الفصل الخامس: البعد المعرفي في تربية الأولاد

البعد المعرفي في تربية الأولاد
من الأركان الأساسية التي تتكون منها شخصية المسلم الصالح، بل لا يمكن أن تتكون بدونها: (العلم والمعرفة)، فلذلك كان البعد المعرفي بعدا أساسيا من أبعاد التربية الإسلامية.
وقد دل على هذا البعد النصوص الكثيرة التي تجعل منه أول ركن من الأركان التي يقوم عليها الدين، فلا يتحقق للمسلم أي إسلام بدون العلم.
فالتعرف على الله الذي هو جوهر الدين وأصله وغايته وموضوعه يحتاج إلى العلم، قال الله تعالى: { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ }(محمد:19)
ولهذا كان أول أمر من أوامر هذا الدين هو قوله تعالى: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (العلق:1)، ثم كرر هذا الأمر في قوله تعالى: { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} (العلق:3)
بل جعل الله تعالى وظيفة الرسل ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ هي وظيفة المعلمين، قال تعالى ممتنا على هذه الأمة: { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (آل عمران:164)
وأخبر أن كل الأنبياء جاءوا أقوامهم بالبينات، وهي العلوم الواضحات التي قويت أدلتها، قال تعالى: { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} (ابراهيم:9)
بل إن القرآن الكريم فوق ذلك كله أخبر عن مزية الإنسان التي أهلته للخلافة في الأرض، وأهلته للتكريم الرباني، فقال تعالى وهو يقص قصة بداية خلق الإنسان: { وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} (البقرة:31 ـ 33)
انطلاقا من هذا وردت السنة بالحض على العلم والترغيب فيه ورفع مكانة أهله، وسنسوق من النصوص هنا ما يبين المكانة الرفيعة لطلب العلم، بل جعله من أهم ما يتقرب به العبد إلى ربه.
فقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم بأن العلم نوع من أنواع العبادة، بل هو من أفضلها، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(أفضل العبادة الفقه، وأفضل الدين الورع)([1])، وصرح بذلك فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(فضل العلم خير من فضل العبادة، وخير دينكم الورع)([2])، وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(قليل العلم خير من كثير العبادة، وكفىٰ بالمرء فقها إذا عبد الله، وكفىٰ بالمرء جهلا إذا أعجب برأيه)([3])، وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(ما عبد الله بشيء أفضل من فقه في دين ولفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد، ولكل شيء عماد وعماد هٰذا الدين الفقه)([4])
وقايس صلى الله عليه وآله وسلم بين بعض النوافل وبين طلب العلم، فقال لأبي ذر، وقد رأى حرصه على النوافل:(يا أبا ذر لأن تغدو فتعلم آية من كتاب الله خير لك من أن تصلي مائة ركعة، ولأن تغدو فتعلم بابا من العلم عمل به أو لم يعمل به خير لك من أن تصلي ألف ركعة)([5])
وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن تعليم العلم لا يختلف عن الصدقات، فقال:(أفضل الصدقة أن يتعلم المرء المسلم علما ثم يعلمه أخاه المسلم)([6])
ويروى أنه ذكر لرسول الله رجلان: أحدهما عابد والآخر عالم، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم)، ثم قال رسول الله:(إن الله وملائكته، وأهل السمٰوات والأرض حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير)([7])
وطلب العلم لذلك دليل على خيرية العبد الطالب للعلم، بل دليل على اجتباء الله له، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين)([8])، وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(يا أيها الناس إنما العلم بالتعلم، والفقه بالتفقه، ومن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، و{ إنما يخشىٰ الله من عباده العلماء} (فاطر: 82))([9])
وهذا الاجتباء هو الذي يؤهله للجنة ولهذا التكريم الذي أخبر صلى الله عليه وآله وسلم عنه، قال صلى الله عليه وآله وسلم وهو يعدد فضل طالب العلم:(من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له من في السمٰوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر)([10])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(ما من رجل تعلم كلمة، أو كلمتين، أو ثلاثا، أو أربعا، أو خمسا مما فرض الله عز وجل فيتعلمهن ويعلمهن إلا دخل الجنة) ([11])
ويخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن بعض صور التكريم التي يقابل بها الملأ الأعلى أهل العلم، فعن صفوان بن عسال المرادي قال: أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في المسجد متكىء على برد له أحمر، فقلت له: يا رسول الله إني جئت أطلب العلم، فقال: (مرحبا بطالب العلم إن طالب العلم تحفه الملائكة بأجنحتها ثم يركب بعضهم بعضا حتى يبلغوا السماء الدنيا من محبتهم لما يطلب)([12])
بل إنه صلى الله عليه وآله وسلم يرفع درجة أهل إلى درجة الأنبياء، فيقول صلى الله عليه وآله وسلم:(من جاءه أجله وهو يطلب العلم لقي الله ولم يكن بينه وبين النبيـين إلا درجة النبوة)([13])
أما الأجور المعدة لأهل العلم، فإنها أضعاف مضاعفة، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(من طلب علما فأدركه كتب الله له كفلين من الأجر، ومن طلب علما فلم يدركه كتب الله له كفلا من الأجر)([14])
ومن أجور العلم أنه يكفر الذنوب، مر رجلان على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو يذكر فقال: (ٱجلسا فإنكما على خير)، فلما قام رسول الله، وتفرق عنه أصحابه قاما فقالا: يا رسول الله إنك قلت لنا ٱجلسا فإنكما على خير، ألنا خاصة أم للناس عامة، قال: (ما من عبد يطلب العلم إلا كان كفارة ما تقدم)([15])
ومن أكبر ميزات أجر العلم أن أجره غير منقطع، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(إذا مات ابن آدم ٱنقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)([16])
وفي حديث آخر مفصل، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونشره وولدا صالحا تركه أو مصحفا ورثه، أو مسجدا بناه أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته)([17])
ونختم هذه النصوص بقوله صلى الله عليه وآله وسلم:(تعلموا العلم، فإن تعلمه لله خشية وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة لانه معالم الحلال والحرام ومنار سبل أهل الجنة، وهو الأنيس في الوحشة، والصاحب في الغربة، والمحدث في الخلوة، والدليل على السراء والضراء، والسلاح على الأعداء والزين عند الأخلاء، يرفع الله به أقواما فيجعلهم في الخير قادة قائمة تقتص آثارهم ويقتدىٰ بفعالهم، وينتهىٰ إلى رأيهم، ترغب الملائكة في خلتهم، وبأجنحتها تمسحهم، ويستغفر لهم كل رطب ويابس، وحيتان البحر وهوامه، وسباع البر وأنعامه لأن العلم حياة القلوب من الجهل، ومصابيح الأبصار من الظلم، يبلغ العبد بٱلعلم منازل الأخيار والدرجات العلىٰ في الدنيا والآخرة، التفكر فيه يعدل الصيام، ومدارسته تعدل القيام، به توصل الأرحام وبه يعرف الحلال من الحرام، وهو إمام العمل، والعمل تابعه، يلهمه السعداء، ويحرمه الأشقياء)([18]).
انطلاقا من هذه الأهمية التي أولاها الشرع لهذا البعد، سنتناول في هذا الفصل مبحثين:
1. أنواع المعارف ومراتب تعلمها.
2. مواصفات طالب العلم.
وكلا الأمرين من أساسيات هذا البعد، فالأول يبحث في المعارف التي تختلف باختلافها شخصية المعرف، والثاني يبحث في تحقيق المتلقي ما يؤهله للتلقي.
وكلاهما أيضا مما له علاقة بالجانب العملي، وهو الميدان الأول للفقه.
أولا ـ أنواع المعرفة ومراتب تعلمها
إن العلم، وإن كان محمودا لذاته، فإن العمر أقصر من أن يفي بحقه، فلذلك كان من أولى أولويات المربي والمتلقي على حد سواء تحديد ما يمكن أن يقضى العمر في تعلمه، سواء كان من فروض العين أو فروض الكفاية، أو كان مما نص على استحبابه ولم يرق إلى حد الفرضية.
وذلك لأن اشتغال الطالب بغير ما يفيده أو يفيد مجتمعه ـ وإن كان علما مفيدا ـ مضر بعلوم أخرى لها أولويتها وتقدمها على غيرها، ومثل ذلك ابتداؤه بالمهم وتقديمه على الأهم، فإنه سيضر لا محالة بمنهج حياته جميعا.
وسنكتفي هنا بذكر ثلاثة أمثلة قرآنية تشير إلى هذه الحقيقة العظيمة التي غفل عنها الإنسان الغربي غفلة مطلقة، فاستغل العلم للفتك بالبشرية وتدمير الإنسان، وغفل عنها الإنسان المسلم غفلة جزئية فسقط في مهاو خطيرة لا يخرجه منها إلا رجوعه لسواء السبيل.
أما المثال الأول، فهو قوله تعالى: { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (لأعراف:175 ـ 176)، فهو مثال على من تبحر في علوم كثيرة، ربما نال منها ثمرات غيرت مسار حياته المادية، ولكنه لم يلتفت إلى حقيقته التي تحولت كلبا إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث، انسلخ من إنسانيته لأنه انسلخ قبل ذلك من آيات ربه.
ومثل هذا المثل ما ورد في قوله تعالى عن بني إسرائيل: { مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (الجمعة:5)، فبنو إسرائيل حملوا كتبهم وعرفوا ما فيها، ولكنهم نسوا ما فيها من الهدي، ولم يشتغلوا بما يخرج حقيقتهم عن البهيمية التي أوقعتها فيها شهواتهم.
أما المثال الثاني، فهو قوله تعالى عن فرعون وعلوم مصر التي بلغ منها العجب في عصرنا مبلغه: { وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} (القصص:38)، ففرعون يسعى ليرقى الفضاء لا ليتعرف على ملكوت الله ليجعله سبيله إلى الله، وإنما يسعى من رقيه إلى تحدي الله، وسبب ذلك هو أن فرعون غفل عن أهم العلوم، وهي العلوم التي تعرفه حقيقته وحقيقة ما حوله حتى أنه في الوقت الذي يعرفه موسى بالله مستدلا له بما يعجز العقل عن تصوره لم يلتفت إلى ذلك، لأن زهوه بما عنده من العلم جعله يغفل عن العلم الذي يملكه غيره.
ومثل هذا المثل ينطبق على عصرنا، العصر الذي توهم فيه الإنسان أنه حقق حلم فرعون، فرقى إلى القمر، وقد يرقى إلى غيره من الكواكب، ولكنه لم يرقه إنسانا، وإنما رقى بهيمة أو سبعا، رقاه لا ليقول: { رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً} (آل عمران:191)، وإنما رقاه لينصب علم بلده الذي يمثل حقيقة عنصريته وأنانيته وجبروته.
ومثل هؤلاء قوم سيأتون بعدنا، سيبلغون في العلم مراتب تجعلهم يكتسحون الأرض جميعا، وينهبون ما فيها من خيرات، ثم تسول لهم أنفسهم، أو يسول لهم طغيانهم فيفكروا في (غزو الفضاء) كما فكروا في غزو الأرض، قال صلى الله عليه وآله وسلم متحدثا عن هؤلاء القوم:(حتى يأتوا بيت المقدس فيقولون: قد قتلنا أهل الدنيا فقاتلوا من في السماء، فيرمون بالنشاب إلى السماء، فيرجع نشابهم مخضبة بالدم، فيقولون: قد قتلنا من في السماء)([19])
أما المثال الثالث، فهو مثال قارون الذي اشتغل بالعلوم التي تنمي ثروته، سواء كانت علوما اقتصادية أو تقنية، ونسي أن يعرف حقيقته وحقيقة وجوده، فخسف به وبما يملكه، قال تعالى: { قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} (القصص:78)
ومثل هؤلاء أقوام قال عنهم الله تعالى: { فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} (غافر:83)
وهذا الذي نصت عليه هذه الآية هو ما وقعت فيه هذه الأمة، سواء أمة الإجابة أو أمة الدعوة، حيث انشغلت بالفرح بما عندها أو بما عند غيرها من تطور، وغفلت عن علوم تخرجها عن بهيميتها أو سبعيتها إلى حقيقة الإنسان المكرم.
وانطلاقا من هذه المقدمة الضرورية سنتحدث في هذا المبحث عن أنواع العلوم والمعارف التي ينبغي تلقينها للنشء، والاهتمام بها، لتصلح الحياة بمفهومها الشرعي، الحياة الدنيا والحياة الآخرة، قال تعالى عن قوم نفى عنهم العلم، أو رماهم بالجهل، ثم قال مستدركا: { يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} (الروم:7)
فالعلوم بحسب هذه الآية تنقسم إلى قسمين: علوم تتعلق بظاهر الحياة الدنيا، وعلوم تتعلق بالآخرة:
أما العلوم المتعلقة بالدنيا، فهي العلوم المنظمة لحياة الإنسان في الدنيا، أو الميسرة للإنسان أسباب العيش فيها، وهي علوم مهمة، لأن وظائف الإنسان لا يمكن أداؤها إلا في جو صالح لذلك الأداء، وغاية هذه العلوم إما سياسة الأفراد والمجتمعات، أو الحصول على تقنيات تيسر مرافق الحياة، فهي علوم سياسية صناعية، أوهي سياسات وصناعات، لها حظها من العلم بقدر نجاحها في تحصيل هاتين الغايتين.
أما العلوم الثانية، فهي العلوم الحقيقية، لأنها تعنى بالهدف الذي من أجله وجد الإنسان واستخلف، والغفلة عنها أو وضعها في مرتبة تلي مرتبة العلوم الأولى تحرف حقيقة وظيفة الإنسان على الأرض، لأنها تجعل وظيفيته قاصرة على أن يؤمن في وجوده على الأرض ما يتصوره من وسائل السعادة، من غير أن يتطلع إلى ما بعدها، وكأنه وجد ليأكل ويلبس ويركب ويسكن، ثم يموت من غير أن يحمل شيئا مما أفنى عمره من أجله.
نقصد بالمعارف والحقائق العلوم التي لا يسع الإنسان جهلها، لارتباطها بحقيقته ووظيفته في هذا الوجود، فلذلك كانت لها الرتبة الأولى، والأهمية القصوى التي لا تدانيها أهمية أي علم أو معرفة.
وسميناها بالحقائق، لأنها حقائق نهائية، لا مجال فيها للاحتمالات ولا التطور الذي يسري للصناعات والسياسات، وذلك لأن دور العقل فيها هو الاستنباط والفهم والاعتبار لا الاختراع ولا الابتداع.
وسميناها بالمعارف انطلاقا من تفريق قديم بين العلم والمعرفة، يجعل العلم عاما ينتهي عند التصديق بالمعلوم أو معرفة بعض صفاته التي تميزه عن غيره من غير اشتراط سريان ذلك في السلوك والحياة([20]).
بخلاف المعرفة التي تجعل صاحبها يبحث عما يريد معرفته بكل كيانه، ثم يتفاعل معه بكل طاقاته، فالعالم من له القدرة على الحفظ او التحليل، ثم يحضره حفظه وتحليله كلما حتاج إليه، بينما العارف ـ عند من فرقوا بين العلم والمعرفة ـ هو (من عرف الله سبحانه بأسمائه وصفاته وافعاله، ثم صدق الله في معاملته، ثم أخلص له في قصوده ونياته، ثم انسلخ من أخلاقه الرديئة وآفاته، ثم تطهر من أوساخه وأدرانه ومخالفاته، ثم صبر على أحكام الله في نعمه وبلياته، ثم دعا إليه على بصيرة بدينه وآياته، ثم جرد الدعوة إليه وحده بما جاء به رسوله ولم يشبها بآراء الرجال وأذواقهم ومواجيدهم ومقاييسهم ومعقولاتهم، ولم يزن بها ما جاء به الرسول عليه من الله أفضل صلواته)([21])
وإن شئنا أن نترك اسم العلم على هذا النوع، انطلاقا من المحافظة على ما ورد في النصوص من فضل العلم، فلنضف إليه وصف (النافع)([22])، لأن الإطلاق قد يفيد مع أهل التحقيق بينما أكثر الناس ينظرون إلى لفظ العلم المجرد، ثم ينظرون في استعماله العرفي، ثم يتصورون قصور مصطلح العلم عليه.
وهذا هو الحاصل، فالعلم في عصرنا كاد ينحصر فيما سميناه (سياسات وصناعات)، أما المعارف الدينية التي تمثل الحقائق الكبرى، فلها أهميتها الثانوية، بدليل أن الطالب يدرس أي فرع من تلك الصناعات الساعات الكثيرة منذ نشوئه، ثم إذا جاء إلى علوم الدين أو السلوك لم يكد يدرس شيئا.
انطلاقا من هذا، فإن العلوم المرتبطة بهذا النوع تنقسم على قسمين، نص عليهما جميعا قوله تعالى في بيان وظائف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (البقرة:129)، وقال تعالى: { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (آل عمران:164)، وقال تعالى: { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (الجمعة:2)
ففي هذه المواضع الثلاث نجد القرآن الكريم نص على أن وظيفة الرسول تنحصر في هذه الوظائف الثلاث:
1. تلاوة آيات الله.
2. تعليم الكتاب والحكمة.
3. التزكية.
والقرآن الكريم لم يذكر هذه الوظائف، لتبقى منحصرة في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبالتالي يبقى تأثيرها منحصرا فيمن تربى على يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما ذكرها لتبقى سارية في الأمة ما دامت مرتبطة بنبيها وبدينها.
وبذلك، فإن وجود هذه الوظائف في الأمة من الفروض التي لا يبقى للأمة قائمة بدونها.
ولا يشترط أن تجتمع في شخص واحد، بل قد تتفرق على جماعات شتى لتسد كل جماعة ثغرة من ثغراتها.
وسنفصل ما يرتبط بكل قسم من تلك الأقسام فيما يلي:
والمقصود منها ما يرتبط بالقرآن الكريم من قراءة وحفظ، وقد قدم الله تعالى ذكرها في الآيات السابقة لأهميتها، وباعتبارها الأصل الذي ينطلق منه تعليم الكتاب والحكمة، وتنطلق منه التزكية.
ولهذا ورد في النصوص الدعوة الدائمة لقراءة القرآن الكريم، باعتباره الكتاب الوحيد الذي يشمل الحقائق الكبرى للوجود، بالإضافة إلى كونه الكتاب الذي ينظم الحياة جميعا حياة الإنسان وحياة المجتمع، وحياة العقل وحياة السلوك.
ولهذا كان مجرد تشهير القرآن الكريم ونشره وبث تلاوته والاهتمام بحفظه كافيا في تذليل كل العقبات التي تقف في وجه المربي والداعية، ويدل لذلك قوله تعالى: { فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً} (الفرقان:52)، قال ابن عباس: بالقرآن.
ولهذا أمر الله تعالى بإجارة المشرك إن استجار بالمؤمن، ثم استغلال هذه الحاجة في إسماعه كلام الله، وكأنه يأمرنا بدعوته إلى الله بإبلاغه رسالة الله([23])، قال تعالى: { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ} (التوبة:6)
وقد كان هذا هو أسلوب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الدعوة، كما كان أسلوبه في التربية:
وقد روت لنا كتب السيرة أنه اجتمعت قريش يوماً، فقالوا:(انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر، فليأت هذا الرجل الذي فرق جماعتنا وشتت أمرنا وعاب ديننا، فليكلمه ولننظر ماذا يرد عليه) وبعد تشاور استقر رأيهم على عتبة بن ربيعة.
فأتى عتبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا محمد أنت خير أم عبد اللّه؟ فسكت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: أنت خير أم عبد المطلب؟ فسكت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: إن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عبت، وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى يسمع قولك، إنا واللّه ما رأينا سِخَلَةً قط أشأم على قومك منك، فرّقت جماعتنا وشتّت أمرنا، وعبت ديننا، وفضحتنا في العرب، حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحراً، وأن في قريش كاهناً، واللّه ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف، حتى نتفانى، أيها الرجل إن كان إنما بك الحاجة، جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلاً واحداً وإن كان إنما بك الباءة فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشراً)
ولما انتهى عتبة من هذه الخطبة الطويلة، والتي تحتاج كل كلمة منها إلى فصول طويلة للرد عليها، توجه إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهدوء قائلا:(فرغت؟)، قال:(نعم)، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سورة فصلت من أولها إلى أن بلغ قوله تعالى: { فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} (فصلت:13)، فأمسك عتبة على فيه، وناشده بالرحم، ورجع إلى أهله، ولم يخرج إلى قريش، واحتبس عنهم، وكاد يسلم لولا حرصه على مصالحه مع قومه.
ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشير بهذا الموقف إلى أسلوب دعوي وتربوي له قيمته العظمى، وهو (المجاهدة بالقرآن) المجاهدة الشاملة للأهواء والشبهات والانحرافات، فهو كتاب علم وتربية وهداية.
ومثل ذلك ما فعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما أرسل الرسل إلى ملوك العالم يدعوهم، فقد اقتصرت رسالته إلى هرقل على هذه الجمل المضمخة بعطر القرآن الكريم (بسم اللّه الرحمن الرحيم. من محمد رسول اللّه إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فأسلم تسلم، وأسلم يؤتك اللّه أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين، و{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران:64))([24])
ولهذا كان أشد شيء على الكفار والمنافقين ودعاة السوء المجاهدة بالقرآن الكريم، كما قال تعالى: { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (الحج:72)
لأن كلام البشر يحمل من الثغرات ما يمكن التسرب إليه من خلالها، بخلاف كلام الله فإنه { لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت:42)
ولهذا كان من الأخطاء الكبرى التي وقعت فيها بعض المجتمعات الإسلامية الانصراف عن القرآن الكريم إلى الجدل والكلام الذي لا طائل وراءه، كما ذكرنا ذلك سابقا.
وقد نص على أن هذا الانحراف كان أسلوبا من أساليب الكفار الذين أعجزهم هدي القرآن الكريم، فراحوا يلغون بأي كلام، أو يأي أصوات ليسدوا منافذ آذانهم عن سماع القرآن الكريم، قال تعالى: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (فصلت:26)، قال مجاهد في تفسير اللغو هنا:(يعني بالمكاء والصفير والتخليط في المنطق على رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم إذا قرأ القرآن)، وقد كانت قريش تفعله.
هذا في جانب الدعوة، أما جانب التربية، وهو ـ كما ذكرنا ـ لا ينفصل عن العلم، ومن أخطر الأخطار فصله عنه، فقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يقتصر في تربيته على منبع القرآن الكريم.
يقول سيد قطب في المعالم:(كان النبع الأول الذي استقى منه ذلك الجيل هو القرآن. القرآن وحده. فما كان حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهديه إلا أثرًا من آثار ذلك النبع. فعندما سُئلت عائشة ا – عن خُلق رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم قالت:(كان خُلقه القرآن)([25])
ويرد على من يتصور أن سبب ذلك هو أنه لم تكن للبشرية في ذلك الحين حضارة أو ثقافة، فقال:(كان القرآن وحده إذن هو النبع الذي يستقون منه، ويتكيفون به، ويتخرجون عليه، ولم يكن ذلك كذلك لأنه لم يكن للبشرية يومها حضارة، ولا ثقافة، ولا علم، ولا مؤلفات، ولا دراسات..كلا! فقد كانت هناك حضارة الرومان وثقافتها وكتبها وقانونها الذي ما تزال أوروبا تعيش عليه، أو على امتداده، وكانت هناك مخلفات الحضارة الإغريقية ومنطقها وفلسفتها وفنها، وهو ما يزال ينبوع التفكير الغربي حتى اليوم. وكانت هناك حضارة الفرس وفنها وشعرها وأساطيرها وعقائدها ونظم حكمها كذلك. وحضارات أخرى قاصية ودانية: حضارة الهند وحضارة الصين إلخ. وكانت الحضارتان الرومانية والفارسية تحفان بالجزيرة العربية من شمالها ومن جنوبها، كما كانت اليهودية والنصرانية تعيشان في قلب الجزيرة.. فلم يكن إذن عن فقر في الحضارات العالمية والثقافات العالمية يقصر ذلك الجيل على كتاب الله وحده.. في فترة تكونه.. وإنما كان ذلك عن تصميم مرسوم، ونهج مقصود)([26])
ويدل لهذا غضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما رأى في يد عمر صحيفة من التوراة، وقال:(إنه والله لو كان موسى حيًّا بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني)([27])
ولهذا ورد الثناء في النصوص على تلاوة القرآن الكريم، واعتبار ذلك من أعظم العبادات، قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} (فاطر:29)، وقال تعالى: { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (البقرة:121)، وقال تعالى: { لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} (آل عمران:113)، وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} (فاطر:29)
ولهذا كان خير المؤمين من تعلم القرآن أو علمه، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(خيركم من تعلم القرآن وعلمه)([28])، وكان أولى الناس بالإمامة قارئ القرآن، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله تعالى)([29])، وكان القراء هم أصحاب الشورى دون غيرهم، عن ابن عباس قال:(كان القراء أصحاب مجلس عمر ومشاورته كهولا وشبابا)([30])، بل كان صلى الله عليه وآله وسلم يجمع بين الرجلين من قتلى أحد ثم يقول أيهما أكثر أخذا للقرآن فإن أشير إلى أحدهما قدمه في اللحد([31]).
ووعد بالأجر العظيم على تلاوته، بل تلاوة حروفه، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(من قرأ حرفا من كتاب الله تعالى فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألام حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف)([32])، وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مر السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن وهو يتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران)([33])
ووعد قارئه المنشغل به بإعطائه فوق ما يطلب من حظوظ، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(يقول الله سبحانه وتعالى: من شغله القرآن وذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين، وفضل كلام الله سبحانه وتعالى على سائر الكلام كفضل الله تعالى على خلقه)([34])
بل إن أجره لا يتوقف عليه، فهو يشمل والديه اأيضا، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(من قرأ القرآن وعمل بما فيه ألبس الله والديه تاجا يوم القيامة ضوؤه أحسن من ضوء الشمس في بيوت الدنيا فما ظنكم بالذي عمل بهذا)([35])
انطلاقا من هذه الأهمية التي جعلها الله في تلاوة كتابه، اهتمت المجتمعات الإسلامية بالتلاوة، وبحفظ القرآن الكريم ومدارسته، فكان التعليم ينطلق من أول النشوء من القرآن الكريم، لتنتشر بركاته على العمر جميعا.
وقد ذكر ابن خلدون اهتمام المجتمعات الإسلامية بتعليم القرآن الكريم من الصغر، وأهمية ذلك، فقال:(اعلم أن تعليم الولدان للقرآن شعار الدين أخذ به أهل الملة ودرجوا عليه في جميع أمصارهم لما يسبق فيه إلى القلوب من رسوخ الإيمان وعقائده من آيات القرآن، وبعض متون الاحاديث وصار القرآن أصل التعليم الذي ينبني عليه ما يحصل بعد من الملكات وسبب ذلك أن التعليم في الصغر أشد رسوخا وهو أصل لما بعده لأن السابق الأول للقلوب كالأساس للملكات وعلى حسب الأساس، وأساليبه يكون حال من ينبني عليه)([36])
وقد كانت هناك طرق مختلفة لهذا التعليم، لا بأس من سوقها هنا، كما ساقها ابن خلدون([37])، قبل أن نسوق ما نقترحه من طرق لتحقيق هذا الركن الأساسي من أركان العلم.
أما أهل المغرب، فقد كان مذهبهم يعتمد على الاقتصار على تعليم القرآن فقط، (وأخذهم أثناء المدارسة بالرسم ومسائله، واختلاف حملة القرآن فيه، لا يخلطون ذلك بسواه في شيء من مجالس تعليمهم لا من حديث ولا من فقه ولا من شعر ولا من كلام العرب إلى أن يحذق فيه أو ينقطع دونه، فيكون انقطاعه في الغالب انقطاعاً عن العلم بالجملة، ويسترم هذا الأسلوب إلى أن يجاوزوا حد البلوغ إلى الشبيبة، ومثل ذلك الكبير إذا راجع مدارسة القرآن بعد طائفة من عمره)
أما أهل الأندلس، فقد كان مذهبهم يعتمد على (تعليم القرآن والكتاب من حيث هو، وهذا هو الذي يراعونه في التعليم، إلا أنه لما كان القرآن أصل ذلك وأسه ومنبع الدين والعلوم جعلوه أصلاً في التعليم، فلا يقتصرون لذلك عليه فقط بل يخلطون في تعليمهم للولدان رواية الشعر في الغالب والترسل وأخذ هم بقوانين العربية وحفظها وتجويد الخط والكتاب.
ولا تختص عنايتهم في التعليم بالقرآن دون هذه بل عنايتهم فيه بالخط أكثر من جميعها إلى أن يخرج الولد من عمر البلوغ إلى الشبيبة، وقد شدا بعض الشيء في العربية والشعر والبصر بهما وبرز في الخط والكتاب وتعلق بأذيال العلم على الجملة لو كان فيها سند لتعليم العلوم ولكنهم ينقطعون عند ذلك فانقطاع سند التعليم في آفاقهم، ولا يحصل بأيديهم إلا ما حصل من ذلك التعليم الأول وفيه كفاية لمن أرشده الله تعالى واستعداد إذا وجد المعلم)
وأما أهل تونس، فقد كان مذهبهم يعتمد على (تعليمهم للولدان القرآن بالحديث في الغالب، ومدارسة قوانين العلوم وتلقين بعض مسائلها، إلا أن عنايتهم بالقرآن واستظهار الولدان إياه ووقوفهم على اختلاف رواياته وقراءاته أكثر مما سواه، وعنايتهم بالخط تبع لذلك. وبالجملة فطريقتهم في تعليم القرآن أقرب إلى طريقة أهل الأندلس، لأن سند طريقتهم في ذلك متصل بمشيخة الأندلس الذين أجازوا عند تغلب النصارى على شرق الأندلس، واستقروا بتونس وعنهم أخذ ولدانهم بعد ذلك)
وأما أهل المشرق، فقد كان مذهبهم يعتمد على (دراسة القرآن وصحف العلم وقوانينه في زمن الشبيبة، ولا يخلطون بتعليم الخط، بل لتعليم الخط عندهم قانون ومعلمون له على انفراده كما تتعلم سائر الصنائع ولا يتداولونها في مكاتب الصبيان. وإذا كتبوا لهم الألواح فبخط قاصر عن الإجادة. ومن أراد تعلم الخط فعلى قدر ما يسنح له بعد ذلك من الهمة في طلبه ويبتغيه من أهل صنعته)
وقد ذكر ابن خلدون الآثار الإيجابية والسلبية لكل طريقة من الطرق السابقة، فقال:(فأما أهل إفريقية والمغرب فأفادهم الاقتصار على القرآن القصور عن ملكة اللسان جملة، وذلك أن القرآن لا ينشا عنه في الغالب ملكة لما أن البشر مصروفون عن الإتيان بمثله فهم مصروفون لذلك عن الاستعمال على أساليبه والاحتذاء بها، وليس لهم ملكة في غير أساليبه فلا يحصل لصاحبه ملكة في اللسان العربي وحظه الجمود في العبارات وقلة التصرف في الكلام.
وربما كان أهل إفريقية في ذلك أخف من أهل المغرب لما يخلطون في تعليمهم القرآن بعبارات العلوم في قوانينها كما قلناه، فيقتدرون على شيء من التصرف ومحاذاة المثل بالمثل إلا أن ملكتهم في ذلك قاصرة عن البلاغة لما أن أكثر محفوظهم عبارات العلوم النازلة عن البلاغة كما سيأتي في موضعه.
وأما أهل الأندلس فأفادهم التفنن في التعليم وكثرة رواية الشعر والترسل ومدارسة العربية من أول العمر حصول ملكة صاروا بها أعرف في اللسان العربي وقصروا في سائر العلوم لبعدهم عن مدارسة القرآن والحديث الذي هو أصل العلوم وأساسها، فكانوا لذلك أهل حظ وأدب بارع أو مقصر على حسب ما يكون التعليم الثاني من بعد تعليم الصبا)
وذكر عن أبي بكر بن العربي في كتاب رحلته إلى طريقة غريبة في وجه التعليم تقوم على تقديم تعليم العربية والشعر على سائر العلوم كما هو مذهب أهل الأندلس، قال:(لأن الشعر ديوان العرب. ويدعو إلى تقديمه وتعليم العربية في التعليم ضرورة فساد اللغة ثم ينتقل منه إلى الحساب فيتمرن فيه حتى يرى القوانين ثم ينتقل إلى درس القرآن فإنه يتيسر عليه بهذه المقدمة)، ثم قال:(ويا غفلة أهل بلادنا في أن يؤخذ الصبي بكتاب الله في أول أمره يقرأ مالا يفهم وينصب في أمر غيره أهم عليه)
وقد عقب ابن خلدون على هذه الطريقة بقوله:(هذا ما أشار إليه القاضي أبو بكر رحمه الله وهو لعمري مذهب حسن، إلا أن العوائد لا تساعد عليه وهي أملك بالأحوال، ووجه ما اختصت به العوائد من تقدم دراسة القرآن إيثاراً للتبرك والثواب وخشية ما يعرض للولد في جنون الصبا من الآفات والقواطع عن العلم فيفوته القرآن، فإنه ما دام في الحجر منقاد للحكم، فإذا تجاوز البلوغ وانحل من ربقة القهر فربما عصفت به رياح الشبيبة فألقته بساحل البطالة، فيغتنمون في زمان الحجر وربقه الحكم تحصيل القرآن لئلا يذهب خلواً منه.
ولو حصل اليقين باستمراره في طلب العلم وقبوله التعليم لكان هذا المذهب الذي ذكره القاضي أولى مما أخذ به أهل المغرب والمشرق، ولكن الله تعالى يحكم ما يشار لا معقب لحكمه، وهو أحكم الحاكمين)([38])
هذه هي الطرق التي مارستها المجتمعات الإسلامية في تعليمها، وهي طرق لا تزال بعض آثارها في المجتمعات المحافظة من المجتمع الإسلامي.
ونلاحظ عليها الاهتمام بالقرآن الكريم كمصدر من مصادر الثقافة والتعليم، أو كمصدر لتحصيل الملكات الأساسية للعلم كالخط، واللغة، وغيرها.
وهذه الطريقة من الاستفادة من القرآن الكريم كان لها آثارها السلبية على الصعد التربوية، وإن كان لها آثارها الإيجابية على تحصيل تلك الملكات.
وذلك لأن القرآن الكريم يعطي كل شخص بحسب همته ومقصده، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم:(إن الله تعالى يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين)([39])
فلذلك كان استغلال القرآن الكريم لهذه الأمور له آثاره الإيجابية، ولكن له آثاره السلبية الخطيرة من حيث اعتباره وسيلة للتعليم، لا مقصدا له.
وقد اعتبر سيد قطب في تحليله لأسباب استفادة الجيل الفريد الذي رباه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من القرآن الكريم مع قصور الأجيال التالية عن ذلك الشأو الذي بلغه السابقون، فقال:(هناك عامل أساسي آخر غير اختلاف طبيعة النبع. ذلك هو اختلاف منهج التلقي عما كان عليه في ذلك الجيل الفريد.. إنهم – في الجيل الأول – لم يكونوا يقرؤون القرآن بقصد الثقافة والاطلاع، ولا بقصد التشوق والمتاع. لم يكن أحدهم يتلقى القرآن ليستكثر به من زاد الثقافة لمجرد الثقافة، ولا ليضيف إلى حصيلته من القضايا العلمية والفقهية محصولاً يملأ به جعبته. إنما كان يتلقى القرآن ليتلقى أمر الله في خاصة شأنه وشأن الجماعة التي يعيش فيها، وشأن الحياة التي يحياها هو وجماعته، يتلقى ذلك الأمر ليعمل به فور سماعه، كما يتلقى الجندي في الميدان:(الأمر اليومي) لا ليعمل به فور تلقيه! ومن ثم لم يكن أحدهم ليستكثر منه في الجلسة الواحدة، لأنه كان يحس أنه إنما يستكثر من واجبات وتكاليف يجعلها على عاتقه، فكان يكتفي بعشر آيات حتى يحفظها ويعمل بها كما جاء في حديث ابن مسعود)
والتلقي بهذه الصورة، كما يذكر سيد قطب، لا يمنع من الاستفادة العلمية، بل إنه على عكس ذلك يعمقها ويرسخها زيادة على ما يفيده من تربية وسلوك، يقول:(هذا الشعور.. شعور التلقي للتنفيذ.. كان يفتح لهم من القرآن آفاقًا من المتاع وآفاقًا من المعرفة، لم تكن لتفتح عليهم لو أنهم قصدوا إليه بشعور البحث والدراسة والاطلاع، وكان ييسر لهم العمل، ويخفف عنهم ثقل التكاليف، ويخلط القرآن بذواتهم، ويحوله في نفوسهم وفي حياتهم إلى منهج واقعي، وإلى ثقافة متحركة لا تبقى داخل الأذهان ولا في بطون الصحائف، إنّما تتحول آثارًا وأحداثًا تحوِّل خط سير الحياة)
وسبب ذلك أن أول خاصية للقرآن الكريم، وهي الهدف من نزوله هو أنه كتاب هداية لا كتاب ثقافة ولا كتاب خط، يقول سيد:(إن هذا القرآن لا يمنح كنوزه إلا لمن بُقبل عليه بهذه الروح: روح المعرفة المنشئة للعمل. إنه لم يجئ ليكون كتاب متاع عقلي،ولا كتاب أدب وفن. ولا كتاب قصة وتاريخ – وإن كان هذا كله من محتوياته – إنما جاء ليكون منهاح حياة. منهاجًا إلهيًّا خالصًا)
وهو لذلك ينتقد من تخلف من الأجيال عن ذلك الجيل، بسبب خطأ الهدف، وقصور الهمة، يقول:(إن منهج التلقي للتنفيذ والعمل هو الذي صنع الجيل الأول. ومنهج التلقي للدراسة والمتاع هو الذي خرَّج الأجيال التي تليه. وما من شك أن هذا العامل الثاني كان عاملاً أساسيًا كذلك في اختلاف الأجيال كلها عن ذلك الجيل المميز الفريد)
ولذلك، فإن الطريقة المثلى لتعليم القرآن الكريم، هو أن تهتم المدارس ـ أو مؤسسات خاصة ـ على القرآن الكريم أولا وقبل كل شيء، فتجعله المادة الأساسية للتعليم، بل المنبع الأساسي للتعليم، فيبدأ التلميذ ـ من أول نشوئه ـ حياته على حفظ القرآن الكريم مع تعميق معانيه في النفس، مع التركيز على معانيه التربوية والإيمانية قبل كل شيء.
ولن يأخذ ذلك وقتا طويلا إن تعاونت فيه جميع المؤسسات التربوية من المسجد والمدرسة والبيت، وغيرها من المؤسسات.
فإن استكمل الولد حفظه للقرآن الكريم، كان ذلك مؤهلا له لدخول المدارس التي تلقنه ما يريد التخصص فيه من العلوم الشرعية أو من العلوم المرتبطة بالسياسات والصنائع.
فيدخلها، وقد اكتسى من أنوار القرآن الكريم، وتحلى بحليته ما يؤهله للاستفادة منها في أقصر الأوقات، وبأكمل استفادة.
وقد يتصور أن هذا من الغلو، فكيف يقتصر على القرآن الكريم، وهناك الكثير مما يحتاج الصبي إلى تعلمه من الرياضيات واللغات الأجنبية وعلوم الطبيعة والحياة وغيرها من العلوم الكثيرة؟
والجواب على ذلك: أن كل ما ذكر من العلوم وغيرها مما تمارسه المدارس، وتبالغ في ممارسته لم ينجح في تكوين الجيل الصالح المتعلم الذي يفيد نفسه، ويفيد مجتمعه، وذلك لأن الانطلاقة كانت خاطئة.
ومثال ذلك مثال من وضع في مستشفى، ولفترة محدودة، فانشغل الأطباء ـ بدل علاجه، وتأهيله للحياة خارج المستشفى ـ بتعليمه الحساب والجبر والعلوم، فيخرج بمرضه كما دخل، لم ينتفع بما تعلمه، ولا يستطيع أن ينفع لأن ما به من أمراض لا زال يجعل بينه وبين ذلك الحوائل.
ومثل ذلك مثل الصبي في أول نشوئه، فهو في وضع يمكن أن يشكل منه أي قالب، لتبنى حياته بعد ذلك على أساس ذلك القالب، فإن فرط في تلك الفترة، وانشغل المعلمون والمؤسسات التربوية بالحشو الخالي من التربية كان لذلك أثره السلبي الخطير.
ثم إنه لن يعجز من حفظ القرآن الكريم وتعمقت معانيه في نفسه من أن يحصل كل ما يتصور أنه فاته، في أقصر الآماد، لأن الملكات التي استفادها أثناء حفظه للقرآن الكريم، وأثناء تعميقه لمعانيه ستكون أسسا صحيحة قوية لذلك، ولأكبر منه.
زيادة على ذلك فإن المدارس والجامعات تشكو الانحراف الخطير الذي يقع فيه المتعلمون، وهو ما يحول بينهم، وبين الاستفادة، وسر ذلك هو ما بدأوا به حياتهم من الانشغال بالجمع لا بالتحقيق، وبصورة العلم لا بحقيقة العلم.
لكن هذا الحلم الذي نقترحه، لن يجد في الواقع صداه، لأن المدارس الآن موحدة المناهج في العالم أجمع، أو تكاد تكون موحدة المناهج، ومن المستحيل أن تنفصل المجتمعات الإسلامية عن هذا التوحد.
فلذلك نرى بديلا سهلا قد يحقق بعض غايات هذا، وهو الاهتمام بإشاعة القرآن الكريم، وتشجيع حفظه، والحرص على تلقين معانيه بكل الطرق.
ويبدأ كل ذلك بحفظه، فإن للتكرار دورا كبيرا، لا في الحفظ وحده، وإنما في تقرير المعاني المحفوظة في النفس شعر صاحبها أو لم يشعر، ولذلك كان من سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ترديد الآية الواحدة، أو الآيات المتعددة ليساعد ذلك على التدبر، فقد روي عن أبي ذر قال:(قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بآية يرددها حتى أصبح والآية: { إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (المائدة:118))([40])
وعن تميم الداري أنه كرر هذه الآية حتى أصبح: { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (الجاثـية:21)
وردد ابن مسعود: { رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} (طـه:114)، وردد سعيد بن جبير: { وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} (البقرة:281)، وغير ذلك مما تواترت روايته عن السلف، ومن بعدهم.
ولكن هذه الإشاعة قد تصطدم بأكثر الأقوال الفقهية شهرة، بل نرى أن هناك من يستغل الفقه، وآراء الفقهاء ليحرم المجتمع من إشاعة القرآن الكريم، فيبقى محصورا في دائرة ضيقة، وفي أوقات محدودة.
وسنذكر أمثلة هنا على ذلك، والرد عليها:
أو ما يسمى بالقرءة الجماعية للقرآن الكريم، فهي مع وضوح أدلتها، نجدها محل نكار كبير ممن يرمون بسهام البدعة كل ما يرونه من مظاهر المحافظة على المجتمعات الإسلامية.
ولسنا ندري ما استدلوا به إلا أنهم لم يستدلوا بطلاقة النصوص التي لم تحددطريقة معينة في القرءة.
ولم يستدلوا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم:(ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله تعالى يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده)([41])
ولم يستدلوا بفعل السلف، قال النووي:(وروى ابن أبي داود: أن أبا الدرداء كان يدرس القرآن معه نفر يقرءون جميعا، وروى ابن أبي داود فعل الدراسة مجتمعين عن جماعات من أفاضل السلف والخلف وقضاة المتقدمين)([42])
وإن كانوا مقلدين، فإنهم لم يستدلوا على أن هذا هو قول جماهير الفقهاء، قال النووي:(أعلم أن قراءة الجماعة مجتمعين مستحبة بالدلائل الظاهرة وأفعال السلف والخلف المتظاهر)([43])
ولم يخالف في ذلك إلا ما روي عن الضحاك ومالك، مع أن أصحاب مالك يتأولون قوله.
وإنما ذكرنا هذه المسألة هنا لما نراه من أهمية عقد الحلق الجماعية للقرآن الكريم في المساجد والبيوت وغيرها، لمساهمتها في تصحيح قراءة القرآن الكريم، وتيسير حفظه ومراجعته والالتزام بذلك كله.
وقد كانت هذه الحلق القرآنية سنة حسنة في المجتمعات الإسلامية، وقد ذكر النووي عن حيان بن عطية والأوزاعي أنهما قالا:(أول من أحدث الدراسة في مسجد دمشق هشام بن اسمعيل في قدمته على عبد الملك)([44])
فهي سنة قديمة حصلت في عهد السلف الأول يمكن إحياؤها، وتنظيمها، مع مراعاة الآداب التي نرى الإخلال بالكثير منها في القراءات الجماعية الموجودة في مجتمعنا.
وهذا من الأمور المهمة، لأن الإنسان قد ينشط في وقت من الأوقات لقراءة القرآن الكريم، وفإذا ما ذهب ليقرأ وجد الشروط الكثيرة التي يجد في عزمه القصور عن الوفاء بها.
فلذلك كان من الفقه المقاصدي عدم اعتبار تلك الشروط ما وجد لذلك سبيلا، وسنذكر هنا بعض تلك الشروط لا على الطريقة التي اعتدنا عليها، فلذلك محله الخاص، وإنما سننتقي من أقوال الفقهاء، وأدلتهم ما يرفع تلك الشروط وآثارها.
فمنها اشتراط الطهارة لقراءة القرآن الكريم سواء الطهارة الصغرى أو الطهارة الكبرى، وهو قول جماهير الفقهاء، ولكن الأدلة الصريحة الظاهرة على خلافه.
ولذلك ذهب الظاهرية إلى خلاف هذا القول، قال ابن حزم:(وقراءة القرآن والسجود فيه ومس المصحف وذكر الله تعالى جائز، كل ذلك بوضوء وبغير وضوء وللجنب والحائض)، قال:(وهو قول داود وجميع أصحابنا)([45])
ثم روى هذا عن عن ربيعة قال: لا بأس أن يقرأ الجنب القرآن، وروى عن حماد قال سألت سعيد بن المسيب عن الجنب هل يقرأ القرآن؟ فقال: وكيف لا يقرؤه وهو في جوفه، وروى عن نصر الباهلي. قال: كان ابن عباس يقرأ البقرة وهو جنب.
واستدل لهذا بأصل مهم ينبغي مراعاته في فقه العبادات، وهو (أن قراءة القرآن والسجود فيه ومس المصحف وذكر الله تعالى أفعال خير مندوب إليها مأجور فاعلها، فمن ادعى المنع فيها في بعض الأحوال كلف أن يأتي بالبرهان)
أما ما وري عن عبد الله بن سلمة عن علي بن أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يحجزه عن القرآن شيء ليس الجنابة([46])، فقد قال فيه ابن حزم:(وهذا لا حجة لهم فيه ؛ لأنه ليس فيه نهي عن أن يقرأ الجنب القرآن، وإنما هو فعل منه صلى الله عليه وآله وسلم لا يلزم، ولا بين صلى الله عليه وآله وسلم أنه إنما يمتنع من قراءة القرآن من أجل الجنابة. وقد يتفق له صلى الله عليه وآله وسلم ترك القراءة في تلك الحال ليس من أجل الجنابة، وهو صلى الله عليه وآله وسلم لم يصم قط شهرا كاملا غير رمضان، ولم يزد قط في قيامه على ثلاث عشرة ركعة، ولا أكل قط على خوان، ولا أكل متكئا، أفيحرم أن يصام شهر كامل غير رمضان أو أن يتهجد المرء بأكثر من ثلاث عشرة ركعة، أو أن يأكل على خوان، أو أن يأكل متكئا؟ هذا لا يقولونه، ومثل هذا كثير جدا)([47])
أما ما ورد من الآثار القولية التي تنهي الجنب ومن ليس على طهر عن أن يقرأ شيئا من القرآن([48])، فقد قال فيها ابن حزم:(لا يصح منها شيء، وقد بينا ضعف أسانيدها في غير موضع، ولو صحت لكانت حجة على من يبيح له قراءة الآية التامة أو بعض الآية ؛ لأنها كلها نهي عن قراءة القرآن للجنب جملة)
ومنها اشتراط الطهارة لمس المصحف، وهو ما يحول بين الإنسان وحمل المصحف معه أو في جيبه ليستغل وقت فراغه في قراءة القرآن الكريم، فلذلك كان من التيسير ومن إشاعة القرآن الكريم عدم اشتراط هذا الشرط([49])، قال ابن حزم:(وأما مس المصحف فإن الآثار التي احتج بها من لم يجز للجنب مسه فإنه لا يصح منها شيء ؛ لأنها إما مرسلة وإما صحيفة لا تسند وإما عن مجهول وإما عن ضعيف)([50])
واستدل لذلك بكتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي بعث به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى هرقل، فقد كان فيه ىية قرآنية، هي قوله تعالى: { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران:64)، قال ابن حزم:(فهذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد بعث كتابا وفيه هذه الآية إلى النصارى وقد أيقن أنهم يمسون ذلك الكتاب)
وقد رد على الشبهة التي يوردها المخالفون من أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنما بعث إلى هرقل آية واحدة بقوله:(ولم يمنع صلى الله عليه وآله وسلم من غيرها وأنتم أهل قياس فإن لم تقيسوا على الآية ما هو أكثر منها فلا تقيسوا على هذه الآية غيرها)
أما قوله تعالى: { فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (الواقعة:78 ـ 79) الذي استدل به المخالفون فلا دلالة فيه على ذلك، قال ابن حزم:(فهذا لا حجة لهم فيه لأنه ليس أمرا وإنما هو خبر. والله تعالى لا يقول إلا حقا. ولا يجوز أن يصرف لفظ الخبر إلى معنى الأمر إلا بنص جلي أو إجماع متيقن. فلما رأينا المصحف يمسه الطاهر وغير الطاهر علمنا أنه عز وجل لم يعن المصحف وإنما عنى كتابا آخر)([51])
وعلى اعتباره مصحفا، فقد ذكر المفسرون أقوالا كثيرة في تفسير { الْمُطَهَّرُونَ } تجعل الاستدلال بالآية غير صحيح.
فقد قال أنس وسعيد وابن جبير: لا يمس ذلك الكتاب إلا المطهرون من الذنوب وهم الملائكة، وقال أبو العالية وابن زيد: إنهم الذين طهروا من الذنوب كالرسل من الملائكة والرسل من بني آدم، فجبريل النازل به مطهر، والرسل الذين يجيئهم بذلك مطهرون، وقال الكلبي: هم السفرة الكرام البررة، وهو نحو ما اختاره مالك حيث قال: أحسن ما سمعت في قوله تعالى: { لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (الواقعة:79) أنها بمنزلة الآية التي في {عَبَسَ وَتَوَلَّى} (عبس:1): {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} (عبس:12) إلى قوله تعالى: {كِرَامٍ بَرَرَةٍ} (عبس:16)) يريد أن المطهرين هم الملائكة الذين وصفوا بالطهارة في سورة عبس.
وعن علقمة قال: أتينا سلمان الفارسي فخرج علينا من كنيف له فقلنا له: لو توضأت يا أبا عبد الله ثم قرأت علينا سورة كذا؟ فقال سلمان: إنما قال الله تعالى: { فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (الواقعة:78 ـ 79) وهو الذكر الذي في السماء لا يمسه إلا الملائكة.
وعن علقمة بن قيس: إنه كان إذا أراد أن يتخذ مصحفا أمر نصرانيا فنسخه له.
وقد لاحظ المالكية بعض الفقه المقاصدي في هذه المسألة، فأجازوا مس المصحف للعالم والمتعلم.
ومنها منع الحائض من قراءة القرآن الكريم أو مس المصحف، وهذا يمنع النساء من حفظ القرآن الكريم، لأن حفظه يتطلب المداومة المستمرة والتعهد، فإذا بقيت المرأة طيلة فترة حيضها ونفاسها بعيدة عنه، لن تستطيع حفظه ولا الاستمرار على ذلك.
وقد ذهب مالك إلى جواز قراءة الحائض للقرآن الكريم، اعتبارا لهذه العلة، وقد تعجب ابن حزم من هذا، فقال:(وكذلك تفريقهم بين الحائض والجنب بأن أمد الحائض يطول، فهو محال، لأنه إن كانت قراءتها للقرآن حراما فلا يبيحه لها طول أمدها، وإن كان ذلك لها حلالا فلا معنى للاحتجاج بطول أمدها)([52])
وذلك مما منعت منه كثير من الشروط والتشديدات التي ذهب إليها بعض الفقهاء، بحجة حرمة القرآن الكريم وطهارته غافلين عن أن حرمة القرآن الكريم ذاتيه، لا تؤثر فيها المؤثرات، بل القرآن الكريم كالماء الطهور دوره الأساسي هو تطهير غيره والحفاظ على طهارته.
وتلك التشديدات تصب في مصب واحد، هو أن لا يقرأ القرآن الكريم إلا في حالة واحدة، وهي أن يقرأ في محل طاهر كالمسجد ونحوه، وأن لا يكون هناك رفع للأصوات، وأن يكون هناك حضور واستماع للحاضرين، وأن يكون هناك…
شروط كثيرة تحد من إشاعة القرآن الكريم، بحيث لا يسمعه إلا ثلة مخصوصة، قد تكون مهتدية أصلا بهديه، أما غيرها ممن يحتاج إلى هدايته، فيظل محجوبا إل أن يهتدي، ولسنا ندري كيف يهتدي، ومنبع الهداية محجوب عنه.
ولذلك نرى أن يقال بإشاعة قراءة القرآن الكريم في كل المحال، سواء ارتفعت الأصوات عليه أو لم ترتفع، وسواء كان ذلك في قنوات ومحال ملتزمة أو غير ملتزمة، وسواء كان الحضور محترمين للقرآن الكريم أو مستهزئين به.
فالقرآن الكريم كالسيف الذي يجاهد به، ولا حرج على السيف أن تصيبه الدماء، فهو أصلا موضوع لذلك، وقد قال تعالى في القرآن الكريم: { فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً} (الفرقان:52)
ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشيع قراءة القرآن الكريم في كل المحال، وأمام لغط ولغو اللاغين.
وفي القرآن الكريم الأدلة الكثيرة على ذلك، فالله تعالى يخبر عن مواقف الكافرين والجاحدين من القرآن الكريم، وهو يتلى عليهم، ولا يكون ذلك إلا بعد سماعهم له، قال تعالى: { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} (الاحقاف:7)، وقال تعالى: { إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} (القلم:15)، وقال تعالى: { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (يونس:15)، وقال تعالى: { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً} (مريم:73)، وقال تعالى: { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (الحج:72)
والله تعالى يخبر باحتجاجه على الكفار بكون الآيات كانت تتلى عليهم في الدنيا، كما قال تعالى: { وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ} (الجاثـية:31)، وقال تعالى: { قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ} (المؤمنون:66)، وقال تعالى: { أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} (المؤمنون:105)
بل إن القرآن الكريم ـ منعا لكل تأويل ـ يصرح بسماعهم للقرآن الكريم مع كفرهم وعنادهم، قال تعالى: { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} (لأنفال:31)، وقال تعالى: { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (لقمان:7)، وقال تعالى: { يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (الجاثـية:8)
ثم كيف لا ينشر القرآن الكريم، ويشاع لكل طوائف الناس، وفيه من الخطاب للناس جميعا ما لا يسعهم تركه وعدم الاستماع إليه، فالقرآن الكريم كما يخاطب الذين آمنوا يخاطب الناس بطوائفهم، كما يخطاب الكفار بمللهم ونحلهم؟
ثم كيف يسمع الناس كل الناس قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة:21)أو قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (البقرة:168)، أو قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً} (النساء:174)، أو قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} (فاطر:5)
أو قوله وهو يأمرهم بالاستماع: { َا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} (الحج:73)
أو قوله مخاطبا الذين كفروا: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (التحريم:7)
أو قوله مخاطبا الإنسان مجردا من كل دين: { يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} (الانفطار:6)، وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} (الانشقاق:6)
والنظر المقاصدي الذي نراه من خلال هذه الإشاعة هو أن أي شخص مهما كان منحرفا قد يصادف غفلة من شهواته، أو صدودا من شيطانه، أو رقة في قلبه، فيصادف آية تخرجه من أوهامه لتضعه بين يدي ربه، فلماذا نمنع هذه الآية من الوصول إلى آذانه أو آذان قلبه.
وقد روي عن الفضيل بن عياض أن سبب توبته كان (أنه عشق جارية فواعدته ليلا، فبينما هو يرتقي الجدران إليها إذ سمع قارئا يقرأ: { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ } (الحديد:16)، فرجع القهقرى وهو يقول: بلى والله قد آن فآواه الليل إلى خربة وفيها جماعة من السابلة، وبعضهم يقول لبعض: إن فضيلا يقطع الطريق. فقال الفضيل: أواه! أراني بالليل أسعى في معاصي الله، قوم من المسلمين يخافونني! اللهم إني قد تبت إليك، وجعلت توبتي إليك جوار بيتك الحرام.
بل روي عن الصحابة أنهم كانوا يتحرون إسماع المشركين، بل وتحمل الأذى في سبيل ذلك، فعن عروة بن الزبير قال: أول من جهر بالقرآن بمكة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ابن مسعود؛ وذلك أن الصحابة قالوا: ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر به قط، فمن رجل يسمعهموه؟ فقال ابن مسعود: أنا، فقالوا: إنا نخشى عليك، وإنما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه، فأبى ثم قام عند المقام فقال: { بسم الله الرحمن الرحيم. الرحمن عَلَّمَ الْقُرْآنَ} (الرحمن:1 ـ 2)، ثم تمادى رافعا بها صوته وقريش في أنديتها، فتأملوا وقالوا: ما يقول ابن أم عبد؟ قالوا: هو يقول الذي يزعم محمد أنه أنزل عليه، ثم ضربوه حتى أثروا في وجهه.
فإذا أتيح لنا اليوم أن ننشر القرآن الكريم بالطرق المختلفة، فما الذي يمنع من ذلك.
بل نرى رأيا لا نجد المقام للاستدلال عليه هنا، وهو أن تسجل التلاوات للقرآن المترجم باللغات المختلفة، مرتلة بالأصوات الرخيمة الجذابة المؤثرة، على أن تكون الترجمة نفسها في قمة البلاغة الممكنة، ثم تشاع في البلاد التي لا تعرف العربية، ليكون ذلك طريقا من طرق إيصال هداية الله إليها.
ولا مانع من ذلك، فيما نرى، إلا أعراف تعارفناها جعلتنا نحتكر القرآن الكريم مع كونه كلام الله تعالى الموجه للبشرية جميعا، فصرنا نتصور أن حرمته تكون بكتابته كتابة مزخرفة، ثم يوضع في لوح مكنون لا يمسه أحد، ولا يسمع به أحد، ليبقى طاهرا مقدسا، غافلين عما أمرنا به من الجهاد بالقرآن الكريم.
وإنما ذكرنا هذا، لأن في الإنسان ميلا إلى الكلام المؤثر سواء في بلاغته أو طريقة أدائه، ولذلك كان القرآن الكريم في قمة البلاغة، وقد أمرنا بتزيين الأصوات به، ومن احتكار القرآن الكريم اعتبار ذلك خاصا بالعربية لا بغيرها من اللغات مع أن أكثر هذه الأمة ـ أمة الإجابة أو أمة الدعوة ـ من غير العرب.
وهي القسم الثاني من أقسام العلوم التي كلف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وكلف أتباعه من بعده بإشاعتها وتعليمها الناس، وقد وردت في القرآن الكريم مرتبة بترتيبين مختلفين:
الأول: تقديمها على التزكية، كما قال تعالى: { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (البقرة:129)، وفي ذلك إشارة إلى دور الكتاب والحكمة في التزكية.
الثاني: تقديم التزكية عليها، كما قال تعالى: { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (آل عمران:164)، وقال تعالى: { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (الجمعة:2)، وفي ذلك إشارة إلى دور التزكية في الفهم الراقي للكتاب والحكمة، وكون ذلك الفهم مرتبطا بحصول التزكية، فالعلم بالكتاب والحكمة وسيلة من وسائل التزكية، كما أنه ثمرة من ثمراتها.
وبما أن المقصد من هذين العلمين، كما تشير إليه هذه الآيات هذان الأمران:
التزكية: وهي ـ كما سيأتي ـ تربية الإنسان ليصبح أهلا لعبادة الله والتعرف عليه.
الفهم: ليعرف الحقائق الكبرى المتجلية في العلم والحكمة.
فالأول عملي يصب في تربية الإنسان وإصلاحه، والثاني علمي يصب في ترقية الإنسان ورفعه وتمثيل حقيقته.
ولذلك سنتحدث عن مراعاة هذين المقصدين في علوم الكتاب والحكمة:
نقصد بعلوم الكتاب العلوم المرتبطة بالقرآن الكريم، وهي كثيرة جدا لا تكاد تنحصر، ففي القرآن الكريم كل حقائق الوجود، قال تعالى: { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ } (النحل:89)
ومن مصدرها الأصلي، قال تعالى: { لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} (النساء:166)، وقال تعالى: { قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} (الفرقان:6)، وقال تعالى: { وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (سـبأ:6)
وذلك لأن كمال الحقائق يكون بتوفر أمرين:
1. شمولها ووحدتها ودقة انتظامها وإجابتها على كل ما يمكن طرحه من إشكالات وتساؤلات.
2. صحة مصدرها ودقته والوثوق به.
وكلا الأمرين لا يصدقان إلا على القرآن الكريم، فهو الكتاب الوحيد الذي يشمل أرقى المعارف، ومن أدق المصادر.
وقد أشار الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى اعتبار القرآن الكريم مصدرا أساسيا للمعارف، وتدبر القرآن الكريم لذلك، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(أتاني جبريل فقال:(يا محمد إن الأمة مفتونة بعدك)، قلت له:(فما المخرج يا جبريل؟)، قال:(كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم وهو حبل الله المتين وهو الصراط المستقيم وهو قول فصل ليس بالهزل إن القرآن لا يليه من جبار فيعمل بغيره إلا قصمه الله ولا يبتغي علما سواه إلا أضله الله ولا يخلق عن رده وهو الذي لا تفنى عجائبه من يقل به يصدق ومن يحكم به يعدل ومن يعمل به يؤجر ومن يقسم به يقسط)([53])
ولهذا أخبر السلف عن كثرة علوم القرآن الكريم، وتشعبها، وأن فيها الغنى لمن استغنى بها وعرف كيف يستنبطها، قال ابن مسعود قال:(من أراد العلم فعليه بالقرآن فإن فيه خبر الأولين والآخرين)، قال البيهقي:(يعني أصول العلم)، وقال الإمام علي:(لو شئت لأوقرت سبعين بعيراً من تفسير فاتحة الكتاب)
وقد ذكر الغزالي عن بعض العلماء قوله:(لكل آية ستون ألف فهم وما بقي من فهمها أكثر)، وذكر عن آخرين قولهم:(القرآن يحوي سبعة وسبعين ألف علم ومائتي علم إذ كل كلمة علم. ثم يتضاعف ذلك أربعة أضعاف إذ لكل كلمة ظاهر وباطن وحدّ ومطلع)
ولا يبنبغي استغراب هذا الكلام، فالقرآن الكريم كلام الله، وكلام الله لا يحاط به، كما أن الله تعالى لا يحاط به.
ولو شئنا مثلا تقريبيا لهذا، نقول: إن عدد حروف الهجاء لا يجاوز في كل لغات العالم أعدادا محدودة، ولكن مع ذلك يمكن تكوين مئات الآلاف من الكلمات من هذه الحروف المعدودة، فإذا أردنا المعاني، فإن العدد سيتضاعف أضعافا كثيرة جدا، فإذا ضممنا إلى ذلك الجمل والفقرات، فإن التضاعف لا ينحصر أبدا.
وكذلك القرآن الكريم، بل هو أعظم من ذلك، ولكن هذه المعاني لا يفهمها إلا من يحلل أبجدية القرآن الكريم، ويفك ما فيه من مفايتح العلوم.
ولكنا لا نريد بعلوم الكتاب هذا العدد الضخم من العلوم، إنما نريد به علوما محصورة لها أثرها إما في التزكية أو في الفهم.
ويمكن حصر العلوم التي حاولت استنباط علوم القرآن الكريم إلى قسمين: أحدهما وسيلة للفهم عن الله، والثانية ثمرة لممارسة تلك الوسيلة، أو أن أحدهما علوم وسائل، والثاني علوم مقاصد.
وهي العلوم التي لا ينبغي لمن يريد فهم القرآن الكريم جهلها، ويمكن تقسيمها إلى نوعين من العلوم:
العلوم اللغوية: وذلك لأن القرآن الكريم نزل بلغة العرب، ولا يمكن فهمه إلا بإتقان ما يحتاج إليه من هذه اللغة، قال الغزالي في العلوم التي يتضمنها هذا النوع وقد سماها (المقدمات):(وهي التي تجري منه مجرى الآلات كعلم اللغة والنحو؛ فإنهما آلة لعلم كتاب الله تعالى وسنة نبـيه، وليست اللغة والنحو من العلوم الشرعية في أنفسهما، ولكن يلزم الخوض فيهما بسبب الشرع إذ جاءت هذه الشريعة بلغة العرب وكل شريعة لا تظهر إلا بلغة فيصير تعلم تلك اللغة آلة. ومن الآلات علم كتابة الخط إلا أن ذلك ليس ضرورياً إذ كان رسول الله أميّاً. ولو تصور استقلال الحفظ بجميع ما يسمع لاستغنى عن الكتابة، ولكنه صار بحكم العجز في الغالب ضرورياً)([54])
العلوم التفسيرية: وذلك لعدم استقلال اللغة وحدها في فهم القرآن الكريم، فلذلك نحتاج إلى مصادر روائية للدلالة على الكثير من المعاني المرادة، وقد سمى الغزالي هذا النوع (المتممات)، وقسمها إلى ما يتعلق باللفظ كتعلم القراءات ومخارج الحروف وإلى ما يتعلق بالمعنى كالتفسير؛ وإلى ما يتعلق بأحكامه كمعرفة الناسخ والمنسوخ والعام والخاص والنص والظاهر([55]).
وهذ العلوم بصنفيها لا يشترط المبالغة فيها إلى الدرجة التي تحجب صاحبها عن علوم المقاصد التي هي مقصودة بالأصالة، ولذلك نرى الغزالي ـ مع كونه في عصر لم تيسر فيه أسباب العلم كما يسرت بعد ذلك ـ يدعو إلى الاقتصاد في هذه العلوم، والاقتصار منها على ما تمس إليه الحاجة، لأن كل ما يطلب لغيره لا ينبغي أن ينسى فيه المطلوب ويستكثر منه.
فهو يوصي بأن يقتصر من علم اللغة على ما يفهم منه كلام العرب وينطق به،ومن غريبها على غريب القرآن والحديث،دون التعمق في ذلك،ومن النحو على ما يتعلق بالكتاب والسنة،أما التفسير فيكتفى بما يبلغ ضعف القرآن الكريم أو ثلاثة أضعافه، أما ما زاد على ذلك فهو كما يقول الغزالي: (استقصاء مستغنى عنه)([56])،وقد دعا بدل ذلك إلى النظر في مقاصد القرآن الكريم وحقائقه الباطنة باعتبارها الجوهر الذي يغطيه الصدف،أو اللباب الذي يحميه القشر.
وهذه العلوم يمكن تيسيرها ليتلقاها الناشئة بالأساليب العصرية في أقل الآماد الممكنة، محفوظة من كل ما يمكن أن يفسد عقيدة أو يؤثر في سلوك.
ولهذا نرى أن لا يوضع بين يدي الناشئة إلا الكتب الممحصة المدققة التي تراعى فيها كل شروط التكوين والتربية، لأن الكثير مما كتبه العلماء قد يكون متوجها للعلماء خاصة، ولطرحه بين العامة خطره العظيم، خاصة فيما اشتد فيه الجدل، لأنه ينقل العامة من التربية والتزكية المطالبين بها إلى الجدل الذي لا يفيدهم تربية ولا علما، بل إنه سيملأ قلوبهم حقدا على بعضهم بعضا.
وفي هذا السبيل نقترح ما يمكن تسميته بـ (تحديث التراث)، وهو نوع جديد من خدمة التراث، فوق التهذيب والتحقيق والاختصار.
وهي خدمة تشمل المعنى وتشمل التعبير والأسلوب وطرق التصنيف ليصبح التراث كغيره وسيلة من وسائل الإصلاح لا شيئا نفخر به من غير أن نستفيد منه.
وهي العلوم المقصودة بذاتها، لأن الغرض منها فهم مراد الله من كلامه ورسالته لعباده، ومن الخطأ الكبير أن نشتغل بإعراب رسالة الله وتبيين مزاياها البلاغية والإعجازية، ثم نغفل عن المقصود منها.
ولذلك ينتقد الغزالي من اشتغلوا بعلوم الوسائل عن علوم المقاصد، أو انشغلوا بالتلاوة عن المتلو، فقال:(اني أنبهك على رقدتك أيها المسترسل في تلاوتك، المتخذ دراسة القرآن عملا المتلقف من معانيه ظواهر وجملا، الى كم تطوف على ساحل البحر مغمضا عينيك عن غرائبها، أوما كان لك أن تركب متن لجتها لتبصر عجائبها وتسافر الى جزائرها لاجتناء أطايبها وتغوص في عمقها فتستغني بنيل جواهرها أوما تعير نفسك في الحرمان عن دررها وجواهرها بادمان النظر الى سواحلها وظواهرها، أوما بلغك أن القرآن هو البحر المحيط ومنه يتشعب علم الأولين والآخرين كما يتشعب عن سواحل البحر المحيط أنهارها وجداولها، أوما تغبط أقواما خاضوا في غمرة أمواجها فظفروا بالكبريت الأحمر، وغاصوا في أعماقها فاستخرجوا الياقوت الأحمر والدر الأزهر والزبرجد الأخضر، وساحوا في سواحلها فالتقطوا العنبر الأشهب والعود الرطب الأنضر، وتعلقوا الى جزائرها واستدروا من حيواناتها الترياق الأكبر والمسك الأذفر)([57])
ولهذا كان من الآداب الباطنة التي لا يفقه حقائق القرآن الكريم وأسراره إلا من تأدب بها ما سماه الغزالي بـ (التخصيص) وبين طريقته، وهي أن يقدّر التالي أنه المقصود بكل خطاب في القرآن، باعتبار القرآن الكريم كلام الله الذي يخاطب به كل عبد من عباده([58]).
فلذلك إن سمع التالي أمراً أو نهياً قدّر أنه المنهي والمأمور، وإن سمع وعداً أو وعيداً قدر أنه المقصود بذلك، (وإن سمع قصص الأولين والأنبـياء علم أن السمر غير مقصود وإنما المقصود ليعتبر به وليأخذ من تضاعيفه ما يحتاج إليه فما من قصة في القرآن إلا وسياقها لفائدة في حق النبـي وأمته. ولذلك قال تعالى: {وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ } (هود:120) فليقدّر العبد أن الله ثبت فؤاده بما يقصه عليه من أحوال الأنبـياء وصبرهم على الإيذاء وثباتهم في الدين لانتظار نصر الله تعالى)
لكن هذا التخصيص يحتاج إلى علوم خاصة تعرف بمقاصد القرآن الكريم، وتبين الحقائق التي تنطوي عليها، وذلك لأن الحقائق تختلف بحسب مقاصد المتدبرين واهتماماتهم، ولذلك قد توصف بالعمق أحيانا والسطحية أحيانا أخرى.
وقد يغلب عليها الاهتمام بالجانب الثقافي أو الجوانب الأخرى عن الأهداف المقصودة بالأصالة.
فلذلك كان من تعميق الحقائق القرآنية هو ربطها بمقاصدها، لأن شتات الفروع تتوحد في نقطة المقصد.
وقد كان الغزالي من أكبر من اهتم بهذا الجانب، وذلك أثناء تقسيمه القرآن إلى محاور أساسية تدور عليها آياته،ثم الحديث عن تلك المحاور كما وردت فيه، وقد جمع في كتابه (جواهر القرآن) سبعمائة وثلاث وستين آية تتعلق بالمعرفة الإلهية، وسبعمائة وإحدى وأربعين آية تتعلق بالسلوك لله تعالى، وقد سمى النوع الأول بالجواهر،وسمى النوع الثاني بالدرر، و(الأول علمي، والثاني عملي، وأصل الإيمان العلم والعمل)، ثم شرح جمل القسم الثاني في كتابه (الأربعين في أصول الدين)وضمه إلى كتابه (جواهر القرآن)،وأجاز كتابته مفردا.
و هو ينطلق في تحديده لمحاور القرآن ومقاصده من هدف القرآن الكريم الأساسي، وهو (دعوة العباد إلى الجبار الأعلى رب الآخرة والأولى)، فالقرآن هو المعرف بالله والداعي له،ولذا يحصر مقاصد القرآن ـ على أساس ذلك ـ في ستة أنواع،ثلاثة هي الأصول المهمة، وثلاثة هي التوابع المتمة، وهذه المقاصد هي([59]):
المقاصد الأصلية: وهي التي تهدف إليها آيات القرآن الكريم بالدرجة الأولى، وتشمل المعارف الأساسية الدالة على الحقائق الكلية الكبرى، وهي:
معرفة الله تعالى: فالقرآن الكريم هو الدليل الأكبر على الله، والمعرف الأعظم به،وهو كما يقول جعفر الصادق: (والله لقد تجلى الله عز وجل لخلقه في كلامه، ولكنهم لا يبصرون)، والمقاصد القرآنية المتعلقة بالله عند الغزالي هي:
معرفة الذات: وهي أهم المعارف وأعزها وأضيقها مجالا وأعسرها منالا وأعصاها على الفكر،ولا يحوي القرآن الكريم منها إلا على تلميحات وإشارات ترجع في رأي الغزالي إلى أمرين:
التقديس المطلق: وهو تنزيه الله تعالى عن كل وصف يدركه الحس،أو يتصوره الخيال، أو يسبق إليه الوهم، أو يختلج به ضمير، أو يقضي به تفكير، ولذلك عرف الله تعالى ذاته لعباده بقوله تعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشورى:11)، وقوله تعالى: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} (الإخلاص:1 ـ4)
التعظيم المطلق: وهو امتلاء القلب مهابة لله وشعورا بالعجز والضآلة أمامه، نتيجة لفرط عدم إحاطة العقل بكنه حقيقته،كما قال تعالى: { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} (الأنعام:100)، وقال تعالى: { فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} (الانبياء:22)
والتفكر في جلال الله وعظمته بالجمع بين هذين الأمرين هو الذي يثمر المعارف ولأحوال الإيمانية، دون التفكر في المتشابه من الصفات، فإنه لا يثمر عند الجمهور من الناس إلا التشبيه والتمثيل،ولهذا لم يرد في الأذكار الشرعية المسنونة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا ما يشير إلى ذلك.
وقد أشار الدهلوي إلى ما ذكره الغزالي، وأيده بأن ما ورد من الأذكار عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يشير إلا للتنزيه والتعظيم فيما يتعلق بذات الله تعالى، يقول الدهلوي:(…ومنها ـ أي من الأذكار الشرعية ـ سبحان الله وحقيقته تنزيهه عن الأدناس والعيوب والنقائص، ومنها الحمد لله، وحقيقته إثبات الكمالات والأوصاف التامة له ؛ فإذا اجتمعتا في كلمة واحدة كانت أفصح تعبير عن معرفة الإنسان بربه،لأنه لا يستطيع أن يعرفه إلا من صفات ذات يسلب عنها ما نشاهده فينا من النقائص، ويثبت لها ما نشاهده فينا من كمالات من جهة كونه كمالا)
والغزالي ينتقد بشدة المشبهة الذين ينكرون التنزيه المطلق لله عن كل صفات الحوادث (حتى قال بعض الحمقى من العوام:إن هذا وصف لبطيخ هندي لا وصف إله، لظن المسكين أن الجلالة والعظمة في هذه الأعضاء)، ويرد سبب ذلك إلى أن الإنسان لا يعرف إلا نفسه ولا يعظم إلا نفسه،وكل ما لا يساويه في صفاته لا يفهم العظمة فيه،(بل لو كان للذباب عقل، وقيل له:ليس لخالقك جناحان ولا يد ولا رجل ولاطيران، لأنكر ذلك وقال: كيف يكون خالقي أنقص مني؟)([60])
معرفة الصفات: وهي المجال الفسيح الذي يمكن الاطلاع عليه، دون إمكانية الإلمام به، ولذلك كثرت الآيات المشتملة على العلم والقدرة والحياة والكلام والسمع والبصر وغيرها، وهي ـ أيضا ـ تستدعي الأمرين السابقين: التنزيه والتعظيم، فإن صفات الله تعالت وتقدست أن تشابه صفاتنا، فلذلك يغلب على هذه المعرفة الإيهام والتشبيه، ولهذا (ينبغي أن تقترن بنفي المشابهة،ونفي أصل المناسبة)
وقد أشار إليه قوله تعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء} (الشورى:11)، ثم عقب ببيان صفتين من صفاته قد توهمان التشبيه هما السمع والبصر،لارتباطهما بالنسبة لنا بالأذن والعين،قال تعالى: { وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الشورى:11)
ويرى الغزالي أنه بقدر معرفة المؤمن لصفات الله تعالى وتنزيهها وتعظيمها تكون معرفته بذاته تعالى، فمعرفة الصفات هي مدد معرفة الذات،ولذلك كثرت الأسماء الحسنى الدالة على عظمة صفات الله تعالى.
معرفة الأفعال: وهي المجال الأفسح والأيسر لمعرفة الله،فمنها يرقى المتفكر لمعرفة الصفات التي هي المعراج لمعرفة الذات، ولذلك حوى القرآن (الكثير من آيات الله وأفعاله كذكر السماوات والكواكب والأرض والجبال والشجر والحيوان والبحار والنبات وإنزال الماء الفرات وسائر أسباب الحياة)، وقد أمر الله تعالى بالتفكر في هذه المخلوقات، قال تعالى: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} (آل عمران:190)
وهو ينبه إلى دور معرفة أفعال الله تعالى، سواء ما ظهر منها في عالم الشهادة، أو ما بطن في عالم الغيب والملكوت، في التحقق بمعرفة الله تعالى بقوله:(ليس من يعلم أنه تعالى عالم قادر على الجملة كمن شاهد عجائب آياته في ملكوت السماوات والأرض وخلق الأرواح والأجساد، واطلع على بدائع مملكته وغرائب الصنعة، ممعنا في التفصيل،ومستقصيا دقائق الحكمة، ومستوفيا لطائف التدبير)([61])
السلوك إلى الله تعالى: وهو الطريق الذي يصفه القرآن الكريم للوصول إلى الله تعالى، وإليه الإشارة بالنصوص الكثيرة كقوله تعالى: { وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} (المزمل:8)
وعمدة السلوك القرآني ـ كما يذكر الغزالي ـ أمران: الملازمة والمخالفة، أما الملازمة فهي الانشغال التام بذكر الله تعالى، وأما المخالفة فهي ترك كل ما يشغل عن الله([62]).
وقد جمع الغزالي الآيات المرشدة إلى طريق السلوك في كتابه (جواهر القرآن ودرره)،ثم شرح تفاصيلها في (الأربعين في أصول الدين).
معرفة اليوم الآخر: وهو المصير الذي يلقاه العارفون أو الجاحدون، ويشتمل القرآن منه على ذكر النعيم الذي أعده الله لأوليائه والخزي والعذاب الذي يلقاه المبعدون عنه، وفي هذا القسم ـ كما يرى الغزالي ـ مجال كبير للبحث والنظر باعتباره المصير الذي ينتظر البشرية جميعا، ولذلك أولاه القرآن الكريم العناية الكبرى، ويحصي الغزالي ما ورد فيه من الآيات بأنه ثلث القرآن.
المقاصد الفرعية: وهي التي تتفرع عن المقاصد السابقة وتخدمها، وهي ـ عند الغزالي ـ ثلاثة مقاصد هي:
القصص القرآني: سواء ما تعلق منها بالأنبياء والصالحين، أو ما تعلق بالكفار والمنافقين، وفائدة هذا القسم كما يرى الغزالي هي التشويق والترغيب فيما يتعلق بالمجيبين لدعوة الله السالكين سبيله، والاعتبار والترهيب فيما يتعلق بأحوال الناكلين والناكبين عن الإجابة، وكيفية قمع الله لهم وتنكيله بهم.
وكأن الغزالي يدعو من خلال هذا القسم إلى استنباط سنن الله في المجتمعات كما ينص عليها القرآن،كما رأينا ـ من قبل ـ دعوته إلى النظر في سنن الله الكونية، فكلاهما ميدان لمعرفة الله وسلوك سبيله، وكلاهما حث القرآن الكريم على النظر فيه والاعتبار به.
البراهين القرآنية: وهذا القسم يتعرض لمحاجة الكفار ومجادلتهم وإيضاح أباطيلهم وكشفها،وقد حوى القرآن الكريم كما يرى الغزالي على تفنيد ثلاثة أنواع من الأباطيل تعتبر من أصول الضلال الكبرى، وهي:
1. ذكر الله تعالى بما لا يليق به من أن الملائكة بناته وأن له ولدا وشريكا وأنه ثالث ثلاثة.
2. ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأنه ساحر أو كاذب،وإنكار نبوته،وأنه بشر كسائر الخلق فلا يستحق أن يتبع.
3. ذكر اليوم الآخر وجحد البعث والنشور والجنة والنار، وإنكار عاقبة الطاعة والمعصية.
ويرى الغزالي إمكانية الاستغناء ببراهين القرآن العلمية ـ إذا ما تحققت آلية التدبر ـ عن أدلة المتكلمين وبراهينهم،بل يمكن استنباط وجوه الحجج القاطعة التي يمكن الاستدلال بها فيما لم يذكره القرآن الكريم من شبهات.
الأحكام الفقهية: ويشتمل هذا القسم على الحدود الشرعية التي تنظم أمر المعاش بأسباب الحفظ لوجوده،وأسباب الدفع لمفسداته.
وبالتدبر في هذا القسم يمكن استنباط محاسن الشريعة ومصالحها وحكمها مما لا يوجد مثله في كتب الفقهاء، ويبدي الغزالي اهتماما كبيرا ـ في هذا الموضع ـ ببيان مقاصد الشريعة وكلياتها، والتي ترجع إلى تنظيم أمر المعاش في الدنيا حتى يتم أمر التبتل والانقطاع إلى الله تعالى الذي هو المقصد الحقيقي من الوجود الإنساني.
وذلك التنظيم يستدعي أسباب الحفظ لوجود ه،وأسباب الدفع لمفسداته، وكل حدود الشريعة يمكن إرجاعها عند الغزالي إلى هذين القسمين،وهو لهذا يعتبر الفقه من علوم الدنيا فـ (الفقيه هو العالم بقانون السياسة وطريق التوسط بين الخلق إذا تنازعوا بحكم الشهوات،فكان الفقيه معلم السلطان ومرشده إلى طرق سياسة الخلق وضبطهم لينتظم باستقامتهم أمورهم في الدنيا)
هذه هي المقاصد الستة التي تدور حولها جميع آيات القرآن الكريم في رأي الغزالي،وهو يدعو من خلال عرضها إلى التفكر فيها واستنباط أصناف العلوم منها، فكل العلوم مغترفة من بحار القرآن الكريم.
ونحن لم نذكر هذه المقاصد هنا بحسب ما ذكرها الغزالي على أنها رأي شخصي للغزالي، وإنما ذكرناها باعتبار الأدلة المتظافرة من النصوص تدل عليها.
ولا نحسب أن هناك خلافا في اعتبارها، فهي من القطعية بحيث لا يختلف فيها، وإنما للغزالي فيها دقة التصنيف، والتنظيم، والتقسيم.
ولذلك نرى الاهتمام بتلقين هذه المقاصد، وتعليمها والتركيز عليها عند تعليم علوم القرآن الكريم، لأن القرآن الكريم ليس كتاب ثقافة بقدر ما هو كتاب هداية.
ربما كان من الصعب تحديد معنى دقيق للحكمة بسبب الخلاف الطويل في معناها، ولكنه مع ذلك لا غنى عن تحديد معناها، فهي وظيفة من وظائف النبوة التي يلزم وجودها واستمرارها لبقاء الهدي النبوي على الأرض.
ولذلك سنحاول هنا معرفة معناها من خلال ما ورد في القرآن الكريم، ومن خلال ما ذكر العلماء في تعريفها محاولين استخراج قول جامع لها، نستطيع بواسطته معرفة العلوم التي تتضمنها الحكمة.
الحكمة في القرآن الكريم: كل المواضع التي وردت فيها الحكمة في القرآن الكريم مواضع ثناء([63])، ويدل لذلك قوله تعالى: { يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (البقرة:269)، ولهذا ذكر القرطبي أنه يقال:(إن من أعطي الحكمة والقرآن فقد أعطي أفضل ما أعطي من جمع علم كتب الأولين من الصحف وغيرها، لأنه قال لأولئك: { وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} (الاسراء:85)، وسمى هذا خيرا كثيرا، لأن هذا هو جوامع الكلم)([64])
وقد اعتبر القرآن الكريم الحكمة نوعا من أنواع النعم التي من الله بها على عباده المؤمنين، فقال تعالى: { وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (البقرة:231)
وهو يخبره عن فضله على الأنبياء ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ بإعطائهم الحكمة، قال تعالى: { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ } (آل عمران:81)، وقال تعالى: { أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً} (النساء:54)، وقال تعالى: { فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ } (البقرة:251)، وقال تعالى: { وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ} (آل عمران:48)، وقال تعالى: { وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} (صّ:20)، وقال تعالى: { وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} (الزخرف:63)
وهو يمن على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن الله أنزل عليه الحكمة، قال تعالى: { وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} (النساء:113)، وقال تعالى: { ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً} (الاسراء:39)
وهو يأمر باستعمال الحكمة وذكرها، قال تعالى: { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } (النحل:125)، وقال تعالى: { وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً} (الأحزاب:34)
وهو يخبر عند ذكره لنموذج تربية الأبناء أن من صفات المربي الصالح (الحكمة)، قال تعالى: { وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} (لقمان:12)
خلاف العلماء في الحكمة: انطلاقا من اختلاف ورودها في القرآن الكريم، فقد وردت مفردة ومقترنة بالكتاب، اختلفت الأقوال فيها بناء على هذين النوعين:
المفردة: كما في قوله تعالى: { يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (البقرة:269)، فقد فسرت في هذا الموضع، بتفاسير مختلفة منها: قول السدي: هي النبوة، وقال ابن عباس:(هي المعرفة بالقرآن فقهه ونسخه ومحكمه ومتشابهه وغريبه ومقدمه ومؤخره)، وقال قتادة ومجاهد:(الحكمة هي الفقه في القرآن)، وقال مجاهد:(الإصابة في القول والفعل)، وقال ابن زيد:(الحكمة العقل في الدين)، وقال مالك بن أنس:(الحكمة المعرفة بدين الله والفقه فيه والاتباع له)، وروى عنه ابن القاسم أنه قال:(الحكمة التفكر في أمر الله والاتباع له)، وقال أيضا:(الحكمة طاعة الله والفقه في الدين والعمل به)، وقال الربيع بن أنس:(الحكمة الخشية)، وقال إبراهيم النخعي:(الحكمة الفهم في القرآن)، وقاله زيد بن أسلم، وقال الحسن:(الحكمة الورع) وكأنه فسرها بثمرتها ومقتضاها.
ومن الأقوال فيها أنها (معرفة الأشياء بحقائقها)، وفيهذا إشارة إلى أن إدراك الجزئيات لا كمال فيه لأنها إدراكات متغيرة، فأما إدراك الماهية، فإنه باقٍ مصون عن التغير والتبدل.
ومن الأقوال فيها أنها (الإتيان بالفعل الذي عاقبته محمودة)، وقيل:(هي الاقتداء بالخالق سبحانه وتعالى في السياسة بقدر الطاقة البشرية وذلك بأن يجتهد بأن ينزه علمه عن الجهل وفعله عن الجور وجوده عن البخل وحلمه عن السفه)([65])
وعرفها الفخر الرازي بأنها (اسم لكل علم حسن، وعمل صالح)، قال:(وهو بالعلم العملي أخص منه بالعلم النظري وفي العمل أكثر استعمالاً منه في العلم، ومنها يقال أحكم العمل إحكاماً إذا أتقنه وحكم بكذا حكماً)
قال ابن القيم:(وأحسن ما قيل في الحكمة قول مجاهد ومالك إنها معرفة الحق والعمل به والإصابة في القول والعمل وهذا لا يكون إلا بفهم القرآن والفقه في شرائع الإسلام وحقائق الإيمان)([66])
وقد عرفها هو بقوله:(الحكمة حكمتان علمية وعملية، فالعلمية الاطلاع على بواطن الأشياء ومعرفة ارتباط الأسباب بمسبباتها خلقا وأمرا قدرا وشرعا، والعلمية هي وضع الشيء في موضعه)
وقال القرطبي معلقا على الأقوال السابقة:(وهذه الأقوال كلها ـ ما عدا السدي والربيع والحسن ـ قريب بعضها من بعض، لأن الحكمة مصدر من الإحكام وهو الإتقان في قول أو فعل، فكل ما ذكر فهو نوع من الحكمة التي هي الجنس، فكتاب الله حكمة، وسنة نبيه حكمة، وكل ما ذكر من التفضيل فهو حكمة، وأصل الحكمة ما يمتنع به من السفه، فقيل للعلم حكمة، لأنه يمتنع به، وبه يعلم الامتناع من السفه وهو كل فعل قبيح، وكذا القرآن والعقل والفهم)([67])
والحكمة بذلك تعني ـ عنده ـ العلم، وإنما ذكر الحكمة مع كون العلم مغنيا عنها ـ كما يقول القرطبي (اعتناء بها، وتنبيها على شرفها وفضلها)
المقرونة بالكتاب: أكثر الأقوال في الحكمة المقترنة بالكتاب أنها (السنة)، قال الشافعي:(الحكمة سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو قول قتادة، قال أصحاب الشافعي:(والدليل عليه أنه تعالى ذكر تلاوة الكتاب أولاً وتعليمه ثانياً ثم عطف عليه الحكمة، فوجب أن يكون المراد من الحكمة شيئاً خارجاً عن الكتاب، وليس ذلك إلا سنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم)، وقيل هي القضاء بالوحي، قال ابن القيم:(وتفسيرها بالسنة أعم وأشهر)([68])
ولكن هذا قد يعارض بقوله تعالى مثلا في المسيح u: { وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ} (آل عمران:48)، وبقوله في إبراهيم u: { أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً} (النساء:54)
حقيقة الحكمة والعلوم المتفرعة عنها: انطلاقا مما سبق فإنا نرى أن المراد بالحكمة في أصلها الأول، وغايتها القصوى، هي الفهم عن الله، كما قال تعالى: { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} (الانبياء:79)
فقد جعل الله تعالى الفهم قرينا للعلم، وأخبر بأنه فهم سليمان u، وأن حكمه كان نتيجة للفهم لا لمجرد العلم.
وقد ضرب مثالا لذلك، فقال تعالى: { وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} (الانبياء:78)،
وقصة ذلك كما أوردها المفسرون([69]) أن غنما رجل دخلت حرث آخر، فعاثت فيه فسادا، فذهبا إلى داود u، فحكم أن يدفع الغنم إلى صاحب الحرث، فلما خرج الخصمان على سليمان u وكان يجلس على الباب الذي يخرج منه الخصوم، وكانوا يدخلون إلى داود من باب آخر فقال: بم قضى بينكما نبي الله داود؟ فقالا: قضى بالغنم لصاحب الحرث، فقال:(لعل الحكم غير هذا، انصرفا معي) فأتى أباه فقال:(يا نبي الله أنك حكمت بكذا وكذا وإني رأيت ما هو أرفق بالجميع)، قال: وما هو؟ قال:(ينبغي أن تدفع الغنم إلى صاحب الحرث فينتفع بألبانها وسمونها وأصوافها، وتدفع الحرث إلى صاحب الغنم ليقوم عليه، فإذا عاد الزرع إلى حال التي أصابته الغنم في السنة المقبلة، رد كل واحد منهما مال إلى صاحبه)، فقال داود u:(وفقت يا بني لا يقطع الله فهم)، وقضى بما قضى به سليمان u.
وهذا يدل على أن هناك أمران في كل مسألة:
1. الحكم الحرفي للمسألة، وهو ما ينص عليه عادة ظاهر الشريعة أو ظاهر القانون، وهو ما حكم به هنا داود u، حيث عوض صاحب الأرض قيمة ضرره، فكانت قيمتها هي غنم الآخر.
2. الحكم المقاصدي للمسألة، وهو الحكم الذي يراعي مصلحة الجانبين، فلا يتضرر أحدهما لينفع الآخر، وهو ما حاول سليمان u أن يصل إليه عبر ذلك الحكم، يقول سيد قطب معلقا على الموقفين جميعا:(لقد اتجه داود في حكمه إلى مجرد التعويض لصاحب الحرث، وهذا عدل فحسب، ولكن حكم سليمان تضمن مع العدل البناء والتعمير، وجعل العدل دافعا إلى البناء والتعمير، وهذا هو العدل الحي الإيجابي في صورته البانية الدافعة، وهو فتح من الله وإلهام يهبه من يشاء)([70])
انطلاقا من هذا نرى أن جميع ما أورده العلماء في تعريف الحكمة، وجميع ما وردت به النصوص يصب في هذا القول، زيادة على أن هذا يستلزم أنواعا من الوظائف يجب وجودها في الأمة لا يمكن دخولها إلا من هذا الباب.
وذلك لأن الفهم عن الله يقتضي توفر الأدوات اللازمة لهذا الفهم، وهذه الأدات هي التي تحقق هذه الوظيفة الخطيرة من وظائف الدين.
وهذه الأدوات حسبما نرى ثلاثة لا غنى عنها هي: العلم بمقاصد الشريعة، والعلم بأدوات فهم النصوص والاستنباط منها، والعلم بالأحكام العقلية، وكيفية تطبيقها.
وذلك لأن الغرض من الفهم هو استثمار العلم وتزكيته وتطبيقه واستعماله في الموضع اللائق به، ولا يكون ذلك إلا بتوفر العلوم الثلاثة السابقة.
فالعلم الأول يدلنا على فهم مراد الله، والعلم الثاني يدلنا على فهم كيفية تطبيق مراد الله، والعلم الثالث، وإن كان من العلوم الضرورية إلا أنه يقي عقولنا من الخروج عن الشرع الذي شرعه الله لفطرنا التي فطرنا عليها.
وبهذه العلوم الثلاثة يتبين لنا فضل الحكمة على العلم، كما سبق إيراد ما ذكر القرطبي في قوله تعالى: { يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (البقرة:269)من أنه يقال:(إن من أعطي الحكمة والقرآن فقد أعطي أفضل ما أعطي من جمع علم كتب الأولين من الصحف وغيرها، لأنه قال لأولئك: { وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} (الاسراء:85)، وسمى هذا خيرا كثيرا، لأن هذا هو جوامع الكلم)
وذلك لأن العلم محدود بجمله وتفاصيله، ولكن الفهم لا حدود له، لأن تزاوج مفردات العلوم ينتج علوما جديدة، وهكذا تتوالد العلوم لمن رزقه الله القدرة على الفهم والتحليل والاستنباط.
يقول الغزالي:(والمعارف إذا اجتمعت في القلب وازدوجت على ترتيب مخصوص أثمرت معرفة أخرى، فالمعرفة نتاج المعرفة. فإذا حصلت معرفة أخرى وازدوجت مع معرفة أخرى حصل من ذلك نتاج آخر. وهكذا يتمادى النتاج وتتمادى العلوم ويتمادى الفكر إلى غير نهاية، وإنما تنسدّ طريق زيادة المعارف بالموت. أو بالعوائق وهذا لمن يقدر على استثمار العلوم ويهتدي إلى طريق التفكير. وأما أكثر الناس فإنما منعوا الزيادة في العلوم لفقدهم رأس المال وهو المعارف التي بها تستثمر العلوم، كالذي لا بضاعة له فإنه لا يقدر على الربح، وقد يملك البضاعة ولكن لا يحسن صناعة التجارة فلا يربح شيئاً، فكذلك قد يكون معه من المعارف ما هو رأس مال العلوم ولكن ليس يحسن استعمالها وتأليفها وإيقاع الازدواج المفضي إلى النتاج فيها)([71])
وهذا الانتاج المتزايد المتنامي لثمرات الحكمة، لا يكون في أكمل صوره إلا لمن جمع مع الفهم وآلياته قلبا منورا بنور الذكر، كما قال الحسن:(إنّ أهل العقل لم يزالوا يعودون بالذكر على الفكر، وبالفكر على الذكر حتى استنطقوا قلوبهم فنطقت بالحكمة)
وسنشرح هنا بعض ما يحتاج إليه من هذه العلوم باعتبارها من الفروض اللازم وجودها في الأمة، بل من اللازم نشرها بين العامة والخاصة، وتربية أجيال الأمة عليها، لأنه من الأخطاء التي وقعت فيها المجتمعات الإسلامية الغرق فيما يسمى بالجزئية والحرفية نتيجة المبالغة في العلم، مع الابتعاد عن الحكمة التي هي ثمرة العلم وأساسه.
أساس الفهم ومنطلقه هو معرفة المقصد، فمن عرف مقصد المتكلم أو المشرع عرف كيف يقيس ما لم يذكر على ما ذكر، وعرف قبل ذلك كيف يطبق ما أمر به مع مراعاة مقاصده.
ففائدة فهم مقاصد الأحكام لها بذلك مظهران: عملي وعلمي.
مظهر عملي: بسببه كانت الحكمة خلقا من الأخلاق، بل رأسا من رؤوس الأخلاق وأصلا من أصولها، ولهذا يطلق العلماء على هذا النوع بـ (الحكمة العملية)، وقد عرفها ابن القيم انطلاقا من كلام الهروي بقوله:(أن تعطي كل شيء حقه، ولا تعديه حده، ولا تعجله عن وقته، ولا تؤخره عنه)([72])
ثم فصل هذا التعريف بقوله:(لما كانت الأشياء لها مراتب وحقوق تقتضيها شرعا وقدرا، ولها حدود ونهايات تصل إليها ولا تتعداها، ولها أوقات لا تتقدم عنها ولا تتأخر، كانت الحكمة مراعاة هذه الجهات الثلاثة بأن تعطي كل مرتبة حقها الذي أحقه الله لها بشرعه وقدره ولا تتعدى بها حدها فتكون متعديا مخالفا للحكمة، ولا تطلب تعجيلها عن وقتها فتخالف الحكمة ولا تؤخرها عنه فتفوتها)
ثم قال معمما هذا المعنى وممثلا له بما يقرب معناه:(وهذا حكم عام لجميع الأسباب مع مسبباتها شرعا وقدرا، فإضاعتها تعطيل للحكمة بمنزلة إضاعة البذر وسقي الأرض وتعدي الحق كسقيها فوق حاجتها بحيث يغرق البذر والزرع ويفسد وتعجيلها عن وقتها كحصاده قبل إدراكه وكماله، وكذلك ترك الغذاء والشراب واللباس إخلال بالحكمة وتعدي الحد المحتاج إليه خروج عنها أيضا وتعجيل ذلك قبل وقته إخلال بها وتأخيره عن وقته إخلال بها)([73])
وانطلاقا من هذا عرفها تعريفا آخر، قال فيه: (فالحكمة إذا فعل ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي)
وهذا المظهر العلمي بهذه الصفة لا يمكن تحقيقه إلا بتحقيق المظهر العملي، فالله لا يعبد بالجهل.
زيادة على هذا، فإن التحقيق العملي للأحكام الشرعية لا ينفذه حق التنفيذ إلا من فقه أسرار ومقاصد الشرع من ذلك الحكم، فمن عرف ـ مثلا ـ أن مقصد الشرع من الصلاة الذكر، والنهي عن الفحشاء والمنكر، كما قال تعالى: { وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } (العنكبوت:45) أقامها على حقيقتها، ولم يحتل على الله بأداء رسومها والغفلة عن حقيقتها.
ومن عرف أن مقصد الشرع من النهي عن قول أف للوالدين عرف أن المقصد ليس ذات الأف، وإنما كل ما يؤذيهما.
ولهذا، فإن العارف بمقاصد الشريعة المعايش لها تتجلى له من التفاصيل ما لا تتجلى للمستغرق في الحرفيية والرسوم، وهذا مظهر من مظاهر وفرة علم الحكيم، ولهذا عقب تعالى التفاصيل التي وردت في الوصايا الواردة في سورة الإسراء من قوله تعالى: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} (الاسراء:23) بقوله تعالى: { ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً} (الاسراء:39)
وسر ذلك، والله أعلم، أن تلك التفاصيل الواردة في تلك الوصايا من الحكمة ومن وجوه الاستنباط المقاصدي، فبر الوالدين ـ مثلا ـ ورد في القرآن الكريم مجملا، ولم يفصل بتلك التفاصيل إلا في ذلك الموضع، فقد ذكر جميع الأحوال المرتبطة بهما.
ومثل ذلك في الأمر بالإنفاق، فقد ورد في أكثر القرآن الكريم مطلقا، ولكنه في ذلك الموضع ورد مقيدا، قال تعالى: { وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} (الاسراء:29)
ومثل ذلك ما ورد من التفاصيل بعد ذكر إيتاء لقمان u الحكمة، فقد ذكر فيها من التفاصيل في كل موضع من المواضع ما يدل على مبلغ علم الحكيم، قال تعالى: { وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} (لقمان:12)
ففي هذه الآية وحدها تفاصيل حقيقة الشكر ومقصده وعلاقته بالله، وعلاقته بالعبد…
مظهر علمي: وهذا المظهر لا يعرف إلا من كليات الشريعة والنصوص، فمن عرفها عرف مقصد الشارع من التشريعات المختلفة، كما ذكرنا سابقا في مقاصد القرآن الكريم.
زيادة على ذلك، فإن النصوص الشرعية المعصومة من القرآن الكريم والسنة المطهرة نصت على أكثر المقاصد، بل لا تعرف المقاصد إلا منها.
ففي القرآن الكريم مثلا الإخبار بالمقصد الأصلي من خلق العباد، وهو أصل المقاصد، ومنه تتشعب جميع الأحكام، فقال تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذريات:56)، وقال تعالى: { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} (المؤمنون:115)
وفي القرآن الكريم إخبار بمقصد إنزال القرآن الكريم حتى لا تتخذ دراسته عملا، وأحكامه ثقافة وقصصه سمرا، فقال تعالى: { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} (الاسراء:9)، وقال تعالى: { ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} (البقرة:2)، وكما دلت على هذا أوصافه الكثيرة على من أنه نور وهدى، ومبارك، ومبين، وبشرى، وبشير ونذير، وغيرها.
وفي القرآن الكريم إخبار بمقاصد كثير من الأحكام، بل لا يكاد يذكر حكم إلا مختوما أو مسبوقا بالدلالة على مقاصده، فقد ذكر حكمة اعتزال النساء في المحيض وأنها دفع الأذى، وحكمة تشريع الحج وأنها تحصيل المنافع وذكر الله، وحكمة تشريع الزواج وأنها السكن والمودة والرحمة وإعمار الكون، وحكمة تشريع الصوم وأنها تحصيل التقوى، وحكمة منع الاقتراب من الزنا، وأنها فحشه وسوء سبيله ومفاسد مآله، وحكمة وجوب القتال وأنها دفع الظلم عن المسلمين والذب عن دينهم واستقلالهم ومنعتهم وغير ذلك.
ومن القرآن الكريم استنبط الفقهاء القواعد الفقهية المختلفة التي تصب في مقاصد الشرعية، مثل (المشقة تجلب التيسير)، و(الضرورات تبيح المحظورات)، و(الضرورة تقدر بقدرها) و(العادة محكمة)
ومثل ذلك السنة التي هي بيان للقرآن الكريم، فقد احتوت على التفاصيل الكثيرة المبينة لمراعاة الشارع للمقاصد، ودور السنة هنا هو التفصيل والتنفيذ، لأن أصول المقاصد منصوص عليها في القرآن الكريم، وهذا ما نبه إليه الشاطبي بقوله:(وذلك أن القرآن الكريم أتى بالتعريف بمصالح الدارين جلبا لها، والتعريف بمفاسدها دفعا لها… وإذا نظرنا إلى السنة وجدناها لا تزيد على تقرير هذه الأمور، فالكتاب أتى بها أصولا يرجع إليها، والسنة أتت بها تفريعا على الكتاب وبيانا لما فيه منها)
ونريد بها العلوم الآلية التي تمكن من فهم مراد الله، لأنه بدون الفهم لا يمكن التحقيق، ولا العمل.
وربما أقرب العلوم اهتماما بتحقيق هذا النوع من أنواع علوم الحكمة، هو علم أصول الفقه، فهو العلم الذي تخصص في البحث عن آليات التعامل مع النصوص والأحكام.
فلذلك كان وجوده فرضا لازما في الأمة، وكان من تعليم الحكمة تعليم هذا العلم للخاصة بتفاصيله الدقيقة، وللعامة بما يبصرهم من أن كل الأحكام، ولو تصوروا بعدها عن النصوص هي فرع من فروع النصوص.
وبسبب الجهل بهذا العلم تصور الكثير من العامة من أدعياء العلم أن الفقهاء خرجوا في أحكامهم وفتاواهم عن الكتاب والسنة، وأن آراءهم مجرد آراء لا علاقة لها بالشريعة، ولا يحل هذا الجهل المركب غير العلم بهذا العلم.
ونريد بها العلوم الآلية التي تمكن من الاستنتاج والعبور من القضية إلى جميع ما يتربت عليها، ويتولد عنها، لأن المتكلم أو المشرع لا يستطيع أن يفي في كلامه بكل التفاصيل، فيدع للعقل ميدانه للعبور من المذكور إلى غير المذكور.
وهذا النوع من العلم ضروري لا غنى عنه، وإليه الإشارة بكل الآيات القرآنية الداعية إلى إعمال العقل، والناهية عن مجاوزة أحكامه، وكل الآيات المرغبة في الفكر، والتدبر، والتذكر، ونحوها.
فالله تعالى يمدح العارفين به من أولي الألباب، ويصف موقفهم من الكون فيقول:(الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (آل عمران:191)
والقرآن الكريم يحثنا على تأمل المعاني الواردة في القصص حتى لا نخرج من مواضع العبرة إلى مواضع السمر، فقال تعالى: { وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (لأعراف:176)
ويحثنا إلى النظر في الأمثال بعين الاعتبار، فيقول تعالى: { لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (الحشر:21)
والقرآن الكريم يدعونا إلى تأمل ما نشاهده من تغيرات الطبيعة لنستدل بها على المصير، قال تعالى: { إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (يونس:24)
وكل هذه الأنظار تستدعي آليات معينة تنقل الإنسان من القضية أو المسألة أو محل النظر إلى ما ينطوي تحته من معان.
وقد عرف الغزالي الفكر، ومثل له بما يوضح معناه وما يحتاجه من آليات، فقال:(اعلم أنّ معنى الفكر هو إحضار معرفتين في القلب ليستثمر منهما معرفة ثالثة. ومثاله: أنّ من مال إلى العاجلة وآثر الحياة الدنيا وأراد أن يعرف أنّ الآخرة أولى بالإيثار من العاجلة فله طريقان:
أحدهما: أن يسمع من غيره أن الآخرة أولى بالإيثار من الدنيا، فيقلده ويصدّقه من غير بصيرة بحقيقة الأمر فيميل بعمله إلى إيثار الآخرة اعتماداً على مجّرد قوله، وهذا ما يسمى تقليداً ولا يسمى معرفة.
الثاني: أن يعرف أنّ الأبقى أولى بالإيثار، ثم يعرف أنّ الآخرة أبقى. فيحصل له من هاتين المعرفتين معرفة ثالثة وهو أن الآخرة أولى بالإيثار، ولا يمكن تحقق المعرفة بأنّ الآخرة أولى بالإيثار إلا بالمعرفتين السابقتين.
فإحضار المعرفتين السابقتين في القلب للتوصل به إلى المعرفة الثالثة يسمى تفكراً واعتباراً وتذكراً ونظراً وتأملاً وتدبراً)([74])
ثم بين وجه التغاير بين هذه المصطلحات، فقال:(أما التدبر والتأمل والتفكر: فعبارات مترادفة على معنى واحد ليس تحتها معان مختلفة. وأما اسم التذكر والاعتبار والنظر: فمختلفة المعاني وإن كان أصل المسمى واحد؛ كما أنّ اسم: الصارم، والمهند، والسيف؛ يتوارد على شيء واحد ولكن باعتبارات مختلفة.. فكذلك الاعتبار: ينطلق على إحضار المعرفتين من حيث إنه يعبر منهما إلى معرفة ثالثة، وإن لم يقع العبور ولم يمكن إلا الوقوف على المعرفتين فينطلق عليه اسم: التذكر، لا اسم: الاعتبار. وأما النظر والتفكر؛ فيقع عليه من حيث إن فيه طلب معرفة ثالثة، فمن ليس يطلب المعرفة الثالثة لا يسمى ناظراً، فكل متفكر فهو متذكر، وليس كل متذكر متفكراً. وفائدة التذكار تكرار المعارف على القلب لترسخ ولا تنمحي عن القلب. وفائدة التفكر: تكثير العلم واستجلاب معرفة ليست حاصلة. فهذا هو الفرق بـين التذكر والتفكر)([75])
ومع صراحة الأدلة على ضرورة استعمال العقل واعتباره الوسيلة الأساسية للاستنباط نرى من لم يقدر للعقل قدره، فيتصوره مناهضا للنصوص أو مناقضا لها.
مع أن القرآن الكريم يكاد يصرح بأن أحكام العقل دين كأحكام الشرع، قال تعالى: { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (الروم:30)،يقول الغزالي معقبا على هذه الآية: (فسمى العقل دينا)
ولكون أحكام العقل المجرد دينا، فإن التناقض بين أحكام العقل وأحكام الشرع مستحيل، بل إن أساس الشرع العقل (فهو كالأس والشرع كالبناء، ولن يغني أ س ما لم يكن بناء، ولن يثبت بناء ما لم يكن أ س)
والغزالي يسمي الشرع ـ بسبب مراعاته الضرورية للأحكام العقلية ـ عقلا، فالشرع عقل من الخارج، والعقل شرع من داخل،وهما متعاضدان بل متحدان.
و بسبب هذا الاتحاد بين أحكام العقل وأحكام الشرع،فإن تمجيد العقل تمجيد للشرع، وإعماله أعمال للشرع، ونبذه نبذ للشرع،لأن كليهما من وضع الله U.
ولا يهمنا بعد هذا، اسم الآلية التي نعرف بها أحكام العقل، ولا واضعها، كما لا يهمنا أن نعرف مصدر الدواء الشافي ولا واضعه، إذا تحقق المقصد منه.
ولهذا، فإن العلم الذي عنى بأحكام العقل، وهو المنطق ـ مع قصوره عن بلوغ المراد منه ـ لا حرج في الاستفادة منه، بل نرى رجلا كالغزالي ينتصر للمنطق، ويعتبره غير غريب عن الإسلام أو الفكر الإسلامي، وليس دخيلا مع الفلسفة كما يتصور البعض، يقول الغزالي:(ولكن المنطق ليس مخصوصا بهم [أي بالفلاسفة]،وإنما هو الأصل الذي نسميه في فن الكلام (كتاب النظر)،وقد نسميه (كتاب الجدل)، وقد نسميه(مدارك العقول)؛فإذا سمع المتكايس المستضعف اسم (المنطق) ظن أنه فن غريب لا يعرفه المتكلمون، ولا يطلع عليه إلا الفلاسفة)
ولهذا فإن الغزالي ألف في المنطق مجموعة كتب، وأدخل المنطق كتمهيدات لبعض العلوم كعلم الأصول،فقد كان يقدم له قبل الغزالي بمقدمات كلامية كتأسيس فكري لقضايا أصول الفقه وربطها بأصول الدين،فرأى الغزالي أن الأولى ربطها بالمنطق لحاجة علم الأصول لقضايا المنطق،يقول الغزالي عن مقدمة المستصفى: (وليست هذه المقدمة من جملة علم الأصول ولا من مقدماته الخاصة به،بل هي مقدمة العلوم كلها،ومن لا يحيط بها،فلا ثقة بعلومه أصلا)،وقد بدأ بهذا الاهتمام بالمنطق عند الغزالي عهد جديد للثقافة الإسلامية،امتزجت فيه بقضايا وأساليب المناطقة.
ولا نريد هنا أن نقحم المنطق في العلوم الشرعية، ولكنا نريد ان ندعو إلى أسلمة هذه العلم، وإفادة الأجيال به، فهو علم ضروري لا غنى عنه.
وقد حاول الغزالي أن يضع منطقا جديدا في كتابه (القسطاس المستقيم)، ومع أن تلك الموازين التي وضعها الغزالي مطابقة للموازين المنطقية اليونانية إلا أن للغزالي أهدافا أخرى وراء تلك الصياغة الجديدة لعلم المنطق لعل أهمها تقريب المنطق والاحتجاج له بالأمثلة من القرآن الكريم لصنفين من الناس:
1. الذين استهوتهم الفلسفة بما فيها من علوم عقلية،فخلطوا بين حقها وباطلها،وظنوا التناقض بين العلوم النقلية والأحكام العقلية.
2. العلماء النصيين الذين رفضوا المنطق باعتباره فلسفة وعلما غريبين عن الدين.
ولا يتصور التغاير في هذا الجانب أيضا بين الحكمة العلمية والحكمة العملية، فآليات أحكام العقل لا بد أن تهدي من استنار بها إلى طريق الله وسبيله لا محالة.
وقد ذكر الغزالي مثالا على تأثير أحكام العقل في تغير الحال، والترقي في مقامات السلوك، فقال:(إن أردت أن تفهم كيفية تغير الحال بالفكر فمثاله ما ذكرناه من أمر الآخرة، فإنّ الفكر فيه يعرّفنا أنّ الآخرة أولى بالإيثار، فإذا رسخت هذه المعرفة يقيناً في قلوبنا تغيرت القلوب إلى الرغبة في الآخرة والزهد في الدنيا. وهذا ما عنيناه بالحال، إذ كان حال القلب قبل هذه المعرفة حب العاجلة والميل إليها، والنفرة عن الآخرة وقلة الرغبة فيها.
وبهذه المعرفة تغير حال القلب وتبدلت إرادته ورغبته. ثم أثمر تغير الإرادة أعمال الجوارح في طراح الدنيا والإقبال على أعمال الآخرة)([76])
وقد ذكر لهذا العبور من المعرفة العقلية المجردة إلى الحال خمس درجات:
1. التذكر وهو إحضار المعرفتين في القلب.
2. التفكر وهو طلب المعرفة المقصودة منهما.
3. حصول المعرفة المطلوبة واستنارة القلب بها.
4. تغير حال القلب عما كان بسبب حصول نور المعرفة.
5. خدمة الجوارح للقلب بحسب ما يتجدّد له من الحال.
وشبه ذلك بمن (يضرب الحجر على الحديد فيخرج منه نار يستضيء بها الموضع فتصير العين مبصرة بعد أن لم تكن مبصرة وتنتهض الأعضاء للعمل، فكذلك زناد نور المعرفة هوالفكر فيجمع بـين المعرفتين كما يجمع بـين الحجر والحديد، ويؤلف بـينهما تأليفاً مخصوصاً كما يضرب الحجر على الحديد ضرباً مخصوصاً، فينبعث نور المعرفة كما تنبعث النار من الحديد، ويتغير القلب بسبب هذا النور حتى يميل إلى ما يكن يميل إليه كما يتغير البصر بنور النار فيرى ما لم يكن يراه. ثم تنتهض الأعضاء للعمل بمقتضى حال القلب كما ينتهض العاجز عن العمل بسبب الظلمة للعمل عند إدراك البصر ما لم يكن يبصره)([77])
وهي العلوم المرتبطة بالسلوك سواء كان سلوكا ظاهريا، أو سلوكا باطنيا، وهي من العلوم الواجبة، لارتباطها بتطبيق مراد الله من خلقه.
وللتعرف على أنواع العلوم المندرجة في هذا النوع نسوق الخلاف الذي أورده الغزالي حول أنواع العلوم المفروضة، فقد ذكر أن العلماء اختلفوا في ذلك إلى أكثر من عشرين فرقة، (فقال المتكلمون: هو علم الكلام، إذ به يدرك التوحيد ويعلم ذات الله سبحانه وصفاته، وقال الفقهاء: هو علم الفقه إذ به تعرف العبادات والحلال والحرام وما يحرم من المعاملات وما يحل، وعنوا به ما يحتاج إليه الآحاد دون الوقائع النادرة، وقال المفسرون والمحدّثون: هو علم الكتاب والسنَّة، إذ بهما يتوصل إلى العلوم كلها. وقال المتصوّفة: المراد به هذا العلم، فقال بعضهم: هو علم العبد بحاله ومقامه من الله عز وجل. وقال بعضهم: هو العلم بالإخلاص وآفات النفوس وتميـيز لمة الملك من لمة الشيطان. وقال بعضهم: هو علم الباطن، وذلك يجب على أقوام مخصوصين هم أهل ذلك وصرفوا اللفظ عن عمومه. وقال أبو طالب المكي: هو العلم بما يتضمنه الحديث الذي فيه مباني الإسلام.. لأن الواجب هذه الخمس فيجب العلم بكيفية العمل فيها وبكيفية الوجوب)([78])
وهذه العلوم المذكورة لا تعدو ثلاثة علوم:
1. علم التوحيد أو العقيدة أو الإيمان، أو الأحكام العقلية
2. علم الفقه أوالأحكام العملية.
3. علم التصوف أو السلوك أو الإحسان، أو الأحكام الوجدانية.
أما ما ذكر المفسرون والمحدثون وغيرهم، فهي مصادر هذه العلوم، لا أنها المقصودة بذاتها.
وقد تحدثنا عما يتعلق بهذه العلوم في المحال المختلفة من هذا الكتاب، ولذلك نكتفي بالتعريف بها هنا، وقد نحتاج إلى التفصيل فيها إذا اقتضت الضرورة ذلك.
ونقصد بهذا النوع من أنواع العلوم العلوم التي تهدف إلى تنظيم حياة الناس على هذه الأرض، وتيسير مرافقها.
وهي بذلك أقرب إلى كونها سياسات وصنائع منها إلى كونها علوما قائمة بذاتها، بحكم التطور الكبير الذي يحصل فيها، والذي يحيل ما قبلها تخلفا أوجهلا.
ولهذا النوع ناحيتان لكل منهما وجهته وضوابطه:
وهي الناحية التي تتأسس عليها السياسية أو الصناعة، لأن لكل منهما أسسا علمية تقوم عليها، فالطب ـ مثلا ـ يقوم على العلم بمكونات جسم الإنسان ووظائفها والعلل التي تعتريها واسبابها، فكل هذه العلوم علوم محضة، وهي من هذه الناحية تدخل فيما ذكرناه من معرفة أفعال الله، ولهذا ورد ذكر كثير مما يتعلق بهذا في القرآن الكريم كآية من آيات الله، أو كنعم من نعمه.
وقد قال الغزالي في بيان نسبة هذه العلوم للقرآن الكريم:(ثم هذه العلوم ما عددناها وما لم نعدها ليست أوائلها خارجة عن القرآن، فان جميعها مغترفة من بحر واحد من بحار معرفة الله تعالى وهو بحر الأفعال، وقد ذكرنا أنه بحر لا ساحل له، وأن البحر لو كان مدادا لكلماته لنفد البحر قبل أن تنفد، فمن أفعال الله تعالى ـ وهو بحر الأفعال ـ مثلا الشفاء والمرض كما قال الله تعالى عن ابراهيم u: { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} (الشعراء:80)، وهذا الفعل الواحد لا يعرفه الا من عرف الطب بكماله، إذ لا معنى للطب الا معرفة المرض بكماله وعلاماته، ومعرفة الشفاء وأسبابه)([79])
وضرب مثالا آخر عن ذلك بعلم الفلك، وهو ـ فيما نرى ـ علم محض إلا إذا هدف من ورائه إلى تحقيق مصلحة من المصالح، فقال:(ومن افعاله تبارك وتعالى تقدير معرفة الشمس والقمر ومنازلهما بحسبان وقد قال الله تعالى: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} (الرحمن:5)، وقال تعالى: { هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} (يونس:5)، وقال تعالى: {)وَخَسَفَ الْقَمَرُ} (القيامة:8)، وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (الحج:61)، وقال تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (يّـس:38)، ولا يعرف حقيقة سير الشمس والقمر بحسبان وخسوفهما وولوج الليل في النهار وكيفية تكور أحدهما على الآخر الا من عرف هيئات تركيب السموات والأرض وهو علم برأسه)([80])
وضرب مثالا آخر عن ذلك بقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} (الانفطار:6 ـ 8)، فلا يعرف مراد هذه الآية (إلا من عرف تشريح الأعضاء من الانسان ظاهرا وباطنا وعددها وأنواعها وحكمتها ومنافعها، وقد أشار في القرآن في مواضع اليها)
بل إن الغزالي بنور بصيرته الإيمانية يذكر بأن العلوم لا تنحصر في علوم عصره، ويتنبأ بعلوم كثيرة ستظهر للوجود، كلها تغترف من بحار أفعال الله، فيقول:(بل أقول ظهر لنا بالبصيرة الواضحة التي لا يتمارى فيها أن في الامكان والقوة أصنافا من العلوم بعد لم تخرج من الوجود، وإن كان في قوة الآدمي الوصول اليها، وعلوم كانت قد خرجت الى الوجود واندرست الآن فلن يوجد في هذه الأعصار على بسيط الأرض من يعرفها، وعلوم أخر ليس في قوة البشر أصلا ادراكها والإحاطة بها)([81])
فالنواحي النظرية لما سميناه بالصناعات يدخل في علوم الكتاب من هذه الناحية، ولا غرابة في هذا، بل إن الكمال في اعتبارها كذلك.
وهذا الذي ذكرناه يرفع عن هذه الأنواع من العلوم جفافها الذي نراه، بل يجيب عن أكثر التساؤات التي تحير العلماء، بل يجعل الكون بصورة أكثر جمالا من الصورة التي ترسمها هذه العلوم، وهي بعيدة عن الله بعيدة عن هدي الكتاب.
وقد بين النورسي مدى الفوائد التي تجنى من هذه العلوم إذا ما استنارت بنور الله، وبهدي الإيمان، فيقول:(العلوم التي تبحث في حقيقة الموجودات – كالفيزياء والكيمياء والنبات والحيوان.. ـ هذه العلوم التي هي (حكمة الاشياء) يمكن ان تكون حكمة حقيقية بمشاهدة التجليات الكبرى لاسم الله (الحكيم) جل جلاله في الاشياء، وهي تجليات تدبير، وتربية، ورعاية. وبرؤية هذه التجليات في منافع الاشياء ومصالحها تصبح تلك الحكمة حكمة حقاً، أي باستنادها الى ذلك الاسم (الحكيم) والى ذلك الظهير تصبح حكمة فعلاً، وإلاّ فإما أنها تنقلب الى خرافات وتصبح عبثاً لا طائل من ورائها أو تفتح سبيلاً الى الضلالة، كما هو الحال في الفلسفة الطبيعية المادية..)
ويذكر علة مهمة لذلك غابت عن العلوم الحديثة، فأغرقتها في الجزئية، وأبعدتها عن جمال الوحدة والتناسق والكمال، فقال:(إن نظر النبوة والتوحيد والايمان يرى الحقائق في نور الالوهية والآخرة ووحدة الكون لأنه متوجه اليها، أما العلم التجريبي والفلسفة الحديثة فانه يرى الامور من زاوية الاسباب المادية الكثيرة والطبيعة لأنه متوجه اليها، فالمسافة اذن بين زاويتي النظر بعيدة جداً. فرب غاية عظيمة جليلة لدى اهل الفلسفة تافهة وصغيرة لا تكاد ترى بين مقاصد علماء اصول الدين وعلم الكلام. ولهذا فقد تقدم اهل العلم التجريبي كثيراً في معرفة خواص الموجودات وتفاصيلها واوصافها الدقيقة في حين تخلفوا كثيراً حتى عن ابسط المؤمنين وأقلهم علماً في مجال العلم الحقيقي وهو العلوم الإلهية السامية والمعارف الاخروية)
وانطلاقا من هذا نقترح أسلمة لهذه العلوم، بربطها بمصدرها الأول وحقيقتها الكبرى.
وهي الناحية الثانية من نواحي العلوم السياسية والصناعية، وهي أهم الناحيتين بالنسبة لمصالح الإنسان المادية، والقرآن الكريم يشير إلى هذه الناحية، ولا يستنكرها، بل يعتبرها من تمكين الإنسان في الأرض، قال تعالى: { إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً} (الكهف:84)
زيادة على هذا، فقد نوه القرآن الكريم بأنواع الصناعات، وقد كانت محتقرة في الجاهلية لا يقوم بها إلا العبيد أوعامة الناس وبسطاؤهم:
فذكر صناعة الحديد، ونوه بها، وذكر اشتغال الأنبياء والصالحين بها، فقال تعالى: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً} (الكهف:96)، وقال تعالى: { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} (سـبأ:10)، بل قرن بإنزال الحديد إنزال الكتاب، فقال تعالى: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحديد:25)
وذكر الصناعات النسيجية وأنواعها وأغرضاها، فقال تعالى: { وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ} (النحل:80)
وذكر ما يرتبط بالعمران من أعمال، فقال تعالى: { وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (لأعراف:74)
وذكر الصناعات المرتبطة بالنقل، فقال تعالى: { وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} (النحل:8)، وقال تعالى: { وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} (هود:37)، وقال تعالى: { وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} (المؤمنون:22)، وقال تعالى: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (الروم:46)، وقال تعالى: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} (لقمان:31)
وذكر الصناعات البحرية، فقال تعالى: { وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (النحل:14)، وقال تعالى: {)رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} (الاسراء:66)
بل إن القرآن الكريم دعانا إلى بذل كل الجهود لتحصيل جميع أنواع القوى، ويدخل فيها هذا النوع من أنواع القوى، قوة الصناعة والسياسة، فقال تعالى: { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} (لأنفال:60)
والقرآن الكريم لا ينهانا عن هذه العلوم بذاتها، وإنما ينهانا على ما تفرزه في الإنسان من قيم الطغيان حين يبتدئ فيها باسم أهوائه لا باسم الله، ولهذا قال تعالى حاكيا قول هود u: { وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} (هود:52) فهو لم يخبرهم بأن نتيجة إيمانهم بالله زوال قوتهم التي كانوا يحرصون على الظهور بها، بل أخبر عن زيادة قوتهم.
بل أخبر القرآن الكريم أن القوة التي لا تستضيء بهدي الله مصيرها الهلاك المحتم، ولذلك يدعونا إلى السير في الأرض للبحث عن مصير الحضارات العظيمة التي لم يبق منها إلا فلول آثار تدل على مدى طغيانها، قال تعالى: { أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (الروم:9)، وقال تعالى: { أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} (فاطر:44)، وقال تعالى: { أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} (غافر:21)، وقال تعالى: { وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ} (محمد:13)
وذلك لأن أخطر ما تنفخه الصناعة في عقول أصحابها ذلك الاغترار بالقوة، والذي حجبهم عن الله، قال تعالى: { فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ} (فصلت:15)
بعد تعرفنا على أهمية العلم وأنواع العلوم التي تحتاج الشخصية السوية لتعلمها نحاول في هذا المبحث أن نبحث عن مواصفات طلب العلم، كما يريدها الإسلام، لا كما يريد فرضها المنحلون.
فكما أن للإسلام نظرته الكلية لما ينبغي أن يدرس من العلم، فإن له كذلك منهجه في تحصيل ذلك العلم، والآداب التي تحمي ذلك المنهج من أن يخرج به عما أريد منه.
وغرضنا من هذا المبحث أن يزرع المربي فيمن يربيه هذه المواصفات، لأنه لا يمكن لطالب العلم أن يحصل العلم أو يستفيد منه أو يفيد إلا بعد تحصيلها.
وأول ما نستشفه من إشارات القرآن الكريم إلى هذا الجانب ما قصه علينا من قصة الخضر مع موسى u، فهي قصة لها دلالاتها الكثيرة على آداب الطلب ومنهجه، ولهذا اهتم بها العلماء اهتماما شديدا، واعتبروها نموذجا عن آداب الطلب.
فقد مثل موسى u في تلك القصة دور طالب العلم البارع الذي توفرت فيه جميع خصائص الطلب ومواصفاته، فلذلك نال مراده، وحصل ما كان يبغيه، وفهم من حكمة الله في كونه ما زاده طمأنينة ورضا.
ويمكننا من خلال القصة أن نستخلص ثلاث مواصفات كبرى اتصف بها موسى u، وكأن الله تعالى أراد من خلالها أن يجعلها موضع قدوة لنا لتستقى مواصفات طالب العلم من خلالها.
وهذه المواصفات هي:
ويشير إليه من قصة موسى u مع الخضر كل ما حكاه الله تعالى من القصة من مبتدئها إلى منتهاها، فكلها تشير إلى مدى إخلاص موسى u وصدقه، حتى إنكاره على الخضر u لم يكن له من مصدر غير إخلاصه وصدقه.
وقد ورد في السنة ما يبين عمقا آخر من أعماق إخلاصه، وهو غايته التي قصد الخضر u من أجلها، فقد ورد في الحديث أن موسى u بينما كان في ملأ من بني إسرائيل، إذ جاءه رجل فقال: هل تعلم أحداً أعلم منك؟ قال موسى u يخبره عما يعلمه:(لا)، فأوحى الله إلى موسى u:(بلى عبدنا خضر)، فسأل موسى u السبيل إليه فجعل الله له الحوت آية([82])، فقد كانت رحلته بسبب طلبه علم ما لم يعلمه.
ولن نتحدث هنا عن أمر الشرع بالإخلاص، فهو من المعلوم بالدين بالضرورة، وإنما نتحدث عن بعض ثمار الإخلاص، والتي تفرق العلم بمفهومه الشرعي عن العلم بمفهومه المادي.
ونريد به تجرد طالب العلم للعلم، بحيث لا يبتغي من علمه أي عوض من جاه أو مال أو دنيا أو مناصب أو غير ذلك مما قد يستخدم العلم شبكة لتحصيله.
لأن امتلاء قلب طالب العلم بالعوض، وتعلق همته بها يصرفه عن علمه، بل يجعله كالمحتال الذي يتزين بصنوف الحيل ليحقق مراده.
ويشير إلى هذه الثمرة قوله تعالى: { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} (لأعراف:169)، فقد أخبر الله تعالى أن هم هؤلاء الخلف هو هذا العرض الزهيد من عرض الدنيا.
ويشير إليها قوله تعالى وهو يحكي ابتزاز علماء أهل الكتاب لأموال الناس: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ((التوبة:34)
ويشير إليها قوله تعالى، وهو يحكي نبأ الذي انسلخ من آيات الله: { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (لأعراف:175 ـ 176)
وأول نتيجة لهذا الركون للدنيا هو بيع آيات الله بأي ثمن، قال تعالى مخاطبا بني إسرائيل ومن في حكمهم: { وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} (البقرة:41)
ويخبر عن تحريفهم الكتاب من أجل هذا الثمن القليل، قال تعالى: { فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} (البقرة:79)
ويخبر عن كتمانهم الكتاب ـ وهو وجه من وجوه التحريف ـ من أجل هذا الثمن القليل، قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (البقرة:174)، وقال تعالى: { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} (آل عمران:187)
ولذلك يذكر الغزالي من أول مواصفات علماء الآخرة، إدراكهم لحقارة الدنيا بجانب ما أوتوا من العلم، يقول الغزالي:(إن أقل درجات العالم أن يدرك حقارة الدنيا وخستها وكدورتها وانصرامها وعظم الآخرة ودوامها وصفاء نعيمها وجلالة ملكها ويعلم أنهما متضادتان، وأنهما كالضرتين مهما أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى، وأنهما ككفتي الميزان مهما رجحت إحداهما خفت الأخرى، وأنهما كالمشرق والمغرب مهما قربت من أحدهما بعدت عن الآخر، وأنهما كقدحين أحدهما مملوء والآخر فارغ فبقدر ما تصب منه في الآخر حتى يمتلىء يفرغ الآخر. فإن من لا يعرف حقارة الدنيا وكدورتها وامتزاج لذاتها بألمها ثم انصرام ما يصفو منها فهو فاسد العقل. فإن المشاهدة والتجربة ترشد إلى ذلك فكيف يكون من العلماء من لا عقل له؟ ومن لا يعلم عظم أمر الآخرة ودوامها فهو كافر مسلوب الإيمان فكيف يكون من العلماء من لا إيمان له ومن لا يعلم مضادة الدنيا للآخرة وأن الجمع بـينهما طمع في غير مطمع؟ فهو جاهل بشرائع الأنبـياء كلهم، بل هو كافر بالقرآن كله من أوّله إلى آخره، فكيف يعدّ من زمرة العلماء؟ ومن علم هذا كله ثم لم يؤثر الآخرة على الدنيا فهو أسير الشيطان قد أهلكته شهوته وغلبت عليه شقوته فكيف يعد من حزب العلماء من هذه درجته؟)([83])
وليس في هذا الكلام أي وجه للاعتراض، لأن الدنيا المرادة هنا هي الدنيا التي تكون موضع طموح لصاحبها، بحيث تجعله يغير من ووظيفته التي خلق لها، وهي عبادة الله إلى خدمة وجوده القصير المحدود في هذه الدنيا.
وقد جاء في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة)([84])، وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(من تعلم العلم ليباهي به العلماء أو ليماري به السفهاء أو يصرف به وجوه الناس إليه فهو في النار)([85])
وقد ورد في أخبار الأنبياء النهي الشديد عن هذا السلوك:
ففي الحديث عنه صلى الله عليه وآله وسلم:(أنزل الله في بعض كتابه وأوحى إلى بعض أنبيائه: قل للذين يتفقهون بغير الدين ويتعلمون لغير العلم ويطلبون الدنيا بعمل الآخرة ويلبسون لباس مسوك([86]) الكباش وقلوبهم قلوب الذئاب ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم أمر من الصبر، إياي يخدعون أو بي يستهزؤون فبي حلفت لأتيحن لهم فتنة تذر الحليم فيهم حيران)([87])
وفي أخبار داود u أنه مما اوحى الله تعالى إليه:(إن أدنى ما أصنع بالعالم إذا آثر شهوته على محبتي أن أحرمه لذيذ مناجاتي، يا داود لا تسأل عني عالماً قد أسكرته الدنيا فيصدك عن طريق محبتي أولئك قطاع الطريق على عبادي، يا داود، إذا رأيت لي طالباً فكن له خادماً؛ يا داود من رد إليَّ هارباً كتبته جهبذاً ومن كتبته جهبذاً لم أعذبه أبداً)
ويروى أن رجلاً كان يخدم موسى u فجعل يقول: حدّثني موسى صفي الله، حدّثني موسى نجي الله، حدثني موسى كليم الله، حتى أثرى وكثر ماله، ففقده موسى u فجعل يسأل عنه ولا يحس له خبراً حتى جاءه رجل ذات يوم وفي يده خنزير وفي عنقه حبل أسود، فقال له موسى u: أتعرف فلاناً؟ قال: نعم. هو هذا الخنزير، فقال موسى u: يا رب أسألك أن ترده إلى حاله حتى أسأله بم أصابه هذا؟ فأوحى الله عز وجل إليه: لو دعوتني بالذي دعاني به آدم فمن دونه ما أجبتك فيه، ولكن أخبرك لم صنعت هذا به؟ لأنه كان يطلب الدنيا بالدين.
ويروى عن عيسى u قوله:(كيف يكون من أهل العلم من مسيره إلى آخرته وهو مقبل على طريق دنياه وكيف يكون من أهل العلم من يطلب الكلام ليخبر به لا ليعمل به؟)
وقال مالك بن دينار: قرأت في بعض الكتب السالفة أن الله تعالى يقول:(إن أهون ما أصنع بالعالم إذا أحب الدنيا أن أخرج حلاوة مناجاتي من قلبه)
وهو نتيجة حتمية لما سبق، لأن من فرغ قلبه من أهوائه عمره بما يقتضيه العلم من العمل الصالح.
ويشير إلى هذا الركن من أركان الإخلاص في طلب العلم النصوص الكثيرة كقوله تعالى مؤنبا بني إسرائيل: { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} (البقرة:44)، فقد عاتبهم على نسيانهم لأنفسهم مع كونهم يتلون الكتاب.
بل شبههم في آية أخرى بالحمار الذي يحمل أسفارا، قال تعالى: { مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (الجمعة:5)
ويعاتب المؤمنين الذي يخالف قولهم فعلهم، فيقول تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} (الصف:2)، ثم يبين لهم عظم عند الله تعالى، فيقول: { كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} (الصف:3)
وفي السنة نجد الأحاديث الكثيرة على اعتبار العمل الصالح هو أول ثمرة من ثمار العلم النافع:
فقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يقول في دعائه:(اللهم غني أعوذ بك من نفس لا تشبع ومن علم لا ينفع)([88])
وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم أنه (يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه([89]) فيدور بها كما يدور الحمار في الرحى فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا فلان ما شأنك أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: كنت آمركم بالخير ولا آتيه وأنهاكم عن الشر وآتيه)([90])، وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(كل علم وباله على صاحبه إلا من عمل به)([91]) وفي رواية مرفوعا:(أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه)
وضرب صلى الله عليه وآله وسلم للذي لا يعمل بعلمه مثلا، فقال:(مثل الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه كمثل الفتيلة تضيء على الناس وتحرق هي نفسها)([92])
وقد وردت الروايات الكثيرة تحذر مما سيحصل للأمة من انفصال العلم عن العمل، قال حذيفة:(إنكم في زمان من ترك فيه عشر ما يعلم هلك، وسيأتي زمان من عمل فيه بعشر ما يعلم نجا وذلك لكثرة البطالين)، وقال ابن مسعود:(سيأتي على الناس زمان تملح فيه عذوبة القلوب فلا ينتفع بالعلم يومئذٍ عالمه ولا متعلمه فتكون قلوب علمائهم مثل السباخ من ذوات الملح ينزل عليها قطر السماء فلا يوجد لها عذوبة، وذلك إذا مالت قلوب العلماء إلى حب الدنيا وإيثارها على الآخرة، فعند ذلك يسلبها الله تعالى ينابـيع الحكمة ويطفىء مصابـيح الهدى من قلوبهم فيخبرك عالمهم حين تلقاه أنه يخشى الله بلسانه والفجور ظاهر في عمله، فما أخصب الألسن يومئذٍ وما أجدب القلوب فوالله الذي لا إلٰه إلا هو ما ذلك إلا لأن المعلمين علموا لغير الله تعالى والمتعلمين تعلموا لغير الله تعالى. وفي التوراة والإنجيل مكتوب: لا تطلبوا علم ما لم تعلموا حتى تعملوا بما علمتم)
وهو الثمرة الثالثة من ثمرات الإخلاص، لأن من حسنت نيته في طلب العلم، وجعل قصده من طلب العلم العمل به ونفع الخلق لم يته في بوادي العلم الذي لا ينفع، ولم يته في مستنقعات الجدل.
وقد اعتبر الغزالي هذا علامة من علامات علماء الآخرة، فقال:(ومنها: أن تكون عنايته بتحصيل العلم النافع في الآخرة المرغب في الطاعات مجتنباً للعلوم التي يقل نفعها ويكثر فيها الجدال والقيل والقال)
وضرب مثالا لذلك، فقال:(فمثال من يعرض عن علم الأعمال ويشتغل بالجدال مثل رجل مريض به علل كثيرة وقد صادف طبـيباً حاذقاً في وقت ضيق يخشى فواته فاشتغل بالسؤال عن خاصية العقاقير والأدوية وغرائب الطب وترك مهمه الذي هو مؤاخذ به، وذلك محض السفه)
وفي هذا الموضع يحسن ذكر قصة حاتم الأصم مع شيخه شقيق البلخي ففيها عبر عظيمة في هذا الباب، فقد روي عن حاتم الأصم ـ تلميذ شقيق البلخي ـ أنه قال له شقيق: منذ كم صحبتني؟ قال حاتم: منذ ثلاث وثلاثين سنة، قال: فما تعلمت مني في هذه المدّة؟ قال: ثماني مسائل، قال شقيق له: إنا لله وإنا إليه راجعون ذهب عمري معك ولم تتعلم إلا ثماني مسائل؟ قال: يا أستاذ لم أتعلم غيرها، وإني لا أحب أن أكذب، فقال:(هات هذه الثماني مسائل حتى أسمعها)
قال حاتم:(نظرت إلى هذا الخلق فرأيت كل واحد يحب محبوباً فهو مع محبوبه إلى القبر، فإذا وصل إلى القبر فارقه فجعلت الحسنات محبوبـي، فإذا دخلت القبر دخل محبوبـي معي. فقال: أحسنت يا حاتم فما الثانية؟
فقال: نظرت في قول الله تعالى: { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} (النازعـات:40 ـ 41)، فعلمت أنّ قوله سبحانه وتعالى هو الحق فأجهدت نفسي في دفع الهوى حتى استقرّت على طاعة الله تعالى.
الثالثة: أني نظرت إلى هذا الخلق فرأيت كل من معه شيء له قيمة ومقدار رفعه وحفظه، ثم نظرت إلى قول الله عز وجل: { مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ }(النحل:96)، فكلما وقع معي شيء له قيمة ومقدار وجهته إلى الله ليبقى عنده محفوظاً.
الرابعة: أني نظرت إلى هذا الخلق فرأيت كل واحد منهم يرجع إلى المال وإلى الحسب والشرف والنسب، فنظرت فيها فإذا هي لا شيء ثم نظرت إلى قول الله تعالى: { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ }(الحجرات:13) فعملت في التقوى حتى أكون عند الله كريماً.
الخامسة: أني نظرت إلى هذا الخلق وهم يطعن بعضهم في بعض ويلعن بعضهم بعضاً وأصل هذا كله الحسد، ثم نظرت إلى قول الله عز وجل: { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا }(الزخرف:32) فتركت الحسد واجتنبت الخلق وعلمت أن القسمة من عند الله سبحانه وتعالى فتركت عداوة الخلق عني.
السادسة: نظرت إلى هذا الخلق يبغي بعضهم على بعض ويقاتل بعضهم بعضاً فرجعت إلى قول الله عز وجل: { إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً } (فاطر:6)، فعاديته وحده واجتهدت في أخذ حذري منه لأن الله تعالى شهد عليه أنه عدوّ لي فتركت عداوة الخلق غيره.
السابعة: نظرت إلى هذا الخلق فرأيت كل واحد منهم هذه الكسرة فيذل فيها نفسه ويدخل فيما لا يحل له، ثم نظرت إلى قوله تعالى: { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا}(هود:6)، فعلمت أني واحد من هذه الدواب التي على الله رزقها، فاشتغلت بما لله تعالى علي وتركت مالي عنده.
الثامنة: نظرت إلى هذا الخلق فرأيتهم كلهم متوكلين على مخلوق، هذا على ضيعته، وهذا على تجارته، وهذا على صناعته، وهذا على صحة بدنه، وكل مخلوق متوكل على مخلوق مثله، فرجعت إلى قوله تعالى: { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}(الطلاق:3) فتوكلت على الله عز وجل فهو حسبـي.
قال شقيق:(يا حاتم وفقك الله تعالى فإني نظرت في علوم التوراة والإنجيل والزبور والفرقان العظيم فوجدت جميع أنواع الخير والديانة وهي تدور على هذا الثمان مسائل، فمن استعملها فقد استعمل الكتب الأربعة)
ولا ينبغي أن يفهم من هذا النص تحقير العلم، بل إن فيه الحظ على العمل، ومن أعظم الأعمال ـ كما ذكرنا في مقدمة هذا الفصل ـ طلب العلم.
في مقابل هذه النماذج الطاهرة من طلبة العلم نجد في عصرنا طلبة العلم منشغلين بكثير من الأمور نرى أنها ـ ولو كانت مباحة في أصلها ـ إلا أن وقت طالب العم أغلى من أن يضيعه فيها.
وهي ذلك العناء الذي يعانيه طالب العلم، وهو يجتهد في التحصيل والمراجعة والمذاكرة، لأنه بدون ذلك لن يحصل العلم.
ويشير إليه من قصة موسى مع الخضر u ما قطعه موسى في الرحلة لطلب الأستاذ، حتى أنه قال: { لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً} (الكهف:60) فقد أعلن تصميمه في المضي في رحلة البحث مهما امتد به الزمن.
قال الخطيب البغدادي:(قال بعض أهل العلم، إن فيما عاناه موسى من الدأب والسفر والصبر عليه من التواضع والخضوع للخضر، بعد معاناة قصده، مع محل موسى من الله وموضعه من كرامته وشرف نبوته -دلالة على ارتفاع قدر العلم، وعلو منزلة أهله، وحسن التواضع لمن يُلتمس منه ويؤخذ عنه ولو ارتفع عن التواضع لمخلوق أحد بارتفاع درجة وسمو منزلة – لسبق إلى ذلك موسى، فلما أظهر الجد والاجتهاد والانزعاج عن العطن، والحرص على الاستفادة مع الاعتراف بالحاجة إلى أن يصل من العلم ما هو غائب عنه دل على أنه ليس في الخلق من يعلو على هذه الحال ولا يكبر عنها)([93])
ولهذا اتفق العلماء على أنه لن يبلغ أحد درجات أهل العلم حتى يقطع العلائق الشاغلة والعوائق المانعة، كما قال الشافعي:(لا يطلب أحد العلم بالملك وعز النفس فيفلح، ولكن من طلبه ببذل النفس وضيق العيش وخدمة العلماء أفلح)، ونقل عن الخطيب البغدادي قوله:(لا ينال هذا العلم إلا من عطل دًكانه، وخَرّب بستانه وهجر إخوانه ومات أقرب أهله فلم يشهد جنازته)، وقد قيل:(العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك)، وعن أبي مطيع معاوية بن يحيى قال:(أوحى الله تعالى إلى داود u أن اتخذ نعلين من حديد وعصى من حديد واطلب العلم حتى تنكسر العصا وتنخرق النعلان)([94])
وسنكتفي هنا بالحديث على جانبين أساسيين يتحقق بهما صدق المجاهدة في طلب العلم، هما:
والفرص هنا تشمل أوقات الفراغ والعطل ونحوها، والتي نرى التهاون في استغلالها بحجة الراحة والاستجمام، وكأن العلم مشقة وتعب يحتاج فيه إلى الراحة.
إذا كان يؤذيك حر المصيف ويبس الخريف وبرد الشتا
ويلهيك حسن زمان الربيع فأخذُك للعلم قل لي متى؟
ويدخل في هذا الباب اغتنام فرصة الصغر والشباب باعتبارها فترة الفراغ والنشاط، وقد ورد في الأثر:(مثل الذي يتعلم العلم في صغره كالنقش على الحجر ومثل الذي يتعلم العلم في كبره كالذي يكتب على الماء)
ومع أن الشريعة لم تحدد سِناً معيناً لتلقي العلم، ومثل ذلك لم يحدد المربون المسلمون سنا لبداية التعليم([95])، بل ترك الآباء أحرارا في تعليم أبنائهم، ولم يُقَيَدوا بسنٍ معينة لإرسال أبنائهم إلى الكتاب أو أماكن التعليم، ولم تَفـْرض الدولة على الآباء تعليم أبنائهم، ولكن الآباء اهتموا بذلك لأن التعليم فرضا من الفروض التي فرضها الإسلام وحث عليها.
وقد أدرك المربون المسلمون بوضوح أن التبكير في طلب العلم له فائدة كبيرة، وعظيم جدوى لنشاط الجسم وصفاء الذهن ولهذا آثروا أن يكون طالب العلم شابا وأن يكون عازبا، فاستحبوا التغريب عن الأهل والبعد عن الوطن تفرغا لواجبات العلم.
وكان من نتائج إقبال الطلاب على حلقات التعليم وهم في سن مبكرة أن حذقوا قسطا كبيرا من العلوم، ووصلوا إلى مراكز علمية مرموقة، وهم في مطلع الشباب ومقتبل العمر.
ومن الأمثلة التي حفظها التاريخ على ذلك أن تاج الدين الكندي حفظ القراءات العشر وله عشرة أعوام، وحفظ الإمام الشافعي القرآن الكريم وهو ابن سبع سنين، وحفظ الموطأ وهو ابن إحدى عشرة سنة، وكان يقال له وهو ابن خمس عشرة سنة:(افـْتِ يا أبا عبد الله فقد آن لك والله أن تـُفـتي)
ولا يزال الواقع الإسلامي يبرز في كل حين النماذج الكثيرة على نضوج الصغار، وكل ذلك بسبب اهتمام الأولياء ورعايتهم.
ولكن هذا لا يعني إحجام الكبير عن طلب العلم، بل العلم عبادة، والعبادة مطلوبة في الصغر والكبر، وقد قال تعالى: { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (الحجر:99)
وقد حكي أن بعض الحكماء رأى شيخا كبيرا يحب النظر في العلم ويستحي فقال له:(يا هذا أتستحي أن تكون في آخر عمرك أفضل مما كنت في أوله)
وذكر أن إبراهيم بن المهدي دخل على المأمون وعنده جماعة يتكلمون في الفقه فقال: يا عم ما عندك فيما يقول هؤلاء: فقال: يا أمير المؤمنين شغلونا في الصغر واشتغلنا في الكبر. فقال: لم لا نتعلمه اليوم؟ قال: أو يحسن بمثلي طلب العلم؟ قال: نعم. والله لأن تموت طالبا للعلم خير من أن تعيش قانعا بالجهل. قال: وإلى متى يحسن بي طلب العلم؟ قال: ما حسنت بك الحياة ؛ ولأن الصغير أعذر وإن لم يكن في الجهل عذر ؛ لأنه لم تطل به مدة التفريط ولا استمرت عليه أيام الإهمال.
وقد قيل في منثور الحكم: جهل الصغير معذور، وعلمه محقور، فأما الكبير فالجهل به أقبح، ونقصه عليه أفضح ؛ لأن علو السن إذا لم يكسبه فضلا ولم يفده علما وكانت أيامه في الجهل ماضية، ومن الفضل خالية، كان الصغير أفضل منه ؛ لأن الرجاء له أكثر، والأمل فيه أظهر، وحسبك نقصا في رجل يكون الصغير المساوي له في الجهل أفضل منه.
وهو المظهر الثاني من مظاهر صدق المجاهدة في طلب العلم، لأن من أبرز علامات الصدق الاستمرار، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم:(أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل)([96])
وهذا هو دأب العلماء الفحول، قد روى صالح بن أحمد بن حنبل، قال: رأى رجل مع أبي محبرةً، فقال له: يا أبا عبد الله، أنت قد بلغت هذا المبلغ، وأنت إمام المسلمين؟ يعني: ومعك المحبرة تحملها؟! فقال:(مع المحبرة إلى المقبرة)([97])
وقال محمد بن إسماعيل الصائغ: كنت في إحدى سفراتي ببغداد، فمر بنا أحمد بن حنبل وهو يعدو، ونعلاه في يده، فأخذ أبي هكذا بمجامع ثوبه، فقال: يا أبا عبد الله، ألا تستحي؟ إلى متى تعدو مع هؤلاء الصبيان؟ قال:(إلى الموت)([98])
ومن أبرز علامات الاستمرار إكمال مراحل التعليم المختلفة، لأنه لا يصدق تحقق العلم إلا بإكمالها.
وتنقسم مراحل التعليم في عصرنا في أغلب الدول إلى أربعة أقسام هي:
1. التعليم الابتدائي.
2. التعليم الثانوي.
3. التعليم الجامعي.
4. البحث والدراسات العليا.
وهذه المراحل نفسها ـ تقريبا ـ هي المراحل التي كان معمولا بها في المنهج التعليمي في المجتمع الإسلامي مع فارق بسيط ومهم، وهو خضوع هذه المراحل في المنهج الإسلامي للطاقات المختلفة لا لما تعرضه المدارس الحديثة من قوانين قد ينصرف الكثير بموجبها في أول مراحل تعليميهم.
يقول الدكتور أحمد شلبي في كتابه (تاريخ التربية الإسلامية):(ومما يدعو للدهشة أن هذه المراحل الأربعة كانت موجودة ومتميزة في العصور الوسطى عند المسلمين)
ويذكر في تأييد ذلك ما كتبه ابن خلدون في المقدمة عن ضرورة التدرج في تلقين العلوم للمتعلم، حيث أن نظرية ابن خلدون عن مراحل التعليم عند المسلمين تقوم على أن تلقين العلوم إنما يكون مفيدا إذا كان التدرج شيئا فشيئا وقليلاً قليلاً، بحيث يلقي عليه المدرس:
أولا: مسائل من كل باب من الفن هي أصول ذلك الباب، ثم يشرحها له على سبيل الإجمال مراعيا قوة عقله واستعداده.
ثانيا: يرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها ويستوفي الشرح والبيان ويخرج عن الإجمال إلى أن ينتهي إلى آخر الفن فتجود مَـلـَكَتِهِ.
ثالثا: ثم يرجع به وقد شدا فلا يترك عويصا ولا مغلقا إلا وضحه وفتح له مُقفلُه فيصل إلى المرحلة الرابعة وقد استولى على مَلَكَتِهِ في هذا الفن.
على أن المسلمين عرفوا في الواقع ما يشبه هذه المراحل التعليمية الثلاث، فقد وجد التعليم الابتدائي في الكتاب، حيث كان التلاميذ يتلقون مبادئ عامة يسيرة، وأما التعليم الذي يشبه التعليم في المرحلة الجامعية فقد وجد في دكاكين الوراقين ومنازل العلماء والصالونات الأدبية، أما المسجد فقد وجدت فيه المرحلتان الثانية والثالثة، إذ كان يعقد فيه حلقات يختلف مستواها، فمنها ما هو إلى الإجمال والوضوح أمْـيَل وهذه أقرب إلى التعليم الثانوي، ومنها ما هو أرفع مستوى وأكثر عمقا وهو ما يشبه التعليم الجامعي.
أما المرحلة الرابعة مرحلة الأبحاث والدراسات العليا فقد عرفها المسلمون دون شك، ومن أبرز الشواهد عليها ما كان في بيت الحكمة، حيث كانت مدرسة للبحث التجريبي المستند إلى الملاحظة والتجربة، وأنها كانت مزيجا (جامعة، دار كتب، ومكتب ترجمة)([99])
وهو الوصف الثالث من أوصاف طالب العلم المسلم، وهو من أهم الأوصاف، فقد اهتم النظام التعليمي الإسلامي بهذه الناحية اهتماما شديدا، فالعلم لا ينال إلا بالأدب.
ونرى في قصة موسى والخضر ـ عليهما السلام ـ الكثير من مظاهر أدب موسى باعتباره طالب علم مع أستاذه الخضر.
ويكفي في ذلك الأسلوب الذي خاطبه به عندما لقيه، فقال: { هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدا ً}(الكهف:66)، ففيها كثير من وجوه الأدب.
وقد ذكر الفخر الرازي من تحليله للآية، وموقف موسى u فيها، كثيرا من الآداب التي ينبغي على طالب العلم الحقيقي أن يراعيها، قال:(اعلم أن هذه الآيات تدل على أن موسى u راعى أنواعاً كثيرة من الأدب واللطف عندما أراد أن يتعلم من الخضر)، ومما ذكره من الآداب([100]):
1. أنه جعل نفسه تبعاً له لأنه قال: { هَلْ أَتَّبِعُكَ }
2. أنه استأذن في إثبات هذا التبعية، فإنه قال هل تأذن لي أن أجعل نفسي تبعاً لك، وهذا مبالغة عظيمة في التواضع.
3. أنه قال: { عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ } وهذا إقرار له على نفسه بالجهل وعلى أستاذه بالعلم.
4. أنه قال: { تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ } وصيغة من للتبعيض فطلب منه تعليم بعض ما علمه الله، وهذا أيضاً مشعر بالتواضع كأنه يقول له لا أطلب منك أن تجعلني مساوياً في العلم لك، بل أطلب منك أن تعطيني جزأً من أجزاء علمك، كما يطلب الفقير من الغني أن يدفع إليه جزأً من أجزاء ماله.
5. أن قوله: { مِمَّا عُلّمْتَ } اعتراف بأن الله علمه ذلك العلم.
6. أن قوله: { رَشَدًا } طلب منه للإرشاد والهداية والإرشاد هو الأمر الذي لو لم يحصل لحصلت الغواية والضلال.
7. أن قوله: { تُعَلّمَنِ مِمَّا عُلّمْتَ } معناه أنه طلب منه أن يعامله بمثل ما عامله الله به وفيه إشعار بأنه يكون إنعامك علي عند هذا التعليم شبيهاً بإنعام الله تعالى عليك في هذا التعليم ولهذا المعنى قيل أنا عبد من تعلمت منه حرفاً.
8. أن المتابعة عبارة عن الإتيان بمثل فعل الغير لأجل كونه فعلاً لذلك الغير، فإنا إذا قلنا: لا إله إلا الله فاليهود الذين كانوا قبلنا كانوا يذكرون هذه الكلمة فلا يجب كوننا متبعين لهم في ذكر هذه الكلمة، لأنا لا نقول هذه الكلمة لأجل أنهم قالوها بل إنما نقولها لقيام الدليل على أنه يجب ذكرها، أما إذا أتينا بهذه الصلوات الخمس على موافقة فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإنما أتينا بها لأجل أنه صلى الله عليه وآله وسلم أتى بها لا جرم كنا متابعين في فعل هذه الصلوات لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إذا ثبت هذا فنقول قوله: {هَلْ أَتَّبِعُكَ } يدل على أنه يأتي بمثل أفعال ذلك الأستاذ لمجرد كون ذلك الأستاذ آتياً بها. وهذا يدل على أن المتعلم يجب عليه في أول الأمر التسليم وترك المنازعة والاعتراض.
9. أن قوله: { ٱتَّبَعَكَ } يدل على طلب متابعته مطلقاً في جميع الأمور غير مقيد بشيء دون شيء.
10. أنه ثبت بالإخبار أن الخضر عرف أولاً أنه نبي بني إسرائيل وأنه هو موسى صاحب التوراة وهو الرجل الذي كلمه الله عز وجل من غير واسطة وخصه بالمعجزات القاهرة الباهرة، ثم إنه u مع هذه المناصب الرفيعة والدرجات العالية الشريفة أتى بهذه الأنواع الكثيرة من التواضع وذلك يدل على كونه u آتياً في طلب العلم بأعظم أنواع المبالغة وهذا هو اللائق به لأن كل من كانت إحاطته بالعلوم أكثر كان علمه بما فيها من البهجة والسعادة أكثر فكان طلبه لها أشد وكان تعظيمه لأرباب العلم أكمل وأشد.
11. أنه قال: { هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن } فأثبت كونه تبعاً له أولاً ثم طلب ثانياً أن يعلمه وهذا منه ابتداء بالخدمة ثم في المرتبة الثانية طلب منه التعليم.
12. أنه قال: { هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن } فلم يطلب على تلك المتابعة على التعليم شيئاً كان قال لا أطلب منك على هذه المتابعة المال والجاه ولا غرض لي إلا طلب العلم.
وقد تحدث علماء التربية الإسلامية عن كثير من آداب أهل العلم، وخصوها بالمصنفات، فذكروا:
1. آداب المتعلم مع نفسه.
2. آدابه مع شيوخه وأساتذته.
3. آدابه مع أقرانه.
4. آدابه في حلقات العلم.
5. آداب المتعلم مع الكتب والمكتبات (أدوات العلم).
ولن نتحدث هنا عن تفاصيل ما ذكر من آداب، ولكنا نشير إشارات عامة إلى بعضها، والتي يمكن اسثمار المربي لها ليحقق فيمن يربيه مواصفات طالب العلم المسلم.
فمن آداب طالب العلم أن يحترم معلمه ويعظمه ويتأدب بين يديه، وإلى ذلك الإشارة بقوله صلى الله عليه وآله وسلم:(تعلموا العلم وتعلموا للعلم السكينة والوقار وتواضعوا لمن تعلمون منه)([101])
ومن آداب طالب العلم (أن لا يدخل على أستاذه في غير المجلس العام بغير إذنه سواء كان الشيخ وحده أو معه غيره، فإن استأذن ولم يؤذن له انصرف، ولا يكرر الاستئذان فإن لم يعلم الأستاذ يكرر الاستئذان ثلاثا أو يطرق الباب طرقا خفيفا ثلاثا بقدر ما يسمع، وأن يجتهد على أن يسبق في الحضور إلى المجلس قبل حضور الشيخ، ولا يتأخر بحيث يجعل الشيخ في انتظاره، وإذا حضر ولم يجد الشيخ انتظره حتى لا يفوت على نفسه درسه، وإن كان الشيخ نائما صبر حتى يستيقظ)
ومن الآداب (أن لا يسار في مجلسه ولو في مسألة ولا يغمز أحدا ولا يكثر كلامه بغير ضرورة، ولا يحكي ما يُضْحِك أو ما يتضمن سوء أدب، ولا يتكلم بما لم يسأله شيخه عنه، ولا يضحك من دون الشيخ، وإن غلبه الضحك تبسم بغير صوت، ولا يغتاب أحدا في مجلسه، وأن يخص الشيخ بالتحية وإن كانت له حاجة سبق القوم إلى خدمته، ولا يمل من طول صحبته، وإنما هو كالنخلة تنتظر حتى يسقط عليك منها منفعة)
ومن الآداب (أن يُحسن خطابه مع الشيخ بقدر الإمكان ولا يقول له (لـِمَ) و(لا) ولا (نـُسَـلـِّم) ولا (من نَقَلَ هذا)….. وإذا سمع الشيخ يذكر حكما في مسألة أو فائدة مستغربة أو يحكي حكاية أو ينشد شعرا وهو يحفظ ذلك أصغى إليه إصغاء مستفيد في الحال متعطشا إليه فرح به وكأنه لم يسمعه قط)، قال عطاء: إني لأسمع الحديث من الرجل،وأنا أعلم به منه، فأريه من نفسي أني لا أحسن منه شيئا، وعنه قال: إن الشاب ليتحدث بحديث فأسمع له كأني لم أسمعه ولقد سمعته قبل أن يولد.
ومن الآداب (أن يتأدب مع حاضري مجلس شيخه فإنه أدب معه وهم رفقاؤه، ولا يجلس في وسط الحلقة ولا قدام أحد إلا لضرورة، ولا يفرق بين اثنين ولا بين متصاحبين إلا بإذنها، وإن أساء بعض الطلبة لا يتدخل ويترك الأمر للشيخ ويقدم النصيحة لهما سراً)
ومن الآداب (أن يحرص على تحصيل الكتب التي يحتاج إليها شراءً أو إجارةً أو إعارة لأنها آلة تحصيل العلم، ولا يجعل تحصيلها وجمعها هدفاً ونصيباً له من الفهم، بل لا بد من الوعي بما فيها)
ومن الآداب أن يكون طالب العلم متوثّباً للأعالي متشوّقاً للمعالي، كلما أدرك منزلة طمح لما بعدها، ولا يردد ما قال الأول:(كم ترك الأول للآخر؟) ولكن بقول ما قال ابن مالك في التسهيل:(وإذا كانت العلوم مِنَحاً إلهية، ومواهب اختصاصية، فغير مستبعد أن يُدخر لبعض المتأخرين ما عسر على كثير من المتقدمين. أعاذنا الله من حسد يسد باب الإنصاف، ويصد عن جميل الأوصاف)
ومن أهم الآداب وأرفعها ـ وما جعلناه خاتمة لهذا الجزء ـ تقديم تقوى الله تعالى والخشوع بين يديه، فقد وصف الله تعالى أهل العلم في القرآن الكريم بأنهم يسجدون لله ويخشعون ويبكون حين يسمعون آياته، قال تعالى: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً }(الاسراء: 107 ـ 109)
قال عبد الأعلى التيمي:(من أوتي من العلم ما لا يبكيه لخليق أن لا يكون أوتي علماً ينفعه، لأن الله تعالىنعت العلماء، ثم قرأ الآيات السابقة)
وقد وصف الله تعالى العلماء بانهم أهل خشية، فقال تعالى: { إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ }[فاطر: 28].
ووصفهم بأنهم يحذرون عذابه ويرجون رحمته، قال تعالى: { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ } [الزمر: 9].
وعن أبي الدرداء قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فشخص ببصره إلى السماء، ثم قال:(هذا أوان يُخْتَلَسُ العلم من الناس، حتى لا يقدروا منه على شيء)، فقال زياد بن لبيد الأنصاري: يا رسول الله، وكيف يُخْتَلَسُ منا وقد قرأنا القرآن؟ فوالله لنقرأنه ولنقرئه نساءنا وأبناءنا، فقال:(ثكلتك أمك يا زياد، إن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة، هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا يغني عنهم؟)
قال جبير: فلقيت عبادة بن الصامت، قال: قلت: ألا تسمع ما يقول أخوك أبو الدرداء، فأخبرته بالذي قال، قال: صدق أبو الدرداء، إن شئت أخبرتك بأول علم يرفع من الناس: الخشوع، يوشك أن تدخل مسجد الجماعة فلا ترى فيه رجلاً خاشعاً)
ولهذا كانوا يقولون:(ليس العلم بكثرة الرواية، إنما العلم خشية الله)، وكان مالك يقول:(العلم والحكمة نور يهدي به الله من يشاء، وليس بكثرة المسائل)، وقال:(إن حقّاً على من طلب العلم أن يكون له وقار وسكينة وخشية، وأن يكون متبعاً لأثر من مضى قبله)
وقيل لسعد بن إبراهيم: من أفقه أهل المدينة؟ قال:(أتقاهم لربه)
([1]) رواه الطبراني في معاجيمه الثلاثة.
([2]) رواه الطبراني في الأوسط، والبزار بإسناد حسن.
([3]) رواه الطبراني في الأوسط قال البيهقي: ورويناه صحيحاً من قول مطرف بن عبد اللَّه بن الشخير ثم ذكره.
([4]) رواه الدارقطني والبيهقي.
([5]) رواه ابن ماجه بإسناد حسن.
([6]) رواه ابن ماجه بإسناد حسن.
([7]) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
([8]) رواه البخاري ومسلم وابن ماجه.
([9]) رواه الطبراني في الكبير.
([10]) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والبيهقي.
([11]) رواه أبو نعيم.
([12]) رواه أحمد والطبراني بإسناد جيد واللفظ له، وابن حبان في صحيحه، والحاكم وقال: صحيح الإسناد، وروى ابن ماجه نحوه باختصار.
([13]) رواه الطبراني في الأوسط.
([14]) رواه الطبراني في الكبير.
([15]) رواه البزار والطبراني في الأوسط.
([16]) رواه مسلم وغيره.
([17]) رواه ابن ماجه بإسناد حسن والبيهقي، ورواه ابن خزيمة في صحيحه.
([18]) رواه ابن عبد البر في كتاب العلم.
([19]) هذا حديث يأجوج ومأجوج، رواه ابن جرير، عن حذيفة بن اليمان.
([20]) هناك اختلاف كبير في الفرق بين العلم والمعرفة، اشار الفخر الرازي إلى مجامعه، فذكر الأقوال التالية:
1. المعرفة إدراك الجزئيات والعلم إدراك الكليات.
2. المعرفة التصور والعلم هو التصديق وهؤلاء جعلوا العرفان أعظم درجة من العلم قالوا لأن تصديقنا باستناد هذه المحسوسات إلى موجود واجب الوجود أمر معلوم بالضرورة فأما تصور حقيقته فأمر فوق الطاقة البشرية ولأن الشيء ما لم يعرف وجوده فلا تطلب ماهيته فعلى هذا الطريق كل عارف عالم وليس كل عالم عارفاً ولذلك فإن الرجل لا يسمى بالعارف إلا إذا توغل في ميادين العلم وترقى من مطالعها إلى مقاطعها ومن مباديها إلى غياتها بحسب الطاقة البشرية وفي الحقيقة فإن أحداً من البشر لا يعرف الله تعالى لأن الاطلاع على كنه هويته وسر ألوهيته محال.
3. من أدرك شيئاً وانحفظ أثره في نفسه ثم أدرك ذلك الشيء ثانياً وعرف أن هذا المدرك الذي أدركه ثانياً هو الذي أدركه أولاً فهذا هو المعرفة فيقال: عرفت هذا الرجل وهو فلان الذي كنت رأيته وقت كذا. انظر: الفخر الرازي: 3/396.
([21]) مدراج السالكين: 3/337.
([22]) كما قال صلى الله عليه وآله وسلم:( سلوا الله علما نافعا، وتعوذوا بالله من علم لا ينفع )، (ابن ماجة والبيهقي عن جابر)، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يقول في دعائه:( اللهم إني أسألك علما نافعا وعملا متقبلا ) الطبراني في الأوسط عن جابر، وكان يقول:( اللهم انفعني بما علمتني، وعلمني ما ينفعني ) الطبراني في الأوسط عن أنس.
([23]) ونحن نعجب أن يرد الخلاف في هذه المسألة مع صراحة الأدلة فيها، وقد ذكر النووي الخلاف فيها، فقال:( ويمتنع من كان لا يرجى إسلامه لم يجز تعليمه القرآن؟ قال أصحابنا إن كان لا يرجى إسلامه لم يجز تعليمه، وإن رجي إسلامة فوجهان: أصحهما يجوز رجاء إسلامه، والثاني لا يجوز كما لا يجوز بيع المصحف منه وان رجي إسلامه، وأما إذا رأيناه يتعلم فهل يمنع؟ فيه وجهان )
([24]) رواه البخاري.
([25]) رواه النسائي.
([26]) معالم في الطريق:
([27]) رواه أبو يعلى.
([28]) رواه البخاري.
([29]) رواه مسلم.
([30]) رواه البخاري.
([31]) رواه البخاري.
([32]) رواه الترمذي، وقال حديث حسن صحيح.
([33]) رواه البخاري ومسلم.
([34]) رواه الترمذي وقال حديث حسن.
([35]) رواه أبو داود.
([36]) المقدمة: 1/546.
([37]) المقدمة: 1/546.
([38]) المقدمة: 1/546.
([39]) رواه مسلم وابن ماجة.
([40]) رواه النسائي وابن ماجه.
([41]) رواه مسلم.
([42]) أما ما روى ابن أبي داود عن الضحاك بن عبد الرحمن بن عرزب: أنه أنكر هذه الدراسة، وقال ما رأيت ولا سمعت، وقد أدركت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يعني ما رأيت أحدأ فعلها.
ومثل ذلك ما روي عن وهب قال: قلت لمالك أرأيت القوم يجتمعون فيقرءون جميعا سورة واحدة حتى يختموها؟ فأنكر ذلك وعابه، وقال: ليس هكذا تضيع الناس إنما كان يقرأ الرجل على الآخر يعرضة.
فقد رد النووي على ذلك، فقال:( فهذا الانكار منهما مخالف لما عليه السلف والخلف، ولما يقتضية الدليل، فهو متروك، والاعتماد على ما تقدم من استحابها ) التبيان في آداب حملة القرآن: 52.
([43]) التبيان في آداب حملة القرآن: 52.
([44]) التبيان في آداب حملة القرآن: 52.
([45]) المحلى: 1/83.
([46]) رواه أبو داود، والنسائي، والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
([47]) المحلى: 1/83.
([48]) من ذلك ما روي عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:( لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن ) رواه أبو داود، والترمذي. وقال: يرويه إسماعيل بن عياش عن نافع، وقد ضعف، البخاري روايته عن أهل الحجاز، وقال: إنما روايته عن أهل الشام.
([49]) اختلف العلماء في مس المصحف على غير وضوء، فالجمهور على المنع من مسه لحديث عمرو بن حزم. وهو مذهب علي وابن مسعود وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وعطاء والزهري والنخعي والحكم وحماد، وجماعة من الفقهاء منهم مالك والشافعي. واختلفت الرواية عن أبي حنيفة، فروي عنه أنه يمسه المحدث، وقد روي هذا عن جماعة من السلف منهم ابن عباس والشعبي وغيرهما. وروي عنه أنه يمس ظاهره وحواشيه وما لا مكتوب فيه، وأما الكتاب فلا يمسه إلا طاهر.
([50]) المحلى: 1/81.
([51]) المحلى: 1/83.
([52]) المحلى: 1/79.
([53]) رواه أحمد .
([54]) جواهر القرآن: 36.
([55]) إحياء علوم الدين: 1/17.
([56]) إحياء علوم الدين: 1/17.
([57]) جواهر القرآن: 21.
([58]) إحياء علوم الدين: 1/251.
([59]) جواهر القرآن: 23.
([60]) إحياء علوم الدين: 4/434.
([61]) إحياء علوم الدين: 4/435.
([62]) جواهر القرآن: 28.
([63]) خلافا للعلم، فقد ذكر في مواضع الثناء والذم جميعا، كما سبق ذكره.
([64]) القرطبي: 3/330.
([65]) الفخر الرازي: 3/396.
([66]) مدارج السالكين: 2/478.
([67]) القرطبي: 3/330.
([68]) مدارج السالكين: 2/472.
([69]) قال معناه ابن مسعود ومجاهد وغيرهما.
([70]) في ظلال القرآن: 2390.
([71]) إحياء علوم الدين: 4/426.
([72]) مدارج السالكين: 2/472.
([73]) مدارج السالكين: 2/472.
([74]) إحياء علوم الدين: 4/426.
([75]) إحياء علوم الدين: 4/426.
([76]) إحياء علوم الدين: 4/426.
([77]) إحياء علوم الدين: 4/427.
([78]) إحياء علوم الدين: 1/14.
([79]) جواهر القرآن: 45.
([80]) جواهر القرآن: 46.
([81]) جواهر القرآن: 47.
([82]) رواه البخاري ومسلم.
([83]) إحياء علوم الدين: 1/60.
([84]) رواه أحمد وأبو داود والبيهقي والحاكم وابن ماجة .
([85]) رواه الطبراني في الأوسط ، والدارقطني في الأفراد، وسعيد بن منصور عن أنس.
([86]) مسوك: المسك: الجلد، والجمع مسوك مثل فلس وفلوس. المصباح المنير 2/787.
([87]) أبو سعيد النقاش في معجمه، وابن النجار – عن أبي الدرداء.
([88]) مسلم وغيره.
([89]) أقتابه: الأقتاب: الأمعاء، واحدها: قتب بالكسر، وقيل: هي جمع قتب، وقتب جمع، وهي المعي. النهاية (4/11)
([90]) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
([91]) رواه الطبراني.
([92]) رواه البزار وغيره.
([93]) الرحلة، ص107.
([94]) الرحلة في طلب الحديث: 86.
([95]) انظر: بحثا مهما بعنوان: المعلم والمتعلم في التربية الإسلامية، إعداد: موجه التربية الإسلامية: عماد صالح إبراهيم محمد، خاص لموقع الدراسات والبحوث.
([96]) رواه البيهقي.
([97]) مناقب الإمام أحمد، لابن الجوزي، ص 31.
([98]) مناقب الإمام أحمد، لابن الجوزي، ص 32.
([99]) انظر: المعلم والمتعلم في التربية الإسلامية، إعداد: موجه التربية الإسلامية: عماد صالح إبراهيم محمد، خاص لموقع الدراسات والبحوث.
([100]) تفسير الرازي: 21/485.
([101]) رواه الطبراني في الأوسط وابن عدي.