المبحث الأول: الاتجاه الفكري لجمعية العلماء

المبحث الأول: الاتجاه الفكري لجمعية العلماء
يتفق معظم الدارسين لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين على تصنيفها ضمن (الحركات السلفية) التي كانت في ذلك الحين في أوج نشاطها.
وهذا التصنيف ليس قاصرا على الدراسات الحديثة، بل كل من تحدث عن الجمعية في ذلك الوقت كان يعتبر توجهها توجها سلفيا محضا لا يختلف عن التوجهات السلفية في ذلك الحين:
فهذا الشيخ محب الدين الخطيب يقول في جريدة (الفتح) التي كان يشرف عليها: (جاءتنا من المغرب الأوسط (الجزائر) رسالة نافعة –إن شاء الله- ألّفها العلامة السلفي الأستاذ الشيخ عبد الحميد بن باديس من كبار العلماء المصلحين في الديار المغربية)([1])
وكتب الشيخ محمّد القرّي من فاس قصيدة إثر الاعتداء على عبد الحميد بن باديس وأرسلها إلى (الشهاب)، وقال في مقدّمة الرسالة الملحقة بالقصيدة: (جناب مدير مجلّة الشهاب المحترم. تحيّة وسلاما. الرجاء منكم أن تنشروا على صفحات –الشهاب- الأغّر القصيدة التالية بمناسبة نجاة العلامة السلفي المصلح السيّد عبد الحميد بن باديس من ضربة الشقي الأثيم ولكم مزيد الشكر)([2])
وقد وردت تصريحات كثيرة من علماء الجمعية – سنسرد بعضها في هذا المبحث – تعلن تبنيها لهذا المنهج، ولذلك سننطلق من هذا الإعلان والتصريح، ولكنا لا نكتفي به، فالسلفية مدارس متعددة، وآراء متضاربة وأحيانا متناقضة، وهو ما يحوجنا إلى التعرف على نوع المدرسة التي تنتمي إليها الجمعية.
وبناء على هذا، فقد قسمنا هذا المبحث إلى ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: التوجه السلفي وعلاقة جمعية العلماء به
المطلب الثاني: السلفية المحافظة، وعلاقة جمعية العلماء بها
المطلب الثالث: السلفية التنويرية، وعلاقة جمعية العلماء بها
المطلب الأول: التوجه السلفي وعلاقة جمعية العلماء به:
لغة: يطلق السلف ويراد به لغة أحد ثلاثة معان([3]):
الأول: التسوية، ومنه سلف- بفتح السين واللام- الأرض،من باب نصر، سواها بالمسِلفة –بكسر الميم- شيء تسوى به الأرض.
الثاني: بمعنى مضى وتقدم، من سلف يسلُف، ومنه السلاف المتقدمون، وسلف الرجل:آباؤه المتقدمون، وجمعه أسلاف وسلاف، قال ابن منظور: (السلف الجماعة المتقدمون في السير أو في السن أو في الفضل أو في الموت، والسلف أيضا العمل المتقدم في الإنسان)([4])
الثالث: بمعنى السَّلم، نوع من أنواع البيوع يعجل فيه الثمن وتضبط السلعة بالوصف إلى اجل معلوم، فالثمن مقدم على تسليم السلعة.
وقد وردت كلمة سلف في القرآن الكريم مرادا بها معنى واحدا وهو السبق والتقدم في الزمن ومنه قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} [الأنفال الآية 38]،،أي يغفر لهم ما تقدم ومضى من الذنب.
نجد أحيانا من بعض الكتاب والباحثين خلطا بين مصطلح (السلف)، ومصطلح (السلفية)، أو (التمذهب بمذهب السلف)، وهذا يستدعي منا البحث عن المراد من كليهما، وبذلك يتضح لنا سر اختلاف المدارس السلفية، ذلك لأن لكل منها سلفه الخاص، أو فهمه الخاص للمراد بالسلف، ذلك أن كل تيار يزعم أن له سلفه الخاص الممتد إلى العصور الأولى للإسلام([5]).
1 ـ لفظ (السلف): يطلق لفظ السلف عادة على القرون الثلاثة المفضلة بنص قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)([6])، ذلك أنه ورد في الحديث اعتبار هذه القرون قرونا نموذجية في تمثيلها للإسلام وفهمها له، فقد ورد في تتمه الحديث: (ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السمن)([7])
وقد اختلف العلماء في تحديد (السلف) المرادين – بناء على هذا اختلافا شديدا – سواء من حيث تعيين المدة الزمنية بدقة، أو من حيث السلف المرادون في الحديث، والعادة الجارية عند المحدثين أن المراد بهم هم أهل الحديث، وخاصة من كان منهم في زمن الرواية، وعند الصوفية يشمل الطائفة الأولى من الصوفية، والذين أرخ لهم القشيري في رسالته، وهكذا نجد لكل طائفة سلفها الخاص بها، وشروطها الخاصة بهم.
2 ـ لفظ (السلفية): كما اختلف في المراد من لفظ (السلف) وقع الخلاف في المراد من لفظ (السلفية)، وربما يمكن حصر الخلاف في مذهبين على أساسهما صنفت بعد ذلك التيارات الكثيرة:
المذهب الأول: وهو أن (السلفية) ليست مذهبًا إسلاميًا محددًا، بل هي – كما يعبر د. محمد سعيد رمضان البوطي – مرحلة زمنية مباركة، محصورة بالقرون الثلاثة الأولى من عمر هذه الأمة([8])، وبذلك يصبح المراد بالسلف هو نفسه المراد بالسلفية.
وبالتالي لا يمكن اعتبار السلف الصالح بهذا الاعتبار مصدرا للتشريع أو لفهم الدين، وإنما يمكن فقط اعتبارهم في الخيرية التي تعني الالتزام والتطبيق الفعلي للإسلام.
وعلى هذا التفسير نجد أكثر المذاهب الفقهية والعقدية والصوفية.. فكلهم يجل السلف ويحترمهم، ولكنه في نفس الوقت لا يلتزم بفهومهم أو اجتهاداتهم، بل نجد فقيها كبيرا كأبي حنيفة يقول: (ما جاءَ عن اللهِ تعالى فعلى الرأسِ والعينين، وما جاءَ عن رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم فسمعاً وطاعةً، وما جاءَ عن الصحابةِ رضي الله عنهم تخيرنا من أقوالهم، ولم نخرجْ عنهم، وما جاءَ عن التابعين فهُمْ رجالٌ ونحنُ رجالٌ)([9])
المذهب الثاني: ويرى أن السلف مصدر للفهم والتشريع، وأنه لا يمكن فقط التمذهب بمذهبهم، وإنما يجب التمذهب بمذهبهم.
وقد ظهر هذا النوع من السلفية، والتي يمكن أن نطلق عليها (سلفية الاتجاه) ابتداء من عصر الإمام أحمد بن حنبل (ت241هـ)، وتحديدا بعد موقفه من قضية (خلق القرآن)، فقد اعتبر ذلك الموقف تاريخاً فاصلا بين (الابتداع باسم الدين)، و(التمسك بالأصول العقدية الصحيحة من منابعها من القرآن والسنة وفهم السلف).. وبعده صارت السلفية اتجاهاً فكرياً على ساحة الفكر الإسلامي، ويمثل خطوطاً منهجية تحاول أن تهتدي بهدي من تراه صالحا من سلف([10]).
وبذلك فإن هذا الاتجاه ليس مذهباً محدد المعالم كالمذاهب الفقهية مثلاً، ولا هو جماعة محددة التقاسيم كـ (الإخوان المسلمين) بل هو -كما يعبر عنها أصحابها – (روح تسري في العالم الإسلامي منذ عهود التابعين واشتهر باسم (السلف)، أو (أهل الأثر)، ويقابله من الجانب الآخر (أهل الرأي)، أو (المتصوفة)، أو (المتكلمون)، أو غيرهم([11]).
ولذلك فإن أكثر التعاريف التي يوردها القائلون بهذا هي تعاريف سلبية أكثر منها إيجابية أي أنهم يعمدون إلى النفي أكثر منهم إلى التحديد الدقيق، كما نرى في تعريف عبد الرحمن عبد الخالق الذي هو علم من أعلام السلفية المعاصرين، فهو يعرف السلفية بقوله: (المراد بمذهب السلف ما كان عليه الصحابة الكرام رضوان الله عليهم والتابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين، وأتباعهم وأئمة الدين ممن شهد له بالإمامة وعرف عظم شأنه في الدين، وتلقى الناس كلامهم خلفاً عن سلف، كالأئمة الأربعة وسفيان الثوري والليث بن سعد وابن المبارك والنخعي والبخاري ومسلم وسائر أصحاب السنن، دون من رمي بالبدعة أو شهر بلقب غير مرضي مثل: الخوارج والروافض والمرجئة والجبرية والجهمية والمعتزلة. فكل من التزم بعقائد وفقه هؤلاء الأئمة كان منسوبا إليهم وإن باعدت بينه وبينهم الأماكن والأزمان، وكل من خالفهم فليس منهم وإن عاش بين أظهرهم وجمع بهم نفس المكان والزمان)([12])
ويرى هؤلاء على عكس الفريق السابق أن التمذهب بمذهب السلف ليس جائزا فقط، وإنما هو واجب لا يصح العدول عنه، كما جاء في رد علم من أعلام السلفية المعاصرين، وهو الشيخ الفوزان على البوطي في قوله السابق، وهو في كتاب تحت عنوان (نظرات وتعقيبات على ما في كتاب السلفية لمحمد سعيد رمضان من الهفوات)، جاء فيه: (هذا الكلام يثير الدهشة والاستغراب، كيف يكون التمذهب بالسلفية بدعة والبدعة ضلالة؟ وكيف يكون وهو اتباع لمذهب السلف، واتباع مذهبهم واجب بالكتاب والسنة وحق وهدي؟.. فالتمذهب بمذهب السلف سنة وليس بدعة، وإنما البدعة التمذهب بغير مذهبهم)([13])
ونحب أن نشير هنا إلى أنه من الصعوبة فهم (السلفية) على هذا الاعتبار لأن هناك انتقائية كبيرة في تحديد أعيان السلف المرادين، فالكثير من الأعلام الذين وجدوا في العهود الأولى من الإسلام، والذين صنفهم هذا التيار في إطار الخوارج والروافض والمرجئة، والجهميّة، والمعتزلة.. وغيرهم ضالون لا يجوز الأخذ عنهم، بل يجب الرد عليهم.
ولهذا نجدهم بدل تعميم لفظ (السلف)، أو (السلف الصالح) يعمدون إلى ذكر أسامي المرادين مع أنها لم تحدد في الحديث، فيذكرون (الأئمة الأربعة، والسفيانيين، والليث بن سعد، وابن مبارك النخعي، والبخاري، ومسلم وسائر أصحاب السنن)([14])
ولكنهم مع ذلك يقعون في تناقضات أخرى ذلك أنّ من ذكروهم كان فيما بينهم خصومات إلى حد التكفير، فهذا الإمام أحمد بن حنبل كان يرى أن الإمام أبا حنيفة كان من المرجئة([15])، والمرجئ في تصورهم ضال منحرف ومبتدع([16])، وقد كفّرته باقي الفرق([17]).. وفوق ذلك نراه يقول بخلق القرآن([18])، وفي تصورهم أن كل من يقول بخلق القرآن فهو جهمي، وكل جهمي كافر.
ثانيا ــ موقف جمعية العلماء المسلمين من التوجه السلفي
وردت التصريحات الكثيرة من أعضاء الجمعية تنص على توجهها السلفي، بل وتفتخر بهذا التوجه، وتدعو إليه، وتعتبر الدعوة إليه من صميم أهداف الجمعية الذي أسست لأجله.
وسنكتفي هنا بعرض بعض هذه التصريحات من أعضاء الجمعية، وخصوصا الكبار منهم لنبرهن بذلك على توجهها السلفي.
أما فهم الجمعية للمراد من (السلفية)، والمبادئ المرتبطة بذلك، فسنتحدث عنها عند الحديث عن أنوع المدارس السلفية التي ارتبطت بها.
صرح عبد الحميد بن باديس في مواضع كثيرة من خطبه ومقالاته ورسائله على توجهه وتوجه جمعيته السلفي، فهو يقول في رسالته: (العقائد الإسلامية من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية): (القرآن هو كتاب الإسلام، السنّة القولية والفعلية – الصحيحة- تفسير وبيان للقرآن، سلوك السلف الصالح –الصحابة والتابعين وأتباع التابعين- تطبيق صحيح لهدي الإسلام فهوم أئمة السلف الصالح أصدق الفهوم لحقائق الإسلام ونصوص الكتاب والسنّة)([19])
ويقول في كلمته التي ألقاها في حفل ختم تفسير القرآن الكريم بالجامع الأخضر بقسنطينة: (فإنّنا والحمد لله نربي تلامذتنا على القرآن من أوّل يوم، ونوّجه نفوسهم إلى القرآن في كلّ يوم، وغايتنا التي ستتحقق أن يُكوّن القرآن منهم رجالا كرجال سلفهم)([20])
وشهد له بهذا التوجه السلفي رفيق دربه الشيخ البشير الإبراهيمي في كلمته التي ألقاها في حفل ختمه تفسير القرآن الكريم، فقال: (هذا هو اليوم الذي يختم فيه إمام سلفي تفسير كتاب الله تفسيرا سلفيا ليرجع المسلمون إلى فهمه فهما سلفيا…)([21])
وقال في مقال له حول الحفل نفسه: (وأراد الله فحقق للأستاذ أمنيته من ختم التفسير، وللأمّة رجاءها في تسجيل هذه المفخرة للجزائر، ولأنصار السلفية غرضهم من تثبيت أركانهم بمدارسة كتاب الله كاملا…)([22])
وقال في موضع آخر: (أتمّ الله نعمته على القطر الجزائري بختم الأستاذ عبد الحميد بن باديس لتفسير الكتاب الكريم درساً على الطريقة السلفية… ولا معنى لذلك كلّه إلا أنّ إحياء القرآن على الطريقة السلفية إحياء للأمّة التي تدين لله به)([23])
وقال مثنيا عليه بعد وفاته بهذا التوجه: (باني النهضتين العلمية والفكرية بالجزائر؛ وواضع أسسها على صخرة الحق، وقائد زحوفها المغيرة إلى الغايات العليا، وامام الحركة السلفية؛ ومنشئ مجلة (الشهاب) مرآة الإصلاح وسيف المصلحين، ومربّي جيلين كاملين على الهداية القرآنية والهدْي المحمدي وعلى التفكير الصحيح، ومُحيي دوارس العلم بدروسه الحية، ومفسّر كلام الله على الطريقة السلفية في مجالس انتظمت ربع قرن، وغارس بذور الوطنية الصحيحة، وملقّن مباديها، علم البيان، وفارس المنابر، الأستاذ الرئيس الشيخ عبد الحميد بن باديس، أول رئيس لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وأوّل مؤسّس لنوادي العلم والأدب وجمعيات التربية والتعليم، رحمه الله ورضي عنه)([24])
وقد صرح في مواضع كثيرة عن توجهه السلفي وفخره به، ومن تصريحاته الدالة على تعظيمه لهذا الاتجاه قوله في رده على الشيخ عبد الحي الكتاني: (لقد كان من مقتضى كون الرجل محدِّثًا أن يكون سلفيّ العقيدة وقّافًا عند حدود الكتاب والسنَّة، يرى ما سواهما من وسواس الشياطين، وأن يكون مستقلًّا في الاستدلال لما يؤخذ ولما يترك من مسائل الدين، وقد تعالت همم المحدّثين عن تقليد الأئمة المجتهدين، فكيف بالمبتدعة الدجّالين؛ وعرفوا بالوقوف عند الآثار والعمل بها، لا يعْدونها إلى قول غير المعصوم إلا في الاجتهاديات المحضة التي لا نصّ فيها؛ ولكن المعروف عن هذا المحدّث أنه قضى عمره في نصر الطرقية وضلالات الطرقيين ومحدَثاتهم بالقول والفعل والسكوت، وأنه خصم لدود للسلفيين، وحرب عوان على السلفية، وهل يرجى ممن نشأ في أحضان الطرقية، وفتح عينيه على ما فيها من مال وجاه وشهوات ميسّرة ومخايل من المُلك، أن يكون سلفيًّا ولو سلسل الدنيا كلها بمسلسلاته؟)([25])
ثم وضح شروط التحقق بـ (السلفية)، فقال: (إن السلفية نشأة وارتياض ودراسة، فالنشأة أن ينشأ في بيئة أو بيت كل ما فيها يجري على السنّة عملًا لا قولًا؛ والدراسة أن يدرس من القرآن والحديث الأصول الاعتقادية، ومن السيرة النبوية الجوانب الأخلاقية والنفسية، ثم يروّض نفسه بعد ذلك على الهدي المعتصر من تلك السيرة وممن جرى على صراطها من السلف)([26])
وصرح بهذا وفي رسالة وجهها إلى الملك سعود يقول فيها: (حضرة صاحب الجلالة الملك سعود ملك المملكة العربية السعودية- الرياض.. يا صاحب الجلالة: ما زلنا نعتقد أن جلالتكم أعلم الناس بالحركتين الإصلاحية السلفية، والثقافية العلمية العربية بالجزائر، وأعلم الناس بآثارهما الطيبة في الأمّة الجزائرية، وإنكم أكبر أنصارهما والمقدّرين لثمراتهما والعاملين على تغذيتهما والمرجوّين لاحتضانهما..)([27])
وفي رسالة وجهها إلى الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ جاء فيها (..أُذَكِّركم أن لكم بالجانب الغربي من وطن العروبة ومنابت الإسلام الأولى ومجرى سوابق المجاهدين الأولين لَإِخوانًا في العروبة وهي رحم قوية، وفي الإسلام وهو سبب مرعي، وفي ذلك المعنى الخاص من الإسلام وهو السلفية التي جاهدتم وجاهد أسلافكم الأبرار في سبيل تثبيتها في أرض الله، وقد لقوا من عنت الاستعمار وجبروته ما أهمّهم وأهمّ كل مسلم حقيقي يعلم أن الإسلام رحم شابكة بين بنيه أينما كانوا، وأن أقل واجباته النجدة في حينها والتناصر لوقته)([28])
وقد صرح بانتمائه لهذا التوجه، وشهد له به، فمن تصريحاته قوله في مقاله الذي نشر في جريدة الشهاب: (…وساءني كثيرا إذ فشلت في سعي في الصلح والهدنة والاتفاق على قواعد نجري عليها نحن معشر السلفيين) ثمّ أمضى هذا المقال: (الزواوي السلفي إمام مسجد سيدي رمضان)([29])
وقال: (ثمّ بقي أن أقول: أنّه لا ينبغي بحال ونحن سلفيون إسلاميون شرعيون مقيدون بالقوانين الإلهية والدولية أن تكون أعمالنا من قبيل الرجم بالغيب أو التشفّي والإنتقام ممن عسى أن يكونوا برءاء)
وقال في رسالته إلى الكاتب السلاوي الفاسي: (لأننا سلفيون دعاة الإصلاح العام في الدّين وما ألصق به وفي الجنس وما هو فيه… ونخصّ – نحن السلفيّون- بشيء أدقّ مما يكون، وما هو هذا الشيء؟ وهو التدقيق والتحقيق في الأقوال والأفعال، والحذر من الخطأ والخطل في القول والعمل)([30])
وقال – مشيدا بطريقة السلف في العقيدة والتوحيد -: (إن خير طريقة في العقيدة التوحيدية طريقة السلف التي هي اتباع ما ثبت عن الله وعن رسوله من غير كثرة التأويل والدخول في الأخذ والرد من الجدل في المتشابه وإيراد الشبه والرد عليها)([31])
وقال متبرئا من غير المنهج السلفي: (أما أنا ومن على شاكلتي من إخواني الكثيرين فلا شريعة لنا ولا دين ولا ديوان إلا الكتاب والسنة وما عليه محمد وأصحابه وعقيدة السلف الصالح أي فلا اعتزال ولا ماتريدي ولا أشعري وذلك أن الأشاعرة تفرقوا واختلفوا أي المتقدمون منهم والمتأخرون، ووقعوا في ارتباك من التأويل والحيرة في مسائل يطول شرحها لم تصف بعد فعلام؟ وقل آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر،كما قال تعالى: {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} (النساء: 91)([32])
وعند ذكره لأسباب تفرق المسلمين ذكر البعد عن المنهج السلفي، فقال: (إن كثرة التفريق والاختلاف في التعاليم الدينية مزق الأمة كل ممزق، وهذا مما أدركه كل مسلم جاهلا كان أو عالما، فلزم إذن عدم التفريق وذلك إنما يكون بتوحيد التعاليم قدما وحديثا وهذا أمر صعب ولكن على غير العاملين بحديث النجاة وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إلا واحدة وهي ما أنا عليه وأصحابي)([33]) فعلام نغفل هذا أو نتعامى ونعمل بمائة مذهب وبألف ملة وطريقة)([34])
وقد سبق ذكر بعض الشهادات من الشيخ مبارك الميلي والطيب العقبي تشيد بتوجهه السلفي.
وقد صرح بتوجهه السلفي في مواضع كثيرة من مقالاته ورسائله وغيرها، ومن ذلك قوله في رسالته (بدعة الطرائق في الإسلام): (وبعون الله سأجعل كلّ حجّة من حجج الطرائق التي اشتهرت بها، وذاعت بيننا منفردة ببحث وأقيسها بعصر السلف. فإن وُجد لها أصلٌ بينهم (أي السلف الصالح) قبلناها وعملنا بها، وعززناها. وما لم نجد له أصلا في أيامهم، وعرف بينهم اعتقدنا أنّه بدعة محدثة)([35])
وقال: (ونحن نعرض عملهم هذا ونقيسه بالهدي النبوي وعمل السلف، فذلك الدّين، وما لم يعرف في تلك الأيّام بعموم أو خصوص فليس من الدّين، فإنكاره قربة، والاعتراف به بدعة)([36])
وقال في موضع آخر: (إن هذا الإرشاد الذي يجب القيام به تبليغا للدين نيابة عنه صلى الله عليه وسلم، يجب أن يكون مستمدا من أصول التشريع الإسلامي، التي هي الكتاب الحكيم، والسيرة النبوية، والسنة المطهرة، وهدي السلف الصالح، وفهوم أئمة الإسلام، الذين يحكمون أصول الدين في أقوالهم وآرائهم ويقولون كلهم راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر، إشارة لقبره صلى الله عليه وسلم، ويقولون الدين حاكم في أقوال الرجال، وأقوالهم محكومة خاضعة لأدلة الدين. فعلى هذه الأصول التي هي مصدر التشريع الإسلامي ينبني الإرشاد الديني)([37])
وقد صرح بهذا التوجه وانتصر له في مواضع كثيرة، ومن ذلك قوله في مقال له بعنوان (المصلحون والمرجفون): (من أين فهمتم إنكارنا الولاية الثابتة بالكتاب الذي دعوناكم ولا نزال ندعوكم إلى طرح ما يخالفه؟ وفي أيّ جملة رأيتم عدم الاعتراف بالكرامة، وهي عقيدة السلف ونحن سلفيّون نرجو أن نلقى الله كذلك)([38])
وقال في (رسالة الشرك ومظاهره): (فنحن بالعقيدة السّلفية قائلون، ولما مات عليه الأشعري موافقون)([39])
وسلفيته أشهر من أن يستدل لها، فقد قال عنه الشيخ أحمد حماني: (كان الشيخ العقبي في دروسه وخطبه ومقالاته ينهج نهج السلفيين في إحياء السنّة وإماتة البدعة والهجوم بشدّة على البدع والضلالات والأوهام والخرافات)([40])
وقال هو عن نفسه في في قصيدته (إلى الدّين الخالص)([41]):
أيها
السائل عن معتقدي |
يبتغي
مني ما يحوي الفؤاد |
إنني
لست ببدعي ولا |
خارجي
دأبه طول العناد |
مذهبي
شرع النبي المصطفى |
واعتقادي
سلفيٌ ذو سداد |
خطتي
علم وفكر نظر |
في شؤون
الكون بحث واجتهاد |
وطريق
الحق عندي واحد |
مشربي
مشرب قرب لا ابتعاد |
ثالثا ــ المدارس السلفية وموقف جمعية العلماء منها
إن هذه التصريحات التي نقلناها – مع أهميتها – لا يمكن من خلالها وحدها أن نتعرف على التوجه الفكري لجمعية العلماء المسلمين، وذلك لسببين:
الأول: أن اسم السلفية تتنازعه تيارات مختلفة، بل أحيانا متناقضة، حتى أن البعض يعتبر سلامة موسى سلفيا([42])، على الرغم من توجهه التغريبي، وذلك لادعائه أن اللغة العربية عاجزة عن استيعاب الثقافة المعاصرة، وكأنها لا تستطيع أن تعبر إلا عن الواقع السلفي الذي ازدهرت فيه.
بالإضافة إلى هذا، فقد ظهرت على الساحة الإسلامية الكثير من المناهج، والتي تعتبر نفسها جميعا مناهج سلفية على الرغم من التناقضات الكثيرة بينها.
الثاني: وهو نتيجة لما قبله، وهو أن هناك خلافا شديدا بين الكتاب المعاصرين حول مدى سلفية الجمعية أو أعضائها، فبينما نجد بعضها يحاول أن يثبت (سلفية ابن باديس) مثلا، مثل ما كتبه الحاج عيسى([43])، أو أبو عبد المعزّ محمد علي فركوس، نجد في المقابل من يكتب الكتب والمقالات المطولة التي لا تمنحه هذه النسبة، ونفس الشيء يقال عن سائر أعضاء جمعية العلماء إلا من ندر منهم.
وبناء على هذا نحاول في هذا المطلب أن نتعرف – أولا- على أنواع المدارس السلفية، ثم عن موقف جمعية العلماء المسلمين منها، لنحدد من خلال ذلك الاتجاه الدقيق لجمعية العلماء.
بناء على ما ذكرنا سابقا من التنازع في التعامل مع مصطلح (السلفية)، فقد ظهرت مدارس كثيرة تحمل هذا الاسم، وقد كان ولا زال الخلاف بينها شديدا إلى درجة التناقض.
وقد كتب محمد عمارة في هذا كتابا بعنوان (السلفية.. واحدة؟.. أم سلفيات؟) تناول فيه قضية التنوع والتناقض بين المدارس السلفية على الساحة السياسية والإعلامية في العالم الإسلامي، بل على مستوى العالم ككل([44]).
وقد خلص في نتيجة بحثه إلى أن السلفية (قد توزعتها العديد من التوجهات، فطرأ عليها الكثير من الانشقاقات فمنها ما يسمى بالسلفية العلمية التي تحاول استلهام المشروع التجديدي لابن تيمية.. ومنها السلفية الجهادية التي سلكت طريق العنف والتغيير.. ومن هذه السلفية المعاصرة فصيل بلغ في الغلو والجمود حدوداً فاقت الخيال حتى لقد كتب بعضهم في تفكير أئمة السلفية مثل ابن القيم الذي قالوا عنه: (إنه زائغ مبتدع كذاب وقح بليد غبي جاهل ضال مضل خارجي ملعون كافر)، وقال أحد كتاب هذه السلفية الظلامية عن ابن تيمية: (إنه لا تؤخذ منه أحكام الولاء والبراء ولقد سئمت من تتبع مخازي هذا الرجل المسكين)([45])
وفي موضع آخر عبر عن النتيجة التي يدل عليها الواقع الدعوي والسياسي المعاصر، فقال: (وهكذا نجد أنفسنا تاريخياً وحديثاً أمام عدد من السلفيات، وليس أمام سلفية واحدة كما يحسب كثير من السلفيين ومن خصوم السلفيين)([46])
وكمثال على هذا التنوع، نحب أن نذكر دراسة مهمة عن الحركة السلفية في مصر وتنوعها، وهي دراسة ميدانية صنفت الحركات السلفية المصرية إلى أربع سلفيات: السلفية التقليدية، والسلفية العلمية، والسلفية الحركية، السلفية الحديثية (أهل الحديث)([47])
فالسلفية التقليدية: وتهدف – بحسب دعاتها – إلى تنقية الدين مما يرونه من البدع خاصة المرتبطة بالتصوف والأضرحة، وكذلك منع المسلمين من الإفتتان بالحضارة الغربية ومرتكزاتها الفكرية المخالفة للإسلام.. ووسيلة التغيير عندهم تنحصر في الدعوة عبر خطب الجمعة والدروس الدينية في المساجد بالإضافة إلى الدعوة الفردية.
السلفية العلمية: وهي السلفية التي تعتمد مهج الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، وتتلخص رؤيتها في أن ما لحق بالمسلمين من تدهور حضاري سببه الأحاديث الضعيفة والموضوعة والإسرائيليات والآراء الفقهية التي تخالف الحديث الصحيح وبالتالي فالتغيير الإسلامي لابد من أن يمر بالمراحل التالية:
أولا- التصفية: وهي أن يقوم علماء المسلمين بتنقية الكتب الشرعية كلها من الأحاديث الضعيفة والموضوعة والإسرائيليات والأراء الفقهية التي تخالف الحديث الصحيح.
ثانيا- التربية: حيث يتم دعوة وتربية أغلبية المسلمين على هذه الكتب الصافية من أي أخطاء.
ثالثا- المفاصلة: حيث يعلن المؤمنون انفصالهم عن الحكام الذين لا يحكمون بما أنزل الله ويعلنون أن هؤلاء الحكام على باطل وينذرون الحكام واعوانهم بالرجوع عن باطلهم وإلا سيواجهون جهادا إسلاميا من أهل الحق ويطالب كل المسلمين بتحديد موقفهم بشكل واضح إما مع أهل الحق وإما مع أهل الحكم وهنا حكمهم هو حكم أهل الباطل.
رابعا- الجهاد: وهو في حالة ما إذا رفض الحكام الإلتزام بالإسلام بعد الإنذار السابق فحينئذ يجاهدهم أهل الحق لأن الصفوف في هذه الحالة ستكون قد تمايزت فصار بعض الشعب مع الحق وبعضه مع الباطل وهنا سيكون الفريقان المتصارعان واضحين لا بس فيهما, فلا يقع ضحايا لا علاقة لهم بالصراع بل يكون أى إنسان إما مع هذا الفريق أو ذاك.
السلفية الحركية: وقد نشأت في نفس الوقت الذي نشأت فيه السلفية العلمية (منتصف السبعينات من القرن العشرين الميلادي) بقيادة عدد من الدعاة الشباب حينذاك، ولم يختلف هذا الرافد السلفي عن السلفية العلمية إلا في شيء واحد وهو الاعلان عن كفر الحاكم الذي لا يحكم بالشريعة الاسلامية باسمه أيا كان اسمه.
سلفية أهل الحديث: وقد ظهر هذا الاتجاه – وإن كان في أصله تابع للسلفية العلمية – في أوائل الثمانينات, فانجرف بعض السلفيين نحو دراسة المصطلح وعلم العلل ومعرفة الصحيح من الضعيف , بالاضافة لإلقاء الخطب والدروس الوعظية والعلمية للعامة وللخاصة, ومن هؤلاء أبو إسحاق الحويني , ومصطفى العدوي , وأسامة القوصي , ومحمد سعيد رسلان وغيرهم.
هذا نموذج عن استعداد المدارس السلفية للخلاف، وقد عقب كاتب الدراسة على كلامه هذا بقوله عند ذكر بعض التيارات السلفية: (هذا الكلام قبل أحداث ثورة 25 يناير , ولنا كتاب (الدولة السلفية) نبين فيه التحولات السياسية والفكرية عند هذا الفصيل السلفي)
ولعل السر في هذا الاختلاف والاستعداد له هو تنوع السلف أنفسهم، فالسلف ليسوا فردا واحدا، ولا فكرا واحدا، ولا منهجا واحدا، ولذلك ما أسهل أن يجد كل من يريد أن يصف نفسه بالسلفي من السلف من يؤيده في دعواه.
ولكنا مع هذا رأينا، ومن خلال تتبع الفروق الكبرى بين المدارس السلفية القديمة والمعاصرة أن هناك تياران كبيران، يجتمعان في لقب السلف، ويختلفان بعد ذلك اختلافات شديدة يصعب معها اجتماعهم لأنها تصل إلى حد التناقض، وقد عبرنا عنهما ب (السلفية المحافظة)، و(السلفية التنويرية)
وقد رأينا أن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين قد ذكرتهما واستفادت من كليهما، وإن كانت أكثر ميلا من السلفية الثانية منها إلى السلفية الأولى.
2 ــ موقف جمعية العلماء من المدارس السلفية:
من خلال أدلة كثيرة سيتم استعراضها رأينا أنه يمكن تحديد التوجه الفكري لأعضاء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ضمن صنفين من التوجهات كلاهما يطلق عليه – اصطلاحا- (سلفية)، وهما (السلفية التنويرية)، و(السلفية المحافظة)، فبعض أعضاء الجمعية، وخصوصا ابن باديس كان أميل إلى السلفية التنويرية منه إلى السلفية المحافظة، وفي المقابل نجد الطيب العقبي أكثر ميلا إلى السلفية المحافظة منه إلى السلفية التنويرية، ولعل هذا من الأسباب التي عجلت بالخلاف بين الرجلين الكبيرين المؤسسين للجمعية.
وذلك لأن الخلاف بين كلتا السلفيتين خلاف حاد، رغم بعض النقاط المشتركة بينهما، ويدل على ذلك أن السلفية المحافظة وإلى الآن تعتبر محمد عبده ممثل السلفية التنويرية مبتدعا ضالا، إلى غيرها من المواصفات التي تصفه بها.
ومثل ذلك نجد محمد عمارة الذي يصرح بأنه امتداد للسلفية التنويرية ينتقد التيار السلفي المحافظ انتقادا حادا إلى درجة اعتباره خطرا على الإسلام([48]).
ولكنا مع ذلك يمكننا – بشيء من التحفظ – أن نذكر بأن جمعية العلماء – وخصوصا في موقفها من الطرق الصوفية – حاولت أن تمزج بين كلتا السلفيتين، فهي ترد على التخلف الطرقي والخرافة الطرقية باعتبارها سلفية تنويرية، وترد على تفاصيل الممارسات الطرقية بالأدلة التي تراها باعتبارها سلفية محافظة، ولهذا نراها تستعير من رسائل الوهابية وكتبها ما تدعم به مقولاتها.
ومع ذلك، فإن هذا لا يعني أن جمعية العلماء تقمصت كلتا المدرستين تقمصا كليا، أو أنها تلقت تعاليمها منهما فقط، وإنما هناك اتفاق كبير بينها وبين كلتا المدرستين، ويوضح هذا أن ابن باديس يخبر عن نفسه أنه اتهم بالعبدوية([49])، كما اتهم بعد ذلك بالوهابية من غير أن يكون له اطلاع كبير على مؤلفات كليهما، يقول في ذلك في مقال تحت عنوان (عبداويون، ثم وهابيون، ثم ماذا؟): (لما قفلنا من الحجاز وحللنا بقسنطينة عام 1932 م، وعزمنا على القيام بالتدريس أدخلنا في برنامج دروسنا تعليم اللغة وأدبها، والتفسير، والحديث، والأصول، ومبادئ التاريخ، ومبادئ الجغرافية، ومبادئ الحساب، وغير هذا.. ونحبب الناس في فهم القرآن، وندعو الطلبة إلى الفكر والنظر في الفروع الفقهية، والعمل على ربطها بأدلتها الشرعية، ونرغبهم في مطالعة كتب الأقدمين ومؤلفات المعاصرين، لما قمنا بهذا وأعلناه قامت علينا وعلى من وافقنا قيامة أهل الجمود والركود، وصاروا يدعوننا – للتنفير والحط منا (عبداويين) دون أن أكون – والله – يوم جئت قسنطينة قرأت كتب الشيخ محمد عبده إلا القليل، فلم نلتفت إلى قولهم، ولم نكترث لإنكارهم، على كثرة سوادهم، وشدة مكرهم، ومضينا على ما رسمنا من خطة، وصمدنا إلى ما قصدنا من غاية، وقضيناها عشر سنوات في الدرس لتكوين نشئ علمي لم نخلط به غيره من عمل آخر.. وكانت هذه المرة غضبة الباطل أشد، ونطاق فتنته أوسع، وسواد أتباعه أكثر، وتمالأ علينا دعاة الجمود والبدعة، وعليهما بنيت صروح من الجاه، ومنها جرت أنهارالمال، وأصبحت الجماعة الداعية إلى الله بدعون من الداعين إلى أنفسهم (الوهابيين) ووالله ما كنت أملك يومئذ كتابا لابن عبد الوهاب، ولا أعرف من ترجمة حياته إلا القليل، ووالله إنما هي أفيكات قوم يهرفون بما لا يعرفون، ويحاولون من إطفاء نور الله مالا يستطيعون، وسنعرض عنهم اليوم، وهم يدعوننا وهابيين، كما أعرضنا عنهم بالأمس وهم يدعوننا عبدواويين ولنا أسوة بمواقف أمثالنا مع أمثالهم من الماضين)([50])
ونفس المقولة رددها الشيخ البشير الإبراهيمي، فقد قال: (ويقولون عنا إننا وهابيون، كلمة كثر تردادها في هذه الأيام الأخيرة حتى أنست ما قبلها من كلمات: عبداويين، وإباضيين وخوارج…فنحن بحمد الله ثابتون في مكان واحد وهو مستقر الحق)([51])
المطلب الثاني: السلفية المحافظة وعلاقة جمعية العلماء بها
يطلق الكثير لقب (الوهابية) على هذا النوع من السلفية، باعتبار أن المؤسس الأكبر لهذا التيار هو الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وهو لقب اختلف السلفيون المحافظون في قبوله وعدم قبوله([52])، ولذلك آثرنا بدل تلقيبهم به، تلقيبهم بالمحافظين، وذلك لأنهم يتبنون المنهج المحافظ التقليدي الذي يرفض الكثير من الأدواب والأساليب المعاصرة.
وقد عرفهم أمير البيان شكيب أرسلان، فقال: (لا ينكر أن الوهابية هي نهضة في الإسلام عظيمة ممتدة في أكثر بلاد العرب وفي الهند، والقائمون بها أولو تعصب شديد، وربما أفرطوا في مبادئهم وغلوا في عقائدهم شأن جميع المذاهب التي لا يقف أتباعها عند الحد الذي وضعه أصحابها، ولكن المقرر أنها حركة إنابة إلى العقيدة الحق وهدي السلف الصالح واقتفاء أثر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة ونبذ الخرافات والبدع، وحظر الاستغاثة بغير الله ومنع التمسح بالقبور والتعبد عند مقامات الأولياء ولذلك يسمونها عقيدة السلف ويلقب الوهابيون أنفسهم سفليين)([53])
بناء على هذا، سنحاول في هذا المطلب أن نبحث في ناحيتين ربما تكونان دليلين كافيين لإثبات مدى صلة الجمعية بهذا التيار السلفي:
أما أولاهما، فهي إثبات مدى العلاقة التي تربط أعضاء الجمعية بها، من خلال تصريحاتهم، أو غيرها.
وأما الثانية، فهي إثبات مدى الاتفاق في المبادئ بين الجمعية وبين هذا التيار السلفي.
ونحسب أن الثانية كافية في الدلالة لأن المبادئ هي الأساس في الاتفاق أو الاختلاف، ولكنا أحببنا أن نضم إليها الأولى، حتى نعرف أنواع المصادر التي كانت تعتمد عليها الجمعية في تعاملاتها مع المخالفين، وخصوصا أصحاب الطرق الصوفية.
أولا ــ علاقة جمعية العلماء بالسلفية المحافظة:
بما أن مصطلح السلفية منذ فترة طويلة صار لا يطلق إلا على هذا التوجه المحافظ، فإنا نرى الكثير من الباحثين وغيرهم حملوا النصوص التي عبر فيها أعضاء الجمعية عن توجههم السلفي على هذا النوع من التوجه حتى أن هناك من ألف الكتب والرسائل للدلالة على هذا، كرسالة الدكتور عبد الحليم عويس المعنونة بـ (أثر دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب في الفكر الإسلامي الإصلاحي بالجزائر)، والتي ذكر فيها أن أول من حمل راية الدعوة السلفية هو المؤرخ الجزائري (أبو راس الناصري) الذي اجتمع بتلاميذ الشيخ محمد بن عبدالوهاب في الحج وذاكرهم في أمور إلى أن انتهى به الأمر بالاقتناع , وكان ذلك بحضور وفد حجيج كان يرأسه ولي عهد المغرب آنذاك([54]).
ومنها كتاب الدكتور تركي رابح (الشيخ عبد الحميد بن باديس والشيخ محمد بن عبد الوهاب في طريق الإصلاح والسلفية – دراسة مقارنة)([55])
ومنها رسالة الباحث محمد حاج عيسى الجزائري (أصول الدعوة السلفية من كلام ابن عبد الوهاب وابن باديس)([56])
ومن الأدلة التي يستدل بها هؤلاء على هذا هو أن أعداء الجمعية كانوا يرمون الجمعية بهذه التهمة، حتى أن الأمر وصل بهم إلى تحريض إدارة الاحتلال الفرنسي على الجمعية مدعين عليهم بهذه التهمة، فكان أن أصدر الكاتب العام للشؤون الأهلية والشرطة العامة (ميشال) قراره المشهور بتاريخ (16 فبراير 1933 م)، ومما جاء فيه: (أُنهي إليَّ من مصادر متعددة أن الأهالي دخلت عليهم الحيرة والتشويش بسبب دعاية تنشر في أوساطهم يقوم بها إما دعاة استمدوا فكرتهم من الحركة الوهابية السائدة بمكة، وإما حجاج جزائريون تمكنت فيهم عاطفة التعصب الإسلامي.. وإما جمعيات كجمعية العلماء المؤسسة بالجزائر بقصد افتتاح مدارس عربية حرة لتعليم القرآن والعربية.. إن المقصد العام من هذه الدعاية هو نشر التعاليم والأصول الوهابية بين الأوساط الجزائرية بدعوى الرجوع بهم إلى أصول الدين الصحيح وتطهير الإسلام من الخرافات القديمة التي يستغلها أصحاب الطرق وأتباعهم، ولكن لا يبعد أن يكون في نفس الأمر وراء هذه الدعاية مقصد سياسي يرمي إلى المس بالنفوذ الفرنسوي.. لا يخفى أن أكثر رؤساء الزوايا وكثيرا من المرابطين المعظَّمين في نفوس الأهالي اطمأنت قلوبهم للسيادة الفرنسوية، وبمقتضاه صاروا يطلبون الاعتماد على حكومتنا لمقاومة الأخطار التي أمست تهددهم من جراء تلك الجمعية التي لا يزال أنصارها يتكاثرون يوما فيوما بفضل دعاية متواصلة الجهود، ماهرة الأساليب، وعلى الأخص فيما بين الناشئة المتعلمة بالمدارس القرآنية) ([57])
إلى أن قال: (وعليه فإني أعهد إليكم أن تراقبوا بكامل الاهتمام ما يروج في الاجتماعات والمسامرات الواقعة باسم الجمعية التي يترأسها السيد ابن باديس، ولسانها الرسمي في الجزائر العاصمة الشيخ الطيب العقبي، كما يجب أن تشمل مراقبتكم المكاتب القرآنية المقصود استبدال الطلبة القائمين بها بطلبة اعتنقوا الفكرة الوهابية)([58])
ومن الأدلة التي ييستدلون بها كذلك بعض التصريحات من أعضاء الجمعية الكبار، ومنها خصوصا ما كتبه الشيخ عبد الحميد بن باديس من مقالات يعرف فيها بالدعوة الوهابية وبشيخها وقائدها الأول ابن عبد الوهاب، والتي كانت تحت عنوان (من هم الوهابيون؟ ما هي حكومتهم؟ ما هي غايتهم السياسية؟ ما هو مذهبهم؟)([59])، والتي كتبها في وقت اشتدت فيه الهجمة من طرف العلماء، وخصوصا علماء الطرق الصوفية ضدها.
فقد أرجع هجمتهم عليها إلى أسباب سياسية، وهي بالتالي تفتقر إلى المصداقية العلمية، يقول في ذلك: (وصار من يُريد معرفتهم لا يجد لها موردا إلا كتب خصومهم الذين ما كتب أكثرهم إلا تحت تأثير السياسة التركية التي كانت تخشى من نجاح الوهابيين نهضة العرب كافة وأقلهم من كتب عن حسن قصد من غير استقلال في الفهم ولا تثبت في النقل فلم تسلم كتابته في الغالب من الخطأ والتحريف.. وأنَّى تُعرف الحقائق من مثل هاته الكتب أو تلك، أم كيف تُؤخذ حقيقة قوم من كتب خصومهم، ولا سيما إذا كانوا مثل الصِنفين المذكورين؟)([60])
لكنه في موضع آخر يشرح مذهبها مصورا له بنفس صورة المنهج الذي تبنته جمعية العلماء، وكأنه يريد من خلال ذلك أن يقرب هذه الحركة للمجتمع الجزائري الذي كان شديد النفور عنها بحكم مصادمتها للإسلام التقليدي الذي ألفه، فهو يقول مثلا: (قام الشيخ محمد بن عبد الوهاب بدعوة دينية، فتبعه عليها قوم فلقبوا بـ: (الوهابيين) لم يدع إلى مذهب مستقل في الفقه ؛ فإن أتباع النجديين كانوا قلبه ولا زالوا إلى الآن بعده حنبليين ؛ يدرسون الفقه في كتب الحنابلة، ولم يدع إلى مذهب مستقل في العقائد؛ فإن أتباعه كانوا قبله ولا زالوا إلى الآن سنيين سلفيين ؛ أهل إثبات وتنزيه، يؤمنون بالقدر ويثبتون الكسب والاختيار، ويصدقون بالرؤية، ويثبتون الشفاعة، ويرضون عن جميع السلف، ولا يكفرون بالكبيرة، ويثبتون الكرامة.. وإنما كانت غاية دعوة ابن عبد الوهاب تطهير الدين من كل ما أحدث فيه المحدثون من البدع، في الأقوال والأعمال والعقائد، والرجوع بالمسلمين إلى الصراط السوي من دينهم القويم بعد انحرافهم الكثير، وزيغهم المبين.. لم تكن هاته الغاية التي رمى إليها بالقريبة المنال ولا السهلة السبل، فإن البدع والخرافات باضت وفرخت في العقول، وانتشرت في سائر الطوائف وجميع الطبقات على تعاقب الأجيال في العصور الطوال؛ يشب عليها الصغير، ويشيب عليها الكبير، أقام لها إبليس من جنده من الجن والإنس أعوانا وأنصارا، وحراسا كبارا من زنادقة منافقين، ومعمَّمين جامدين محرفين، ومتصوفة جاهلين، وخطباء وضَّاعين.. فما كانت – وهذا الرسوخ رسوخها، وهذه المنعة منعتها – لتقوى على فعلها طائفة واحدة كـ (الوهابيين) في مدة قليلة، ولو أعدَّت ما شاءت من العدة، وارتكبت ما استطاعت من الشدة) ([61])
إلى أن قال: (إن الغاية التي رمى إليها ابن عبد الوهاب، وسعى إليها أتباعه، هي التي لا زال يسعى إليها الأئمة المجددون، والعلماء المصلحون في جميع الأزمان)
فثناء ابن باديس على الوهابية بهذا، خاصة في ظل الانتقادات الكثيرة التي كانت توجه لهم، جعل المنتصرون لهذه النسبة يجعلون هذا من أدلة كونه من هذه المدرسة، خاصة اعتبارهم أنهم (أهل إثبات وتنـزيه)، و(سنيون سلفيون) فقد كان الفقهاء والعلماء وخاصة من مدارس المتكلمين يرمون الوهابية بأنهم (مجسمة ومشبهة وحشوية)([62])
وقال في موضع آخر يرد على أحد خصوم الوهابية: (ثم يرمي الجمعية بأنها تنشر المذهب الوهابي، أَفَتَعُدُّ الدعوة إلى الكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة، وطرحِ البدع والضلالات واجتنابِ المرديات والمهلكات نشرا للوهابية، أم أن نشر العلم والتهذيب وحرية الضمير وإجلال العقل واستعمال الفكر واستخدام الجوارح نشر للوهابية؟ إذا فالعالم المتمدن كله وهابي! فأئمة الإسلام كلهم وهابيون ! ما ضرنا إذا دعونا إلى ما دعا إليه جميع أئمة الإسلام)([63])
ومنها انتصار الشيخ عبد الحميد بن باديس لدعوة السلطان المغربي محمد بن عبد الله وابنه سليمان([64])، وهو من أنصار الوهابية الكبار في المغرب الأقصى، فقد نشر الشيخ عبد الحميد بن باديس خطبة للسلطان السلفي سليمان المذكور، وقدم لها مقدمة ضمنها تزكية هذا السلطان وطلب من خطباء الجزائر أن يخطبوا بها، وعنونها بقوله (لا تخلوا الأرض من قائم لله بالحجة)، ثم قال: (من المعلوم عند أهل العلم أن مما حفظ الله به دينه وأبقى به حجته؛ أن لا تنقطع الدعوة إلى الله في هذه الأمة والقيام على الحق والإعلان بالسنن، والرد على المنحرفين والمتغالين والزائغين والمبتدعين، وأن أهل هذه الطائفة معروفة مواقفهم في كل جيل، محفوظ آثارهم عند العلماء، غير أن غلبة الجهل وكثرة أهل الضلال قد تحول دون بلوغ صوتهم إلى جميع الناس، فترى أنصار الباطل كلما ظهر داع من دعاة الحق في ناحية اعترضوه بسكوت من سكت من قبله؛ وأوهموا أتباعهم المغرورين بهم أن هذا الداعي جاء بدين جديد، فيكون من أعظم ما يرد به عليهم ويبصر أولئك المغترين بهم نشر ما تقدم من كلام دعاة الحق وأنصار الهدى في سالف الزمان، ولهذا ننشر فيما يلي خطبة جليلة لمولانا السلطان سليمان ابن سيدي محمد بن عبد الله، أحد مفاخر ملوك المسلمين في القرن الثاني عشر في القطر الشقيق المغرب الأقصى، وقد كان هذا الإمام عاملا بعلمه آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر داعيا للسنة محاربا للبدعة، معلما للأمة ما علمه الله، منفذا فيها لأحكام الله، وقد نشر هذه الخطبة في رسالة خاصة إخواننا المصلحون في المغرب ورجوا من الخطباء أن يخطبوا بها كما كان أمر صاحبها رحمه الله تعالى أن يخطب بها في زمانه، فنقلناها من تلك الرسالة ونحن نرجو من خطباء الجزائر أن يخطبوا بها على الناس إن كانوا لهم ناصحين)([65])
ومن الأدلة كذلك الثناء الكثير الذي كان يبديه الشيخ محمد البشير الإبراهيمي كل حين للوهابيين والدعوة الوهابية، ومن ذلك قوله ردا على أعداء الوهابية: (ولا دافع لهم إلى الحشد إلا أنهم موتورون لهذه الوهابية التي هدمت أنصابهم ومحت بدعهم فيما وقع تحت سلطانها من أرض الله، وقد ضج مبتدعة الحجاز فضج هؤلاء لضجيجهم والبدعة رحم ماسة)([66])
ثم بين أن دعوتهم ودعوة الوهابيين دعوةٌ واحدة، فقال: (ونحن في الجزائر وهم في الجزيرة، ونحن نعمل في طريق الإصلاح الأقلام وهم يعملون فيها الأقدام، وهم يعملون في الأضرحة المعاول ونحن نعمل في بانيها المقاول)([67])
بل إن الإبراهيمي كتب في الوهابية والوهابيين أرجوزتين في غاية القوة والجمال، أما الأولى، فبعثها لبعض علماء نجد، قال فيها([68]):
إنَّا إذا ما ليلُ نجدٍ عسعسا |
وغربت هذي الجواري خُنَّسا |
والصبح عن ضيائه تنفَّسا |
قمنا نؤدِّي الواجب المقدَّسا |
ونقطع اليوم نناجي الطُّرُسا |
وننتحي بعد العشاء مجلسا |
موطَّداً على التقى مؤسَّسا |
في شِيخةٍ حديثهم يجلو الأسى |
ومما جاء فيها قوله([69]):
بوركتِ
يا أرضٌ بها الدين رسا |
وَأَمِنَتْ
آثاره أن تَدْرُسا |
والشرك
في كلِّ البلاد عرَّسا |
جذلان
يتلو كُتْبَه مُدرِّسا |
إلى آخر الأرجوزة الممتلئة بالثناء على الوهابية والوهابيين([70])، أما الثانية، فتوجه إلى بعض علماء نجد([71])، ومما جاء فيها قوله:
قد كنت
في جِنِّ النَّشَاط والأشرْ |
كأنَّني
خرجتُ عَن طورِ البَشَر |
وكنت
نَجْدِىَّ الهوى من الصغرْ |
أهيمُ
في بَدْر الدُّجى إذا سَفَرْ |
وقائدي
في الدين آيٌ وأَثَر |
صَحَّ
بَرَاوٍ ما وَنَى وَلا عَثَر |
وَمَذهبي
حُبُّ عَلِيٍّ وَعُمَر |
والخلفاءِ
الصَّالحين في الزُّمرْ |
هذا
وَلا أحْصُرُهُمْ في اثني عَشَر |
لا ولا
أَرْفَعُهمْ فوق البّشر |
ومن ذلك ما كتبه الشيخ أبو يعلى الزواوي في مقال بعنوان (الوهابيون سنيون، وليسوا بمعتزلة كما يقولون هنا عندنا بالجزائر)([72]) جاء فيه: (لما سئلت عن هذه الكلمة (الوهابية)، وعن عقيدة الإخوان النجديين، وسمعت أذناي ممن سألوني ومن غيرهم قولهم: إن الوهابيين معتزلة، وإن الحجاج منقبضون بسبب هذه الكلمة – الوهابية أو المعتزلة – المخالفة على زعمهم ؛ أجبت بالاختصار أن الإخوان الوهابيين حنابلة يتعبدون على مذهب الإمام أحمد بن حنبل الذي هو أحد المذاهب الأربعة المشهورة).
إلى أن قال: (إن ابن عبد الوهاب حنبلي، وإنما هو عالم إصلاحي وأتباعه – السلطان ابن السعود ورعيته وإمارته النجدية – إصلاحيون سلفيون سنيون حقيقيون على مذهب أحمد الإمام، وعلى طريقة الإمام تقي الدين ابن تيمية في الإصلاح والعناية التامة بالسنة)([73]).
ومن ذلك ما كتبه الأستاذ محمد السعيد الزاهري، فقد قام بنشر مقال لوزير المعارف بالمغرب الأقصى محمد الحجوي تحت عنوان (الوهابيون سنيون حنابلة)([74]) قال في التقديم له ما نصه: (كتب معالي الأستاذ الحجوي فصلا قيِّما عن الوهابية والوهابيون أردنا أن نتحف به قراءنا ليطلعوا على ما يقول العلماء الأعلام في الوهابية، وعلى ما يتمنون لها من سعة الانتشار، ونحن ننشر هذا الفصل كرد على لغط هؤلاء المشاغبين المغرضين الذين لا يزالون يرموننا بأننا وهابية، ويرمون الوهابية بالكفر والمروق من الدين)
ومن ذلك ما كتبه الشيخ الطيب العقبي في (العدد 2) من جريدة (السنة)([75]) يقول: (هذا وإن دعوتنا الإصلاحية – قبل كل شيء وبعده – هي دعوة دينية محضة، لا دخل لها في السياسة ألبتة، نريد منها تثقيف أمتنا وتهذيب مجتمعنا بتعاليم دين الإسلام الصحيحة، وهي تتلخص في كلمتين: أن لا نعبد إلا الله وحده، وأن لا تكون عبادتنا له إلا بما شرعه وجاء من عنده.. ثم ما هي هذه الوهابية التي تصورها المتخيلون أو صورها لهم المجرمون بغير صورتها الحقيقة؟ أهي حزب سياسي؟… أم هي مذهب ديني وعقيدة إسلامية كغيرها من العقائد والمذاهب التي تنتحلها وتدين بها مذاهب وجماعات من المسلمين؟ وإذا كانت الوهابية: هي عبادة الله وحده بما شرعه لعباده، فإنها هي مذهبنا وديننا وملتنا السمحة التي ندين الله بها وعليها نحي وعليها نموت ونبعث إن شاء الله من الآمنين)
بالإضافة إلى هذا، فقد كان من الكتب التي درسها الشيخ العقبي في مجالسه العلمية كتاب (كشف الشبهات) للشيخ محمد بن عبد الوهاب([76])، وهو من أخطر كتب الوهابية، وأكثرها تحاملا على ما سميناه (الإسلام التقليدي) إلى درجة الحكم على أصحابه بالشرك الأكبر([77]).
ومن ذلك قول الشيخ أحمد حماني مثنيا على المدرسة الوهابية: (أول صوت ارتفع بالإصلاح والإنكار على البدعة والمبتدعين ووجوب الرجوع إلى كتاب الله والتمسك بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونبذ كل ابتداع ومقاومة أصحابه، جاء من الجزيرة العربية وأعلنه في الناس الإمام محمد بن عبد الوهاب أثناء القرن الثامن عشر (1694-1765) وقد وجدت دعوته أمامها المقاومة الشديدة حتى انضم إليها الأمير محمد بن سعود وجرد سيفه لنصرتها والقضاء على معارضيها فانتصرت…وكانت مبنية على الدين وتوحيد الله سبحانه في ألوهيته وربوبيته ومحو كل آثار الشرك الذي هو الظلم العظيم، والقضاء على الأوثان والأنصاب التي نصبت لتعبد من دون الله أو تتخذ للتقرب بها إلى الله، ومنها القباب والقبور في المساجد والمشاهد)([78])
وهكذا نجد كل من انتسب للجمعية من قريب أو بعيد يعتبر الوهابية مدرسة إصلاحية كبرى، وهي تصريحات يراها هؤلاء كافية لاعتبار الجمعية فرعا من فروع الحركة الوهابية في الجزائر.
وفي مقابل هؤلاء نجد من الوهابيين أنفسهم من ينكر هذه النسبة، ويستدل لذلك بالكثير من الأدلة، ولعل أهمها ارتباط الجمعية بالسلفية التنويرية مع الفارق الشديد بين كلتا السلفيتين.
ونحن في هذا المقام لا نستطيع أن نستعجل بالحكم على الجمعية من خلال بعض تصريحاتها، ولكنا نحب أن نذكر أن في الجمعية ميلا خاصا لهذه المدرسة في جانب واحد، وهو الموقف من الطرق الصوفية، ومن العادات المرتبطة بها، فإن الجمعية في هذه الحالة تصبح وهابية بامتياز، ولعل أحسن مثال على هذا التقارب الشديد بين الجمعية والمدرسة الوهابية ما كتبه الشيخ مبارك الميلي تحت عنوان (رسالة الشرك ومظاهره)، فقد اهتمت هذه الرسالة بما يهتم به الوهابيون من القبور ونحوها، واعتبار ذلك شركا جليا، مع أن ذلك مما انفردت به الوهابية عن غيرها من الحركات.
والدارس لتلك الرسالة لا يراها في الحقيقة إلا نسخة من (كتاب التوحيد) لابن عبد الوهاب، وقد قال الشيخ في مقدمتها معترفا بهذا: (وبعد تمام التأليف، وقبل الشروع في الطبع ؛ اتصلت بهدية من جدة، من الأخ في الله السيد محمد نصيف([79]) ؛ تشتمل على كتاب (فتح المجيد بشرح كتاب التوحيد) لابن عبد الوهاب، فعلقت منه فوائد ألحقتها بمواضعها معزوة إليه، ولو اطلعت عليه قبل كتابة الرسالة ؛ لخفف علي من عناء ابتكار العناوين وتنسيقها)([80]).
بل إن الشيخ وإمعانا في البرهنة على هذا التوجه قام بإهداء رسالته إلى الملك عبد العزيز ونجليه سعود وفيصل، وشيخ الإسلام في ذلك العهد الشيخ عبد الله بن حسن آل الشيخ([81]).
وقد عبر ابنه الأستاذ محمد الميلي في كتابه (الشيخ مبارك الميلي ؛ حياته العلمية ونضاله الوطني) عن توجه والده في هذه الرسالة، فقال: (إن هذا العمل – أي رسالة الشرك ومظاهره – يكشف عن مدى الترابط بين الفكر الإصلاحي الديني والسياسي في المشرق وفي الجزائر، أي انه يسجل مظهرا من مظاهر الوحدة الفكرية بين المغرب العربي والمشرق، وهي وحدة تحققت بفعل عامل الدين الإسلامي واللغة العربية في نفس الوقت. فأوجه الشبه بين حركة جمعية العلماء وتيارات الفكر السلفي في المشرق عديدة، فقد اعتمدت في دعوتها على كتب ابن تيمية وابن القيم وكتابات محمد بن عبد الوهاب.. ولم يكن محض صدفة أن نجد في خزانات الرعيل الأول من جمعية العلماء أهم كتب الفكر السلفي التي كانت قد طبعت على نفقة المرحوم عبد العزيز آل سعود، وكذلك مطبوعات (المنار))([82])
وسنرى أمثلة أخرى كثيرة على هذا عند ذكر فروع الخلاف بين الجمعية والطرق الصوفية.
ثانيا ــ مبادئ السلفية المحافظة وموقف الجمعية منها
من خلال استقراء التراث الضخم الذي ألفه علماء الوهابية في السعودية ومصر والهند وباكستان وغيرها من المناطق المتأثرة بالمدرسة الوهابية، نجد اجتماعها على النواحي التالية:
1- محاربة مظاهر الشرك بكل أنواعه وأشكاله القولية والعملية – على حسب ما يؤصلون له- وخصوصا ما يرتبط منه بتعظيم الأولياء وزيارة القبور والتبرك والتوسل والاستغاثة ونحوها، مما يعتبرونه مناقضا لتوحيد الألوهية.
2- التحذير من البدع أيًا كانت، كلية أم جزئية، وحقيقية أم إضافية.
3- دعوتهم إلى العودة إلى المصادر الأصلية في استنباط الأحكام.
4 – عدم الاهتمام بالسياسة، وأحيانا كثيرة يرون لزوم طاعة السلطان مهما كان، ولهذا نجد ذلك الاتفاق العجيب بين آل سعود وآل الشيخ، فلآل سعود الدنيا، ولآل الشيخ الدين.
انطلاقا من هذه المبادئ الكبرى، نحاول هنا أن نبحث عن موقف جمعية العلماء المسلمين الجزائريين منها، لنكتشف من خلالها مدى قربها من الوهابية، أو مدى بعدها عنها.
مع أن التحذير من الشرك متفق عليه بين الأمة جميعا، لأنه أصل الإسلام، والهدف من بعثة الرسل – عليهم الصلاة والسلام- إلا أن هذه المدرسة تتصور نفسها هي القائم الواحد في الأمة على هذا الثغر.
وهي تختصر مفهوم الشرك عادة في بعض الظواهر البسيطة التي لا تخرج عن بعض التعبيرات الرمزية عن المحبة والولاء ونحوها لأناس يعتقد فيهم الصلاح، أو لمواضع يعتقد فيها البركة، وأكثر تلك المواضع اهتماما من جهة هذه المدرسة هي المقابر والأضرحة المنتشرة في العالم الإسلامي.
وقد عبر الشيخ محمد بن عبد الوهاب في رسالة كتب بها إلى عبد الرحمن بن عبد الله السويدي أحد علماء العراق يذكر له فيها حقيقة دعوته، ومما ورد فيها قوله: (أخبرك أني ولله الحمد متبع، ولست بمبتدع، عقيدتي وديني الذي أدين الله به مذهب أهل السنّة والجماعة الذي عليه أئمة المسلمين مثل الأئمة الأربعة وأتباعهم إلى يوم القيامة، لكني بيَّنت للناس إخلاص الدين لله، ونهيتهم عن دعوة الأحياء والأموات من الصالحين وغيرهم، وعن اشتراكهم فيما يعبد الله به، من الذبح والنذر والتوكل والسجود وغير ذلك مما هو حق لله الذي لا يشركه فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل، وهو الذي دعت إليه الرسل من أوَّلهم إلى آخرهم، وهو الذي عليه أهل السنَّة والجماعة)([83])
وكتب الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن في بيان دعوة جده الشيخ عبد الوهاب يقول: (إن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله إنما دعا الناس إلى أن يعبدوا الله لا شريك له، ولا يشركوا به شيئاً وهذا لا يرتاب فيه مسلم إنه دين الله الذي أرسل به رسله، وأنزل به كتبه)([84])
ويبين الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن في رسالته التي بعثها إلى أهل الحجاز وعسير واليمن معتقدهم وما يدعون إليه فيقول: (اعلموا أن الذي نعتقده وندين الله به، وندعو الناس إليه ونجاهدهم عليه هو دين الإسلام الذي أوجبه الله على عباده وهو حقّه عليهم الذي خلقهم لأجله، فإن الله خلقهم ليعبدوه ولا يشركوا به في عبادته أحداً من المخلوقين لا ملك مقرب ولا نبي مرسل فضلاً عن غيرهما … ونأمر بهدم القباب ونهدم ما بني على القبور، ولا يزاد القبر على شبر من التراب وغيره)([85])
هذا هو التصور العام الذي يناضل من أجله الوهابية، وقد قاموا لأجله بهدم الأضرحة، والقضاء على الكثير من الآثار التي كانت مخزنا مهما للتاريخ الإسلامي.
وعند محاولة المقارنة بين دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب والجمعية من هذه الناحية نجد نقاط وصل كثيرة، سنرى تفاصيلها في محلها من هذا الجزء والجزء الثالث، ولكنا هنا نكتفي ببعض الشواهد على ذلك للدلالة على المطابقة التامة بين الوهابية والجمعية في هذه الناحية.
ولعل أقرب شاهد إلى ذلك ما ذكرناه في الفصل السابق من قيام جماعة تعرف بجماعة الشيخ مبارك الميلي باعتراض أفراد قبيلة أراس من سكان فج أمزالة عند عودتها من زيارتها لمقام الشيخ الزواوي بالروفاك والاعتداء عليها بالسب والشتم، (لولا تدخل الفرنسيين وتفريقهم لهم لوقعت بينهم ملحمة عظيمة)([86])
وهذا يدل على أن هناك استنساخا حصل في الجزائر، يراد منه إعادة ما فعله الشيخ محمد ابن عبد الوهاب إلى الجزائر.
والدارس لرسالة الشرك ومظاهره يكتشف هذا بوضوح، فهو يعتبر الكثير من القضايا الخلافية من الشرك.
ومثله، ولعله أكثر منه جرأة، وأقرب إلى المدرسة الوهابية الطيب العقبي، الذي اقتصرت دعوته وإصلاحه على مقاومة ما يسميه شركا، ومن قصائده في هذا قوله([87]):
لا
أنادي صاحب القبر أغث |
أنت
قطب، أنت غوث وسناد |
قائما
أو قاعدا أدعو به |
إن
ذا عندي شرك وارتداد |
لا
أناديه ولا أدعو سوى |
خالق
الخلق رؤوف بالعباد |
من
له أسماؤه الحسنى وهل |
أحد
يدفع ما الله أراد؟ |
مخلصا
ديني له ممتثلا |
أمره
لا أمر من زاغ وحاد |
وقد اشتهر الشيخ الطيب العقبي بهذا إلى درجة أن أصبح ارتباط النهي عما يسمى (مظاهر الشرك) عند كثير من العامة باسم (العقبي)، ويقال لمن يسلك سبيله في الجزائر العاصمة ونواحيها بـ (العقبي)([88])
ولأجل ما أحدثه من فتنة بسبب هذه المواقف منع من التدريس، وقد جاء في منشور ميشال الذي به أوقف الشيخ عن التدريس ما يلي: (إن القصد العام من هذه الدعاية ـ أي دعوة العقبي ـ هو نشر تعاليم وأصول الوهابية بين الأوساط الجزائرية بدعوى الرجوع بهم إلى أصول الدين الصحيح وتطهير الإسلام من الخرافات القديمة التي يستغلها أصحاب الطرق وأتباعهم)([89])
ومثلهما الشيخ البشير الإبراهيمي، فقد كان يحمل حملة شديدة على نفس المظاهر التي يعتبرها الشيخ ابن عبد الوهاب شركا جليا مكفرا، وهو يقلده في ذلك تقليدا، أو يتبعه اتباعا، بل يزيد عليه في الحدة والشدة في بعض المواقف كهذا الموقف الذي يصف فيه بعض الموالد التي تقام في منطقة وهران، ولا يتحرج أن يرمي بالشرك كل من حضرها أو حضر لها، لا يستثني من ذلك أحدا، يقول في ذلك: (هذه الزرد التي تقام في طول العمالة الوهرانية وعرضها هي أعراس الشيطان وولائمه، وحفلاته ومواسمه، وكلّ ما يقع فيها من البداية إلى النهاية كله رجس من عمل الشيطان، وكلّ داع إليها، أو معين عليها، أو مكثر لسوادها فهو من أعوان الشيطان)([90])
ويضيف معللا سر هذا الموقف المتشدد قائلا: (كلّما انتصف فصل الربيع من كل سنة تداعى أولياء الشيطان في كل بقعة من هذه العمالة إلى زردة يُقيمونها على وثن معروف من أوثانهم، يسوّله لهم الشيطان وليًّا صالحًا، بل يصوّره لهم إلهًا متصرفًا في الكون، متصرفًا في النفع والضرّ والرزق والأجل بين عباد الله، وقد يكون صاحب القبر رجلًا صالحًا، فما علاقة هذه الزرد بصلاحه؟ وما مكانها في الدين؟ وهل يرضى بها لو كان حيًّا وكان صالحًا الصلاح الشرعي؟)([91])
وهو الركن الثاني من الأركان التي تعتبرها الوهابية أصلا من أصول دعوتها، ومع كون ذلك بديهية عند جميع المذاهب والطوائف الإسلامية بمن فيهم أصحاب الطرق الصوفية، إلا أن للوهابية تصورها الخاص للبدعة، وهي تنتهج في ذلك ما نهجه الشاطبي في الاعتصام، والذي ينص على أن كل ما لم يرد في النصوص من أمور العبادات بدعة، حتى لو كان له أصل في الشريعة إذا لم ترد النصوص بفعله من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو السلف الصالح.
وبناء على هذا أنكر الشاطبي على القائلين بتقسيم البدع إلى حسنة وسيئة، وهو القول الذي اشتهر به العز بن عبد السلام، وكثير من الفقهاء، وتبناه الصوفية, معتبرا أن (هذا التقسيم أمر مخترع لا يدل عليه دليل شرعي، بل هو في نفسه متدافع ؛ لأن من حقيقة البدعة أن لا يدل عليها دليل شرعي لا من نصوص الشرع ولا من قواعده، إذ لو كان هنالك ما يدل من الشرع على وجوب أو ندب أو إباحة لَمَا كان ثَمّ بدعة ولكان العمل داخلاً في عموم الأعمال المأمور بـها أو المُخيَّر فيها. فالجمع بين تلك الأشياء بدعاً وبين كون الأدلة تدل على وجوبـها أو ندبها أو إباحتها: جمع بين متنافيين)([92])
وكما أن الجمعية اعتمدت آراء المتشددين في مفهوم البدعة والموقف منها، وهي تتفق في ذلك تمام الاتفاق مع الوهابية، فهي كذلك اختارت طريقتهم في التعامل مع ما تراه بدعة، ولو وقع فيه الخلاف بين العلماء، وقد جعلها هذا تقع في صدام لا مع الطرق الصوفية وحدها، بل حتى مع المدارس المقاصدية التي مثلها سابقا العز بن عبد السلام، ومثلها في عصر الجمعية الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، لأن هذه المدارس ترى انفتاح الشريعة على الجديد الكثير الذي يخدم مقاصد الشريعة.
وسنحاول هنا باختصار أن نذكر نموذجين لمواقفها مما تراه بدعة، مثل النموذج الأول الشيخ عبد الحميد بن باديس مع شيخه ابن عاشور، وهو إمام المدرسة المقاصدية في هذا العصر، والثاني هو الشيخ محمد البشير الإبراهيمي مع الطرق الصوفية عموما، والطريقة العلاوية خصوصا.
وقد اخترنا لهذين النموذجين مسألة واحدة أولتها الجمعية أهمية كبرى، وهي مسألة قراءة القرآن على الموتى، وتشييع الجنائر بالذكر، ونحو ذلك مما يضعه الفريق المتشدد ضمن ما يسميه (بدع الجنائز)
النموذج الأول: ابن باديس وشيخه ابن عاشور:
وقد حصل هذا الخلاف بين الشيخ ابن باديس وشيخه ابن عاشور بسبب مسألة (قراءة القرآن الكريم على على الأموات)، وهل هي بدعة، أو ليست بدعة.
ونرى – أنها بما أعطيت من أهمية من خلال جريدة البصائر، وبما أثارت من ضجة وقتها ــ خير مثال يدل على تشدد الجمعية في موقفها مما تراه بدعة، وأن ذلك التشدد لا يتوقف عند حد مواجهة الطرق الصوفية وحدها، بل يتعداه إلى المدارس الأخرى، وخاصة المدرسة المقاصدية.
وبدأ هذا الخلاف الحاد الشديد بسبب فتوى أصدرها الشيخ ابن عاشور حول جواز قراءة القرآن الكريم على الموتى، ونصها كما ورد في البصائر هو: (أن السنة في المحتضر وفي تشييع الجنازة وفي الدفن هو الصمت للتفكر والاعتبار. فإذا نطق الحاضر فليكن نطقه بالدعاء للميت، بالمغفرة والرحمة فإن دعوة المؤمن لأخيه بظهر الغيب مرجوة الإجابة. وأما قراءة القرآن عن الميت حين موته وحين تشييع جنازته وحين دفنه فلم تكن معمولا بها في زمان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وزمان الصحابة، إذ لم ينقل ذلك في الصحيح من كتب السنة والأثر مع توفر الدواعي على نقله لو كان موجودا. إلا الأثر المروي في قراءة سورة يس عند رأس الميت، عند موته على خلاف فيه، ولهذا كان ترك القراءة هو السنة، وكان أفضل من القراءة في المواطن الثلاثة المذكورة، وحينئذ فتكون قراءة القرآن في تلك المواطن إما مكروهة وإما مباحة غير سنة، فتكون مندوبة في جميعها، وإما مندوبة في بعضها دون بعض)([93])
ونحب أن نبين قبل طرح موقف الشيخ عبد الحميد بن باديس منها، ومن شيخه بسببها أن نبين أن الشيخ ابن عاشور من أركان علم المقاصد الكبار، أو هو (المعلم الثاني) – على حد وصف محمد الطاهر الميساوي – بعد (المعلم الأول) الذي هو الشاطبي، وله فيها إضافات محترمة لقيت عناية من الباحثين([94])، بالإضافة إلى إدخاله علم المقاصد في البرنامج الدراسي لجامعة الزيتونة.
ولعل رأيه في هذه المسألة، وفي ذلك الحين الذي حاول المستعمر فيه طمس الهوية الوطنية للشعوب المستعمرة، وإبعادها عن دينها وكتابها وقيمها، ينطلق من رؤية مقاصدية بإباحة بل استحباب كل ما يخدم الهوية ويحفظ الدين بغض النظر عن كونه فعل في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أو لم يفعل، ما دام لا يتصادم مع الشريعة ومصادرها.
لكن الشيخ عبد الحميد بن باديس المشبع بما ذكره الشاطبي، وبما تتبناه الوهابية لم يرض هذه النظرة، بل رأى أن في فتح هذا الباب تحريفا للشريعة وتصرفا فيها، وأن ذلك ليس مأذونا به في حال من الأحوال.
ولذلك نرى ابن باديس في خطابه لشيخه ورده عليه قاسيا شديدا يكتب المقالات الطوال في الرد عليها، وعلى المنهج الذي اعتمده، وينتصر فيها بقوة لمنهج الشاطبي، وينقل أدلته عليه، بل يضيف إليها.
ونرى لأجل هذا أن هذه الردود هي أحسن وثيقة تبين موقف الجمعية مما تتصوره من البدع، ومصادرها في ذلك، وهي بذلك تيسر على الباحث معرفة وجوه الاستدلال ومصادره الذي تعتمده الجمعية.
وبناء على هذا، فسنحاول ــ هنا ــ أن نحلل هذه الوثيقة المهمة، لا لنكتشف الموقف من البدعة، والأدلة الشرعية عليها فقط، بل لنرى كذلك منهج التعامل مع من تتصوره الجمعية مبتدعا كائنا من كان.
يبدأ الشيخ عبد الحميد بن باديس ــ كعادة التيار السلفي عموما، والوهابيين خصوصا ــ قبل الحديث عن تجريح البدعة تجريح المبتدع، ومحاولة اكتشاف الدوافع وراء بدعته، والتحذير منه بعد ذلك.
ويتجلى هذا كله واضحا من خلال العنوان الذي كتب فيه رده على الشيخ ابن عاشور، فقد عنون المقال بـ (شيخ الإسلام بتونس يقاوم السنة، ويؤيد البدعة، ويغري السلطة بالمسلمين!!)([95])
ونلاحظ هنا أن ابن باديس يعتبر الشيخ ابن عاشور مقاوما للسنة، ومؤيدا للبدعة مع أن المسألة التي ذكرها الشيخ مسألة خلافية قديمة لها من يؤيدها من الفقهاء القدامى، وخاصة من الفقهاء الذين ينتهجون منهج المدرسة المقاصدية إلا أن الشيخ ابن باديس لم ينظر إليها بتلك الصورة، بل نظر إليها بنفس الشدة التي ينظر إليها التيار السلفي عموما إلى المسائل الخلافية.
وقد بدأ مقاله بهذا الاستهلال القاسي، والذي يقول فيه: (نطق (شيخ الإسلام) – والحمد لله- بعد سكوت مألوف منذ السنين الطوال، وإن كان أتى بما لا يرضي الله ورسوله، والحق ودليله، فقد نطق على كل حال. ولقد كان نطقه متوقعا لدينا. فقد كان المقال المنشور بالعدد الحادي عشر من (البصائر) الموجه إلى علماء الزيتونة عامة وشيخي الإسلام به خاصة، قنبلة وقعت وسط أولئك النائمين والمتناومين أزعجتهم في مراقدم ونبهت من كان غافلا عنهم من الناس، حتى لقد تسابق الناس إلى ذلك العدد يطلبونه بأضعاف ثمنه كما أخبرني تلامذتي الذين رجعوا من تونس لتعطيل القراءة بجامع الزيتونة بسبب البلاغ المشهور وما لحق تلامذة الجامع من سجن وتغريب)([96])
ولم يكتف الشيخ ابن باديس بهذا الاستهلال القاسي في خطاب شيخه، بل راح يصفه بالعجب والغرور ومواجهة أنصار السنة، وهو موقف يذكرنا تماما بموقف مشايخ الوهابية عموما مع المخالف لهم مهما كان، يقول ابن باديس مخاطبا شيخه: (إننا نشكر لشيخ الإسلام المالكي هبوطه إلى الميدان، وإن كان هبط إليه هبوط المغيظ المحنق الذي أنساه الغيظ والحنق ما يناسب مقامه من التحري والاتزان، فتعثر في أذيال العجب والتعظم عثرات أهوت به مرات في مهاوي الخطأ والتناقض حتى تردى في هودة إذاية أنصار السنة باللسان، ومحاولة إذايتهم بيد العدوان.. شيخ الإسلام يقاوم السنة- ويؤيد البدعة-! ويغري (السلطة) بالمسلمين!! هذا- والله- عظيم وإن كان القارئ يود أن يعرف من هو هذا الذي تحلى بهذا اللقب وأتى بهذه الشنع التي لا يأتي بها من ينتمي انتماء صادقا للإسلام من عامة المسلمين فكيف بشيخ الإسلام؟ نعم كل أحد يتعجب نهاية العجب أن يصدر هذا من شيخ الإسلام. ويزيد كاتب هذه السطور عجبا آخر فوق عجب كل أحد أن شيخه وأستاذه وصديقه الشيخ الطاهر بن عاشور هو الذي يأتي بهذا الباطل ويرتكب هذا الذنب)([97])
ولكن ابن باديس مع هذا التشدد الذي دفعه إليه نصرة ما يعتقده من حق، يعدل أحيانا عن هذا الموقف المتشدد ليبين أن غرضه منه نصرة الحق والسنة، لا نصرة النفس والهوى، ليذكرنا في ذلك بمقولة ابن القيم عن شيخ الإسلام الهروي، فقد قال بعد مناقشته في بعض المسائل في (منازل السائرين)([98]): (شَيْخُ الْإِسْلَامِ حَبِيبٌ إِلَيْنَا. وَالْحَقُّ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْهُ. وَكُلُّ مَنْ عَدَا الْمَعْصُومِ صلى الله عليه وآله وسلم فَمَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ وَمَتْرُوكٌ)([99])
وهكذا فعل الشيخ ابن باديس مع شيخه ابن عاشور، فقد قال فيه: (إنني امرؤ جبلت على حب شيوخي وأساتذتي وعلى احترامهم إلى حد بعيد، وخصوصا بعضهم، وأستاذي هذا من ذلك الخصوص، ولكن ماذا أصنع إذا ابتليت بهم في ميدان الكفاح عن الحق ونصرته؟ لا يسعني وأنا مسلم أدين بقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24] إلا مقاومتهم ورد عاديتهم عن الحق وأهله)([100])
وابن باديس مع موقفه المتشدد هذا يعترف لشيخه بالتبحر في العلم والتحقيق، فقد عرفه ـ كما يذكر ــ (في جامع الزيتونة، وهو ثاني الرجلين اللذين يشار إليهما بالرسوخ في العلم والتحقيق في النظر والسمو والاتساع في التفكير أولهما العلامة الأستاذ شيخنا (محمد النخلي) القيرواني رحمه الله، وثانيهنا العلامة الأستاذ شيخنا (الطاهر بن عاشور)([101])
وهو يقر كذلك بأن شيخه لم يكن معارضا للإصلاح الذي تمثل في ذلك الوقت بمدرسة محمد عبده، ويقر بدروه في تربيته على حب العربية والاعتزاز بها كما اعتز بالإسلام.
ولكنه مع هذا الإقرار يرى أن المناصب التي تولاها الشيخ هي التي جعلته يفتي تلك الفتوى، لا التحقيق العلمي، ولا المنهج المقاصدي الذي أصل له، وكان يعتمد عليه في فتاواه، ولا الأخذ بما أخذ به الكثير من الفقهاء في عصور الإسلام المختلفة ابتداء من العصر الأول.
وهذا المنهج يذكرنا أيضا بما فعلته الجمعية في مناقشاتها الفقهية مع الطرق الصوفية، كما سنرى، فهي لا تكتفي بالردود العلمية عليها، بل تضم إلى ذلك اتهامها في دوافعها ونياتها، وهو منهج يطغى على التيار السلفي عموما في مناقشاته مع الآخر.
يقول ابن باديس مقارنا بين شيخيه النخلي وابن عاشور: (مات الأستاذ النخلي على ما عاش عليه، وبقي الأستاذ ابن عاشور حتى دخل سلك القضاء، فخبت تلك الشعلة وتبدلت تلك الروح فحدثني من حضر دروسه في التفسير أنه- وهو من أعرف إنكاره على الطرق اللفظية وأساليبها- قد أصبح لا يخرج عن المألوف في الجامع من المناقشات اللفظية على طريقة عبد الحكيم في مماحكاته وطرائق أمثاله وبقي حتى تقلد خطة شيخ الإسلام، ووقف هو وزميله الحنفي في مسألة التجنيس المعروفة منذ بضع سنوات، ذلك الموقف حتى أصبح اسمه لا يذكر عند الأمة التونسية إلا بما يذكر به مثله. وها هو اليوم يتقدم بمقال نشره بجريدة (الزهرة) في عدد يوم الاثنين الرابع عشر من هذا الشهر الحرم يقاوم فيه السنة ويؤيد فيه البدعة ويغري السلطة بالمسلمين.. فهل ابن عاشور هذا اللقب بشيخ الاسلام، هو ابن عاشور أستاذي الذي أعرف؟ لا! ذلك رجل آخر مضى قضى عليه القضاء وأقبرته المشيخة، وقد أديت له حقه بما ذكرته به. وهذا مخلوق آخر ليس.. موقفه اليوم أول مواقفه ولا أحسبه يكون آخرها. وإنني لا أود أن يكون آخرها فإن المسلمين اليوم بأشد الحاجة إلى معرفة ما ينطوي عليه مثله ممن ينتحلون ألقابا مخترعة في الإسلام، ولا يفضحهم مثل مقال هذا الرجل) ([102])
بعد هذا، وفي أعداد تالية من البصائر، بدأ الشيخ عبد الحميد بن باديس يناقش شيخه في المسألة، ويعتمد في الأدلة التي يسوقها على نفس الأدلة التي اعتمد عليها قبله الشاطبي في الاعتصام، بل يحاكم شيخه إلى الشاطبي مع أن الشيخ ابن عاشور ــ كما يرى كل باحث منصف ــ لا يقل في فقهه وفهمه للمقاصد عن الشاطبي نفسه.
لكن ابن باديس مع ذلك يخاطبه قائلا: (لم ينصف فضيلته الشاطبي في الصورة التي صور بها كلامه وفيما رواه به. وكل ذلك لأجل أن يتوصل إلى تهوين ارتكاب بدعة القراءة في المواطن الثلاثة لأنها من المكروه الذي لا يعاقب على فعله)([103])
وانطلاقا من هذا راح الشيخ ابن باديس يلخص استدلالات الشاطبي، بل ويزيد عليها، وسنرى تفاصيل ذلك عند الحديث عن مصادر الجمعية في موقفها من البدعة في الفصل الأول من الجزء الثالث من هذه السلسلة.
النموذج الثاني: الشيخ البشير الإبراهيمي والطريقة العلاوية
وقف الشيخ البشير الإبراهيمي مع الشيخ ابن باديس وأنكر الكثير مما يتصوره من (بدع الجنائز)، ومن ذلك ما كتبه في جريدة البصائر تحت عنوان (إما سنّة وإما بدعة)([104]) يرد بها على مقال تحت عنوان (المصلحون يحاربون لا إله إلا الله) نشرته جريدة (لسان الدين) التابعة للطريقة العلاوية.
وقد خاطب العلاويين فيه بطريقة لا تقل عن طريقة ابن باديس، بل إن الإبراهيمي اعتبر فيه المعركة مع الطرقيين معركة سنة أو بدعة، يقول: (المسألة بيننا لا تتجاوز أحد أمرين: إما سنّة نحن وهم سواء في امتثالها والإذعان لها،. أو بدعة نحن وهم سواء في تجنبها وقتلها. هذا باعتبار الإسلام الجامع بيننا. أما إذا كان الطرف الآخر لا يدين بما ندين فما كان لنا أن نأخذ من على غير ملتنا بما وجب علينا أخذ أنفسنا به.. الأمر- يا لله لهذا الدين- بيننا وبين إخوان لنا في الدين والجنس والوطن. إخواننا فيها وإن كانوا لا يراعونها ولا يراعون عهدها وميثاقها الذي واثقنا الله به)([105])
ثم تحدث بنفس المنهج الذي انتهجه الشيخ ابن باديس من مراعاة قاعدة الترك، واعتبرها المعيار الذي يميز به بين السنة والبدعة، يقول في ذلك: (من باب ما هو معلوم من الدين بالضرورة إذا قلنا إِن تشييع الجنائز على عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان بما يناسب جلال الموت ورهبته، والذي يتناسب وينسجم مع التشييع هو الخشوع والتذكر والاعتبار بمن حملوا على الأعواد. والخشوع معروف هو غير الصراخ والعويل والضجيج والتهويل وقد شيّع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه وبناته، وشيّعه أصحابه من بعده وشيّع الصحابة- رضوان الله عليهم- بعضهم بعضًا كذلك على هيئة واجمة رهيبة تأثيرها في مشاهديها تأثير ما بعده من تأثير)([106])
ثم استعرض بعض ما ذكره الطرقيون من أدلة على تلك الأذكار التي تشيع بها الجنائز، ورد عليها، قال: (إنهم يقولون ان ذكر الله في تشييع الجنائز يلهي باقي المشيّعين عن لهو الحديث، نحن معهم على هذا بشرط أن يكون الذكر تفكرًا واعتبارًا لا طبلًا ومزمارًا. أما ما هم عليه من رفع أصواتهم في التشييع بلا إله إلا الله وبما سوّلت لهم أنفسهم وزين لهم شياطينهم فهو منكر أنكره الله ورسوله وأصحابه والأيمة المرتضون.. إن لا إله إلا الله لا توضع في غير مواضعها يا قوم! فما لكم إذا قيل لكم لا تضعوها في غير محلها، ومنه الجهر بها في التشييع قلتم متجرئين إننا نحارب لا إله إلا الله؟ كبرت كلمة تخرج من أفواهكم)([107])
وهو يدعو الطرقيين إلى مراعاة مذهب مالك في هذه المسائل، كما دعا قبله الشيخ ابن باديس شيخه ابن عاشور إلى هذه المراعاة، يقول في ذلك: (ولو كانوا ممن يبتغي إلى الله سبيلًا كما يزعمون لكفاهم أن ينظروا كتاب الجنائز من موطأ مالك – رضي الله عنه – أو من البخاري أو مسلم أو غير هذه من كتب الحديث الصحيحة ولكنهم إشربوا حب البدعة حتى الثمالة. فما لنا نجادلهم بالحديث وبالكتاب المنير؛ وهم لم ينقادوا حتى للفقهاء الذين يدعون أنهم لهم مقلدون؟!)([108])
3 ـ الدعوة إلى العودة إلى المصادر الأصلية لاستنباط الأحكام:
وهذا هو القاسم المشترك الأكبر بين المدارس السلفية، فقد انتقدت جميعا انصراف العلوم الإسلامية عن المصادر الأصلية، والتصاقها بالمصادر الدخيلة من الفلسفة والاجتهادات العقلية المجردة عن الرجوع إلى النقل الصحيح.
وانطلاقا من هذا وقفت الجمعية موقفا سلبيا من (علم الكلام) الذي ترك الأدلة القرآنية الواضحة البسيطة إلى أدلة معقدة لا تثمر يقينا ولا إيمانا، يقول ابن باديس: (أدلة العقائد مبسوطة كلها في القرآن العظيم بغاية البيان ونهاية التيسير.. فحق على أهل العلم أن يقوموا بتعليم العامة لعقائدها الدينية، وأدلة تلك العقائد من القرآن العظيم، إذ يجب على كل مكلف أن يكون في كل عقيدة من عقائده الدينية على علم، ولن يجد العامي الأدلة لعقائده سهلة قريبة إلا في كتاب الله، فهو الذي يجب على أهل العلم أن يرجعوا في تعليم العقائد للمسلمين إليه، أما الإعراض عن أدلة القرآن، والذهاب مع أدلة المتكلمين الصعبة ذات العبارة الاصطلاحية، فإنه من الهجر لكتاب الله وتصعيب طريقة العلم على عباده وهم في أشد الحاجة إليه، وقد كان من نتيجته ما نراه اليوم في عامة المسلمين من الجهل بعقائد الإسلام وحقائقه)([109])
ومثل ذلك السنة المطهرة فهي صنو القرآن في التعريف بعقائد الإسلام، والبرهنة عليها، وقد نص على هذا الشيخ ابن باديس في مواضع كثيرة من مقالاته، من ذلك ما نشره في مجلة الشهاب عند بيانه للمنهج المثالي الذي كان ينمي به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المعاني العقدية في نفوس الناس، قال: (كان الأعرابي الجاهل المشرك يأتي للنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- فيؤمن به ويصحبه يتعلم منه الدين، ويأخذ عنه الهدى، فيستنير عقله بعقائد الحق وتتزكى نفسه بصفات الفضل، وتستقيم أعماله على طريق الهدى، فيرجع إلى قومه هادياً مهدياً، أما ما يقتدي به، ويؤخذ عنه كما اقتدى هو بالنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وأخذ عنه. فعلى كل مؤمن أن يسلك هذا السلوك فيحضر مجالس العلم التي تذكره بآيات الله وأحاديث رسوله ما يصحح عقده ويزكي نفسه ويقوِّم عمله وليطبق ما يسمعه على نفسه وليجاهد في تنفيذه على ظاهره وباطنه وليداوم على هذا حتى يبلغ إلى ما قدر له من كمال فيه فيرجع وهو قد صار قدوة لغيره، في حاله، وسلوكه)([110])
وانطلاقا من هذا كان ابن باديس يرى أن المنهج الكلامي لا يصل بالإنسان إلى اليقين الذي يوصله إليه القرآن الكريم، يقول في ذلك: (قلوبنا معرّضة لخطرات الوسواس بل للأوهام والشكوك، فالذي يثبتها ويدفع عنها الاضطراب ويربطها باليقين هو القرآن العظيم، ولقد ذهب قوم مع تشكيكات الفلاسفة وفروضهم ومماحكات المتكلمين ومناقضاتهم، فما ازدادوا إلا شكا وما ازدادت قلوبهم إلا مرضا، حتى رجع كثير منهم في أواخر أيامهم إلى عقائد القرآن وأدلة القرآن فشفوا بعد ما كادوا كإمام الحرمين والفخر الرازي)([111])
ولأجل هذا يرى الكثير من الباحثين أن ابن باديس لم يكن من المدرسة الأشعرية كما يذكر البعض، ويؤيد هذا اعتباره تأويلات الأشعرية من الخطأ الضار، إذ قال في ترجمته للشيخ محمد رشيد رضا: (دعاه شغفه بكتاب الإحياء إلى اقتناء شرحه الجليل للإمام المرتضي الحسيني، فلما طالعه ورأى طريقته الأثرية في تخريج أحاديث الإحياء فتح له باب الاشتغال بعلوم الحديث وكتب السنة، وتخلص مما في كتاب الإحياء من الخطأ الضار وهو قليل، ولاسيما عقيدة الجبر والتأويلات الأشعرية والصوفية والغلو في الزهد وبعض العبادات المبتدعة)([112])
وعلى نفس المنهج كان الشيخ العربي التبسي – الذي تولى مهمة الإفتاء في الجمعية سنين طوالا، بل كان رئيس لجنة الفتوى فيها – يقول في بيان مصادر استدلاله للفتاوى: (وقد رأينا هذا الزاعم يقول إنّ الأخذ بظواهر أقوال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأعماله اجتهاد، والاجتهاد قد انقضت أيّامه وماتت رجاله، وبذلك يجب على المسلمين أن يتركوا كلّ آية من الكتاب، وكلّ قول وعمل من رسول الله، ولا يهتدون بشيء من كتاب ربّهم ولا من سنّة نبيّهم، وعليهم أن يقتصروا على ما كُتِب في الفروع، يحلّون ما أحلّت، ويحرّمون ما حرّمت، ويوالون من والت ماداموا غير مجتهدين. هذه هي مقالة هذا المفتي المزهّدة في كتاب الله، الصادّة عن سنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهي باطلة بإجماع المسلمين من يوم أن بعث نبيّهم إلى اليوم، ذلك أنّ العوامّ والعلماء يعملون بأقوال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأعماله من غير توقّف على أحد منهم لوصولهم إلى رتبة الاجتهاد، وهذا أمر معلوم من عصر الصّحابة إلى اليوم، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل)([113])
وهو يؤرخ للانحطاط الذي وقعت في الأمة بتاريخ إعراضها عن السنة النبوية، يقول في ذلك: (لست أعرف ابتداءه تاريخياّ (يعني الانحطاط) ولكنّي أستطيع أن أحدّده بظهور آثار التغير في هذه الأمّة، وأزعم أنّه يبتدئ من يوم أضاع النّاس السنّة المحمّدية، وركنوا إلى بدع الرّجال الّتي صرفتهم عن التّربية المحمّدية والأخلاق الإسلامية، وظهر في الشّعب رؤساء ينسبون إلى الدّين، فكان وجودهم سببا في انقسام في الوحدة، واختلاف في الكلمة، وذيوع الأهواء، وتُحيِّز جماعات الأمّة إلى نزاعات تفت عضد الوحدة المقصودة للدّين، حتى أصبح الحبّ والبغض ليسا في الله كما هي القاعدة الدّينية، واتّخذ النّاس رؤساء جهّالا بدعيين يعدّونهم من أولياء الله وخواصّ عباده المقرّبين عنده، ففُتِنت بهم جهلة الأمّة وأشباه الجهلة، فنصروهم على عماية واتبعوهم على غواية وصار الدين ألعوبة في يد هؤلاء الرؤساء وأتباعهم)([114])
ومثلما رأينا ابن باديس ينكر على ابن عاشور وقوعه في البدعة، فإنا نرى كذلك نفس الموقف من العربي التبسي ينكر على ابن عاشور إعراضه عن السنة، وذلك في فتوى له بعنوان (صلاة العيد لمن فاتته في اليوم الثاني سنة)([115])
وقد قدمت لها الجمعية([116]) بهذا التقديم المهين للشيخ ابن عاشور: (علمنا ما وقع للناس من اضطراب في حكم صلاة عيد الفطر في هاته السنة فذكرنا لهم حديث أبي عمير في العدد التسعين([117])، ولكن من الناس من يطمئن لقول مصنف فقيه ولا يطمئن – والعياذ بالله – لسماع الحديث الصحيح. فنشرنا تثبيتا لهم ملخص مقالين أضاف كاتبهما إلى ذلك الحديث أقوال الأئمة من المالكية وغيرهم. وبعد هذا كله طلعت علينا المجلة الزيتونية([118]) بفتوى شيخ الإسلام المالكي بتونس تحمل على ما نشرنا في الموضوع حملة سيئة القصد والأدب، مخطئة في العلم والنظر، حتى أنها ختمت بضرب مثل يحقر المتمسكين بذلك الحديث. ويعلق أصحاب المجلة على ذلك المثل بالشرح إظهارا لسرورهم بهذا الأدب؟.. وتعريضا بأن المخاطب به لا يفهمه. وقد كتب الأستاذ الشيخ العربي التبسي مقالا نقض به تلك الفتوى، التي إن دلت على شيء فهو أن شيخ الإسلام أصبح للعلماء الأحرار شيخ خصام لا لإحقاق حق وإبطال باطل ولكن لحاجة في نفس الشيخ يعلمها هو ومن عرف حرصه على مشيخة جامع الزيتونة وشدة أسفه على تملصها منه، وسعيه بكل وجه لاستعادتها. ولكثرة مواد الجريدة تأخر نشر هذا المقال القيم إلى اليوم. ولكنه ليس من تأخير البيان عن وقت الحاجة)([119])
ونحن في هذا المقام لا نملك إلا أن نتأسف على هذا الخطاب الذي لا يوجه للشيخ ابن عليوة أو الشيخ الحافظي، وإنما يوجه إلى الشيخ ابن عاشور المعروف بعلمه ونظراته المقاصدية الإصلاحية.
وهذا المثال كاف ليرينا مدى تعمق المنهج الوهابي في النقد وفي التعامل مع الآخر وفي عدم رعاية حرمة أي كان ما دام مخالفا في أذهان وسلوكات الجمعية، وهو ما يقربها كثيرا من الوهابية، بل يكاد يجعل منها فرعا من فروعها في الجزائر.
4 – الموقف من الحكام:
وهذا من النقاط الفارقة بين الجمعية والطرق الصوفية، فالوهابية ترى عدم التدخل في السياسة مطلقا، وترى الطاعة المطلقة للحاكم مهما كان([120])بينما تختلف الجمعية معها في هذه الناحية، فصحف الجمعية ونشاطها السياسي – كما سنرى في المبحث الثاني – يبعدها تماما عن هذا النوع من السلفية، ولذلك لقي موقف أعضاء الجمعية من الديمقراطية نقدا لاذعا شديدا من الوهابية المعاصرين، لدرجة أنهم بدعوا الجمعية بجميع أعضائها بسببه.
وقبل أن ننقل مواقف الوهابية المعاصرين من الجمعية بسبب هذا، نذكر بعض النصوص التي صرح بها بعض أعضاء الجمعية، والتي لقيت هذا الاستياء من طرف الوهابية المعاصرين.
وأولهم ابن باديس، فقد قال في خطاب له في عرض حالة الجمعية الأدبية: (نعم نهضنا نهضة (بنينا على الدين أركانها فكانت سلاما على البشرية) لا يخشاها- والله- النصراني لنصرانيته ولا اليهودي ليهوديته بل ولا المجوسي لمجوسيته ولكن يجب- والله- أن يخشاها الظالم لظلمه والدجال لدجله والخائن لخيانته)([121])
ومن ذلك ما نشره مخاطبا الشعب الجزائري بحماسة قائلا([122]): (ها هم اليوم يريدون خدعك، ويحاولون استعمالك آلة لأغراضهم ضد أصدقائك الإنسانيين.. أيها الشعب الكريم: كن- كلك- مع الحكومة الفرنسوية الممثلة للشعب الفرنسي الديموقراطي أصدق تمثيل.كن كلك ضد كل متعصب ضد أي جنس وأي دين. كن متحدا فبالاتحاد- فقط- تبلغ غايتك الشريفة الإنسانية. كن مستيقظا منظما، لتبرهن على أنك شعب لا تريد إلا العيش والحرية والسلام. ارفع عقيرتك بالاحتجاج ضد جميع الذين يستعملون العنف والقسوة والأساليب الشيطانية الخفية ليحدثوا الفتنة والشغب ضد فرنسا والجزائر. ناد من كل قلبك: لتحيى الجزائر! لتحيى فرانسا الشعبية! ليسقط الظلم والاستعباد! ليسقط أضداد الأجناس وحرية الأديان والأفكار!)([123])
ومن التصريحات التي ينكرونها في هذا الباب على الإبراهيمي قوله، وهو يتحدث عن الديمقراطية، ويثني عليها: (والديمقراطية رأي يوناني نظري جميل، منسوب إلى اسم صاحبه، وهو قائم على أن الشعب هو مصدر السلطة، ومن ثمّ فهو صاحب الحق في الحكم والتشريع، وعلى أن الأفراد متساوون في هذا الحق، ويناقضه رأي آخر يوناني النشأة أيضًا. اصطرع الرأيان في ميدان الجدل، ثم اصطرعا في ميدان العمل حتى أصبحا مذهبين في سياسة الحكم، وبابين في فلسفة الاجتماع، وكانت هذه الآراء الجميلة في الحياة مثل رأي ديموقراط تدور بين فلاسفة اليونان وقياصرة الرومان، أولئك يدرسونها جدلًا، وهؤلاء يدرسونها عملًا، إلى أن انتصف الله للحق بالإسلام، فجاء بالشورى والمساواة- حكمًا من الله- وأين حكم العقول من حكم خالق العقول؟ وجاء عمر فلقّن العالم درسًا عمليًّا في المثل الأعلى للحكم، ثم جاءت الحضارة الغربية المجتهدة في إثمار الحقول، المقلدةُ في أثمار العقول، وكان من آثار التعصب فيها للآريّة والمسيحية أنها آثرت الديمقراطية على العُمَرية، آثرتها في التسمية والنسبة، أما في التطبيق والعمل، فإن هذه الحضارة- وهي حاضنة المتناقضات- اتسعت لرأي ديمقراط ولرأي ميكيافيلّي صاحب كتاب “الأمير”، فإذا أرادت التلبيس ألبست الثاني ثوب الأول)([124])
ويشتد نكيرهم عندما يعتبر أنها مظلومة، وأن الداعي لها مأجور، وهو بذلك يقررها ويشرعنها، وهذا نص تصريحه الذي لقي الإنكار الشديد من الوهابية المحافظين: (لم تُظلَم هذه الكلمة ما ظلمت في هذه العهود الأخيرة، فقد أصبحت أداة خداع في الحرب وفي السلم، جاءت الحرب فجندها الاستعمار في كتائبه، وجاء السلم فكانت سرابًا بقيعة، ولقد كثر أدعياؤها ومدّعوها والداعون إليها، والمدّعي لها مغرور، والداعي إليها مأجور، والدعيّ فيها لابسٌ ثوبَي زور.. أصبح استعمار الأقوياء للضعفاء ديمقراطية، وتقتيلهم للعزل الأبرياء ديمقراطية، ونقض المواثيق ديمقراطية.. لك الله أيتها الديمقراطية!)([125])
ومن التصريحات التي ينكرونها على الشيخ العربي التبسي قوله: (ثم جاء دور من أدوار تحديد علاقة الدولة الفرنسية بالأديان وذلك حين صدر قرار 9 ديسمبر 1905 القاضي بفصل الدين عن الدولة، وكان موقف الحكومة الاستعمارية في الجزائر من الدين الإسلامي أنه ليس بدين، وليس بأهل لأن تطبق عليه قوانين فصل الدين عن الدولة.. إن هذه المسألة لا ينبغي للديمقراطيين كيفما كان دينهم وكيفما كانت جنسيتهم أن ينظروا إليها كمسألة بين الحكومة الاستعمارية وبين المسلمين الجزائريين. بل الواجب على كل ديمقراطي حر الضمير أن ينظر للمسألة من جهتها الديمقراطية التي هي فصل الدين عن الدولة ووجوب احترام الناس في أديانهم وعقائدهم، وشعائر دينهم، ومنع الحكومة من التفريق بين الأديان التي يعيش معتنقوها في وطن واحد وحتى يعيش الناس في وئام واتفاق ومع حكومة واحدة. هذا موقف – أيها الديمقراطيون- يجب علينا أن نقفه كلما حاولت الحكومة أن تعتدي على مظهر من مظاهر الديمقراطية)([126])
حتى الشيخ الطيب العقبي – مع رضاهم الشديد عنه – إلا أنهم في هذا الموقف ينكرون عليه قوله المنشور في جريدة (الشهاب)، وهو قوله:(..ويكفي في نظري لربط العلائق بين المتدينين من المسلمين والمسيحيين أن يعمل كل منهما بما جاءت به تعاليم دينه الصحيح، ومتى حققوا العمل بما جاء به (سيدنا عيسى) و(سيدنا محمد) صلى الله عليه وآله وسلم عليهما من مظاهر العدل والرحمة كانوا أمة واحدة تعمل لخير الإنسانية وصالح هذا المجتمع الإنساني الذي يجب أن تراعي له كرامته ويجب أن لا يحتقر أو يهان في حال من الأحوال)([127])
ويعتبرون هذا مخالفا لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا فإنكم إما أن تصدقوا بباطل أو تكذبوا بحق فإنه لو كان موسى حيا بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني)([128])
وقد دافع الباحث محمد حاج عيسى – مع توجهه الوهابي- عن هذا الموقف في كتابه: (الرد النفيس على الطاعن في العلامة ابن باديس)([129])، حيث قال في مطلبه الثالث: (قضية تحكيم الشريعة): (..إن المتكلم بلفظ الديمقراطية قد لا يعني بذلك مبدأها الأصلي الذي هو الحكم للشعب الذي هو كفر، كما لا يعني فصل الدين عن الدولة، وهو من الأسس التي تقوم عليها الأنظمة الديمقراطية، ولكن بعضهم يعني بها حرية التعبير والانتقاد بالطرق السليمة، ومنه ما يستعمله السياسيون المسلمون في معنى حرية المعارضة السياسية المنظمة، وقد يراد بها حرية العقيدة بحيث لا يضيق على أهل الديانات المختلفة وتضمن لهم حرية ممارسة شعائرهم الدينية، فيجعلونها مقابلة للحكم الجبري الديكتاتوري، وهذه المعاني لا ترقى إلى كونها من نواقض الإسلام أو لا تعني بالضرورة أن المعبر بها مرتد كافر أو مضلل للناس، وحرية التعبير وحرية العقيدة وإن كانت لها ضوابطها الشرعية المخالفة للطريقة الديمقراطية، فإنه في باب المداراة يجوز استعمال اللفظ المشترك الذي يفهم منه السامع شيئا ويريد به المتكلم شيئا آخر، بل هذا هو معنى التورية التي لا شك في جوازها في حالة الاضطرار، وأنها من الكذب المباح كما قال إبراهيم – عليه السلام – للملك الظالم عن سارة بأنها أخته هو يقصد في الدين والملك فهم أنها أخته في النسب)([130])
وقد رد التيار الأكثر تشددا على هذا بأن كلامه فيه (مغالطة وأغلاط من وجوه عدة: منها: تأويله السمج لكلام ابن باديس في الديمقراطية وتشنيعه على من رد عليه فيها بكلام حق وقال: (تضليل الشعب بفكرة الديمقراطية، والديمقراطية هي الكفر عينه إذ أنها تنادي بوجوب إخضاع الحكم للشعب، والحكم لله عز وجل في شريعتنا وعقيدتنا، فكيف خفي هذا على الشيخ ابن باديس؟.. – ومنها: تكلف الأعذار في حمل الكلام غير ما يحتمل، كقوله: (إن المتكلم بلفظ الديمقراطية قد لا يعني بذلك مبدأها الأصلي الذي هو الحكم للشعب الذي هو كفر، كما لا يعني فصل الدين عن الدولة، وهو من الأسس التي تقوم عليها الأنظمة الديمقراطية)، وكلام ابن باديس في الديمقراطية واضح وضوح الشمس، ويعني كل ما سبق ومنها مبدأها الأصلي كما عبر الرَّاد.. ومنها: قول الكاتب – عن معاني الديمقراطية أنها (لا ترقى إلى كونها من نواقض الإسلام أو لا تعني بالضرورة أن المعبر بها مرتد كافر أو مضلل للناس)، وهذا فيه من المغالطة ما فيه، حيث أوهم القاري أن القول بها ليس من نواقض الإسلام وأن من رد على خطأ ابن باديس وأمثاله من الكتاب الإسلاميين القائلين بالديمقراطية؛ فقد يلزم منه تكفيرهم.. وليَعلم الأخ الكاتب – عفا الله عنه – أن (الديمقراطية = الكفر)، وأنها ليست من الإسلام، أما تكفير القائل بها فإنَّ ردَّ الخطأ لا يلزم منه الحكم بالتكفير، أما التضليل فقد ضل الشيخ ابن باديس – وغيره – عن الحق في هذه المسألة وغيرها..و الحكم بالتكفير في مثل هذه القضايا لأهل العلم الراسخين، وليس لكل من هب ودب)([131])
وهكذا نجد الرسائل والمقالات والمدونات بين الطرفين من الوهابية المتشدد منهم، والأقل تشددا، منهم من يتهم ابن باديس والجمعية، ومنهم من يدافع عنهم، والكل متفق على أن ظاهر ما قاله وما قاله أعضاء الجمعية معه منكر، والفرق بينهما أن المتشدد يأخذ بظواهر الألفاظ، والأقل تشددا يؤول ويلتمس الأعذار.
المطلب الثالث: السلفية التنويرية وعلاقة جمعية العلماء بها
السلفية التنويرية هي المدرسة الثانية من مدارس السلفية الكبرى، وهي وإن كانت تتفق معها في الاسم، فإنها تختلف معها في المسمى اختلافا شديدا يصل أحيانا إلى حد الصراع.
فالتنويريون يتهمون المحافظين بالجمود والتخلف والحرفية، والمحافظون يتهمون التنويريين بالعقلانية والبدعة والضلالة.
فهذا محمد عبده زعيم السلفية التنويرية يقول منتقدا السلفية المحافظة: (… اللهم إلا فئة زعمت أنها نفضت غبار التقليد، وأزالت الحجب التي كانت تحول بينها وبين النظر في آيات القرآن ومتون الأحاديث لتفهم أحكام الله منها، ولكن هذه الفئة أضيق عطنا وأحرج صدرا من المقلدين، وإن أنكرت كثيرا من البدع، ونحت عن الدين كثيرا مما أضيف إليه وليس منه، فإنها ترى وجوب الأخذ بما يفهم من اللفظ الوارد والتقيد به، بدون التفات إلى ما تقتضيه الأصول التي قام عليها الدين، وإليها كانت الدعوة، ولأجلها منحت النبوة، فلم يكونوا للعلم أولياء ولا للمدنية أحباء)([132])
وقد علق الشيخ رشيد رضا على قوله هذا بقوله: (يعني بهذه الفئة أهل الحديث ومن يسمون الوهابية، فقد كان يحمد منهم ترك البدع والاهتداء بالسنن وتقديم الأثر على آراء البشر، وينكر عليهم ضيق العطن دون ما أرشدت إليه النصوص من علوم الأكوان ومقدمات المدنية والعمران التي تعتني بها الأمة وتعلو كلمة الملة)([133])
وهذا فهد الرومي من السلفية المحافظة يذكر المستجدات الفكرية والعلمية الحديثة، فيقول: (.. وهال الأمر علماء المسلمين، وذهبوا للرد على تلك الأفكار مذاهب شتى. وحاولت فئة منهم التوفيق بين الدين والعلم وبينت للناس أن الدين الإسلامي الحق لا يحارب العلم ولا ينافي العقل وأنه دين العقل والحرية والفكر. وذهبت تبين للناس ذلك المنهج وتقيم الدين الإسلامي على العقل – الذي لا يقر أرباب الثقافة الغربية غيره حكما – وبينت أن ليس في الإسلام ما لا يقره العقل وحاولت أن تفسر القرآن الكريم على هذا المنهج وهذا الأساس وكان لهذه المدرسة العقلية رجال كان لهم نشاط واسع في نشر هذه الثقافة ومكافحة الاستعمار ومقاومة الهجوم على الدين وإلقاء التبعة عليه في التخلف الحضاري.. وكان من رجال هذه المدرسة المؤسسين لها جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده وتلاميذه محمد مصطفى المراغي ومحمد رشيد رضا وغير هؤلاء كثير.. وسميت نهضتهم هذه بالنهضة الإصلاحية وكان لهذه المدرسة آراء كثيرة تخالف رأي السلف وشطحات ما كانوا ليقعوا فيها لولا مبالغتهم الشديدة في تحكيم العقل في كل أمور الدين حتى جاوزوا الحق والصواب وشكك بعض رجال الفكر الإسلامي الحديث في نزاهة المؤسسين لهذه المدرسة أعني جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده مستدلين على ذلك ببعض علاقاتهم وما ورد في كتاباتهم)([134])
وهذا سلمان بن فهد العودة مع اعتداله في كثير من المواقف يقول عن هذه المدرسة: (إن المدرسة العقلية اسم يطلق على ذلك التوجه الفكري الذي يسعى إلى التوفيق بين نصوص الشرع وبين الحضارة الغربية والفكر الغربي العاصر، وذلك بتطويع النصوص وتأويلها تأويلا جديدا يتلاءم مع المفاهيم المستقرة لدى الغربيين، ومع انفجار المعلومات والاكتشافات الصناعية الهائلة في هذا العصر، وتتفاوت رموز تلك المدرسة تفاوتا كبيرا في موقفها من النص الشرعي، ولكنها تشترك في الإسراف في تأويل النصوص، سواء كانت نصوص العقيدة، أو نصوص الأحكام، أو الأخبار المحضة، وفي رد ما يستعصي من تلك النصوص على التأويل)([135])
ويقول آخر بلهجة أشد: (وقد سلك مسلك هؤلاء الزائغين جمال الدين الإيراني المتأفغن، ومحمد عبده المصري، ومحمد رشيد رضا، ومحمد مصطفى المراغي، ومحمد فريد وجدي، ومحمود شلتوت، وعبدالعزيز جاويش، وعبدالقادر المغربي، وأحمد مصطفى المراغي، وأبو ريّة صاحب الظلمات، وأحمد أمين صاحب (فجر الإسلام) و(ضحاه) و(ظهره)([136])
ومع هذا البون الشديد بين المدرستين إلا أن الكثير من المؤرخين والمفكرين استعملوا هذا المصطلح في كتاباتهم (سلفية)، ينعتون به مفكري عصر النهضة، وزعماء الحركات الإسلامية الكبرى التي ظهرت في العالم الإسلامي، مثل رفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، ومن تبعهم أو سار على نهجهم أو اتفق معهم في مبادئهم كأبي شعيب الدكالي والعربي العلوي والزعيم علال الفاسي من المغرب الأقصى، وابن باديس والإبراهيمي من الجزائر، وسالم بوحاجب والطاهر ابن عاشور من تونس، وحسن البنا من مصر، ومحمد إقبال في الهند، وعلي شريعتي في إيران، والمودودي في باكستان([137]).
وبما أن لجمعية العلماء علاقة كبرى بهذا التيار السلفي إلى درجة أن الكثير من الباحثين يعتبرونها امتدادا له، فإنا نحتاج إلى ما احتجنا إليه في المطلب السابق من إثباتات، وهي نوعان:
الأول: إثبات علاقة الجمعية مع رواد هذه المدرسة.
الثاني: إثبات مدى الاتفاق في المبادئ بين الجمعية وهذه المدرسة.
وقد خصصنا كل قسم منهما بفرع خاص، وقدمنا لذلك بفرع حول حقيقة التنوير.
لغة: التنوير كلمة مشتقة من (النُّور)، أي الضياء. والنور: ضد الظلمة، والتنوير: وقت أسفار الصبح، يقال: قد نور الصبح تنويراً. والتنوير: الإنارة([138]).
اصطلاحاً:
ربما يكون الفضل في نشأة مصطلح (التنوير) – بمفهومه الحديث – إلى الثقافة الغربية قبل الثقافة العربية الإسلامية([139])، ذلك أنه بالتأمل البسيط لدلالة المصطلح والتعرف على المبادئ التي يراد بها منه نجد نقاطا كثيرة مشتركة:
فمفهوم التنوير (Enlightenment) في الثقافة الغربية يقصد به اتجاه ثقافي ساد أوروبا الغربية في القرن الثامن عشر بتأثير من المثقفين الذين عرفوا باسم المتفلسفين، وكانوا صحفيين وكتاباً ونقاداً، ورواد صالونات أدبية من أمثال (فولتير)، (وديدرو)، و(كوندرسيه)، و(هولباخ)، و(بيكاريا)
وقد اتخذ هذا الاتجاه من العقل والطبيعة والتقدم، ركائز لنشر وجهته العلمانية (Secularism) والعِلمانية (Sciencism)، وكان شعار التنوير الغربي (العلم للجميع)، وكانت روح التنوير إلحادية، بل وشديدة العداء للكنيسة وللسلطة متمثلة في الدولة، وللخرافة والجهل والفقر، ولهذا اتخذ أصحابه من العلم سبيلاً لتنوير العقل وتحريره من ظلمة الجهل ونشر المعارف الحديثة، ومن الصحافة طريقاً لتثقيف الرأي العام وتربيته وتوعيته، ومن النقد درباً للوقوف على الحقيقية([140]).
انطلاقا من هذا فهم (التنوير) في العالم الإسلامي فهمان متناقضان، ولكل منهما رواده ومفكروه ومشروعه الإصلاحي:
أما الفهم الأول، فأخذ من التنوير صورة مطابقة للأصل الغربي، فعرف (التنوير) بأنه (الاتصال المباشر بالغرب واقتفاء أثر الفلاسفة العقليين الأحرار في إعادة بناء الحضارة العربية الحديثة)([141])
وعرفه آخر: بأنه حركة فكرية عقلية إلحادية، أنكر أصحابها وجود الله، والكتب السماوية، والبعث، والآخرة، وانصبت جهودهم على إصلاح المجتمع([142]).
وأما الفهم الثاني، فأخذ روح التنوير ومبادئه الكبرى دون انحرافاته المتمثلة في الإلحاد والمواجهة التامة مع الدين، لأن الإسلام ليس كالمسيحية، وقد عوض ذلك بمواجهة الأفكار الدخيلة على الإسلام، ولهذا ربط بين السلفية والتنوير، وقد كان على هذا النهج (محمد عبده) فقد وصف الأمم المتنورة بأنها الأمم المتمدينة؛ فهو يوحد بين (التنوير والتمدن)، ولا يربط بين التنوير والإلحاد.
بل إن بعض المفكرين المسلمين يعرفون (التنوير) بأنه (اتباع النور والهدى المبين، واقتفاء أثر النبي عليه الصلاة والسلام)، ووصفوه بأنه الفجر الذي يبدد ظلمات الجهل والجهالة، ومن ثم فهو مختلف اختلافاً جزئيا وًكلياً عن تعريف الغربين له([143]).
ثانيا ـ رواد السلفية التنويرية وعلاقة الجمعية بهم:
كما حصل الاختلاف في مفهوم التنوير، فقد حصل الاختلاف بين الرواد التنويريين الكبار، فلهذا نجد منهم الذي يتخذ من الإسلام مادته الأساسية للتنوير، وينطلق في ذلك من الإسلام الأول قبل نشوء الفرق، ويركز خصوصا على القرآن الكريم، كالأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا.
ونجد منهم من يرفض ذلك، ويعتبر الغرب والثقافة الغربية بجميع أركانها ومبادئها هي أساس التنوير، ولعل أحسن من يمثل هذا التيار سلامة موسى، وطه حسين، وأحمد لطفي السيد، وغيرهم.
بالإضافة إلى من اختلف في تصنيفهم الباحثون كرفاعة الطهطاوي، وعبد الرحمن الكواكبي، وقاسم أمين، وغيرهم.
وبما أن بحثنا مرتبط بالسلفية التنويرية التي أثرت في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، فسنذكر – باختصار- بعض التنويريين الكبار الذين نرى أن لهم أثرا في فكر الجمعية ومشروعها الإصلاحي.
يعد جمال الدين الأفغاني (1838-1897 م) أول من صاغ المشروع الإصلاحي الحديث المتمثل في (الإسلام في مواجهة الاستعمار في الخارج والقهر في الداخل) ([144])، وقد حاول – من خلال مشروعه الإصلاحي – أن يجيب على كيفية تمكن لأمم الإسلامية من قهر التخلف واللحاق بالأمم المتقدمة على أساس من ذاتيتها وهويتها.
وحاول -لذلك- رصد بعض القوانين العامة لنهضة الشعوب وسقوطها؛ وهي (قوانين التقدم والتخلف) على أساس أن النهضة هي القاعدة والتخلف هو الاستثناء، فالنهضة بالدين والعمل، والسقوط بالدين دون العمل؛ والسبب الرئيسي في تدهور أحوال المسلمين هو تركهم حكمة الدين والعمل بها.
وهو يرى أن إصلاح ذلك لا يكون إلا بالرجوع إلى ينابيع العقيدة الإسلامية الصافية، وقد اتخذ من ذلك قاعدة في شكل قانون هو: (ترك ما كان سبباً للصعود يؤدي إلى الهبوط والسقوط)([145])
وقد يتصور البعض أن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين تنظر إليه نظرة سلبية، كما تنظر إليه السلفية المحافظة، ولكن الواقع خلاف ذلك([146])، فالجمعية وإن لم تكن قريبة منه بقدر قربها من الشيخ محمد عبده ورشيد رضا إلا أنها كانت تعتبره من كبار المصلحين، بل أب الإصلاح الحديث.
فهذا الإبراهيمي في خطبة له بعنوان (الثائر الإسلامي جمال الدين الأفغاني)([147]) بمناسبة ذكراه يعتبره أب المصلحين، ويقر بفضله على الإصلاح الحديث، فيقول: (الذكرى من الذكر، فماذا تذكرون في هذه الليلة عن جمال الدين الأفغاني، وماذا تدّخرون من آثارها في نفوسكم لليالي المقبلة من أعمالكم؟ اذكروا أنه كان عالمًا شجاعًا، قوّالًا للحق جريئًا فيه، واذكروا أنه كان لا يخشى في كلمة الحق يقولها ولا في الحق يدعو إليه لومة لائم، واذكروا أن جميع الثغر التي أُتينا منها فعِلّةُ العلل فيها آتية من سكوت علماء الدين وبعدهم عن شؤون المسلمين العامة. وقد جزاه الله في الدنيا جزاءً عاجلًا فرزقه طرازًا من التلامذة المستعدين، نفخ فيهم من روحه، وربّاهم على مباديه، وكانوا من بعده حمَلَة فكرته، الشارحين لها بالعمل، وحسبكم بالأستاذ الإمام محمد عبده.. وإن جمال الدين اقتحم هذا الميدان فكان حجة لبعض العلماء، وحجة على بعضهم. رحمة الله على جمال الدين جزاء ما قدّمه للإسلام والمسلمين، وكفاء ما سنّه للعلماء من أسى حسنة لم نزل نتقلّب في أعطافها، وندين له بالفضل فيها)([148])
ويعتبره في موضع آخر واضع (أساس الوطنية الإسلامية على صخرة الإسلام الصحيح) والذي أهاب (بالمسلمين أن ينفضوا أيديهم من ملوكهم ورؤسائهم وفقهائهم، لأنهم أصل بلائهم وشقائهم)([149])
ويرد الإبراهيمي بقوة على من يسميهم (علماء القشور والرسوم) الذين ينظرون إلى الأفغاني على أنه (ليس عالمًا دينيًا بالمعنى الذي يفهمونه من الدين (لأن العالم الديني عندهم هو حاكي أقوال وحافظ اصطلحات وراوي حكايات، (أما أصحاب العقول المُتَدَبّرة والأفكار المثمرة، والبصائر النيّرة، والموازين الصحيحة للرجال، فإنهم يرون في الأفغاني عالِمًا أي عالم، وفردًا انطوى على عالم، وحكيمًا أي حكيم، وأنه أحيى وظيفة العالم الديني وأعاد سيرتها الأولى، وأنعش جدها العاثر، وجدّد رسمها الداثر.. كان العالم الديني في نَأْنَأَة الإسلام أقوى نفوذًا وأوسع سلطة من الخليفة والملك والأمير، وكان الأمراء القاسطون يخشون ذلك النفوذ الواسع ويضيقون به ويتبرمون منه)([150])
يعتبر محمد عبده (1849-1905 م) باتفاق الباحثين مصلحاً اجتماعياً ودينياً، ورائداً من الرواد الكبار للفكر الإسلامي، وقد كرس جميع جهوده في سبيل الإصلاح.. وقد استطاع من خلال المناصب التي تقلدها أن يلعب دوراً في النهضة الفكرية والدينية الحديثة.
وقد أسس مع أستاذه جمال الدين الأفغاني جريدة (العروة الوثقى) (1884 م) واتفق معه على أن سبب ضعف المسلمين يعود إلى ضعف العقيدة وجهلهم بأصول الدين، وأن علاج ذلك لا يكون إلا بالرجوع إلى ينابيع الدين الصافية، وهو يذكرنا تماما بالاتفاق الذي حصل بين ابن باديس والإبراهيمي، ولكن الفرق بينهما هو أن ابن باديس والإبراهيمي ظلا على اتفاق تام، بينما اختلف الأفغاني مع محمد عبده في وسيلة الإصلاح:
فبينما سلك (الأفغاني) سبيل السياسية، رأى (محمد عبده) أن الوسيلة هي التعليم والتهذيب؛ لاعتقاده أن ارتقاء المعارف هو سبب تقدم الأمم في الثروة والقوة، ومن أجل ذلك اقترح تعميم المدارس الوطنية وإصلاح البرامج الدينية([151]).
وبعد عودة الإمام إلى مصر – بعد نفيه إلى بيروت– رأى أن ينهج نهجاً يحقق له غرضه في الإصلاح الديني، فعمد إلى مسالمة الإنجليز، اعتقاداً منه أن المستعمر لا يقاوم إلا بإنارة الشعب وتثقيفه الثقافة الدينية الصحيحة، وهو نفس ما فعلته الجمعية في مواقفها من فرنسا، وعللت بنفس التعليل.
وبناء على هذا طرح محمد عبده مشروعه المتمثل في تحقيق ثلاثة أهداف كبرى للإصلاح، نذكرها هنا باختصار لنرى مدى توافقها مع المنهج الذي اعتمدته الجميعة:
1 ــ الإصلاح ديني: حيث دعا إلى تحرير الفكر من التقليد والجمود، وفهم الدين على طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف، والرجوع في كسب معارفه إلى ينابيعها الأولى، واعتبار الدين من ضمن موازين العقل. فليس هناك تعارض بين العقل والنقل.
كما دعا إلى إصلاح العقيدة وتنقيتها من الخرافات، ولهذا ركز على إصلاح الأزهر، وأكد على ضرورة التكامل بين الدين والعلم من جهة، وبين العقل والوجدان من جهة أخرى؛ لأن الدين الكامل هو علم وذوق، أو فكر ووجدان([152]).
2 ــ الإصلاح اللغوي: فقد أدرك محمد عبده أن دعوته للاتصال بالغرب لن تحظى بالأهمية في ظل جمود اللغة العربية وهجمات المستشرقين عليها، فنهض (عام 1892 م) –مع أصدقائه– لتكوين أول مجمع للغة العربية في مصر، وهو (المجمع البكري) من أجل إصلاح اللغة العربية وجعلها أداة صالحة للمساهمة في التحرير الفكري.
3 ــ الإصلاح السياسي: فقد دعا محمد عبده إلى إيقاظ الرأي العام إزاء الحاكم، فكما للحاكم حق على الشعب، كذلك للشعب حق على الحاكم، وكانت دعوته عن طريق الصحافة والتعليم ومجلس الشورى([153]).
ونرى من خلال هذا العرض المختصر لمشروع محمد عبده الإصلاحي توافقا تاما مع الجمعية، ولذلك نراها تثني عليه، بل تعتمده، بل تعتبر له الفضل في السبق والريادة والأستاذية.
وربما تعود بوادر هذا التأثير إلى زيارة الشيخ محمد عبده للجزائر، حيث استقبل استقبالا حافلا كان له تأثيره النفسي في الجزائريين لتقبل الإصلاح على الطريقة التنويرية، حتى أن البعض يعتبر من الدوافع الكبرى للإصلاح تلك الزيارة، يقول عمار طالبي: (ومن الدوافع التي أدت إلى الإصلاح كذلك وساعدت عليه- إلى جانب المجلات والجرائد والكتب التي كانت تصل إلى الجزائر- زيارة الأستاذ محمد عبده إلى تونس والجزائر سنة 1321هـ (1903) في الصيف وقد مهد لتأثير هذه الزيارة، مجلة المنار، ومن قبلها العروة الوثقى، فكان الطلبة والشيوخ يطالعون هذه الصحف ويتداولونها)([154])
ويقول صالح خرفي عنها: (الزيارة الشخصية للشيخ محمد عبده كانت كفيلة بتعزيز بدايات النهضة الإصلاحية الحديثة في الجزائر، والوصول بها إلى حد الحزب الديني المصلح، حتى إن الشيخ رشيد رضا قال – وهو يؤرخ لزيارة الإمام محمد عبده أقطار المغرب العربي في مستهل القرن العشرين -: (وقد وجد له في تونس والجزائر حزبا دينيا ينتمي إليه من حيث لم يكن يعلم)([155])
ويشير ابن باديس إلى ريادة الشيخ محمد عبده للإصلاح فيقول: (أول من نادى بالإصلاح الديني علما وعملا نداء سمعه العالم الإسلامي كله في عصرنا هذا هو الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، وأول من قام بخدمته بنشرة إسلامية عالمية هو تلميذه حجة الإسلام السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار. رحمهما الله وجازاهما عن الإسلام والمسلمين خيرا ما جازى به المجددين لهذا الدين)([156])
وهذا التصريح يدل على أن ابن باديس متأثر بالسلفية التنويرية أكثر من تأثره بالسلفية المحافظة، ذلك أن السلفية المحافظة ترى أن ريادة الإصلاح للشيخ محمد بن عبد الوهاب لا للشيخ محمد عبده.
وهكذا نرى الإبراهيمي وغيرهما من أعضاء جمعية العلماء يبجلون الشيخ محمد عبده، ويعتبرونه أب الإصلاح الإسلامي الحديث، يقول الإبراهيمي: (لا نزاع في أن أول صيحة ارتفعت في العالم الإسلامي بلزوم الإصلاح الديني والعلمي في الجيل السابق لجيلنا هي صيحة إمام المصلحين الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده- رضي الله عنه- وأنه أندى الأئمة المصلحين صوتًا وأبعدهم صيتًا في عالم الإصلاح. فلقد جاهر بالحقيقة المرة، وجهر بدعوة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها إلى الرجوع إلى الدين الصحيح والتماس هديه من كتاب الله ومن سنة نبيه)([157])
ولأجل هذا التوافق وهذه الإشادة نرى الشيخ ابن عليوة يقتبس في رده على الجمعية، ودفاعه عن التصوف أو الأحوال الصوفية من الشيخ محمد عبده، ليواجههم بها، ويثبت لهم أن محمد عبده مع توجهه السلفي لم يكن ينكر على الصوفية، بل كان ينتصر لهم، بل كان فوق ذلك صوفيا عرفانيا بامتياز.
ومن ذلك ما ذكره في رسالة (الناصر المعروف بالذب عن مجد التصوف)([158]) من اقتباسه من محمد عبده قوله: (والصوفي نسبة إلى الصوفية وهم طائفة من المسلمين همهم من العمل إصلاح القلوب وتصفية السرائر والاستقبال بالأرواح وجهة الحق الأعلى جل شأنه حتى تأخذهم الجذبات لله عمن سواه وتفنى ذواتهم في ذاته وصفاتهم في صفاته والعارفون منهم البالغون إلى الغاية من سيرهم في أعلى مرتبة من الكمال البشري بعد النبوة)([159])
ثم عقب على ذلك بقوله: (وفي ظني أنه لا شيء أبين من هذا فيما نريد إثباته وزاد على ذلك حضرة الكاتب ما أثبته للصوفية من تأثير الإرادة وغيرها من الخوارق التي تعتبر عند البعض من أهل العصر الحاضر من الخرافات ولا مستند لهم في ذلك إلا سوء الظن وعدم اعتبارهم ما للروح من الكمالات والخصائص الذاتية وهذا من حضرة الكاتب أبلغ ما يعتبر في الصراحة وأوضح ما يتأتى في التعريف)([160])
وسنرى المزيد من مواقف محمد عبده من التصوف، وخاصة التصوف العرفاني في محلها من هذه الرسالة، ومن خلالها سنعرف الفوارق الكبرى بين الجمعية والمدرسة التنويرية، وخصوصا الشيخ محمد عبده، ونعرف أن الجمعية لم تستفد من الشيخ محمد عبده إلا بعض مواقفه الإصلاحية، أما الجذور الفكرية لها، فإن بينها وبينها بونا بعيدا.
يعتبر محمد رشيد رضا (١٨٦٥ م – ١٩٣٥ م) أقرب الرواد الإصلاحيين الثلاثة إلى جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، ولعله الواسطة التي وصل بها فكر الأفغاني وعبده إلى الجمعية كما وصل إلى العالم الإسلامي.
ولعله الواسطة أيضا في ذلك الموقف الذي وقفته الجمعية في نصرة الوهابية، فقد تصدى الشيخ رشيد للدعاية المناوئة لعلماء نجد، وكان يطلق عليهم في رسائله إلى شكيب أرسلان (الوهابية)، وعندما انتشرت الدعاوى ضدهم بعد افتتاح الطائف وزع ألوفاً من رسالة (الهدية السنية والتحفة النجدية) ونشر مقالات في الدفاع عنهم والرد على خصومهم، وقد قال له شيخ الأزهر أمام ملأ من العلماء: (جزاك الله خيراً بما أزلت عن الناس من الغمة في أمر الوهابية)([161])
واستمرت صلات رشيد رضا مع علماء نجد وزعمائها إلى وفاته.. وكانت له مثل هذه الصلات مع السلفيين في مختلف بلدان العالم الإسلامي.
ولا حاجة لنا إلى ذكر التصريحات التي تدل على مدى تأثر أعضاء الجمعية بالشيخ محمد رشيد رضا، فهي كثيرة جدا، وقد كتب ابن باديس تفاصيل حياة وفكر الشيخ رشيد في الشهاب، وأطنب في الثناء عليه.
أما البشير الإبراهيمي، فله معه ذكريات، فقد التقى به في دمشق خلال إقامته فيها (1916-1920)([162])، وقد ذكر أنه كان يستعيد ذكرياته معه عند لقائه مع ابن باديس، وأن ذلك كان سببا في التفكير في إنشاء الجمعية، يقول: (ولا أنسى مجلساً كنا فيه على ربوة من جبل قاسيون في زيارة من زياراته لي، وكنا في حالة حزن لموت الشيخ (رشيد رضا) قبل أسبوع من ذلك اليوم، فذكرنا تفسير المنار، وأسفنا لانقطاعه بموت صاحبه فقلت له. ليس لإكماله إلا أنت، فقال لي: ليس لإكماله إلا أنت، فقلت له: حتى يكون لي علم رشيد، وسعة رشيد، ومكتبة رشيد، ومكاتب القاهرة المفتوحة في وجه رشيد. فقال لي واثقاً مؤكداً: إننا لو تعاونا وتفرغنا للعمل لأخرجنا للأمة تفسيراً يغطى على التفاسير من غير احتياج إلى ما ذكرت)([163])
وقد كان الشيخ رشيد رضا يبادل الجمعية وأعضاءها نفس المشاعر، فقد تحدث عن الإصلاح في الجزائر في أكثر من موضع من مجلة المنار، كما أنه كان يتابع فيها باهتمام أوضاع الجزائر السياسية والاجتماعية والثقافية، ويرد على أسئلة الكثير من الجزائريين كالزواوي وعبد القادر الجزائري وغيرهما.
ومن أمثلة تلك المواضع التي تحدث فيها عن الجمعية ما ورد في مجلة المنار عدد (شوال من سنة 1347 هـ)/ وفي قسم (تقريظ المطبوعات)، كتبت عن جريدة الشهاب تقول: (الشهاب: صحيفة تصدر في مدينة قسنطينية من قطر الجزائر في المغرب الإسلامي، وهي إصلاحية تحيي مذهب السلف، وتقاوم الخرافات والبدع، يصدرها الأستاذ الفاضل الناصح عبد الحميد بن باديس.. فنتمنى لها طول العمر ودوام النفع، ونتمنى مع ذلك أن يعرف المسلمون لها قيمة خدمتها فيؤدوا لها حقها)([164])
وفي عدد (ربيع الأول 1351 هـ) كتبت تقول عن (جمعية علماء المسلمين في الجزائر): (نبغ في بلاد الجزائر في هذا العهد جماعة من العلماء المصلحين يبثون في البلاد الدعوة إلى الحق والخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر بالدروس والخطابة والكتابة في الصحف حتى إنهم أنشأوا عدة جرائد ومجلات عطلت حكومة الجزائر بعضها فخلفها غيرها.. وأشهر هؤلاء العلماء الأستاذ الشيخ عبد الحميد بن باديس منشئ مجلة الشهاب الإصلاحية التي خلفت جريدته (المنتقد) والأستاذ الشيخ الطيب العقبي والأستاذ الشيخ سعيد الزاهري وكلهم ممن جمع بين العلم والعقل والرأي وحسن البيان قولاً وكتابة وخطابة، وقد فكر هؤلاء منذ سنين في تأليف جمعية علمية تكون المرجع المعتمد لمسلمي هذا القطر في جميع أمور دينهم تزول بها هذه الفوضى الدينية العلمية التي تصدى للتعليم والإرشاد والإفتاء في ظلماتها كثير من الجاهلين والدجالين المضلين، وبعد التشاور مع إخوانهم من العلماء ومحبي الإصلاح والإرشاد من وجهاء المسلمين المستنيرين وفقوا لتأليف هذه الجمعية في العام الماضي واختاروا لرياستها الأستاذ العلامة المصلح الشيخ عبد الحميد بن باديس صاحب الشهاب المنير، وَظَاهَرَهُمْ على تأليفها جميع أهل البصيرة والهدى من العلماء والأدباء وأصحاب الصحف الإسلامية)([165])
وفي عدد (ربيع الثاني 1347 هـ) كتبت تقريضا لكتاب (الإسلام الصحيح) الذي ألفه الشيخ الزواوي أحد أعضاء جمعية العلماء، ومما جاء فيه: (.. حمله على تأليفه فيما نرى ما حدث في بلاد الجزائر في هذا العهد من النهضة الإسلامية ؛ إذ قام فيها بعض أهل العلم بمقاومة خرافات أهل الطريق ودجلهم والتقاليد المبتدعة، وأنشئت لذلك صحف مخصوصة قامت بالواجب قيامًا يفوق ما كنا نظن في هذه البلاد، وقد تناولتها بعض الصحف الخرافية وعارضتها بنشر الثناء على بعض رجال الصوفية ومشايخ الطرق وأصحاب الزوايا المعروفة، وقد وقف صاحب هذا الكتاب موقفًا وسطًا بين المختلفين بنشر كتاب في التعريف بالإسلام أصوله وفروع عبادته وآدابه، مع ميل ظاهر لتأييد ما كان عليه السلف الصالح بعبارات لطيفة فهو من أنصار الإصلاح الإسلامي المعتدلين)([166])
ثالثا ـ مبادئ السلفية التنويرية وموقف الجمعية منها:
مع بعض الاختلافات التي رأيناها في منهج رواد السلفية التنويرية نجد بعض القواسم المشتركة، والتي يمكن اعتبارها مبادئ أساسية لهذا التيار السلفي، وسنذكر أهم هذه المبادئ هنا، لنرى مدى توافقها مع الاتجاه الفكري والإصلاحي لجمعية العلماء، لنتعرف بذلك على مدى القرب والبعد بين كلا التيارين، كما عرفنا ذلك في المطلب السابق، بينها وبين السلفية المحافظة.
يتجلى التوجه السلفي التنويري بأعماقه المختلفة في منهج تعامل الجمعية مع القرآن الكريم عند بيان ابن باديس لمظاهر هجر القرآن الكريم، وأنه لا يقتصر على هجر تلاوته أو حفظه، وإنما يشمل تغييبه عن جميع مناحي الحياة ابتداء من التصورات العقدية، وانتهاء بالتدبر فيه لاستنباط كل ما يتعلق بالحياة.
فقد عرض عند تفسيره لقوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30] – كما عرض من قبله ابن القيم([167])- تعدّد مظاهر الهجر, وأنَّ لكلّ هاجر حظّه من هذه الشكوى، فقال: (ونحن- معشر المسلمين- قد كان منا للقرآن العظيم هجر كثير في الزمان الطويل وإن كنا به مؤمنين) ([168])
ثم استعرض نواحي الهجر التي تعامل بها المسلمون في هذا الزمن الطويل مع القرآن الكريم، وبدأها بالعقيدة، فمع أن القرآن الكريم (بسط عقائد الإيمان كلها بأدلتها العقلية القريبة القاطعة فهجرناها، وقلنا تلك أدلة سمعية لا تحصل اليقين وأخذنا في الطرائق الكلامية المعقدة وإشكالاتها المتعددة واصطلاحاتها المحدثة مما يصعب أمره على الطلبة فضلاً عن العامة) ([169])
ومثل ذلك الفروع الفقهية، فقد (بيَّن القرآن أصول الأحكام وأمهات مسائل الحلال والحرام ووجوه النظر والاعتبار مع بيان حكم الأحكام وفوائدها في الصالح الخاص والعام فهجرناها واقتصرنا على قراءة الفروع الفقهية مجردة بلا نظر، جافة بلا حكمة، محجبة وراء أسوار من الألفاط المختصرة تفني الأعمار قبل الوصول إليها) ([170])
ومثل ذلك علم الأخلاق، فقد (بيَّن القرآن مكارم الأخلاق ومنافعها ومساويء الأخلاق ومضارها، وبيَّن السبيل للتخلي عن هذه والتحلي بتلك مما يحصل به الفلاح بتزكية النفس والسلامة من الخيبة بقدسيتها فهجرنا ذلك كلها ووضعنا أوضاعاً من عند أنفسنا واصطلاحات من اختراعاتنا خرجنا في أكثرها عن الحنيفية السمحة إلى الغلو والتنطع، وعن السنة البيضاء إلى الأحداث والتبدع، وأدخلنا فيها من النسك الأعجمي، والتخيُّل الفلسفي ما أبعدها غاية البعد عن روح الإسلام، وألقي بين أهلها بذور الشقاق والخصام وآل الحال بهم إلى الخروج من أثقال أغلالها والاقتصار على بقية رسومها للانتفاع منها ومعارضة هداية القرآن بها) ([171])
ومثل ذلك ما ورد في القرآن الكريم من آيات كونية، فقد (عرض القرآن علينا هذا الكون وعجائبه ونبهنا على ما فيه من عجائب الحكمة ومصادر النعمة لننظر ونبحث ونستفيد ونعمل، فهحجرنا ذلك كله إلى خريدة العجائب وبدائع الزهور والحوت والصخرة وقرن الثور!) ([172])
وابن باديس بهذا الانتقاد المؤلم للواقع الإسلامي في عصور الانحطاط، يجعل من القرآن الكريم الوسيلة الكبرى للإصلاح، فالتعامل الصحيح معه هو الذي يثمر الإصلاح الصحيح.
وبناء على هذا التصور اعتبرت الجمعية العودة إلى القرآن بكل ما تحمله العودة من معان هو الهدف الأكبر للعملية الإصلاحية جميعا.
فقد اعتبر الشيخ البشير الإبراهيمي أن السبب الأكبر في كل الهزائم التي لحقت المسلمين هو بعدهم عن القرآن الكريم، يقول في ذلك: (ما أضاع المسلمين ومزّق جامعتهم ونزل بهم على هذا الدرك من الهوان إلا بعدهم عن هداية القرآن، وجعلهم إياه عضين، وعدم تحكيمهم له في أهواء النفوس ليكفكف منها، وفي مزالق الآراء ليأخذ بيدهم إلى صوابها، وفي نواجم الفتن ليجلي غماءها، وفي معترك الشهوات ليكسر شرتها، وفي مفارق سبل الحياة ليهدي إلى أقومها، وفي أسواق المصالح والمفاسد ليميز هذه من تلك، وفي مجامع العقائد ليميز حقها من باطلها، وفي شعب الأحكام ليقطع فيها بفصل الخطاب، وإن ذلك كله موجود في القرآن بالنص أو بالظاهر أو بالإشارة أو الاقتضاء)([173])
وهكذا الأمر بالنسبة للسنة النبوية المطهرة، التي هي صنو القرآن الكريم في الهداية والتذكير والبيان، فقد اعتبرت الجمعية من وظائفها الكبرى إحياء السنة، وإعادة تدريسها، وقد تحدث ابن باديس بألم عن الواقع التعليمي الذي لم يكتف بهجر القرآن، بل راح يهجر السنة أيضا، فقال: (علَّمنا القرآن أن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- هو المبين للناس ما نزل إليهم من ربهم، وأن عليهم أن يأخذوا ما أتاهم وينهوا عما نهاهم عنه، فكانت سنته العملية والقولية تالية للقرآن، فهجرناها كما هجرناه وعاملناه بما عاملناه، حتى إنه ليقل في المتصدرين للتدريس من كبار العلماء في أكبر المعاهد من يكون قد ختم كتب الحديث المشهورة كالموطأ والبخاري ومسلم ونحوها مطالعة فضلاً عن غيرهم من أهل العلم وفضلاً عن غيرها من كتب السنة. وكم وكم وكم بيَّن القرآن وكم وكم وكم قابلناه بالصد والهجران)([174])
وقال الشيخ محمد خير الدين([175]) في خطبة ضمن مؤتمر جمعية العلماء المنعقد بنادي الترقي بالجزائر سنة (1935م): (أيها الإخوة الكرام: إن انتسابنا لهذه الجمعية معناه التعاهد والتعاون على تنفيذ المرامي التي ترمي إليها، والمباديء التي تسعى لها، وأصول هذه المباديء هي: إحياء الإسلام الصحيح بإحياء الكتاب والسنة ونشرهما بين الناس حتى يرجع لهما سلطانهما على نفوس المسلمين)([176])
وبما أن حفظ القرآن الكريم هو الكفيل بنشره في المجتمع، فقد دعا ابن باديس إلى الاهتمام بهذه الناحية، فقال: (قد تقاصرت همم المسلمين في هذه المدة الأخيرة عن تعليم القرآن وتعلمه، فقل الحافظون له، فعلى كل من نصب نفسه لإرشاد المسلمين في دينهم أن يحثهم على العناية بحفظ كتاب ربهم، وعلى الكُتَّاب أن يطرقوا هذا الموضوع الكثير النواحي، هذا يأتيه من ناحية فضل القرآن، وذلك من ناحية اختيار المعلمين وما هي الصفات المطلوبة فيهم، والآخر من ناحية أسلوب التعليم وما هو أقرب إلى التحصيل من أي الأساليب، ورابه من ناحية تحسين حال المعلمين وتوفير أجرتهم، وكل هذه النواحي يلزم أن تتعدد فيها الكتابة حتى تحدث تأثيرا في المجتمع وتكون رأيا عاما في الموضوع)([177])
ونحب أن ننبه هنا إلى أن كلتا المدرستين السلفيتين المحافظة والتنويرية وقفتا على طرفي نقيض في هذا الجانب، فبينما أعطت السلفية المحافظة للسنة المطهرة أهمية كبرى إلى درجة تقديمها أحيانا كثيرة على القرآن الكريم نفسه، نجد على خلافها السلفية التنويرية، فهي تهتم بالقرآن أكثر من اهتمامها بالسنة، بل إنها في تعاملها مع السنة تحاكمها إلى القرآن، وقد تنكر ما صح من السنة إن عارض ما صرح من القرآن.
وهذه نقطة خلاف جوهرية بين كلا المدرستين، ولهذا نجد السلفية المحافظة تحمل حملة شديدة على ابن باديس بسبب موقفه من بعض الأحاديث.
وكمثال على ذلك موقفه من مسألة (والدي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم)، والتي تصر المدرسة الوهابية على اعتبارهما من أهل النار، بل تعتبر ذلك عقيدة تميز أهل السنة عن غيرهم، لكن ابن باديس يخالف ذلك، مستدلا لذلك بقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } [الإسراء: 15] وقوله: {أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 19] وغيرهما، ومقدما لها على ما ورد في ذلك من الأحاديث، وقد أبرز وجه الدلالة فيها على ما ذهب إليه، فقال: (كلها آيات قواطع في نجاة أهل الفترة، ولا يستثنى من ذلك إلا من جاء فيهم نص ثابت خاص كعمر بن لحي أول من سيب السوائب وبدل في شريعة إبراهيم وغير وحلل للعرب وحرم فأبوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ناجيان بعموم هذه الأدلة، ولا يعارض تلك القواطع حديث مسلم عن أنس: أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله، أين أبي؟ قال: في النار. فلما قفا الرجل دعاه فقال: إن أبي وأباك في النار)([178]) لأنه خبر آحاد فلا يعارض القواطع وهو قابل للتأويل، يحمل الأب على العم مجازا يحسنه المشاكلة اللفظية ومناسبته لجبر خاطر الرجل وذلك من رحمته- صلى الله عليه وآله وسلم- وكريم أخلاقه)([179])
وقد أثار هذا الموقف من حديث الآحاد حفيظة السلفية الوهابية فكتبت الكثير من الردود على ابن باديس، لتخرجه من الطائفة الناجية المنصورة طائفة الوهابية، لتدخله في طوائف البدع، مع أنه عاش حياته جميعا يدعو إلى نبذ البدع، بل وحربها.
وسأقتبس هنا نصا من كتاب قد خصص لذكر المواقع التي خرج فيها ابن باديس من السنة والسلفية، وقد قالت كاتبته المدعوة (أم أيوب) في معرض ذكرها لهذا الموقف في كتابها المتداول في النوادي السلفية بكثرة (الرّد الوافي على من زعم بأنّ ابن باديس سلفيّ): (وهذا الاستدلال مردود جملة وتفصيلا إذ أنّ والديّ الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم وردت فيهما نصوص صحيحة في السّنة دلّت على أنّهما من أهل النّار، وليس من حقّنا أن نضرب بهذه النّصوص عرض الحائط طالما أنّها نصوص صحيحة صحّت متنا وسندا، ولا يـجوز الإعراض عن السّنة النّبوية والاكتفاء بالقرآن الكريم وحده..وللأسف هذا ما فعله الشيّخ ابن باديس في هذه المسألة.. وإلى القارئ الكريم أسوق كلامه ليتبيـّن للجميع كيف وقع ابن باديس” في أخطاء جسيمة برئت منها ذّمة علماء السّلفية الحقيقيّين)([180])
وهو مبدأ مشترك بين جميع المدارس السلفية، فالسلفية – كما عرفنا – تعني طرح كل اجتهاد مستحدث يتعارض مع اجتهادات السلف، أو يزاحم اجتهادات السلف، ولهذا فإن أول ما يناقض الاجتهاد ويقف في طريقه هو التقليد وعقلية المقلد.
ولهذا نرى محمد عبده وتلميذه يعتبران التقليد من أهم أسباب انحطاط الأمة وتخلفها، حيث سارت الأمة بطريق تخالف فيه نصوص القرآن الواضحة لأجل آراء لم تتلق إلا عن طريق التقليد.
ومن الأمثلة التي استشهدا بها لذلك ما نقلاه عن الفخر الرازي عن أحد شيوخه قائلاً: (قد شاهدت جماعة من مقلدة الفقهاء قرأت عليهم آيات كثيرة من كتاب الله تعالى في بعض المسائل، وكانت مذاهبهم بخلاف تلك الآيات، فلم يقبلوا تلك الآيات، ولم يلتفتوا إليها وبقوا ينظرون إلى كالمتعجب، يعني كيف يمكن العمل بظواهر هذه الآيات مع أن الرواية عن سلفنا وردت على خلافها. ولو تأملت حق التأمل وجدت هذا الداء سارياً في عروق الأكثرين من أهل الدنيا)([181])
ويعلق الشيخ رشيد على ذلك بقوله: (إن الرازي – رحمه الله تعالى – كان يقرر هذه الحقيقة عندما يفسر آياتها وينساها في مواضع أخرى، فيتعصب للأشعرية في أصول العقائد، وللشافعية في فروع الفقه، لا سيما فيما يخالفون فيه الحنفية، وهذا هو أصول الداء الذي يشكو من بعض أعراضه عند الكلام في مسائل الخلاف مع الغفلة عن سببها. أما الإمام الغزالي فقد تجرد عن التعصب للمذاهب كلها في نهايته، ووصف الدواء في بعض كتبه كالقسطاس المستقيم، ولكنه لم يوفق إلى تأليف أمة تدعو إليه وتقوم به)([182])
ويستنتج من هذا ضرورة الإصلاح لمواجهة التقليد، فيقول: (إذا كان الرازي وشيخه يقولان في علماء القرن السابع، والغزالي يقول في علماء القرن الخامس ما قالوا فماذا نقول في أكثر علماء زماننا وهم يعترفون بما نعرفه من كونهم لا يشقون لأولئك غبارا؟ ألسنا الآن أحوج إلى الإصلاح منا إليه في تلك العصور التي اعترف هؤلاء الأئمة بأن الظلمات فيها غشيت النور، حتى ضل بالاختلاف الجمهور؟ بلى، وهو ما نعاني فيه ما نعاني وإلى الله ترجع الأمور)([183])
وقد كان هذا هو نفس منهج جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، والذي نص عليه ابن باديس بقوله: (إن الذي يسع المعلمين ليس هو مذهبا بعينه وإنما هو الإسلام بجميع مذاهبه وقد كنا ولازلنا لا نلتزم مذهب مالك في كل جزئية)([184])
ونرى الشيخ التبسي رئيس لجنة الفتوى في الجمعية يتحدث عن مقام الإمام مالك، ويعقب عليه بقوله: (لو قدر لمالك أن يبعث حيا من قبره لقال في نسبة هذا الرهط إليه المخالفين لوصاياه المعطلين لروح مذهبه ما قال عيسى صلوات الله وسلامه عليه في أولئك الذين كذبهم بقوله: (مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (المائدة:117)، والله يشهد وأولوا العلم يشهدون أن مالكا بريء من كل نابذ لسنة عمليا أو قومة بدعوى التمذهب بمذهب مالك)([185])
وسنرى عند عرض تفاصيل الخلاف بين الجمعية أمثلة كثيرة تدل على نبذها للتقليد، ولذلك فهي تتفق تماما مع هذه المدرسة في هذه الناحية.
3 ــ إعادة الاعتبار للمقاصد الشرعية:
بعد رفض رواد المدرسة التنويرية للتقليد الحرفي للمذاهب الفقهية دعوا إلى النظر المقاصدي لأحكام الشريعة بعيدا عن الحرفية التي وقع فيها الفقهاء، وخاصة في عصور التقليد.
ولهذا نجد رشيد رضا يعتبر أن المراد بكلمة (الفقه) – كما وردت في المصادر الأصلية – عبارة عن (مقاصد الشريعة وحكمها)، وليست:(علم أحكام الفروع) المعروف، فالمعنى الأخير مستحدث مثلما يبن ذلك الغزالي والحكيم الترمذي والشاطبي وغيرهم، وعلى ذلك كان رؤوس المسلمين في عصر النبي والخلافة الراشدة من أهل الفقه المقاصدي في الغالب([186]).
ولأجل هذا نجد اهتمام الشيخ محمد عبده وتلميذه بكتاب (الموافقات أصول الشريعة) للشاطبي، فهما كثيراً ما كانا يوصيان به طلابهما، كما ينقل ذلك الشيخ عبد الله دراز في مقدمة تحقيقه للكتاب.
بالإضافة إلى أن رشيد رضا قام بنشر رسالة نجم الدين الطوفي في رعاية المصلحة في أحد أعداد مجلة (المنار)، وأيد ما جاء فيها من نظرية تقديم المصلحة على النص في حال التعارض([187]).
بل إنه كان يرى أن العمل فيما ليس له حكم في الكتاب والسنة برأي أولي الأمر في كل زمن بشرطه، هو أولى من العمل برأي فقهاء القرون الحالية باعتباره أقرب للمصلحة، يقول في ذلك: (إن الأحكام السياسية والقضائية والإدارية – وهي ما يعبر عنها علماؤنا بالمعاملات- مدارها في الشريعة الإسلامية على قاعدة درء المفاسد وحفظ المصالح أو جلبها)، ويستشهد لذلك بترك عمر وغيره من الصحابة إقامة الحدود أحيانًا لأجل المصلحة، ويعقب على ذلك بقوله: (فدل ذلك على أنها تقدم على النص)([188])
لذا اشترط أن يكون أصحاب الرأي عالمين بالنصوص ومقاصد الشريعة وعللها حتى لا يخالفوها وليتيسر لهم ردع المتنازع فيها إليها([189]).
ومن التطبيقات على هذا المبدأ موقف رشيد رضا من (الرق)، فقد برر جواز منع الرقيق بتحريم المباح طبقاً للمصلحة، وذلك أنه عد المصلحة أصلاً في الأحكام السياسية والمدنية يرجع إليه في غير تحليل المحرمات أو أبطال الواجبات([190]).
ونرى أن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في هذا الباب خصوصا قصرت تقصيرا كبيرا، بل كانت فيه أميل إلى السلفية الحرفية منها إلى السلفية التنويرية، ولهذا حصلت خلافات بينها وبين الشيخ ابن عاشور في بعض المسائل كما ذكرنا سابقا.
ولعل أهم ما يدل على مخالفتها للمقاصدية هو اهتمام بفروع خلافية بسيطة في واقع استعماري يريد أن يستأصل الهوية من جذورها.
وكمثال بسيط على هذا ما ذكره الشيخ ابن عليوة في مقدمة رسالته (القول المعتمد في مشروعية الذكر بالإسم المفرد)([191]) في بيان غرضه من تأليفها، فقد قال مخاطبا بعض الإصلاحيين: (أما بعد أيها الأخ المحترم، فقد كنتُ تشرفتُ بزيارتكم صحبة صديق الجميع حضرة الشيخ.. وبمناسبة ما دار بيننا من الحديث، في تلك السويعات التي رأيتكم فيها موغر الصدر على إخوانكم العلاويين، حسبما لاح لي في ذلك الحين، لا لذنب ارتكبوه سوى أنهم مولعون بإجراء الاسم المفرد على ألسنتهم، وهو قولهم: (الله). فظهر لكم أن ذلك مما يستحق عليه العتاب، أو نقول العقاب، لأنكم قلتم إنهم يلهجون بذكر ذلك الاسم بمناسبة أو غير مناسبة، سواء عليهم في الأزقة، أو غيرها من الأماكن التي لا تليق للذكر، حتى أن أحدهم إذا طرق الباب يقول: (الله)، وإذا ناداه إنسان يقول: (الله)، وإذا قام يقول: (الله)، وإذا جلس يقول: (الله)، إلى غير ذلك مما جرى به الحديث)([192])
فإنكار الجمعية لمثل هذا عجيب، خاصة في واقع يريد أن يمحو فيه المستعمر اسم الله من ألسنة الجزائريين.
ولا يغرنا بعد هذا ما ورد في بعض تصريحات وشعارات الجمعية من اعتمادها المقاصد الشرعية، لأن العبرة بالأفعال لا بالأقوال، وللأسف فقد كانت في هذا الباب بعيدة جدا عن الأقوال، وسنرى النماذج الكثيرة المثبتة لهذا في الجزء الثالث من هذه السلسلة.
وهذا ما نلاحظه في جميع تراث المدرسة التنويرية ومن تبعها، بما فيها مدرسة جمعية العلماء، ولذلك اهتمت بالتفسير السنني للقرآن الكريم، وهو ما لا نلاحظه في السلفية المحافظة التي اهتمت بالتفسير الحرفي البعيد عن الاهتمام باستنباط السنن الإلهية في الكون والمجتمع.
ولعل أول من أحيا هذا الاتجاه في التفسير والاستنباط جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده في مقالاتهما في العروة الوثقى، فقد نحيا فيه منحى يؤكد وجهتهما في الإصلاح ووقوفهما على كثير من سنن الله تعالى في كونه ونواميسه في عباده.
وقد وصف تلميذهم رشيد رضا تأثير تلك المقالات في نفسه، فقال: (كنت من قبل اشتغالي بطلب العلم في طرابلس الشام مشتغلاً بالعبادة ميالاً إلى التصوف وكنت أنوي بقراءة القرآن الإتعاظ بمواعظه لأجل الرغبة في الآخرة والزهد في الدنيا ولما رأيت نفسي أهلاً لنفع الناس بما حصلت من العلم –على قلته صرت أجلس إلى العوام في بلدنا أعظهم بالقرآن مغلباً الترهيب على الترغيب والخوف على الرجاء والإنذار على التبشير والزهد في الدنيا على القصد والاعتدال فيها، حتى ظفرت بنسخ من جريدة العروة الوثقى في أوراق والدي فأثَّرت في قلبي تأثيراً شديداً ودخلت بها في طور جديد من حياتي وأعجبت جد الإعجاب بمنهج تلك المقالات في الإستشهاد والإستدلال على قضاياها بآيات الكتاب وما تضمنه من تفسيرها مما لم يحم حوله أحد من المفسرين على اختلاف أساليبهم في الكتابة ومدارهم في الفهم)([193])
وقد لخص هذه الأمور التي انفردت بها العروة الوثقى مما لم يحم حولها أحد من المفسرين السابقين في ثلاثة أمور هي:
1 – بيان سنن الله تعالى في الخلق ونظام الاجتماع البشري وأسباب ترقي الأمم وتدليها وقوتها وضعفها.
2 – بيان أن الإسلام دين سيادة وسلطان وجمع بين سعادة الدنيا وسعادة الآخرة ومقتضى ذلك أنه دين روحاني واجتماعي ومدني وعسكري، وأن القوة الحربية فيه لأجل المحافظة على الشريعة العادلة والهداية العامة وعزة الملة لا لأجل الإكراه على الدين بالقوة.
3 – بيان أنّ المسلمين ليس لهم جنسية إلاّ دينهم فهم إخوة لا يجوز أن يفرقهم نسب ولا لغة ولا حكومة([194]).
وفي موضع آخر يؤكد الاهتمام الكبير الذي أولته السلفية التنويرية لفقه السنن، فيقول: (إنّ مسلك جريدة العروة الوثقى في الدعوة إلى الإصلاح الإسلامي من طريق إرشاد القرآن وبيان سنن الله تعالى في الإنسان والأكوان قد فتح لي في فهم القرآن باباً لم يأخذ بحلقته أحد من المفسرين المتقدمين، فهناك فرق بين فهم عبده وأستاذه (الحكيم) للقرآن وبين أفهام المتقدمين الذين كانت حظوظهم من تفسير الآية كتابة سطرين أو بضعة أسطر أكثرها في غير سبيل هدايتها)([195])
بل إنا نكاد نلحظ الخيلاء في تعابير رشيد رضا عندما يصف تفسير المنار بكونه (التفسير الوحيد الجامع بين صحيح المأثور وصريح المعقول الذي يبين حكم التشريع وسنن الله في الإنسان وكون القرآن هداية للبشر في كل زمان ومكان ويوازن بين هدايته وما عليه المسلمون في هذا العصر)([196])
بل إن الشيخ محمد عبده رأى أن ما استنبطه في تفسيره من إشارات سننية ليس شيئا بجنب ما في القرآن الكريم من بيان في هذا الباب، ولهذا دعا إلى تأسيس علم السنن وتدوينه، فيقول: (إرشاد الله إيانا إلى أن له في خلقه سنناً يوجب علينا أن تجعل هذه السنن علماً من العلوم المدونة لنستديم ما فيها من الهداية والموعظة على أجمل وجه، فيجب على الأمة في مجموعها أن يكون لهم قوم يبينون لهم سنن الله في خلقه كما فعلوا في غير هذا العلم من العلوم والفنون التي أرشد عليها بالقرآن بالإجمال وقد بينها العلماء بالتفصيل عملاً بإرشاده كالتوحيد والأصول والفقه، والعلم بسنن الله تعالى من أهم العلوم وأنفعها والقرآن يحيل عليه في مواضع كثيرة وقد دلنا على مأخذه من أحوال الأمم إذ أمرنا أن نسير في الأرض لاجتلائها ومعرفة حقيقتها)([197])
وهو يرد على الاعتراض الموجه عادة من طرف السلفية المحافظة، والذي ينص على أن السلف لم يدونوا هذا العلم فيذكر أنهم لم يدونوه كما لم يدونوا باقي العلوم، ولكنهم كانوا يدركونه ويحسنون توظيفه في النصر والتجارب وإن لم يسموه باسمه فليسمه الناس (علم السنن) أو (علم الاجتماع) أو (علم السياسية الدينية) فلا حرج في التسمية([198]).
ويذكر فضائل هذا العلم مرغبا فيه، فيقول: (إن علم السنن أعظم الوسائل لكمال العلم بالله –تعالى- وصفاته ومن أقرب الطرق إليه وأقوى الآيات الدالة عليه وهو أعظم العلوم التي يرتقي بها البشر في الحياة الاجتماعية المدنية فيكونون بها أعزاء أقوياء سعداء وإنما يرجى الاستفادة منه إذا نظر فيه إلى الوجه الرباني والوجه الإنساني جميعاً)([199])
وهو يعتب على تقصير المسلمين في الأخذ بهذا العلم مع أهميته، فيذكر أن المفسرين المتقدمين منهم والمتأخرين (لم يقصروا في شئ من علم الكتاب والسنة كما قصروا في بيان ما هدى إليه القرآن والحديث من سنن الله تعالى في الأمم والجمع بين النصوص في ذلك والحث على الاعتبار بها، ولو عنوا بذلك بعض عنايتهم بفروع الأحكام وقواعد الكلام لأفادوا الأمة ما يحفظ دينها ودنياها وهو ما لا يغني عنه التوسع في دقائق مسائل النجاسة والطهارة والسلم والإجارة فإن العلم بسنن الله تعالى لا يعدله إلا العلم بالله تعالى وصفاته وأفعاله بل هو منه أو طريقه الموصل إليه)([200])
وقد سار ابن باديس على هذا الهدي، وبنى تفسيره عليه، ونقتصر على مثال واحد هنا، فقد قال في تفسيره لقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 18، 19]: (وقد أفادت هذه الآيات كلّها، أنَّ الأسباب الكونية التي وضعها الله تعالى في هذه الحياة، وسائل لمسبباتها، موصلة بإذن الله تعالى مَن تمسّك بها إلى ما جُعلت وسيلة إليه، بمقتضى أمر الله وتقديره وسنّته في نظام هذه الحياة والكون، ولو كان ذلك المتمسّك بها لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر ولا يصدّق المرسلين.. ومن مقتضى هذا أنَّ من أهمل تلك الأسباب الكونية التقديرية الإلهية، ولم يأخذ بها لم ينل مسبباتها ولو كان من المؤمنين، وهذا معلوم ومشاهد من تاريخ البشر في ماضيهم وحاضرهم..)([201])
ويقسم العباد على هذا الأساس إلى أربعة أقسام:
1ـ مؤمن آخذ بالأسباب الدنيوية، فهذا سعيد في الدنيا والآخرة.
2ـ ودهري تارك لها، فهذا شقي فيهما.
3ـ ومؤمن تارك للأسباب، فهذا شقي في الدنيا وينجو بعد المؤاخذة على الترك، في الآخرة.
4ـ ودهري آخذ بالأسباب الدنيوية، فهذا سعيد في الدنيا ويكون في الآخرة من الهالكين([202]).
ويعبر عن النتيجة العملية لهذا التحليل بقوله: (فلا يُفتنن المسلمون بعد علم هذا ما يرونه من حالهم وحال من لا يدين دينهم. فإنّه لم يكن تأخّرهم لإيمانهم، بل بترك الأخذ بالأسباب الذي هو سبب تأخرنا، من ضعف إيمانهم. ولم يتقدّم غيرهم بعدم إيمانهم، بل بأخذهم بأسباب التقدّم في الحياة)([203])
وعلى هذا النمط نجد الأمثلة الكثيرة في تفسيره ومقالاته، ومثله باقي مشايخ الجمعية، وخصوصا الإبراهيمي الذي كتبت الدراسات المطولة عنه في هذا المجال.
ومع هذا نحب أن نعقب هنا على أن الجمعية وإن أفلحت في دراسة السنن نظريا، لكنها في الواقع العملي لم تفلح كثيرا، فعلى الرغم من كثرة الفرص التي وضعت أمامها إلا أنها لم تستغلها أحسن استغلال، بل تركت الفرصة للعلمانيين واللادينيين ليسيروا دفة الحياة بعد أن انشغلت هي بحرب إيقاظ النائمين باسم الجلالة، وحرب الذكر الجماعي، والسخرية من الخلوة العليوية.
وقد أشرنا إلى مثال على ذلك سابقا من النقد اللاذع لمالك بن نبي فقيه السنن لها في هذه الناحية، وأشرنا إلى ما حصل بينه وبين العربي التبسي بسبب قضايا ما كان ينبغي لها أن تكون محل صراع.
5 ــ الانفتاح على المعارف المختلفة:
وهي نقطة فارقة كبرى بين السلفية المحافظة والسلفية التنويرية، وهي من الأمور التي توجهت فيها السلفية المحافظة على السلفية التنويرية بالنقد اللاذع، والذي يصل إلى حد الرمي بالضلال والبدعة.
والمنطلق الأول الذي ينطلق منه التنويريون في هذا هو التوجه التنويري نفسه، والذي يجعل للعقل سلطاناً على كل شيء حتى على النص المقدس نفسه، وقد عبر (كانط) عن هذا السلطان في مقاله المنشور عام 1784 م (جواب عن سؤال ما التنوير؟) جاء فيه أن شعار التنوير (كن جريئاً في إعمال عقلك) وفي عبارة أخرى (التنوير يعني ألا سلطان على العقل إلا العقل ذاته)([204])
وقد دعا هذا أكثر التنويريين غير المتدينين إلى البعد عن الدين بقدر قربهم من هذا التنوير الذي لا يجعل السلطة المطلقة إلا للعقل.
بينما يضيف التنويريون المتدينون مصدرا آخر للمعرفة هو أرقى من العقل المجرد، وهو النص المقدس الذي لم يتأثر برواسب القرون، وفي هذا يضيف التنويريون المتدينون البعد السلفي لتنويرهم.
ويرى هؤلاء أن النص المقدس لا يمكن فهمه إلا من خلال دراسة الواقع بكل تفاصيله، وما جد فيه من علوم ومعارف، فالنص في تصورهم مجمل، ولا يحل إجماله بالطرق التقليدية من التحليل اللغوي، وإنما بفعل ما يقدمه الواقع من تفصيل.
ويشير إلى هذا الشيخ محمد عبده عند تفسيره لقوله تعالى: { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [البقرة: 213]، فيعلق عليها بقوله: (أنا لا أعقل كيف يمكن لأحد أن يفسر الآية وهو لا يعرف أحوال البشر، وكيف اتحدوا؟ وكيف تفرقوا؟ وما معنى تلك الوحدة التي كانوا عليها؟ وهل كانت نافعة أم ضارة؟ وماذا كان من آثار بعثة النبيين فيهم، لقد أجمل القران الكلام عن الأمم، وعن السنن الإلهية، وعن آياته في السماوات والأرض، وفي الآفاق والأنفس، وهو إجمال صادر عمن أحاط بكل شيء علماً وأمرنا بالنظر والتفكير، والسير في الأرض لتفهم إجماله بالتفصيل الذي يزيدنا ارتقاء وكمالاً، ولو اكتفينا من علم الكون بنظره في ظاهرة، لكنا كمن يعتبر الكتاب بلون جلده لا بما حواه من علم وحكمه)([205])
وقد جعلت هذه النظرة الشيخ محمد عبده يحاول أن يربط النصوص القرآنية بمباحث العلوم الطبيعية، وميادين السنن الكونية والاجتماعية. وقد برر ذلك عند تفسيره لقوله تعالى: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} [آل عمران: 164] ذاكرا أنها عبارة عن بيان الآيات الكونية والاستفادة منها والاعتبار بها([206]).
ولكن هذا – مع الجزم بحسن النية وشرف المقصد- قد جره في أحيان كثيرة إلى التعسف في التأويل لصالح النظريات العلمية سواء ما رقى منها إلى رتبة الحقيقة العلمية أو لم يرق.
ومن الأمثلة المشهورة على ذلك، والتي لقيت من المخالفين إنكارا شديدا هو أنه فسر سورة الفيل تفسيراً قائماً على الميكروبات والجراثيم، فجوز أن تكون الطير الوارد ذكرها في السورة عبارة عن بعض الحشرات كالبعوض والذباب، كما جوز أن تكون الحجارة هي جراثيم بعض الأمراض([207])، كما أن رشيد رضا اعتبر الجراثيم المرضية و(الميكروبات) يصح أن تكون نوعاً من الجن([208]).
وقد كان لجمعية العلماء بعض الشطحات القريبة من هذا، أو الأخطر من هذا، والتي كانت محل نقد شديد لا من الاتجاه الوهابي وحده، بل من كل الاتجاهات، وهي ناتجة عن التسرع، وعدم إكمال الاجتهاد الكافي لفهم النص المقدس، أو في معرفة الحقيقة العلمية.
والمثال الذي نشير إليه هنا هو الموقف التأييدي للشيخ مبارك الميلي من مذهب النشوء والارتقاء (النظرية الدارونية)([209])، بل تفسير النص القرآني المقدس على أساسها، وهي النظرية التي اعتمدها التنويريون اللادينيون كشبلي شميل وغيره.
قال الشيخ مبارك الميلي عند حديثه عن ابتداء الإنسان ووجوده وأول عهده:(إن المؤرخين – وإن لم يكن لهم نقل عن أهل هذا العصر – لم يعدموا سبيلا للبحث عنه، فقد وجدوا من الآثار العريقة في القدم التي حفظها بطن الأرض أساسا للكلام عن حياة الإنسان الأول، وأنار أمامهم مذهب النشوء والارتقاء دياجي هذا العصر الحالكة)([210])
ولا يكتفي بهذا التصريح الذي قد يجد من يبرره، أو يحمله على غير المحمل الذي يدل عليه ظاهره، بل يزيد الأمر سوءا حين يربط هذا المذهب بمصدر الدين المقدس القرآن الكريم، فقد قال تعقيبا على الكلام السابق: (إن مذهب النشوء والارتقاء قديم ليس من بنات أفكار المتأخرين، والناس إزاءه فريقان: مثبت له معجب به، ونافٍ له نافر منه.. والحق الذي تشهد له الضرورة ويؤيده القرآن الكريم أن المذهب نفسه – بصرف النظر عن بعض الجزئيات – معقول مقبول)([211])
ثم استدل على قبول مذهب النشوء والارتقاء بالضرورة، ثم القرآن الكريم، وخلص إلى نتيجة عبر عنها بقوله: (وإذا ثبت لديك أن المذهب نفسه لا مغمز فيه، فلا يضيقن صدرك لبعض الجزئيات التي يقسر بعض الماديين عقلاء البشر على قبولها ويحاولون بها هدم الأديان – مثل ترقي القرد إلى نوع الإنسان – فإن تلك الجزئيات لم تزل وهما ولن تزال خيالا فكيف يصح إلحاقها بذلك المذهب الصحيح؟)([212])
ثم خلص في النهاية إلى أن الضرورة والدين متفقان على إثبات النشوء والارتقاء في النوع الواحد([213]).
ولا نملك أن نعلق على هذه المقولة إلا بما علق به صاجب كتاب (منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير) بقوله: (وبهذا أعطى الشيخ مبارك الميلي- عفا الله عنه – الضوء الأخضر لمن يريد أن يدخل نظرية داروين وغيرها في أذهان المسلمين)([214])
ونقصد به الاهتمام المبالغ فيه من طرف السلفيين التنويريين بمظاهر التمدن والرفاه، واعتبارها في بعض الأحيان مقاييس صحيحة للتقدم أو الانحطاط.
وبناء على هذا سنرى كيف كان الإبراهيمي ينتقد الطرق الصوفية في طريقة ذكرها باعتبارها تشوه صورة الإسلام في عيون الغرب، وكأنه ينتظر من الغرب أن يعلمها كيف تذكر، أو كيف تتحرك في ذكرها.
ونرى أن هذا الحرص المبالغ فيه على المظاهر جعل الجمعية في اهتمامها بالجانب التربوي تركز على العمران المرتبط بالمدارس أكثر من حرصها على التكوين المتكامل فيها.
ولعل هذا الموقف من الرفاه هو الذي جعل ابن باديس يختلف مع أكثر علماء الأمة في الموقف من بعض اللادينيين، وخاصة إذا كانوا في مواجهة الإسلام التقليدي والطرقي، وربما يكون أهم دليل على هذا التوجه التنويري المغالي موقف ابن باديس من كمال أتاتورك حين أثنى عليه حيا وميتا، فقد رثاه بعد موته بهذه الكلمات التي لم يرث بمثلها غيره، فقد قال: (في السابع عشر من رمضان المعظم ختمت أنفاس أعظم رجل عرفته البشرية في التاريخ الحديث, وعبقري من أعظم عباقرة الشرق, الذين يطلعون على العالم في مختلف الأحقاب، فيحولون مجرى التاريخ ويخلقونه خلقاً جديداً ذلك هو مصطفى كمال بطل غاليبولي في الدردنيل وبطل سقاريا في الأناضول وباعث تركيا من شبه الموت إلى حيث هي اليوم من الغنى والعز والسمو)([215])
وبالرغم من آثار الاستغراب الكثير الذي وقفه البعض من هذا المقال إلا أنه يبرز ناحية مهمة تدل على التصورات الفكرية لابن باديس ولكثير من أعضاء جمعية العلماء حول المدنية الحديثة والانبهار بها إلى الدرجة التي قد تقربهم من التنويريين غير المتدينين، أو الذي يعتبرون الدين سببا في التخلف.
وقد برر ابن باديس هذا بقوله: (إن الإحاطة بنواحي البحث في شخصية أتاتورك (أبي الترك) مما يقصر عنه الباع، ويضيق عنه المجال، ولكنني أرى من المناسب أو من الواجب أن أقول كلمة في موقفه إزاء الإسلام. فهذه هي الناحية الوحيدة من نواحي عظمة مصطفى أتاتورك التي ينقبض لها قلب المسلم ويقف متأسفاً ويكاد يولي مصطفى في موقفه هذا الملامة كلها حتى يعرِّف المسؤولين الحقيقيين الذين أوقفوا مصطفى ذلك الموقف فمن هم هؤلاء المسؤلون؟… المسؤولون هم الذين كانوا يمثلون الإسلام وينطقون باسمه، ويتولون أمر الناس بنفوذه، ويعدون أنفسهم أهله وأولى الناس به)([216])
ثم يحدد هؤلاء، والذين اعتبر أتاتورك بالرغم من توجهه العلماني أو الإلحادي أفضل منهم، فذكر أنهم (خليفة المسلمين شيخ إسلام المسلمين ومن معه من علماء الدين، شيوخ الطرق المتصوفون، الأمم الإسلامية التي كانت تعد السلطان العثماني خليفة لها)([217])
وهؤلاء الذين ذكرهم هم نفسهم الذين كان ابن باديس ومن معه من أعضاء الجمعية يختلفون معهم إلى درجة الصراع.
عرفنا عند عرض الأسس التي يقوم عليها الإصلاح عند الشيخ محمد عبده الاهتمام باللغة العربية وتحديثها لتتناسب مع الحياة المعاصرة.
ونرى هذا متوافقا تماما مع دعوة الجمعية، بل كانت اللغة والبيان أبرز النواحي فيها، حتى أن قيمة العالم – حسب تصورها – كانت بقدر فصاحته وبلاغته.
ولذلك اعتبر الإبراهيمي إحياء اللغة العربية ركنا من أركان العملية الإصلاحية التي نهضت لأجلها الجمعية، فهو يقول: (إنّ جمعيّتكم هذه أُسِّست لغايتين شريفتين، لهما في قلب كلِّ عربي مسلم بهذا الوطن مكانةٌ لا تساويهما مكانة، وهما: إحياء مجد الدِّين الإسلاميّ وإحياء مجد اللغة العربيّة)([218])
ويبرر ذلك بأن (اللغة هي المقوِّم الأكبر من مقوِّمات الاجتماع البشريّ وما من أمَّة أضاعت لغتها إلا وأضاعت وجودها، واستتبع ضياعَ اللغة ضياعُ المقوِّمات الأخرى)([219])
ويذكر النتائج الطيبة التي حصدتها الجمعية من نشرها للغة العربية واهتمامها بها، فقال: (وقد أشرفت هذه اللغة الشريفة على الاضمحلال بهذه الدِّيار لولا أن تداركتها جمعيّة العلماء وأخذت بيدها وانتشلتها من الحضيض الذي وصلت إليه، فاستعادت على يدها شبابَها، ووصلت بسبب الدِّين الحنيف أسبابَها، وأصبحت الجزائر في مدَّة قليلة تُفاخر أمصار العربيّة الكبرى ومنابتها الأصليّة، بأدبها وكُتّابها وشعرائها وخطبائها)([220])
ويذكر تجربته في نشرها فيقول: (ولقد بدأت دروسي ومحاضراتي في تلمسان بالعربية الفصحى وأَخَذْت نفسي بذلك أخذًا أصل فيه إلى درجة الاغراب أحيانًا، وكان لي من وراء ذلك الالتزام غرضان: أحدُهُما إقامة الدليل للمتعلمين باللغات الأجنبية على أن الفصحى لا تعيا بحمل المعاني مهما تنوعت وعلت، وأنها تَبُذُّ اللغات في ميدان التعبير عن الحقائق والخيالات والخواطر والتصورات، وقد بلغت من هذا الغرض ما أريد.. والغرض الثاني أن أُحْدِث في نفوس العامة المحبين للعلم والدين أسفًا يقضّ مضاجعهم فَيَدُعُّهُم إلى تدارك ما فاتهم منها في أبنائهم.. وكنت أرى من عامة السامعين حسن إصغاء ينبئ باهتمام عميق فأتأوله على أنه تآثر بالآيات والأحاديث التي يكثر تردادها في الدرس منزلة على ما سيقت له- والتأثُّر بكلام الله وكلام رسوله طبيعي في المسلم- وكم كنت أخشى أن يَنْفَضُّوا من حولي يومًا لعدم فهم ما يسمعون لولا أنني آوٍ إلى ركن شديد من كلام الله ورسوله.. وما زلنا على هذا حتى فعل المران فعله وأصبحوا يفهمون ويذوقون ويخرجون وهم يتدارسون.. وقد رجعت إلى العامية في بعض الدروس فاستهجنوها ونبت عنها أذواقهم، وإني لا أدري لماذا لا نعجب للعامي يتعلّم الفرنسية بالسماع ونَعْجَب- بل لا نكاد نصدق- له أن يتعلّم العربية بالسماع، مع أن العربية أقرب إلى عاميته وفطرته وروحه)([221])
وهذا كله
وغيره يدل على مدى اهتمام الجمعية باللغة العربية، بل نرى أن مبالغتها في الاهتمام
بها جعلها تنصرف، أو تقصر في تعلم الكثير من العلوم خاصة العلوم الشرعية، فباعها
فيها كما يظهر من خلال كتاباتها محدود جدا مقارنة بقوته في اللغة العربية.
([1]) نشر في مجلّة الشهاب في العدد87 بتاريخ 6 رمضان 1345 هـ.
([2]) (الشهاب) عدد 82 الصادر يوم الخميس 30 رجب 1345هـ، 3 أبريل 1927م.
([3]) ينظر مختار الصحاح، محمد بن أبي بكر بن عبد القادرالرازي باب السين ص264، ومفردات القرآن الكريم للراغب الأصفهاني باب السين ص339.
([4]) ابن منظور، لسان العرب، دار صادر، بيروت، 9/158
([5]) لدرجة أن في الشيعة فرقة يقال لها (السلفية)، يطلق عليها كذلك (الإخبارية)، وهم كأهل الحديث بالنسبة للسنة (انظر: السيد علي حسين الجابري، الفكر السلفي عند الشيعة الاثني عشرية ، رسالة لنيل الماجستير من كلية الآداب في جامعة بغداد ، وطبع الكتاب في بيروت ، منشورات عويدات ، الطبعة الأُولى ، ( 1977 م )
([6]) محمد بن إسماعيل أبو عبدالله البخاري، الجامع الصحيح المختصر، دار ابن كثير، اليمامة – بيروت، ط3، 1407، ج3، 3/324.
([7]) صحيح البخاري، 3/224.
([8]) د. محمد سعيد رمضان البوطي: السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب إسلامي، دار الفكر، دمشق، ص9..
([9]) شمس الدين أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي، المبسوط، دراسة وتحقيق: خليل محي الدين الميس، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، الطبعة : الأولى، 1421هـ 2000م (11/3)
([10]) انظر: د. محمد أحمد عبد القادر، ملامح الفكر الإسلامي بين الاعتدال والغلو، دار المعرفة الجانبية، مصر، 2004 م، ص 68 -70
([11]) انظر : د.موسى زيد الكيلاني، الحركات الإسلامية في الأردن وفلسطين، ص237.
([12]) عبد الرحمن عبد الخالق، لأصول العلمية للدعوة السلفية، الدار السلفية، الكويت الطبعة: الثانية، 1398 هـ، ص5.
([13]) الشيخ الفوزان، نظرات وتعقيبات على ما في كتاب السلفية لمحمد سعيد رمضان من الهفوات، الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، مجلة البحوث الإسلامية – مجلة دورية تصدر عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد – العدد26، ص211.
([14]) د. محمود عبد الحليم: السلفية ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ص11.
([15]) أبو الحسن الأشعري: مقالات الإسلاميين، المكتبة العصرية، بيروت، 1/202.
([16]) ابن حجر: لسان الميزان، مكتب المطبوعات الاسلامية، 2/142.
([17]) البغدادي: الفرق بين الفرق، دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط 5، 1982م، ص 128.
([18]) الأشعري: مقالات الإسلاميين 1/312.
([19]) ابن باديس، العقائد الإسلامية من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، دار البعث، ط1، سنة 1406 هـ، ص17.
([20]) آثار ابن باديس (1/ 80)
([21]) ابن باديس، مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير، من منشورات وزارة الشؤون الدينية، ص467.
([22]) مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير، ص453.
([23]) مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير، ص15.
([24]) آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (3/ 552)
([25]) آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (3/ 544)
([26]) آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (3/ 544)
([27]) آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (5/ 51)
([28]) آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (5/ 221)
([29]) أحمد حماني، صراع بين السنّة والبدعة 1/135-138.
([30]) أحمد حماني، صراع بين السنّة والبدعة 2/67.
([31]) أبو يعلى الزواوي، الاسلام الصحيح، مطبعة المنار، مصر، سنة 1345هـ، (ص:14)
([32]) أبو يعلى الزواوي، الإسلام الصحيح، ص94.
([33]) الترمذي، السنن، تحقيق: بشار عواد معروف، دار الغرب الإسلامي – بيروت، 1998 م، 4/323.
([34]) أبو يعلى الزواوي، الإسلام الصحيح، ص117.
([35]) العربي التبسي، بدعة الطرائق في الإسلام، دط، دت، ص9.
([36]) العربي التبسي، بدعة الطرائق في الإسلام، ص10.
([37]) نقلا عن: منارات من شهاب البصائر (آثار الشيخ العربي بن بلقاسم التبسي) للدكتور أحمد عيساوي، ص 109.
([38]) جريدة المنتقد، العدد 14.
([39]) رسالة الشرك ومظاهره، ص26.
([40]) صراع بين السنّة والبدعة 2/174.
([41]) الطيب العقبي، قصيدة إلى الدين الخالص، د.ط.د.ت، ص2.
([42]) انظر: حموده سعيدي، الخطاب الإيبستيمولوجي في الفكر الفلسفي العربي المعاصر : حدوده وآفاقه، أطروحة لنيل دكتوراه الدولة في الفلسفة، تخصص : إيبستيمولوجيا، إشراف : د. عبد اللّه شريط، السنة الجامعية : 2002- 2003، ص51..
([43]) كتب الحاج عيسى كتاب (الرد النفيس على الطاعن في العلامة ابن باديس) ناقش فيه ما ورد في كتاب (الرد الوافي على من زعم أن ابن باديس سلفي) للمدعوة ام ايوب، حيث أخرجت الشيخ ابن باديس من السلفية بأدلة رد عليها الشيخ محمد حاج عيسى.
([44]) صدر الكتاب ضمن سلسلة (في التنوير الإسلامي)، من أربعة مباحث رئيسية، تناول الأول منها تحرير للمفاهيم والمصطلحات المحددة كمحور للدراسة، بينما تناول الثاني تاريخ ظهور المصطلح منذ أيام الدولة العباسية، أما المبحث الثالث فقد تناول تطور السلفية طيلة القرون الماضية، بينما تناول المبحث الرابع السلفية في العصر الحديث.
([45]) محمد عمارة، السلفية.. واحدة؟.. أم سلفيات؟ نهضة مصر، القاهرة، 2008 ، ص75.
([46]) محمد عمارة، السلفية.. واحدة؟.. أم سلفيات؟ ص77.
([47]) انظر: موقع التغيير على هذا الرابط: http://abomalik3.blogspot.com/، ولم أجد هذه الدراسة منشورة.
([48]) صرح بذلك في مواضع كثيرة من كتبه منها قوله مثلا: (نحن في مواجهة خطر السلفية النصوصية) (المعتزلة.. ص(5) وانظر كتبه: (نظرة جديدة..) ص(13)، و(الإسلام والمستقبل)، ص(249).
([49]) وهي إشارة إلى محمد عبده.
([50]) آثار ابن باديس: 3/28.
([51]) آثار الابراهيمي: 3/123.
([52]) الكثير من خصوم هذا النوع من المدارس السلفية أطلقوا لقب (الوهابية) عليها، لكن بعضهم يتحاشى من هذا اللقب. (انظر : تعقيب الشيخ صالح الفوزان على كتاب (محمد بن عبد الوهاب) لعبد الكريم الخطيب (مجلة كلية أصول الدين) ع1، ص68)، حيث خطأ الفوزان إطلاق اسم الوهابية على دعوة الشيخ من ناحية اللفظ ومن ناحية المعنى، وانظر :ما كتبه الشيخ عبد الله الجبرين حول هذا الإطلاق في مجلة البحوث الإسلامية ع9، ص129). ولكن فيما بعد نجد أنصار هذا التيار وعلماءه لا يتحاشون استعمال كلمة (الوهابية) (انظر : رسالة (الهدية السنية والتحفة الوهابية النجدية) لابن سحمان، و(أثر الدعوة الوهابية) لمحمد حامد الفقي، و(الوهابيون والحجاز) لمحمد رشيد رضا و(الثورية الوهابية والفصل الحاسم بين الوهابيين ومخالفيهم) للقصيمي و(حقيقة المذهب الوهابي) لسليمان الدخيل.
يقول مسعود الندوي في كتابه (محمد بن عبد الوهاب مصلح مظلوم: ص 165) : (وعلى كل حال فنظرا إلى تلك المحاولات التي بذلت لإظهار الوهابية في صورة مذهب مستقل وطائفة ضالة هذا الاسم منتقد أشد الانتقاد ولكن بغض النظر عن هذه الأكذوبة والافتراء فلا أرى حرجاً في هذه التسمية) (نقلا عن: الشيخ عبد العزيز بن محمد بن علي العبد اللطيف، دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب عرض ونقض، طبعة الدرر السنية، ص92)
وقد كانت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين تطلق على هذا النوع من السلفية لقب (الوهابية) كما سنرى.
([53]) لوثروب ستودارد، حاضر العالم الإسلامي، ترجمة، تحقيق: شكيب أرسلان، دار الفكر العربي، الحاشية رقم (1) 1/264.
([54]) عبد الحليم عويس , أثر الإمام محمد بن عبدالوهاب في الفكر الإسلامي الإصلاحي بالجزائر , مصر , 1، دار الصحوة , 1305 هجري , ص 13.
([55]) عده ضمن ما طُبع له في كتابه (الشيخ عبد الحميد بن باديس رائد الإصلاح الإسلامي والتربية في الجزائر)، ط5، ص 542.
([56]) أشار إليها في رسالته (عقيدة العلامة عبد الحميد بن باديس السلفية وبيان موقفه من الأشعرية)، ص 27.
([57]) جريدة البصائر العدد 31، 19 جمادى الأولى 135 هـ / 7 أوت 1936 م، ص 4.
([58]) جريدة البصائر، العدد 31، 19 جمادى الأولى 135 هـ / 7 أوت 1936 م، ص 4.
([59]) نشرها في جريدة النجاح (الأعداد 179 و180 و181، أكتوبر / نوفمبر 1924 م)، انظر: “آثاره ( 5 / 23 – 24)
([60]) آثار ابن باديس:5/23.
([61]) آثار ابن باديس: ( 5 / 32 – 33 ).
([62]) ومن ذلك قول أبي الفداء إسماعيل التميمي المغربي في كتابه المسمى (المنح الإلهية في طمس الضلالة الوهابية): (ويحكي عنهم – أي الوهابية – أنهم اتبعوه – أي ابن تيمية – في القول بالتجسيم، وحملوا على ذلك ظواهر القرآن الكريم تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.. وكانوا أجدر باللحوق بأهل الأصنام لأنهم إذا اعتقدوا أن معبودهم جسم لم يعبدوا الله ولا عرفوا منه إلا الاسم..) ((المنح الإلهية في طمس الضلالة الوهابية)، الكويت، ص 9). (نقلا عن: الشيخ عبد العزيز بن محمد بن علي العبد اللطيف، دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب عرض ونقض، ص156)
([63]) آثار ابن باديس: (5/282-283).
([64]) يقول الدكتور محمد عابد الجابري في مقال : الأصالة والتحديث في المغرب ( نشر في مجلة الثقافة عدد77 / سبتمبر أكتوبر 1983 ص 59-60): (هكذا أصبحت الوهابية أساسا لإيديولوجيا الإصلاح في المغرب في النصف الثاني من القرن الثامن عشر والنصف الأول من القرن التاسع عشر، لقد ظهرت الملامح الأولى للوهابية في المغرب في الاتجاه الديني السلفي الذي عرف به السلطان محمد بن عبد الله (1757-1790) الذي كان ينهى عن قراءة كتب التوحيد المؤسسة على القواعد الكلامية المحررة على مذهب الأشعرية …وكان يحض الناس على مذهب السلف من الاكتفاء بالاعتقاد المأخوذ من ظاهر الكتاب والسنة بلا تأويل، وكان يقول عن نفسه أنه مالكي مذهبا حنبلي اعتقادا. ومن أعماله في هذا الاتجاه هدمه لزاوية أبي الجعد وتشريده لأهلها ونقله لشيخها منفيا إلى مراكش، وإصداره لمنشور يحدد المواد التي يجب الاقتصار على تدريسها في المساجد؛ القرويين وغيرها، والمراجع التي يجب اعتمادها دون غيرها في الفقه والنحو والأدب والسيرة والحديث والتفسير، وقد ورد في ختام هذا المنشور ما يلي: من أراد أن يخوض في علم الكلام والمنطق وعلوم الفلسفة وكتب غلاة الصوفية وكتب القصص فليتعاط ذلك في داره مع أصحابه الذين لا يدرون أنهم لا يدرون، ومن تعاطى ما ذكرناه في المساجد ونالته العقوبة فلا يلومن إلا نفسه … وسواء كان السلطان محمد بن عبد الله متأثرا في آرائه ومواقفه تلك بالدعوة الوهابية التي كان الحجاج المغاربة ومنهم الفقهاء ينقلون أخبارها ومضامينها إلى المغرب كما يؤكد ذلك جوليان أو أن ذلك كان من اجتهاده الخاص كما يميل إلى القول به بعض كتاب التاريخ الوطني في المغرب، فإن الإجماع حاصل على أن الوهابية كانت بصورة علنية إيديولوجية الدولة في عهد ابنه السلطان سليمان (1792-1822)، وقد خلف أخاه اليزيد (1790-1792) الذي رحب رسميا بالوهابية وطبق تعاليمها وراسل القائم بها في الحجاز آنذاك الأمير عبد الله بن سعود )
([65]) آثار ابن باديس:3/135.
([66]) آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (1/ 123)
([67]) آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (1/ 124)
([68]) آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (4/ 126)
([69]) آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (4/ 127)
([70]) انظر الأرجوزة كاملة – مع شرح غريبها – في آثار الإبراهيمي: ( 4 / 126 – 130 ).
([71]) آثار الإبراهيمي: ( 4 / 131 – 134 ) .
([72]) نشره في ( العدد 98 ) من في جريدة الشهاب، 2 ذي القعدة 1345 هـ / 26 مايو 1927 م، ص 2 .
([73]) المصدر السابق، ص 4.
([74]) وذلك في في ( العدد 3 ) من جريدة الصراط السوي ( 5 جمادى الثانية 1352 هـ / 25 سبتمبر 1933 م، ص 3 ).
([75]) جريدة (السنة، العدد2، ( 22 ذي الحجة 1351 هـ / 17 أبريل 1933 م، ص 7)
([76]) انظر كتاب (الطيب العقبي ودوره في الحركة الوطنية الجزائرية) للأستاذ أحمد مريوش، ص 89.
([77]) سنرى الأمثلة الكثيرة عن تأثر الجمعية خصوصا مبارك الميلي بهذا الكتاب.
([78]) أحمد حماني، صراع بين السنة والبدعة (1/50).
([79]) وقد كان من الوهابية الكبار الذين كانت لهم علاقات كبيرة مع الجمعية إلى درجة أنهم منحوه الرئاسة الشرفية، انظر: جريدة البصائر، عدد 172 – 173، الجزائر 15 أكتوير 1951.
([80]) رسالة الشرك ومظاهره، ص 38.
([81]) كما جاء في رسالة له إلى الأستاذ عبد القدوس الأنصاري مؤرخة في ( 20 ذي القعدة 1356 هـ / 22 يناير 1938 م)، نشرت في مجلة المنهل الحجازية ( م 38، ج 12، ذو الحجة 1397 هـ / ديسمبر 1977 م، ص 1538 )
([82]) محمد الميلي، الشيخ مبارك الميلي ؛ حياته العلمية ونضاله الوطني، دار الغرب الاسلامي، لبنان، ص128.
([83]) مجموعة مؤلفات الشيخ (الرسائل الشخصية) : 5 / 36.
([84]) (مجموعة الرسائل والمسائل النجدية)، ط1، مطبعة المنار، مصر 1344هـ، 3/367.
([85]) عبد الرحمن بن قاسم (جمع)، (الدرر السنية في الأجوبة النجدية) ط2، المكتب الإسلامي، بيروت 1385هـ، 1 / 290، 291 باختصار.
([86]) مامي إسماعيل; فتنة ميلة، النجاح، العدد1871، يوم20 ماي 1936، ص2.
([87]) من قصيدته إلى الدين الخالص، ص3.
([88]) ورد ذكر هذا في الملتقى السلفي المشهور (ملتقى أهل الحديث)، فقد ذكر بعض أعضائه هذا، فقال – مجيبا زميلا له من العاصمة-: (إن أما ما ذكرته من إطلاق كلمة (عقبي ) على من عرف بعداوته للطرق الصوفية والضلالات، فهذا صحيح، وليس في الجزائر العاصمة وسهول متيجة فقط، بل حتى في الغرب الجزائري، فأنا من مدينة الشلف أورد لك هذه الحادثة التي وقعت معي في أحد الأيام من صيف 2004 م وذلك عندما كنت في طابور الانتظار عند طبيب الأسنان، وكان قبالتي شيخ طاعن في السن أبيض اللحية، وكان في الشيخ شيء من الفضول خاصة عندما رأى إعفائي للحيتي فأخذ يجاذبني أطراف الحديث وانتهينا إلى مسألة الطواف بالقبور والاستغاثة بالمقبور واخذت أنكر بشدة هذه السلوكات الشركية البعيدة عن الإسلام وكان الشيخ يوافقني في كل ما أقول ولا يعارضني ولما انتهيت من محاضرتي له قال لي: (هاه ..راك عقبي كبير)، فاستغربت الامر وغمرت بالفضول فقلت له: (ماذا تعني بالعقبي؟) فقال: (إنه عالم كبير في الجزائر اسمه الطيب العقبي كان يحارب البدع والصوفية خاصة بن عليوة )، ثم سألته عن علاقته به فقال أنه عندما كان صغيرا وكان منتسبا للكشافة الإسلامية ذهب في جولة إلى البليدة للسماع لمحاضرة الطيب العقبي حول الإصلاح أو شيء من هذا القبيل، وهذا يتكرر خاصة عندما نجادل أقطاب التصوف والطرقية الذين يعرفون شيئا من العلم فينبزوننا بالعقبيين ( انظر: ملف (الطيب العقبي: مصلح أضاعه قومه)، من ملتقى أهل الحديث، على هذا الرابط (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=107251)
([89]) البصائر: 1/ع31/ص3.
([90]) آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (3/ 320)
([91]) آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (3/ 320)
([92]) أبو إسحاق الشاطبي، الاعتصام، دار النشر : المكتبة التجارية الكبرى، مصر، (1/191)
([93]) انظر: آثار ابن باديس: (3/77.
([94]) من أبرز ما أضافه ابن عاشور لعلم المقاصد ذلك النوع من المقاصد الذي خصص له القسم الثالث من كتابه, وسماه (مقاصد التشريع الخاصة بأنوع المعاملات)، ومن ضمنها: مقاصد أحكام العائلة.. مقاصد التصرفات المالية.. مقاصد الشريعة في المعاملات المنعقدة على الأبدان.. مقاصد أحكام القضاء والشهادة.. المقصد من العقوبات.
([95]) البصائر: السنة الأولى، العدد 16، الجزائر، الجمعة 2 صفر 1355 هـ 24 أفريل 1936م، الآثار: (3/73).
([96]) ابن باديس، الآثار: (3/73)
([97]) ابن باديس، الآثار: (3/73)
([98]) وهي قوله: (الرَّجَاءُ أَضْعَفُ مَنَازِلِ الْمُرِيدِينَ)، انظر: محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية، مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، تحقيق : محمد حامد الفقي، دار الكتاب العربي – بيروت، الطبعة الثانية، 1393 – 1973، (2/38)
([99]) مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (2/38).
([100]) ابن باديس، الآثار: (3/74)
([101]) ابن باديس، الآثار: (3/74)
([102]) ابن باديس، الآثار: (3/54)
([103]) آثار ابن باديس (3/ 79)
([104]) نشر المقال في جريدة (البصائر)، عدد 56، 19 فيفري 1937، بدون توقيع، وهو في آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (1/ 289)
([105]) آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (1/ 289)
([106]) آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (1/ 289)
([107]) آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (1/ 289)
([108]) آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (1/ 289)
([109]) آثار ابن باديس (1/ 272)
([110]) الشهاب: ج6، م9، ص 223 – 229. غرة محرم 1352هـ – ماي 1933م.، نقلا عن الآثار: 1/497.
([111]) آثار ابن باديس (1/ 416)
([112]) آثار ابن باديس (4/ 197)
([113]) انظر: جريدة البصائر، السلسلة 1، السنة الثالثة، عدد 90، الجمعة 17/ 12/1937م الموافق 07/شوال/1356 هـ، ص 1.
([114]) جريدة البصائر، السلسلة 1، السنة الثالثة، عدد 90، الجمعة 17/ 12/1937م الموافق 07/شوال/1356 هـ، ص 2.
([115]) نشرت هذه الفتوى في جريدة البصائر، السلسلة الأولى، السنة الثالثة، عدد 102، الجمعة 04/مارس/1938م الموافق 01/محرم/1357هـ، ص 1 و2 و3
([116]) ذكر الدكتور أحمد عيساوي أن هذه المقدمة التوضيحية بقلم، وتوقيع إدارة تحرير جريدة البصائر التي كان صاحب الامتياز فيها آن صدور هذه الأعداد الشيخ (محمد خير الدين)، ورئيس التحرير والمدير المسؤول الشيخ (مبارك بن محمد الميلي)، انظر: الدكتور أحمد عيساوي، منارات من شهاب البصائر للشيخ العربي بن بلقاسم التبسي (1308 – 1377هـ / 1891 – 1957م)، ص243.
([117]) جريدة البصائر، السلسلة 1، السنة الثالثة، عدد 90، الجمعة 17/ 12/1937م الموافق 07/شوال/1356 هـ، ص 1 و2، نقلا عن: منارات من شهاب البصائر (آثار الشيخ العربي بن بلقاسم التبسي) للدكتور أحمد عيساوي، ص223.
([118]) المجلة الزيتونية لسان حال جامع الزيتونة. أسست سنة 1936م ورئس تحريرها الشيخ محمد الشاذلي بن القاضي. انظر: محمد بن قفصية، أضواء على تاريخ الصحافة التونسية، دار بوسلامة للطباعة، نوتس، دون طبعة، دون تاريخ، ص 228 نقلا عن: منارات من شهاب البصائر (آثار الشيخ العربي بن بلقاسم التبسي) للدكتور أحمد عيساوي، ص223.
([119]) جريدة البصائر، السلسلة الأولى، السنة الثالثة، عدد 102، الجمعة 04/مارس/1938م الموافق 01/محرم/1357هـ، ص 1 .
([120]) عبر عن ذلك الشيخ ابن عثيمين، وهو من علمائهم الكبار في هذا العصر، فقال في (مجموع فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن صالح العثيمين – شرح العقيدة الواسطية، دار الثريا، الطبعة الأولى، 1419هـ) في فصل تحت عنوان (منهج أهل السنة والجماعة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها من الخصال) (8/657): (أهل السنة رحمهم الله يخالفون أهل البدع تماما، فيرون إقامة الحج مع الأمير، وإن كان من أفسق عباد الله.. فهم يرون إقامة الحج مع الأمراء، وإن كانوا فساقا، حتى وإن كانوا يشربون الخمر في الحج، لا يقولون: هذا إمام فاجر، لا نقبل إمامته؛ لأنهم يرون أن طاعة ولي الأمر واجبة، وإن كان فاسقا، بشرط أن لا يخرجه فسقه إلى الكفر البواح الذي عندنا فيه من الله برهان، فهذا لا طاعة له، ويجب أن يزال عن تولي أمور المسلمين، لكن الفجور الذي دون الكفر مهما بلغ، فإن الولاية لا تزال به، بل هي ثابتة، والطاعة لولي الأمر واجبة في غير المعصية.. خلافا للخوارج، الذين يرون أنه لا طاعة للإمام والأمير إذا كان عاصيا، لأن من قاعدتهم: أن الكبيرة تخرج من الملة. وخلافا للرافضة الذين يقولون: إنه لا إمام إلا المعصوم، وإن الأمة الإسلامية منذ غاب من يزعمون أنه الإمام المنتظر، ليست على إمام، ولا تبعا لإمام، بل هي تموت ميتة جاهلية من ذلك الوقت إلى اليوم، ويقولون: إنه لا إمام إلا الإمام المعصوم، ولا حج ولا جهاد مع أي أمير كان؛ لأن الإمام لم يأت بعد.. لكن أهل السنة والجماعة يقولون: نحن نرى إقامة الحج مع الأمراء سواء كانوا أبرارا أو فجارا، وكذلك إقامة الجهاد مع الأمير، ولو كان فساقا، ويقيمون الجهاد مع أمير لا يصلي معهم الجماعة، بل يصلي في رحله)
ثم علل ذلك بقوله: (فأهل السنة والجماعة لديهم بعد نظر، لأن المخالفات في هذه الأمور معصية لله ورسوله، وتجر إلى فتن عظيمة.. فما الذي فتح باب الفتن والقتال بين المسلمين والاختلاف في الآراء إلا الخروج على الأئمة؟! فيرى أهل السنة والجماعة وجوب إقامة الحج والجهاد مع الأمراء، وإن كانوا فجارا)
([121]) آثار ابن باديس (3/ 557)
([122]) نشرت جمعية العلماء المسلمين على الأمة الجزائريين منشورين في أيام حادثة مقتل الشيخ كحول سنة 1355هـ – 1936م، تحضها على ملازمة الهدوء والسكون وتدعوها إلى الثقة بالعدالة الفرنسوية (انظر: آثار ابن باديس (3/ 119)
([123]) آثار ابن باديس (3/ 120)
([124]) آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (3/ 508)
([125]) آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (3/ 508)
([126]) العربي التبسي: مقالات في الدعوة إلى النهضة الإسلامية في الجزائر، جمع: شرفي أحمد الرفاعي قسنطينة، دار البعث 1981، 1/180-181.
([127]) الشهاب (11/326) (غرة جمادى الأولى:1354هـ/أوت:1935)
([128]) مسند أحمد بن حنبل (3/ 338)
([129]) محمد حاج عيسى، (الرد النفيس على الطاعن في العلامة ابن باديس)، د.ط، د.ت، (ص: 253-254)
([130]) الرد النفيس على الطاعن في العلامة ابن باديس، (ص: 253-254).
([131]) ورد هذا النقد في منتديات الآفاق السلفية في موضوع تحت عنوان (الشيخ بن باديس-رحمه الله تعالى- والديمقراطية) ضمن سلسلة ( التنبيهات السَّلفية..) على هذا الرابط: (http://al-afak.amanjamy.net/showthread.php?t=2356)
([132]) محمد عبده، الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية، دار الحداثة، ط 3 1988 م، ص 127 – 128.
([133]) محمد عبده، الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية (هامش)، ص 127.
([134]) فهد الرومي، منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير، دار الرسالة، الطبعة الرابعة، 1414 ص66.
([135]) سلمان العودة، حــوار هــادئ مــع محمــد الغــزالي، الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، الطبعة الأولى، ذو القعدة 1409 هـ، ص9.
([136]) أبو عبد الرحمن مقبل بن هادي الوادعي، ردود أهل العلم على الطاعنين في حديث السحر وبيان بعد محمد رشيد رضا عن السلفية، دط.ط2، ص7.
([137]) مجموعة من المؤلفين، الموسوعة الفلسفية العربية، معهد الانماء العربي، بيروت، المجلد الثاني، مادة السلفية، ص 737.
([138]) انظر: ابن منظور: لسان العرب، ج 6، ص 4571، وأيضاً الطاهر أحمد الزاوي الطرابلسي، مختار القاموس، الدار العربية للكتاب، ليبيا – تونس، ط 1877 ،2، ص 624..
([139]) هذا بالنسبة له كمصطلح لاتجاه فكري، أما دلالته – كمنهج فكري- فهي موجودة بقوة في الثقافة الإسلامية، فهذا (ابن رشد) يستخدمه في دعوته إلى إعمال العقل في النص الديني في مقولة (التأويل)، والتي يعرفها بأنها (إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية)، والتأويل عنده من شأن الراسخين في العلم وليس من شأن الجمهور؛ ولهذا يمتنع تكفير المؤول. فالذي يكّفر هو الذي يتوهم أنه مالك للحقيقة المطلقة. وهذا الوهم هو الذي يحد من سلطان العقل. وقد أراد (ابن رشد) إزالة هذا الوهم بحيث لا يبقى سوى سلطان العقل. وهذا هو جوهر ( التنوير) (انظر: مراد وهبه، ملاك الحقيقة المطلقة، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، ص 108 )
([140]) عبد المنعم الحفني، موسوعة الفلسفة والفلاسفة، ج 1، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط2، 1999،. ص 504، – وأيضاً عصمت نصار، اتجاهات فلسفية معاصرة، في بنية الثقافة الإسلامية، دار الهداية للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، ط 2003 ،1، ص 12.
([141]) عصمت نصار، اتجاهات فلسفية معاصرة، ص 15.
([142]) عصمت نصار، إتجاهات فلسفية معاصرة، ص 14 ،13.
([143]) عصمت نصار، إتجاهات فلسفية معاصرة، ص15.
([144]) حسن حنفي: جمال الدين الأفغاني، المائوية الأولى للكتاب، القاهرة 1999، ص 11.
([145]) حسن حنفي: جمال الدين الأفغاني، ص 185..
([146]) وهذا من النواحي التي ينكرها السلفيون المحافظون على جمعية العلماء، ويبدعونها بسببها.
([147]) انظر: آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (5/ 192)
([148]) آثار الإبراهيمي:5/196.
([149]) آثار الإبراهيمي: 3/65.
([150]) آثار الإبراهيمي: 5/196.
([151]) محمد عبده: رسالة التوحيد، قدم لها وعرف عنها وعن مؤلفها الشيخ حسين يوسف الغزال، دار إحياء العلوم، بيروت، ط 1997 ،2، ص 7.
([152]) محمد عبده: رسالة التوحيد، ص 14.
([153]) انظر: محمد عبده: رسالة التوحيد، ص 19.
([154]) من مقدمة عمار طالبي لآثار ابن باديس: 1/26.
([155]) صالح خرفي : المدارس والمعاهد العليا، دورها في النهضة العربية لحديثة. المجلة الجزائرية للتربية، عدد 4، ص 37.
([156]) آثار ابن باديس (3/ 66)
([157]) آثار الإبراهيمي: 1/177.
([158]) هي عدة مقالات في مجلة البلاغ الجزائري جمعت في رسالة واحدة، رد بها الشيخ على ما كتب في جريدة (الشهاب)
([159]) أحمد بن عليوة المستغانمي، الناصر المعروف بالذب عن مجد التصوف، المطبعة العلاوية، مستغانم، ط2، 1990، ص36.
([160]) أحمد بن عليوة، الناصر المعروف بالذب عن مجد التصوف، ص36.
([161]) شكيب أرسلان، السيد رشيد رضا أو إخاء أربعين سنة، مطبعة ابن زيدون، دمشق، ص 366.
([162]) سجل مؤتمر جمعية العلماء، ص 37.
([163]) آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (2/ 252)
([164]) مجلة المنار: 29/794.
([165]) مجلة المنار: 32/554.
([166]) مجلة المنار (29/ 475)
([167]) آثار ابن باديس: 1/408.
([168]) فقد قال في الفوائد: تحت عنوان (فائدة هجر القرآن أنواع)، قال بعدها: (أحدها هجر سماعه والايمان به والإصغاء إليه، والثاني هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه، وإن قرأه وآمن به، والثالث هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه واعتقاد أنه لا يفيد اليقين وأن أدلته لفظية لا تحصل العلم، والرابع هجر تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد المتكلم به منه، والخامس هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلب وأدوائها، فيطلب شفاء دائه من غيره ويهجر التداوي به وكل هذا داخل في قوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30] (انظر: محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله ابن القيم الجوزية، الفوائد، دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة الثانية ، 1393 – 1973، (ص: 82)
([169]) آثار ابن باديس: 1/408.
([170]) آثار ابن باديس: 1/408.
([171]) آثار ابن باديس: 1/409.
([172]) آثار ابن باديس: 1/408.
([173]) آثار الإبراهيمي:4/226 وما بعدها من مقال بعنوان (دولة القرآن).
([174]) آثار ابن باديس: 1/409.
([175]) محمد خير الدين: ولدة ببسكرة سنة1902 وبها حفظ القرآن، توجه إلى جامع الزيتونة بتونس وتخرج منها بشهادة التطويع سنة1925، رجع إلى الجزائر بعد تخرجه في نفس السنة، من أوائل من انخرط في تأسيس (جمعية العلماء المسلمين الجزائريين) انظر: (الشهاب الجزائرية: العدد/28 بتاريخ/28 ماي 1926) و(مذكرات الشيخ محمد خير الدين)
([176]) سجل مؤتمر الجمعية، ص35.
([177]) آثار ابن باديس (2/ 319)
([178]) مسلم بن الحجاج أبو الحسين القشيري النيسابوري، صحيح مسلم، تحقيق : محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي – بيروت، (1/ 132)
([179]) آثار ابن باديس (2/ 72)
([180]) أم أيوب نورة حسن غاوي، الرّد الوافي على من زعم بأنّ ابن باديس سلفيّ، د.ت.د.ط، ص 36.
([181]) محمد رشيد بن علي رضا، تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1990 م ، ج 4، ص41.
([182]) تفسير المنار، ج 4، ص 41.
([183]) تفسير المنار، ج 4، ص 41.
([184]) البصائر، ع 11/20 مارس 1936.
([185]) البصائر، ع 102: /04 مارس 1938.
([186]) تفسير المنار، ج 5، ص160.
([187]) انظر:مجلة المنار: ج9، ص721، وقد قال في مقدمة نشره لها: (وقد طبعت في هذه الأيام مجموعة رسائل في الأصول لبعض أئمة الشافعية والحنابلة والظاهرية منها : رسالة للإمام نجم الدين الطوفي الحنبلي المتوفى سنة 716 تكلم فيها عن المصلحة بما لم نَرَ مثله لغيره من الفقهاء، وقد أوضح ما يحتاج إلى الإيضاح منها في حواشيها الشيخ جمال الدين القاسمي أحد علماء دمشق الشام المدققين فرأينا أن ننشرها بحواشيها في المنار؛ لتكون تبصرةً لأولي الأبصار)
([188]) مجلة المنار: ج9، ص721.
([189]) المنار، ج ٥، ص ٢٢٧.
([190]) المنار، ج٥، ص ٩.
([191]) نشرها على جريدة (البلاغ الجزائري) عدد 69 و70 و71.
([192]) ابن عليوة، القول المعتمد في مشروعية الذكر بالاسم المفرد، المطبعة العلاوية، مستغانم، الطبعة الثانية، ص6، وسنرى المسألة بتفاصيلها في الباب الرابع من هذه الرسالة.
([193]) تفسير المنار، 1/11.
([194]) المنار، 1/11.
([195]) تفسير المنار، ج10،ص36..
([196]) صفحة الغلاف من كل أجزاء المنار.
([197]) المنار،جج4،ص114-115..
([198]) المنار، ج1، ص20-21..
([199]) المنار، ج7، ص417.
([200]) المنار، ج7، ص416.
([201]) آثار ابن باديس (1/ 201)
([202]) آثار ابن باديس (1/ 202)
([203]) آثار ابن باديس (1/ 202)
([204]) مراد وهبه، ملاك الحقيقة المطلقة، دار قباء، القاهرة، ص 108.
([205]) تفسير المنار (1/ 21)
([206]) تفسير المنار (2/ 150)
([207]) الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده، تحقيق محمد عمارة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ١٩٧٣ م، ) ح ٥، ص ٥٢٩. وأيضاً: محمد حسين الذهبي التفسير والمفسرون، مصر، دار الكتب الحديثة،.. ١٩٧٦ م، ح ٢، ص ٥٦٨ /١٣٩٦.
([208]) تفسير المنار: (3/96)
([209]) هي نظرية نشرها الباحث الإنجليزي (تشارلزداروين) سنة 1859م في كتابه (أصل الأنواع) وهي تركز على قانون الانتقاء الطبيعي وبقاء الأنسب، وقد جعلت نظريته كون الجد الحقيقي للإنسان جرثومة صغيرة عاشت في مستنقع راكد قبل ملايين السنين، والقرد مرحلة من مراحل التطور التي كان الإنسان آخرها فاحدث ذلك ضجة لم يحدثها أي مؤلف آخر في التاريخ الأوروبي قاطبة، وكان له من الآثار في المجالات الفكرية والعملية مالم يكن في الحسبان، فقد أدت إلى انهيار العقيدة الدينية، ونشر الإلحاد في أوروبا، وهي في جوهرها فرضية بيولوجية أبعد شيء عن أن تكون نظرية فلسفية عامة، كما أنها بعيدة عن أن تكون حقيقة علمية ثابتة، وقد قال أحد العلماء الغربيين في النظرية الداروينية بـ بإنَّها نطرية (أبوها الكفر وأمها القذارة) (انظر: صالح بن إبراهيم البليهي، عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين، ط2، 1404هـ، (1/149))
([210]) مبارك الميلي، تاريخ الجزائر في القديم والحديث، مكتبة النهضة الإسلامية، (1/62).
([211]) تاريخ الجزائر في القديم والحديث) (1/62).
([212]) (تاريخ الجزائر في القديم والحديث) (1/63).
([213]) تاريخ الجزائر في القديم والحديث (1/63- وما بعدها)
([214]) فهد الرومي، منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير: 2/611.
([215]) آثار ابن باديس:4/213.
([216]) آثار ابن باديس:4/213.
([217]) آثار ابن باديس:4/213.
([218]) آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (1/ 133)
([219]) آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (1/ 134)
([220]) آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (1/ 286)
([221]) آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (1/ 149)