القرضاوي.. وأرذل العمر

من مساوئ طول العمر التي ذكرها القرآن الكريم، ما عبر عنه قوله تعالى: { وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا} [النحل: 70]، ولا ينطبق هذا الوصف على أحد كما ينطبق على ذلك الشيخ الذي كان في فترة شبابه وكهولته وشيخوخته محل احترام من كثير من المسلمين، وحتى الذين لم يكونوا يحترمونه كان من الصعب عليهم أن يجدوا مثلبة يمكنهم رميه بها.
وكان في إمكانه بعد كل تلك الفترة الطويلة، أن يتقاعد عن كل تلك الوظائف التي يعمل فيها، واللجان التي يرأسها، والرحلات الكثيرة لكل بلاد العالم التي يقوم بها.. ليترك المجال لغيره من العلماء، الكهول أو الشيوخ، لكنه أبى، بل إنه في تلك الفترة الحرجة من عمره، وهي أرذل العمر راح يؤسس [اتحاد العلماء المسلمين]، ويصير هو رئيسه، وأمينه العام، وكل شيء فيه.. وراح يحدد أصناف من يطلق عليهم هذا الاسم، فانتقى كل شاذة وشاردة، ليستثمرها بعد ذلك أعداء الأمة في حربها لها.
عندما رد إلى أرذل العمر انكشف المستور، وظهر لنا شخصه الباطن المختفي وراء تلك الكلمات المعسولة، والخطب الرنانة، والحكمة الرشيدة.. حينها راح يغير على كل ما قام به في حياته من محاسن ليحوله {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا } [النور: 39]
كان في مراحل حياته السابقة، يدعو مع صديقه الشيخ محمد الغزالي إلى وحدة الأمة، والتقارب بين المذاهب الإسلامية، ويحذر من كل تلك الخطابات الطائفية التي يقوم بها علماء السعودية وغيرهم من ذوي التوجهات السلفية، بل إنه ذهب إلى الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وأشاد بها، ووقف ضد أعداء حزب الله حينما رفضوا الدعاء له.
لكنه.. وبعد أن رُد إلى أرذل العمر راح يغير على ذلك كله؛ فراح يصف العلماء الطائفيين بالحكماء، وراح يتهم نفسه ـ لأجل إرضائهم ـ بكونه كان مخطئا، وأقل بصيرة.. لكنهم ما إن أبدوا له طلاقة وجوههم في الصباح، حتى عبسوا في وجهه في المساء، وحولوه إلى ورقة محروقة، ورموه ورموا اتحاده بالإرهاب.
وهكذا، وقف مع سورية قبل الفتنة، وأشاد برئيسها، وأخبره أنهم سيتآمرون عليه.. ولم يكن يدري أنه سيكون أكبر أولئك المتآمرين.
وهكذا، كان يدعو إلى الحكمة، وانتهاج المناهج السلمية في التغيير والدعوة، لكنه تحول بعد ذلك إلى إرهابي، يحرض على الإرهاب، ويجمع المال والسلاح ليسلمه لشذاذ الآفاق الذين تحولوا فيما بعد إلى داعش والنصرة وغيرها.
وهكذا، كان يثني على صديقه الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، وروحانيته، وقد سمعت ذلك بأذني.. لكنه راح يفتي بقتله، وقتل كل العلماء الذين يقفون مع النظام، وفي وقت تأبينه بدل أن يطرح أحقاده، ويقول كلمة طيبة عنه، راح يتهمه بالعمالة والخيانة، ناسيا أنه يصبح في بيوت الأمراء، ويمسي في بيوت الملوك.
وكان يحذر من أمريكا، وصار يستجديها، ويطلب منها أن ترمي بقنابلها على ليبيا وسوريا وتحرق كل المنطقة حتى يتمكن هو وأصحابه من قيادة العالم.
وكان يحذر من إسرائيل، ويتوعدها بأن يحاربها بنفسه، لكنه صار يسترضيها، ويخبرها أن ثوار سورية الذين يدعمهم حتى لو وصلوا الحكم، فلن يفعل لها شيئا.
وهكذا لو تتبعنا ما فعله به طول العمر، لاستعذنا بالله منه، أو لفعلنا مثلما كان يفعل أولئك العلماء الأتقياء الحكماء؛ فقد كانوا إذا بلغوا سنا معينة تفرغوا لعبادة الله، وتركوا كل المناصب، وما معها من الجاه والمال.. مثلما فعل أبو حامد الغزالي ومصطفى محمود، والكثير من العلماء والصالحين..