الفصل الثاني: حق الأولاد في النسب

نتناول في هذا الفصل الحديث عن أهم حق من حقوق الأولاد، وهو حق الولد في الانتساب لوالديه، وذلك لأن كل ما يتعلق بالأولاد من حقوق مادية ومعنوية مرتبط بهذا الحق.
من خلال كلام الفقهاء في الشروط التي يثبت بها النسب يمكن تصنيفها لشرطين تدخل فيهما جميع الفروع المتعلقة بشروط ثبوت النسب، وهذان الشرطان تقتضيهما القسمة العقلية، فالحمل له إثبات واقعي يدل عليه الواقع ويشهد له الحس، وإثبات شرعي وهو اعتبار ما اعتبره الشرع منه، ونفي ما نفاه، وتفصيل هذين الشرطين، وما يتعلق بهما من أحكام فيما يلي:
الشرط الأول: ثبوت النسب من الناحية الواقعية
من الشروط التي يمكن وضعها لثبوت النسب من الناحية الواقعية:
1 ـ عدم تجاوز المدة الشرعية للحمل
والتحقق من هذا الشرط يقتضي التعرف على فترة الحمل بطرفيها الأدنى والأقصى، وذلك كما يلي:
اتفق الفقهاء على أن أدنى مدة للحمل هي ستة أشهر، فلذلك من ولدت امرأته عقيب نكاحه لها، لدون ستة أشهر من حين تزوجها، فلا يلحق به، لليقين بأنها علقت به قبل أن يتزوجها([1])، ومن الأدلة على ذلك:
1 ـ قوله تعالى:{ وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا } (لقمان:15)فأخبر تعالى أن مدة الحمل والفطام ثلاثون شهرا وأخبر في آية البقرة أن مدة تمام الرضاع حولين كاملين فعلم أن الباقي يصلح مدة للحمل وهو ستة أشهر.
2 ـ قوله تعالى:{ اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ}(الرعد:8)،قال ابن عباس (وما تغيض الأرحام ما تنقص عن تسعة أشهر وما تزداد وما تزيد عليها)، ووافقه على هذا أصحابه كمجاهد وسعيد بن جبير([2]).
3 ـ الآثار الواردة عن الصحابة فقد روي أن عمر أتي بامرأة قد ولدت لستة أشهر فهم عمر برجمها فبلغ ذلك عليا فقال: ليس عليها رجم فبلغ ذلك عمر فأرسل إليه فسأله فقال: { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } (البقرة:233)، وقال: { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا }(لقمان:15) فستة أشهر حمله وحولان تمام الرضاعة لا حد عليهما فخلى عنها.
4 ـ عن ابن عباس أنه كان يقول إذا ولدت المرأة لتسعة أشهر كفاها من الرضاع أحد وعشرون شهرا وإذا وضعت لسبعة أشهر كفاها من الرضاع ثلاثة وعشرون شهرا وإذا وضعت لستة أشهر كفاها من الرضاع أربعة وعشرون شهرا كما قال: { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا } (لقمان:15)
قال محمد علي البار:(أما أقل الحمل فيتفق فيه الطب والشرع، وكلام الفقهاء تمام الاتفاق، فالطب يقرر أن أقل الحمل الذي يمكنه العيش بعده ستة أشهر، وفي الواقع قليلا ما يعيش هذا المولود)([3])
وقد ذكر الفقهاء هنا فرضيات أجابوا عليها بحسب فهومهم، وهي تفتقر إلى المصداقية العلمية، منها اعتبارهم أن من طلق امرأته وهي حامل، فوضعت ولدا، ثم ولدت آخر قبل مضي ستة أشهر، أنه من الزوج بناء على أنهما حمل واحد، أما إن كان بينهما أكثر من ستة أشهر، فلا يلحق الزوج، لأنه لا يمكن أن يكون الولدان حملا واحدا وبينهما مدة الحمل، فعلم أنها علقت به بعد زوال الزوجية، وانقضاء العدة، وكونها أجنبية([4]).
اختلف الفقهاء في أقصى مدة الحمل على أقوال كثيرة يمكن حصرها في ثلاثة أقوال([5]):
القول الأول: أن أقصى الحمل يمكن أن تكون أكثر من تسعة أشهر، وهو قول أكثر الفقهاء، بناء على سماع كلام النساء في ذلك، وبناء على فهم لقوله تعالى:{ اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ}(الرعد:8)، قال ابن كثير:(وذلك أن من النساء من تحمل عشرة أشهر ومن تحمل تسعة أشهر، ومنهم من تزيد في الحمل ومنهن من تنقص فذلك الغيض والزيادة التي ذكر الله تعالى، وكل ذلك بعلمه تعالى..وقال الضحاك: وضعتني أمي وقد حملتني سنتين وولدتني وقد نبتت ثنيتي)([6])
واستدل الطحاوي لذلك بما روي عن زيد بن وهب قال: سمعت أبا ذر يقول لأن أحلف عشرا إن ابن صياد هو الدجال أحب إلي من أن أحلف يمينا واحدة إنه ليس هو، وذلك لشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أم ابن صياد فقال: سلها، كم حملت به؟ فسألتها فقالت: حملت به اثني عشر شهرا)([7]) قال الطحاوي:(فكان في هذا إخبار أبي ذر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أم ابن صياد أنها حملت به اثني عشر شهرا، فلم يكن من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دفع لذلك، ولو كان محالا لأنكره عليها، ودفعه من قولها، وفي ذلك ما قد دل أن الحمل قد يكون أكثر من تسعة أشهر على ما قد قاله فقهاء الأمصار في ذلك من أهل المدينة وأهل الكوفة وممن سواهم من فقهاء أهل الأمصار)([8])
وقد اختلفوا في الحد الأقصى على آراء كثيرة منها:
الرأي الأول: أقصى مدته سنتان، وقد وروي هذا القول عن عائشة وروي عن الضحاك وهرم بن حيان أن كل واحد منهما أقام في بطن أمه سنتين،وهو قول سفيان الثوري، ورواية عن أحمد، وهو قول الحنفية، ومن الأدلة النقلية على ذلك:
1 ـ عن أبي سفيان عن أشياخ لهم عن عمر: أنه رفع إليه امرأة غاب عنها زوجها سنتين فجاء – وهي حبلى – فهم عمر برجمها، فقال له معاذ بن جبل: يا أمير المؤمنين، إن يك السبيل لك عليها، فلا سبيل لك على ما في بطنها؟ فتركها عمر حتى ولدت غلاما قد نبتت ثناياه، فعرف زوجها شبهه، فقال عمر: عجز النساء أن تكون مثل معاذ، لولا معاذ هلك عمر([9]).
2 ـ عن جميلة بنت سعد عن عائشة، قالت:(ما تزيد المرأة في الحمل على سنتين قدر ما يتحول ظل هذا المغزل([10])، وهو من أعظم أدلتهم، ووجه دلالتهم عندهم كما يقول أبو الحسن:(لما لم يكن لنا سبيل لإثبات هذه المقادير من طريق الاجتهاد والمقاييس وكان طريقه التوقيف أو الاتفاق، ثم وجدنا الصحابي قد قطع بذلك وأثبته، دل ذلك من أمره على أنه قاله توقيفا، لأنه لا يجوز أن يظن بهم أنهم قالوه تخمينا وتظننا، فصار ما كان هذا وصفه من المقادير إنما يلزم قبول قول الصحابي الواحد فيه، ويجب اتباعه من حيث كان توقيفا)([11])
وقد أجاب الطحاوي على ما ورد في القرآن الكريم من أن الحمل والفصال ثلاثين شهرا لا أكثر منها بما روي عن ابن عباس قال: (إذا وضعت المرأة في تسعة أشهر كفاه من الرضاع واحد وعشرون شهرا وإذا وضعت لسبعة أشهر كفاه من الرضاع ثلاثة وعشرون شهرا، وإذا وضعت لستة أشهر فحولان كاملان، لأن الله تعالى قال:{ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا }(لقمان:15)
قال الطحاوي:(ففي هذا الحديث أن ابن عباس لم يخرج الحمل والفصال عن الثلاثين شهرا، وفي ذلك ما قد دل على أن الحمل كان عنده لا يخرج عن الثلاثين شهرا، وإذا كان ذلك كذلك وكان الحمل حولين كان الباقي من الثلاثين شهرا ستة أشهر)([12])
وقد أجاب على القول بأن أبدان الصبيان لا تقوم بها، لأنهم يحتاجون من الرضاع إلى مدة هي أكثر منها بقوله:(قد يحتمل أن يكون المولودون بعد مضي تلك الستة الأشهر يرجعون إلى لطيف الغذاء فيكون ذلك عيشا لهم وغنى لهم عن الرضاع)([13])
وقد حاول أن يؤول الآيات وفق قوله فقال:(غير أنا تأملنا ما في كتاب الله تعالى من ذكر الحمل والفصال، فوجدنا منه الآية التي قد تلوناها فيما تقدم منا في هذا الباب. ووجدنا منه قول الله تعالى:{ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } (لقمان:14)فجعل الفصال في هذه الآية من المدة عامين. ووجدنا منه قوله تعالى:{ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } (البقرة:233)فكان في هاتين الآيتين الأخيرتين إثبات الحولين للفصال فاحتمل عندنا – والله أعلم – أن يكون الله تعالىجعل الحمل والفصال ثلاثين شهرا لا أكثر منها على ما في الآية الأولى، مما قد يحتمل أن يكون مدة الفصال فيها قد ترجع إلى ستة أشهر ثم زاد الله – عز وجل – في مدة الفصال تمام الحولين بالآيتين الأخيرتين فرد حكم الفصال إلى جهته من الثلاثين شهرا وعلى تتمة الحولين على ما في الآيتين الأخريين وبقي مدة الحمل على ما في الآية الأولى فلم يخرجه من الثلاثين شهرا وأخرج مدة الفصال من الثلاثين شهرا إلى ما أخرجها إليه بالآيتين الأخريين)([14])
الرأي الثاني: أن مدة الحمل قد تكون ثلاث سنين، فعن الليث بن سعد أنه قال: حملت مولاة لعمر بن عبد الله ثلاث سنين، وقد روي بأن مالكا ولد لثلاثة أعوام.
الرأي الثالث: أن أقصى مدته أربع سنين وهو قول الشافعي، ورواية عن أحمد واختلف فيه عن مالك فالمشهور عنه عند أصحابه مثل ما قال الشافعي وحكى ابن الماجشون عنه ذلك ثم رجع لما بلغه قصة المرأة التي وضعت لخمس سنين([15])، وقد استدل له ابن قدامة بقوله:(ما لا نص فيه، يرجع فيه إلى الوجود، وقد وجد الحمل لأربع سنين)([16])، ثم ساق بعض ما يدل على ذلك، فروى الوليد بن مسلم قال: قلت لمالك بن أنس: حديث جميلة بنت سعد، عن عائشة: لا تزيد المرأة على السنتين في الحمل. قال مالك: سبحان الله، من يقول هذا؟ هذه جارتنا امرأة محمد بن عجلان تحمل أربع سنين قبل أن تلد.
ونقل عن الشافعي قوله: بقي محمد بن عجلان في بطن أمه أربع سنين. وقال أحمد: نساء بني عجلان يحملن أربع سنين وامرأة عجلان حملت ثلاث بطون، كل دفعة أربع سنين. وبقي محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي في بطن أمه أربع سنين. وهكذا إبراهيم بن نجيح العقيلي.
واستدل على ذلك كذلك بأن عمر ضرب لامرأة المفقود أربع سنين، ولم يكن ذلك إلا لأنه غاية الحمل، وروي ذلك عن عثمان وعلي وغيرهما.
الرأي الرابع: أن مدة الحمل قد تكون خمس سنين حكي عن عباد بن العوام أنه قال ولدت امرأة معنا في الدار لخمس سنين، قال: فولدته وشعره يضرب إلى هاهنا وأشار إلى العنق قال ومر به طير فقال: هش، وقد حكي عن ابن عجلان أن امرأته كانت تحمل خمس سنين.
الرأي الخامس: أن المرأة تحمل ست سنين وسبع سنين، فيكون ولدها مخشوشا في بطنها قال وقد أتى سعيد بن مالك بامرأة حملت سبع سنين، وهو قول الزهري.
القول الثاني: عدم التحديد والتوقيت بالرأي، وهو قول أبي عبيد، واستدل على ذلك بما يلي:
1 ـ أنا وجدنا لأدنى الحمل أصلا في تأويل الكتاب وهو الأشهر الستة فنحن نقول بهذا ونتبعه ولم نجد لآخره وقتا.
2 ـ أن حديث عائشة المروي في ذلك لا يصح، لأن المرأة التي روته عنها مجهولة.
3 ـ الإجماع على أن المرأة إذا جاءت بولد لأقل من ستة أشهر من يوم تزوجها الرجل أن الولد غير لا حق به فان جاءت به لستة أشهر من يوم نكحها فالولد له.
القول الثالث: أن أقصى مدة الحمل تسعة أشهر، وهو قول ابن حزم، وقد نسبه لعمر ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم، وأبي سليمان، وجميع الظاهرية، وهو قول الإمامية، فقد نصوا على أنه (لو طلقت فادعت الحمل، صبر عليها أقصى الحمل، وهي تسعة أشهر، ثم لا يقبل دعواها، وفي رواية سنة وليست مشهورة)([17])
أما قول الظاهرية، فقد نص عليه ابن حزم بقوله:(ولا يجوز أن يكون حمل أكثر من تسعة أشهر ولا أقل من ستة أشهر ؛ لقول الله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا } (لقمان:15). وقال تعالى: { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ }(البقرة:233)فمن ادعى أن حملا وفصالا يكون في أكثر من ثلاثين شهرا، فقد قال الباطل والمحال، ورد كلام الله عز وجل جهارا) ([18])
وقال في كيفية تطبيق رأيه على ثبوت النسب:(فإن كان وضعها لأقل من تسعة أشهر من حين أنكر الأول وطأها، أو لأقل من ستة أشهر من حيث وطئها الثاني: فالولد للأول بلا شك. إن ولدته لأكثر من تسعة أشهر بطرفة عين من حين وطئها الثاني: فالولد للثاني بلا شك. فإن ولدته لأكثر من تسعة أشهر من حين أمكن الأول وطأها، ولأقل من ستة أشهر من حين وطئها الثاني: فهو غير لاحق بالأول ولا بالثاني) ([19])
وقد رد على الأقوال الأخرى في المسألة أنها تفتقر إلى الدليل النصي الجازم، وأنها مجرد أخبار وحكايات لا أساس لها من الصحة، قال ابن حزم:(وكل هذه أخبار مكذوبة راجعة إلى من لا يصدق، ولا يعرف من هو؟ لا يجوز الحكم في دين الله تعالى بمثل هذا)([20])
وقد حاول أن يفسر ما ذكره الفقهاء علميا بقوله:(إلا أن الولد قد يموت في بطن أمه، فيتمادى بلا غاية حتى تلقيه متقطعا في سنين)، ولكن الحمل بهذه الصفة لا يلحقه أي حكم من أحكام الحمل، قال ابن حزم:(فإن صح هذا فإنه حمل صحيح لا تنقضي عدتها إلا بوضعه كله إلا أنه لا يوقف له ميراث، ولا يلحق أصلا ؛ لأنه لا سبيل إلى أن يولد حيا، ولو سعت عند تيقن ذلك في إسقاطه بدوا لكان مباحا ؛ لأنه ميت بلا شك)([21])
نرى أن الأرجح في المسألة هو أنه لم يرد في النصوص المعصومة التصريح بهذا الأمر، فلذلك ينبغي ترك المسألة للمختصين.
وقد نص هؤلاء بناء على أدلة يقينية لا يمكن تخلفها على صحة القول الثالث، وهو دليل على انسجام العقل الصحيح مع النص الظاهر الصريح، فابن حزم في هذا القول أخذ بظواهر النصوص بينما سائر الأقوال ـ كما رأينا مع الطحاوي ـ حاولت أن تتأول النصوص للانسجام مع الأخبار والحكايات التي يحكيها الناس صادقين أم كاذبين.
فقد نص العلم في هذه المسألة على أن الحمل يحدث نتيجة اتحاد الحيوان المنوي الناضج مع البويضة الناضجة التي تخرج من المبيض اثناء ظاهرة التبويض في منتصف الدورة الشهرية، وينمو الغشاء المبطن للرحم أكثر ليحتضن ويغذي الجنين القادم، وبذلك تنقطع العادة الشهرية، ومدة الحمل الطبيعي هي 280 يوماً من أوّل لآخر الطمث.
لكن يوجد خلاف كبير في مدة الحمل، فتكون حوالي 42 أُسبوعاً، فتكون ولادة قبل التمام التي تحدث بعد إتمام 28 أُسبوعاً وقبل إتمام 37 أُسبوعاً ويسمى الولد خديجاً، وولادة جنين كامل النمو تحدث بعد إتمام 37 أُسبوعاً وقبل إتمام 42 أُسبوعاً.
والولادة بعد التمام تحدث بعد 24 أُسبوعاً ولا يوجد موعد محدد للولادة بعد التمام لاَن يوم التقليح غير محدود بالضبط، وفي بعض الإحصائيات تبين أنّه 25% من الحوامل يلدن في الأسبوع الثاني والأربعين (294 يوماً)و12% في الأسبوع 43 (301 يوماً)و3% من الحوامل يلدن في الأسبوع 44 (308 يوماً).
وكذلك الإحصائيات تبيّن أنّ وفاة المواليد حول الميلاد تزيد وتتضاعف بازدياد مدة الحمل عن 42 أُسبوعاً لسبب تليف المشيمة، ولذلك يجب التأكد من موعد آخر طمث،وإذا تعذر ذلك، فيوجد وسائل حديثة لمعرفة عمر الجنين داخل الرحم([22]).
وقد نص الأطباء بناء على هذا على استحالة ما ذكره الفقهاء من تلك المدة، لأن المشيمة لا يمكن أن تحمله كل هذه المدة([23]).
وقد بين محمد علي البار علة الحمل الكاذب الذي بنى الفقهاء عليه أقوالهم في المسألة بقوله: (والحمل الكاذب حالة تصيب النساء اللاتي يبحثن عن الإنجاب دون أن ينجبن، فتنفخ البطن بالغازات، وتتوقف العادة الشهرية، وتعتقد المراة اعتقادا جازما بأنها حامل رغم تأكيد جميع الفحوصات المخبرية والفحوصات الطبية بأنها غير حامل، وقد يحدث لإحدى هؤلاء الواهمات بالحمل الكاذب الذي تتصور انه بقي في بطنها سنينا قد يحدث انها تحمل فعلا، فتضع طفلا طبيعيا في فترة حمله، ولكنها نتيجة وهمها وإهامها من حولها من قبل تتصور أنها قد حملته لمدة ثلاث أو أربع سنوات)([24])
ومع ذلك فهؤلاء الفقهاء معذورون في ذلك بلا شك، لأن هذه المسألة من المسائل التي يحتاج فيها إلى معرفة الواقع، وقد كان واقعهم يقول بذلك، فلم يكن لهم من مناص من الإفتاء إلا على أساسه، وهم يقرون بأن هذا خلاف الظاهر، ولكن الذي دفعهم إليه هو الحرص على إثبات الأنساب ودرء الحدود، قال القرافي:(إن هذا الحمل الآتي بعد خمس سنين دائر بين أن يكون من الوطء السابق من الزوج وبين أن يكون من الزنى، ووقوع الزنى في الوجود أكثر وأغلب من تأخر الحمل هذه المدة، فقدم الشارع([25]) هاهنا النادر على الغالب، وكان مقتضى تلك القاعدة أن يجعل زنى لا يلحق بالزوج عملا بالغالب، لكن الله تعالى شرع لحوقه بالزوج لطفا بعباده وسترا عليهم وحفظا للأنساب وسدا لباب ثبوت الزنى، كما اشترط تعالى في ثبوته أربعة مجتمعين سدا لبابه حتى يبعد ثبوته، وأمرنا أن لا نتعرض لتحمل الشهادة فبه، وإذا تحملناها أمرنا بأن لا نؤدي بها، وأن نبالغ في الستر على الزاني ما استطعنا، بخلاف جميع الحقوق كل ذلك شرع طلبا للستر على العباد ومنة عليهم، فهذا هو سبب استثناء هذه القاعدة من تلك القواعد، وإلا فهي على خلاف الإلحاق بالغالب دون النادر)([26])
وقريب منه قول العز بن عبد السلام:(ذا أتت الزوجة بالولد لدون أربع سنين من حين طلقها الزوج بعد انقضاء عدتها بالأقراء فإنه يلحقه، مع أن الغالب الظاهر أن الولد لا يتأخر إلى هذه المدة. فإن قيل: إنما لحقه لأن الأصل عدم الزنا وعدم الوطء بالشبهة والإكراه، قلنا وقوع الزنا أغلب من تأخر الحمل إلى أربع سنين إلا ساعة واحدة وكذلك الإكراه والوطء بالشبهة ولا يلزم على ذلك حد الزنا فإن الحدود تسقط بالشبهات، بخلاف إلحاق الأنساب فإن فيه مفاسد عظيمة منها جريان التوارث ومنها نظر الولد إلى محارم الزوج، ومنها إيجاب النفقة والكسوة والسكنى، ومنها الإنكاح والحضانة)([27])
ولكن الذي لا نرى عذره هو التعصب أو التشنيع على المخالف، كما قال ابن العربي عن بعض المالكية ممن لاح لهم من النصوص ما يؤيده الواقع الصحيح لا واقع الحكايات والعجائز، فقال عنهم بحدة:(نقل بعض المتساهلين من المالكيين أن أكثر مدة الحمل تسعة أشهر، وهذا ما لم ينطق به قط إلا هالكي: وهم الطبائعيون الذين يزعمون أن مدبر الحمل في الرحم الكواكب السبعة تأخذه شهرا شهرا)([28])
وقد نص الأطباء على أن التي تقول بأن زوجها مات، وبعد أربع سنين ولدت، مستحيل علمياً، لأن المشيمة لا يمكن أن تحمله كل هذه المدة([29]).
لأن عجزه عن الإنجاب دليل على عدم ثبوت النسب له، والعجز إما أن يكون لصغر أو مرض، ولذلك بحث الفقهاء ثبوت النسب للصبي الذي لم يبلغ، والمصاب بعاهات تناسلية، وسنبحث حكم المسألتين فيما يلي:
اختلف الفقهاء في العمر الذي يمكن أن ينسب فيه الولد إلى الزوج إن كان طفلا على قولين:
القول الأول: تحديد العمر بعشر سنوات، وهو قول الحنابلة([30])،واستدلوا على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (واضربوهم على الصلاة لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع)([31])،وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتفريق بينهم، دليل على إمكان الوطء الذي هو سبب الولادة.
القول الثاني: تحديد العمر بالبلوغ، واستدلوا على ذلك بأن الولد إنما يكون من الماء، ولا ينزل حتى يبلغ، ومن الأدلة على ذلك:
1 ـ أنه زمن يمكن البلوغ فيه، فيلحقه الولد، كالبالغ.
2 ـ ما روي أن عمرو بن العاص، وابنه عبد الله، لم يكن بينهما إلا اثنا عشر عاما.
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة هو أن الحمل لا يثبت إلا بالبلوغ، ويختلف البلوغ من فرد إلى فرد، فلذلك لا يصح الجزم بالحمل ممن شك في حصول الحمل منه إلا بتحر من المختصين، فإن شكوا، فإن الحمل ثابت منه لا يمكن صرفه بالشك، لأن الأصل هو أن الولد للفراش.
اتفق الفقهاء على أنه إن ولدت امرأة مقطوع الذكر والأنثيين، لم يلحق نسبه به، لأنه يستحيل منه الإنزال والإيلاج([32])، وقد اختلفوا فيمن قطعت أنثياه دون ذكره أو ذكره دون أنثياه على قولين:
القول الأول: لا يلحقه النسب، وهو قول الجمهور، واستدلوا على ذلك بأنه لا يخلق منه الولد عادة، ولا وجد ذلك، فأشبه ما لو قطع ذكره معهما، ولا اعتبار بإيلاج لا يخلق منه الولد، كما لو أولج إصبعه.
القول الثاني: يلحقه النسب، وهو قول عند الحنابلة فيما يتعلق بقطع الأنثيين، وقول عند الشافعية فيما يتعلق بقطع الذكر، لإمكان نزول المني منهما وقول الحنفية في الممسوح، قال السرخسي:(إذا جاءت بولد إلى سنتين يثبت النسب منه، ولا تبطل تلك الفرقة ؛ لأن ثبوت النسب باعتبار الإنزال بالسحق([33])
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة هو احتمال ثبوت النسب في حال قطع الذكر دون الأنثيين إذا أمكن الإنزال، ويتوقف ذك كما ذكرنا سابقا على الإثبات الطبي بقدرة المصاب على الإنجاب، أما مقطوع الأنثيين فيستحيل منه الإنجاب بلا شك، لعدم إمكان الإنزال.
اختلف الفقهاء في اعتبار هذا الشرط على قولين:
القول الأول: اعتبار هذا الشرط، وهو قول الجمهور، واستدلوا على ذلك بما يلي:
1 ـ أنه لم يحصل إمكان الوطء بهذا العقد، فلم يلحق به الولد، كزوجة ابن سنة، أو كما لو ولدته لدون ستة أشهر.
2 ـ أنه لا يجوز حذف الإمكان عن الاعتبار، لأنه إذا انتفى حصل اليقين بانتفائه عنه، فلم يحز إلحاقه به مع يقين كونه ليس منه.
القول الثاني:عدم اعتبار هذا الشرط، وهو قول الحنفية، واستدلوا على ذلك بان الأصل في ثبوت النسب هو الزوجية التي كنى عنها الشرع بالفراش، قال الكاساني:(نسب الولد من الرجل لا يثبت إلا بالفراش، وهو أن تصير المرأة فراشا له لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:(الولد للفراش وللعاهر الحجر، والمراد من الفراش هو المرأة فإنها تسمى فراش الرجل وإزاره ولحافه([34])، وقد استدل بالحديث من الوجوه التالية:
1 ـ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخرج الكلام مخرج القسمة، فجعل الولد لصاحب الفراش والحجر للزاني، فاقتضى أن لا يكون الولد لمن لا فراش له، كما لا يكون الحجر لمن لا زنا منه، إذ القسمة تنفي الشركة.
2 ـ أنه صلى الله عليه وآله وسلم جعل الولد لصاحب الفراش، ونفاه عن الزاني بقوله صلى الله عليه وآله وسلم:(وللعاهر الحجر)، لأن مثل هذا الكلام يستعمل في النفي.
3 ـ أنه جعل كل جنس الولد لصاحب الفراش، فلو ثبت نسب ولد لمن ليس بصاحب الفراش لم يكن كل جنس الولد لصاحب الفراش، وهذا خلاف النص.
وقد بنوا على هذا كثيرا من الفروع منها أنه لو تصادق الزوجان على أن الولد من الزنا من فلان لا يثبت النسب منه، ويثبت من الزوج لأن الفراش له.
ومنها أنه لو تزوج رجل امرأة في مجلس، ثم طلقها فيه قبل غيبته عنهم، ثم أتت امرأته بولد لستة أشهر من حين العقد، أو تزوج مشرقي بمغربية، ثم مضت ستة أشهر، وأتت بولد، فإن الولد يلحقه في كل ذلك، واستدلوا على ذلك بأن الولد إنما يلحقه بالعقد، ومدة الحمل، دون الاعتبارات الأخرى.
ومثل ذلك ما لو غاب الزوج عن زوجته مدة طويلة، فبلغتها وفاته، فاعتدت، ونكحت نكاحا صحيحا في الظاهر، ودخل بها الثاني، وكان لها منه أولاد، فإنه إذا قدم الأول، وردت إليه فإن الجمهور على أن والأولاد له ؛ لأنهم ولدوا على فراشه، وخالف في ذلك أبو حنيفة، وجعل الولد للأول ؛ لأنه صاحب الفراش، لأن نكاحه صحيح ثابت، ونكاح الثاني غير ثابت، فأشبه الأجنبي.
ومثله كذلك ما لو تزوج رجلان أختين، فغلط بهما عند الدخول، فزفت كل واحدة منهما إلى زوج الأخرى، فوطئها، وحملت منه، فلا يكون الولد للواطئ عند الحنفية خلافا للجمهور.
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة هو اعتبار هذا الشرط، لأن الشرع مع تشوفه لإثبات الأنساب، فإنه تشوف كذلك لتحقيقها، وأن تكون صحيحة للمنتسبين إليها، فشرع لذلك تحريم الزنى، والعدة والاستبراء وحرم التبني، وغير ذلك من التشريعات، باعتبار أنه لا مصلحة للابن في الانتساب لغير أبيه، ولا مصلحة للأب في أن ينسب إليه غير ابنه.
الشرط الثاني ـ ثبوت النسب من الناحية الشرعية
اتفق الفقهاء على أن النسب يثبت بالزوجية سواء كان عقد الزواج صحيحا أو فاسدا، قال الكاساني: (ويستوي فيه النكاح الصحيح والفاسد إذا اتصل به الوطء، لأن النكاح الفاسد ينعقد في حق الحكم عند بعض مشايخنا لوجود ركن العقد من أهله في محله، والفاسد ما فاته شرط من شرائط الصحة، وهذا لا يمنع انعقاده في حق الحكم كالبيع الفاسد إلا أنه يمنع من الوطء لغيره، وهذا لا يمنع ثبات النسب كالوطء في حالة الحيض والنفاس)([35])
ويستوي في ذلك كون المنكوحة حرة أو أمة، لأنها المقصود من فراش الزوجية، التي يكنى عنها كما رأينا بالفراش، وقد نقل الإجماع على ذلك العلماء، قال ابن القيم:(فأما ثبوتُ النسبِ بالفِراش، فأجمعت عليه الأمة)([36])
ولعل أهم دليل يستند إليه العلماء في إثبات النسب بالفراش ما روته عائشة، قالت: اختصم سعدُ بنُ أبـي وقاص، وعبدُ بنُ زمعة في غلام، فقال سعد: هذا يا رسولَ الله ابنُ أخي عتبة بن أبـي وقاص عَهِدَ إلي أنه ابنُه، انظُر إلى شَبَههِ، وقال عبدُ بنُ زمعة: هذا أخي يا رسولَ الله وُلِدَ على فِراش أبـي مِن وَليدَتِهِ، فنظر رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم، فرأى شبهاً بـيناً بعُتبة، فقال: (هُوَ لَكَ يا عَبدُ بنَ زَمعَةَ، الوَلَدُ لِلفِراشِ، ولِلعَاهِرِ الحَجَرُ واحتَجِبـي مِنهُ يا سَودَةُ)، فلم تَرَهُ سَودَةُ قَطُّ([37]).
قال ابن القيم مبينا مواضع الاستدلال بالحديث:(فهذا الحكم النبويُّ أصلٌ في ثبوتِ النسب بالفراش، وفي أن الأمة تكون فِرَاشاً بالوطء، وفي أن الشبه إذا عارضَ الفِراش، قُدمَ عليه الفِراشُ، وفي أن أحكامَ النسب تتبعضُ، فثُبت من وجهٍ دُونَ وجه، وهو الذي يُسميه بعضُ الفقهاء حُكماً بـينَ حُكمين، وفي أن القافةَ حقٌّ، وأنها من الشرع)([38])
وقد اختلف الفقهاءُ فيما تصيرُ به الزوجة فراشاً، على الأقوال التالية:
القول الأول: أنه نفسُ العقد وإن علم أنه لم يجتمع بها، بل لو طلقها عقبَه في المجلس، وهو قول الحنفية، وقد ذكرنا أقوالهم في الشرط الأول.
القول الثاني: أنه العقدُ مع إمكان الوطء، وهو قول الجمهور.
القول الثالث: أنه العقدُ مع الدخول المحققِ لا إمكانه المشكوك فيه، وهو رواية عن أحمد، واختيارُ ابن تيمية، وابن القيم.
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الثالث، قال ابن القيم:(وهذا هو الصحيحُ المجزوم به، وإلا فكيف تصيرُ المرأة فراشاً ولم يدخُل بها الزوجُ، ولم يَبنِ بها لمجرد إمكان بعيدٍ. وهل يعُدُّ أهلُ العرف واللغة المرأة فراشاً قبل البناء بها، وكيف تأتي الشريعةُ بإلحاق نسبٍ بمن لم يبنِ بامرأته، ولا دخلَ بها، ولا اجتمع بها بمجردِ إمكان ذلك؟ وهذا الإمكانُ قد يقطع بانتفائه عادة، فلا تصيرُ المرأة فِراشاً إلا بدخول محقق)([39])
وفي حال الشك يعرض الأمر على المختصين كما في كل المسائل التي يشك فيها.
ثبوت النسب يالعلاقة المشتبه فيها:
اختلف الفقهاء في العلاقة التي ليست بزواج صحيح، ولا زواج فاسد، ولا زنا محضا، بل هي مؤسسة على شبهة تدرأ الحد عن صاحبها، على قولين:
القول الأول: يلحق النسب، فمن وطئ امرأة لا زوج لها بشبهة، فأتت بولد، فإنه يلحقه نسبه، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة والحنابلة، قال أحمد: كل من درأت عنه الحد ألحقت به الولد([40])، واستدلوا على ذلك بما يلي:
1 ـ أنه وطء اعتقد الواطئ حله، فلحق به النسب، كالوطء في النكاح الفاسد.
2 ـ أنه يختلف عن الزنا، لأنه لا يعتقد الحل فيه.
القول الثاني: لا يلحق النسب، وهو قول عند الحنابلة،واستدلوا على ذلك بما يلي:
1 ـ أن النسب لا يلحق إلا في نكاح صحيح، أو فاسد، أو ملك، أو شبهة ملك، ولم يوجد شيء من ذلك.
2 ـ أنه وطء لا يستند إلى عقد، فلم يلحق الولد فيه بالوطء، كالزنا.
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الأول بناء على مقصد الشرع من إثبات الأنساب، خاصة مع كون فراش الشبهة فراشا لم ينازعه فيه أحد، فصار النسب مختصا به.
إن حصل اشتراك في الزوجة بعلاقة مشتبه فيها، فإن لذلك حالتان:
الاشتراك غير الحقيقي:
وهو عدم حصول الاشتراك في طهر لم يمسها الزوج فيه،مع عدم معاشرة الزوج زوجته بعده، وقد اختلف الفقهاء في ذلك على قولين:
القول الأول: أن النسب يلتحق بالواطئ، وينتفي عن الزوج من غير لعان بشرط أن تأتي به لأكثر من ستة أشهر، وهو قول الجمهور، أما إن أنكر الواطئ الوطء، فالقول قوله بغير يمين، ويلحق نسب الولد بالزوج ؛ لأنه لا يمكن إلحاقه بالمنكر، ولا تقبل دعوى الزوج في قطع نسب الولد.
القول الثاني: أن الولد يلحق بالزوج، وهو قول الحنفية وقول عند الحنابلة، بناء على أن الولد للفراش.
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الأول في حال حصول الاستبراء الحقيقي، فإن شك كان الأرجح هو القول الثاني، لأن الأصل هو نسبة الولد لفراش الزوج، فإن استمر الشك، ترجح التحري بالوسائل العلمية الدقيقة، ويثبت بها النسب لأحدهما بشرط الجزم بذلك، لأن بقاء النسب مع الشك في صحته ضرر للولد، فقد ينتسب لغير أبيه، وضرر للزوج، فقد يربي غير ولده.
الاشتراك الحقيقي:
وهو حصول الاشتراك، إما بسبب طهر مسها الزوج فيه، أو معاشرة الزوج زوجته بعده، فقد اتفق الفقهاء على أن الولد للفراش، وقد أمكن كونه منه، أما إن ادعى الزوج أنه من الواطئ فقد اختلف الفقهاء في ذلك على الأقوال التالية:
القول الأول: يعرض على القافة معهما فيلحق بمن ألحقته منهما، فإن ألحقته بالواطئ لحقه، ولم يملك نفيه عن نفسه، وانتفى عن الزوج بغير لعان، وإن ألحقته بالزوج لحقه، ولم يملك نفيه باللعان([41])، وهو قول الحنابلة([42]).
القول الثاني: يعرض على القافة فإن ألحقته بهما، لحق بهما، ولم يملك الواطئ نفيه عن نفسه، وللزوج نفيه باللعان، وهو قول عند الحنابلة.
القول الثالث: أنه يلحق الزوج بكل حال ؛ لأن دلالة قول القافة ضعيفة، ودلالة الفراش قوية، فلا يجوز ترك دلالته لمعارضة دلالة ضعيفة، وهو ما رجحه ابن قدامة([43]).
القول الرابع: استعمال القرعة في إثبات النسب، وهو قول إسحاق بن راهويه، وكان الشافعيُّ يقول به في القديم، ويستدل لهذا بما روي عن زيد بن أرقم، قال: أتى علي بن أبـي طالب بثلاثة وهو باليمن وقعوا على امرأة في طُهرٍ واحدٍ، فسأل اثنين أتُقِرانِ لهذا بالوَلَدِ؟ قالا: لا، حَتّى سألهم جميعاً، فجعل كلما سأل اثنينِ قالا: لا، فأقرعَ بـينهم، فألحق الولد بالذي صارت عليه القرعة، وجعل عليه ثلثي الدية، قال: فذكر ذلك للنبـي صلى الله عليه وآله وسلم، فضحك حتى بَدَت نَوَاجِذُهُ([44]).
الترجيح:
نرى أن الأرجح هو استعمال القافة، والذي منع بعض الفقهاء من استعمالها هو عدم دقتها الكافية لإثبات الأنساب، وهي الآن أدق لأن الذي يمارسها مختصون وبأجهزة دقيقة، فلذلك كانت أولى الوسائل كما سنرى.
ثبوت النسب بالعلاقة غير الشرعية:
اختلف الفقهاء في حكم ثبوت النسب بالعلاقة غير الشرعية وهي الزنا على قولين:
القول الأول: ثبوت نسب ابن الزنا لأمه دون أبيه، وهو قول جمهور العلماء، بل اتفقت على القول به المذاهب الفقهية المختلفة، حتى اعتبر عند بعضهم من الإجماع الذي لا يرقى إليه شك، قال ابن عبد البر:(فنفى أن يلحق في الإسلام ولد الزنى، وأجمعت الأمة على ذلك نقلا عن نبيها صلى الله عليه وآله وسلم وجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كل ولد يولد على فراش لرجل لاحقا به على كل حال إلى أن ينفيه بلعان على حكم اللعان)([45])
وسننقل هنا بعض النصوص المثبتة لهذا القول من المذاهب الفقهية المختلفة، والمبينة لأسباب القول بعدم الثبوت:
قال الجصاص:(الزانية لا نسب لولدها من قبل الأب ؛ إذ ليس بعض الزناة أولى به لحاقه به من بعض، ففيه قطع الأنساب ومنع ما يتعلق بها من الحرمات في المواريث والمناكحات وصلة الأرحام وإبطال حق الوالد على الولد وما جرى مجرى ذلك من الحقوق التي تبطل مع الزنا، وذلك قبيح في العقول مستنكر في العادات ولذلك قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:(الولد للفراش وللعاهر الحجر (لأنه لو لم يكن النسب مقصورا على الفراش وما هو في حكم الفراش لما كان صاحب الفراش بأولى بالنسب من الزاني وكان ذلك يؤدي إلى إبطال الأنساب وإسقاط ما يتعلق بها من الحقوق والحرمات) ([46])
وقد نص الإمامية على أن النسب يثبت مع النكاح الصحيح، ومع الشبهة ولا يثبت مع الزنا، فلو زنى فانخلق من مائه ولد على الجزم، لم ينتسب إليه شرعا([47]).
وإلى هذا ذهب الإباضية، كما قال في شرح النيل:(إن ولد الزنى لا يلحق بأبيه في الإسلام، أي لا يلحق بمن زنى بأمه في الإسلام إن زنى في الإسلام بها وسماه أبا لأن الولد بحسب الظاهر من مائه، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(الولد للفراش وللعاهر الحجر (، والعاهر: الزاني)([48])
وقد ذكر ابن القيم أن لهذا القول زيادة على الحديث السابق دليلان من السنة هما:
1 ـ عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لاَ مُسَاعَاة في الإِسلامِ، مَن سَاعى في الجَاهِلِية فَقَد لَحِقَ بِعَصبَتِهِ، وَمَن ادعى وَلَداً مِن غَيرِ رشدَةٍ، فَلاَ يَرِثُ وَلاَ يُوَرثُ)([49])، والمساعاة هي الزنى، وكَان الأصمعي يجعلُها في الإماء دون الحرائر، لأنهن يسعين لمواليهن، فيكتسِبنَ لهم، وكانَ عليهن ضرائبُ مقررة، فأبطل النبـي صلى الله عليه وآله وسلم المساعاة في الإسلام، ولم يُلحق النسب بها، وعفا عما كان في الجاهلية منها، وألحق النسبَ به([50]).
2 ـ روي حديث عمرو بن شعيب، عن أبـيه، عن جده (أن النبـي صلى الله عليه وآله وسلم، قضى أن كُل مستلحَقَ استُلحِقَ بعد أبـيه الذي يُدعى له، ادعاه ورثتُه، فقضى أن كُل مَن كَانَ مِن أمَةٍ يملِكُها يومَ أصابَها فقد لَحِقَ بمن استلحقَه، وليس له مما قُسِمَ قَبله من الميراث، وما أَدرَكَ مِن ميراثٍ لم يُقسم، فله نصيبُه، ولا يُلحق إذا كان أبوه الذي يُدعى له أنكرَه، وإن كان مِن أمةٍ لم يملكها، أو من حُرة عَاهَرَ بها، فإن لا يُلحَق ولا يرثُ، وإن كان الذي يُدعى له هو ادعاهُ، فهو من ولدِ زنية مِن حرة كان أو أمة)([51])، وفي رواية: (وهو ولد زنى لأهل أمه من كانوا حرةً أو أمة، وذلك فيما استلحق في أولِ الإسلام، فما اقتسم مِن مال قبل الإسلام، فقد مضى)
القول الثاني: أن المولودَ مِن الزنى إذا لم يكن مولوداً على فراش يدعيه صاحبه، وادعاه الزاني، أُلحِقَ به، وهو قول إسحاق بن راهويه، والحسن البصري، فقد قال في رجل زنى بامرأة، فولدت ولداً، فادعى ولدَها: يُجلد ويلزمُه الولد، وهو قول عروة بن الزبـير وسليمانَ بن يسار فقد روي عنهما أنهما قالا: أيُّما رجل أتى إلى غلام يزعم أنه ابن له، وأنه زنى بأمه ولم يَدعِ ذلك الغلامَ أحد، فهو ابنُه، واحتج سليمان، بأن عمر كان يُلِيطُ أولادَ الجاهلية بمن ادعاهم في الإسلام([52]).
وقد انتصر لهذا القول ابن القيم، فقال:(وهذا المذهبُ كما تراه قوة ووضوحاً، وليس مع الجمهور أكثرُ مِن (الولد للفراش)وصاحبُ هذا المذهب أولُ قائل به، والقياسُ الصحيح يقتضيه(، ومن الأدلة التي ذكرها ابن القيم لذلك:
1 ـ أن القياس يدل عليه، فالأبَ أحدُ الزانيـين، وقد وُجِدَ الولدُ مِن ماء الزانيـين، وقد اشتركا فيه، فلماذا يلحق بأمه، وينسب إليها،وترثه ويرثُها، ويثبت النسب بـينه وبـين أقارب أمه مع كونها زنت به، ويمنع من لحوقه بالأب إذا لم يدعِهِ غيرُه.
2 ـ حديث جريج للغلام الذي زنت أمُّه بالراعي حيث قال له: من أبوك يا غلام؟ قال: فلان الراعي، فهذا القول من الغلام يدل على صحة النسب للزاني، قال ابن القيم: (وهذا إنطاق من الله لا يُمكن فيه الكذبُ)
3 ـ عدم صحة حديث المساعاة الذي استدلوا به، قال ابن القيم:(ولكن في إسناد هذا الحديث رجل مجهول، فلا تقوم به حجة(، وسببه يمنع الاستدلال به على هذا، فقد كان قوم في الجاهلية لهم إماء بغايا، فإذا ولَدَت أمةُ أحدهم وقد وطئها غيرُه بالزنى، فربما ادعاه سيدها، وربما ادعاه الزاني، واختصما في ذلك، حتى قام الإسلام، فحكم النبـيُّ صلى الله عليه وآله وسلم بالولد للسيد، لأنه صاحب الفراش، ونفاه على الزاني، أما الحديثُ الثاني فهو صحيح في الدلالة لكنه ضعيف في الثبوت، قال ابن القيم:(لكن فيه محمد بن راشد، ونحن نحتج بعمرو بن شعيب، فلا يُعلل الحديثُ به، فإن ثبت هذا الحديثُ، تعينَ القولُ بموجبه، والمصير إليه، وإلا فالقولُ قول إسحاق ومَن معه)([53])
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة هو ثبوت نسب ابن الزنا لأمه وأبيه، ونرى أن سبب ثبوت نسبه لأمه شرعا هو دليل ثبوت نسبه لأبيه، لأنه من كليهما حصل الزنا، فلا معنى لثبوته من أحدهما ونفيه عن الآخر، ثم تعليل ذلك بكونه من زنا.
فإذا انتفت هذه العلة، والتي بها يعتقد الإجماع على عدم ثبوت نسب ابن الزنى من الزاني، بقي أن نبحث عن علة ثبوت نسبه لأمه، وهي ـ كما مر معنا ـ تتلخص في كون نسبته إليها محققة، فهي التي ولدته، ولا شك في نسبه منها بخلاف ابن الزنا، فقد ينتسب لهذا الزاني أو ذاك، فلذلك ينفى عنهم جميعا لعدم التحقيق، فالعلة إذن من نفي نسب ابن الزنا عن الزاني هي عدم التحقق من صحة نسبته لا كونه ابن زنا([54]).
فلذلك إذا انتفت هذه العلة، واستطعنا أن نتعرف على نسبه إما بادعاء أبيه له، أو بوسائل أخرى جازمة، فإن نسبه يثبت إلى الزاني بلا شك.
وليس في النصوص ما ينفي هذا، أما قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(الولد للفراش)فهو بناء على الأصل، وحرص منه صلى الله عليه وآله وسلم على إثبات الأنساب، ولكن حديثنا هنا على امرأة ليست فراشا، ولذلك كان عمر يلحق الأنساب التي لا فراش لها، قال ابن عبد البر:(وقد ظن أن عمر كان يليط أولاد الجاهلية بمن ادعاهم كان هناك فراش أم لا، وذلك جهل وغباوة وغفلة مفرطة، وإنما الذي كان عمر يقضي به أن يليط أولاد الجاهلية بمن ادعاهم إذا لم يكن هناك فراش)([55])
وعلة ذلك هي حاجة الولد لنسب ينتمي إليه، فإن كان الفراش نسبا، فهو أشرف الأنساب، فلذلك إذا تنازع الزاني وصاحب الفراش قدم صاحب الفراش، لكن في حال عدم التنازع، فإن الولد لأبيه سواء كان صاحب الفراش أو غيره، ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال هذا الحديث في حال ممارسته القضاء عند التنازع.
هذا عن الدليل الذي نراه كافيا لإثبات نسب ابن الزنى، ولا نرى الاكتفاء بالثبوت عند الادعاء، لقلة من يدعي ابن الزنا، بل نرى لولي الأمر أن يبحث في أنساب أبناء الزنى بالطرق المختلفة بشرط كونها جازمة، ثم إلحاقهم بآبائهم، خاصة مع توفر الوسائل العلمية التي تؤكد ذلك، رعاية لمقصد الشرع من حفظ الأنساب، وإلحاقها بأصحابها.
وقد يقول البعض بأن في هذا فتحا لمفسدة الفواحش، ونقول إجابة عن ذلك: بل هو سد لهذه المفسدة، وسد لأخطر آثارها:
أما كونه سدا للمفسدة، فإن الرجل إن علم بأن زناه قد يلاحقه بابن ينسب إليه قد يفتضح به أمره ربما يرعوي عن الفاحشة، فإن فعلها اجتهد في الوسائل التي تمنع حصول الحمل، فيكون ذلك درءا لمفسدة أخرى.
ثم إن الذين يعترضون بهذا لماذا يحملون المرأة، وهي طرف في هذه الخطيئة جريرة ما فعلت وحدها، وينزهون الرجل، فوصمة العار تبقى في المرأة طول الدهر، ولو أصبحت كرابعة تقى وورعا، بينما يتمسح بالرجل إن تلفظ بالاستغفار الذي يحتاج إلى استغفار.
أما كونها سدا لأخطر آثارها، فهو أن أخطر آثار الزنى هو اختلاط الأنساب، وإنتاج المشردين الذين قد يصبحون عالة على المجتمع، ويكون المجتمع سبب ما يحصل لهم، فكيف نرجو من ولد ندعوه ابن زنا، ونحرمه من أبسط حقوقه، وهو النسب، أن يرضى عن مجتمع ينظر إليه، وكأنه هو الخطيئة بعينها، مع أنه لا علاقة له بها، ولا إثم له فيها.
فلذلك كان أكبر ما يقدم لهؤلاء المظلومين والمشردين والباحثين عن أصولهم هو تمكينهم من ذلك، بل توفير ذلك لهم، فينتسبون إلى آبائهم، ويعولهم آباؤهم شاءوا أم أبوا، أما الاكتفاء برعايتهم رعاية مادية، فإن ذلك لا يسد الجوع الذي في نفوسهم لمعرفة جذورهم، ولا يلامون في ذلك فهو جبلة كل إنسان.
فإن لم يفعل ولي الأمر هذا، فإنا نرى أن الواجب على من انتسب إليه ولد بهذا الطريق أن يضمه إليه ويلحقه به، ولا تكمل توبته إلا بذلك، فلا معنى لأن يعمر المسجد، ويطقطق المسابح بيده، وولده يعمر المواخير، ويتيه في الشوارع، لا يجد أبا ينسبه إليه، ولا بيتا يحميه.
اتفق الفقهاء على أن الزوجة إذا ولدت ولدا يمكن كونه منه، فهو ولده في الحكم لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (الولد للفراش). ولا ينتفي عنه إلا أن ينفيه باللعان التام، الذي اجتمعت شروطه والتي سنفصلها في الفصول القادمة، ويضاف إليها فيما يتعلق بنفي الولد الشروط التالية:
أن يذكر نفي نسب الولد إليه حال الملاعنة:
وقد اختلف الفقهاء في اعتبار هذا الشرط على قولين:
القول الأول: اعتبار هذا الشرط، فإذا لم يذكر، لم ينتف، إلا أن يعيد اللعان ويذكر نفيه، وعلى هذا، لا بد من ذكر الولد في كل لفظة، ومع اللعن في الخامسة ؛ لأنها من لفظات اللعان، وهو قول الشافعية ورواية عند الحنابلة، واستدلوا على ذلك بما يلي:
1 ـ أن من سقط حقه باللعان، كان ذكره شرطا، كالمرأة.
2 ـ أن غاية ما في اللعان أن يثبت زناها، وذلك لا يوجب نفي الولد، كما لو أقرت به، أو قامت به بينة.
3 ـ أن حديث سهل بن سعد، ورد فيه:(وكانت حاملا، فأنكر حملها) ([56])
4 ـ عن ابن عمر أن رجلا لاعن امرأته في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وانتفى من ولدها، ففرق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بينهما، وألحق الولد بالمرأة([57])، والزيادة من الثقة مقبولة.
القول الثاني: عدم اعتبار هذا الشرط، ولا يحتاج إلى ذكر الولد ونفيه، لأنه ينتفي بزوال الفراش، وهو رواية عند الحنابلة، واستدلوا على ذلك بما يلي:
1 ـ أن حديث سهل بن سعد الذي وصف فيه اللعان، لم يذكر فيه الولد، وقال فيه: ففرق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بينهما، وقضى أن لا يدعى ولدها لأب، ولا يرمى ولدها.
2 ـ أن رجلا لاعن امرأته على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ففرق النبي صلى الله عليه وآله وسلم بينهما، وألحق الولد بأمه([58]).
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الأول بناء على الأدلة الصحيحة الواردة فيه، أما الأحاديث التي استدل بها أصحاب القول الثاني، فهي مطلقة فتحمل على التقييد الوارد في أحاديث أصحاب القول الأول، وقد أجاب ابن حجر على الحديث الثاني من أدلة القول الثاني على اعتبارهم الفاء سببية أي الملاعنة سبب الانتفاء بقوله:(فإن أراد أن الملاعنة سبب ثبوت الانتفاء فجيد، وإن أراد أن الملاعنة سبب وجود الانتفاء فليس كذلك، فإنه أن لم يتعرض لنفي الولد في الملاعنة لم ينتف، والحديث في الموطأ بلفظ وانتفى بالواو لا بالفاء) ([59])
زيادة على أن رمي الزوجة بالزنى لا يدل على انتفاء ولده منها، لأنه خلاف الأصل، فالأصل أن الولد للفراش، فلذلك لا يصح الخروج عن الأصل إلا بدليل، وهو التصريح بنفي ولده.
بل نرى مع ذلك ـ والله أعلم ـ أن هذا التصريح يفيد في حال الشك في كون ابن اللعان من الزوج أو من الزاني، أما في حال توفر الوسائل الكفيلة بإزالة الشك، فإنه لا يصح اللعان بنفي الولد، إن ثبت نسبه من أبيه، ويبقى اللعان لدرء الحد، فالحد يدرأ باللعان، سواء حد القذف أم حد الرجم، أما النسب، فيمكن إثباته بالوسائل الكفيلة بذلك.
ونرى أن في قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(لولا الأيمان) دليل على ذلك، فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث لم يعمل الشبه في نسبة ابن اللعان لأبيه لسببين:
1 ـ أن الشبه وحده ليس دليلا كافيا، بل هو محتمل، فلذلك لم يلحقه بناء على هذا الاحتمال الذي قد يتخلف، وإن صدق مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو رسول الله، قد لا يصدق مع غيره، والرسول صلى الله عليه وآله وسلم مشرع لأمته، فلذلك لم يبن هذا الحكم على علمه، خشية الاقتداء به في ذلك.
2 ـ أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبر عن هذا بعد حصول اللعان، فلذلك لو أن التحري الدقيق بالوسائل الحديثة أدت إلى التعرف على نسبة الابن قبل اللعان، صح ذلك، وكان فيه إثبات نسب قبل اللعان.
زيادة على أن نفي الأب لابنه قد يكون لغلبة شكه، فلذلك إن أزيل هذا الشك بما ينفيه نفيا جازما لم يستطع أن يتبرأ منه، بل قد يكون ذلك سببا لترك اللعان مطلقا، وعودة الزوج لزوجته، أو الاكتفاء بتطليقها، وهو من المقاصد الشرعية في اللعان كما سنرى في محله.
وقد تعرض ابن القيم لهذا التجاذب بين اللعان الذي يقتضي نفي النسب، وبين الشبه الذي يقتضي إثباته، فقال:(فإن قيل: فالنبـيُّ صلى الله عليه وآله وسلم قد حكم بعدَ اللعان، ونفى الولد بأنه إن جاء يُشبِهُ الزوجَ صاحبَ الفراش فهو له، وإن جاء يُشبه الذي رميت به، فهو له، فما قولُكم في مثل هَذه الواقعة إذا لاعن امرأته وانتفى من ولدها، ثم جاء الولدُ يُشبهه، هل تُلحِقُونه به بالشبه عملاً بالقافة، أو تحكمون بانقطاع نسبه منه عملاً بموجب لعانه؟)([60])
وأجاب بما يبين حقيقة هذا التعارض، وأن كل الاعتبارات فيه ممكنة، فقال جوابا عن الإشكال السابق:(هذا مجال ضَنكٌ، وموضع ضيق تجاذب أعِنتَه اللعانُ المقتضي لانقطاع النسب، وانتفاء الولد وأنه يُدعى لأمه ولا يدعى لأب، والشبه الدال على ثبوت نسبه من الزوج، وأنه ابنُه، مع شهادة النبـي صلى الله عليه وآله وسلم بأنها إن جاءت به على شبهه، فالولدُ له، وأنه كذب عليها، فهذا مضيق لا يتخَلصُ منه إلا المستبصرُ البصير بأدلة الشرع وأسراره، والخبـيرُ بجمعه وفرقهِ الذي سافرت به هِمتُه إلى مطلع الأحكام، والمشكاة التي منها ظهر الحلالُ والحرام) ([61])
ومرادنا من هذا أن المسألة محتملة لكلا الوجهين فلذلك لا حرج من اعتبار ما ذكرناه، فهو من الوجوه المحتملة، ولو أن ابن القيم رجح وجها آخر عبر عن بقوله:(والذي يظهر في هذا، والله المستعان وعليه التكلان، أن حكم اللعان قطع حكم الشبه، وصار معه بمنزلة أقوى الدليلين مع أضعفِهما، فلا عبرة للشبه بعد مضي حكم اللعان في تغيـير أحكامه، والنبـيُّ صلى الله عليه وآله وسلم لم يُخبِر عن شأن الولد وشبهه ليغير بذلك حكم اللعان، وإنما أخبر عنه، ليتبـين الصادقُ منهما من الكاذب الذي قد استوجبَ اللعنة والغضب، فهو إخبار عن أمر قدري كوني يتبـين به الصادقُ مِن الكاذب بعد تقرر الحكم الديني، وأن الله سبحانه سيجعل في الولد دليلاً على ذلك، ويدل عليه أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال ذلك بعد انتفائهِ من الولد، وقال: (إِن جَاءَت بِهِ كذا وكذا، فَلَا أُرَاهُ إِلا صَدَقَ عَلَيها، وَإِن جَاءَت بِهِ كَذَا وَكَذَا، فَلَا أُرَاهُ إِلا كَذَبَ عَلَيها)، فجاءت به على النعت المكروه، فعلم أنه صَدَقَ عليها، ولم يَعرِض لها، ولم يفسخ حكم اللعان، فيحكم عليها بحكم الزانية مع العلم بأنه صدق عليها) ([62])
وما ذكره ابن القيم من عدم انتفاء اللعان صحيح لأن من مقاصد اللعان درء الحد، فلذلك لا يفسخ اللعان، ولا يقام على الرجل أو المرأة الحد حتى لو ثبت صدق أحدهما، وإنما الذي ذكرناه هو أمر له علاقة بالنسب حرصا على إثباته لأهله لتشوف الشرع لإثبات الأنساب، وهو أمر تبعي للعان وأثر من آثاره، فلذلك يمكن تخلفه، بل يتحرى القاضي لإزالته، فهو أخطر آثار اللعان.
ولو أن ابن القيم اطلع على دقة الوسائل الحديثة في إثبات الأنساب لقال بما ذكرنا، فإن النصوص الشرعية جعلته محتملا لاحتمال الوسائل التي كانت موجودة حينذاك، فإذا زال الوهم عن الوسيلة وتحقق بها المقصود تحققا يقينيا، عاد الحكم إلى أصله، والأصل في هذا الباب عودة الأنساب إلى أصحابها.
أن لا يكذب الزوج نفسه بعد اللعان:
اتفق الفقهاء على أن الزوج الملاعن إن كذب نفسه بعد اللعان، وتبين له خطؤه، فإن ولده يلحق به، وقد اختلف في حقه في استلحاق الولد بعد موته على قولين:
القول الأول: يلحقه نسب الولد مطلقا، حيا كان الولد أو ميتا، غنيا كان أو فقيرا، وهو قول الشافعي، وأبي ثور والحنابلة، واستدلوا على ذلك بما يلي:
1 ـ أن هذا ولد نفاه باللعان، فكان له استلحاقه، كما لو كان حيا، أو كان له ولد.
2 ـ أن النسب لا تمنع التهمة لحوقه، بدليل أنه لو كان له أخ يعاديه، فأقر بابن، لزمه، وسقط ميراث أخيه، ولو كان الابن حيا وهو غني، والأب فقير، فاستلحقه، فهو متهم في إيجاب نفقته على ابنه، ومع ذلك يقبل قوله، فكذلك هاهنا.
القول الثاني: يلحقه نسب الولد بقيود معينة، فقيده الثوري بقوله:(إذا استلحق الولد الميت نظرنا ؛ فإن كان ذا مال، لم يلحقه ؛ لأنه إنما يدعي مالا، وإن لم يكن ذا مال، لحقه)
وقيده الحنفية بأنه إن كان الولد الميت ترك ولدا، ثبت نسبه من المستلحق، وتبعه نسب ابنه، وإن لم يكن ترك ولدا، لم يصح استلحاقه، ولم يثبت نسبه، ولا يرث منه المدعي شيئا؛ لأن نسبه منقطع بالموت، فلم يصح استلحاقه.
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة هو ثبوت النسب بالاستلحاق بشروط نعرفها في محلها من هذا الفصل.
أن لا تكون الزوجة مكرهة على الزنا:
ولو في طهر لم يمسها فيه، وقد اختلف الفقهاء في اعتبار هذا الشرط على قولين:
القول الأول: إن أكرهت زوجته على الزنا في طهر لم يصبها فيه، فأتت بولد يمكن أن يكون من الواطئ، فهو منه، وليس للزوج قذفها بالزنا، وهو قول الحنفية ورواية عند الحنابلة، واستدلوا على ذلك بما يلي:
1 ـ أن هذا ليس بزنا منها.
2 ـ أن نفي الولد لا يكون إلا باللعان، ومن شرط اللعان القذف.
3 ـ أن اللعان لا يتم إلا بلعان المرأة، ولا يصح اللعان من المرأة هنا ؛ لأنها لا تكذب الزوج في إكراهها على ذلك.
القول الثاني: أن له نفيه باللعان، وهو قول الشافعي ورواية عند الحنابلة، واستدلوا على ذلك بما يلي:
1 ـ أنه محتاج إلى نفيه، فشرع له اللعان طريقا إليه، كما لو طالبته.
2 ـ أن نفي النسب الباطل حق له، فلا يسقط برضاها به، كما لو طالبت باللعان ورضيت بالولد.
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة هو التحري بالوسائل الدقيقة في حال الشك، كما ذكرنا سابقا، حتى لا ينسب الابن لغير أبيه، وحتى يزول ألم الشك عن الأب ببرد اليقين، لأن الأب الذي يشك في نسبة ابنه إليه لا يمكنه أن يتعامل معه معاملة أبوية محضة، فلذلك يحتاج لإزالة هذا الشك إما بإثباته له أو بإثباته لأبيه من الزنا.
فلا يصح نفي الحمل قبل الوضع، وقد اختلف الفقهاء في اعتبار هذا الشرط على الأقوال التالية:
القول الأول: لا ينتفي الحمل بنفيه قبل الوضع، ولا ينتفي حتى يلاعنها بعد الوضع، فإن لاعنها وهي حامل، ثم أتت بالولد لزمه، ولم يتمكن من نفيه، وهو قول أبي حنيفة وقول عند الحنابلة، واستدلوا على ذلك بما يلي:
1 ـ أن الحمل غير مستيقن، فيمكن أن يكون حملا وهميا، فيصير نفيه مشروطا بوجوده، ولا يجوز تعليق اللعان بشرط.
2 ـ ثبوت الولد له إن لاعنها حال الحمل بسبب أن اللعان لا يكون إلا بين الزوجين، وهي قد بانت منه بلعانها في حال حملها.
القول الثاني: يصح نفي الحمل، وينتفي عنه، وهو قول مالك، والشافعي، ومن الأدلة على ذلك:
1 ـ ما ورد في حديث هلال من أنه نفى حملها فنفاه عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وألحقه بالأول. ولا خفاء بأنه كان حملا، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (انظروها، فإن جاءت به كذا وكذا) ([63])
2 ـ الآثار الكثيرة الدالة على ذلك من السلف.
3 ـ أن عدم القول بذلك فيه إلزام الزوج ولدا ليس منه، وسد باب الانتفاء من أولاد الزنا، مع أن الله تعالى قد جعل له إلى ذلك طريقا، فلا يجوز سده.
4 ـ أن الحمل مظنون بأمارات تدل عليه، ولهذا ثبتت للحامل أحكام تخالف بها الحائل: من النفقة، والفطر في الصيام، وترك إقامة الحد عليها، وتأخير القصاص عنها وصحة استلحاق الحمل، فكان كالولد بعد وضعه.
القول الثالث: إن كانت المرأة الملاعنة حاملا فبتمام الالتعان منهما جميعا ينتفي عنه الحمل ذكره أو لم يذكره، إلا أن يقر به فيلحقه ولا حد عليه في قذفه لها مع إقراره بأن حملها منه إذا التعن، فلو صدقته هي فيما قذفها به، وفي أن الحمل ليس منه حدث، ولا ينتفي عنه ما ولدت، بل هو لاحق به، فإن لم يلاعنها حتى وضعت حملها فله أن يلاعنها لدرء الحد عن نفسه، وأما ما ولدت فلا ينتفي عنه بعد أصلا، وهو قول ابن حزم، وهو الموضع الوحيد لنفي الولد عنده([64]).
وقد استدل لذلك بقوله صلى الله عليه وآله وسلم:(الولد للفراش)، قال ابن حزم:(فصح أن كل من ولد على فراشه ولد فهو ولده إلا حيث نفاه الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، أو حيث يوقن بلا شك أنه ليس هو ولده، ولم ينفه صلى الله عليه وآله وسلم إلا وهي حامل باللعان فقط، فيبقى ما عدا ذلك على لحاق النسب)
ولهذا الاعتبار قال بأن الزوجة إن صدقته في أن الحمل ليس منه، فإن تصديقها له لا يلتفت إليه، بناء على تغليب اعتبار النسب، فهو حق متعد، ليس قاصرا على الأبوين، فلذلك لا حق لهما في نفيه، واستدل لذلك بقوله تعالى:{ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى }(الأنعام:164)، قال: (فوجب أن إقرار الأبوين لا يصدق على نفي الولد، فيكون كسبا على غيرهما، وإنما نفى الله تعالى الولد إن كذبته الأم والتعنت هي والزوج فقط، فلا ينتفي في غير هذا الموضع) ([65])
نرى أن الأرجح في المسألة هو ثبوت حق الزوج في اللعان لنفي الولد الذي شك فيه سواء كانت زوجته حاملا أو غير حامل بالشروط التي ذكرناها سابقا من تقديم التحري، واللعان في هذه الحالة، لا يكون لنفي الولد بل لدرء الحد، إلا إذا لم تفلح الوسائل في التعرف على صحة النفي، أو لم توجد، فحينذاك يمكن الالتعان لنفي الولد.
فلذلك فإن القول الثاني هو الأرجح لتصريح الأدلة به، قال ابن قدامة: (وهذا القول هو الصحيح ؛ لموافقته ظواهر الأحاديث وما خالف الحديث لا يعبأ به كائنا ما كان) ([66])
وقد فصل ابن القيم موضع الالتعان في هذه الحالة بقوله:(هذا موضعُ تفصيل لا بُد منه، وهو أن الحملَ إن كان سابقاً على ما رماها به، وعلم أنها زنت وهي حامل منه، فالولد له قطعاً، ولا ينتفي عنه بلعانه، ولا يَحِلُّ له أن ينفيَه عنه في اللعان، فإنها لما علقت به، كانت فراشاً له، وكان الحملُ لاحقاً به، فزناها لا يُزيل حكم لحوقه به، وإن لم يعلم حملَها حالَ زناها الذي قد قذفها به، فهذا ينظر فيه، فإن جاءت به لأقل مِن ستة أشهر من الزنى الذي رماها به، فالولدُ له، ولا ينتفي عنه بلعانه، وإن ولدته لأكثر من ستة أشهر من الزنى الذي رماها به، نظر، فإما أن يكون استبرأها قبل زناها، أو لم يستبرئها، فإن كان استبرأها، انتفى الولد عنه بمجرد اللعان، سواء نفاه، أو لم ينفه، ولا بُد من ذِكره عند من يشترط ذِكره، وإن لم يستبرئها، فهاهنا أمكن أن يكون الولدُ منه، وأن يكون من الزاني، فإن نفاه في اللعان، انتفى، وإلا لحق به، لأنه أمكن كونُه منه ولم ينفه) ([67])
وما ذكره ابن القيم من التفصيل يدل على تشديد الشرع في اللعان المتعلق بنفي الولد، بخلاف اللعان لدرء الحد، لاختلاف المقصد في كليهما، وهو يؤيد بذلك ما ذكرناه سابقا من تقديم التحري على اللعان.
وهو أن يصرح بنفيه حال اللعان وبعد الوضع، فإن سكت عن نفيه، مع إمكانه، فقد اختلف الفقهاء في ذلك على الأقوال التالية:
القول الأول: له تأخير نفيه مدة، وقد اختلفوا في تقدير هذه المدة، فقدرها أبو حنيفة باليوم واليومين، لأن النفي عقيب الولادة يشق، فقدر باليومين لقلته، وقدرها أبو يوسف ومحمد بمدة النفاس ؛ لأنها جارية مجرى الولادة في الحكم، وحكي عن عطاء، ومجاهد، أن له نفيه ما لم يعترف به فكان له نفيه، كحالة الولادة.
القول الثاني: إن سكت عن نفيه، مع إمكانه التصريح بنفيه لزمه نسبه، ولم يكن له نفيه بعد ذلك، وهو قول الشافعية والحنابلة، ولا يتقدر ذلك عندهم بزمن، بل هو على ما جرت به العادة، إن كان ليلا فحتى يصبح وينتشر الناس، وإن كان جائعا أو ظمآن فحتى يأكل أو يشرب، أو ينام إن كان ناعسا، وأشباه ذلك من أشغاله، فإن أخره بعد هذا كله، لم يكن له نفيه، واستدلوا على ذلك بما يلي:
1 ـ أنه خيار لدفع ضرر متحقق، فكان على الفور، كخيار الشفعة.
2 ـ أن قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (الولد للفراش) ([68]) عام خرج منه ما وردت به السنة الثابتة، وبقي ما عداه على عموم الحديث.
3 ـ أن ما ذكره المخالفون من آجال تحكم لا دليل عليه.
القول الثالث: أنه ليس له نفيه بعد الوضع، وهو قول ابن حزم، وقد سبق ذكر أدلته في المسألة السابقة.
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة هو أن التأخر عن نفيه بعد الوضع، وبعد توفر الأسباب الكافية للعانه تهمة تقتضي المزيد من التحري، زيادة على التحري الذي ذكرناه سابقا.
أعذار التأخر عن التصريح بالنفي وأحكامها:
نص الفقهاء([69]) القائلون باشتراط الفورية في اعتبار تعلله بالجهل، على الحالات التي يمكن اعتبارها وعدم اعتبارها، وهذه خلاصة ما ذكروا من ذلك([70]):
تعلله بالجهل بالولادة: فيتعلل بأنه لم يعلم بالولادة، فيصدق إن كان في موضع يخفى عليه ذلك، مثل أن يكون في بلدة أخرى، فالقول قوله مع يمينه ؛ لأن الأصل عدم العلم، أما إن كان معها في الدار فلا يقبل منه ذلك، لأنه لا يكاد يخفى عليه.
تعلله بالجهل بحقه في نفيه: بأن يقول: علمت ولادته، ولم أعلم أن لي نفيه، أو علمت ذلك، ولم أعلم أنه على الفور، فينظر إلى علمه وفقهه، فإن كان ممن يخفى عليه ذلك، كعامة الناس، قبل، أما إن كان فقيها، فلا يقبل ذلك منه ؛ إلا إذا خفيت عليه مثل هذه الأحكام.
تعلله بالعذر الذي يمنعه من الحضور لنفيه:كالمرض أو العمل، وفي هذه الحالة ينظر إلى مدة تأخره، فإن كانت قصيرة لم يبطل نفيه، أما إن كانت طويلة وأمكنه التنفيذ إلى الحاكم ليبعث إليه من يستوفي عليه اللعان والنفي، فلم يفعل، سقط نفيه إلا إذا أشهد على نفسه أنه ناف لولد امرأته، فإن لم يشهد، بطل خياره.
تعلله بعدم تصديق المخبر له بولادة زوجته:وينظر في هذه الحالة إلى مدى استفاضة الخبر وانتشاره، فإن كان مستفيضا منتشرا، لم يقبل قوله، أما إن لم يكن مستفيضا، وكان المخبر غير عدل فإنه يقبل منه هذا العذر.
تعلله بالستر على نفسه وعلى زوجته: إن ادعى تأخير نفيه رجاء موت الولد ليستر عليه وعلي نفسه لم يقبل عذره، لأنه أخر نفيه مع الإمكان لغير عذر.
فإذا وجد نفي النسب وحده دون القذف، فإن له في ذلك أحكاما خاصة ترجع إلى تعبيره في نفي ولده، ومن الأمثلة التي ذكرها الفقهاء لعدم التصريح قوله عن ولده:ليس هذا الولد مني، فلا حد عليه في هذه الحالة لاحتمال أنه يريد أنه من زوج آخر، أو من وطء بشبهة، أو غير ذلك، ولهذا يسأل عن مراده، ويصدق في إخباره عن نفسه، ولا يحد أو يطالب باللعان إلا في حالة واحدة، وهي أن يصرح بزناها، فإن قالت الزوجة: بل أردت قذفي، فالقول قوله ؛ لأنه أعلم بمراده.
وقد اختلف الفقهاء هنا في المسائل التالية:
ادعاء حصول الإكراه للزوجة على الزنا:
لو ادعى أنها أكرهت على الزنا([71])، فهل يلاعن لأجل نفي ولده منها،أم لا يلاعن، وقد اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: لا يطالب باللعان لأنه لم يقذفها، ومن شرط اللعان القذف، ويلحقه نسب الولد، وهو قول الحنفية وقول عند الحنابلة، واستدلوا على ذلك بما يلي:
1 ـ أن اللعان إنما ورد به الشرع بعد القذف، في قوله تعالى:{ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ}(النور:6)
2 ـ لما لاعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين هلال وامرأته كان بعد قذفه إياها، وكذلك لما لاعن بين عويمر العجلاني وامرأته كان بعد قذفه إياها.
3 ـ أن نفي اللعان إنما ينتفي به الولد بتمامه منهما، ولا يتحقق اللعان من المرأة هاهنا.
القول الثاني: أن له اللعان، وهو قول الشافعي وقول عند الحنابلة.
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة هو عدم اللعان، مع التحري في نسب الولد، لأن مقصد اللعان درء الحد، وفي هذه الحالة يدرأ الحد عنها إن نكلت عن اللعان باعتبارها مكرهة، أما التحقق من نسب الولد، فلنفي الشك كما ذكرنا سابقا.
لو صرح بأنها موطوءة بشبهة مع ادعائه علمها بذلك، وقد اتفق الفقهاء على أنه قد قذفها بذلك، ولكنهم اختلفوا في حقه في لعانها لنفي نسب ولدها على قولين:
القول الأول: ليس له نفيه باللعان، وهو قول الشافعية وقول عند الحنابلة، لأنه يمكنه نفي نسبه بعرضه على القافة.
القول الثاني: أن له اللعان لنفي نسب الولد منها، وهو قول الحنابلة، واستدلوا على ذلك بما يلي:
1 ـ أنه رام لزوجته، فيدخل في عموم قوله تعالى:{ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ}(النور:6)
2 ـ أنه قد تتعذر القافة، وقد لا يعترف الرجل بما نسب إليه، أو يغيب أو يموت، فلا ينتفي الولد.
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة أنه ليس له نفي الولد باللعان، بل له أن يستعمل في ذلك وسائل التتحقق الشرعية، وهي متيسرة ويقينية في عصرنا.
لو قال لزوجته: ما ولدته وإنما التقطته أو استعرته، وخالفته المرأة في ذلك، وقد اختلف الفقهاء في أيهما يصدق، واختلفوا بناء على ذلك في حقه في لعانها لنفي النسب على قولين:
القول الأول: القول قول الرجل، ولا يقبل قول المرأة إلا ببينة وهي امرأة مرضية، تشهد بولادتها له، فإذا ثبتت ولادتها له، لحقه نسبه ؛ لأنه ولد على فراشه، والولد للفراش،وهو قول الشافعي وأبي ثور والحنفية وقول عند الحنابلة، واستدلوا على ذلك بأن الولادة يمكن إقامة البينة عليها، والأصل عدمها، فلم تقبل دعواها من غير بينة، كالدين.
القول الثاني: أن القول قول المرأة، وهو قول عند الحنابلة، واستدلوا على ذلك بما يلي:
1 ـ قول الله تعالى:{ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ }(البقرة:228)، وتحريم كتمانه دليل على قبول قولها فيه.
2 ـ أنه خارج من المرأة، تنقضي به عدتها، فقبل قولها فيه، كالحيض.
3 ـ وعلى هذا القول فإن النسب لاحق به إلا أن ينفيه باللعان، فقد اختلف فيه على وجهين:
4 ـ ليس له نفيه ؛ لأن إنكاره لولادتها إياه، إقرار بأنها لم تلده من زنا، فلا يقبل إنكاره لذلك، لأنه تكذيب لنفسه.
5 ـ أن له نفيه ؛ لأنه رام لزوجته، وناف لولدها، فكان له نفيه باللعان، كغيره.
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة هو أن القول في هذه الحالة هو قول البينة، وهي التأكد من صحة نسبة الولد لأبيه، ولا يصح اللعان في هذا، لأن اللعان مرتبط بالقذف، والزوج لم يقذفها، وإنما اتهمها، فإن تعذرت البينة أو لم تكن جازمة، فإن الولد للفراش.
ثالثا ـ مسائل معاصرة تتعلق بنسب الولد
لقد حدثت في عصرنا بسبب التقدم العلمي والتقني كثير من الوسائل التي يتم بواسطتها الحمل، ولها علاقة بهذا الجانب، وذلك يستدعي البحث عن أحكامها في ضوء الضوابط الشرعية لإثبات الأنساب، وهذا ما سنحاول طرحه في هذا المطلب:
والصورة العلمية لهذا ـ كما يذكر المختصون ـ هو أنه يتم شفط البويضة من مبيضها خلال منظار يخترق جدار البطن،ثم تلقيح هذه البويضة بمني من الزوج يلتحم بها ليكونا بيضة تشرع في الانقسام إلى عديد من الخلايا ثم إيداع هذه الكتلة من الخلايا أي الجنين الباكر رحم امرأة أخرى بعد إعداده هرمونيا لاستقبال جنين، فيكمل الجنين نموه في رحم هذه السيدة المضيفة حتى تلده وتسلمه لوالديه اللذين منهما تكون.
ويتعلق بهذا النوع من الحمل بغض النظر عن مدى واقعيته حاليا، نوعان من الأحكام، يرتبط أحدهما بالتكليف الشرعي، ويتعلق الآخر بأثر هذا النوع من الحمل في حال حصوله، وبيانهما فيما يلي:
الظاهر من النصوص الشرعية والأدلة العقلية حرمة هذا النوع من الحمل، وقد قال بهذه الحرمة من المعاصرين يوسف القرضاوي الذي سئل منذ فترة طويلة([72]) عن هذه المسألة فأجاب بالقول بالحرمة، وعلل فتواه بما نلخصه فيما يلي:
لأن الأم الحقيقية ـ حسب هذه المسألة ـ هي صاحبة البويضة الملقحة، التي منها يتكون الجنين، فهي التي ينسب إليها الطفل، وهي الأحق بحضانته، وهي التي تناط بها جميع أحكام الأمومة وحقوقها من الحرمة والبر والنفقة والميراث وغيرها، وكل دور هذه الأم في صلتها بالطفل أنها أنتجت بويضة أفرزتها بغير اختيارها، وبغير مكابدة ولا مشقة عانتها في إفرازها.
أما المرأة التي حملت الجنين في أحشائها وغذته من دمها، حتى غدا بضعة منها، واحتملت في ذلك مشقات الحمل، فلا تعدو أن تكون مجرد مضيفة أو حاضنة تحمل وتتألم وتلد، فتأتي صاحبة البويضة، فتنتزع مولودها من بين يديها، دون مراعاة لما عانته من آلام، وما تكون لديها من مشاعر، وكأنها مجرد أنبوب من الأنابيب لا إنسان ذو عواطف وأحاسيس.
وقد دلت النصوص على أن حق الأمومة ناتج عما تتحمله الأم من أعباء الحمل، ومتاعب الوضع، فهي التي نوه بها القرآن الكريم، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، كما قال تعالى: { وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا }(لقمان:15)
ففي اللغة يعبر عن الأم بوصف يعبر عنها وعن حقيقة صلتها بطفلها هو الوالدة، وسمى الأب الوالد مشاكلة للأم، وسميا معا الوالدين على سبيل التغليب للأم الوالدة الحقيقية، أما الأب فهو في الحقيقة لم يلد، إنما ولدت امرأته.
وفي الشرع نرى القرآن الكريم يحصر حقيقة الأمومة في الولادة بنص حاسم، فيقول في تخطئة المظاهرين من نسائهم: { إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُور}(المجادلة:2)
ومن السنة روي عن عبد الله بن عمرو أن امرأة قالت: يا رسول الله، إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وحجري له حواء، وثديي له سقاء، وإن أباه طلقني وزعم أنه ينتزعه مني! فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (أنت أحق به ما لم تنكحي)([73])
ولأجل هذا أعطى الشرع حق الحضانة للأم وقدمها على الأب، وجعلها أحق بطفلها منه، لما ذكرته هذه المرأة الشاكية من أسباب وحيثيات تجعلها أحنى على الطفل وأرفق به وأصبر على حضانته من أبيه، فقد صبرت على ما هو أشد وأقسى من الحضانة، حين حملته كرها ووضعته كرها.
مراعاة القواعد الشرعية النافية للضرر:
وخاصة قاعدتين هما: إن الضرر يزال بقدر الإمكان، وأن الضرر لا يزال بالضرر، فإذا طبقنا هاتين القاعدتين على الواقعة التي معنا، نجد أننا نزيل ضرر امرأة -هي المحرومة من الحمل- بضرر امرأة أخرى، هي التي تحمل وتلد، ثم لا تتمتع بثمرة حملها وولادتها وعنائها. فنحن نحل مشكلة بخلق أخرى.
لأن هذا الباب إذا فتح، سيدخله كل ذات مال من ربات الجمال والدلال، ممن تريد أن تحافظ على رشاقتها، فما أيسر عليها أن تستأجر مضيفة تحمل لها، وتلد عنها، وترضع بدلها، وتسلم لها بعد ذلك ولدا جاهزا تأخذه بيضة مقشورة، ولقمة سائغة، لم يعرق لها فيه جبين، ولا تعبت لها يمين، ولا انتفض لها عرق.
وإذا كان مبيض الأنثى يفرز كل شهر قمري بويضة صالحة -بعد التلقيح- ليكون منها طفل، فليت شعري ما يمنع المرأة الثرية أو زوجة الثري أن تنجب في كل شهر طفلا مادام الإنجاب لا يكلفها حملا ولا يجشمها ولادة.
ويستطيع الرجل الثري أيضا أن يكون له جيش من الأولاد بعد أن يتزوج من النساء مثنى وثلاث ورباع، يمكن لكل واحدة أن تنجب حوالي 500 خمسمائة من البنين والبنات بعدد ما تنتج من البويضات، طوال مدة تبلغ أو تتجاوز الأربعين عاما من سن البلوغ إلى سن اليأس.
هذا خلاصة ما ذكره القرضاوي في حكم هذه المسألة من الناحية التكليفية، ولا شك في هذه الحرمة، ولكنها مع ذلك قد تنتفي في أحوال خاصة تدعو إليها الضرورة وتمس إليها الحاجة، وذلك مثل أن يكون بالمرأة عيب في رحمها يحول بينها وبين الحمل مع الرغبة الشديدة فيه، ووجدت امرأة سليمة تقبلت استضافة حملها بدون استغلال لها، وإنما تطوعت به رعاية لها، وكان ذلك عند طبيب ثقة خبير فلا حرج في هذه الحالة من هذا على أن يبقى في حدود الضرورة الملحة، والأولى اجتناب هذا السبيل والرضى بالقسمة الإلهية.
وقد ذكر الشيخ القرضاوي جملة من الشروط في حال الحاجة إلى مثل هذا النوع من الحمل المحرم، وهذه الشروط هي:
1 ـ يجب أن تكون الحاضنة امرأة ذات زوج، إذ لا يجوز أن تعرض الأبكار والأيامى للحمل بغير زواج، لما في ذلك من شبهة الفساد.
2 ـ.يجب أن يتم ذلك بإذن الزوج، لأن ذلك سيفوت عليه حقوقا ومصالح كثيرة، نتيجة الحمل والوضع، وإذا كان الحديث ينهى المرأة أن تصوم تطوعا إلا بإذن زوجها، فكيف بحمل يشغل المرأة تسعة أشهر ونفاس قد يستغرق أربعين يوما؟
3 ـ يجب أن تستوفي المرأة الحاضنة العدة من زوجها، خشية أن يكون برحمها بويضة ملقحة، فلا بد أن تضمن براءة رحمها، منعا لاختلاط الأنساب.
4 ـ نفقة المرأة الحاضنة وعلاجها ورعايتها، طوال مدة الحمل والنفاس، على أب الطفل ملقح البويضة -أو وليه من بعده، لأنها تغذيه من دمها، فلا بد أن تعوض عما تفقد، وقد قال تعالى في شأن المطلقات: { وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}(الطلاق:6)وقال في شأن المرضعات: { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } (البقرة:233)ثم قال: وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}(البقرة:233)
5 ـ جميع أحكام الرضاعة وآثارها تثبت هنا من باب قياس الأولى، لأن هذا إرضاع وزيادة، إلا فيما يتعلق بزوج المرأة الحاضنة، فهناك في الرضاع يعتبر أبا لمن أرضعته أمه إذا كان اللبن من قبله، لأن التغيرات التي تحدث بجسم المرأة أثناء الحمل، وبعد الوضع من إدرار اللبن ونحوه بسبب الولد أو الجنين الذي كان لماء الرجل دخل أساسي في تكوينه.
6 ـ أن زوج المرأة الحاضنة أو المضيفة ليس له أي علاقة بالجنين أو الوليد.
7 ـ إن من حق هذه الأم الحاضنة أن ترضع وليدها إن تمسكت بذلك، فإن ترك اللبن في ثديها دون امتصاص قد يضرها جسميا، كما يضرها نفسيا، وليس من مصلحة الطفل أن يجري الله له الحليب في صدر أمه، ثم يترك عمدا ليغذى بالحليب الصناعي، وقد جعل الله الرضاع مرتبطا بالولادة فقال: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } (البقرة:233)
8 ـ أن هذه الأمومة -إن حدثت- يجب أن تكون لها مزايا فوق أمومة الرضاع، ومن ذلك إيجاب نفقة هذه الأم على وليدها إذا كان قادرا واحتاجت هي إلى النفقة.
وهو البحث في نسب الولد هل هو لأمه أم لمضيفته، وقد يقال هنا بادئ الرأي أن أم الولد هي صاحبة البييضة، لأن أصل الولد منها، وسوف يرث خصائص البييضة، وصاحبة الرحم لا تعطيه إلا غذاء كالمرضعة ولا تعطيه أي توريث لأي صفة وراثية، ولكن الأدلة الشرعية والكشوفات العلمية تنفي هذا الاعتبار الذي يدل عليه ظاهر المسألة، وينفيه باطنها:
فقد نص العلماء على أنه لا دليل يقطع بعدم تأثير الرحم في حال الجنين وتوريث الخصائص، فربما يقف الطب يوما ما على نوع ذلك التأثير، بل قال بعض الأطباء:(إن الولد في الحقيقة بصرف النظر عن أصل البييضة ليس فقط نتاج الكروموزمات الوراثية فقد ثبت طبياً الآن ـ وهو الاتجاه الطبي الجديد ـ أن الإنسان نتاج العوامل الوراثية وتفاعلها مع البيئة المحيطة، وأشد هذه البيئات التصاقا به هو رحم أمه، فبصرف النظر عن الكروموزومات التي تحمل الشفرة الوراثية، إلا أن هذا السلوك الوراثي يتأثر بالبيئة… فيمكن أن يكون الطفل يحمل كروموزومات المبيض الأصل الذي استنبط منه، ولكن وجوده وتكونه وتغيره صحياً وجسمياً ـ وقد يكون والله أعلم نفسياً ـ متأثر بالرحم الذي حمل فيه)([74])
زيادة على هذا الدليل العلمي الذي لا يزال يحتاج إلى تأكيد أكثر، فإن ظاهر الكثير من الآيات القرآنية يدل على اعتبار كون الأم هي الوالدة كقوله تعالى: { وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ }(النجم:32)، وقوله تعالى:{حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا }(لقمان:15)، وقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ }(النحل:78)، وقوله تعالى:{ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ }(الزمر:6)، وقوله: { إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ }(المجادلة:2)، وهذه الآية الأخيرة لمكان أوضح دلالة من غيرها على المطلوب، فقد حصرت الأمهات في الوالدات.
ولعل هناك من يتوهم من أن المراد بالحصر هنا إنما هو بالنسبة إلى الأزواج المظاهرين لا بالنسبة إلى غيرهم، لكن هذا يتنافى مع الأخذ بإطلاق الآية، والأصل في المطلق أن يبقى على إطلاقه.
ومع ذلك تبقى المسألة موضع بحث فيما يتعلق بالنسب فيما لو تنازعته صاحبة البييضة والأم المضيفة، أما الحرمة، فلا شك فيها قياسا على الحرمة بسبب الرضاع، وهي هنا من باب أولى، فالجنين لا يتغذى من لبنها فقط، وإنما يتغذى من لحمها ودمها.
من الأسباب الرئيسية لعدم الإنجاب في المرأة ـ كما يقرر الأطباء ـ هو انسداد البوقين، ويحدث ذلك في حدود 40 بالمئة، ومنذ سنوات بدأت محاولات في التغلب على مشكلة انسداد البوقين في المرأة، وذلك بطريقتين([75]):
الطريقة الأولى: استبدال الأنبوبة المسدودة بأخرى سليمة وطبيعية ومفتوحة من امرأة أخرى، وفي عملية النقل التي تستغرق ساعات طويلة يتم تغذية الأنبوبة بالمحاليل بواسطة الأوعية الدموية التي تتصل بها وتغذيها([76]).
الطريقة الثانية: عملية طفل الأنابيب التي نجحت في 1978 في انجلترا.
ولهذه الطريقة الثانية من الحمل أحوال مختلفة، بحسب نسبة الحيوان المنوي أو البييضة، ولهذا علاقة بأحكام النسب، وسنتكلم عن هذه الأحوال وعن أحكامها التكليفية والوضعية فيما يلي:
الحالة الأولى: أن يكون طفل الأنبوب من الحيوان المنوي للزوج وبييضة الزوجة، فهذا مما لا خلاف في جوازه شرعا، سواء كانت لنقص في المرأة أو بغير عذر، ويلحق الولد بالزوجين.
الحالة الثانية: التحام الحيوان المنوي مع بيضة امرأة أجنبية، ثم نقلها من الأنبوبة إلى رحمها، وقد اتفق الفقهاء على عدم جواز هذه العملية، وقد استدل بعض العلماء على ذلك من القرآن الكريم بقوله Y: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ(5)إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ}(المؤمنون:5، 6)وقوله Y:{وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْوَالْحَافِظَاتِ}(الأحزاب:35)بناءً على عدم الفرق في حفظ الفرج بين الرجال والنساء، وحفظ الفرج مطلق يشمل حفظه عن فرج الآخر ومنيه([77]).
أما بالنسبة للنسب، وهو الحكم الوضعي لهذه الحالة، فإن الولد ولد المرأة لأنها صاحبة البييضة وهي الحامل، وهي الوالدة فيترتب عليهما جميع أحكام الولد والأم، أما بالنسبة إلى الأبوة، فإن اشتبه الحال بين استناد الولد إلى الزوج الأجنبي، فالولد ولد الزوج لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(الولد للفراش وللعاهر الحجر)([78])
أما إن لم يشتبه الحال، بل علم أن الولد من نطفة الأنبوبة المفروضة أنها من الأجنبي كما إذا كان الزوج غائباً أو علم عدم قربه منها وإن كان حاضراً أو كانت المرأة غير مزوجة فلا شك هنا في عدم ثبوته له، بل نسبه يثبت لصاحب النطفة واقعا وشرعا كما رجحنا ذلك سابقا.
الحالة الثالثة: نقل البييضة الملقحة ـ سواء كانت من الزوجين كما في الحالة الأولى أو من غيرهما كما في الحالة الثانية ـ إلى رحم امرأة غير صاحبة البييضة، سواء كانت مزوجة أو خلية، وقد تحدثنا عن هذه الحالة في مسألة خاصة تحت عنوان (شتل الجنين)من هذا المبحث.
الحالة الرابعة: نقل النطفة من الزوجين إلى زوجة أخرى لهذا الزوج بأن تكون إحداهما لها مبيض وليس لها رحم مثلا والأخرى لها رحم ولا تعطي بيضة، وحكمها التكليفي هو نفس حكم مسألة شتل الجنين، أما الحكم الوضعي فأبوة الزوج ثابتة لا شك فيها، أما الأم فمقتضى ما مر من الاستدلال هو أمومة الحامل الوالدة مع صاحبة البييضة.
الحالة الخامسة: نقل نطفة الزوجين إلى الزوجة كما في الحالة الأولى، لكن بعد وفاة زوجها، فيمكن أن تؤخذ الحيوانات المنوية من الزوج، وتوضع في ثلاجة لتجمد إلى فترة بعد سنة أو سنتين أو يمكن حتى بعد وفاة الزوج، ويمكن أن توضع هذه الأجنة مرة أخرى في الرحم([79]).
والحكم التكليفي لهذه الحالة يرتبط باعتبار الميت زوجا أم لا، لأنه إذا اعتبر أجنبيا كما لو طلق صار منيه كمني الأجنبي، وذلك لا يبعد شرعا لأن العرف الشرعي على اعتبار ارتباط الزوجية بالحياة، بدليل إجازة زواج المتوفى عنها زوجها، وجواز زواج الزوج بأختها في حال وفاتها.
وبناء على بطلان الزوجية في هذه الحالة لا يجوز نقل تلك النطفة إلى رحم الزوجة بعد موت زوجها، ويلحق بموت الزوج في الحكم طلاق الزوجة، وخاصة إن بانت منه، لأنه يحل لها الزواج من غيره.
أما الحكم الوضعي للمسألة فهو أن الولد ولدهما كما عرفنا سابقا، لكن في إرثه من أبيه الميت إشكالا، وقد ذكر بعض المعاصرين أن (الظاهر المستفاد من النصوص لزوم أن يكون الحمل حال حياة الأب في إرثه منه، فلا يرث مثل هذا الولد([80]) نعم لا مانع ـ ظاهراً ـ أن يرث هذا الولد من أقرباء أبيه إذا ماتوا بعد استقراره في الرحم للإطلاق.
ونختم هذه المسألة بقرار مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8 إلى 13 صفر 1407هـ / 11 إلى 16 أكتوبر 1986فقد قرر بعد استعراضه لموضوع التلقيح الصناعي [أطفال الأنابيب] وذلك بالإطلاع على البحوث المقدمة والاستماع لشرح الخبراء والأطباء ما يلي:
تبين للمجلس أن طرق التلقيح الصناعي المعروفة في هذه الأيام سبع، وهي:
1 ـ أن يجري تلقيح بين نطفة مأخوذة من زوج وبويضة مأخوذة من امرأة ليست زوجته ثم تزرع اللقيحة في رحم زوجته.
2 ـ أن يجري التلقيح بين نطفة رجل غير الزوج وبويضة الزوجة ثم تزرع تلك اللقيحة في رحم الزوجة.
3 ـ أن يجري تلقيح خارجي بين بذرتي زوجين ثم تزرع اللقيحة في رحم امرأة متطوعة بحملها.
4 ـ أن يجري تلقيح خارجي بين بذرتي رجل أجنبي وبويضة امرأة أجنبية وتزرع اللقيحة في رحم الزوجة.
5 ـ أن يجري تلقيح خارجي بين بذرتي زوجين ثم تزرع اللقيحة في رحم الزوجة الأخرى.
6 ـ أن تؤخذ نطفة من زوج وبويضة من زوجته ويتم التلقيح خارجياً ثم تزرع اللقيحة في رحم الزوجة.
7 ـ أن تؤخذ بذرة الزوج وتحقن في الموضع المناسب من مهبل زوجته أو رحمها تلقيحاً داخلياً.
وقد قرر بناء على هذه الأقسام بأن الطرق الخمسة الأولى كلها محرمة شرعاً وممنوعة منعاً باتاً لذاتها، أو لما يترتب عليها من اختلاط الأنساب وضياع الأمومة وغير ذلك من المحاذير الشرعية.
ولا يخرج ما ذكره هذا القرار على ما سبق ذكره من أحكام.
نظرا لما تكلمنا عنه في المسائل الماضية من إرجاع الأمر في النسب حال الشك، وفي أحوال كثيرة أخرى، للمختصين للتحقيق في نسب الولد، فإن هذا يستدعي التعرف على الأحكام المتعلقة بذلك وضوابطها ([81])، وقد طرح الفقهاء هذه المسألة فيما يسمى اصطلاحا بالقيافة ([82])، فلذلك سنتعرض في هذا المطلب لأحكامها، وضوابطها.
وقد اختلف الفقهاء في صحة إثبات النسب بالقيافة على قولين:
القول الأول: صحة ثبوت النسب بالقيافة، وهو قول الجمهور، ومن الأدلة على ذلك([83]):
1 ـ قوله تعالى:{ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ }(الإسراء:36)، قال ابن خويزمنداد:(تضمنت هذه الآية الحكم بالقافة، لأنه لما قال تعالى:{ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}(الإسراء:36)دل على جواز ما لنا به علم، فكل ما علمه الإنسان أو غلب على ظنه جاز أن يحكم به)، قال القرطبي:(فالقائف يلحق الولد بأبيه من طريق الشبه بينهما كما يلحق الفقيه الفرع بالأصل من طريق الشبه)([84])
2 ـ أن عائشة، قالت: دخل علي النبي صلى الله عليه وآله وسلم مسرورا تبرق أسارير وجهه، فقال: ألم تري أن مجززا المدلجي دخل علي فرأى أسامة وزيدا([85]) عليهما قطيفة قد غطيا بها رءوسها وقد بدت أقدامهما، فقال: (إن هذه الأقدام بعضها من بعض)([86])، فإقراره صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك يدل على أن القافة حق. قال الشافعي:(فلو لم يعتبر قوله لمنعه من المجازفة، وهو صلى الله عليه وآله وسلم لا يقر على خطأ ولا يسر إلا بالحق)([87])، قال ابن القيم:(ولو كانت كما يقول المُنازِعُونَ مِن أَمر الجاهلية كالكهانة ونحوها لما سُر بها، ولا أُعجِبَ بِهَا، ولكانت بمنزلة الكَهانة. وقد صح عنه وعيدُ مَن صَدقَ كاهناً)([88])
3 ـ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صرح في الحديث الصحيح بصحتها واعتبارِها، فقال في ولد الملاعنة: (إن جَاءَت بِهِ كَذَا وكَذَا فَهُوَ لِهَلاَل بنِ أُمَيةَ، وَإن جَاءَت به كَذَا وَكَذَا فَهُوَ لِشَرِيكِ بنِ سَحماءَ)، فلما جاءت به على شَبَهِ الذي رُمِيَت به قال: (لَولاَ الأيمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأنٌ)([89]) وهل هذا إلا اعتبار للشبه وهو عينُ القافة، فإن القائِفَ يتبعُ أَثرَ الشبه، وينظُر إلى من يتصِلُ، فيحكم به لصاحب الشبه.
4 ـ أن النبـي صلى الله عليه وآله وسلم اعتبر الشبه وبـين سببه لما قالت له أمُّ سلمة: أو تحتلم المرأة، فقال: (مِم يَكُونُ الشبَهُ)([90]).
5 ـ أخبر صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الصحيح، أن ماء الرجُل إذا سَبَقَ ماءَ المرأة، كان الشبَهُ لَهُ، وإذا سَبَقَ مَاؤُها مَاءَهُ، كان الشبَهُ لَهَا)([91])، قال القرافي:(فدل هذا الحديث على أن مني المرأة ومني الرجل يحدث شبها في الولد بالأبوين، فيأتي في الخلقة والأعضاء والمحاسن ما يدل على الأنساب)([92])
6 ـ أن السلف حكموا بالقيافة، فعن عمر في امرأة وَطئَها رجلانِ في طهرٍ، فقال القائفُ، قد اشتركا فيه جميعاً، فجعَله بـينهما، قال الشعبـي: وعلي يقول: هو ابنُهما، وهما أبواه يرثانه، وعن سعيد بن المسيب، في رجلين اشتركا في طُهرِ امرأةٍ، فحملت، فولَدَت غُلاماً يُشبههما، فرُفِعَ ذلك إلى عمرَ، فدعا القافة، فنظرُوا، فقالوا: نراه يُشبِهُهُمَا، فألحقه بهما، وجعَلَه يَرثُهما ويرثانه، ولا يُعرَفُ قطُّ في الصحابة مَن خالف عمر وعلياً في ذلك، بل حكم عمر بهذا في المدينة، وبحَضرته المهاجرون والأنصار، فلم يُنكِرهُ منهم منكر.
7 ـ أن الواقع يثبت كثيرا ما يقوله القافة، ومن ذلك ما ورد في مغني المحتاج عن بعض التجار أنه ورث من أبيه مملوكا أسود شيخا، قال: فكنت في بعض أسفاري راكبا على بعير، والمملوك يقوده، فاجتاز بنا رجل من بني مدلج فأمعن فينا نظره، ثم قال: ما أشبه الراكب بالقائد، قال: فرجعت إلى أمي فأخبرتها بذلك، فقالت: إن زوجي كان شيخا كبيرا ذا مال، ولم يكن له ولد فزوجني بهذا المملوك، فولدتك ثم فكني واستلحقك([93])، قال ابن قدامة:(وقد روينا أن رجلا شريفا شك في ولد له من جاريته، وأبى أن يستلحقه، فمر به إياس بن معاوية في المكتب، وهو لا يعرفه، فقال: ادع لي أباك. فقال له المعلم: ومن أبو هذا؟ قال: فلان. قال: من أين علمت أنه أبوه؟ قال: هو أشبه به من الغراب بالغراب. فقام المعلم مسرورا إلى أبيه، فأعلمه بقول إياس، فخرج الرجل وسأل إياسا، فقال: من أين علمت أن هذا ولدي؟ فقال: سبحان الله، وهل يخفى ولدك على أحد، إنه لأشبه بك من الغراب بالغراب. فسر الرجل، واستلحق ولده)([94])
8 ـ أن وجود الشبه بـين الأجانب، وانتفاؤه بـين الأقارب، وإن كان واقعاً، فهو نادر، والأحكام إنما هي للغالب الكثير، والنادرُ في حكم المعدوم.
9 ـ أن الفراش الصحيح إذا كان قائماً، لا يُعارَض بقافة ولا شَبَهٍ، فمخالفةُ ظاهر الشبه لدليلٍ أقوى منه، وهو الفِراشُ غيرُ مستنكر، وإنما المستنكرُ مخالفةُ هذا الدليل الظاهر بغير شيء.
10 ـ أن تقديم اللعان على الشبه، وإلغاءُ الشبه مع وجوده، هو مِن تقديم أقوى الدليلين على أضعفهما، وذلك لا يمنع العملَ بالشبه مع عدم ما يُعارضه، كالبـينة تُقدم على اليد والبراءة الأصلية، ويُعمل بهما عند عدمهما.
القول الثاني: عدم اعتبار القافة في إثبات الأنساب، وهو قول الحنفية، ومن الأدلة على ذلك([95]):
1 ـ قوله صلى الله عليه وآله وسلم للذي أنكر ولده من لونه:(لعله نرعه عق)، بعد أن قال له: هل لك من إبل؟ قال: نعم قال: فما ألوانها؟قال: بيض قال: هل فيها من أورق؟ قال: نعم قال: فمن أين ذلك الأورق؟ قال: لعله عرق نزع قال له صلى الله عليه وآله وسلم:(لعله عرق نزع)([96])، وهو يشير إلى أن صفات الأجداد وأجداد الأجداد والجدات قد تظهر في الأبناء فيأتي الولد يشبه غير أبويه، وقد يأتي يشبه أبويه وليس منهم.
2 ـ أن حديث أسامة لا يصح الاعتماد عليه للوجوه التالية([97]):
الوجه الأول: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يتعين أن يكون سر لكون القيافة حقا، بل يجوز أن يسر لقيام الحجة على الجاهلية بما كانوا يعتقدونه وإن كان باطلا، والحجة قد تقوم على الخصم بما يعتقده وإن كان باطلا، وقد يؤيد الله الحق بالرجل الفاجر وبما شاء، فإخمال الباطل ودحضه يوجب السرور بأي طريق كان.
الوجه الثاني: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سر بوجوده آية الرجم في التوراة، وهو لا يعتقد صحتها، بل لقيام الحجة على الكفار وظهور كذبهم وافترائهم فلم لا يكون هنا كذلك.
الوجه الثالث: أن المنافقين كانوا يطعنون في نسبه من زيد لمخالفة لونه لون أبـيه، ولم يكونوا يكتفون بالفِراش، وحكم الله ورسُولُه في أنه ابنُه، فلما شهد به القائفُ وافقت شهادتُه حكمَ اللهِ ورسوله، فسر به النبـي صلى الله عليه وآله وسلم لموافقتِها حكمه، ولتكذيبها قولَ المنافقين، لا أنه أثبت نسبه بها، فأين في هذا إثباتُ النسب بقوله القائف؟.
3 ـ أنه لو كان لِلشبه أثر، لاكتفي به في وَلدِ الملاعنة، ولم يحتج إلى اللعان، ولكان ينتظِرُ ولادته، ثم يُلحق بصاحب الشبه، ويستغني بذلك عن اللعان، بل كانَ لاَ يَصِحُّ نفيُه مع وجودِ الشبه بالزوج، وقد دلت السنةُ الصحيحةُ الصريحة على نفيه عن الملاعن، ولو كان الشبه له، فإن النبـيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أَبصِرُوها فإن جَاءَت بِهِ كَذَا وكَذَا، فَهُوَ لِهِلال بنِ أُمية)([98])، وهذا قاله بعد اللعان ونفي النسب عنه، فعُلِمَ أنه لو جاء على الشبه المذكور، لم يَثبُت نسبُه منه، وإنما كان مجيئه على شبهه دليلاً على كذبه، لا على لحوق الولد به.
4 ـ أن معنى الأحاديث التي ذكر فيها اعتبارُ الشبه، إنما اعتبرت فيه الشبه بنسب ثابت بغير القافة، ونحن لا نُنكِرُ ذلك.
5 ـ أنه حزر وتخمين، فلا يجوز، وشبهوه بالاعتماد على النجوم وعلى علم الرمل والفأل والزجر وغير ذلك من أنواع الحزر والتخمين، لأن الاستدلال بالخلق على الأنساب من باب الحزر البعيد، فمع طول الأيام يولد للشخص من لا يشبههما في خلق ولا في خلق.
6 ـ أن الواطئ الزاني بأمه قد يشبه أباه أو جدا من أجداده أو خالا من أخواله يشبه أباه الذي ألحقته به القافة، وإذا لم يطرد ولم ينعكس لم يجز الاعتماد عليه، لأنه من باب الحزر والتخمين البعيد.
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة هو القول بالقيافة في حال كون دلالتها جازمة، وما ذكره الفقهاء من الشروط التي سنراها تبين دقة المسلك في ذلك، وانتفاء ما يمكن توقعه من مفاسد.
ونرى أن القيافة في عصرنا انتفى عنها كثير مما وصفه الحنفية من كونها حزرا وتخمينا، وذلك بتدخل الوسائل العلمية الدقيقة، التي لا يرقى الشك إلى نتائجها، وخاصة إذا كانت الاحتمالات محدودة، وهي في القيافة محدودة جدا، بحيث لا تعدو المدعيان أو الثلاثة.
ونرى أن الحنفية الذين قالوا هذا لو اطلعوا على انتفاء الحزر والتخمين لذهبوا مذهب الجمهور، ولانتفى الخلاف.
نص الفقهاء القائلون بالقيافة على أن القيافة يشترط فيها الشروط التالية:
وهو عدم قيام مانع شرعي من الإلحاق بالشبه، فلا يعتبر الشبه إذا تعارض مع الفراش، لما في قصة سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم:(الولد للفراش، واحتجبي عنه يا سودة)، فقد ألغى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الشبه، وألحق النسب بزمعة صاحب الفراش.
ومثله ما لو نفى نسب ولده من زوجته، فإنه يلاعنها ولا يلتفت إلى إثبات الشبه بقول القافة ؛ لأن الله تعالى شرع إجراء اللعان بين الزوجين عند نفي النسب، وإلغاء الشبه باللعان من باب تقديم أقوى الدليلين على أضعفهما.
وقد ذكرنا سابقا أن الأرجح فيما نرى اعتماد القيافة في هذا الباب أيضا، حرصا على إثبات نسب ابن اللعان، ورعاية لتشوف الشرع لإثبات الأنساب، وخاصة مع ثبوت دقتها وجزمها، وهو لا ينفي اللعان كما ذكرنا، بل يقتصر دور اللعان في هذه الحالة على درء الحد.
وقد اختلفوا هل يؤخذ بالقيافة في أولاد الحرائر والإماء أو يختص بأولاد الإماء على قولين:
القول الأول: يؤخذ بالقيافة في أولاد الحرائر والإماء، وهو قول الشافعي ومالك في رواية ابن وهب عنه، قال القرطبي:(والصحيح ما رواه ابن وهب عنه)([99])، واستدلوا على ذلك بأن الحديث الذي هو الأصل في الباب إنما وقع في الحرائر، لأن أسامة وأباه حران، فكيف يلغى السبب الذي خرج عليه دليل الحكم،وهو الباعث عليه.
القول الثاني: يختص بأولاد الإماء فقط، وهو مشهور مذهب مالك.
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الأول، وهو الذي دل عليه الحديث، ومن العجيب أن يشتهر القول الثاني عند المالكية مع عدم ورود الحديث في الأمة ووروده في الحرة، فهي معاكسة واضحة للحديث.
ثم لماذا يفرق بين الحرة والأمة مع أن كليهما من الفراش الذي اعتبره الشرع؟ وهل ابن الأمة أقل حاجة في نسبه إلى الفراش من ابن الحرة؟ ولا نرى إجابة على هذا إلا تدخل الأعراف في الأحكام الشرعية ومزاحمتها للنصوص.
وقوع التنازع في الولد نفيا أو إثباتا مع عدم البينة:
وهو أن يوجد التنازع في الولد مع عدم وجود دليل يقطع هذا التنازع، كما إذا ادعاه رجلان أو امرأتان، وكما إذا وطئ رجلان امرأة بشبهة وأمكن أن يكون الولد من أحدهما، وكل منهما ينفيه عن نفسه، فإن الترجيح يكون بقول القافة كما سبق بيانه.
أما إذا ادعاه واحد فإنه يكون له، ولا يقوم التنازع حقيقة فيما بينهما إذا تعين الولد لأحدهما، فلو ادعى اللقيط رجلان، وقال أحدهما: هو ابني، وقال الآخر: بنتي، فإن كان اللقيط ابنا فهو لمدعيه، وإن كانت بنتا فهي لمدعيها ؛ لأن كل واحد منهما لا يستحق غير ما ادعاه.
فلذلك لا يلزم قول القائف إلا بعد مصادقة الحاكم عليه، فقد نص الشافعية([100]) على أنه: لا يصح إلحاق القائف حتى يأمر القاضي، وإذا ألحقه اشترط تنفيذ القاضي إن لم يكن قد حكم بأنه قائف، ورأوا أن القائف إن ألحقه بأحدهما فإن رضيا بذلك بعد الإلحاق ثبت نسبه، وإلا فإن كان القاضي استخلفه وجعله حاكما بينهما جاز، ونفذ حكمه بما رآه، وإلا فلا يثبت النسب بقوله وإلحاقه حتى يحكم الحاكم.
ونرى اعتبار هذا الشرط نفيا لما قد يحصل من تلاعب في هذا الباب، فلذلك نقترح إنشاء هيئة مكلفة بإثبات الأنساب في أي حالة من حالات الشك فيها كما سبق بيانه، على أن تضم خبراء في الميدان العلمي والشرعي بالإضافة إلى القضاة، فأمر النسب أخطر من أن يتولاه فرد أو أفراد.
حياة من يراد إثبات نسبه بالقيافة:
وقد نص المالكية على هذا الشرط، فقد نصوا على (أنها إن وضعته تماما ميتا فلا قافة في الأموات، ونقل الصقلي عن سحنون: إن مات بعد وضعه حيا دعي له القافة، قال الحطاب: ويحتمل ردهما إلى وفاق ؛ لأن السماع (أي لابن القاسم)فيمن ولد ميتا، وقول سحنون فيما ولد حيا([101]).
ولم يشترط الشافعية حياة المقوف، فإذا كان ميتا جاز إثبات نسبه بالقافة ما لم يتغير أو يدفن.
ونرى أن الأرجح في هذا هو قول الشافعية إن تمكن الخبراء من التعرف على العلاقة النسبية بينهما في هذه الحالة، بل نرى أنه لو تمكنوا من معرفة ذلك بعد موته ودفنه وتغيره، كتحليل عينة من عظامه مثلا، صح ذلك بشرط الجزم والتحقيق.
وقد اختلف الفقهاء في اعتبار هذا الشرط على قولين:
القول الأول: اعتبار هذا الشرط، وهو قول كثير من المالكية، فعن سحنون وعبد الملك أنه لا تلحق القافة الولد إلا بأب حي، فإن مات فلا قول للقافة في ذلك من جهة قرابته إذ لا تعتمد على شبه غير الأب، ويجوز عند كثير من المالكية عرض الأب على القافة إن مات ولم يدفن،وقد لخص الباجي أقوال المالكية في ذلك بقوله:(لو مات أحد الأبوين، فقد روى ابن حبيب عن ابن الماجشون ورواه ابن سحنون عن أبيه ينظر القافة إلى الولد والباقي من الأبوين، فإن ألحقوه به لحق وإن لم يلحقوه به فقد روى ابن حبيب عن ابن الماجشون أنه لا يلحق به ولا بالميت، قال ابن حبيب عن أصبغ يلحق بالميت ؛ لأن الميت أقر بالوطء فلولا وطء الآخر للحق به من غير قافة، فإذا بطل أن يكون من وطء الحي وجب أن يكون للميت)([102])
وقد علل الباجي سر الفرق بين وفاة الابن ووفاة الأب، بأن الأب من شرط إلحاق الابن به أن يدعيه، فيجب أن يكون حين الإلحاق به مدعيا له، فإذا مات فقد عدم ذلك فلم يصح الإلحاق به، والابن ليس من جهة إقرار ولا إنكار، فجاز أن يكون حين الإلحاق به حال موته.
أما على قول ابن الماجشون فقد علله بأن الميت من الأبوين لو كان حيا لجاز أن ينفيه عنه القافة، فيصح أن يريد بذلك أن الأب لما لم يصح الإلحاق به بالقافة دون دعواه لم يصح أن ينفى عنه بالقافة، وتحرير ذلك والذي يتحقق منه أن ادعاء الأب على مذهب ابن الماجشون يجب أن يكون مقارنا لإلحاق القافة الابن به، وعلى قول أصبغ يجوز أن يلحقه القافة به بدعوى متقدمة.
القول الثاني: عدم اعتبار هذا الشرط، وهو قول الشافعية والحنابلة([103]).
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الثاني بناء على أن النسب من حاجات الإنسان الأساسية بغض النظر عن علاقته بالمنتسب إليه، ولهذا ينتسب الناس للأموات، بل يفتخرون بالانتساب إليهم، ولا يحق أن يحرم أي إنسان من هذا الحق.
وقد ذكرنا في المسألة السابقة أنه يمكن البحث في الأنساب ولو في الرمم، إن دلت على النسب دلالة يقينية، وقد أنكر ذلك الشافعية بناء على حرمة الموتى([104])، ولكنا نرى أن حرمة الحي أولى من حرمة الميت.
نص الفقهاء القائلون بإلحاق النسب بالقيافة على أنه يشترط في القائف الشروط التالية مع اختلاف بينهم في تفاصيلها([105]):
نص الفقهاء على أنه لا يوثق بقول القائف إلا بتجربته في معرفة النسب عمليا، وقد نصوا على طرق لاختباره في ذلك، ومنها قول القاضي:(أن يترك الصبي مع عشرة من الرجال غير من يدعيه، ويرى إياهم، فإن ألحقه بواحد منهم سقط قوله ؛ لأنا نتبين خطأه، وإن لم يلحقه بواحد منهم، أريناه إياه مع عشرين فيهم مدعيه، فإن ألحقه به لحق، ولو اعتبر بأن يرى صبيا معروف النسب مع قوم فيهم أبوه أو أخوه، فإذا ألحقه بقريبه، علمت إصابته، وإن ألحقه بغيره سقط قوله، جاز. وهذه التجربة عند عرضه على القائف للاحتياط في معرفة إصابته، وإن لم تجربه في الحال، بعد أن يكون مشهورا بالإصابة وصحة المعرفة في مرات كبيرة، جاز)([106])
ويمكن تطبيق ذلك على ما ذكرناه بعرض العينة على خبراء متعددين، أو على هيئة خبراء لنفي كل محل للشك.
اختلف الفقهاء في اعتبار هذا الشرط على قولين:
القول الأول: عدم اعتبار العدالة في القائف، وقد رواه ابن وهب عن مالك([107])، وروي عن ابن القاسم.
القول الثاني: اعتبار العدالة في القائف، وهو قول الشافعية والحنابلة، ورواية عند المالكية، لأنه حكم فتشترط فيه([108]).
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الأول إذا اعتبرنا العدالة ما ذكره الفقهاء من الالتزام الديني، لأنه قد لا يكون في هؤلاء الخبراء هذا النوع من الالتزام، لكن يشترط فيهم أن يكونوا ثقاة، وهو ما قلنا عنه في الفصول الماضية بأن العدالة متعددة الوجوه، فلكل حالة عدالتها الخاصة.
اختلف الفقهاء في اعتبار هذا الشرط على قولين:
القول الأول: يشترط التعدد، وهي رواية عن أشهب عن مالك، وقاله ابن دينار، ورواه ابن نافع عن مالك، قياسا له على الشهادة، وظاهر كلام أحمد كما جاء في المغني أنه لا يقبل إلا قول اثنين تشبيها له بالشهادة، قال ابن قدامة:(ظاهر كلام أحمد أنه لا يقبل إلا قول اثنين، فإن الأثرم روي عنه أنه قيل له: إذا قال أحد القافة هو لهذا وقال الآخر هو لهذا قال: لا يقبل واحد حتى يجتمع اثنان فيكونان شاهدين فإذا شهد اثنان من القافة أنه لهذا فهو لهذا لأنه قول يثبت به النسب، فأشبه الشهادة)([109])
القول الثاني: لا يشترط التعدد لإثبات النسب بقول القائف، ويكتفى بقول قائف واحد، وهو قول الجمهور، إلحاقا له بالقاضي والمخبر، قال القاضي: يقبل قول الواحد ؛ لأنه حكم، ويقبل في الحكم قول واحد، وحمل كلام أحمد على ما إذا تعارض قول القائفين، والراجح في المذهب الاكتفاء بقول قائف واحد في إلحاق النسب، وهو كحاكم، فيكفي مجرد خبره ؛ لأنه ينفذ ما يقوله بخلاف الشاهد، وهو الراجح عند الشافعية كذلك([110]).
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة هو القول باشتراط تعدد الخبراء كما ذكرنا سابقا نفيا للتهمة، فقد يخطئ الخبير الواحد، أو تخطئ أجهزته، فلذلك يحتاج إلى تدقيق أكثر في هذا الأمر الخطير، وقد بنى الفقهاء القائلون بعدم اشتراط التعدد قولهم على اعتبار هذا رواية لا شهادة، قال السيوطي عن القائف:(وفيه خلاف لتردده بين الرواية والشهادة، والأصح الاكتفاء بالواحد تغليبا لشبه الرواية، لأنه منتصب انتصابا عاما لإلحاق النسب)([111])
وهو اعتبار لا يصح، لأن حكم القائف هنا سينتج حكما يظل ساريا مدى الحياة، وقد تتوقف عليه مصالح كثيرة، فكيف يبنى على مجرد الرواية، ثم رواية الآحاد، فإذا لم نعتبر العدالة كما ذكرنا دخل الفساد العظيم.
قال القرافي مرجحا هذا الاعتبار:(القائف في إثبات الأنساب بالخلق هل يشترط فيه العدد أم لا قولان لحصول الشبهين من جهة أنه يخبر أن زيدا ابن عمر وليس ابن خالد، وهو حكم جرى على شخص معين لا يتعداه إلى غيره فأشبه الشهادة، فيشترط العدد، ومن جهة أن القائف منتصب انتصابا عاما للناس أجمعين، أشبه الرواية فيكفي الواحد، غير أن شبه الشهادة هنا أقوى للقضاء على المعين، وتوقع العداوة والتهمة في الشخص المعين)([112])
اختلف الفقهاء في اعتبار هذا الشرط على قولين:
القول الأول: اعتبار هذا الشرط، وهو قول الشافعية والحنابلة، وهو الراجح في المذهب المالكي.
القول الثاني: عدم اعتبار هذا الشرط، وهو قول، للمالكية والحنابلة.
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة هو اعتبار هذا الشرط في حال وجود الخبراء المسلمين، فإن عدم وجودهم جاز للضرورة اعتماد غيرهم بشرط التحري والتدقيق في مدى صدقهم بالطرق التي ذكرناها سابقا، وما يقلل من احتمال كذبهم أن الأمر كما ذكرنا يعرض على خبراء مختلفين.
اختلف الفقهاء في اعتبار هذين الشرطين على قولين:
القول الأول: اعتبارهما، وهو الأصح في المذهب الشافعي، وهو الراجح عند الحنابلة.
القول الثاني: عدم اعتبارهما، وهو قول عند الشافعية والحنابلة.
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الثاني خاصة في عصرنا، لأن الذي يقرر ليس القائف، وإنما الوسائل التي يستخدمها، وقد سبق ذكر أن شهادة المرأة تجوز في كل شيء إلا في محال محصورة جدا لا تتناسب مع طبيعتها.
نص الفقهاء القائلون بصحة العمل بالقيافة على كيفية التعامل مع خلاف القافة، وهو لا يخلو من الحالات التالية:
الجمع بين أقوالهم: وذلك فيما لو أمكن الجمع بينها، كما لو ألحق أحد القائفين نسب اللقيط برجل، وألحقه الآخر بامرأة فإنه ينسب إليهما.
الترجيح بينهما: وذلك فيما لو لم يمكن الجمع بينهما، فيترجح أحدهما، فإن الراجح هو الذي يؤخذ به، فلهذا يؤخذ بقول قائفين اثنين خالفهما قائف ثالث، كبيطارين خالفهما بيطار في عيب وكطبيبين خالفهما طبيب في عيب، ويثبت النسب، لأنهما شاهدان فقولهما مقدم على قول شاهد واحد.
عدم إمكان الجمع والترجيح: إذا لم يمكن الجمع ولا الترجيح، كأن يلحق القائف المقوف بأحد المتنازعين، ويلحقه الآخر بغيره، فقد اختلف الفقهاء في ذلك على قولين:
القول الأول: لا يلحق الولد إلا برجل واحد، ويؤخر الولد إذ قضى القافة باشتراك رجلين أو أكثر فيه إلى حين بلوغه، فيخير في الالتحاق بمن يشاء منهم، بناء على ما ينعقد من ميل فطري بين الولد وأصله قد يعينه على التعرف عليه، وهو قول المالكية والشافعية.
قال الماوردي:(إن ألحقه القافة باثنين فأكثر، أو لم تكن قافة، أو كانت فلم تعرف لم يكن ابن واحد منهم حتى يبلغ فينتسب إلى أيهم شاء، فإذا فعل ذلك انقطعت دعوى الآخرين ولم يكن للذي انتسب إليه أن ينفيه)([113])
القول الثاني: إطلاق العمل بقول القافة، وهو قول الحنابلة، فإن ألحقوه بواحد من المتنازعين لحق به، وإن ألحقوه باثنين لحق بهما، وإن ألحقوه بأكثر من اثنين التحق بهم، وإن كثروا ؛ ومن الأدلة على ذلك([114]):
1 ـ ما روي عن عمر في رجلين ادعيا ولدا كلاهما يزعم أنه ابنه، فدعا عمر لهما بالقافة فنظروا وقالوا: نراه يشبههما، فألحقه عمر بهما، وجعله يرثهما ويرثانه.
2 ـ أن المعنى الذي لأجله ألحق بالاثنين موجود فيما زاد عليه فيقاس عليه.
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة هو أن الاهتمام بالبحث لدرجة كافية عن هذا ينفي الكلام عن هذه الحالة، لأن ما ذكره الفقهاء، وخاصة الشافعية، مبني على رأيهم في اعتبار القيافة نوعا من الرواية، لكنها لو اعتبرت الشهادة، واتخذت للتحقق منها كل وسائل التحري لزال الإشكال، وانتسب الولد لأبيه.
أما ما ذكره الحنابلة من انتسابه إلى
جميعهم، فإنه مع تحقق مصالح الانتساب تحدث مضار توزع الولد بين آباء متعددين قد
يختلفون في مشاربهم وأفكارهم مما يؤثر في الولد تأثيرا سلبيا قد لا يقل عن ضياع
نسبه.
([1]) هذا إن كان الحمل من غيره، أما إن تزوجها وهي حامل منه بزنا، فإن هناك خلافا في المسألة نعرض له عند الحديث عن ثبوت النسب بالعلاقة غير الشرعية.
([2]) ابن كثير: 2/503.
([3]) خلق الإنسان بين الطب والقرآن: 451.
([4]) المغني: 8/65.
([5]) انظر هذه الأقوال في:تحفة المودود:265، معتصر المختصر: 1/317، مشكل الآثار: 4/290، المغني: 8/98.
([6]) ابن كثير: 2/503.
([7]) رواه الطبراني في الأوسط ورجال أحمد رجال الحارث بن حصيرة وهو ثقة، مجمع الزائد: 8/2، فتح الباري: 6/173.
([8]) مشكل الآثار: 4/290.
([9]) قال ابن حزم: » وهذا باطل، لأنه عن أبي سفيان – وهو ضعيف – عن أشياخ لهم، وهم مجهولون« المحلى:10/131.
([10]) قال ابن حزم: جميلة بنت سعد مجهولة: لا يدرى من هي المحلى:10/131.
([11]) الفصول في الأصول: 3/365.
([12]) مشكل الآثار: 4/296.
([13]) مشكل الآثار: 4/296.
([14]) مشكل الآثار: 4/296.
([15]) قال الباجي:« أكثر أمد الحمل اختلف فيه قول المالكيين فقال العراقيون منهم أربعة أعوام وبه قال أصبغ والشافعي وقاله ابن القاسم وسحنون، وقال ابن وهب وأشهب سبع سنين » المنتقى: 4/80.
([16]) المغني: 8/98.
([17]) شرائع الإسلام: 3/26.
([18]) المحلى:10/130.
([19]) المحلى:10/130.
([20]) المحلى:10/130.
([21]) المحلى:10/131.
([22]) الرؤية الإسلامية لبعض الممارسات الطبية: 436.
([23]) الرؤية الإسلامية لبعض الممارسات الطبية: 682.
([24]) خلق الإنسان بين الطب والقرآن:454.
([25]) المراد بالشارع هنا أقوال الفقهاء لا النصوص لعدم دلالة النصوص على شيء من ذلك.
([26]) فروق القرافي: 3/204.
([27]) قواعد الأحكام: 2/122.
([28]) أحكام القرآن لابن العربي: 3/80.
([29]) الرؤية الإسلامية لبعض الممارسات الطبية: 682.
([30]) ولهم قول آخر، وهوتحديد العمر بتسعة أعوام، ونصف عام مدة الحمل، واستدلوا على ذلك بالقياس على المرأة حيث يمكن أن يولد لها لتسع.
([31]) الحاكم: 1/311، البيهقي: 2/229، الدارقطني: 1/230، أبو داود: 1/133، أحمد: 2/180.
([32]) ذكر ابن قدامة قولا في اعتبار الفراش دون إمكانية الإيلاج، واستدل له بأنه يمكن أن تستدخل المرأة مني الرجل، فتحمل، وقد رد عليه بأن الولد مخلوق من مني الرجل والمرأة جميعا، ولذلك يأخذ الشبه منهما، وإذا استدخلت المني بغير جماع، لم تحدث لها لذة تمني بها، فلا يختلط نسبهما، ولو صح ذلك لكان الأجنبيان الرجل والمرأة إذا تصادقا أنها استدخلت منيه، وأن الولد من ذلك المني، يلحقه نسبه، وما قال ذلك أحد، انظر: المغني:8/65.
(2) ونرى صحة هذا القول وإمكان الإنزال لارتباطه بالمني لا بالإيلاج، ولكن إثبات ذلك يحتاج إلى تحقيق علمي يثبت نسبة الولد إلى أبيه، وما قاله ابن قدامة من تعليل غير صحيح من الناحية العلمية لأن بويضة المرأة لا تفتقر لحصول الحمل للذة.
([33]) المبسوط:5/104.
([34]) بدائع الصنائع:6/242.
([35]) بدائع الصنائع: 6/243.
([36]) زاد المعاد: 5/410.
([37]) البخاري: 2/724، مسلم: 2/1080، الحاكم: 3/731، الترمذي: 3/463، الدارمي: 2/482، البيهقي: 10/266، أبو داود: 2/282، النسائي: 3/379، ابن ماجة: 1/646، الموطأ: 2/739، أحمد: 1/65.
([38]) زاد المعاد: 5/410.
([39]) زاد المعاد: 5/415.
([40]) المغني: 8/66.
([41]) أما إن لم توجد قافة، أو أنكر الواطئ الوطء، أو اشتبه على القافة، فإنه يلحق بالزوج ؛ لأن المقتضي للحاق النسب به متحقق، ولم يوجد ما يعارضه، فوجب إثبات حكمه، المغني: 8/67.
([42]) انظر: كشاف القناع: 5/408، المغني: 8/67.
([43]) المغني:8/67.
([44]) الحاكم: 2/225، البيهقي: 10/266، أبو داود: 2/281، النسائي: 3/379، ابن ماجة: 2/786.قال ابن القيم:»في إسناده يحيـى بن عبد الله الكندي الأجلح ولا يحتج بحديثه، لكن رواه أبو داود والنسائي بإسناد كُلُّهم ثقات إلى عبد خير، وقد أعل هذا الحديث بأنه روي عن عبد خير بإسقاط زيد بن أرقم، فيكون مرسلاً، انظر: زاد المعاد: 5/429.
([45]) التمهيد: 8/183.
([46]) أحكام القرآن للجصاص:3/295.
([47]) شرائع الإسلام:2/225.
([48]) شرح النيل:15/492.
([49]) الحاكم: 4/380، البيهقي: 6/259، أبو داود: 2/279، أحمد: 1/362.
([50]) قال في عون المعبود:« إن أهل الجاهلية كانت لهم إماء يساعين وهن البغايا اللواتي ذكرهن الله تعالى في قوله تعالى:) ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء﴾ إذا كان سادتهن يلمون بهن ولا يجتنبوهن فإذا جاءت إحداهن بولد وكان سيدها يطؤها وقد وطئها غيره بالزنا، فربما ادعاه الزاني وادعاه السيد، فحكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالولد لسيدها، لأن الأمة فراش السيد كالحرة ونفاه عن الزاني» عون المعبود: 6/252.
([51]) الدارمي: 2/483، البيهقي: 6/260، أبو داود: 2/279، ابن ماجة: 2/917، أحمد: 6/253.
([52]) البيهقي: 10/263، الموطأ: 2/740.
([53]) زاد المعاد: 5/429.
([54]) ويدل لهذا قول الجصاص السابق: » الزانية لا نسب لولدها من قبل الأب ؛ إذ ليس بعض الزناة أولى به لحاقه به من بعض ».
([55]) التمهيد: 8/193.
([56]): البخاري: 4/1772، ابن حبان: 10/114، أبو داود: 2/275، النسائي: 3/266.
([57]) البخاري: 5/2036، ابن حبان: 10/122، البيهقي: 7/402، أبو داود: 2/278، ابن ماجة: 1/669، أحمد: 2/7.
([58]) مسلم: 2/1132، البيهقي: 7/409، النسائي: 3/376، أحمد: 2/64.
([59]) فتح الباري: 9/460.
([60]) زاد المعاد: 5/381.
([61]) زاد المعاد: 5/381.
([62]) زاد المعاد: 5/381.
([63]) أخرجه أحمد 3/142 (12477) ومسلم 3750.
([64]) المحلى: 9/332.
([65]) المحلى: 9/332.
([66]) المغني: 8/61.
([67]) زاد المعاد: 5/380.
([68]) الترمذى (4/434، رقم 2121) وقال: حسن صحيح. وغيره.
([69]) المغني:8/61.
([70]) انظر: المبدع: 8/96، الإنصاف للمرداوي: 9/256، كشاف القناع: 5/404، المغني: 8/62، المهذب: 2/122، إعانة الطالبين: 3/390.
([71]) مع اتفاقهم على أنه لا حد عليه في ذلك لأنه ليس قذفا.
([72]) وذلك في مجموعة أسئلة علمية وجهها له د.حسن حتحوت، عبر مجلة العربي.
([73]) الحاكم: 2/225 البيهقي: 8/4، أبو داود: 2/283، وسيأتي الحديث عنه بتفصيل في الفصل الخاص بآثار حل العصمة الزوجية من الجزء الثالث.
([74]) الانجاب في ضوء الاسلام:231.
([75]) انظر: الفقه والمسائل الطبية:85.
([76]) رؤية إسلامية لزراعة بعض العضاء البشرية: 453.
([77]) لكنه عقب على ذلك بقوله:« لكن في الاستدلال بالآيتين بحثاً، لاحتمال انصرافهما إلى خصوص الزنا، لعدم تعارف نقل المني من غير عمل الزنا في تلك الاعصار حتى نادراً» الفقه والمسائل الطبية: 89،ولكن هذا التعقيب يتنافى مع دلالة القرآن الكريم الدائمة التي تتجاوز حدود الزمان، لأن الواقع القرآني هو واقع جميع الأجيال التي أنزل لها.
([78]) الترمذى (4/434، رقم 2121) وقال: حسن صحيح.
([79]) الانجاب في ضوء الاسلام: 194.
([80]) الانجاب في ضوء الاسلام: 194.
([81]) نص الفقهاء على أن النسب يثبت من أربع جهات، اختلفوا في اعتبار بعضها، وهذه الجهات هي الفراشُ، والاستلحاقُ، والبـينَةُ، والقَافَةُ، أما ثبوت النسب بالفراش، فقد سبق الحديث عنه في المطالب الماضية، أما ثبوت النسب بالبينة، فله علاقة بأحكام الشهود، وقد سبق الحديث عنها في فصل خاص في الجزء الأول، أما الاستلحاق فهذا تعريف مختصر به:
لغة: مصدر استلحق، يقال: استلحقه ادعاه.
اصطلاحا: عرفه ابن عرفة بأنه ادعاء المدعي أنه أب لغيره، شرح حدود ابن عرفة: 334.
حكمه التكليفي: اتفق الفقهاء على أن حكم الاستلحاق عند الصدق واجب، ومع الكذب في ثبوته ونفيه حرام، ويعد من الكبائر، لأنه كفران النعمة، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم، فليست من الله في شيء، ولن يدخلها الله جنته، وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله تعالى منه، وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين يوم القيامة»
وقد جاء في حديث عمرو بن شعيب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى أن كل مستلحق استلحق بعد أبيه الذي يدعى له فقد لحق بمن استلحقه » ويشترط الفقهاء لصحة الاستلحاق شروطا معينة، منها: أن يولد مثله لمثله، وأن يكون مجهول النسب، وألا يكذبه المقر له إن كان من أهل الإقرار، وغيرها.
([82]) عرفت اصطلاحا: من يلحق النسب بغيره عند الاشتباه بما خصه الله تعالى به من علم ذلك، مغني المحتاج: 4/438.
([83]) الطرق الحكمية: 184، القرطبي: 10/258، زاد المعاد: 5/418، فروق القرافي: 3/126.
([84]) القرطبي: 10/258.
([85]) روي أن زيدا كان شديد البياض، وكان ابنه أسامة أسود، ولذلك أعجب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقول مجزز القائف، انظر: سير أعلام النبلاء: 1/222.
([86]) البخاري: 3/1365، مسلم: 2/1082، ابن حبان: 9/413، الترمذي: 4/440، البيهقي: 10/262، الدارقطني: 4/240، أبو داود: 2/280، النسائي: 3/381، ابن ماجة: 2/787.
([87]) مغني المحتاج: 4/438.
([88]) زاد المعاد: 5/418.
([89]) أبو داود (2/276، رقم 2254) ، والترمذى (5/331، رقم 3179) ، وقال: حسن غريب. وابن ماجه (1/668، رقم 2067)
([90]) البخاري: 3/1211، النسائي: 1/109.
([91]) البخاري: 3/1433، مسلم: 1/250، ابن حبان: 14/62، البيهقي: 1/169، ابن ماجة: 1/197، أحمد: 3/108.
([92]) فروق القرافي: 3/126.
([93]) مغني المحتاج: 4/439.
([94]) المغني: 6/47.
([95]) انظر: شرح معاني الآثار: 3/103.
([96]) البخاري: 5/2032، مسلم: 2/1137، ابن حبان: 9/417، البيهقي: 8/252، أبو داود: 2/278، النسائي: 3/376، ابن ماجة: 1/645.
([97]) فروق القرافي: 3/126.
([98]) البخاري (3/233و6/126و7/69) . و «أبو داود» (2254) . و «ابن ماجة» (2067) ، «الترمذي» (3179)
([99]) القرطبي: 10/259.
([100]) انظر: حواشي الشرواني: 10/350.
([101]) مواهب الجليل: 5/248.
([102]) المنتقى: 6/5.
([103]) انظر: أسنى المطالب: 4/432.
([104]) انظر: أسنى المطالب: 4/432..
([105]) انظر: الإنصاف: 6/460، الفروع: 5/407، حاشية البجيرمي: 4/411، مغني المحتاج: 4/488، الخرشي: 6/101.
([106]) المغني: 6/47.
([107]) في رواية ابن حبيب عن مالك أنه يشترط العدالة في القائف الواحد.
([108]) انظر: كشاف القناع: 4/239، حواشي الشرواني: 10/359.
([109]) المغني: 6/47.
([110]) المغني: 6/47.
([111]) الأشباه والنظائر: 391.
([112]) فروق القرافي: 1/8.
([113]) الإقناع للماوردي: 204.
([114]) المغني: 6/49.