الفصل الثاني: جوانب الخلاف بين الجمعية والطرق الصوفية حول السلوك الصوفي

الفصل الثاني

جوانب الخلاف بين الجمعية والطرق الصوفية حول السلوك الصوفي

بعيدا عن العموميات التي يغلب عليها الجانب الخطابي، فإن أكثر ما توجه إليه النقد من طرف جمعية العلماء المسلمين الجزائريين للطرق الصوفية هو تلك الممارسات التي يمارسها الفقراء أو الإخوان مما تعتبره الجمعية – بسبب توجهها السلفي أو التنويري – بدعا وزيادات في الدين، بل وضلالات تنحرف بالدين عن مساره الصحيح الذي رسمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سنته، ورسمه السلف الصالح في هديهم واتباعهم.

وقد حاولنا أن نستقرئ المواطن التي توجه إليها النقد من طرف جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، ومثلها الاتجاه السلفي، وخصوصا الاتجاه السلفي المحافظ، وقد وجدنا أنه يمكن تقسيمها إلى قسمين:

القسم الأول: مرتبط بما يراه الصوفية ضروريا في السوك، وقد رأينا تقسيمه – أيضا – إلى قسمين:

1 ــ ما يعتبر عندهم كالشروط التي لا يصح السلوك من دونها، وقد رأينا أنهما اثنان فقط: الشيخ المرشد المربي، والتزام الأذكار بصيغها وهيئاتها المختلفة.

2 ــ ما هو من الممارسات التي تختلف الطرق في شأنها، كالأوراد، والخلوة، فهي تختلف هيئاتها بحسب الطرق، بل إن من الطرق الصوفية من لا ترى ضرورة للخلوة، ولذلك لا تمارسها.

القسم الثاني: لا تراه الصوفية ضروريا، ولكنها ترى أهميته في تيسير السلوك على المريد، لإزالة الكثير من الإرهاق الذي يصيبه خلال السير، وقد وجدنا بناء على استقراء ما يفعله الصوفية، وما توجه إليه النقد أنه أمران:

1 ــ السماع والرقص.

2 ــ الموالد والزيارات، أو ما يسميه علماء الجمعية(الزردة)، أو (أعراس الشيطان)

بناء على هذا قسمنا مباحث هذا الفصل ومطالبه، ونحب أن ننبه هنا بأن الكثير من المسائل المطروحة في هذا الفصل ترجع للفقه والحديث، ولذلك رجعنا إلى هذه المصادر للتوثيق، ولم نكتف بما كتبه رجال الجمعية أو الطرق الصوفية، وهذا مما يقتضيه التحقيق العلمي، لنتأكد من سلامة استدلال كل طرف.

بالإضافة إلى هذا، فقد رجعنا إلى ما كتب في نصرة الطرق الصوفية سواء كان ذلك مما كتب في عهد التعامل بين الجمعية والطرق أو كان قبل ذلك، أو بعده، باعتبار ما ذكرناه سابقا من مراعاة المدارس الفكرية.

ولهذا، فإن المراجع التي رجعنا إليها في هذا الفصل – بالإضافة إلى ما كتبه رجال الجمعية ومشايخ الطريقة العلاوية – ما كتبه الشيخ جلال الدين السيوطي في نصرة الطرق الصوفية، وخصوصا رسالته (نتيجة الفكر في الجهر بالذكر)، وهي مطبوعة ضمن (الحاوي في الفتاوي)

ومنها كتب الفقيه المحدث الشيخ عبد الوهاب الشعراني، وخاصة كتابه (الأجوبة المرضية عن أئمة الفقهاء والصوفية)

ومنها ما كتبه الشيخ عبد الغني النابلسي، ومن أهمها (الأسرار، في منع الأشرار، من الطعن في الصوفية الأخيار، أهل التواجد في الأذكار)

ومنها ما كتبه الشيخ أبو عبد الله محمد بن علي الزبّادي ككتابه: (الطريق الوارية، في الشيخ والمريد والزاوية)، و(روضة البستان، ونزهة الإخوان، في مناقب الشيخ ابن عبد الرحمن)

ومنها ما كتبه الشيخ أبو القاسم ابن خجّو له في هذا (ضياء النهار، المجلي لغمام الأبصار، في نصرة الفقراء أهل السنة الأخيار، المبيِّن لما خفي من أحوالهم عن الأبرار)

ومنها ما كتبه الشيخ عبد الكبير بن محمد بن عبد الواحد الحسني الإدريسي الكتاني ككتابه (نجوم المهتدين في دلائل الاجتماع للذكر على طريقة المشايخ المتأخرين، برفع الأرجل من الأرض والاهتزاز شوقًا لرب العالمين)

ومنها ما كتبه أبو المفاخر محمد بن عبد الواحد المدعو الكبير الحسني الإدريسي الكتاني وخصوصا رسالته: (نصرة الفيض الأصلي، في الرد على من أنكر التحليق بالمسجد النبوي في محل التجلي)

بالإضافة إلى ما كتب الشيخ العلاوي كرسالته في (حكم الاهتزاز بالذكر)، أو رسالته في الذكر بالاسم المفرد، وغيرها مما عرفناه في الفصل الخاص بوسائل التعامل بين الجمعية والطرق الصوفية.

المبحث الأول

 شروط السلوك الصوفي وممارساته بين الجمعية والطرق الصوفية

ذكرنا في الفصل الخاص بالاتجاه الفكري للطرق الصوفية أن الصوفية يفرقون بين شروط السلوك وممارساته، فالشروط ضرورية لا مندوحة عنها لمن أراد السلوك إلى الله، أما الممارسات، فيمكن أن تختلف وتتغير بحسب الأحوال.

وهذه من النقاط المهمة جدا، والتي نرى أن الجمعية أساءت فهمها حين تصورت أن كثرة الطرق دليل على الصراع، وهذا – بغض النظر عن الواقع –خطأ، لأن الطرق الصوفية مثل المدارس النفسية، فكل مدرسة ترى أسلوبا خاصا للعلاج النفسي، ولهذا، فإن المريد إن لم يستطع أن يسلك في طريقة من الطرق، أو لم يجد مأربه فيها ينتقل إلى طريقة أخرى.

ولهذا نجد عند تراجم الكثير من مشايخ الصوفية تنقلهم بين الطرق المختلفة، وقد عرفنا ذلك خصوصا في ترجمة الشيخ أحمد التيجاني.

بناء على هذا نحاول في هذا المبحث أن نتعرف على الخلاف الحاصل بين الجمعية والطرق الصوفية سواء في شروط السلوك أو ممارساته.

المطلب الأول: شروط السلوك الصوفي بين الجمعية والطرق الصوفية

ذكرنا عند الحديث عن الاتجاه الفكري للطرق الصوفية اتفاق الصوفية على شرطية الشيخ المربي والذكر للسلوك الصوفي، فلا تصوف من دونهما، وبناء على هذا نحاول في هذا المطلب نتعرف على أدلتهم في ذلك، وكيف ردوا على من أنكر عليهم هذه الشروط.

أولا ــ الشيخ المربي:

عرفنا سابقا ضرورة الشيخ المربي للسلوك الصوفي، وأنه لا يمكن أن تكون هناك طريقة من دون شيخ([1]) يتولى توجيه المريدين، وترقيتهم، وإخراجهم من الأحوال التي قد يمرون بها، والتي تحول بينهم وبين استمرار سلوكهم.

وقد كانت هذه الدعوى مثار خلاف شديد بين الجمعية والطرق الصوفية، ولذلك احتجنا إلى طرح المسألة هنا من زاوية علمية بحتة، بذكر أدلة كل فريق، سواء تلك الأدلة التي يوردها كل طرف مباشرة، أو توردها المدرسة التي ينتمي إليها.

موقف جمعية العلماء:

وردت الكثير من التصريحات من رجال الجمعية الكبار تصف مشايخ الطرق الصوفية بكونهم دجالين انتهازيين يتاجرون باسم الدين، ليخرجوا الناس من الدين، وهذه بعض تصريحاتهم وعللها في ذلك:

1 ــ يعتبر ابن باديس مشايخ الطرق سببا في سكوت الناس عن طلب حقوقهم، وخدمتهم للمستعمر، فقد قال في مقاله الذي أثنى فيه على أتاتورك، فقد بين أنه كان من أعدائه (شيوخ الطرق الضالون وأتباعهم المنومون فقد كانوا أعوانا للإنجليز وللخليفة الواقع تحت قبضتهم. يوزعون ذلك المنشور ويثيرون الناس ضد المجاهدين)([2])

2 ــ ذكر الإبراهيمي الدور التفريقي الذي قام به شيوخ الطرق لتفكيك المجتمع الجزائري، فقال – في معرض رده على من يتهمون الجمعية بكونها سببا في ذلك-: (وأنّى لها أن تجتمع، وان أمامها في كل طريق ناعقًا ينعق باسم طريق وداعيًا يدعو إلى التفريق؟ بل كيف تجتمع وللشيوخ فيها ما للذئاب الضارية في قطيع الغنم؟ أم كيف تجتمع والشيوخ قد قسموها إلى مناطق نفوذ، وأحاط كل شيخ رعيته بأسوار منيعة من الترغيب والترهيب؟ كيف تجتمع وأتباع كل طريقة يعتقدون أنهم أهدى سبيلًا من أتباع بقية الطرق، وأن طريقتهم تضمن لسالكها الغنى في الدنيا وحسن الخاتمة عند الموت، وإن قتل النفس التي حرّم الله بغير حق؟)([3])

وفي موضع آخر يصف الشيخ الإبراهيمي ما كان يقع بين أصحاب الطرق من التفكك بسبب بعض الرسوم والشروط التي يشترطونها في علاقتهم بالشيخ، أثناء رده على الرسالة التي دعي فيها إلى المناظرة، فقال: (نحن – يا حضرة الكاتب – نعلم علم اليقين ونتحقّق حق اليقين أن الذي فرّق الأمة ومزّق وحدتها حتى أصبحت متنافرة إلى آخر ما وصفتها به هي الطرق التي أنت أحد رعاياها أو الموظفين في مملكتها، لا بالآثار البعيدة غير المباشرة بل بأصولها التي بنيت عليها، وبشروطها الموثقة من شيوخها وبعهودها المأخوذة على أتباعها)([4])

ثم ذكر بعض ما تعتقده الطرق في هذا، فقال: (أتتجاهل أن من العهود المؤكدة على المريد أن لا يدخل في طريقة أخرى ولو بعد موت شيخه (على المشهور)، وأن لا يدخل في زاوية أخرى ولا يصلّي فيها ولا يحضر مجالس ذكرها، وأن لا يعدّ أخًا له إلّا أهل طريقته، وأن يعتقد أن شيخه أكمل المشائخ وأن طريقته أفضل الطرق، وأن ما عدا شيخه مفضول أو مدع، وما عدا طريقته فباطل بحيث لو أردنا أن نحتجّ عليكم بكم لكانت النتيجة هكذا: كل طريقة في نظر الأخريات باطلة، فالكل باطل، وكل شيخ طريقة في نظر زملائه مدع أو محجوب أو كذاب فالكل كذلك بشهادة بعضهم على بعضهم، وهكذا ننتزع الدليل على بطلانكم من غير أن نخرج من العالم الطرقي.. أتتجاهل أن من العهود في بعض طرقكم أن لا يصلي ذو الطريقة خلف ذي طريقة أخرى ولا يصهر إليه وأن لا يزور قبر مسلم إلا قبر شيخه وذوي طريقته إلى غير ذلك)([5])

ثم ذكر الواقع الجزائري قبل مجيئ الجمعية، وكيف كان مفككا بين أيدي مشايخ الطرق، فقال: (أتتجاهل أن الأمة الجزائرية كانت متفرقة إلى فرق بعدد الطرق التي فيها على النحو الذي ذكرناه وكلها على الباطل، فجاءت جمعية العلماء فصيّرت الأمة فرقتين إحداهما على الحق؟)([6])

3 ــ اعتبر الإبراهيمي أن مشايخ الطرق الصوفية كانوا مطايا للاستعمار يستعملهم لأغراضه كيف يشاء، يقول في ذلك: (كان من وسائل فرنسا لإفساد المعنويات.. حماية الدجّالين والمضلّلين باسم الدين من شيوخ الطرق الصوفية، وقد جنت فرنسا من هؤلاء كل خير لنفسها، فقد كانوا مطاياها وجنودها الروحيين في احتلال الأوطان الإسلامية، ويقول بعض المغفلين إنهم هم الذين نشروا الإسلام في أواسط افريقيا وفي السودان، وهذا تخليط. فإن الذين نشروا الإسلام في تلك الأصقاع هم طائفة من أجدادهم الصالحين بمعونة التجّار، أما هؤلاء الأحفاد فما نشروا إلا الاستعمار الفرنسي)([7])

موقف الطرق الصوفية:

لا تخالف الطرق الصوفية الجمعية كما لا تخالف الاتجاه السلفي في وجود انحرافات في بعض الطرق، أو في بعض المشايخ، أو في بعض المنتسبين لهم، ولكنها لا تعتبر ذلك مبررا لإلغاء ضرورة الشيخ في السلوك إلى الله، ولا تعتبر ذلك مبررا للقعود عن البحث عن الشيخ المربي.

فالشيخ ابن عليوة مثلا – مثل غيره من الصوفية- يقر بوجود المنحرفين والفسقة والدجالين في مشايخ الطرق، فيقول: (.. أحدثت الأحداث في الطريق ما ليس فيها وغلطوا، وزادوا عن المعارف حيث فقدوها، وطلبوا الدخول للحضرة وقد خالفوها، حيث لم يأتوا البيوت من أبوابها، وقد جعلوا عمدتهم في الطريق على أمور وهميّة وصور فانية لم توجد في السلف، ولا في الخلف)([8])

ولكنه – كما ذكرنا في محال مختلفة – يطلب من الجمعية أن تناقش المسألة من الزاوية النظرية، لا من ناحية الواقع، والذي قد تكون فيه بعض الانحرافات، فوجود الانحراف لا يعني فساد القضية بالضرورة، وقد ذكرنا هذا بتفصيل عند بيان دعوة الشيخ ابن عليوة علماء الجمعية لإصلاح الطرق، لا استئصالها، وهي الدعوة التي رفضتها الجمعية واعتبرتها مخالفة لمنهجها الاستئصالي.

 وبناء على هذا، يذكر الصوفية أمرين في مقام الاحتجاج لضرورة الشيخ أمرين لا ينفكان عن بعضهما البعض:

الأول: شروط الشيخ المربي حتى لا يقع المريد بين أيدي الدجاجلة والفسقة من المدعين للمشيخة.

والثاني: الأدلة الشرعية على اعتباره، وصحة اتباعه.

شروط الشيخ المربي:

يذكر الصوفية الكثير من شروط الشيخ المربي، وهي موضع اتفاق بين سلفهم وخلفهم في ذلك، فمن تلك الشروط ما عبر عنه أبو القاسم القشيري بقوله: (قد درج أشياخ الطريق كلهم على أن أحدا منهم لم يتصدر للطريق إلا بعد تبحره في علوم الشريعة ولم يكن أحد في عصر ممن العصور إلا وعلماء ذلك الزمان يتواضعون له ويعملون بإشارته)([9])

وعبر عنها أبو العباس المرسي شيخ الطريقة الشاذلية في وقته بقوله: (من كان فيه خمس خصال لا تصح مشيخته: الجهل بالدين، وإسقاط حرمة المسلمين، والدخول فيما لايعني، واتباع الهوى في كل شيء، وسوء الخلق من غير مبالاة)([10])

وذكر شيخ الصوفية الأكبر ابن عربي الكثير من شروط الشيخ وصفاته، فقال: (الشيوخ نواب الحق في العالم، كالرسل عليهم الصلاة والسلام في زمانهم، بل هم الورثة الذين ورثوا علم الشرائع عن الأنبياء عليهم السلام غير أنهم لا يشرعون، فلهم حفظ الشريعة في العموم، وليس لهم التشريع، ولهم حفظ القلوب ومراعاة الآداب في الخصوص، وهم من العلماء بالله بمنزلة الطبيب وقد جمع الشيخ بين الأمرين.. والشيوخ هم العارفون بالكتاب والسنة قائلون بها في ظواهرهم متحققون بها في سرائرهم، يراعون حدود الله تعالى، ويوفون بعهد الله قائمون براسم الشريعة لا يتأولون في الورع، آخذون بالاحتياط، مجانبون لأهل التخليط، مشفقون على الأمة، لا يمقتون أحدا من العصاة، يحبون ما أحب الله، ويبغضون ما أبغض الله، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر المجمع عليه، يسارعون في الخيرات، ويعفون عن الناس، يوقرون الكبير، ويرحمون الصغير، يميطون الأذى عن الطريق طريق الله وطريق الناس، يؤدون حقوق الناس، يبرون عباد الله، هينون لينون رحماء بين خلق الله)([11])

بناء على هذا نحاول أن نذكر هنا – باختصار – ما ذكره الشيخ ابن عليوة من شروط الشيخ المربي، باعتبار أن أكثر النقد الموجه من الجمعية للطرق الصوفية كان مرتبطا به، وباعتبار أن ما ذكره منها يكاد يكون جامعا لما ذكره من قبله.

وقد حدد الشيخ ابن عليوة شروط الشيخ المربي الذي يتحدث عنه الصوفية، حتى لا يقع المريدون في قبضة الشيوخ الدجالين، أثناء شرحه لقول ابن عاشر:

شرط الإمام ذكر مكلف
 
آت بالأذكار وحكما يعرف
 
وغير ذي فسق ولحن واقتداء
 
في جمعة حرّ مقيم عددا
 

فقال: (فأخبر أنّ الإمام الذي هو كناية عن شيخ التربية الدّال على الله بالله، المدّعي الوصول إليه يشترط فيه شروط، فإن فقدت أو فقد شرط منها لا يصحّ الإقتداء به، ولا يمكن الوصول للمريد ما دام متعلّقا به، بل يكون له قاطعا عن الله من أعظم القواطع حيث كان المريد متعلّقا به لا يلتفت لغيره) ([12])

وبناء على هذا قام الشيخ بتطبيق شروط الإمامة في الصلاة على شروط الشيخ المربي، فذكر أن من شروط الشيخ المربي([13]):

1 ــ التكليف: والمراد به – كما يذكر ابن عليوة – (أن يكون غير صبي في طريق القوم، بأن يكون مبتدئا في علمهم كأهل الفناء في الأفعال والصفات مثلا، بل يكون بالغا ومبالغا في شهود الذات الجامعة لسائر الأسماء والصفات متغلغلا في ذلك، فهذا هو الذي يصحّ الإقتداء به، وأمّا من سواه كأهل المقامات الواقعين مع ظهور التجليّات فهؤلاء لا يجوز الاقتداء بهم اللهم إلاّ بأمثالهم، وهم أهل النوافل المعبّر عنهم بأهل التبرّك، وأمّا أهل السلوك فيشترط في إمامهم أن يكون بالغا في التحقيق، وأن يكون في بلوغه مكلّفا أي شاعرا غير مغلوب عليه كأهل الجذب، فكذلك لا يجوز الاقتداء بهم لكونهم لا يميّزون بين المراتب والمقامات، لأنّهم مغمورون في غياهب التحقيق.

2 ــ الإتيان بالأركان: والمراد من هذا الشرط – على حسب الشيخ ابن عليوة -أن يكون عارفا بأركان الطريق، وآتيا بها متلبّسا بفعلها، فأركان الطريق هي الأصول التي يتوقف عليها وجود التربية، وقد ذكر الشيخ ابن عليوة أنها اثنان لا غير، وهي (أن يكون الشيخ ظاهره سلوكا في الحضرة المحمديّة، وباطنه جذبا في الحضرة الأحديّة)

3 ــ علمه بالحكم: والمراد به – كما يذكر الشيخ ابن عليوة – (أن يكون عالما بحكم الله في الشرع من حيث الظاهر، وفي الطريق من حيث الباطن، وعليه فالعارف يلاحظ حكم الله في جميع الأشياء ظاهرها وباطنها بأن يكون فاطنا بإشارة الحقّ له، وفاهما عن الله عزّ وجلّ، بحيث يكون نظره عبرة وصمته فكرة، يدور مع قضاء الحقّ حيث دار، ويلاحظ سرّ الألوهيّة أين سار، يشاهده في الكثائف ويحفظه في اللطائف، لسانه مع الخلق وباطنه مع الحقّ، فهذا والله وليّ الله، ويستحق التقدم على الخواص والعوام) ([14])

4 ــ العدالة: وذلك بأن يكونوا (عالمين بالشرع الشريف مستغرقين في الجمع، عاملين في الظاهر من حيث المجاهدة، وفي الباطن من حيث المشاهدة، فما هم إلاّ على قدم النبوّة على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى السلام)([15])

وبناء على هذا يرى ابن عليوة أنه (لا يجوز الاقتداء بمن كان فاسقا في الطريق، ولا فسق أعظم من هذا الفسق، لما فيه من الضرر العام للمقتدي بكلامهم، لأنّ ذلك من أعظم الآفات، لكونها صورا وهميّة يجب على الفقير الإعراض عنها، وإن عرضت له فلا يلتفت إليها) ([16])

بل إن الشيخ ابن عليوة يذكر نفس ما يذكره الاتجاه السلفي وعلماء الجمعية من حرمة الاقتداء بمن هذا حاله، فيقول: (ومن لم يكن على قدمه في سيره، فلا يجوز الاقتداء به كائنا ما كان،، ولو كان ممن يخرق الجبال فما هو إلاّ مفتر بطال وهائم في أودية الضلال) ([17])

5 ــ تجنب اللحن: وليس المراد منه – كما يذكر ابن عليوة – لحن اللسان، (وإنّما المراد به لحن الجنان (القلب)، والعياذ بالله الّذي لا يجبر إلاّ بالمكث في النار ما شاء الله) ([18])

وهنا يعتب الشيخ ابن عليوة بطريقة غير مباشرة على علماء الجمعية الذين بالغوا في اعتبار لحن اللسان متجاهلين لحن الجنان، فقال: (ومن العجب أن يتعلّم الإنسان نحو اللسان ولا يتعلّم نحو القلب ولا يعلّمه، ونحو القلب يعبّرون عنه بالمحو لمحوه ما سوى الله من القلب، وصاحب هذا المحو لا ينطق إلاّ بالحكمة، ومن لم يوجد فيه هذا الوصف لا تصحّ إمامته)([19])

أدلة شرعية اتخاذ الشيخ المربي:

من الأدلة التي يذكرها الصوفية لاعتبار الشيخ المربي ما يلي([20]):

1 ــ قوله تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد: 7]، وهذا يدل على أن المعلم الهادي والدليل المرشد ضرورة لزومية طبعا وشرعا، ولأجل هذا أرسل الله الرسل مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل.. ولأجل هذا وجد الإشراف والتوجيه البشري في كل شيء سواء كان وظيفة أو تجارة أو تعليما أو احترافا أو إدارة أو غير ذلك.

2 ــ ما ورد من النصوص بوجوب اتبع سبيل المنيبين، كما قال تعالى: (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ)(لقمان: من الآية15)، ومن ذلك قوله بعدما ذكر الله أنماطا من أهل القدوة الصالحة الداعية إليه تعالى في سورة الأنعام قال لرسوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]

3 ــ أن هناك آيات قرآنية كثيرة تدعو إلى اللجوء للخبراء، والشيخ من الخبراء بالنفوس، وبالتربية، ومن ذلك قوله تعالى: { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، وقوله {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } [فاطر: 14]، وقوله: {الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 59]

4 ــ قوله تعالى: {وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا } [الكهف: 17]، وفيه دلالة واضحة على وجود هذا الولي المرشد وعلى تأثيره، ولكن تأثيره مرتبط بإرادة الله، وحتى يفهم هذا الدليل قد يعبر عنه بصياغة أخرى، فيقال: (ومن يمرض الله فلن تجد له طبيبا)، وهذا لا يعني أن الطبيب لا يؤثر، وإنما تأثيره مرتبط بإذن الله.

5 ــ أن للشيخ المربي دورا مهما في تزكية النفوس وتطهيرها من عيوبها وتخليصها من أمراضها ثم الرقي بالنفس إلى مراحل متقدمة في السلوك الإسلامي الصحيح ومكانة المربي هي وراثة للقدوة المحمدية الكاملة ولذا قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: (العلماء ورثة الأنبياء)([21])

6 ــ أن الله تعالى أمر المسلمين أن يعيشوا مع الصادقين كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } [التوبة: 119]، والصادقون في كتاب الله هم كما قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15]، ولذا نجد أن وجود المربي في العملية التربوية الروحية والسلوك الإيماني والتزكية النفسية حتم مطلوب شرعا وعقلا وعملا.

7 ــ قول الله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122]، فهؤلاء الذين نفروا ليتفقهوا في الدين وليتعمقوا في السلوك التربوي السليم والذين تكاملت صفاتهم النفسية وازداد قربهم إلى الله تعالى سلوكا وفكرا ونضوجا فهم الذين يكونون قادرين على تزكية النفوس وتطهيرها من أمراضها المتعددة.

8 ــ أن الشيخ العارف بالله تعالى يختصر طريق السلوك فيعطي للمريد خلاصة ما وصل إليه، ويعينه على كشف خفايا نفسه وأمراضها ليتخلص منها، يالإضافة إلى التربية بالقدوة التي نص عليها الصوفية بقولهم: (لا تصاحب من لا ينهضك حاله، ويدلك على الله مقاله) ([22])

9 ــ أن في قصة نبي الله موسى عليه السلام مع المعلم قد وردت بالتفصيل، وهي ترشد السالكين إلى درب العلم اللدني، قال الله تعالى عن المعلم الذي اتخذه موسى عليه السلام: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69)} [الكهف: 65 – 69]، وهذا دليل شرعي على حاجة الناس إلى المعلم والمربي الذي علم ما لم يعلموا وفقه ما لم يفقهوا.

بالإضافة إلى هذه الأدلة يذكر الشيخ ابن عليوة الجمعية بتأثير الشيخ التربوي للسالك، ويختار من النماذج على ذلك الشخصية التي تصورت الجمعية أنها امتداد لفكرها، وهي شخصية محمد عبده، فقد ذكر الشيخ ابن عليوة علاقته بالشيخ المربي، وتأثيره فيه، ونقل ذلك من مجلة المنار التي يرى أعضاء الجمعية أنهم تتلمذوا عليه.

ولا بأس من إيراد ما نقله الشيخ ابن عليوة لأهميته كدليل في هذا المحل، فقد حدث عن نفسه قال: (إن أول استلفاتي لطريق القوم هو أن الشيخ درويش، وكان من أقاربه دفع إلي كتاباً فيه بعض رسائل تشتمل على شيء من أخلاق القوم ومعارفهم لنقراها عليها، فدفعته له بعنف لأني كنت لا أريد القراءة لما تلبست به من حب الملاهي، ورميته له، ثم عاودني به وهكذا كان يكرر علي الطلب إلى أن طاوعته لذلك، ولما أمعنت النظر في الكتاب أخذ بمجامعي إلى أن صرت لا أمل من قراءته، وكان يفسر لي كل ما أشكل علي، وكانت هاته الرسائل تحتوي على شيء من معارف الصوفية وكثير من كلامهم في أدب النفس وترويضها على مكارم الأخلاق وتطهيرها من دنس الرذايل وتزهيدها في الباطن من مظاهر هذه الحياة الدنيا ولم يأت علي اليوم الخامس إلا وقد صار أبغض شيء إلي ما كنت أبغضه من مطالعة كتب القوم وكرهت صور أولئك الشبان الذين كانوا يدعونني إلى ما كنت أحب ويزهدونني في عشرة الشيخ)([23])

ثم ذكر الشيخ محمد عبده صحبته للشيخ درويش، وتأثيره فيه: فقال: (.. وبعد ذلك سألت الشيخ ما هي طريقتكم؟ فقال: طريقتنا الإسلام فقلت: أوليس كل الناس مسلمين؟ فقال: أوما رأيتهم يتنازعون على التافه من الأمور، أوما سمعتهم يحلفون بالله كاذبين بسبب وبغير سبب؟ فكانت هذه الكلمات كأنها ناراً أحرقت ما كان عندي قبل ذلك من المتاع القديم،متاع تلك الدعاوي الباطلة والمزاعم الفاسدة متاع الغرور بأننا مسلمون ناجون وإن كنا في غمرة ساهين، سألته ما وردكم الذي يتلى في الخلوات عقب الصلوات، فقال: (لا ورد لنا إلا القرآن نقرأ مع كل صلاة أربع أرباع مع الفهم والتدبر) فقلت: (أنى لي أن أفهم القرآن ولم أتعلم شيئاً؟) قال: (اقرأ معك ويكفيك أن تفهم الجملة وببركتها يفيض عليك التفصيل، فإذا خلوت فاذكر الله) على طريقة بينها لي، وأخذت أعمل ما قال لي من اليوم الثامن، فلم تمضِ علي مدة أيام إلا وقد رأيتني أطير بنفسي في عالم آخر غير الذي كنت أعهده، واتسع عندي ما كنت أعهده، واتسع عندي ما كان ضيقاً، وصغر عندي ما كان متسعاً، وعظم عندي أمر العرفان والنزوع بالنفس إلى جانب القدس، وتفرقت عني جميع الهموم ولم يبق لي إلا هم واحد وهو أن أكون كامل المعرفة كامل آداب النفس ولم أجد من يرشدني إلى مما وجهت إليه نفسي إلا ذلك الشيخ الذي أخرجني في بضعة أيام من سجن الجهل إلى فضاء المعرفة ومن قيوده التقليد إلى إطلاق التوحيد هذا هو الأثر الذي وجدته في نفسي من صحبة أحد أقاربي وهو الشيخ الدرويش خضر من أهالي مديرية (البحيرة) وهو مفتاح سعادتي أن كان لي سعادة في هذه الحياة الدنيا وهو الذي كشف لي ما كان غاب عني مما أودع في فطرتي..إلخ)([24])

ثانيا ــ الذكر وضرورته للسلوك:

عرفنا عند الحديث عن الاتجاه الفكري للطرق الصوفية اهتمام الصوفية بالأذكار، واعتبارها أقرب طريق إلى الله، بل يعتبرون أنه لا يمكن أن تكون هناك طريقة من دون أذكار.

وقد وافقتهم جمعية العلماء في هذا الاعتبار، واختلفت معهم في بعض الرسوم التي تمارس بها تلك الأذكار، كالجهر بالذكر، والاجتماع عليه، والالتزام ببعض الصيغ فيه، وخصوصا الذكر بالاسم المفرد، ونحوها.

وسنحاول أن نستعرض هنا كلا الموقفين، مع الأدلة التي يعتمد عليها.

موقف جمعية العلماء:

لا تختلف الجمعية عن الطرق الصوفية، بل عن جميع المسلمين في أهمية الأذكار وتأثيرها، وشموليتها، وقد كتب ابن باديس فصلا مهما في الشهاب([25]) في الحديث عنه قدم له بقوله: (الذكر أصل من أصول الدين العظيمة، أو هو الدين كله، ولذا امتلأ القرآن العظيم بالآيات المشتملة عليه. فالمسلم إذا شديد الحاجة إلى معرفته وفقهه، وطريقة العمل به)([26])

ثم بين المعاني التي يراد بها من الذكر في القرآن الكريم والحديث الشريف، فذكر أنها ثلاثة: (ذكر القلب فكراً واعتقاداً واستحضاراً، وذكر اللسان قولاً، وذكر الجوارح عملاً)([27])

ثم شرحها واحدا واحدا، وسنحاول هنا أن نختصر ما ذكره لأهميته في بيان مواضع الاتفاق بين الجمعية والطرق الصوفية في هذه المسألة الخطيرة.

ذكر القلب:

وقد ذكر ابن باديس أنه ينقسم إلى ثلاثة أقسام([28]):

الأول: التفكر في عظمة الله وجبروته وملكوته، وآياته في أرضه وسمواته وجميع مخلوقاته، وأنواع آلائه وعظيم إنعامه على خلقه، واعتبر ابن باديس هذا القسم من أعظم الأذكار وأجلها وأفضلها، وبه يتوصل إليها ويستحق الثواب عليها، إذ هو أساسها الذي تبنى عليه. فالأعمال مبنية على العقائد، والعقائد لا تثبت إلا بالتفكر، وبه تنجلي في العقول، وترسخ في النفوس، وتحصل للناظر طمأنينة اليقين.

الثاني: العقد الجازم بعقائد الإسلام في الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر كله، عقداً عن فهم صحيح وإدراك راسخ تتحلَّى به النفس بمقتضيات تلك العقائد وتتذوق حلاوتها وتتكون لها منها إرادة قوية في الفعل والترك تملك بها زمامها، تلك الإرادة التي لا تكون إلا عن عقيدة راسخة في النفس ويقين مطمئن به القلب. ولذا كان هذا الضرب من ذكر القلب متفرعاً عن الضرب الأول ومبنياً عليه.

الثالث: استحضار عظمة الرب وإنعامه وما يستحقه من القيام بحقه عند كل فعل وترك فيفعله بإذنه لوجهه ويترك بإذنه لوجهه. ولا يدوم هذا الإستحضار إلا إذا رسخت العقيدة التي هي من مقتضى الضرب الثاني، ودامت الفكرة التي هي من مقتضى الضرب الأول، فهو متفرع عنهما ومتوقف عليهما.

وضرب ابن باديس الأمثلة على هذا بقوله: (فإن الذكر المناسب لمواطن الحرب هو استحضار عظيم حق الله على العبد في القيام بذلك الفرض، واستحضار وعده ووعيده، مما يقوي القلب ويكسب الجرأة والثبات وانتظار النصر)([29])

ذكر اللسان:

وقد قسمه ابن باديس إلى الأقسام التالية([30]):

الأول: ذكر الله تعالى بالثناء عليه والاعتراف بنعمه وإظهار الفقر إليه بأنواع الأذكار والدعوات، وذكر ابن باديس أن من شرط الإعتداد بهذا الذكر (حضور القلب عنده)

الثاني: ذكره تعالى بدعوة الخلق إليه، وإرشادهم إلى صراطه المستقيم الموصل إليه بتعليم دينه والتنبيه على آياته وإنعاماته وتبيين محاسن شرعه وتفهيم أحكامه وشرح حكمته في خلقه وأمره والترغيب والترهيب بوعده ووعيده.

ويذكر ابن باديس هنا – نقلا عن عطاء – أن (مجالس الذكر هي مجالس الحلال والحرام، كيف تشتري وتبيع وتصلي وتصوم وتنكح وتطلق وتحج… وأشباه هذا)([31])

وكأن ابن باديس يرد من خلال هذا على الطرق الصوفية التي تعتبر مجالسها التي تذكر الله فيها ذكرا جماعيا هي مجالس الذكر الثابت فضلها في النصوص، لأنها تعتبر أن الاجتماع على الذكر بدعة.

ذكر الجوارح:

وقد فسر ابن باديس هذا النوع من الذكر باستعمال الجوارح في الطاعات، وكل عمل لها أو انكفاف على مقتضى الشرع، فهو طاعة، وكل طاعة لله فهي ذكر، فكل عامل لله بطاعته فهو ذاكر لله تعالى.

بناء على هذه التقسيمات خلص ابن باديس – كعادته في دروس تفسيره- ختم هذا البيان بنتيجة عملية دعا من خلالها إلى الذكر بمختلف أنواعه، وحذر عن الاشتغال (بالتعلم والعلم عن الأذكار المأثورة حتى يتركها الطالب جملة ويكون عنها من الغافلين، فيحرم من خير كثير وعلم غزير، وقد كان- صلى الله عليه وآله وسلم- معلم الخلق، وما كان يغفل عن تلك الأذكار)([32])

وعلى عكس هؤلاء (بالغ قوم في بعض هذه الأذكار فأتوا منه بالآلاف، وأهملوا جانب التفكير الذي هو أعظم أذكار القلب، والذكر اللساني أحد وسائله، فتشغلهم الوسيلة عن المقصود. وليس ذلك من هدى من كان- كما تقدم- دائم التفكير. وقد يؤديهم الذكر اللساني بالألوف إلى الإنقطاع عن مجالس العلم والزهد في التعلم فيفوتهم ما قد يكون تعلمه عليهم من فروض الأعيان. وليس من سداد الرأي وفقه الدين إهمال المفروض اشتغالاً بغير المفروض)([33])

وابن باديس بهذا يشير إلى ما عليه الصوفية من الإكثار من الذكر إلى درجة الانشغال عن كثير من العلم، كما سنرى ذلك عند بيان منهج الصوفية في التلقي من المصادر الغيبية.

بالإضافة إلى هذا كتب ابن باديس مقالا مطولا تساءل فيه عن (أَفْضَلُ الْأَذْكَارِ)([34])، وقد وصل فيه إلى نتيجة هي أن (القرآن أفضل الأذكار)([35])، ذلك أن (أشرف حالتي الإنسان- وهي حالة انفراده بربه، وتوجهه بكليته إليه، وخلوص قلبه له وتعلقه به- إنما تحصل على أكملها لتالي القرآن العظيم. فإن أفضل ما فيه- وهو قلبه- يكون قائماً بأفضل أعماله، وهو التفكر والتدبر في أفضل المعاني، وهي معاني القرآن. وأن ترجمان ذلك القلب- وهو لسانه- يكون قائماً بأفضل أعماله، وهي البيان بأفضل كلام وهو القرآن. وجوارحه- إذا لم يكن في صلاة- كانت محبوسة على قيام القلب واللسان بأفضل الأعمال. وإذا كان في صلاة كانت قائمة بأفضل عبادة، وهي الصلاة في أشرف موقف، وهو مناجاة الرحمن بآيات القرآن)([36])

ويظهر من خلال هذا المقال رد ابن باديس بطريقة غير مباشرة على الصوفية لاهتمامهم بكثرة الأذكار، وتعدد صيغها، وقد تصور أن ذلك حجاب عن القرآن.

بل إنه صرح بذلك حين نقل عن سفيان الثوري قوله: (سمعنا أن قراءة القرآن أفضل من الذكر)، ونقل عن النووي قوله: (واعلم أن المذهب الصحيح المختار الذي عليه من يعتمد من العلماء أن قراءة القرآن أفضل من التسبيح والتهليل وغيرهما من الأذكار، وقد تظاهرت الأدلة على ذلك، قاله في الباب الثاني من كتاب التبيان)([37])

ونرى أن ما ذكره ابن باديس من هذا التفاضل هو في الحقيقة نوع من الاحتيال للصد عن الذكر، ذلك أن للذكر محله، وللقرآن محله، وللصلاة محلها، ولا يمكن لشيء أن يعوض شيئا، بالإضافة إلى هذا فإن النصوص القرآنية تعبر عن تلاوة القرآن بالتلاوة، لا بالذكر، وبالتالي فلا يمكن أن ننسخ الذكر بالتلاوة، كما لا نستطيع أن ننسخ التلاوة بالذكر.

بعد هذا، فإن جمعية العلماء – كما عرفنا في الفصل السابق- تعتبر أكثر ما يمارسه الصوفية في باب الذكر من البدع المحرمة، وقد عبر عن هذا التوجه السلفي المتشدد من طرف الجميعة الشيخ العربي التبسي أثناء تقسيمه الأحكام الشرعية التعبدية إلى قسمين([38]):

1 ــ قسم تولى الله تعيينه في نفسه وفي عدده وفي وقته، كالصلوات الخمس في الفرائض وكركعتي الفجر في النوافل وكرمضان في صوم الفرض وعرفة في النفل.

2 ــ قسم طلبه منا طلبا وأوكل تعيين عدده ووقته إلى قوة المكلف، وما جعل عليه مسيطرا ولا وكيلا، وله في نفسه أن يعين ما شاء في أي وقت شاء على ما تعطيه القوة البشرية.

ثم رأى، بل جزم بأن (الأذكار في غالب أمرها من هذا القبيل.. فمنها ما رغب الشرع في عدد منها طلبا للكثرة ومنها ما طلبه طلبا مطلقا موكولا لقوة الذاكر يزن نفسه ثم يثبت ما يستطيع أن يداوم عليه. وما علمنا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مدة عمره حدد الأذكار لأحد من أصحابه تحديدا يماثل تحديد الطرقيين على اختلاف أسمائهم. ولا تقل عن أحد من السلف أنه حدد الأذكار لغيره ممن عاصره فضلا عن أن يجعله ذكرا شائعا ذائعا يعرف بذكره طريقة فلان)([39])

ومن خلال ما استقرأناه من مواقف الجمعية وغيرها، نرى اعتبارهم لكل ما يمارسه الصوفية من الجهر بالذكر، أو الاهتزاز والحركة أثناء الذكر، أو الذكر الجماعي، أو الذكر بالاسم المفرد بدعا حادثة.

وسنرى تفاصيل رد الطرق الصوفية على هذا في العنوان التالي.

موقف الطرق الصوفية:

قبل أن نذكر تفاصيل أجوبة الطرق الصوفية على ما اعترض به عليها مما يتعلق بالأذكار، نحب أن ننقل نصا للشيخ ابن عليوة يرد به على كتاب (المرآة لإظهار الضلالات) للشيخ عثمان ابن المكي([40]) المدرس بمدينة تونس بجامعها الأعظم، صاحب التوجه السلفي المتشدد الذي لا يقل تشددا عن أعضاء جمعية العلماء، لنتبين أين وصل الأمر بالمختلفين في قضايا شرعية تكاد تكون بديهية.

يقول الشيخ ابن عليوة مخاطبا الشيخ عثمان بن المكي: (أو ليس قد تقرّر لدى الفكر العام بالتواتر أنّ مجلسا من مجالس الذكر يمحو عدّة مجالس من مجالس السوء، وهذا ممّا أطبقت عليه عقائد الأمّة خصوصا وعموما، فقمت أيّها الشيخ تبرهن في مرآتكم على أنّ المجالس المعدّة للذكر على اختلافها بين طبقات الذاكرين بدعة ضالّة على خلاف ما كان عليه السلف دون أن تذكر وجه مجالس الذكر المندوب لها شرعا، ومن المعلوم أنه يقع من يعتني بكلامك في حيرة)([41])

وصدق الشيخ في هذا، وهو كما ذكرنا بأن المنهج السلفي يعتمد الهدم، ولا يعتمد البناء، فهو يعتبر مجالس الذكر المقامة عند الطرق الصوفية بدعة، ولكنه لا يصف مجالس الذكر التي تلتزم السنة، وإذا تحدثوا عنها ذكروا – كما نقلنا عن ابن باديس- أنها مجالس العلم مع أن النصوص الواردة في هذا، والتي سنرى بعضها تفرق بين مجالس الذكر ومجالس العلم، كما تفرق بين تلاوة القرآن والذكر، لكن المنطق السلفي يعتمد ضرب الشرائع بعضها ببعض، فيضرب الذكر بالتلاوة، ويضرب مجالس الذكر بمجالس العلم.

 بعدها يبين الشيخ السر في هذا الموقف المتشدد المخالف لما عليه أكثر المسلمين في جميع الأعصار، فقال: (وكلّ ذلك أصابك ولعلّه من عدم الفقه في دين الله، ولهذا اشترط عليه الصلاة والسلام في حق الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يكون فقيها فيما يأمر به فقيها فيما ينهى عنه، لئلا يأمر بمنكر وينهى عن معروف، ومن أجل ذلك تورّع أكابر العلماء عن القول في دين الله بغير نصّ صريح، أو ما هو كالصريح.. فإنّ من الحق عليك أن تنكر ما علمت إنكاره من الدين بالضرورة، وتأمر بما تحققت معروفيته من الدين بالضرورة، وتحسن الظنّ فيما تفرّع عن اجتهاد المجتهدين من أئمة الدين من الصوفيّة وغيرهم، أو ليس في علمك قد يوجد من المشتبه ما ثبت حرمته في مذهب وإباحته في آخر، أو ندبه في مذهب، وكراهيته في الآخـــــر؟)([42])

بعد هذا نرى الصوفية يعمدون إلى التفاصيل التي أنكرها عليهم خصومهم باعتبارها بدعة ليردوا عليها، وسنحاول هنا أن نختصر في ذلك معتمدين بالدرجة الأولى على ما كتبه رجال الطرق الصوفية في الجزائر، وخصوصا ما كتبه الشيخ ابن عليوة في ردوده على رجال الجمعية أو غيرهم من أصحاب الاتجاه السلفي.

وقد قسمنا ذلك بحسب تفاصيل ما أنكر عليهم إلى ما يلي:

1 ــ الاجتماع على الذكر:

وهي من المسائل المهمة التي وقع فيها الخلاف بين الجمعية والطرق الصوفية، ذلك أن الجمعية ومعها التيار السلفي تعتبر تلك المجالس بدعة، بل وصل الأمر ببعض دعاة التيار السلفي في وقت الجمعية وهو الشيخ عثمان ابن المكي إلى اعتبار ما يحصل في تلك المجلس بدعة وضلالة، بل وكفرا([43]).

وقد رد عليه الشيخ ابن عليوة – خصوصا- ردودا كثيرة مفصلة سنوردها، وقبل ذلك نذكر هذا الرد الذي عبر عنه بقوله: (وإذا تقرّر لديك ما تقدّم من الترغيب في مجالس الذكر، فقل لي: بالله عليك أين يوجد هذا الاجتماع المرغب فيه؟، هل هو في غير البسيطة، أم هو في غير أمّة محمد؟، أم هو يسمع ولا يرى؟)([44])

وهذا رد مهم جدا، وهو يدل على مدى فقه الشيخ ابن عليوة، ذلك أن من حكمة الله أن الدين لا يزال قائما يتمثل في طوائف الأمة جميعا ومذاهبها، فإذا وجدنا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حدثنا عن وجود مجالس الذكر – لا التذكير- فهذا يعني أنها موجودة، فنبحث عن مصداقها الواقعي في الأمة، ولا يوجد مصداق واقعي لهذه المجالس إلا عند الصوفية، لأن غيرهم وإن جلس مجالس العلم والوعظ، واعتبرها مجالس ذكر لم يسلم له، فالذكر مصطلح شرعي له دلالته الخاصة، ولا تنفى الدلالة الخاصة بالدلالة العامة، لأن في ذلك نوع من تمييع المصطلحات الشرعية.

ثم رد الشيخ على عثمان بن المكي برد آخر أقوى، وهو ما تحدثه تلك المجالس من وحدة اجتماعية، وألفة روحية تعجز مجالس العلم عن إحداثها، بل لا نرى أكثر مجالس العلم للأسف لا تحدث إلا الشقاق والجدال والتناحر والانقسام، يقول الشيخ ابن عليوة: (وفي ظنّي إنّك احتقرت المنتسبين المجتمعين على الذكر، وإلاّ حسدتهم فيما هم عليه، أليس وهم المتحابّين الذين يقول فيهم الحقّ سبحانه وتعالى يوم القيامة ويناديهم، فعن معاذ بن جبل، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يقول الله عزّ وجلّ: المتحابّون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيّيون والشهداء)([45]) رواه الإمام أحمد في مسنده، والترمذي في سننه، ألم تعلم أن محبّة الله هي عبارة عن حبّ الذكر والذاكرين؟، ألم تعلم أنّ الله يغير على أهل نسبته ولو كانوا كاذبين؟)([46])

بعد هذا سنذكر هنا بعض ما يورده الصوفية من الأدلة على جواز الذكر الجماعي، بل استحبابه، مصنفين له بحسب مصدر الدليل.

من القرآن الكريم:

1 ــ من الآيات التي استدل بها الصوفية على مشروعية الذكر الجماعي النصوص القرآنية التي تأمر بالذكر على صيغة الجماعة، كقوله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ } [البقرة: 152]، وقوله: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191]، وقوله: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35]، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب: 41، 42]

ووجه الدلالة فيها واضح، وهو أن الله خاطب المؤمنين بصيغة الجمع التي لا تفيد فقط الأمر بأداء المطلوب، وإنما يضم إليه التعاون الجماعي عليه.

2 ــ قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا } [آل عمران: 103]، والأمر فيها واضح في الاعتصام بحبل الله، ومن حبله الذكر.

3 ــ أن الله تعالى شبه القلوب القاسية بالحجارة في شدة قساوتها فقال: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } [البقرة: 74]، فكما أن الحجارة لا يستطيع كسرها إلا الجماعة فكذلك القلب القاسي يسهل تليينه إذا تساعدت عليه جماعة الذاكرين.

من الحديث الشريف:

من الأحاديث الشريفة التي أوردها الصوفية كدليل على استحباب الذكر الجماعي والحث عليه، وقد أورد الشيخ عدة بن تونس الكثير منها في كتابه (رسالة وقاية الذاكرين من غواية الغافلين) ومنها:

1 ــ قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن لله ملائكة يطوفون في الطريق يلتمسون أهل الذكر فإذا وجدوا قوما يذكرون الله تنادوا: هلموا إلى حاجتكم. قال فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا قال: فيسألهم ربهم – وهو أعلم بهم – ما يقول عبادي؟ قال: يقولون يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك قال فيقول هل رأوني؟ قال فيقولون لا والله ما رأوك قال فيقول كيف لو رأوني؟ قال يقولون لو رأوك كانوا أشد لك عبادة وأشد لك تمجيدا وأكثر لك تسبيحا اقل يقول فما يسألوني؟ قال يسألونك الجنة قال يقول وهل رأوها؟ قال يقولون لا والله يا رب ما رأوها قال يقول فكيف لو أنهم رأوها؟ قال يقولون لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصا وأشد لها طلبا وأعظم فيها رغبة قال: فمم يتعوذون؟ قال يقولون من النار قال يقول وهل رأوها؟ قال يقولون لا والله ما رأوها قال يقول فكيف لو رأوها؟ فقال: يقولون لو رأوها كانوا أشد منها فرارا وأشد لها مخافة قال فيقول فأشهدكم أني قد غفرت لهم قال يقول ملك من الملائكة: فيهم فلان ليس منهم إنما جاء لحاجة قال هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم)([47])

وقد عقب على هذا الحديث الشيخ ابن عليوة في معرض رده على المخالف بقوله: (فانظر بارك الله فيك هذه الجماعة التي أخبرت بها ملائكة ربّ العالمين، أليست هي نظيرة النكير فيما قال الله سبحانه وتعالى يوسّع على الذاكرين، ويعدهم بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وأنتم قابلتموهم بالنقمة نظير ما قابلهم الله به من رحمة، فما بالك تركت ما أفتى به الحقّ سبحانه وتعالى في أهل مجالس الذكر على لسان رسوله، وبموجب لما وراء ذلك، فأخذت تقابل الشيء بنقيضه، أو ليس هذا منك تحريفا في شرع الله؟)([48])

2 ــ ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا قالوا يا رسول الله وما رياض الجنة؟ قال: حلق الذكر)([49])

3 ــ ومنها ما رواه عبد الرحمن بن سهل بن حنيف قال: نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في بضع أبياته: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الكهف: 28]، فخرج يلتمسهم فوجد قومه يذكرون الله تعالى منهم ثائر الرأس، وجاف الجلد وذو الثوب الواحد فلما رآهم جلس معهم وقال: (الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أصبر نفسي معهم)([50])

وقد اعتبر الشيخ ابن عليوة هذا الحديث الكافية في إثبات سنية ما يفعله الصوفية من الاجتماع على الذكر، فقال في خطابه لعثمان بن المكي: (ثمّ أقول: ولعلّك قد كنت في غفلة عن هذا فقد يقول الحقّ لك: {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ } [ق: 22]، فتأمّل ما جاءك عن الرسول إن كنت تزعم أنّك من أمتّه، فحديث واحد يكفيك العمل به في مشروعيّة مجالس الذكر، والذي يزيدك يقينا من أنّها كانت على عهد النبّي صلى الله عليه وآله وسلم)([51])

ثم ذكر الحديث، وعقب عليه بقوله: (أو لا يكفيك هذا في مشروعيّة مجالس الذكر في زمانه صلى الله عليه وآله وسلم)([52])، وما ذكره الشيخ ابن عليوة صحيح، فللأسف نجد الكثير من المسائل يجوزها الفقهاء، وليس هم من دليل عليها سوى قياس بعيد، أو سد الذرائع، فإذا جاءوا لمثل هذه المسائل تشددوا وتحرجوا وتورعوا ورعا باردا.

4 ــ ومنها ما رواه أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: يقول الله عز وجل يوم القيامة: (سيعلم أهل الجمع من أهل الكرم) فقيل: ومن أهل الكرم يا رسول الله؟ قال: (أهل مجالس الذكر)([53])

5 ــ ومنها ما رواه شداد بن أوس قال: إنا لعند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ قال: ارفعوا أيديكم قولوا لا إله إلا الله ففعلنا فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اللهم إنك بعثتني بهذه الكلمة وأمرتني بها ووعدتني عليها الجنة إنك لا تخلف الميعاد ثم قال: ابشروا فإن الله قد غفر لكم)([54])

6 ــ ومنها ما رواه أنس بن مالك قال: كان عبدالله بن رواحة إذا لقي الرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: تعال نؤمن بربنا ساعة فقال ذات يوم لرجل فغضب الرجل فجاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله ألا ترى إلى ابن رواحة يرغب عن إيمانك إلى إيمان ساعة فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (يرحم الله ابن رواحة إنه يحب المجالس التي تتباهى بها الملائكة)([55])

7 ــ ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي… وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه)([56])

8 ــ ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يقعد قوم يذكرون الله عز وجل إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده)([57])

9 ــ ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من قوم اجتمعوا يذكرون الله عز وجل لا يريدون بذلك إلا وجهه إلا ناداهم مناد من السماء أن قوموا مغفورا لكم قد بدلت سيئاتكم حسنات)([58])

2 ــ الجهر بالذكر:

يهتم الصوفية عموما بالجهر بالذكر لما يرون من تأثيره الكبير في حصول الحضور للذاكر، يقول الشيخ عبدالوهاب الشعراني ناقلا إجماعهم على ذلك: (وأجمعوا على انه يجب على المريد الجهر بالذكر بقوة تامة، بحيث لا يبقى منه متسع إلا ويهتز من فوق رأسه إلى إصبع قدميه)([59])

وقال الشيخ ابن عطاء الله: (وينبغي إن كان الذاكرون جماعة، فالأولى في حقهم رفع الصوت بالذكر مع توافق الأصوات بطريقة موزونة، فذكر الجماعة على قلب واحد أكثر تأثيرا وأشد قوة فيرفع الحجب عن القلب)

وقد ذكر هذه المسألة، واهتم لها وبها الشيخ ابن عليوة في معرض رده على الشيخ عثمان ابن المكي، فقال مخاطبا له: (ولعلّ رفع أصواتهم بالذكر، وبسببه أنّه لم يبلغك، فعن ابن عباس، قال: (إنّ رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قال ابن عباس: كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته) رواه الإمام أحمد في مسنده، والبخاري في صحيحه، وأبو داود في سننه، وكذلك أقول إنّه كان على عهد الخلفاء، فقد روي أنّ أناسا كانوا يذكرون الله عند غروب الشمس يرفعون أصواتهم فإذا خفيت أرسل إليهم عمر بن الخطاب أن نوهوا الذكر أي ارفعوا أصواتكم([60])، وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من قال لا إله إلاّ الله ومدّ بها صوته أسكنه الله دار الجلال ورزقه النظر إلى وجهـه) رواه أبو شجاع الديلمي في مسند الفردوس([61])، أو ليس في هذا أبلغ حجّة على مشروعيّة الجهر بالذكر؟، حتى لو قلنا إنّك لم تجد له نصّا في الاجتماع عليه بصوت واحد كان من حقّك أن تقول فيه ما قالت الفقراء في اجتماع المؤذنين على صوت واحد)([62])

بالإضافة إلى ما أجاب به الشيخ ابن عليوة أجاب السيوطي في كتابه (نتيجة الفكر في الجهر بالذكر) ([63]) على ما يورده المخالفون من الاستدلال بقوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ } [الأعراف: 205]، حيث ذكر أن الجواب عن هذه الآية من ثلاثة أوجه([64]):

الأول: إنها مكية لأنها من سورة الأعراف، وهي مكية كآية الإسراء {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110]، وقد نزلت حين كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجهر بالقرآن فيسمعه المشركون فيسبون القرآن ومن أنزله فامره الله بترك الجهر سدا للذريعة كما نهى عن سب الأصنام في قوله: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]، وقد زال هذا المعنى.

والثاني: أن جماعة من المفسرين منهم عبد الرحمن بن يزيد بن أسلم شيخ مالك وابن جرير حملوا الآية على الذكر حال قراءة القرآن، وأنه أمره بالذكر على هذه الصفة تعظيما للقرآن الكريم أن ترفع الأصوات عنده ويقويه اتصاله بقوله تعالى: { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204]،، وكأنه لما أمر بالإنصات خشي من ذلك الإخلاد إلى البطالة فنبه على أنه وإن كان مأمورا بالسكوت باللسان إلا أن تمكين الذكر بالقلب باق حتى لا يغفل عن ذكر الله ولذا ختم الآية بقوله: {وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف: 205]

الثالث: أن الأمر في الآية خاص بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأما غيره ومن هو محل الوساوس والخواطر فمأمور بالجهر لأنه أشد تأثيرا في دفعها.

وأجاب على ما يورده المخالفون من الاستدلال بقوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55] على استحباب الإسرار بوجهين([65]):

الأول: أن الراجح في تفسيرها أنه تجاوز المأمور أو اختراع دعوة لا أصل لها في الشرع فعن عبدالله بن مغفل أنه سمع ابنه يقول: (اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة) فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (يكون في الأمة قوم يعتدون في الدعاء والطهور)([66])، وقرأ هذه الآية، فهذا تفسير صحابي وهو أعلم بالمراد.

الثاني: على تقدير التسليم، فالآية في الدعاء لا في الذكر، والدعاء بخصوصه الأفضل فيه الإسرار لأنه أقرب إلى الإجابة ولذا قال تعالى: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا } [مريم: 3]

بالإضافة إلى هذا، فقد استدلوا على جواز الجهر بالذكر، بل استحبابه بأدلة كثيرة:

منها ما ورد في القرآن الكريم من النصوص الكثيرة الحاثة على الذكر، وهي لم تحدد هيئة معينة له، لا سرا ولا جهرا، وفي ذلك دلالة على جواز الجميع.

ومنها ما تقدم ذكره من الأحاديث في الذكر الجماعي، باعتبار أن مجالس الذكر تقتضي الجهر به.

ومنها ما روي عن ثابت قال: كان سلمان في عصابة يذكرون الله فمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكفوا فقال: (ما كنتم تقولون؟ قلنا نذكر الله قال: إني رأيت الرحمة تنزل عليكم فأحببت أن أشارككم فيها ثم قال: الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معهم)([67])، فكف سلمان وأصحابه عن الذكر لقدوم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليهم دليل على أنهم كانوا يجهرون فيه قبل قدومه وهذا دليل الجهر به.

ومنها ما حدث به زيد بن أسلم قال: قال ابن الأدرع: انطلقت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلة، فمر برجل بالمسجد يرفع صوته قلت: يا رسول الله عسى أن يكون ذلك مرائيا؟ قال: لا ولكنه أواه، وفي رواية عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لرجل يقال له ذو البجادين: إنه أواه وذلك أنه كان يذكر الله([68]).

ومنها ما حدث به الحسن بن مسلم، قال: كان رجل من أهل نجد إن دعا رفع صوته وإن صلى رفع صوته وإن قرأ رفع صوته فشكاه أبو ذر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول الله إن هذا الأعرابي قد آذاني لئن دعا ليرفعن صوته ولئن قرأ ليرفعن صوته فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (دعه فإنه أواه)([69])

ومنها ما روى غير واحد بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا سلم من صلاته يقول (سبحان الملك القدوس ثلاثاً يمد بها صوته)([70])

ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من دخل السوق فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت بيده الخير وهو على كل شيء قدير، كتب الله له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة، وبنى له بيتاً في الجنة)([71])

ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أنا عند ظن عبدي بي.. وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه)([72])، والذكر في الملأ لا يكون إلا عن جهر.

ومنها ما حدث به ابن عباس قال: إن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم([73]).

ومنها ما حدث به أبو الجوزاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أننه قال: (أكثروا ذكر الله حتى يقول المنافقون إنكم مراؤون)([74])

ومنها ما روي من أدلة من رفع الصوت بالتكبير كان على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد كان يستعمله الصحابة كثيرا بين يديه صلى الله عليه وآله وسلم، ولما داوموا عليه ورفعوا أصواتهم به أمرهم بخفض الصوت شيئاً قليلا وذلك تعليماً للأمة؛ بمشروعية الجهر والخفض، وتعليماً لنا الأدب في الذكر بأن نكون حاضري العقل فيه، ونعلم أن الله تعالى يسمعنا وهو معنا أينما كنا، ومن تلك الروايات ما روي عن أبي موسى قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سفر فجعل الناس يجهرون بالتكبير، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أيها الناس أربعوا على أنفسكم إنكم ليس تدعون أصم ولا غائبا إنكم تدعون سميعا قريبا وهو معكم) قال: وأنا خلفه وأنا أقول: لا حول ولا قوة إلا بالله فقال: يا عبد الله بن قيس ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ فقلت: بلى يا رسول الله قال: قل: لا حول ولا قوة إلا بالله. ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام (أربعوا) لا تتعبوا أنفسكم برفع الصوت، بل اخفضوا أصواتكم شيئاً قليلا بحيث يسمع أحدكم نفسه وصاحبه الذي بجانبه، وهذا دليل على سنية رفع الصوت بالذكر، والذكر جماعة)([75])

3 ــ الذكر بالاسم المفرد:

يعتبر الذكر بالاسم المفرد أو (الله) من أهم الأذكار التي تتفق الصوفية على استعمالها في ترقية المريدين وتربيتهم الروحية، وذلك بناء على تجاربهم معه، ورؤيتهم لمدى تأثيره، بل اختصاره الطريق للمريدين.

وفي ذلك يقول ابن عجيبة: (فالاسم المفرد (الله) هوسلطان الأسماء وهو اسم الله الأعظم ولا يزال المريد يذكره بلسانه ويهتز به حتى يمتزج بلحمه ودمه وتسري أنواره في كلياته وجزئياته..)([76])

وقال الشيخ أبو العباس المرسي: (ليكن ذكرك (الله، الله)، فإن هذا الاسم سلطان الأسماء، وله بساط وثمرة، فبساطه العلم، وثمرته النور، وليس النور مقصودا لذاته، بل لما يقع به من الكشف والعيان، فينبغي الإكثار من ذكره واختياره على سائر الأذكار لتضمنه جميع ما في (لا إله إلا الله) من العقائد والعلوم والآداب والحقائق)([77])

ومع أهميته هذه لقي إنكارا من المخالفين من الاتجاه السلفي، وقد ذكرنا كيف سخر الشيخ العربي التبسي من طريقة ذكرهم له في المقال الذي كتبه حول الخلوة العليوية، فقد قال – نقلا عن صاحبه الذي دخل الخلوة، وأخبره عما فيها-: (.. وقد زودنا – أي الشيخ ابن عليوة- كلنا وصايا متفقة، وجماع هذه الوصايا أن يذكروا لفظ (اللــه) ويمدونه مدا ينقضي بانقضاء نفس الإنسان، بلهجة وانفعال يتصنعونه أولا ثم يصير ملكة فيهم.. يؤكد عليهم جد التوكيد أن تكون حروف لفظ الله حالة في قلوبهم، أعني يعتبرون هذه الحروف مكتوبة في قلوبهم، فمن يعرف الكتابة فالأمر عليه سهل، ومن لا يعرفها يتحيلون عليه حتى ينتهوا به إلى أن يضعها في قلبه كما وضعها رفقاؤه، ثم يغمضون أعينهم، ويقبلون على ما يسمونه بالذكر، ويأمرهم أمرا لا هوادة فيه، بأن يجمعوا قوى الحواس الظاهرة إلى الباطن، ويصرفونها إلى الحروف الحالة في قلوبهم. ومن ذهل عن هذه الحروف فليفتح عينيه، ويأخذ شكل الحروف إلى قلبه من الشكل المكتوب أمامه، ثم يعود إلى إغماض عينيه وغيره مما قصصناه)([78])

بهذه الطريقة يذكر اسم الله – كما ذكر الشيخ العربي التبسي مستنكرا- ليستفاد منه في تعميق معناه في قلوب المريدين، ولسنا ندري محل الإنكار في هذا، فإن كان إنكاره للمد، فقد ذكر الفقهاء أنه يجوز أن يمد حرف المد إلى 24 حركة([79]).

وإن كان المراد أن يضعوا في خيالهم حروف اسم الله، فما الحرج في ذلك، لأن الغرض منه إبعاد التشويش والشرود الذي قد يحصل حال الذكر.

ولكن مع وضوح المسألة في تصورنا وبساطتها إلا أنها لقيت اهتماما كبيرا، وإنكارا شديدا في ذلك الوقت الذي كان يستعمل المستعمر فيه كل الوسائل لينسي المسلمين اسم (الله)

وقد دعا هذا الشيخ ابن عليوة إلى كتابة ثلاث مقالات علمية حول هذا الاسم في صفحات البلاغ الجزائري([80])، وقد جمعت بعد ذلك في رسالة بعنوان (القول المعتمد في مشروعية الذكر بالإسم المفرد)، وقد أضيف إليها جملة من تقاريظ علماء القرويين وغيرهم لتأكيد ما ذكره فيها.

وقد دافع الشيخ ابن عليوة في هذه الرسالة على ناحيتين كليهما كان محل إنكار من المخالفين:

الأولى، هي ذكر الاسم في كل المحال، لمناسبة وغير مناسبة، كما يقول المخالفون.

والثانية، هي الذكر بهذا الاسم منفردا.

وسنلخص هنا بتخليص مختصر ما قاله الشيخ في كلا المسألتين مع إضافة ما نراه مناسبا لما ذكره.

أدلة ذكر الاسم المفرد في كل المحال:

ذكر الشيخ ابن عليوة في الرسالة غرضه منها، وأنها موجهة لشخص محترم لم يتح لي أن أطلع على اسمه، ويظهر من خلال حديثه عنه أنه من رجال الجمعية، أو على الأقل متأثر بمنهجها الإصلاحي السلفي، فقد قال في بداية الرسالة بعد السلام عليه: (أما بعد أيها الأخ المحترم، فقد كنتُ تشرفتُ بزيارتكم صحبة صديق الجميع حضرة الشيخ……. وبمناسبة ما دار بيننا من الحديث، في تلك السويعات التي رأيتكم فيها موغر الصدر على إخوانكم العلاويين، حسبما لاح لي في ذلك الحين، لا لذنب ارتكبوه سوى أنهم مولعون بإجراء الاسم المفرد على ألسنتهم، وهو قولهم: (الله). فظهر لكم أن ذلك مما يستحق عليه العتاب، أو نقول العقاب، لأنكم قلتم إنهم يلهجون بذكر ذلك الاسم بمناسبة أو غير مناسبة، سواء عليهم في الأزقة، أو غيرها من الأماكن التي لا تليق للذكر، حتى أن أحدهم إذا طرق الباب يقول: (الله)، وإذا ناداه إنسان يقول: (الله)، وإذا قام يقول: (الله)، وإذا جلس يقول: (الله)، إلى غير ذلك مما جرى به الحديث)([81])

هذه هي المسألة، وهو كما ذكر، وقد كان هذا منتشرا في الجزائر، وقد رأيت بعضه في مرحلة من عمري، وكان ظاهرة طيبة، ولكنه حورب للأسف، وانتصر المحارب، ولم يستطع أن يضع أي بديل.

ومن خلال ما ذكره الشيخ ابن عليوة حول هذا الموضوع نستطيع أن نستنبط الأدلة التالية:

1 ــ أن الذكر ورد في الشرع مطلقا لم يحدد (بوقت دون وقت، أو مكان دون مكان، والمعنى أن سائر الأزمنة والأمكنة مناسبة لذكر الله، والإنسان مطلوب في جميع ذلك بعمارة أوقاته، وبرفع لوازم الغفلة، من أن تستحكم على مشاعره وتستولي على إدراكاته.. وبعبارة أخرى: إن الذكر محمود على كل حال، والغفلة مذمومة على كل حال) ([82])

بهذا التعبير عبر الشيخ ابن عليوة على الدليل الأول، وهو من الناحية الفقهية معتبر غاية الاعتبار لا يجادل فيه فقيه، فالشرع لم يحدد للذكر وقتا خاصا، بل أمر به على العموم، وما دام كذلك، فما الحرج في أن يجريه المؤمن على لسانه في كل حال؟

2 ــ ورود النصوص القرآنية والنبوية الدالة على تحريم الغفلة والتحذير منها، وهو ما يقتضي ذكر الله في كل الأحوال، وقد طالب الشيخ ابن عليوة – بناء على هذا – مخالفه بالرجوع إلى الكتاب والسنة التي تزعم الجمعية ومثلها التيار السلفية أنهم يمثلونها، قال في ذلك: (و لا شك أن ما يجمل بنا وبكم في هذا الباب، هو الالتجاء للكتاب والسنة، أما ما جاء في الكتاب من الأمر بالذكر، والتحذير من الغفلة عنه، فقد لا يحتاج إلى سرده لوضوحه خصوصا بين أمثالكم، وأما ما جاء في السنة، فهو ليس بأقل ظهورًا منه، وعلى كل ذلك)([83])

وقد ذكر الشيخ في ختام رسالته بعض هذه النصوص، ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله فيه، إلا قاموا عن مثل جيفة حمار، وكان عليهم حسرة يوم القيامة)([84])

3 ــ ورود النصوص الخاصة بدليل جواز مثل هذا أو استحبابه، ومن الأحاديث التي استدل بها الشيخ ابن عليوة في هذا قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (عليك بتقوى الله ما استطعت، واذكر الله عند كل شجر وحجر)([85])، وعلق عليه بأن (المراد من الإطلاق تعميم الزمان والمكان)

واستدل كذلك بحديث عائشة: (أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يذكر الله على كل أحيانه) ([86])

4 ــ ما ذكره العلماء المحققون في مسألة ذكر الله على كل حال، فـ (من تتبع دوواين العلماء في هذا الباب، يجد ما يفيد إجماع الأمة على الأخذ بالإطلاق في مسألة الذكر)([87])

ومن النصوص التي نقلها في هذا ما نقل عن السادة الحنفية حسبما جاء في (نجوم المهتدين) عن القاضي خان أنه قال: (الذكر في الأسواق ومجالس الغفلة والفسوق جائز بنية أنهم مشتغلون بالدنيا، وهو مشتغل بالتسبيح والتهليل)، علق على هذا الاقتباس بقوله: (فتأمل يرحمك الله قوله: مجالس الغفلة والفسوق، تجد العلاويين لم يبلغ بهم الإستهتتار إلى ذلك الحد، وبالجملة، إنهم أجازوا الذكر حتى في الحمام، الذي هو محل الغفلة وكشف العورة، زيادة عن كونه مستودع القاذورات، حسبما جاء في (مجموع النوازل)، قال نصه: (إن قراءة القرآن في الحمام بالصوت رفيع تكره، وبصوت خفي لا تكره، ولا يكره التسبيح والتهليل ولو برفع الصوت) ([88])

وقد عقب على هذه الفتوى بقوله: (و إذا كان ذكر الله جائزا في نحو الحمام، فما هو ذنب العلاويين إذا ذكر أحدهم في نحو الطرقات مثلا؟)([89])

5 ــ أن الأحكام الشرعية لا يرجع فيها للاشمئزار أو للرضى، وإنما يرجع فيها إلى المصادر الشرعية، يقول ابن عليوة: (و على فرض أن تشمئز منه بعض النفوس غير المتعودة على استماع الأذكار، فالواجب على المصنف إذا أراد الحكم على غيره، أن لا يحكم إلا بما يراه حكما عند الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، لا بما يختاره هو بطبيعته، ويستحسنه في نظره، وغير خاف أن كون الإنسان قد يستحسن شيئا ويستقبحه غيره، ولهذا كان الواجب علينا أن لا نرجع للاستحسانات، ونكتفي باختيارات دون اختيارات الشرع لنا، وإذًا فالواجب على من يؤمن بالله واليوم الآخر، أن يقف عند النصوص الشرعية، ويعمل بمقتضاها، بدون ما يختار من عند نفسه شيئا إلا ما اختاره الله له، {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]([90])

وما ذكره الشيخ ابن عليوة في هذا يكاد يكون ردا على الاشمئزازات الكثيرة من طرف جمعية العلماء، والتي جعلتهم بدل أن يناقشوا المسائل بعلمية وموضوعية يعالجونها بالسخرية والاستهزاء والضحك، وقد رأينا الأمثلة الكثيرة على هذا عند بيان أسلوب الجمعية في تعاملها مع الطرق الصوفية.

6 ــ ما ورد في فتاوى العلماء من جواز الذكر في الكنيف، وهو أخطر من المواطن التي شنت عليها الجمعية حملتها، يقول الشيخ ابن عليوة قبل نقل بعض الفتاوى في هذا: (هذا وأنت يا حضرة الأخ مهما كان من شريف مقاصدك الإطلاع على ما في المسألة من النصوص وأقوال العلماء في ذلك حسبما ذكرت، فقد يكفيك ما سطرناه، وعلى كل حال فهو شيء في الجملة، وعلى فرض احتياجكم لما وراء ذلك، وكثير ما يحتاج المؤمن إلى الزيادة من الخير، أقول لكم بعبارة أخرى: إن الذكر قد صرح بجوازه غير واحد من الأئمة، حتى في الكنيف، وما ذكرنا لكم هذا، إلا لتدركوا وجه ما استبعدتموه من جواز الذكر، في نحو الطرقات)([91])

ومن الفتاوى التي نقلها في هذا، وهي من مواضع لها حرمتها عند علماء الجمعية – وكأنه يدعوهم من خلالها إلى المطالعة – ما نقله عن القاضي عياض من قوله: (إن مذهب عبد الله بن عمرو بن العاص والشافعي ومالك وابن بشير، جواز ذكر الله تعالى في الكنيف) ([92])

ونقل له بأن ابن رشد فهم من سماع (سحنون) ومن كلام (البرزلي) نقله (أبو الفيض الشيخ محمد الكتاني) في رسالة له على تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور: 27]، وعنه أيضا في (سنن المهتدين) ما نصه: قال اللخمي: (يذكر الله قاضي الحاجة قبل دخوله لموضع قضاء الحاجة) ([93])

و روى عياض جوازه فيه (القاضي) ذهب بعضهم إلى جواز ذكر الله في الكنيف، وهو قول مالك، والنخعي، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وقال ابن القاسم: (إذا عطس وهو يبول يحمد الله) ([94])

وبعد أن ذكر هذه النصوص وغيرها، وذكر الخلاف في المذهب، قال: (و ما كان استجلابنا لهذه النصوص على نية ترجيح أحد المذهبين من جهة جواز الذكر في الكنيف أو عدمه، إنما ذكرناها يا حضرة الأخ، لتعلم كيف أجاز الأئمة الذكر حتى في مثل هذا المكان، الذي هو أخبث بقعة تعتبر على الإطلاق، وعلى فرض أنك تجد من يحرك لسانه بذكر الله، وهو على مثل تلك الحالة، فلا تستغرب ذلك منه، بأن تراه مبتدعا ضالا، مادمت ترى من هو الشافعي ومالك قائلين بجواز ذلك، وكفى بهما قدوة في الاعتصام بحبل الله، والاعتصام بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) ([95])

وبناء على هذا شكا الشيخ ابن عليوة من ظلم الجمعية له ولأتباعه وللطرق الصوفية من غير بينة سوى التحكم، فقال: (و لا شك أنه بهذا النقل ونحوه، يتضح كون العلاويين مظلومين فيما أنكرتموه عليهم، على أنهم لم يبلغ بهم الاستهتار في الذكر، الحد الذي انتهى إليه الجواز حسبما ذكر من أنه لا يمتنع الذكر ولو بكنيف، أو ما هو كمحال الفسوق، إذ غاية ما ينقل عن بعض العلاويين، أنه إذا نبهه أحد يقول (الله)، وإذا نبه هو أحدا يقول (الله) وهلم جرا، وفي ظني أن شبه هذا لا يترتب عليه أدنى مكروه فيما يظهر، وهذا إذا لم نقل لكم إنه من السنة بمكان، وحتى إذا لم يكن منها على التقدير يكون أشبه بالحق منه بالباطل)([96])

7 ــ الرد على ما ذكره المخالفون من ادعائهم أن أسماء الله تعالى أجل من (أن تجعل آلة يتوصل بها لغير الأخرويات، فلا يجوز أن توضع للتنبيه والاستلفات ونحوهما)([97])

وقد رد الشيخ ابن عليوة على هذا الاعتراض بقوله: (هذا يستقيم لو لم يكن في الشرع ما يسمح بنظيره، أو نقول يأمر به، وأنت إذا تتبعت المظان في شبه هاته النوازل، تجد مراد الشارع منا ما يقرب من الصراحة بالأمر في مثل ذلك)([98])

وذكر من الأمثلة على الآذان، يقول الشيخ ابن عليوة مستدلا بهذا: (فلا شك أنك تجدها وضعت للإعلام بدخول الوقت، أو للأمر بالحضور لأداء الفريضة، وكان الأقرب والأنسب للمقام أن ينادى: الصلاة قد حضرت، أو الوقت قد دخل، وما في معنى ذلك، وإذًا فلم جاء بسرد العقيدة بتمامها، بدلا عما ينوب عنها من الألفاظ الوجيزة؟ وعليه فهل تستطيع أن تقول لماذا صيرت أسماء الله آلة يتوصل بها إلى نداء المصلين؟)([99])

ومن الأمثلة التي ذكرها الشيخ على هذا (ما ورد عن الصحابة من أنهم كانوا يوقظ بعضهم بعضا بنحو التكبير، يشهد لذلك لما جاء في الصحيحين في قضية الوادي لما ناموا عن صلاة الصبح، وكان أول ما استيقظ أبو بكر، وكان عمر رابع مستيقظ، فأخذ في التكبير حتى استيقظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم)([100])

ثم علق على هذا بقوله: (فتأمل يرحمك الله كيف كانوا يستعملون الأذكار في إيقاظ النيام ونحو ذلك، وهكذا كان شأنه في الحروب وغيرها) ([101])

8 ــ ما ورد من النصوص الخاصة بالمسألة، وقد قدم لهذا النوع من الأدلة الشيخ ابن عليوة بقوله: (إنه لما كان من المحتمل أن يرى ما استجلبناه من النصوص غير كاف من جهة صريح الدلالة، ظهر لي أن أذكر جملا مما ورد في خصوص مطلوبية الاستئذان بذكر الله عز وجل، وبذلك يدرك الأخ الكريم بغيته التي كان بتطلبها بإرادته الوقوف على نصوص الشارع في مثل ذلك)([102])

ومن النصوص التي أوردها في هذا الباب ما ورد في الحديث من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا أتيتم أبواب دياركم فأعلنوا بذكر الله)([103])

واستدل لهذا أيضا بما ورد في تفسير معنى الاستئناس الوارد في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور: 27]، فقد نقل الفخر الرازي في تفسيره الكبير، بعدما تكلم عن الاستئناس من عدة وجوه، عن عكرمة: (هو التكبير والتسبيح ونحوه)، يعني من بقية الأذكار([104]).

ومثله ما ورد في الحديث عن أبي أيوب قال: قلتُ يا رسول الله، أريتَ قول الله تعالى: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور: 27] هذا التسليم قد عرفناه، فما الاستئناس؟ قال: (يتكلم الرجل بتسبيحة وتكبيرة وتحميدة، ويتنحنح فيؤذن أهل البيت)([105])

9 ــ المصالح المترتبة على استعمال ذكر الله في تلك المحال، وقد ختم به الشيخ رسالته، وهو دليل على اهتمامه بالمقاصد الشرعية، قال في تقرير ذلك: (.. إنه لا نزاع بين الأئمة في كون الذكر في الاستئذان أفضل من الصياح ودق الباب، خصوصا إذا كان بعنف) ([106])

وقد ختم الشيخ رسالته بذكر السبب في وقوع الإشكال في هذه المسألة مع وضوحها، فقال: (و أنت يا حضرة الأخ مهما أمعنت النظر بإنصاف فيما قدمناه، يتضح عندك، إن السنة لما بعدت الشقة بينها وبيننا، تمثلت في نظرنا في شكل بدعة، فلهذا قمنا نحاربها بغير شعور، وعلى غير علم منا) ([107])

أدلة الذكر بالاسم المفرد للترقي:

يمكن تقسم الأدلة التي اعتمد عليها القائلون بجواز أو استحباب الذكر بالاسم المفرد إلى قسمين اعتباريين:

الأول: هو الإجابة على الإشكالات التي أوردها المخالفون لهم حول شرعية الذكر بهذا الاسم.

الثاني: هو استنباطهم للأدلة المتعلقة بالإجازة أو الاستحباب من خلال النصوص أو الاستصحاب أو غيرها.

وقد آثرنا أن نبدأ بالقسم الأول، ونعتمد فيه على ما ذكره الشيخ ابن عليوة في مناقشته لجمعية العلماء، وللاتجاه السلفي الذي تعتمد عليه.

1 ــ الإجابة على الإشكالات التي أوردها المخالفون:

لعل أهم الإشكالات التي أوردها المخالفون بخصوص جواز الذكر بالاسم المفرد، اعتبارهم أنه لا يؤلف جملة مفيدة تامة يحسن السكوت عليها، كقولنا (الله غفور)، وقد عبر الشيخ ابن عليوة عن هذا الإشكال، فقال: (من جهة أخرى أنكم كنتم ترون أن هذا الاسم، لا يصلح أن يكون ذكرا، ولا هو من أقسام الكلام المفيد، جريا منكم على ما اشترطه النحويون، من لزوم التركيب، في تعريفهم الكلام المفيد)([108])، وقد رد على هذا الإشكال بالأدلة التالية:

1 ــ أن النحويين عند اشتراطهم لزوم التركيب فيما يعتبر كلاما أرادوا من خلال ذلك تعريف الكلام الذي تتوقف عليه إفادة السامع، وهذا القيد (بعيدٌ أن ينطبق على الأذكار، وما يخصها من جهة المشروعية أو عدمها، وما يترتب على ذلك من الثواب ونحوه، ولاشك أنك لو سألتهم في ذلك الحين، أو هذا الحين، لأجابوك قائلين: إن ما قررناه هو مجرد اصطلاح نعتمده في عرفنا، ولا مشاحة في الاصطلاح)([109])

2 ــ أن الاصطلاح الذي اصطلح عليه أهل الفنون والعلوم المختلف لا علاقة له بالأحكام الشرعية، ولا تأثير له عليها، ولهذا قد نجد المصطلح الواحد يتداوله أصحاب العلوم المختلفة، وكل يريد منه غير ما يريد الآخر، قال ابن عليوة مخاطبا المخالف: (و أنت َ خبير من كون الكلام عند النحويين هو غيره عند المتكلمين، وعند المتكلمين هو غيره عند الفقهاء، وعند الفقهاء هو غيره عند الأصوليين، وهلم جرا، فإن لكل قوم اصطلاحا، وينتج لنا من هذا أن النحويين كانوا بصدد تعريف الكلام المفيد، الذي يحسن سكوت المتكلم عليه، لا بصدد تعريف الأذكار المشروعة من الأذكار الغير المشروعة)([110])

3 ــ أنه حتى لو طبقنا المقاييس التي ذكرها المتكلمون، فإنها لا تنطبق على هذا الذكر ذلك أن (ما اشترطه النحويون من لزوم التركيب، هو خاص بمن يريد بكلامه إفادة غيره، أما الذاكر فلا يقصد بذكره إلا إفادة نفسه، وتمكين معنى ذلك الاسم من قلبه، أو ما يشبه ذلك المقاصد)([111])

4 ــ أن النحويين لم يشترطوا هذا الشرط في كل الأحوال، بل إنهم في حق المتوجه أو المتأوه لم يشترطوا وجود التركيب فيما يبرز من لسانه، لأن قصده غير قصد النحويين، ومن البعيد أن يقول النحوي للمتوجه أو للمتأوه: (إنني ما فهمتُ مقصودك من تأوهك)، لأنه لفظ غير مركب يحتاج إلى خبر أو شبه ذلك! وهذا كله لا يتفق مع مقصود المتوجع، لأنه لا يقصد إفادة غيره، إنما يقصد الترويح بذلك اللفظ على نفسه)([112])

وقد قاس الشيخ ابن عليوة هذا الحال بحال الذاكر، وهو قياس قوي، فالجامع بينهما قوي جدا، قال ابن عليوة: (و هكذا ذاكر الاسم، لا يقصد إلا تمكين أثر ذلك الاسم من نفسه)([113])

5 ــ أن لكل كلمة في اللغة تأثيرها الخاص في النفس، فإذا كررها صاحبها أحدثت في نفسه تأثيرا خاصا، وهذه حقيقة يقررها علم النفس الحديث، يقول ابن عليوة في شرح هذا الوجه من الأدلة مخاطبا المخالف: (و أنت تعلم يا حضرة الأخ، من أن لكل اسم أثرا يتعلق بنفس ذاكره، ولو من غير الأسماء الإلهية، حتى إن الإنسان إذا ردد على لسانه ذكر الموت مثلا، فإنه يحس بأثر يتعلق بالنفس، من ذكر ذلك الاسم، بالخصوص إذا دام عليه، ولا شك أن ذلك الأثر هو غير الأثر المستفاد من ذكر المال، أو العز، أو السلطان، ولولا مراعاة ذلك الأثر، لما ورد في الحديث الشريف: (أكثروا من ذكر هادم اللذات)([114]) يعني الموت، ولا شك أنها كلمة مفردة، وقد ورد أنها كانت وردا لبعض السلف)([115])

6 ــ أنه يمكن، وعن طريق كلام النحويين، أن نثبت أن الاسم المفرد ليس كلمة مجرد، وإنما جملة مفيدة، وقد عبر الشيخ ابن عليوة عن هذا بقوله: (ثم أقول: إن جميع ما قدمناه هو جري من على سبيل الفرض، من جهة كونه اسما مفردا غير منظم لشيء، ولو على سبيل التقدير. أما إذا استطلعنا الحقيقة وأمطنا القناع، فإننا نستطيع أن نقول: إنه مما يجوز ذكره حتى على قول من يشترط التركيب. لأنه في الواقع منادى، والمنادى عندهم من أقسام الكلام المفيد، لأنهم أولوا حرف النداء بمعنى أدعو، وحذفه جائز وشائع في لغة العرب، وكثيرًا ما يدعو المقام لحذفه لزوما، كما في القضية هنا مراعاة لما تطلبه منا الآداب القرآنية والتعاليم الإسلامية، التي قد يكون منها للسادة الصوفية أكثر مما لغيرهم)([116])

وبناء على هذا اعتبر الشيخ ابن عليوة أنه يمكن أن نعتبر ذاكر الاسم المفرد، وكأنه يقول: وعلى يا الله ارحمنا، أو اغفر لنا أو نحو ذلك، واستدل له بما ذكره النحويون في هذا، وهو معروف مشهور([117]).

7 ــ أن إسقاط الصوفية حرف النداء من الاسم المفرد في حال إرادة النداء، هو دليل على ما تتطلبه القرب من حضرة الله من إسقاط وسائط النداء، يقول ابن عليوة: (..و عند محاولتهم واستفراغهم الجهد، واستغراق الهمة في الخلوات والجلوات، قياما وقعودا وعلى جنوبهم، احتفاظا منهم بواجب الدعاء المأمور به، دفعهم التوفيق الإلهي إلى لزوم إسقاط حرف النداء، وكل ذلك لما تطلبهم به حضرة القرب، بناء على أن أدوات النداء، جاءت للبعيد لا لمن هو أقرب إلينا من حبل الوريد)([118])

وقد استدل الشيخ لهذا بما ذكره الشاطبي الذي اعتبره مفخرة للمغرب، فقال: (و قد كنت وقفتُ على كلام لمفخرة المغرب الأستاذ أبي إسحاق الشاطبي يكفينا مئونة ما نستجليه من التفصيلات في هذا الموضوع)([119])

ثم نقل كلاما له ذكره في كتاب (الموافقات)([120])، وهو دليل على اطلاع الشيخ عليه، في الوقت الذي لم أجد دليلا يريط الجمعية بهذا الكتاب، بل لم أجد دليلا يربط الجمعية بالشاطبي سوى كتابه (الاعتصام)، وذلك لخدمته للحرب التي أعلنوها على الطرق الصوفية، مع أن للشاطبي كلام كثير يتناقض مع ما يورده التيار السلفي أو الجمعية خصوصا، وقد كتب بعض السلفية المحدثين في مخالفاته([121])، وهذا يدل على مدى الانتقائية التي كانت تتعامل بها الجمعية مع المسائل العلمية.

8 ــ أن استدلال المخالف باشتراط النقل من فعل السلف صعب جدا ذلك أنه (لا يتأتى حصر ما كان يجري على ألسنة السلف من صيغ الأدعية والأذكار، حتى نستطيع أن نقول هذا الاسم لم يكن ذكرًا للسلف على سبيل القطع، أو هذا الاسم كانوا لا يرونه ذكرًا، كل ذلك لقصورنا عن الإحاطة بجميع ما كان يجري على ألسنتهم في خلواتهم وجلواتهم وسقمهم وعافيتهم، ومن البعيد أن نعتقد كون الصحابة ما كان يمر على ألسنتهم اسم الجلالة مكررا (الله الله) برأهم الله من مثل ذلك)([122])

2 ــ الأدلة الخاصة على شرعية الذكر بالاسم المفرد:

بعد أن استعرض الشيخ ابن عليوة ما ذكره المخالفون من أدلة، وأجاب عليه خاطب مخالفه قائلا: (و مع ما قدمناه من الاستشهادات فإني لا أنسى كون الخصم، أو نقول المسترشد، لا ينفك متشوفا لما بأيدي القوم من النصوص والاستشهادات الدالة على مشروعية ذكر اسم الجلالة بانفراده، من حيث وروده على ألسنة السلف بتلك الصيغة، غير أنه ينبغي لصاحب هذا التشوف أن لا ينسى أن القوم لا ينفكون متشوفين لما بأيدي الخصم أيضا من النصوص والاستشهادات القاضية بعدم مشروعية ذكر الاسم بمفرده، وكونه لم يكن من ذكر السلف، لا في خلواتهم ولا في جلواتهم)([123])

ويمكن اعتبار ما ذكره الشيخ هنا دليلا قائما بذاته، ذلك أن النصوص أطلقت الأمر في باب الدعاء، فلم تقيده بقيد، والأصل في المطلق أن يبقى على إطلاقه ما لم يرد دليل يقيده، وفي هذه الحالة يحتاج المقيد إلى الدليل.

بعد هذا نذكر بعض ما ذكره الشيخ وغيره من الأدلة المثبتة لهذا:

1 ــ مطالبة المخالف بتحديد الحكم الخاص بذكر الاسم المفرد بدقة، ذلك أن كل مسألة خاضعة لأحكام الشرع الخمسة من (الوجوب – والندب – والحرمة – والكراهة – والإباحة)، وهذا يتطلب من المخالفين تحديد الحكم الخاص بهذا الذكر بدقة، (فإن وجدناه داخلا تحت أقسام المحرمات أو المكروهات، وجب علينا توجيه اعتراضنا على المتلفظ به، لأنه جاء شيئا نكرًا، وإلا فإن وجدناه من غير ذلك القسم، فيكون الإنكار عليه منكرا، لأنه لم يزد على أن تلفظ بشيء مباح على الفرض، هذا إذا لم يكن واجبا أو مندوبا، وإذا كان اللفظ في حده مباحًا، فما يمنعنا من تكرار المباح، حتى نجعل المتلفظ به مستحقا للعتاب أو نقول للعقاب)([124])

وفي هذا المحل يلزم الشيخ ابن عليوة المخالف بما ينبغي عليه التعامل في مثل هذه المسائل التي تتحمل الخلاف، فقال: (فإن كان أقصى ما يعتمده في هذه النازلة هو ما يرجع للقواعد النحوية من جهة عدم التركيب، فإننا قد قدمنا له عدم صلاحيتها لأن تكون حجة في هذا الباب، وإن كان بيده من النصوص غير ذلك فينبغي له أيضا أن لا يسارع بالنكير، لما ربما يكون بيد القوم ما يعارضها، وعلى فرض وجود التساوي في الطرفين، أو عدم الوجود في الوجهتين، فلا تزيد المسألة عن أن يشملها دور الاجتهاد، وإذًا فيكون قول الخصم: إنه لا يجوز ذكر هذا الاسم بانفراده ليس بحجة على من يقول بجوازه، وغاية الأمر أن يكون قولكم بعدم الجواز مقصودا على ما يخصكم أنتم، لأن التشريع للغير وإلزام الناس بسلوكه هو من خصائص المعصوم صلى الله عليه وآله وسلم، أما غيره فلا يستطيع لأن يقول هذا جائز، وهذا غير جائز، ومن كان ذلك شأنه فجدير به أن يغض من صوته، في شبه دائرة جهله فيها أكثر من علمه، وهي قاعدة تشمل سائر النوازل، فالصوفي كغيره ملزوم بخفض الجمجمة وسلب الاختيار أمام الشرع الشريف والوضع الإلهي المقدس)([125])

2 ــ أن الأسماء الإلهية مشروعة للتعبد بتلاوتها، بمقتضى قوله تعالى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180] وهي مفردة، ومع كونها مفردة لم تنص الآية الكريمة ولا غيرها عن كيفية الدعاء بها من جهة الصيغة، أو التركيب ونحوه، وقد فسر الشيخ ابن عليوة أن سر ذلك يرجع إلى (مراعاة أحوال السائرين والمتوجهين لله، حيث أنهم مختلفون من جهة القوة والضعف، والرغبة والرهبة والشوق والاشتياق، والناس طبقات والشوق مراتب، وأسرار الخلق متباينة من جهة علاقتهم مع الله عز وجل)([126])

3 ــ ما ورد من النصوص التي يمكن الاستدلال بها على شرعية الذكر بالاسم المفرد، ومن النصوص التي أوردها الشيخ ابن عليوة في هذا حدث به من أن مريضا أنَّ في حضرته صلى الله عليه وآله وسلم فنهاه بعضهم وأمره بالصبر، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ذروه يئن فإنه يذكر اسما من أسماء الله تعالى)([127])، وعلق الشيخ على هذا بقوله: (و إذاً فماذا ترى يرحمك الله في هاته الواقعة، على الفرض لو أن ذلك المريض كان متلفظاً باسم الجلالة مكرراً (الله الله) بدل قوله (آه آه) أكان يصح من ذلك الصحابي توجيه الاعتراض عليه؟ كلا ! فإن المقام يأبى ذلك على ما يظهر، وما كان اعتراضه إلا لما فاته من إدراك معنى كلمة (آه) من كونها اسماً من أسماء الله تعالى، حتى أرشده النبي صلى الله عليه وآله وسلم لذلك بقوله:(ذروه يئن، فإنه يذكر اسماً من أسماء الله) وأظنه دليلا كافياً على ما يظهر، وحجتنا فيه كون كلمة (آه) مفردة، فقرر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ذكرها بتلك الصفة، وهذا زيادة على ما استفدناه من كونها اسماً من أسماء الله)([128])

4 ــ اتفاق الكثير من العلماء والصالحين على تأثير الذكر بالاسم المفرد في المريد، وهو معتبر في الاستدلال المقاصدي، وقد نقل الشيخ ابن عليوة عن ابن عجيبة في (شرح المباحث الأصلية) أن أبا حامد الغزالي قال: (لقد أردتُ في بداية أمري سلوك هذا الطريق بكثرة الأوراد، والصوم والصلاة، فلما علم الله صدق نيتي، قيض لي ولياً من أوليائه قال لي: يا بُـني، اقطع عن قلبك كل علاقة إلا الله وحده، واخل بنفسك، واجمع همتك وقل: الله الله الله)([129])

ونقل عن الغزالي ما ذكره في كتابه (المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى) حين تحدث على اسم الجلالة (الله)، فقال: (ينبغي أن يكون حظ العبد منه، يعني ذكر هذا الاسم التأله، ونعني به أن يكون مستغرق القلب والهمة بالله تعالى لا يرى غيره، ولا يلتفتُ إلى سواه)([130])

ثم علق على هذا بأن (هذا ما اختاره الغزالي لكل مؤمن أن يجعل حظه من هذا الاسم.فإن اخترتم يا حضرة الأخ ما اختاره الغزالي لكَ فَذاكَ، وإلا فلا تطمع بأن يكون عدم اختياركم حجة على من وافق اختياره اختيار الغزالي)([131])

5 ــ أنه لا حرج على الطرق الصوفية في أن تقلد من تشاء من العلماء، كما لا حرج على الجمعية أوغيرها أن تقلد من تشاء منهم، وبالتالي فإن المنهج العلمي يقتضي عدم الإنكار على المقلد، بل يتوجه الإنكار بالبحث العلمي على العالم الذي قلد، يقول الشيخ ابن عليوة في تقرير هذا الدليل: (و هب أن قولكم يصلح أن يكون حُجةً على شبه العلاويين، فهل يكون حجة على من سبقهم أيضا من العلماء الأعلام المفسرين، كالفخر الرازي وغيره؟ فقد التزم على نفسه، وصرح باختياره لذكر هذا الاسم حسبما ذكره في تفسيره الكبير، عند الكلام على البسملة([132])

6 ــ أن الذكر بهذا الاسم مشتهر منتشر في الأمة جميعا، وليس خاصا بالعلاويين وحدهم، يقول ابن عليوة: (ليكن في علمك أيضا أن عموم المتصوفة يشاركونهم في ذلك، ويعتقدون أنه الاسم الأعظم الذي إذا دعي به سبحانه وتعالى أجاب، وإذا سُئل به أعطى، وليس هذا مقصورا على اختيار الصوفية، إنما هو اختيار غير واحد من الأئمة وجُل المحدثين والأصوليين)([133])

ثم نقل النقول الكثيرة من الفقهاء المعتبرين على شرعية الذكر بهذا الاسم،مما لا محل لطرحه هنا.

7 ــ ما ورد في الحديث من قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(لا تقوم الساعة على أحد يقول: الله، الله)([134])، وفي رواية (لا تقوم الساعة حتى لا يبقى على وجه الأرض من يقول الله الله)([135])

وقد ذكر الشيخ ابن عليوة أن الحديث استشهد به شيخ الجماعة أبو محمد عبد القادر بن يوسف الفاسي في نوازله.

وذكر وجه الاستدلال به، فقال: (و أبلغ شاهد يُعتمد عليه في هذا الحديث، هو مجيء لفظ الجلالة مكررًا فكان صريحا في إرادته ذكر ذلك الاسم، أما لو جاء غير مكرر لاحتمل أن يكون المراد به، حتى لا يبقى على وجه الأرض من يعتقد وجود (الله) أما مع وجود التكرار فلا احتمال)([136])

8 ــ أنه على فرض أنه لا يوجد في الشرع الشريف أي دليل على جواز تكرار ذلك الاسم، فكذلك لا يوجد فيه أيضا ما يفيد المنع من تكراراه على اللسان، أو مروره على القلب، بل ليس في الشرع على ما يظهر ما يمنع من تكرير أي اسم من أسماء المحدثات، إذا صح هذا، فكيف يوجد ما يمنع من التلفظ باسم من أسماء الله الحسنى؟ فحاشا أن يوجد في الشرع ما هو قبيل هاته التعسفات والتنطعات، التي تلزم المؤمن أن لا يردد اسم مولاه على لسانه، بأن يقول (الله الله)، أو ما في معناه من بقية أسمائه([137]).

9 ــ بالإضافة إلى ما ذكره الشيخ ابن عليوة من الأدلة يورد الصوفية بعض النصوص القرآنية الدالة على شرعية هذا الاسم، ومنها قوله تعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل: 8]، وقوله لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: 91]، وقوله: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا } [الإنسان: 25]، فهذه النصوص تأمر بذكر اسم (الله)، وتطبيق ظاهر الأمر فيها يدل على مشروعية الذكر بالاسم المفرد.

المطلب الثاني: ممارسات السلوك الصوفي بين الجمعية والطرق الصوفية

بناء على ما سبق ذكره في الفصل الخاص بالاتجاه الفكري والإصلاحي للطرق الصوفية من بيان أهمية وضرورة وتنوع الممارسات الصوفية المتمثلة في الأوراد والخلوة، فإنا سنحاول هنا أن نقتصر على بيان موقف الجمعية من تلك الممارسات، والرد العلمي عليها من طرف الطرق الصوفية.

أولا ــ الأوراد الصوفية

تتفق الطرق الصوفية جميعا – كما عرفنا سابقا- على ضرورة التزام المريد بمجموعة من الوظائف التعبدية التي تشمل عادة: الاستغفار والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكلمة التوحيد، وبعض السور القرآنية، وبعض الصلوات التي وضعها المشايخ كصلاة الفاتح والمشيشية ونحوها.

وقد كان الورد بهذه الصورة محل خلاف بين الجمعية والطرق الصوفية، وسنعرض لهذا الخلاف وأدلته في هذا المطلب.

موقف الجمعية:

انطلق الشيخ العربي التبسي – لسان الجمعية في هذه المسائل، ومفتيها- في معرض رده على الأوراد التي تمارسها الطرق الصوفية بذكر الموقف العام، وهو موقف ينطبق تماما مع أكثر المدارس السلفية تشددا، وقد عبر عنه بقوله: (من البين لجميع من عرف الطرائق التي غضت بها الجزائر؛ أنها اشتركت في أمور وامتازت كل واحدة بخواص تجعلها منفصلة عن البقية تستحق بها اسم: طريقة فلان، وقد وضعوا طرائقهم كالشرع الموضوع المتبع، وبنوا هذه الأذكار على أوضاع وهيآت وألحقوا بها أدعية أحدثها من أسس الطريقة.. ومن الشائع الذائع: أن هذه الأذكار يعطيها رؤساء الطرائق أو من يقيمونه، ويسمى بأخذ الورد أو رفع السبحة ويعينون أعدادها وصيغها وأوقاتها وما يرتئونه من آدابها، ونحن نعرض عملهم هذا ونقيسه بالهدي النبوي وعمل السلف فذلك الدين، وما لم يعرف في هذه الأيام بعموم أو خصوص فليس من الدين، وما دام ليس من الدين فإنكاره قربة والاعتراف به بدعة)([138])

والشيخ العربي التبسي في هذا النص – حسب تصوره – يضع الطرقيين في موضع حرج، لأنه يكلفهم بالدليل النصي عن كل صيغة أو عدد أو هيئة يفعلونها ترتبط بالذكر، وذلك محال لأن في صيغ الذكر وخاصة الصلوات والمناجاة ما كان من وضع مشايخ الطرق، فكيف ينقل مثل هذا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو عن السلف الذين يكونون معتبرين عند الاتجاه السلفي.

ولم ينتظر الشيخ من الطرقيين الإثبات، وإنما راح يبادر بذكر ما ورد في الأحاديث، وهو موضع اتفاق بين الجمعية والطرقيين من (أن الذكر كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يتول تحديده ولا توقيته)، وبناء على هذا، فـ (كل من تعرض لتحديده أو توقيته أو إدخال زيادة كيفما كان شأنها فيه عما كان في عصره؛ يعد مبتدعا مستدركا على الشريعة) ([139])

وبما أن المنهج السلفي لا يكتفي برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبتشريعاته، بل يضم إليها فعل السلف، فقد نص الشيخ العربي التبسي – بناء على هذا – على أن (أن السلف لما لم ينقل عنهم تحديد ولا توقيت وهم أهل الدين صدقا وأصحاب الذكر حقا دل على أنهم فهموا من الشرع عدم التحديد والتوقيت، ولن يستطيع آخر الأمة أن يأتي بهداية لم يأت بها أولها) ([140])

بناء على هذا الاستدلال المعتمد على (قاعدة الترك) التي سبق ذكرها يخرج العربي التبسي من استدلاله بهذه النتيجة الخطيرة التي عبر عنها بقوله: (ونحن نجزم بأن السنة في فعله صلى الله عليه وآله وسلم وقد ترك التحديد وأن الخير في اتباع من سلف وقد تركوا التحديد والتوقيت، فالبدعة والشر في التحديد والتوقيت، وهو ما لم تتركه طريقة من الطرائق، ولنورد شيئا من كلام المحققين يخدم هذا الغرض) ([141])

وقد عبرنا عن كون هذه النتيجة بتلك الصياغة التي صاغها خطيرة، لأنه ينبني عليها أن كل من نصح شخصا بالتزام الاستغفار مثلا كل يوم ألف مرة، يعتبر الناصح والمنصوح مبتدعا، بل يجر ذلك الاستغفار على صاحبه مكاييل من الذنوب، لأن صاحبها خضع للتحديد مع أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يحدد، وهذا التزام خطير.

وهو يستند في ذلك – كما تستند المدرسة السلفية المحافظة – إلى الشاطبي، فيقتبس منه قوله – عند ذكره لمآخذ البدع وأهلها في الاستدلالات على ما انتحلوا -: (ومنها تحريف الأدلة (وقد علمت أن منها لفظه وعمله صلى الله عليه وسلم)([142]) عن مواضعها بأن يرد الدليل على مناط فيصرف عن ذلك المناط إلى آخر (كذكر الله) موهما أن المناطين واحد وهو من خيبات تحريف الكلم عن مواضعه)([143]) إلى أن قال: (وبيان ذلك: أن الدليل الشرعي إذا اقتضى أمرا في الجملة مما يتعلق بالعبادات فأتى به المكلف في الجملة أيضا كذكر الله والدعاء والنوافل المستحبات مما يعلم فيه التوسعة شرعا كان الدليل عاضدا لعمله من جهتين، من جهة معناه، ومن جهة عمل السلف به. فإن أتى المكلف في ذلك الأمر بكيفية مخصوصة أو زمان مخصوص أو مقارن لعبادة مخصوصة والتزم ذلك بحيث صار متخيلا أن الكيفية المخصوصة أو الزمان أو المكان مقصود من غير أن يدل الدليل عليه كان بمعزل عن ذلك المعنى المستدل عليه. فإذا ا ندب الشرع مثلا إلى ذكر الله، فالتزم قوم الاجتماع عليه على لسان واحد وبصوت أو في وقت معلوم مخصوص من سائر الأوقات، لم يكن في ندب الشرع ما يدل على هذا التخصيص بل فيه ما يدل على خلافه)([144])

وبناء على هذا النص الذي يرجع إليه السلفية كثيرا، ويتعاملون معه كما يتعاملون مع النصوص المقدسة، يقول العربي التبسي معقبا على ما نقله عن الشاطبي: (ثم حكم ببدعية ما كان على هذا الوصف، وما ذكره يجري في تحديد الأذكار للأتباع) ([145])

 وقد ذكر الشيخ هنا قضية لست أدري مدى صدقها، بل إن ظاهر ما في كتب الطرق الصوفية ينفيها، وهو ذكره بأن من مستلزمات تلك البدع أنه (أصبح بعض أسماء الله من ميزة طريقة فلان، فمن لم يأخذ عهده وورده لا يحوم حول ذلك الاسم)([146])

ثم يعقب على هذا القول الخطير الذي لم يورد عليه أي دليل بقوله: (وأي شر بقي بعد هذا وأي إلحاد في أسماء الله شر من هذا)([147])

وربما الشيخ يشير بهذا إلى تلقين الأذكار، والتلقين لا علاقه له بهذا، لأن المراد من التلقين هو التزام الذاكر بالذكر المحدد، وفيه نوع من التبرك بالإسناد، لأن كل شيخ يكون قد لقن الورد من شيخ آخر، وهكذا في زعمهم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهم لا يختلفون في هذا عن المحدثين، فمع أن المحدث قد يكون حافظا للحديث، ولكنه مع ذلك يرحل بغية سماعه من راويه حتى يرفع إسناده، أو حتى يتصل سماعه له برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عبر سند وسلسلة معينة.

وفوق هذا، فإن الشيخ العربي التبسي – كسائر السلفيين- يعتبرون من يحدد ويلزم غيره مشرعا، وهو في ذلك يريد أن يقوم مقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفي ذلك – كما يعبر – قلب لمعالم الإسلام ظهرا لبطن، (فقد كان من مبادئ الإسلام الأولية أن المسلم يتلقى الأحكام من ينبوعها؛ وهو ما جاء به الرسول من غير استئذان أحد ولا واسطة أحد، فصير شيوخ الطرائق الذكر يتوقف على إذنهم وتابع لميولهم وأهوائهم) ([148])

بعد هذا الطرح السلفي المتشدد يرد الشيخ العربي التبسي على من يتوهم أن المسألة فرعية بسيطة لا تضر، وقد كان ذلك – كما عرفنا سابقا – طرح دعاة الصلح بين الجمعية والطرق، بقوله: (ولعل زاعما يتوهم أن هذا التحديد والتوقيت لا يضر، وقد قصد واضعوه الخير، فنقول: أخطأ الواهم في وهمه، فإن السلف الذين شاهدوا عصر النبوة لما وقع بين أيديهم شيء أقل من هذا ولا يشاركه في غير أن الرسول لم يفعله أنكروه وعدوه ضلالة) ([149])

وردا على هذا الفريق أخذ الشيخ ينقل النصوص عن السلف، والتي رأينا بعضها عند الحديث عن الموقف من البدعة، ومما نقله هذا النص المشهور المتداول، وهو الرواية التي نقلها الشاطبي([150]) عن ابن وضاح عن الأعمش عن بعض أصحابه قال: مر عبد الله (يعني ابن مسعود) برجل يقص على أصحابه وهو يقول: سبحوا عشرا وهللوا عشرا، فقال عبد الله: إنكم لأهدى من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو أضل؟ بل هذه يعني أضل.

وفي رواية عنه: أن رجلا كان يجمع الناس فيقول: رحم الله من قال كذا وكذا مرة سبحان الله، قال: فيقول القوم ويقول: رحم الله من قال كذا وكذا مرة الحمد لله، قال: فيقول القوم قال: فمر بهم عبد الله بن مسعود فقال: فديتم لما لم يهتد له نبيكم أو إنكم لتمسكون بذنب ضلاله.

وذكر له أيضا أن أناسا يسبحون بالحصى في المسجد فأتاهم وقد كوم كل رجل منهم كوما من حصى قال فلم يزل يحصبهم بالحصى حتى أخرجهم من المسجد ويقول لقد أحدثتم بدعة وظلما وقد فضلتم أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم علما([151]).

ثم يعقب على هذه الرواية المختلف في سندها ومتنها بقوله: (فتفهم رحمك الله رأي الصحابة فيمن خالف ما كان عليه نبينا صلى الله عليه وآله وسلم كيف ضللوه وأنكروا ما أتى به ولم يعذروه ولا تأولوا له وجها ولا نقبوا له عن نية، بل مخالفته كفتهم دلالة على إنكار ما أحدث، وتأملوا يا أولي الألباب ويا رجال العلم فيما أحدثه أشياخ الطرائق فإنهم يحدثوننا بأن حكما وأسرارا أخفيت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلى سلف الأمة أدركها هؤلاء المستدركون وأن فضائل وخواص في أعداد لم يهد لها نبي الرحمة وهدي إليها هؤلاء الأقوام الذين تجارت بهم أهوائهم إلى أبعد مدى)([152])

وما ذكره الشيخ من اعتبار قول ابن مسعود – إن صحت الرواية عنه- قول للصحابة يحتاج إلى أدلة سندية عن كل الصحابة، فالإجماع السكوتي أضعف أنواع الإجماع، ولا عبرة به عند أكثر الفقهاء.

أما ما ذكره عن الصوفية، فنحن نسلم أن هناك انحرافات كثيرة وقعت في هذا الباب، ولكنا نسلم كذلك بأن الطبيب الجراح الحاذق هو الذي يستأصل العضو الفاسد، لا كل الجسد.

موقف الطرق الصوفية:

يجيب الصوفية على ما يورده مخالفوهم في هذا الباب بما ذكرناه سابقا من أنهم يرون التحديد في أسوأ أحواله بدعة حسنة، ويستدلون لذلك بما ورد من جواز تقييد المطلق من النصوص بالعدد والزمان ونحوه، كما ذكرناه في الفصل الأول من هذا الباب.

بالإضافة إلى هذا نحب أن نورد هنا باختصار مناقشة علمية حصلت بين شيخ تيجاني هو الشيخ أبو طاهر المغربي التيجاني آل أبي القاسم، وعضو من أعضاء الجمعية الشرفيين هو الشيخ محمد تقي الهلالي الذي كان في ذلك الحين مدرسا بالمسجد النبوي الشريف، والذي نشر مقالا نشر في جريدة الشهاب بالعدد 151، بعنوان (الطرائق في الحجاز) للشيخ محمد تقي الهلالي، ومما جاء فيه أن (ألفا هاشم) شيخ الطريقة التيجانية بالمدينة المنورة، استدعاه الشيخ عبد الله بن حسن رئيس هيئة مراقبة القضاء بحضرة الشيخ محمد تقي الهلالي، وسأله عما بلغه عنه من أنه متمسك بطريقة بل هو شيخ متبوع فيها فقال: (نعم، وليس في هذه الطريقة ما يخالف السنة إنّما هي أذكار مشروعة: الاستغفار، والصلاة على النبي، وكلمة الإخلاص لا اله إلاّ الله)، فأومأ الشيخ عبد الله إلى الشيخ محمد تقي الهلالي أن تكلمْ، فقال: (يا ألفا هاشم إني كنت تيجانيا، وقرأت كتب الطريقة، وليست ذكرا مجردا، بل هي أقوال وأفعال وعقائد. ولو سلّمنا أنها أذكار مجردة، ففيها بدع كثيرة، من تحديد ما لم يحد الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم بالعدد، والوقت الاختياري والضروري، والقضاء لما فات، والاجتماع على هيئة غير مشروعة، وألفاظ من كلام أهل الوحدة، مثل اللهم صلّ وسلم على عين الحق، وعين ذاتك العلية، ووصف النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالأسقم، أيّ الأمرض)([153])

وقد رد الشيخ أبو طاهر على هذه الشبهات بإجابة مفصلة في رسالة سماها (إفحام الخصم الملد بالدفاع عن الشيخ الممد) والذي يعنينا منها هنا هو ما يتعلق بالورد الصوفي، وقد بدأ الشيخ رده ببيان أن تحديد الأذكار بالعدد والوقت والاجتماع كل ذلك لا حرج فيه، ولا دليل يدل على بدعيته، يقول في ذلك: (اعلم أن الأذكار اللازمة لهذه الطريقة هي الوردان والوظيفة في كل يوم، وذكر لا إله إلاّ الله بعد عصر يوم الجمعة، ولكلٍّ وقت معين على ما قرر في كتب الطريقة، وإنما يُجتَمَعُ للوظيفة والهيللة)([154])

ثم أخذ يذكر أوراد الطريقة، وما ورد في النصوص من الأمر بها، فقال: (وإذا تقرر هذا فأوراد هذه الطريقة المباركة ووظيفتها استغفار، وذكر الله، وصلاة وسلام على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وكل ذلك مشروع، قال الله تعالى: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح: 10]، وقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42)} [الأحزاب: 41، 42]، وقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56])([155])

هذا في أصل الأمر بالاستغفار والذكر والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأما التقييدات التي قيدت بها الطريقة هذه الأذكار، فأجاب عنها بقوله: (وأما تحديد ذلك بالعدد والوقت، فله أصل في الشريعة، إذ كثير من الأذكار الثابتة بالسنة محدد بالوقت والعدد، فأدعية الصباح والمساء، والنوم والاستيقاظ منه، محدودة بوقت، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من قال لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب وكتبت له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به الاّ رجل عمل أكثر منه)([156])، وقال: (ومن قال في يوم سبحان الله وبحمده مائة مرة حطت عنه خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر)([157])، فهذا تحديد بالعدد)([158])

وبناء على هذا يرى أن رؤيا الشيخ لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتحديده (الأوراد والوظيفة بالعدد والوقت، مما له أصل في الشريعة)، وما دام كذلك فلا مشاحة في الوسيلة التي تم بها تأسيس تلك الأوراد.

وقد أجاب عن الشبهة التي عرضها الهلالي حول الأداء والقضاء في الأوراد بقوله: (اعلم أنّ سالك هذه الطريقة التزم عامة أذكارها في الأوقات المعينة، والوفاء بما يعاقد العبد ربه عليه في وقت معين من القربات واجب شرعا، ومن فاته شيء من ذلك في وقته وجب عليه قضاؤه)، ثم نقل عن الشيخ محمد العربي بن السائح في كتابه (بغية المستفيد) قوله: (وحقيقة الأوراد عقود وعهود أخذها الله على عباده بواسطة المشايخ، فمن بجّل المشايخ وحافظ على العقود، ووفىّ بالعهود، كان له خير الدارين، ومَن تهاون بالمشايخ، وفرّط في العقود والعهود، كان ذلك سببا لزيغه، وخرق سفينته. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ } [الصف: 3]، {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ } [الأحزاب: 23]، وهذه الآيات الثلاث هي أصول الأوراد من لدن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى يومنا هذا)([159])

وبعد أن ذكر أقوال المفسرين للآيات السابقة، والتي تدل على إمكان دخول الأوراد فيها، حاول أن يبرهن على ذلك من السنة، فذكر أن (أن التزام نوافل العبادات له أصل في السنة، فقد كان عبد الله بن عمرو بن العاص يصوم النهار ويقوم الليل، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليه التزامه من حيث أنه التزام، بل من حيث أنه مظنة للعجز عن الدوام عليه، كما هو نص صريح الحديث، أخرج البخاري في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال له: (يا عبد الله ألم أُخْبَرْ أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟، قلت: بلى يا رسول الله، قال: فلا تفعل، صمْ وأفطر، وقُمْ ونَمْ، فإنّ لجسدك عليك حقا، وإنّ لعينك عليك حقا، وإنّ لزوجك عليك حقا، وإنّ لزورك عليك حقا، وإنّ بحسبك أنْ تصوم كل شهر ثلاثة أيام، فإن لك بكل حسنة عشر أمثالها، فإن ذلك صيام الدهر كلّه، فشددت فشُدّدَ عليّ، قلت: يا رسول الله إني أجد قوة، قال: فصم صيام نبي الله داود ولا تزد عليه، قلت: وما كان صيام نبي الله داود؟ قال: نصف الدهر، وكان عبد الله يقول بعد ما كبر: يا ليتني قبلت رخصة النبي)([160])

ثم كعادة رجال الطرق الصوفية في لجوئهم إلى من يهتم بهم التيار السلفي ويعود إليهم نرى الشيخ أبا طاهر ينقل عن الشاطبي المسألة الثامنة من مسائل النوع الرابع في (بيان قصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة) في كتاب (المقاصد من الموافقات)([161]) ما نصه: (من مقصود الشارع في الأعمال، دوام المكلف عليها، والدليل على ذلك واضح كقوله تعالى: {إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23)} [المعارج: 22، 23]، وقوله: {يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ } [المائدة: 55]، وإِقام الصلاة بمعنى الدوام عليها. بهذا فُسرت الإقامة حيث ذكرت مضافة إلى الصلاة، وجاء هذا كله في معرض المدح، وهو دليل على قصد الشارع إليه. وجاء الأمر صريحا في مواضع كثيرة كقوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } [البقرة: 43]، وفي الحديث: (أَحَبُّ العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قَـلَّ)([162])، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (خذوا من العمل ما تطيقون فإنّ الله لن يَمَلّ حتى تملوا)([163])، وكان عليه السلام إذا عمل عملا أثبته. وكان عمله ديمة. وأيضا، فإن في توقيت الشارع وظائف العبادات، من مفروضاتٍ ومسنوناتٍ ومستحباتٍ في أوقات معلومة الأسباب ظاهرة، ولغير أسباب، ما يكفي في حصول القطع بقصد الشارع إلى إدامة العمل. وقد قيل في قوله تعالى في الذين ترهبوا: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } [الحديد: 27]، إن عدم مراعاتهم لها هو تركها بعد الدخول فيها والاستمرار)([164])

وبناء على هذا يذكر الشاطبي أنه من هذا الباب (يؤخذ حكم ما ألزمه الصوفية أنفسهم من الأوراد في الأوقات، وأمروا بالمحافظة عليها بإطلاق. لكنهم قاموا بأمور لا يقوم بها غيرهم، فالمكلف إذا أراد الدخول في عمل غير واجب، فمن حقه أن لا ينظر إلى سهولة الدخول فيه ابتداء حتى ينظر في مآله فيه، وهل يقدر على الوفاء به طول عمره أم لا؟ فإن المشقة التي تدخل على المكلف من وجهين، أحدهما من شدة التكليف في نفسه، بكثرته أو ثقله في نفسه، والثاني من جهة المداومة عليه وإن كان في نفسه خفيفا)([165])

هذا كلام الشاطبي كما نقله الشيخ أبو طاهر، وقد علق عليه بقوله: (وهو صريح في أن ما يُلتزم من الأوراد إذا علم المكلف من نفسه القدرة على المضي فيه، فهو مما لا بأس فيه)([166])

ونقل عنه في محل آخر من كتابه (الاعتصام) قوله: (إن الإلتزام على وجهين: نذري، وغير نذري. فأما الأول فالوفاء به واجب، وأما الثاني فالأدلة تقـتضي الوفاء به في الجملة، ولكن لا تبلغ مبلغ العتاب على الترك)([167])

ونقل عنه في محل آخر قوله: (إذا ثبت هذا فالدخول في عمل على نية الالتزام له إن كان في المعتاد، بحيث إذا داوم عليه أورث مللا، ينبغي أن يعتقد أن هذا الالتزام مكروه ابتداء)([168])

ثم علق عليه بقوله: (فانظر كيف جعل الالتزام لمكروه ما تورث المداومة عليه الملل. وأما الاجتماع للذكر، فالخلاف فيه قديم بين أهل العلم وهو، وإن كرهه الإمام مالك رحمه الله، فالجمهور على جوازه بدون كراهة)([169])

وعلى هذا المنوال نجد الشيخ ابن عليوة يرد على مخالفه الشيخ العربي والتبسي والجمعية بقول ابن تيمية في هذه المسألة، وهو (مجالس الذكر المعهودة عن الصوفية، واعتباره لها من السنة بمكان)([170])

ومن النقول التي أوردها في هذا قول ابن تيمية في مسألة يقول صاحبها: (مسألة في رجل ينكر على أهل الذكر يقول لهم هذا الذكر بدعة، وجهركم بالذكر بدعة وهم يفتتحون بالقرآن ويختتمون ثم يدعون للمسلمين الأحياء والأموات ويجتمعون للتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير والحوقلة ويصلون على النبي صلى الله عليه وآله وسلم)([171])

وقد أجاب ابن تيمية بقوله: (الاجتماع لذكر الله والاستماع لكتابه والدعاء عمل صالح وهو من أفضل القربات والعبادات في الأوقات ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إن لله ملائكة سياحين في الأرض فإذا مروا بقوم يذكرون الله تنادوا هلموا إلى حاجتكم)([172]).. وما يحصل عند السماع والذكر المشروع من وجل القلب ودمع العين واقشعرار الجسوم فهذا أفضل الأحوال التي نطق بها الكتاب والسنة، وأما الاضطراب الشديد والغشي والموت والصياحات فهذا إن كان صاحبه مغلوباً عليه لم يلم عليه كما قد كان في التابعين ومن بعدهم فإن منشأه قوة الوارد على القلب مع ضعف القلب والقوة والتمكن أفضل كما هو حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة وأما قسوة وجفاء فهو مذموم ولا خير فيه)([173])

وقد عقب عليه الشيخ ابن عليوة بقوله: (لا شيء أبلغ من هذا التلميح بل التصريح من جناب الشيخ، وقد لاح لي أنك عندما تصل إلى هذه النقول الصحيحة وتتأملها بإنصاف ترجع عن سوء ظنك بالقوم سيما عندما تتأمل هذا النقل الأخير عن شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية، لأني أراك في الغالب ممن يجل ويحترم نظريتهما واختياراتهما بما رأيت من احترامهما عند أبناء العصر الحاضر وها هو قد استبان لك ما قد كنت تجهله ولم يبق لك إلا أن تقول {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23] وإني على ثقة من كون الرجوع عندكم إلى الحق أولى من التمادي على الباطل حسبما قدمناه)([174])

ثانيا: الخلوة الصوفية

  ذكرنا في الفصل الخاص بالاتجاه الفكري للطرق الصوفية أهمية الخلوة وضرورتها السلوكية عند الكثير من الطرق الصوفية، وذكرنا كذلك أنها كانت محل نقد من طرف الجمعية، وخصوصا الشيخ العربي التبسي.

ولذلك سنكتفي هنا – باختصار – بعرض بعض ما تراه الطرق الصوفية من أدلة على صحة ممارساتهم في الخلوة.

وقبل ذلك ننقل رسالة كتبها الشيخ ابن عليوة لشخص عاتبهم في شأن الخلوة لم يذكره، وهي على اختصارها تدل على المقصد من الخلوة.

قال الشيخ ابن عليوة: (هذا أيّها المحبّ، قد اتصّل بيدي كتابكم، بعد ما تشوفت إليه أياما، وها أنا الآن أحمد الله على سلامتكم الدينيّة والبدنيّة، صرفهما الله في مرضاته، وقد كنت وصّيت بعضا من إخواننا من جملتهم المقدّم سيدي (…….) وكذلك سيدي (……..) فأخبروني أنّكم بخير، أمّا ما أرشدتمونا إليه من شأن الخلوة، وعلى أنّ هنالك أناسا ليسوا بأهل ذلك، فما أخبرتمونا إلاّ بالصدق بعينه، ولكن كيف العمل أخي عندما يأتيك الإنسان قائلا: نريد أن ننقطع أياما لذكر الله، بقصد التوبة والرجوع إلى الله، فما عليك إلاّ أن تأمره بالذكر، لأنّ الخلوة عندنا على ضربين، خلوة بقصد التصفية، وخلوة بقصد السلوك إلى الله عزّ وجلّ، ولا يأخذ كلتيهما إلاّ من سبقت له العناية، والمعنى أنّ هناك أناسا لا حظّ لهم فيما عند الله، وكيفما كان لا يسوغ للمرشد أن يمنع من قصده طالبا الله، غير أنّه يرشده لما يناسبه، وعلى الله قصد السبيل، ولكنّكم نبهتموني إلى شيء كنت عنه في غفلة – بارك الله فيكم – لأنّي ما كنت أظنّ أنّ المؤمن يأتي للخلوة بقصد التجسس: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم: 4]، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم)([175])

بناء على هذا يذكر الصوفية أدلتهم على مشروعيتها، والتي نختصرها فيما يلي:

1 ــ قوله تعالى: {واذكرِ اسم ربِّكَ وتَبَتَّلْ إليه تبتيلاً} [المزمل: 8]، فالآية الكريمة تدعو إلى التبتل، وهو الانقطاع التام لله تعالى، وهو نفس معنى الخلوة، كما قال العلامة أبو السعود في تفسيره لها: (ودُم على ذكره تعالى ليلاً ونهاراً على أي وجه كان ؛ من التسبيح والتهليل والتحميد.. وانقطعَ إليه بمجامع الهمة واستغراق العزيمة في مراقبته، وحيث لم يكن ذلك إلا بتجريد نفسه عليه الصلاة والسلام عن العوائق الصادرة المانعة عن مراقبة الله تعالى، وقطع العلائق عما سواه)([176])

2 ــ ما ورد في الحديث من أن (أولُ ما بُدِىءَ به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حُبِّبَ إليه الخلاءُ، وكان يخلو بغار حِراءَ؛ فيتَحَنَّثُ فيه ـ وهو التعبد ـ الليالي ذوات العدد، قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة، ويتزود لمثلها، حتى جاءه الحق، وهو في غار حراء)([177])

وقد علق المحدث الصوفي ابن أبي جمرة في شرحه لهذا الحديث بقوله: (في الحديث دليل على أن الخلوة عون للإنسان على تعبده وصلاح دينه، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما اعتزل عن الناس وخلا بنفسه، أتاه هذا الخير العظيم، وكل أحد امتثل ذلك أتاه الخير بحسب ما قسم له من مقامات الولاية، وفيه دليل على أن الأوْلى بأهل البداية الخلوة والاعتزال، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان في أول أمره يخلو بنفسه.. وفيه دليل على أن البداية ليست كالنهاية، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أول ما بُدِىءَ في نبوته بالمرائي، فما زال عليه الصلاة والسلام يرتقي في الدرجات والفضل، حتى جاءه المَلكُ في اليقظة بالوحي، ثم ما زال يرتقي، حتى كان كقاب قوسين أو أدنى، وهي النهاية. فإذا كان هذا في الرسل فكيف به في الأتباع؟! لكن بين الرسل والأتباع فرق، وهو أن الأتباع يترقون في مقامات الولاية ـ ما عدا مقام النبوة، فإنه لا سبيل لهم إليها، لأن ذلك قد طُويَ بساطه ـ حتى ينتهوا إلى مقام المعرفة والرضا، وهو أعلى مقامات الولاية.. ولأجل هذا تقول الصوفية: من نال مقاماً فدام عليه بأدبه ترقى إلى ما هو أعلى منه، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذ أولاً في التحنث ودام عليه بأدبه، إلى أن ترقى من مقام إلى مقام، حتى وصل إلى مقام النبوة، ثم أخذ في الترقي في مقامات النبوة حتى وصل به المقام إلى قاب قوسين أو أدنى كما تقدم. فالوارثون له بتلك النسبة ؛ من دام منهم على التأدب في المقام الذي أُقيم فيه ترقى في المقامات حيث شاء الله، عدا مقام النبوة التي لا مشاركة للغير فيها بعد النبي صلى الله عليه وسلم)([178])

وقد أجاب الصوفية على الإشكال الذي يمنع الاستدلال بهذه الأحاديث باعتبار أن خلوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في الغر كانت قبل الرسالة، ولا حكم إلا بعد الرسالة، بما ذكره المحدث القسطلاني بقوله: (إنه أول ما بدىء به عليه الصلاة والسلام من الوحي الرؤيا الصالحة، ثم حُبِّبَ إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء كما مر، فدل على أن الخلوة حكم مرتب على الوحي، لأن كلمة [ثم] للترتيب. وأيضاً لو لم تكن من الدين لنهى عنها، بل هي ذريعة لمجيء الحق، وظهورُه مبارك عليه وعلى أمته تأسِّيَاً وسلامة من المناكير وضررها، ولها شروط مذكورة في محلها من كتب القوم)([179])

3 ــ أن فيها من المصالح الشرعية ما يجعلها مشروعة بشرعية مقاصدها، وقد أشار كثير من العلماء إلى فوائدها وأهميتها، كما ذكر الفيروز أبادي صاحب القاموس ذلك، فذكر أن خلوة طلاب طريق الحق على أنواع([180]):

الأول: أن تكون خلوتهم لطلب مزيد علم الحق من الحق لا بطريق النظر والفكر، وهذا غاية مقاصد أهل الحق، لأن من خاطب في خلوته كوناً من الأكوان، أو فكَّر فيه فليس هو في خلوة. قال شخص من طلاب الطريق لبعض الأكابر: اذكرني عند ربك في خلوتك. قال: إذا ذكرتك فلستُ معه في خلوة.. وشرط هذه الخلوة أن يذكر بنفسه وروحه، لا بنفسه ولسانه.

الثاني: أن تكون خلوتهم لصفاء الفكر لكي يصح نظرهم في طلب المعلومات، وهذه الخلوة لقوم يطلبون العلم من ميزان العقل، وذلك الميزان في غاية اللطافة، وهو بأدنى هوى يخرج عن الاستقامة، وطلاب طريق الحق لا يدخلون في مثل هذه الخلوة، بل تكون خلوتهم للذكر، وليس للفكر عليهم قدرة ولا سلطان، ومهما وُجِدَ الفكر إلى صاحب الخلوة فينبغي أن يعلم أنه ليس من أهل الخلوة، ويخرج من الخلوة ويعلم أنه ليس من أهل العلم الصحيح الإلهي، إذ لو كان من أهل ذلك لحالت العناية الإلهية بينه وبين دوران رأسه بالفكر.

الثالث: خلوة يفعلها جماعة لدفع الوحشة من مخالطة غير الجنس، والاشتغال بما لا يعني، فإنهم إذا رأوا الخلق انقبضوا، فلذلك اختاروا الخلوة.

الرابع: خلوة لطلب زيادة لذة توجد في الخلوة.

وذكر الغزالي فوائد الخلوة، فقال: (وأما الخلوة ففائدتها دفع الشواغل، وضبط السمع والبصر، فإنهما دهليز القلب، والقلب في حكم حوض تنصب إليه مياه كريهة كدرة قذرة من أنهار الحواس. ومقصود الرياضة تفريغ الحوض من تلك المياه ومن الطين الحاصل منها ؛ ليتفجر أصل الحوض، فيخرج منه الماء النظيف الطاهر. وكيف يصح له أن ينزح الماء من الحوض، والأنهار مفتوحة إليه؟ فيتجدد في كل حال أكثر مما ينقص. فلا بد من ضبط الحواس إلا عن قدر الضرورة، وليس يتم ذلك إلا بالخلوة)([181])

وذكر الشيخ الغزالي تجربته العملية فيها، فقال: (وانكشف لي في أثناء هذه الخلوات أُمور لا يمكن إحصاؤها واستقصاؤها، والقدر الذي أذكره ليُنتفعَ به، أني علمت يقيناً أن الصوفية هم السالكون لطريق الله خاصة، وأن سيرتهم أحسن السير، وطريقتهم أصْوَبُ الطرق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق، بل لو جُمِع عقل العقلاء، وحكمة العلماء، وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء، ليغيروا شيئاً من سَيْرِهم وأخلاقهم، ويبدلوه بما هو خير منه، لم يجدوا إليه سبيلاً، فإن جميع حركاتهم وسكناتهم في ظاهرهم وباطنهم مقتبسة من نور مشكاة النبوة، وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به)([182])

وذكر شيخ الصوفية الأكبر محيي الدين بن عربي أهميتها، فقال (فإن المتأهب الطالب للمزيد، المتعرض لنفحات الجود بأسرار الوجود إذا لزم الخلوة والذكر، وفرَّغ المحل من الفكر، وقعد فقيراً لا شيء له عند باب ربه، حينئذ يمنحه الله تعالى، ويعطيه من العلم به والأسرار الإلهية والمعارف الربانية التي أثنى الله سبحانه بها على عبده خضر فقال: {عبْداً مِنْ عِبادِنا آتيناهُ رحمَةً مِنْ عندِنا وعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنّا علماً} [الكهف: 65]. وقال تعالى: {واتَّقوا اللهَ ويُعَلِّمُكُمُ اللهُ} [البقرة: 282]. قال تعالى: {إنْ تتَّقوا اللهَ يَجعَلْ لكُمْ فُرقاناً} [الأنفال: 29]. وقال: {ويجعلْ لَكُمْ نُوراً تمشونَ به} [الحديد: 28]، وقيل للجنيد: بم نلت ما نلت؟ فقال: بجلوسي تحت تلك الدرجة ثلاثين سنة، وقال أبو يزيد: أخذتم علمكم ميتاً عن ميت، وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت. فيحصل لصاحب الهمة في الخلوة مع الله وبه جلَّت هيبته وعظمت منته، من العلوم ما يغيب عندها كل متكلم على البسيطة، بل كل صاحب نظر وبرهان، ليست له هذه الحالة)([183])

وذكر شيخ الطرق الصوفية الأكبر ابن عجيبة فوائدها عند شرحه لقول ابن عطاء الله: (ما نفعَ القلبَ شيءٌ مثلُ عُزلةٍ يدخل بها مَيْدانَ فكرة)، فقال: (والعزلة انفراد القلب بالله. وقد يراد بها الخلوة التي هي انفراد القالب عن الناس، وهو المراد هنا، إذ لا ينفرد القلب بالله إلا إذا انفرد القالب. والفكرة سير القلب إلى حضرة الرب، وهي على قسمين: فكرة تصديق وإيمان، وفكرة شهود وعيان. ولا شيء أنفع للقلب من عزلة مصحوبة بفكرة، لأن العزلة كالحِمْية، والفكرة كالدواء، فلا ينفع الدواء بغير حمية، ولا فائدة في الحمية من غير دواء، فلا خير في عزلة لا فكرة فيها ولا نهوض بفكرة لا عزلة معها، إذ المقصود من العزلة هو تفريغ القلب، والمقصود من التفرغ هو جَولاَن القلب واشتغال الفكرة، والمقصود من اشتغال الفكرة تحصيل العلم وتمكنه من القلب، وتمكن العلم بالله من القلب هو دواؤه وغاية صحته، وهو الذي سماه الله القلب السليم، قال الله تعالى في شأن القيامة: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)} [الشعراء: 88، 89])([184])

وشبه تأثير الخلوة التربوي بتأثير الحمية، فقال: (إن القلب كالمعدة إذا قويت عليها الأخلاط مرضت، ولا ينفعها إلا الحمية، وهو قلة موادها، ومنعها من كثرة الأخلاط (المعدة بيت الداء، والحمية رأس الدواء). وكذلك القلب إذا قويت عليه الخواطر واستحوذ عليه الحس مرض، وربما مات، ولا ينفعه إلا الحمية منها، والفرار من مواطنها، وهي الخلطة، فإذا اعتزل الناس واستعمل الفكرة نجح دواؤه، واستقام قلبه، وإلا بقي سقيماً حتى يلقى الله بقلب سقيم بالشك والخواطر الرديئة، نسأل الله العافية)([185])

ثم ذكر للخلوة عشر فوائد:

1ـ السلامة من آفات اللسان، فإنَّ مَنْ كان وحده لا يجد معه من يتكلم، ولا يسلم في الغالب من آفاته إلا من آثرَ الخلوة على الاجتماع.

2ـ السلامة من آفات النظر، فإنَّ من كان معتزلاً عن الناس سلم من النظر إلى ما هم مُنْكَبُّون عليه من زهرة الدنيا وزخرفها، قال بعضهم: (من كثرت لحظاته دامت حسراته).

3ـ حفظ القلب وصونه عن الرياء والمداهنة وغيرهما من الأمراض.

4ـ حصول الزهد في الدنيا والقناعة منها، وفي ذلك شرف العبد وكماله.

5ـ السلامة من صحبة الأشرار ومخالطة الأرذال، وفي مخالطتهم فساد عظيم.

6ـ التفرغ للعبادة والذكر، والعزم على التقوى والبر.

7ـ وُجْدانُ حلاوة الطاعات، وتمكن لذيذ المناجاة بفراغ سره.

8ـ راحة القلب والبدن، فإن في مخالطة الناس ما يوجب تعب القلب.

9ـ صيانة نفسه ودينه من التعرض للشرور والخصومات التي توجبها الخلطة.

10ـ التمكن من عبادة التفكر والاعتبار، وهو المقصود الأعظم من الخلوة([186]).


([1])  ما عدا الطريقة التيجانية، فهي تجعل المقدمين بدل المشايخ، وهو خلاف شكلي لا حقيقة واقعية له.

([2])  آثار ابن باديس (4/ 215

([3])  آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (1/ 139

([4])  آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (1/ 304)

([5])  آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (1/ 304)

([6])  آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (1/ 304)

([7])  آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (5/ 79)

([8])  ابن عليوة، المنح القدوسية في شرح المرشد المعين على الطريقة الصوفية، 262.

([9])  نقلا عن:  الشيخ ابو المواهب الشعراني، الانوار القدسية في بيان آداب العبودية، الطبعة الاولى – سنة 1373 هـ / 1954 م شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، ص 63.

([10])  تاج العروس، ص (90.

([11])  الفتوحات المكية (2/ 365)

([12])  ابن عليوة، المنح القدوسية في شرح المرشد المعين على الطريقة الصوفية، 258.

([13])  ابن عليوة، المنح القدوسية في شرح المرشد المعين على الطريقة الصوفية، 259.

([14])  ابن عليوة، المنح القدوسية في شرح المرشد المعين على الطريقة الصوفية، 260.

([15])  ابن عليوة، المنح القدوسية في شرح المرشد المعين على الطريقة الصوفية، 260.

([16])  ابن عليوة، المنح القدوسية في شرح المرشد المعين على الطريقة الصوفية، 260.

([17])  ابن عليوة، المنح القدوسية في شرح المرشد المعين على الطريقة الصوفية، 261.

([18])  ابن عليوة، المنح القدوسية في شرح المرشد المعين على الطريقة الصوفية، 262.

([19])  ابن عليوة، المنح القدوسية في شرح المرشد المعين على الطريقة الصوفية، 263.

([20])  انظر في هذه الأدلة وغيرها، يوسف خطار محمد، موسوعة الأدلة اليوسفية، الطبعة الثانية – 1999، ص519، وهي من أكبر الموسوعات في ذكر أدلة الصوفية.

([21])  سنن الترمذي (5/ 48)

([22])  حكمة لابن عطاء الله السكندري، وقد قال ابن عجيبة في شرحها: (الذي ينهضك حاله هو الذي ذا رأيته ذكرت الله فقد كنت في حال الغفلة فلما رأيته نهض حالك إلى اليقظة أو كنت في حالة الرغبة، فلما رأيته نهض حالك إلى الزهد أو كنت في حالة الأشتغال بالمعصية فلما رأيته نهض حالك إلى التوبة أو كنت في حالة الجهل بمولاك فنهضت إلى معرفة من تولاك وهكذا والذي يدلك على الله مقاله هو الذي يتكلم بالله ويدل على الله ويغيب عما سواه إذا تكلم أخذ بمجامع القلوب وإذا سكت أنهضك حاله إلى علام الغيوب فحاله يصدق مقاله ومقاله موافق لعلمه فصحبة مثل هذا أكسير يقلب الأعيان) (انظر:  إيقاظ الهمم شرح متن الحكم (ص: 57)

([23])  مجلة المنار (8/ 379)

([24])  مجلة المنار (8/ 379)

([25])  الشهاب، ج 2 م 5 ص 1 – 7. غرة شوال 1347 – مارس 1929، وانظر: آثار ابن باديس (1/ 129، وما بعدها)

([26])  آثار ابن باديس (1/ 129)

([27])  آثار ابن باديس (1/ 131)

([28])  آثار ابن باديس (1/ 131)

([29])  آثار ابن باديس (1/ 133)

([30])  آثار ابن باديس (1/ 134)

([31])  آثار ابن باديس (1/ 134)

([32])  آثار ابن باديس (1/ 136)

([33])  آثار ابن باديس (1/ 136)

([34])  الشهاب: ج 3، م 5، ص 1 – 6. غرة ذي القعدة 1347هـ افريل 1929م، وانظر: آثار ابن باديس (1/ 138، وما بعدها)

([35])  آثار ابن باديس (1/ 140)

([36])  آثار ابن باديس (1/ 140)

([37])  آثار ابن باديس (1/ 143)

([38])  بدعة الطرائق في الإسلام (ص: 10)

([39])  بدعة الطرائق في الإسلام (ص: 12)

([40])  هو عثمان بن عبد القاسم بن المكي، التوزري الزبيدي المالكي، فقيه، كان مدرسًا بجامع الزيتونة بتونس، له: «توضيح الأحكام على تحفة الحكام» مطبوع، فرغ من تأليفه سنة 1338هـ.، و«الهداية لأهل البيان» مطبوع في تونس في فقه مالك، توفي بعد سنة 1338ه، (انظر: الزركلي، الأعلام (4/212)

([41])  ابن عليوة، القول المعروف، ص 46.

([42])  ابن عليوة، أعذب المناهل في الأجوبة والمسائل، نقلا عن: صفحات مطوية في التصوف الإسلامي، ص202.

([43])  حاولنا أن نبحث عن جملة مفيدة في كتاب المرآة لإظهار الضلالات يمكن أن نقتبسها للدلالة على موقف الرجل، فلم نجد، فالكتاب مع عظم اهتمام المعاصرين به ليس إلا نقول غير موثقة، وكمثال على ذلك وضعه هذا العنوان (الفصل الأول في الاجتماع للذِّكر وذم البدع)، ثم بدء هذا الفصل مباشرة بهذا النقل: (سُئل الحسن البصري عن اجتماع جماعة من أهل السنة والجماعة يقرءون القرآن في بيت أحد ويصلُّون على النبي a  ويدعون لأنفسهم ولجماعة المسلمين؟ فنهى عن ذلك أشدَّ النهي؛ لأنه لم يكن من عمل السلف الصالح، وما لم يكن عليه عمل السلف، فليس من الدين؛ فقد كانوا أحرص الناس على الخير من هؤلاء، فلو كان فيه خير لفعلوه ..(عثمان ابن المكي، المرآة لإظهار الضلالات، دار الوطن، السعودية، ص11)، ولسنا ندري من أين حصل على هذا النص الذي يظهر بطلانه ووضعه، فلم يكن في وقت الحسن البصري هذا المصطلح.

([44])  ابن عليوة، أعذب المناهل في الأجوبة والمسائل، نقلا عن: صفحات مطوية في التصوف الإسلامي، ص162.

([45])  سنن الترمذي (4/ 597)

([46])  ابن عليوة، القول المعروف في الرد على من أنكر التصوف، ص34.

([47])  صحيح البخاري (8/ 108)

([48])  ابن عليوة، القول المعروف في الرد على من أنكر التصوف، ص34.

([49])  سنن الترمذي (5/ 532)

([50])  مسند البزار (18/ 89)

([51])  ابن عليوة، القول المعروف: ص37.

([52])  ابن عليوة، القول المعروف: ص37.

([53])  مسند أحمد بن حنبل (3/ 68)

([54])  مسند أحمد بن حنبل (4/ 124)

([55])  مسند أحمد بن حنبل (3/ 265)

([56])  صحيح البخاري (9/ 148)

([57])  صحيح مسلم (8/ 72)

([58])  مسند أحمد بن حنبل (3/ 142)

([59])  عبد الوهاب الشعراني، الأنوار القدسية (1/38).

([60])  السيوطي، نتيجة الفكر في الجهر بالذكر (ضمن: الحاوي للفتاوي) (2/75)

([61])  وهي مطبوعة ضمن فتاوي السيوطي المسماة (الحاوي للفتاوي) (1/389)

([62])  ابن عليوة، القول المعروف: ص 71.

([63])  ابن عليوة، القول المعروف: ص 71.

([64])  السيوطي، نتيجة الفكر في الجهر بالذكر (ضمن: الحاوي للفتاوي) (1/389)

([65])  السيوطي، نتيجة الفكر في الجهر بالذكر (ضمن: الحاوي للفتاوي) (1/392)

([66])  مسند أحمد بن حنبل (4/ 86)

([67])  مسند البزار (18/ 89)

([68])  مسند أحمد بن حنبل (4/ 159)

([69])  أبو بكر عبد الرزاق بن همام الصنعاني، مصنف عبد الرزاق، تحقيق : حبيب الرحمن الأعظمي، المكتب الإسلامي – بيروت، الطبعة الثانية، 1403، (3/ 522)

([70])  انظر المنتقى لابن الجارود (1/78) وصحيح ابن حبان (6/203)  السنن الكبرى للبيهقي (3/39) وسنن الدارقطني (2/31) وغيرهم

([71])  سنن الترمذي (5/491) والدارمي في السنن (2/379)

([72])  رواه مسلم في صحيحه (4/2061) والبخاري (6/2694) وابن حبان (2/36) وغيرهم، ونص الحديث: (يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، إن ذكرني في نفسه  ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ هم خير منهم، وإن تقرب مني شبراً تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت منه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة)

([73])  صحيح البخاري (1/288) مسلم (1/410) وابن خزيمة (3/102)

([74])  البيهقي في الشعب (1/397) قال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/76) :وفيه الحسن ابن أبي جعفر الجفري وهو ضعيف.

([75])  مسلم في صحيحه (4/2076،2077) والبخاري في صحيحه في عدة مواضع منه (3/1091)، (4/1541) (5/2346،2354)، (6/2437) (6/2690)

([76])  تجريد ابن عجيببة على شرح متن الأجرومية ص 15.

([77])  نور التحقيق ص 174.

([78])  العربي التبسي، الخلوة العليوية هل هي من الإسلام، جريدة الشهاب، السنة الثالثة، عـدد 118، الخميس 20/10/1927م الموافق 23/ربيع الثاني/1346هـ، ص 10 .

([79])  بالإضافة إلى هذا، فقد رد الشيخ ابن عليوة على استنكار مد الهمزة من الاسم المفرد، فقال: (و مثال ذلك اعتراض بعض الناس على مد الهمزة من الله وقولهم: إن الهمزة هنا للاستفهام لا غير مع أن الاستفهام لا يكون إلا في الجمل، وهنا دخل على اللفظ المفرد، فهو منادى لا غير)

ونقل عن ابن مالك في الخلاصة قوله: والمنادى النائي أو كالنائي يا   و أي وآ كذا أيا ثم هيـا (انظر: ابن عليوة، القول المعتمد في مشروعية الذكر بالاسم المفرد: ص7)

([80])  البلاغ الجزائري: عدد 69 و70 و71.

([81])  ابن عليوة، القول المعتمد في مشروعية الذكر بالاسم المفرد ص6.

([82])  ابن عليوة، القول المعتمد في مشروعية الذكر بالاسم المفرد، ص21.

([83])  ابن عليوة، القول المعتمد في مشروعية الذكر بالاسم المفرد، ص26.

([84])  أبو داود سليمان بن الأشعث السِّجِسْتاني، سنن أبي داود، المحقق : محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الفكر، (4/ 264)

([85])  قال في مجمع الزوائد: (رواه الطبراني وإسناده حسن) (انظر: الحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، دار الفكر، بيروت، طبعة 1412 هـ، الموافق 1992 ميلادي، (10/ 15)

([86])  صحيح البخاري (1/ 83)

([87])  ابن عليوة، القول المعتمد في مشروعية الذكر بالاسم المفرد، ص18.

([88])  ابن عليوة، القول المعتمد في مشروعية الذكر بالاسم المفرد، ص18.

([89])  ابن عليوة، القول المعتمد في مشروعية الذكر بالاسم المفرد، ص19.

([90])  ابن عليوة، القول المعتمد في مشروعية الذكر بالاسم المفرد، ص23.

([91])  ابن عليوة، القول المعتمد في مشروعية الذكر بالاسم المفرد، ص23.

([92])  ابن عليوة، القول المعتمد في مشروعية الذكر بالاسم المفرد، ص24.

([93])  ابن عليوة، القول المعتمد في مشروعية الذكر بالاسم المفرد، ص24.

([94])  ابن عليوة، القول المعتمد في مشروعية الذكر بالاسم المفرد، ص24.

([95])  ابن عليوة، القول المعتمد في مشروعية الذكر بالاسم المفرد، ص24.

([96])  ابن عليوة، القول المعتمد في مشروعية الذكر بالاسم المفرد، ص25.

([97])  ابن عليوة، القول المعتمد في مشروعية الذكر بالاسم المفرد، ص25.

([98])  ابن عليوة، القول المعتمد في مشروعية الذكر بالاسم المفرد، ص26.

([99])  ابن عليوة، القول المعتمد في مشروعية الذكر بالاسم المفرد، ص26.

([100])  ابن عليوة، القول المعتمد في مشروعية الذكر بالاسم المفرد، ص26.

([101])  ابن عليوة، القول المعتمد في مشروعية الذكر بالاسم المفرد، ص26.

([102])  ابن عليوة، القول المعتمد في مشروعية الذكر بالاسم المفرد، ص27.

([103])  لم أجد الحديث بعد البحث الطويل عنه في مصادر الحديث المعروفة، وقد ذكر الشيخ ابن عليوة أنه نقله عن العلامة السنوسي صاحب العقائد في كتابه (نصرة الفقير في الرد على أبي الحسن الصغير) من غير أن يعزوه هذا الأخير إلى مصدره، انظر: ابن عليوة، القول المعتمد في مشروعية الذكر بالاسم المفرد، ص27.

([104])  ابن عليوة، القول المعتمد في مشروعية الذكر بالاسم المفرد، ص27.

([105])  ابن ماجة أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني، سنن ابن ماجة، مكتبة أبي المعاطي (4/ 657)

([106])  ابن عليوة، القول المعتمد في مشروعية الذكر بالاسم المفرد، ص27.

([107])  ابن عليوة، القول المعتمد في مشروعية الذكر بالاسم المفرد، ص28.

([108])  ابن عليوة، القول المعتمد في مشروعية الذكر بالاسم المفرد، ص7.

([109])  ابن عليوة، القول المعتمد في مشروعية الذكر بالاسم المفرد، ص7.

([110])  ابن عليوة، القول المعتمد في مشروعية الذكر بالاسم المفرد، ص7.

([111])  ابن عليوة، القول المعتمد في مشروعية الذكر بالاسم المفرد، ص7.

([112])  ابن عليوة، القول المعتمد في مشروعية الذكر بالاسم المفرد، ص8.

([113])  ابن عليوة، القول المعتمد في مشروعية الذكر بالاسم المفرد، ص8.

([114])  سنن الترمذي (4/ 639)

([115])  ابن عليوة، القول المعتمد في مشروعية الذكر بالاسم المفرد، ص8.

([116])  ابن عليوة، القول المعتمد في مشروعية الذكر بالاسم المفرد، ص10.

([117])  ابن عليوة، القول المعتمد في مشروعية الذكر بالاسم المفرد، ص10.

([118])  ابن عليوة، القول المعتمد في مشروعية الذكر بالاسم المفرد، ص11.

([119])  ابن عليوة، القول المعتمد في مشروعية الذكر بالاسم المفرد، ص11.

([120])  هذا هو النص الذي ذكره الشاطبي في كتابه الموافقات، ونقله الشيخ ابن عليوة: (إن القرآن أتى بالنداء من الله تعالى للعباد، ومن العباد لله سبحانه، إما حكاية، وإما تعليما، فحين أتى بالنداء من قبل الله للعباد جاء بحرف النداء المقتضي للبعد، ثابتا غير محذوف، كقوله تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} [العنكبوت: 56] {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الزمر: 53] {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [الأعراف: 158]{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 104]فإذا أتي بالنداء من العباد إلى الله تعالى، جاء من غير حرف [فلا تجد فيه نداء بالرب تعالى بحرف] نداء ثابت بناء على أن حرف النداء للتنبيه في الأصل، والله منزه عن التنبيه، وأيضا، فإن أكثر حروف النداء للبعيد، ومنها “يا” التي هي أم الباب، وقد أخبر الله تعالى أنه قريب من الداعي خصوصا لقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} الآية [البقرة: 186] ومن الخلق عموما، لقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} [المجادلة: 7] وقوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16] فحصل من هذا التنبيهُ على أدبين: أحدهما: ترك حرف النداء. والآخر: استشعار القرب. كما أن في إثبات الحرف في القسم الآخر التنبيه على معنيين إثبات التنبيه لمن شأنه الغفلة والإعراض والغيبة، وهو العبد، والدلالة على ارتفاع شأن المنادي وأنه منزه عن مداناة العباد، إذ هو في دنوه عالٍ، وفي علوه دانٍ، سبحانه. (انظر: الموافقات (2/ 164))

([121])  من ذلك ما كتبه ناصر بن حمد بن حمين الفهد في كتابه (الإعلام بمخالفات الموافقات والإعتصام) يقول: (لما كان للشاطبي رحمه الله تعالى جهود في حرب البدعة، وحرب البدع مما اشتهر به السلفيون، فقد انتشر بين الناس أنه سلفي الاعتقاد – حتى بين بعض طلبة العلم-  والحقيقة التي تظهر لكل من يقرأ كتابيه هذين أنه أشعري المعتقد في باب الصفات والقدر والإيمان وغيرها، ومرجعه في أبواب الاعتقاد هي كتب الأشاعرة كما سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى.

وموقف الشاطبي رحمه الله تعالى من البدع العملية (وهي البدع في العبادات ) في تحذيره منها وبيان مفاسدها والتشديد على التمسك بالسنة فيها موقف جيد، وعمل مشكور، ولكنه مع ذلك وقع في بدع الأشاعرة والمتكلمين الاعتقادية في الصفات والقدر وغيرها)

بل إن هذه التهمة لم تطاله وحده، بل تطال أيضا كل من تكلم في البدع، فقد قال نفس الكاتب: ( ولم ينفرد الشاطبي رحمه الله تعالى بهذا الأمر بين العلماء ؛ فقد وقع فيه غيره كأبي بكرٍ الطرطوشي رحمه الله تعالى فإنه ألّف كتاب (البدع والحوادث ) في التحذير من البدع العملية ومع ذلك فقد وافق الأشاعرة في أصولهم، وكأبي شامة الدمشقي رحمه الله تعالى فإن له كتاب (الباعث في إنكار البدع والحوادث ) في البدع العملية وهو أشعري المعتقد) (انظر: ناصر بن حمد بن حمين الفهد، الإعلام بمخالفات الموافقات والإعتصام، مكتبة الرشد – الرياض، الطبعة : الأولى، 1420 هـ – 1999 م، (ص: 5، 6)

([122])  ابن عليوة، القول المعتمد في مشروعية الذكر بالاسم المفرد، ص14.

([123])  ابن عليوة، القول المعتمد في مشروعية الذكر بالاسم المفرد، ص13.

([124])  ابن عليوة، القول المعتمد في مشروعية الذكر بالاسم المفرد، ص14.

([125])  ابن عليوة، القول المعتمد في مشروعية الذكر بالاسم المفرد، ص15.

([126])  ابن عليوة، القول المعتمد في مشروعية الذكر بالاسم المفرد، ص15.

([127])  قال الألباني في تخريجه: رواه الرافعي في تاريخ قزوين عن عائشة، وأشار إلى ضعفه، (انظر: محمد ناصر الدين الألباني، صحيح وضعيف الجامع الصغير وزيادته، المكتب الإسلامي، (ص: 673)

([128])  ابن عليوة، القول المعتمد في مشروعية الذكر بالاسم المفرد، ص15.

([129])  ابن عليوة، القول المعتمد في مشروعية الذكر بالاسم المفرد، ص16.

([130])  ابن عليوة، القول المعتمد في مشروعية الذكر بالاسم المفرد، ص17.

([131])  ابن عليوة، القول المعتمد في مشروعية الذكر بالاسم المفرد، ص17.

([132])  حيث يقول : (و اعلموا أيها الناس أني أقول طول حياتي ( الله )، وإذا مت أقول ( الله )، وإذا سُئلتُ قي قبري أقول ( الله ) ويوم القيامة أقول ( الله ) وإذا أخذتُ الكتاب أقول ( الله ) وإذا وزنت أعمالي أقول ( الله ) وإذا جزتُ على الصراط أقول ( الله ) وإذا دخلتُ الجنة أقول ( الله ) وإذا رأيتُ الله أقول ( الله ) (انظر: محمد بن عمر بن الحسين الرازي الشافعي المعروف بالفخر الرازي، تفسير الفخر الرازى، دار إحياء التراث العربى، (1/27)

([133])  ابن عليوة، القول المعتمد في مشروعية الذكر بالاسم المفرد، ص19

([134])  صحيح مسلم (1/ 91)

([135])  مسند البزار (13/ 169)

([136])  ابن عليوة، القول المعتمد في مشروعية الذكر بالاسم المفرد، ص19.

([137])  ابن عليوة، القول المعتمد في مشروعية الذكر بالاسم المفرد، ص19.

([138])  العربي التبسي، بدعة الطرائق في الإسلام، ص10.

([139])  العربي التبسي، بدعة الطرائق في الإسلام، ص12.

([140])  العربي التبسي، بدعة الطرائق في الإسلام، ص12.

([141])  العربي التبسي، بدعة الطرائق في الإسلام، ص12.

([142])  ما بين القوسين من كلام الشيخ العربي التبسي.

([143])  راجع كتاب الإعتصام للشاطبي(1/ 249)

([144])  الاعتصام ـ للشاطبى (1/ 249)

([145])  العربي التبسي، بدعة الطرائق في الإسلام، ص13.

([146])  العربي التبسي، بدعة الطرائق في الإسلام، ص13.

([147])  العربي التبسي، بدعة الطرائق في الإسلام، ص16.

([148])  العربي التبسي، بدعة الطرائق في الإسلام، ص14.

([149])  العربي التبسي، بدعة الطرائق في الإسلام، ص14.

([150])  الاعتصام ـ للشاطبى (2/ 28)

([151])  أبو نعيم، حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، (4/ 380- 381)

([152])  العربي التبسي، بدعة الطرائق في الإسلام، ص15.

([153])  نقلا عن: الشيخ أبو طاهر المغربي التيجاني آل أبي القاسم، إفحام الخصم الملد بالدفاع عن الشيخ الممد، دط، دت، ص2.

([154])  الشيخ أبو طاهر المغربي التيجاني آل أبي القاسم، إفحام الخصم الملد بالدفاع عن الشيخ الممد، ص3.

([155])  الشيخ أبو طاهر المغربي التيجاني آل أبي القاسم، إفحام الخصم الملد بالدفاع عن الشيخ الممد، ص3.

([156])  صحيح مسلم (8/ 69)

([157])  صحيح البخاري (8/ 107)

([158])  الشيخ أبو طاهر المغربي التيجاني آل أبي القاسم، إفحام الخصم الملد بالدفاع عن الشيخ الممد، ص4.

([159])  الشيخ أبو طاهر المغربي التيجاني آل أبي القاسم، إفحام الخصم الملد بالدفاع عن الشيخ الممد، ص4.

([160])  صحيح البخاري (3/ 51)

([161])  الموافقات (2/ 289)

([162])  صحيح مسلم (3/ 161)

([163])  صحيح مسلم (3/ 161)

([164])  الموافقات (2/ 404)

([165])  الموافقات (2/ 405)

([166])  الشيخ أبو طاهر المغربي التيجاني آل أبي القاسم، إفحام الخصم الملد بالدفاع عن الشيخ الممد، ص6.

([167])  الاعتصام للشاطبي (1/ 385)

([168])  الاعتصام للشاطبي (1/ 386)

([169])  الشيخ أبو طاهر المغربي التيجاني آل أبي القاسم، إفحام الخصم الملد بالدفاع عن الشيخ الممد، ص7.

([170])  تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني، الفتاوى الكبرى، تحقيق: محمد عبدالقادر عطا – مصطفى عبدالقادر عطا، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1408هـ – 1987م (2/ 384)

([171])  الفتاوى الكبرى (2/ 384)

([172])  سنن الترمذي (5/ 578)

([173])  الفتاوى الكبرى (2/ 384)

([174])  ابن عليوة، الناصر المعروف في الرد على من أنكر التصوف، ص204.

([175])  ابن عليوة، أعذب المناهل في الأجوبة والمسائل، نقلا عن: صفحات مطوية في التصوف الإسلامي، ص171.

([176])  محمد بن محمد العمادي أبو السعود، رشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم، دار إحياء التراث العربي – بيروت، (9/ 51)

([177])  صحيح البخاري (1/ 3)

([178])  الحافظ أبو محمد عبد الله بن أبي جمرة الأزدي الأندلسي، بهجة النفوس شرح مختصر البخاري، دار الكتب العلمية، بيروت، 1972 (1/10)

([179])  أحمد بن محمد بن أبى بكر بن عبد الملك القسطلاني القتيبي المصري، أبو العباس، شهاب الدين، إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري، المطبعة الكبرى الأميرية، مصر، الطبعة: السابعة، 1323 هـ، (1/62)

([180])  الفيروز أبادي، كتاب سفر السعادة، دار العصور للطبع والنشر، مصر، ص3.

([181])  إحياء علوم الدين (3/ 76)ا

([182])  المنقذ من الضلال، ص131.

([183])  الفتوحات المكية، (1/ 280)

([184])  المنقذ من الضلال، ص131.

([185])  إيقاظ الهمم في شرح الحكم، (1/30)

([186])  إيقاظ الهمم في شرح الحكم، (1/30)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *