلى فيما نشتهيه فقط.

ومن زاوية أخرى، وهي زاوية مهمة تفسر لنا سر التسامح الصوفي هو أن الهدف الحقيقي للأديان مهما اختلفت صورها هو محاولة التعرف على الله بجهد طاقتها حتى لو كانت مخطئة في ذلك، وبالتالي فهي في مرادها الحقيقي تريد الله، ولكنها فقط تخطئ في التعبير عنه.

وربما تكون القصة التي أوردها جلال الدين الرومي في المثنوي عن النبي موسى عليه السلام والراعي خير شرح للمراد من تلك الأبيات التي تتجلى فيها قمة التسامح مع الآخر، فهو يذكر رد فعل النبي موسى عليه السلام على الراعي الذي يبدو أنه تصور الله على شكل راع، قال فيها: (شاهد موسى راعيا في الطريق، كان يقول، يا رب، يا من يختار (من يريد).. أين أنت، لعلي أصبح خادمك وأخيط حذاءك وأمشط شعرك؟.. لعلي أغسل ملابسك وأقتل قملك، وآتي لك بالحليب، يا من تستحق العبادة..)

وعندما سمع موسى هذه المناجاة الغريبة أصابه الرعب، فقال له: (يا أيها الرجل، لمن توجه تلك الكلمات)؟ فأجاب: (إلى ذاك الذي خلقنا، خالق هذه السموات والأرض)

فقال موسى: (انتبه! لقد انزلقت إلى الوراء، وحقا إنك لم تعد مسلما، لقد أصبحت كافرا..ما هذا الهذيان؟ ما هذا القدح والشتم؟ ضع شيئا من القطن في فمك! إن الرائحة الكريهة لشتيمتك قد جعلت العالم (كله) منتنا: لقد مزقت شتيمتك ثوب حرير الدين إلى قطع)

بعد هذا الخطاب الطويل الذي يدين الراعي، جاء تنزيل من الله على موسى: (لقد فصلت عبدي عني. هل جئت (كَنَبيّ) لتوحد أم جئت لتقطع؟ لقد وهبت كل إنسان طريقة (خاصة) للتصرف: لقد وهبت لكل شخص شكلا (خاصا) للتعبير.. فالبنسبة له فإنه يستحق الثناء وبالنسبة لك إنك تستحق اللوم: بالنسبة له شهد وبالنسبة لك سُم.. إنني لا أطهر بتمجيدهم (لي)، لكنهم هم الذين يتطهرون ويصبحون أنقياء طاهرين.. لا أنظر إلى اللسان والكلام، إنما أنظر إلى الباطن، إلى (النفس) وحالة (الشعور).. أتفرّس في القلب (لكي أرى) إن كان متواضعا، حتى وإن كانت الكلمات التي نطقت غير متواضعة. لأن القلب هو الجوهر، والكلام هو الصدفة فقط.، وعليه فإن الصدفة تابع، بينما الجوهر هو الشيء (الصحيح)([106])

بهذه النظرة ينظر الصوفي العرفاني إلى الآخر، ويتعامل معه، فهو حتى لو أنكر عليه يكل أمره إلى الله، فالله هو الهادي وهو الديان.

ونحب فقط، لا من باب الجدل والتنظير، وإنما من باب دفع الاستغراب أن نذكر حديثا يكاد يؤيد هذا، ولعله خير تفسير لمراد الصوفية العرفانيين من ذكر هذه المعاني، ففي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن رجلا كان قبلكم رغسه (رزقه) الله مالا، فقال لبنيه: لما حضر أي أب كنت لكم؟ قالوا: خير أب قال: (فإني لم أعمل خيرا قط، فإذا مت فاحرقوني، ثم اسحقوني، ثم ذروني في ريح عاصف، ففعلوا، فجمعه الله فقال: ما حملك؟ فقال: مخافتك، فتلقاه برحمته) ([107])

فلو طبقنا مقاييس الجزاء على هذا الرجل نجد أنه من أهل النار، فهو من جهة لم يعمل خيرا قط، وهو بذلك لا يستحق الجنة، ثم هو فوق ذلك شك في قدرة الله، ومن شك في قدرة الله فكأنما اتهمه بالعجز، وهو بذلك في عرف الفقهاء كافر مخلد في جهنم، ولكن الله مع ذلك رحمه.

وكأن هذا الحديث الشريف ينبه إلى القضية التي ذكرها الرومي وذكرها قبله ابن عربي، بل ذكرها جل الصوفية، وهي أن الأديان والمذاهب والأفكار المختلفة من حيث حقيقتها لا من حيث واقعها هي محاولة للتعرف على الله، وإن حصل الخطأ في التعبير، فالله تعالى برحمته نظر إلى خوف الرجل منه، فعفا عن سلوكه وفكره الخاطئ.

ولهذا ينبه القرآن الكريم إلى أن الله تعالى هو وحده الذي يفرق بين الضال والمهتدي، قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } [النحل: 125]

وبناء على ذلك ينهانا الله تعالى أن نسب الذين يدعون من دون الله لأن الله هو الأعلم بأعمالهم، قال تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]

بل ورد في السنة ما هو أخطر من ذلك، فقد ورد في الحديث أن (رجلين من بني إسرائيل كان أحدهما يسرف على نفسه، وكان الآخر عابدا، وكان يعظه ويزجره، فكان يقول دعني وربي أبعثت على رقيبا، حتى رآه ذات يوم على كبيرة، فغضب، فقال: (لا يغفر الله لك)، قال فيقول الله تعالى يوم القيامة: (أيستطيع أحد أن يحظر رحمتي على عبادي، اذهب أنت فقد غفرت لك، ثم يقول للعابد: وأنت فقد أوجبت لك النار)([108])

ونحب أن ننبه هنا إلى أن هذا لا يعني عند الصوفية عدم الحوار مع الآخر، أو عدم تبيان الحقيقة للآخر، فذلك شأن آخر، فصوفية العرفان أو السلوك كلاهما حاورا أهل الملل والنحل، ولكن بفارق بسيط هو إضافة تلك النظرة العرفانية المؤسسة كما ذكرنا على القرآن الكريم الذي يعتبر الهداية والدينونة كلاهما من الله وحده.

خاتمة الفصل

من النتائج المهمة التي يمكننا استخلاصها من هذا الفصل:

1 ــ العرفان درجة رفيعة في التصوف قد يبلغها السالك حال سلوكه، وقد لا يبلغها، وهو الأعم الأغلب، ثم عند بلوغه لها قد يستطيع أن يعبر عنها، وقد تبقى محصورة في جوانحه ووجدانه، وبالتالي فإن العارفين أو العرفاء الذين استطاعوا أن يعبروا عن معارفهم قليل من قليل، ولهذا لا نجد في الكتب المؤلفة في الطرق الصوفية الجزائرية في عهد الجمعية إلا عدد قليل ظفر بأكثره الشيخ أحمد بن عليوة شيخ الطريقة العلاوية، والذي فاز من الجمعية – كما عرفنا سابقا- بلقب (شيخ الحلول)

2 ــ من أهم أسباب الخلاف الفكري بين الجمعية والطرق الصوفية الخلاف في المصادر التي تتلقى منها الشريعة الإسلامية بعقيدتها وفقهها وسلوكها ومواقفها المختلفة، فبينما نرى الجمعية تنتهج في التلقي من المصادر التي ترى أن السلف الصالح قد تلقى منها، وهي الكتاب والسنة وفهوم السلف لهما، نجد للصوفية مصادرهم الخاصة بهم، والتي يزعمون هم أيضا أنها تستند للمصادر الأولى للشريعة من الكتاب والسنة وغيرها من المصادر.

3 ــ رأينا من خلال استقراء جذور الخلاف في المصادر التي يعتمد عليها كلا الطرفين أنها ترجع إلى أمرين:

الأول: الخلاف في نوع التلقي وكيفيته من المصادر النقلية، وخاصة القرآن الكريم، ذلك أن الخلاف فيها ليس في اعتمادها أو عدم اعتمادها، فالكل يعتمدها، وإنما في منهج الاستنباط منها وحدوده.

الثاني: الموقف من المصادر الغيبية من الكشف والإلهام والرؤى والاستمداد وغيرها، والتي اختص بالاستناد إليها الصوفية، ولقيت إنكارا كبيرا من المخالفين لهم.

4 ــ تتفق جمعية العلماء والطرق الصوفية على تعظيم المصادر النقلية سواء القرآن الكريم أو السنة المطهرة، واعتبارهما المصدر الأول للإسلام بتشريعاته جميعا، بل تعتبران أن الإصلاح النفسي والاجتماعي لا يمكن أن يتم إلا من خلالهما، ولكن الخلاف بينهما في هذا المحل يكمن في منهج التعامل مع هذه المصادر، وكيفية الاستنباط منها، فبينما ترجع الجمعية إلى منهج السلف في ذلك كما تتصوره، وهو ما يرجع في العموم إلى ظواهر النصوص، أو إشاراتها الواضحة القريبة، نرى الصوفية بطرقها جميعا – بل قبل أن تكون للتصوف طرق – أن القرآن الكريم أعظم من أن يحصر بين جدران الألفاظ، ولذلك يتوسعون في فهمه والاستنباط منه بما لا تسعه العبارة الظاهرة، ويتعاملون بنفس المعاملة مع السنة المطهرة.

5 ــ من النواحي التي اختص بها الصوفية بمختلف مدارسهم اهتمامهم بما يمكن تسميته بالمصادر الغيبية للمعرفة، وهي المصادر التي لا يمكن لغير صاحب التجربة أن يستدل لها، ذلك أنها غيبية، لا تدل عليها المدارك الحسية، ولا يدل عليها المنطق العقلي المجرد، والدليل الوحيد الذي يمكن الوثوق به نحوها هو الثقة في من أدركها أو حصلت له.

6 ــ الصوفية – رغم المعارضة الشديدة التي ووجهوا بها بالنسبة للمصادر الغيبية – يعتبرونها مصادر أساسية لا يمكن للصوفي أن يستغني عنها، بل لا يسمى الصوفي صوفيا إلا إذا آمن بها، وتحققت له، بينما يرى المخالفون، وخاصة من الاتجاه السلفي الذي ذكرنا أن الجمعية كانت لسانه الناطق في الجزائر، ينكر الاعتماد على هذا النوع من المصادر إنكارا شديدا، ويرمي أصحابه بالخرافة، ويرميهم فوق ذلك بمزاحمة المصادر الأصلية بهذا النوع من المصادر.

7 ــ على الرغم من التوجه السلفي لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين إلا أنها لم تختلف كبير اختلاف مع الطرق الصوفية في المدرسة العقدية، ذلك أن الجمعية لم تكن ترى في المذهب الأشعري مذهبا يناقض السنة أو يختلف معها، بل نجد من أعضاء الجمعية من يصرح بقبول المذهب الأشعري، ويعتبره من مذاهب السنة المعتبرة، بل يعتبر الجمعية فوق ذلك أشعرية الأصول كما أنها مالكية الفروع.

8 ــ أهم نقاط الخلاف بين الجمعية والطرق الصوفية تمثل في المعتقدات التي تتصور الجمعية أنها معتقدات لا تخالف السنة فقط، بل تخالف الإسلام أيضا، ولذلك تحكم على معتقدها بالكفر، ثم تطبق هذا الحكم على أصحاب الطرق نفسها، وهي لا تفعل ذلك من لدن نفسها، بل تعود في ذلك إلى التيار السلفي الذي تنتمي إليه، وهي في هذه الناحية خصوصا أميل إلى المدرسة السلفية المحافظة منها إلى المدرسة السلفية التنويرية.

9 ــ ومن خلال استقراء ما ورد في جرائد الجمعية ومقالاتها وكتبها، رأينا أن هناك تهمتين خطيرتين توجهت بهما للطرق الصوفية عموما، وللطريقة العلاوية خصوصا، وهما: رمي الصوفية بالقول بالحلول والاتحاد ووحدة الوجود، ورميهم بالقول بـ (وحدة الأديان)

10 ــ تعتبر المعارف الإلهية عند الصوفية أدق المعارف وأرقها وأعمقها، ولذلك تختلف عباراتهم فيها اختلافا شديدا تتيح لكل من يشاء أن يتحدث عنهم بوصف يجد له من المبررات ما يدل عليه، فمن شاء أن يرميهم بالحلول والاتحاد وجد من عباراتهم ما يسعف عليه، ومن شاء أن يرميهم بوحدة الوجود، ولو في أخطر ألوانها وجد كذلك ما يدله عليه، ومن شاء أن يبرئهم من كل ذلك، بل يجعلهم أشاعرة أو ماتريديين أو حتى سلفيين وجد ما يدله على ذلك، ولهذا لا نعتب على الجمعية ولا على السلفية قبلها وبعدها مواقفها السابقة، ولكنا نعتب عليها أنها اكتفت بتلك المواقف المبنية على بعض النصوص التي اطلعت عليها، ولو أنها أكملت المسار وواصلت البحث لوجدت أشياء أخرى قد تهدم جميع ما بنته من أحكام.

11 ــ من خلال الاطلاع على ما كتبه الصوفية نجدهم لا يختلفون عن سائر المسلمين في موقفهم من الأديان، وبطلانها، وأن الدين الوحيد الذي يجب اتباعه هو الإسلام، وأن كل ما عداه ضلالة، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]

خاتمة السلسلة

بعد هذه الجولة الموجزة في نواحي (التعامل بين جمعية العلماء المسلمين الجزائريين والطرق الصوفية)، وبعد تتبعنا التاريخي والثقافي والفكري والإعلامي لما يرتبط بذلك التعامل من قضايا اتفاق أو قضايا اختلاف، نحب أن نسجل هنا أهم ما استنتجناه من نتائج، وأهم ما نتقدم به إلى الجهات المسؤولة من اقتراحات وتوصيات.

أولا: أهم نتائج البحث

1 ــ أن كلا من جمعية العلماء المسلمين الجزائريين والطرق الصوفية من المؤسسات العلمية والثقافية والإصلاحية الجزائرية التي ساهمت في المحافظة على الهوية الجزائرية بأبعادها المختلفة.

ومن الخطأ الكبير، ومن التجافي عن الموضوعية الذي وقع فيه الكثير من الباحثين في تاريخ جمعية العلماء المسلمين الجزائريين هو التعامل معها على أساس أنها الحق المطلق في مقابل الطرق الصوفية التي اعتبرت شرا مطلقا، وهذا ما جعل الكثير يسلم لها ولما تدعيه بالنسبة لخصومها من غير تثبت ولا نظر ولا فحص.. ونفس الكلام يقال بالنسبة لمن يهاجمون الجمعية من الطرف الآخر، ويعتبرونها امتدادا للتطرف الذي يحجر على غيره أن يفكر، أو يمارس ما هداه إليه تفكيره.

2 ــ أنه لا يمكن الحديث عن التعامل بين جمعية العلماء المسلمين الجزائريين والطرق الصوفية دون البحث في المدارس الفكرية التي تنتمي إليها، أو دون محاولة ربط ما حصل في الجزائر بين الجمعية والطرق الصوفية مع ما حصل مثله في غيرها من البلاد على امتداد فترات طويلة من التاريخ.. ولهذا حاولنا في هذا البحث أن نرجع في كل قضية خلافية إلى جذورها التاريخية والثقافية، باعتبار أن ما حصل بين الطرفين هو امتداد لما حصل قبل ذلك.

3 ــ أنه من الخطأ المنهجي إعطاء أحكام عامة فيما يرتبط بمواقف أعضاء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين أو محاولة تصنيفهم، وسبب ذلك أن الجمعية في أصلها تكونت من الطبقة الجزائرية المثقفة الراغبة في الإصلاح، وهي طبقة قد تشكلت قناعاتها الفكرية قبل دخولها الجمعية، وبالتالي دخلت إلى الجمعية بذلك التوجه الفكري الذي تحمله، وهذا ما جعلنا نميز في تحديدنا لاتجاه الجمعية بين القناعات الفكرية لأعضائها، والتي هي نتاج الثقافة الخاصة بكل عضو، والمشروع النهضوي الذي أتت به الجمعية أو توحدت عليه.

4 ــ أن معظم الدراسات تعتبر جمعية العلماء المسلمين الجزائريين كجمعية وتنظيم ضمن (الحركات السلفية) التي كانت في ذلك الحين في أوج نشاطها، والخلاف بين هذه الدراسات في نوع التيار السلفي الذي تنتمي إليه الجمعية، وقد خلصنا من خلال البحث إلى أن الجمعية – كمؤسسة وتنظيم – حاولت أن تجمع بين مدرستين سلفيتين كبيرتين (السلفية المحافظة)، والتي أعاد إحياءها الشيخ محمد بن عبد الوهاب، و(السلفية التنويرية) التي أسسها الأفغاني وعبده ورشيد رضا وغيرهم.

5 ــ أن أكثر الطرق الصوفية المعاصرة لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين مهما اختلفت مشاربها أو تسمياتها لا تختلف فيما بينها إلا في الطقوس الظاهرية الممارسة، أما التوجه الفكري، فيجمع بينها جميعا حتى أننا لا نستطيع أن نميز تعابير الشيخ ابن عليوة – المعاصر للجمعية، والذي كان المعارض الأكبر لها – مع أي صوفي في أي طريقة أخرى داخل الجزائر أو خارجها.

6 ــ رأينا من خلال التتبع العلمي والواقعي الميداني للتوجه الفكري للطرق الصوفية أنها مزجت بين قسمين من أقسام من التصوف:

التصوف السلوكي: وهو التصوف الذي يهتم بالسلوك والمجاهدات والأذكار ونحوها، سواء دخل ضمن ما يسمى بـ (التصوف السني) الذي هو محل اتفاق بين الجمعية والطرق الصوفية، أو كان ضمن ما تعتبره الجمعية (تصوفا بدعيا)، وقد آثرنا تسميته بـ (التصوف المختلف فيه)، باعتبار أنه يستدل لممارساته باجتهادات فقهاء ومحدثين كبار من القدماء والمحدثين.

التصوف العرفاني: وهو الذي يطلق عليه كذلك لقب (التصوف الفلسفي)، وهو موجود في كل الطرق الصوفية، وقد رأينا أنه تصوف النخبة من المثقفين، لأن فيه جوانب فلسفية لا يطيقها العامة، وقد رأينا أن أحسن من يمثله في وقت الجمعية الشيخ ابن عليوة، ولهذا اعتمدنا على كتاباته في المناقشات الفكرية بين الجمعية والطرق الصوفية.

7 ـ رأينا من خلال المقارنة بين المشروع الإصلاحي لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين مع المشروع الإصلاحي للطرق الصوفية أن هناك نواح كثيرة للاتفاق، فكلاهما اهتم بنشر الالتزام الديني، وكلاهما اهتم بالإصلاح التربوي والاجتماعي، وكلاهما حذر من الآثار السلبية للاستعمار، وحاول أن يقاومها.

أما دعوى أن بعض الأطراف كان ممالئا للاستعمار أو خادما لأهدافه، فهي من ثمار الصراعات التي درات بين الطرفين، والحقيقة الموضوعية تنفي هذا، وإن كان هناك بعض الأخطاء فكلا الطرفين يتحملانها.

ثانيا: أهم الاقتراحات والتوصيات

1 ــ الاهتمام بالتراث الثقافي الجزائري بجميع أنواعه، سواء ما كان منه من تأليف الجمعية، أو من تأليف الطرق الصوفية، وعدم الانحياز في ذلك إلى أي طرف من الأطراف، فكله تراث ثقافي محترم، وللأسف نجد الآن الكثير من الكتب المؤلفة في تلك الفترة من طرف رجال الطرق الصوفية خصوصا مهملة، وبعضها معرض للضياع إن لم يكن قد ضاع بالفعل، والمطبوع منه مطبوع بطبعات رديئة، بل بعضها في حكم المخطوط.

2 ــ عدم الانحياز في التعامل الأكاديمي والعلمي لجهة دون جهة أخرى، ذلك أننا نجد – للأسف – أكثر الباحثين – داخل الجزائر وخارجها – دأبوا على قصر الحركة الإصلاحية في الجزائر على شخصيات كلها إما أعضاء فاعلون في جمعية العلماء، أو لهم بهم صلة ولو من حيث الانسجام الفكري.

3 ــ ندعو الجهات المسؤولة في وزارات الثقافة والتربية والشؤون الدينية وغيرها إلى عدم الانحياز في تخليد الشخصيات العلمية والتاريخية إلى جهة على حساب جهة أخرى لأي اعتبار ([109])، فللأسف نجد أسماء (ابن باديس) و(الإبراهيمي) و(العربي التبسي) و(مبارك الميلي) وغيرها، أشهر من نار على علم، فبالإضافة إلى كثرة ما كتب عنهم من أطروحات وبحوث، وما عقد لأجلهم من ملتقيات وأيام دراسية، نجد أسماءهم قد سميت بها المساجد والمدارس والجامعات والأحياء، وأشياء كثيرة جدا، بينما نجد تعتيما قاسيا على شخصيات كان لها دور فاعل في أعماق الحياة الجزائرية، بل وصل إشعاعها إلى العالم أجمع، ومع ذلك لا تذكر بنقير ولا قطمير، ولا يهتم بها، ولا يكاد أكثر الجزائريين يعرفونها، أما الطبقة المثقفة التي تعرفها، فهي تحمل عنها صورة مشوهة، كأبشع ما يكون التشويه.

4 ــ ندعو إلى إحياء يوم رسمي تهتم فيه الدولة والمجتمع الجزائري بالتصوف والزوايا وما يرتبط بذلك من تراثنا الثقافي، نسميه (يوم الولاية)، ونرجو أن يرتبط ذلك بأحد العارفين الكبيرين: الأمير عبد القادر، أو الشيخ ابن عليوة، وذلك حتى يتحقق العدل في في التعامل بين الفصيلين الكبيرين الجزائريين المحافظين والإصلاحيين، ذلك أن الدولة تحيي كل سنة ما تسميه بـ (يوم العلم)، تخلد به ذكرى الجمعية وابن باديس بينما لا تهتم بالجهة التي كان لها النصيب الأوفر في مواجهة الاستعمار من كل الجوانب.

وختاما، هذه محاولة متواضعة ممتلئة بالقصور حاولت فيها بقدر الإمكان أن أصل إلى الحقيقة بعيدا عن الانحياز لمن يمثلها، أو كما قال الإمام علي كرم الله وجهه: (إنّ الحق والباطل لا يعرفان بأقدار الرجال، اعرف الحق تعرف أهله، واعرف الباطل تعرف أهله)([110])

ويشهد الله أننا لم نرد الغض ولا التنقيص من أي طرف من الأطراف، بل كان قصدنا الوصول إلى الحقيقة بموضوعية تامة، ولا يهمنا من أي جهة صدرت، ولا من يمثلها، فالحق أحق أن يتبع.

ونحن بعد هذا مستعدون للتراجع عن أي رأي رأيناه، ثم رأينا أن غيره أولى منه، فلا عصمة إلا لمن عصمه الله، نسأل الله أن يحفظنا من التشبث بالخطأ، أو الثبات عليه، ونسأله أن يرينا الحق حقا، ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلا، ويرزقنا اجتنابه، وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه المختارين المنتجبين، وسلّم تسليما كثيرا.


([1])  وهذا مما تنكره السلفية الحديثة على جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، فابن باديس كان قد أدرج ضمن قائمة العلوم التي كان يدرّسها لطلبة العلم، المتون التي تحكي أصول الأشاعرة في العقائد؛ كمتن بن عاشر المعروف بـ (المرشد المعين على الضروري من علوم الدين) لابن عاشر، الذي استفتح متنه بقوله :

فِي عَقْدِ الأَشْعَرِيِّ وفِقْهِ مَالِك   و فِي طَرِيقَةِ الجُنَيْدِ السَّالِك

وقال الشيخ حمّاني تلميذ ابن باديس في فتاواه: (وقد قبل أسلافنا تأويل الأشاعرة كما قبلوا تفويض السلف) (انظر: فتاوى الشيخ أحمد حمّاني، منشورات وزارة الشؤون الدينية، الجزائر، الجزء 2صفحة 597)

([2])  أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي، تفسير القرآن العظيم، تحقيق: سامي بن محمد سلامة، دار طيبة للنشر والتوزيع، الطبعة : الثانية 1420هـ – 1999 م، (7/ 425).

([3])  نشر في الشهاب: ج1 – م11، ص 11 – 13 محرم 1354 هـ- أفريل 1935م، وانظر: آثار ابن باديس (2/ 239)

([4])  آثار ابن باديس (2/ 239).

([5])  (الشهاب) العدد (97) : الصادر بتاريخ الخميس 17 ذي القعدة 1345 ه / 20 ماي 1927 م.

([6])  (الشهاب) العدد (97) : الصادر بتاريخ الخميس 17 ذي القعدة 1345 ه / 20 ماي 1927 م

([7])  (الشهاب) العدد (97) : الصادر بتاريخ الخميس 17 ذي القعدة 1345 ه / 20 ماي 1927 م

([8])  (الشهاب) العدد (97) : الصادر بتاريخ الخميس 17 ذي القعدة 1345 ه / 20 ماي 1927 م

([9])  (الشهاب) العدد (97) : الصادر بتاريخ الخميس 17 ذي القعدة 1345 ه / 20 ماي 1927 م

([10])  (الشهاب) العدد (97) : الصادر بتاريخ الخميس 17 ذي القعدة 1345 ه / 20 ماي 1927 م

([11])  انظر على سبيل المثال: الشريعة النبوية المحمدية، العدد4، ص7.

([12])  وقد علق عليه شارحه بقوله: (أخبر أن نظمه هذا جمع مهمات العلوم الثلاثة وهي: العقائد والفقه والتصوف، المتعلقة بأقسام الدين الثلاثة وهي: الإيمان والإسلام والإحسان) (الحبل المتين شرح المرشد المعين، ص  6)

([13])  طاهر بن محمد الإسفراييني، التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين، تحقيق : كمال يوسف الحوت، عالم الكتب – بيروت، الطبعة الأولى، 1983، (ص: 187)

([14])  التبصير في الدين (ص: 192)

([15])  تبين كذب المفتري)) (ص: 291)

([16])  تحفة المريد شرح جوهرة التوحيد)) (ص: 153).

([17])  حاشية الأمير على شرح جوهرة التوحيد)) (ص: 160)

([18])  القشيري، الرسالة القشيرية، ص7.

([19])  إحياء علوم الدين (1/ 89)

([20])  ابن عليوة، القول المقبول فيما تتوصل إليه العقول، المطبعة العلاوية، مستغانم، ص8، فما بعدها.

([21])  ابن عليوة، القول المقبول فيما تتوصل إليه العقول، ص8.

([22])  ابن عليوة، القول المقبول فيما تتوصل إليه العقول، ص8.

([23])  ابن عليوة، القول المقبول فيما تتوصل إليه العقول، ص8.

([24])  ابن عليوة، القول المقبول فيما تتوصل إليه العقول، ص15.

([25])  ابن عليوة، القول المقبول فيما تتوصل إليه العقول، ص17.

([26])  ابن عليوة، القول المقبول فيما تتوصل إليه العقول، ص18.

([27])  صحيح مسلم (1/ 93)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 350)

([28])  ابن باديس، العقائد الإسلامية، رواية وتعليق محمد الصالح رمضان مدير التعليم الديني بوزارة الأوقاف (سابقا)، مكتبة الشركة الجزائرية مرازقه بوداود وشركاؤهما لابن باديس، (ص: 27)

([29])  العقائد الإسلامية لابن باديس (ص: 13)

([30])  العقائد الإسلامية لابن باديس (ص: 11)

([31])  شرح الحكم العطائية (ص: 26)

([32])  إيقاظ الهمم شرح متن الحكم (ص 4)

([33])  إحياء علوم الدين (1/ 19)

([34])  إحياء علوم الدين (1/ 20)

([35])  إحياء علوم الدين (1/ 20)

([36])  ابن عليوة، المنح القدوسية في شرح المرشد المعين على الطريقة الصوفية، ص19.

([37])  ابن عليوة، المنح القدوسية في شرح المرشد المعين على الطريقة الصوفية، ص20.

([38])  لم أجد هذا الحديث، وهو مبني على ما ذكرنا سابقا من عدم اهتمام الصوفية بالتوثيق، واهتمامهم بالمعنى، ولعل الشيخ لم يورده كحديث.

([39])  صحيح مسلم (8/ 63)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 323)

([40])  ابن عليوة، المنح القدوسية في شرح المرشد المعين على الطريقة الصوفية، ص20.

([41])  يقصد بالفناء في كلام العارفين أمران:

1 ـ فناء سلوكي، وهو تغيير معنوى للسالك بإفناء ميوله ورغباته جميعا من المخالفة إلى الموافقة.

2 ـ فناء بمعنى التجريد العقلى وعدم الالتفات إلى المدركات والأفكار والأفعال والأحاسيس وذلك بانحصاره فى التفكير فى الله، وهذا ما نريده هنا.

([42])  الإحياء: (4/212)

([43])  ابن عليوة، الناصر المعروف بالذب عن مجد التصوف، المطبعة العلاوية، مستغانم، ص61.

([44])  ابن القيم، مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 155)

([45])  ابن عليوة، الناصر المعروف بالذب عن مجد التصوف، ص60.

([46])  ابن القيم، مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 147)

([47])  ابن عليوة، الناصر المعروف بالذب عن مجد التصوف، ص62.

([48])   مجموع الفتاوى:10/337.

([49])    صحيح مسلم (2/ 67)

([50])    أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني أبو العباس، الرد على المنطقيين، دار المعرفة،  بيروت، ص 517.

([51])  شرح الحكم العطائية (ص: 109)

([52])  وقد أنكر ابن تيمية هذا التفسير بوجوه من الإنكار قال في التقديم لها: وإذا كان المقصود هنا الكلام في تفسير الآية تفسير الآية بما هو مأثور ومنقول عن من قاله من السلف والمفسرين من أن المعنى كل شيء هالك إلا ما أريد به وجهه هو أحسن من ذلك التفسير المحدث، بل لا يجوز تفسير الآية بذلك التفسير المحدث، وهذا يبين بوجوه بعضها يشير إلى الرجحان وبعضها يشير إلى البطلان. انظر: مجموع الفتاوى:2/28.

([53])  صحيح البخاري (2/ 61)

([54])  أبو مدين، الديوان، ص57.

([55]) وقد ورد الحديث بصيغ مختلفة منها أشعر كلمة تكلمت بها العرب، وفي رواية أصدق كلمة قالها شاعر، وفي أخرى أصدق بيت قاله الشاعر، وفي أخرى أصدق بيت قالته الشعراء، وفي أخرى أصدق كلمة قالتها العرب.

([56])   صحيح البخاري (5/ 53)، صحيح مسلم (7/ 49)

([57])   سيد قطب إبراهيم، في ظلال القرآن، دار الشروق، القاهرة، (5/ 3161)

([58])  ذكرت الدكتورة سعاد الحكيم أن المراد بنقطة الباء [ عند ابن عربي ] : أنها تشير إلى وجود العالم، أي : الموجودات. ووقوعها تحت الباء تمثيل لتبعية الموجودات للتعين الأول، وهي رمز الإنسان الكامل عند الصوفية (انظر: د . سعاد الحكيم، المعجم الصوفي، دار ندرة، بيروت، الطبعة الأولى، 1981 ص 181)

([59])  الشيخ أحمد بن عليوة، المنح القدوسية في شرح المرشد المعين بطريق الصوفية، ص9 .

([60])  ابن عليوة، الأنموذج الفريد المشير لخالص التوحيد في معنى انطـواء الكتب السماويّة في نقطة بسم الله الرحمن الرحيم، المطبعة العلاوية، مستغانم، الطبعة الرابعة، ص9.

([61])  ابن عليوة، الأنموذج الفريد المشير لخالص التوحيد ،ص12.

([62])  ابن عليوة الأنموذج الفريد المشير لخالص التوحيد، ص12.

([63])  ابن عليوة، الأنموذج الفريد المشير لخالص التوحيد ،ص13.

([64])  ابن عليوة، الأنموذج الفريد المشير لخالص التوحيد، ص13.

([65])  ابن عليوة، الأنموذج الفريد المشير لخالص التوحيد، ص14.

([66])  ابن عليوة، الأنموذج الفريد المشير لخالص التوحيد ،ص15.

([67])  ابن عليوة، الأنموذج الفريد المشير لخالص التوحيد ،ص15.

([68])  ابن عليوة، الأنموذج الفريد المشير لخالص التوحيد ،ص8.

([69])  الشهاب: ج 7، م 12، ص304 – 311 غرة رجب 1355هـ – أكتوبر 1936م.

([70])  آثار ابن باديس (3/ 51)

([71])  (رسالة الواردات في سر التجليات)، وهي رسالة صوفية سلمها عبده قبل وفاته إلى رشيد رضا الذي نشرها في الطبعة الأولى في المنشآت ثم حذفها في الطبعة الثانية، وهي أول رسالة ألفها الشيخ محمد عبده في وقت صحبته السيد جمال الدين الأفغاني عام 1290 وهي عبارة عن جزئيات أومأ اليها السيد بكتابتها سنة 1288هـ كما قال، تبدأ بعد البسملة والحمد بالثناء على جمال الدين (كالغيث أرسل لإحياء نعمة التفكير في العلوم الحقيقية)، وقد تحدث فيها على منهج العرفاء من الصوفية.

وعندما نشر محمد عمارة الأعمال الكاملة نفى الأثر كليا عن عبده كما نفى كتاب (الحاشية على شرح الدواني للعقائد العضدية) من السيد رشيد رضا، (انظر: محمد الحداد، محمد عبده.. قراءة جديدة في خطاب الإصلاح الديني، أطروحة دكتوراه في السربون تحت إشراف محمد أركون, الطبعة الأولى, بيروت: دار الطليعة, 240)

([72])  ابن عليوة، الناصر المعروف في الرد على من أنكر التصوف، ص69.

([73])  الشيخ محمد عبده، رسالة الواردات في نظريات المتكلمين والصوفية في الفلسفة الإلهية، مطبعة المنار، مصر، الطبعة الثانية، 1925، ص5-6، وانظر: ابن عليوة، الناصر المعروف في الرد على من أنكر التصوف، ص69.

([74])  الشيخ محمد عبده، رسالة الواردات في نظريات المتكلمين والصوفية في الفلسفة الإلهية، مطبعة المنار، مصر، الطبعة الثانية، 1925، ص6، وانظر: ابن عليوة، الناصر المعروف في الرد على من أنكر التصوف، ص70.

([75])  الشيخ محمد عبده، رسالة الواردات في نظريات المتكلمين والصوفية في الفلسفة الإلهية، مطبعة المنار، مصر، الطبعة الثانية، 1925، ص6، وانظر: ابن عليوة، الناصر المعروف في الرد على من أنكر التصوف، ص70.

([76])  ابن عليوة، الناصر المعروف، ص63.

([77])  انظر: أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني أبو العباس، الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، تحقيق : د.علي حسن ناصر ,د.عبد العزيز إبراهيم العسكر ,د. حمدان محمد، دار العاصمة، الرياض، الطبعة الأولى، 1414، (3/ 337)، وانظر: ابن عليوة، الناصر المعروف، ص63.

([78])  ابن تيمية، الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (3/ 338)

([79])  نص الحديث كما في (صحيح مسلم (8/ 13): (إن الله عز وجل يقول يوم القيامة يا ابن آدم مرضت فلم تعدنى. قال يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين. قال أما علمت أن عبدى فلانا مرض فلم تعده أما علمت أنك لو عدته لوجدتنى عنده يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمنى. قال يا رب وكيف أطعمك وأنت رب العالمين. قال أما علمت أنه استطعمك عبدى فلان فلم تطعمه أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندى يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقنى. قال يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين قال استسقاك عبدى فلان فلم تسقه أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندى)

([80])  ابن تيمية، الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (4/ 79)

([81])  ابن عليوة، الناصر المعروف، ص65.

([82])  ابن عليوة، أعذب المناهل في الأجوبة والمسائل، نقلا عن: صفحات مطوية في التصوف الإسلامي، ص166.

([83])  يراد عادة بهذا المصطلح (اعتبار الأديان الثلاثة – اليهودية والنصرانية والإسلام – بمثابة المذاهب الفقهية الأربعة، والتي يجوز أن يتعبد بأيّ منها على السواء، وأنه لا فرق بينهما، مادام أن الجميع مؤمنون بوجود الله)

ومن شعارات هذا التوجه: (الإخاء الديني، الصداقة الإسلامية المسيحية، الإبراهيمية، المؤمنون، الديانة العالمية، وحدة الكتب السماوية.)

ومن منجزاته فكرة طبع:  القرآن الكريم، والتوراة، والإنجيل  في غلاف واحد، وإقامة مسجد وكنيس ومعبد في محيط واحد.

ثم دخلت هذه الدعوة في: الحياة التعبدية العملية ؛ إذ دعا البابا إلى إقامة صلاة مشتركة من ممثلي الأديان الثلاثة: الإسلاميين والكتابيين، وذلك بقرية: أسِيس في: إيطاليا  فأقيمت فيها بتاريخ: 27/10/1986م، انظر: الإبطال لنظرية الخلط بين دين الإسلام وغيره من الأديان، الشيخ بكر أبو زيد، دار العاصمة، الرياض ص 23.

([84])  الزاهري، اعترافات طرقي قديم، جريدة الشريعة النبوية المحمدية العدد(7)، ص(3)

([85])  ابن عليوة، الأبحاث العلاوية في الفلسفة الإسلامية، طبعة أحباب الإسلام، ص19.

([86])  ابن عليوة، الأبحاث العلاوية في الفلسفة الإسلامية، ص19.

([87])  ابن عليوة، الأبحاث العلاوية في الفلسفة الإسلامية، ص20.

([88])  ابن عليوة، الأبحاث العلاوية في الفلسفة الإسلامية، ص20.

([89])  ابن عليوة، الأبحاث العلاوية في الفلسفة الإسلامية، ص29.

([90])  ابن عليوة، الأبحاث العلاوية في الفلسفة الإسلامية، ص30.

([91])  ابن عليوة، مظهر البينات في التمهيد بالمقدمات، المطبعة العلاوية، مستغانم، ص3.

([92])  ابن عليوة، مخطوطة الأجوبة العشرة، هامش الصفحة الأولى، نقلا عن: نقلا عن: غزالة بوغانم، الطريقة العلاوية في الجزائر ومكانتها الدينية والاجتماعية 1934 – 1909، ص104.

([93])  نص الحديث كما في (مسند أحمد بن حنبل (4/ 127): (إني عبد الله لخاتم النبيين وان آدم عليه السلام لمنجدل في طينته، وسأنبئكم بأول ذلك دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى بي ورؤيا أمي التي رأت وكذلك أمهات النبيين ترين)

([94])  ابن عليوة، مخطوط الأجوبة العشرة، نقلا عن: صفحات مطوية في التصوف الإسلامي، ص126.

([95])  انظر جريدة صوت الأحرار من هذا الرابط: (http://www.sawt-alahrar.net/online/modules.php?name=News&file=article&sid=10341)

والجريدة الألكترونية (جزائرس) من هذا الرابط: (http://www.djazairess.com/algeriatimes/1619)

([96])  المصدر السابق.

([97])  المصدر السابق.

([98])  المصدر السابق.

([99])  ابن عربي، الفتوحات المكية، بيروت: دار صادر، ج1، ص242.

([100])  الفتوحات المكية ج1، ص242.

([101])  الإملاء في إشكالات الإحياء5/35 (ملحق بالإحياء) وكذلك أنظر الإحياء4/ 258.

([102])  ابن عربي، الفتوحات المكية، ج ٤، ص٤٦٦.

([103])  إحياء علوم الدين: 4/258.

([104])  إحياء علوم الدين: 4/258.

([105])  ديوان ترجمان الأشواق، ومحاضرة الأبرار، (ص:402).

([106])  جلال الدين الرومي، قصص المثنوي، جمع: محمد المحمدي الاشتهاردي، بيروت: دار المحجة البيضاء، ج1، ص97.

([107])  محمد بن إسماعيل أبو عبدالله البخاري، الجامع الصحيح المختصر، دار ابن كثير، اليمامة – بيروت، ط3، 1407،

ج3، ص1282.

([108])  سليمان بن الأشعث أبو داود السجستاني، سنن أبي داود، دار الفكر، تحقيق : محمد محيي الدين عبد الحميد، ج3، ص693.

([109])  تنكرت الدولة الوطنية بعد الاستقلال، للطرق الصوفية وقلبت لها ظهر المجن بعد أن اتهمها الرئيس بن بلة بالليبرالية، ثم تبنت الدولة على عهد الرئيس هواري بومدين التوجه الإصلاحي السلفي الوهابي كخطاب رسمي لها، ممثلا في ما تبقى من رموز « جمعية العلماء المسلمين الجزائريين » التي كان خطابها السياسي أقرب إلى المهادنة والاندماج مع المحتل الفرنسي، منه إلى الوطنية الاستقلالية والمقاومة والثورة. وفي هذا الإطار، تمت مصادرة أملاك الزوايا والطرق الصوفية بعد الاستقلال، ومنع نشاطها وسُجن بعض شيوخها مثل الشيخ سيدي المهدي بن تونس والد الشيخ سيدي خالد بن تونس، الشيخ الحالي للطريقة العلاوية في الجزائر. بل إن بعض الزوايا هدمت وتم تغييب البعد الصوفي للهوية الجزائرية وتراث الطرق الصوفية من برامج التعليم ومؤسسات الإعلام والتنشئة الاجتماعية، إضافة إلى تشويه صورة التصوف في البرامج والأبحاث الجامعية.

بعد رحيل الرئيس هواري بومدين زالت بعض الضغوط التي كانت مفروضة على الطرق الصوفية، ومع مجيء الرئيس بوتفليقة إلى السلطة، والذي ظهر عليه ميل واضح نحو التصوف والطرق الصوفية، انفتح المجال أمامهم حيث أصبحت لهم حرية العمل مثل غيرهم من الجمعيات الثقافية في إطار القوانين السارية في البلد. وخلال العشرية الدموية، كان للطرق الصوفية في الجزائر دور لا يمكن إنكاره في الدعوة إلى وقف العنف وحقن دماء الجزائريين، حيث يؤكد الصوفية على حرمة الاقتتال بين المسلمين مهما كانت الأسباب والعناوين والشعارات المرفوعة لتبرير ذلك. وعلى رغم ما حظيت به بعض الطرق الصوفية من دعم رسمي، فإن الخطاب الداخلي للطرق يبقى رافضا للارتباط بالسلطة أيا كان نوع هذا الارتباط، حيث ما زال بعض الطرق حتى يومنا هذا، يرفض أي نوع من أنواع الدعم الرسمي أو العلاقة الرسمية مع السلطة، من بينها الطريقة العلاوية على سبيل المثال لا الحصر. ». (راجع مقال زهية منصر في الشروق اليومي بتاريخ : 22/ 12/ 2011)

([110])  أحمد بن أبي يعقوب بن جعفر بن وهب بن واضح اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، دار صادر، بيروت، (2/ 210)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *