القرني.. ومشيخة البلاط

القرني.. ومشيخة البلاط

من الشخصيات التي كان لها حظها الوافر في سفك الدم السوري، ويمكن اعتبارها من القيادات الاجتماعية الكبرى التي كان لها دورها في التحريض والإرهاب، من يطلق عليه لقب [شيخ البلاط] عائض القرني، ذلك الذي اجتذب ملايين العقول المعطلة، لا لفضل علم أو حكمة أو أخلاق عالية، أو مواقف قوية، وإنما للسان سليط يعرف كيف يجمع المفردات، وينسق بينها، لتصطدم في طبلة أذن المواطن العربي، مثل رقصات متناغمة، فيرقص معها، من غير أن يدرك ما يقال، ولا أن يحلله، ولا أن يعرضه على الموازين التي جعلها الله في عقله.

وقد اكتسب هذا الشيخ الإرهابي لقبه هذا [شيخ البلاط] من ذلك التزلف المقيت الذي يبديه لكل ملك من ملوك السعودية، أو أمير من أمرائها، وقد اكتسب من وراء ذلك التزلف ثروة ضخمة، وجاها عريضا، ومقبولية واسعة.

فهو في كل مناسبة من المناسبات يشكر البلاط السعودي بملوكه وأمرائه، ويعتبر السعودية وحكامها نعمة كبرى، ويعتبر حكمهم حكما إسلاميا لا يجوز الخروج عليه، ولا نقده.

ومن الأمثلة على ذلك أنه عند استضافته على قناة بداية في الحلقة 18 من برنامج [حياتك]، وأثناء حديثه راح يدعو بخشوع للأمير محمد بن سلمان قائلا: (اسأل الله أن ينصره ويتولاه ويسعد أيامه ويصبح من الظاهر والباطن)

ثم راح يقول له بيتا من الشعر العامي: (لا يلتفت للملوك، ولاعيال الملوك … يقص رأس الملك، ويقول صب قهوة)

وعند سؤاله عن الوطن، وكيفية الحفاظ عليه قال: (حب الوطن إيمان، انتماء، ولا يخون الوطن إلا خائن، ولا يتخلى عن الوطن إلا ناقص، دفع الدم عن الوطن شهادة)

وقال: (الدفاع عن الوطن واجب، وحمايته شرف، وحبه وفاء، والحفاظ على أمنه أمانة، والمشاركة في بنائه رسالة إيمانية إنسانية حضاريّه)

ثم راح يثني على السعودية، بنظامها الحالي، معتبرا إياها جنة الأرض، وفردوسه الأعلى، وأن على المسلمين جميعا أن يوالوها، ويحبوها وينصروها، باعتبارها ـ كما يذكر ـ (جبريل جاء في بلدنا ما جاء في لندن أو باريس، منا عمر والمثنى صاحب الثلة وخالد بن الوليد وما أكثر أمثاله، حفظ الوطن والله إنه يبري العلة نلبسه تاج عز ونحفظ أفضاله..)

بل إنه ومن قدرته على التزلف كتب يقول في تغريدة له بعد موت الملك السعودي السابق: (في ليلة واحدة نودّع ملكًا، ونستقبل ملكًا بلا انقلاب ولا صواريخ ولا ضجيج)

وهو يستثمر الوسائل التي تتاح له ليجدد بيعته للملك وولي عهده كل حين، ومن ذلك قصيدته التي أنشدها نجم الفلكلور السعودي فهد القرني، والتي يقول فيها: (باسمك اللهم رفعنا البيرق الأخضر.. يا صلاتي على المختار وأصحابه.. ما نبغي ثورة أكتوبر وسبتمبر.. عندنا بيعة في الشرع غلابة.. كب قانون هولاكو معا هتلر.. نهجنا سنة المختار واكتابه.. والله ما يدخل الأوطان مستعمر.. دام فينا مليك يفتل أشنابه.. ما طمع بأرضنا كسرى ولا قيصر.. لأن قدامهم للموت طلابة.. مهبط الوحي والإسلام والمنبر.. مولد المصطفى الهادي وطلابه)

وكان كثيرا ما يتملص من الأسئلة المحرجة التي يسأل عنها، والتي يرى أنها قد تؤثر في علاقته بالملوك والأمراء، ومن تلك الطرق في التملص التهرب من الحديث في السياسة، ومن الأمثلة على ذلك أنه عندما صدرت الأوامر الملكية بالإطاحة بالأمير متعب بن عبدالله وعدد آخر من الأمراء والمسؤولين، والذي كانت له بهم علاقة جيدة، وسئل عن ذلك راح يقول: (أنا لست بمحلل سياسي، وأبشركم وأبشر الإخوة أني تبت من السياسة منذ سنوات، وتبت إلى الله ومن تاب إلى الله تاب الله عليه، طلقتها بالثلاث لا رجعة بعدها، وتبت إلى الله)

ثم قال: (الشأن العام له محللين، والسياسة للسياسيين، والاقتصاد للاقتصاديين، عندنا في السعودية اقتصاديين، وعندنا رياضيين لهم في الشأن الرياضي، أما أن أدخل أنا في قل قضية مثلا اتهدم جسر رحت شاركت مثلا في أزمة في المياه رحت وشاركت ومثلا مستشفى فيه مشكلة.. ليست مهمتي، مهمتي تبليغ الدين والآيات والأحاديث وما يصلح الفرد وأخاطب الكبير والصغير والمرأة والرجل بالحسنى وبالموعظة الحسنة، وهذا منهج القرآن ومنهج الأنبياء)

لكن هذه التوبة ليست توبة عامة، بل هي خاصة بالبلاط الذي يعمل فيه، أما سائر البلاطات، فهي عنده مباحة، وخاصة إذا كان لها عداوة مع البلاط الذي يعمل فيه، ولذلك كان من الأسود والوحوش التي هجمت على سورية، وحرضت عليها أيما تحريض.

ولا نزال نذكر قصيدته التي قالها، والتي حولها بعضهم إلى أنشودة تثير الحماسة في نفوس الإرهابيين للمزيد من القتل والتدمير، والتي يقول فيها:

أيها السوري زدهم لهباً

   أمطر الجو ببرقٍ ورعد

دكدك الظالم مّزق جيشه

   ادفن الباغي وقطّع من جحد

كن كميناً كن جحيماً كن لظى

   كن عذاباً من زؤاما ورصد

اشحن البندق بالنار ولا

   تتقي الموت فإن الأمر جد

اذبح العلج على خيبته

   ثم رتل قل هو الله أحد

واهجر الدنيا ولا تحفل بها

   لغبيٍ أو جباناً يرتعد

الذي لا همه إلا الهوى

   يوم خان الله ذو العرش الصمد

نحن بالإيمان أقوى منهمُ

   إن صدقنا في جهادٍ وجلد

حسبنا الله على طغيانهم

   فهي أقوى من عتادٍ وعدد

 ولم تقتصر حربه على سورية على ذلك تلك القصائد، ولا المقالات، ولا الخطب، بل كان يصدر الفتاوى الشرعية كل حين، يحرض فيها على سفك الدم السوري، ويعتبره أفضل الأعمال الصالحة.

وفي حوار أجرته معه قناة (العربية) في بدايات الفتنة السورية، وقبل أن تتطور إلى ما تطورت إليه، راح يصيح بصوته المجلجل قائلا: (يجب على الشعب السوري أن يحمل السلاح ضد بشار، ويجب أن تنعم جميع الأقليات والطوائف بالأمن والحرية)

ثم أضاف يقول: (بشار منتهية شرعيته، ووجب في حقه القتل لأنه قاتل، قتل مئات الأطفال، هدم المساجد، بدلاً من واجبه في حماية الجولان)

بل إنه ذهب إلى أبعد من ذلك، حيث راح يعتبر (قتل بشّار أوجب من قتل إسرائيلي الآن، لأنه دفع للصائل والمارق وزنديق الديانة، هو بَشّارون على وزن (رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق آرئيل) شارون، ولن يتحرّر الجولان حتى يذهب هذا النظام الخائن العميل)

وقال: (قاتل المسلم يُقتل ومكتوب عليه الإعدام، وأنا أضم صوتي لاستفتاء الشعب السوري عن كيفية قتل بشار بدلاً من استفتاء الدستور، فهل يشنق أو يسحل أو ينحر أو غيرها؟)

ولم يكتف بذلك، ولم يرو غليل حقده كل ذلك، بل راح يدعو أفراد الجيش السوري إلى الانشقاق، وعدم طاعة الرئيس، وقال: (سأقدّم رسائل مختصرة للجيش والجزّار بشار، فلا يجوز للجيش السوري طاعة أوامر هذا الطاغية، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)

ولم يكتف بتحريضه على الجيش، بل راح يحرض على حزب البعث السوري، ويتهمه بالرده، فيقول عنه: (حزب مارق مناقض للإسلام، ولا يجوز أن يحكم ديار المسلمين)

أما العلماء السوريين الذين كانوا ولا زالوا في سورية، ويعيشون بكل حرية، ويؤدون أدوارهم المناطة بهم بكل إخلاص، فقد اتهمهم بكونهم علماء بلاط وعلماء سلطة.. وكأنه هو الوحيد العالم العالم المجاهد.. وقد قال فيهم ـ محرضا عليهم مثلما فعل القرضاوي: (أزلام وأبواق للنظام، وسيصدر علماء المسلمين فتوى تسقط عدالتهم)

بل راح يسميهم واحدا واحدا، وكأنه يدعو الإرهابيين إلى تصفيتهم، وقد وصف في ذلك الحوار مع قناة العربية مفتي سوريا الكبير الشيخ أحمد حسّون بكونه (كذاباً أشر.. ومن علماء السوء)

وختم كالعادة حديثه بما تعود أن يختم به من أنه (يجب على الشعب السوري بكل طوائفه أن يقاتل هذا النظام الخارج على الإسلام)

وحتى يثير عواطف شذاذ الآفاق للقدوم لسورية وزرع الإرهاب فيها، راح يحكي عن نفسه، أنه عند زيارته لمخيم الزعتري في الأردن، سمع حديث السوريين هناك عن أن قيادة جيش النظام كانت ترغمهم على (السجود لصورة الأسد، ويسبّون الله).. وهو بطبيعة الحال صدق كل شيء، ولم يضع أبدا أي احتمال بأن يكون كل ذلك كذبا وزورا ودسا حتى يصدق أمثاله أمثل هذه الترهات.. وأنا موقن تماما لو أن مدعيا ادعى ذلك عن جيش بلاده، لراح يكذبه، ويفتي بكفر الكاذب، ويضع القصائد في هجائه.. وسيجد أيضا مصدقين ومطبلين، لأن المشكلة مشكلة العقول التي تقبل كل المتناقضات.

وهو لا يكتفي بالتحريض على سورية، بل إنه راح يحرض على اليمن، ويشكر عاصفة الحزم، ويفرح لكل صبي يقتل أو بيت يهدم، وقد قال في بعض تغريداته: (يا معشر المسلمين لو حسمنا معركة سوريا مبكرا لما احتجنا لحرب اليمن، ولكنّا الآن نشارك في تحرير الأقصى لم يفت الأمر بعد)

وقال في أخرى: (يا معشر المسلمين لنعلم جميعاً أننا إن سمحنا بسقوط ثورة سوريا فسيقاتلنا الحلف الصفوي الروسي في مكة والمدينة والرياض)

وقال في أخرى: (سيتحقق النصر بالرجوع إلى الله وبتوحيد أهل السنة، وبالدعم السياسي والعسكري الحاسم لثورتي سوريا وفلسطين، إن تواصل قتل جنرالات إيران وإسرائيل يؤكد أننا أمام شعب سينتزع النصر قريباً بإذن الله، فلنكن شركاءه في هذا الشرف بدعمه)

أما الكيفية التي يصفها لدعم الإرهاب السوري، فهي كما يذكر: (الشعب السوري لا يحتاجنا للقتال معه، إنما حاجته الدعاء ثم غطاء سياسي ودعم مالي وتدريبي وإعلامي وسلاح نوعي.. زدعمنا لسوريا ليس تفضلاً منا بل هو واجب شرعي ودفاع عن مقدساتنا وأنفسنا ومستقبلنا والمتبقي من عواصمنا)

وقد طالب مرات كثيرة أن تشن عاصفة حزم على سورية، مثلما شنت على اليمن، ومن ذلك قوله: (يجب أن تكون عاصفة الحزم نهضة أمة، وأن يمتد نهجها إلى سوريا وفلسطين وكافة قضايا الأمة، وأن يكون اليمن خطوتها الأولى فقط)

وهو لم يكتف بذلك، بل كان يلمح كل حين، وفي كل مناسبة إلى الذين وقفوا ضد المشاريع الخليجية والغربية في سورية، ومن بينها الجزائر، التي يشير كل حين إلى أن ثورة جديدة تنتظرها لا تقل عن الثورة السورية.

وفي حوار أجرته معه بعض الصحف الجزائرية قال ـ موجها نصيحته للحكومة الجزائرية ـ: (والله أرجو أن تكون الجزائر، في أمن وأمان وأرجو أن تقوم الحكومة الجزائرية بإصلاحات واسعة مع رفع المظالم وتحقيق مطالب الشعب قبل أن يصلها الطوفان الذي أخذ غيرها، كما قال أبو الطيب المتنبي، مصائب قومٌ عند قوم فوائد.. وعندي كلمة خاصة للرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة وهو رجل عاقل ومحنك، وأناشده فيها بأن يختم حياته بإصلاح واسع، لأني جلست مع كثير من الجزائريين سواء في أوربا أو في الحرم المكي من المفكرين والكتاب والدعاة، البعض يرون أن الجزائر بحاجة إلى عملية جراحية كبرى تنهي الفساد والظلم وتبديد المال العام حتى يكتب هذا الشرف للرئيس بوتفليقة، ولأننا لا نريد أن يتكرر في الجزائر ما حصل فيها من عنف وقتل ودمار)

ولست أدري لم لم يوجه هذه النصيحة لأمراء بلاده وملوكها الذين لا يكتفون بتبذير الثورة في الداخل، وإنما يذهبون بكل ما يجمعونه من مال، وعبر عقود طويلة ليضعوها في بنوك أمريكا وأوروبا.. ويهدرون من حقوق شعبهم ما لا يمكن التعبير عنه أو وصفه.

لكن هؤلاء الذين رضوا بأن يكونوا مشايخ للبلاط لا يطيقون أن يقولوا مثل هذا، بل إن هذا الشيخ لم يستطع أن ينبس ببنت كلمة في نقد الذين اعتقلوا أصدقاءه من المشايخ كسلمان العودة وغيره.. بل إنه يثني على المعتقلين، ويمدحهم، ولا يهمه ما فعلوه بأصدقائه.. فأصدقاؤه هم أموال الأمراء، والجاه الذي يوفرونه، أما الآخرون فيمكنه أن يبيعهم بشق تمرة.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *