الفصل الثالث: حق الأولاد في الرعاية الصحية

الفصل الثالث

حق الأولاد في الرعاية الصحية

أولا ـ حق الجنين في الرعاية الصحية

يبدأ اهتمام الشريعة الإسلامية بالعناية الصحية بالأولاد، من فترة كونهم أجنة في بطون أمهاتهم، ويتجلى هذا الاهتمام من خلال الحث على العناية بالحامل، باعتبار صحة الجنين مرتبطة بصحة أمه.

ولهذا أخبر الله تعالى أن فترة الحمل فترة شاقة متعبة، قال تعالى:{ وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْن }لقمان:14، وقال تعالى:{ وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً الاحقاف:15

وهذا التنبيه القرآني المتكرر لخطر فترة الحمل لا يشير فقط إلى ضرورة الإحسان إلى الأم بسبب تحملها هذه المشاق، وإنما يشير من جهة أخرى إلى ضرورة رعاية الحامل والوفاء بما تتطلبه هذه الفترة من عناية وراحة وتغذية وعلاج.

ففي فترة الحمل يتكون مشروع إنسان الجديد، ولذلك فإن أي خطأ تتعرض له الحامل قد يحمل آثار المستقبلية الخطيرة على ولدها.

وبناء على هذا ورد في النصوص الحث على رعاية المرأة الحامل، والعمل علي راحتها، وتوفير الغذاء لها، قال تعالى:{ أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} الطلاق:6

وسننطلق من هذه الآية التشريعية، ومن قصة حمل مريم ـ عليها السلام ـ المتكرر ذكرها في القرآن الكريم، وخاصة قوله تعالى:{ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً} (مريم:26)لنستنبط منها ما تستلزمه العناية بالحامل من متطلبات، راجعين في ذلك إلى ما يقوله العلم الحديث من أقوال في هذه المسألة من باب قوله تعالى:{ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً }(الفرقان:59)

وننبه هنا إلى أن هذه النقول التي ننقلها عن الأطباء أو علماء التغذية قد تخضع للمناقشة أو للمخالفة من بعض الأطباء، وإنما ذكرناها هنا من مصادر موثوقة باعتبار هؤلاء الخبراء هم المفتون في مثل هذه المسائل، فلذلك إذا طالبوا الحامل بغذاء معين، أو بتصرف معين، قد يضر تركه الجنين، فإن حكم ذلك هو الوجوب الشرعي الذي لا خلاف فيه، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم:(لا ضرر ولا ضرار)

1 ـ تغذية الحامل

ورد الأمر الإلهي بالاهتمام بتغذية الحامل والنفقة عليها إلى أن تضع حملها حتى لو كانت هذه الحامل مطلقة، قال تعالى:{ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ }

وقد ذكرنا في الجزء الخاص بالحقوق المالية للزوجة أن نوع النفقة يتعين بحسب حاجة الزوجة، والحامل أولى من ينطبق عليها هذا الكلام.

لأن حالتها الصحية، وحاجتها الغذائية من الحساسية بحيث تتطلب برنامجا خاصا، وقد أشار قوله تعالى في حكاية مريم ـ عليها السلام ـ:{ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً فَكُلِي وَاشْرَبِي}

فقد ذكر الله تعالى الرطب مرتبطا بالفترة التي تستعد فيها المرأة للوضع، وهو غذاء متناسب مع حاجيات تلك الفترة كما أثبت ذلك العلم الحديث([1]).

بل إن السلف نبهوا إلى هذا، قال الربيع بن خيثم:(ما للنفساء عندي خير من الرطب لهذه الآية، ولو علم الله شيئا هو أفضل من الرطب للنفساء لأطعمه مريم)، وقالوا:(التمر عادة للنفساء من ذلك الوقت وكذلك التحنيك)، وقيل:(إذا عسر ولادها لم يكن لها خير من الرطب ولا للمريض خير من العسل)

وفي هذا إشارة إلى ضرورة الاهتمام بتغذية الحامل بما يتناسب مع حاجيات جسمها وجسم جنينها.

وبما أن المرجع في هذا هم علماء التغذية، فلا بأس من ذكر ما قالوه هنا باعتبارهم أهل الفتوى في هذا المجال، وقولهم هو المعتبر في تحديد نوع النفقة الغذائية التي تحتاجها الحامل.

فقد ذكروا أن الحامل تحتاج إلي تناول غذاء كامل يحتوي علي جميع العناصر الغذائية حتى ينمو جنينها قويًّا صحيحًا؛ لأنها هي المصدر الوحيد لغذائه.

فعلماء التغذية ومعهم الأطباء لا ينظرون إلى مرحلة الحمل على أنها مرحلة عادية، بل يعتبرون أشهر الحمل التسعة شهور طوارئ تستوجب الاستنفار والمراقبة الجدية، كما تتطلب منهم كل عناية ورعاية ممكنة، ولهذا لم يتوقفوا حتى الآن عن دراستها، ومحاولة رسم الخطط الغذائية للمرأة في هذه المرحلة الدقيقة من حياتها([2])، وذلك لتأمين صحة جيدة للأم وبنية قوية للجنين.

ونحب أن ننبه هنا ـ قبل استعراض ما يقوله العلم ـ إلى أن الكثير من العادت السائدة عند بعض النسوة على اعتبار الوحام هو المنبه الأساسي لما تحتاجه المرأة من غذاء في فترة حملها، وخاصة في الشهور الأساسية الأولى منه فكرة خاطئة، بل هي أحيانا كثيرة حالة ايحائية خارجية لا علاقة لها بما تتطلبه الحامل من غذاء، يقول الطبيب النسائي الفرنسي الشهير (فيليب بودون):(إن ما يسمى عند عامة الناس وحاماً ندعوه نحن انطلاق الشهية عند الحامل، ولسنا هنا لنختلف على التسمية وإنما على الأسلوب في مواجهة تلك الحالة.

فالوحام عبارة عن اشتهاء المرأة لأنواع معينة من الطعام، تتزايد الرغبة فيها إذا كانت الحامل تحبها سابقاً، أو أنها ترغب بها بعد أن كانت قبل فترة الحمل تمجها وتنفر منها.

وقد يكون الوحام حالة نفسية عند بعض النساء حيث يقبلن على التهام مواد غير مغذية وغريبة بعض الشيء عن المألوف مثل الفحم والصابون وقشور الفستق والبطيخ الا أن هذه حالات نادرة جداً، ولذا فإنها لن تستوقفنا كثيراً)

وهذا يدل على أن حالة الوحام – التي تتطلب التهام كميات كبيرة من الطعام عند بعض النساء – هي حالات إيحائية خارجية، تستقر في العقل الباطن للمرأة ليس في فترة الحمل فقط، وإنما في الفترة التي تسبقها بكثير.

وقد تعود هذه الفترة الإيحائية إلى سن الطفولة والصبا، حيث تختزن الفتاة في عقلها كل أمر يتعلق بالزواج وتوابعه، متصورة ضرورة تناول الطعام بكثرة، لأن ذلك الفم الواحد إنما يمضغ لإثنين، وتلك المعدة عليها أن تهضم لإثنين، متناسية أن ذلك المجهول الآخر يمضي أشهراً بعد ولادته يتغذى من حليب أمه مقادير متقطعة وقليلة، وفي حالة عدم توافر الغذاء في ثديها يكتفى بخمس رضعات صغيرة من الحليب الدافئ المعقم.

ولهذا نجد علماء التغذية يحثون على التركيز على الثقافة الغذائية لكل امرأة حامل، وذلك لتعرف وتتعرف على أنواع الطعام التي تفيد في تغذيتها وتغذية جنينها، تحت شعار (اعرفي ماذا تأكلين)لتتخلص من الأوهام التي تمليها عليها أحيانا كثيرة حالة الوحام.

وهذا يعني أن توجه الحامل جُلّ اهتمامها إلى الأصناف الغنية بالمادة الأساسية مثل (البروتينات)و(الفيتامينات)و(المعادن)عن طريق إعداد خطة غذائية أسبوعية مدروسة يراعى فيها حسن الاختيار والتنويع، بحيث لا يقتصر العقل الباطن وما اختزنه من أفكار مشوِّشة على الغاية والهدف من عملية الحمل والإنجاب.

فلا يجوز أبداً أن تترك الحامل شرب الحليب لمجرد أنها لا تحبه أو لأنها تفضل عليه – لتطفئ ظمأها – شرب المرطبات، لأن المسألة هنا يجب أن ترتبط بمبدأ المسؤولية ومدى الاستعداد لتحملها وليس هناك درس في المسؤولية والنصيحة يمكنه أن يسبق درس التخطيط لما سوف يكون عليه غذاء لإثنين من حيث النوعية لا الكمية.

لأنه بالنوعية – لا الكمية – تتمكن الحامل من إنجاب طفل قوي البنية، وأما حكاية الأكل عن إثنين فإنها نظرية قديمة بالية، وبالتالي مؤذية لأنها تدفع بالحامل نحو الاتجاه الخطأ والخطر أيضا.

وذلك لأن الحامل لا تجني من وراء مضاعفة كمية طعامها سوى البدانة، فبعد تسعة أشهر من الأكل المتواصل والمضاعف تجد الحامل نفسها امرأة سمينة مريضة وثقيلة الحركة، وفي غرفة الولادة تجد نفسها تواجه آلاماً جسدية حادة لعسر في ولادتها سببته الزيادة المفتعلة في وزنها.

بعد هذه المقدمة الأساسية حول أهمية الثقافة الغذائية الصحيحة للحامل نورد هنا بعض العناصر الغذائية الأساسية التي تحتاجها الحامل في هذه الفترة، كما يذكر المختصون، وهي:

المواد الزلالية: فحاجة الحامل إلى المواد الزلالية تزداد، ولذا يجب مضاعفتها لأنها تعمل على تقوية عضلات الرحم، وتساعد في تكوين الجنين، ولأن النقص في هذه المواد قد يعرض الحامل إلى المرض، وقد يزيل عنها المناعة التي كانت تتحصن بها قبل الحمل ضد الرشوحات والنزلات الصدرية وسواها.

الكالسيوم والفسفور: يعتبر الكالسيوم والفسفور من العناصر الأساسية جداً للحامل([3])، لأنهما يمدان رئتيها بقوة تحتاجها، كما أنهما ينقذان أسنانها من التلف والتسوس، إضافة إلى أنهما يساعدان الجنين على تكوين عظامه وصلابتها، وفي حال نقصهما يتعرض الطفل لمرض الكساح بعد الولادة، كما تتأخر أسنانه بالظهور.

الحديد: وهو من المعادن الثـرية بالقـوة أيضاً وهو يتوفر في بعض أنواع الخضار، وتحتاج الحامل إلى تناول كمية كبيرة من الحديد في الأشهر الأخيرة من حملها.

الفيتامينات: وهي على أنواعها يجب أن تكون مدرجة في غذاء الحامل، ولذا فإن عليها معرفة مكامن كل فيتامين على حدة وأين تجده كذلك، فعليها معرفة كمية ما تحتاجه منه ولو معرفة نسبية، لأن هذه المعرفة تسهل عليها وضع نظامها الغذائي بنفسها، مما يترك لها حرية الاختيار.

فمثلاً عليها أن تعرف أن حاجتها للفيتامينات A وB وC وD هي حاجة كبيرة، ولذا فإن غذاءها يجب أن لا يخلو من أحدها، وهذ بعض الأمثلة عن فوائدها ومصادر وجودها:

وهذا الفيتامين يحول دون تعرض الحامل للنزيف الدموي أثناء الحمل وبعد الولادة، كما يمنع حدوث الالتهابات في الأغشية المخاطية.

أغذية ممنوعة: ومما يدخل في الثقافة الصحية للحامل التعرف على أنواع الأغذية الضارة، وكميات استعمالها، فعلماء التغذية مثلا ينبهون الحوامل إلى إنقاص كمية الملح التي تضيفها إلى غذائها، والتي يجب أن لا تتجاوز ستة غرامات يوميا.

ويذكرون بعض الأطعمة الممنوعة، ومنها مثلا: الأطعمة المجففة والأطعمة السكرية على أنواعها، والأسماك المجففة والأسماك المقلية والأسماك المملحة، والحوامض والمشروبات الغازية والمرطبات، والمشروبات الكحولية والحلويات إلا بحذر شديد وفي المناسبات القليلة، والشاي والقهوة، فلا يجوز أن تشرب الحامل أكثر من فنجانين في اليوم من القهوة والشاي.. وغيرها من أنواع الأغذية التي تذكر في مصادرها والتي قد يختلف الأطباء في شأنها.

2 ـ الراحة النفسية للحامل

لا تقل الراحة النفسية أهمية عن راحة البدن، لأن الانفعال أو التوتر النفسي يؤثر علي الجنين تأثيرًا سلبيا، فالراحة النفسية للحامل من الأمور المهمة التي لا تقل في أهميتها عن الراحة البدنية.

ويشير إلى هذا العنصر الأساسي في العناية الصحية بالجنين قوله تعالى في الآية السابقة مخاطبا مريم ـ عليها السلام ـ:{ وَقَرِّي عَيْناً }، وهو مأخوذ من القر والقرة وهما البرد، ودمعة السرور باردة ودمعة الحزن حارة.

ويشير إليها كذلك قوله تعالى مخاطبا مريم ـ عليها السلام ـ:{ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً)(مريم:26)، فالله تعالى لم يترك مريم ـ عليها السلام ـ لوساوسها وكيفية مواجهتها لقومها، بل أخبرها بأنه قد عزلها عن مواجهة قومها ليتولى هو تعالى بقدرته ذلك.

بل يشير إلى هذا قوله تعالى في تبشيره لها:{ إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ }(آل عمران:45 ـ 46)، فالله تعالى ذكر محاسن هذا الولد الذي بشرها به لتمتلئ نفسها أملا وفرحا وسروا.

وعندما تعجبت مريم ـ عليها السلام ـ من حصول الحمل منها، مع أنه لم يمسسها بشر، أجابها الملاك عن شبهتها، ثم استأنف يصف محاسن هذا الجنين العجيب، ليمحو بالتأمل في محاسنه ما قد تشعر به من آلام نحو قومها، قال تعالى:{ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِـي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}(آل عمران:47 ـ 49)

ويشير إلى هذا ـ من جهةأخرى ـ قوله تعالى:{ وَقَرِّي عَيْناً }، على ما ذكره الشيباني في تفسيرها، فقد ذكر أن معناها:(نامي حضها على الأكل والشرب والنوم)، قال أبو عمرو:(أقر الله عينه أي أنام عينه، وأذهب سهره)

وذلك لأن الحامل يصيبها الأرق أثناء فترة الحمل، ولذلك ينصحها الأطباء للتغلب علي ذلك أن تسير في الهواء الطلق قبل وقت النوم، وأن تتناول كوبًا من اللبن الدافئ، وأن تتكئ علي وسائد عند نومها، فإن ذلك يساعد علي ارتخاء ومرونة عضلات الجسم ويهيِّئ لها نومًا مريحًا.

وانطلاقا من هذا يجب على الحامل ومن يعيشون معها الحرص علي أن يكون جو البيت ممتلئًا بالسعادة والانشراح، حيث إن الحالة النفسية من فرح أو حزن لها تأثيرها في إفراز الهرمونات في جسم الأم، ويتأثر الجنين بهذه الهرمونات منذ الشهور الأولي.

ولهذا ورد في القرآن الكريم الإخبار عن وهن الحامل، وهو يشير إلى حاجتها الغذائية والصحية، وورد قوله تعالى:{ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً)(الاحقاف:15)، أي بكره ومشقة، وهو إذا ضم مع قوله تعالى:{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } (البقرة:216)يشير إلى الحالة النفسية التي تعانيها الحامل.

وهي إشارة إلى ضرورة محاولة رفع بعض ما تعانيه من كره بالتطمين النفسي، وزرع الأمل في نفسها، كما يرفع الوهن عنها بتغذيتها وعلاجها.

3 ـ صحة الحامل

ويشير إلى هذه الناحية من المصادر الشرعية ما اتفق عليها الفقهاء من جواز فطر الحامل، وتركها لركن من أركان الإسلام حفاظا على صحة جنينها، وذلك إن خافت ضررا بغلبة الظن على نفسها وولدها، ويجب ذلك إذا خافت على نفسها هلاكا أو شديد أذى، وعليها القضاء بلا فدية، وهذا باتفاق الفقهاء، واتفقوا كذلك على عدم وجوب الفدية إذا أفطرت الحامل خوفا على نفسها ؛ لأنها بمنزلة المريض الخائف على نفسه([4]).

وانطلاقا من هذا الاهتمام الشرعي بصحة الحامل، وارتباط صحتها بصحة الجنين، نحاول هنا أن نذكر أهم المبادئ الصحية التي تحتاجها الحامل، وهي كما ذكرنا فتوى الأطباء التي تدخل ضمن نفي الضرر، فالأحكام فيها أحكام شرعية إلا ما رجع العلم فيه عن بعض ما أقره، أو إيجاد البدائل التي تمنع حصول ما خيف من حصوله.

تجنب العوامل الوراثية:

وهذا يستدعي ضرورة إجراء الفحوص الطبية علي الزوجين قبل زواجهما، لأن هناك بعض الأمراض والعوامل الوراثية التي تؤثر تأثيرًا سلبيا علي الجنين، سواء كان هذا التأثير في تكوينه الجسماني أو العقلي، مثل: أنيميا البحر المتوسط، والهيموفيليا مرض سيولة الدم الوراثي، ولذلك ينصح بإجراء الفحوص الطبية قبل الزواج لتجنب هذه الحالات والوقاية منها، ومن أسباب الاعتلال الصحي للجنين المرتبطة بهذه الناحية اختلاف دم الأم والأب أو عامل R.h.

وهو مرض دموي يصيب الوليد، ويظهر هذا المرض عندما تكون الزوجة – Rh سالب، والزوج + Rh موجب، وفي هذه الحالة يكون نوع دم الأبناء دائمًا موجبًا R.h+، فيولد الطفل الأول بدون مشاكل، وتظهر المشكلة مع الطفل الثاني دائمًا، حيث إنه عند ولادة الطفل الأول يختلط بعض من دمه بدم الأم، فيكوّن دم الأم أجسامًا مضادة للدم الموجب، وعند اختلاط دم الأم بالطفل الثاني. تسبب الأجسام المضادة هدم الخلايا الدموية للجنين، وبذلك قد يولد الطفل وهو يعاني من فقر الدم الأنيميا، واليرقان الاصفرار أو غيرها، وقد تنتج عن ذلك وفاة الطفل بنسبة حالة في كل ثلاثين حالة، أو قد يتسبب ذلك في الضعف العقلي للأطفال.

وقد أتاح الطب الحديث اكتشاف الوسائل التشخيصية والعلاجية لهذا المرض الخطير، ويتلخص الاحتياط والوقاية منه في إعطاء الأم حقنة خاصة ضد إنتاج الأجسام المضادة لفترة الحمل التالية المحتملة.

وقد فصلنا في هذه المسألة في محلها من الفصل الخاص بالكفاءة في المجموعة الأولى.

تجنب الأم لمسببات أمراض الجنين:

وذلك بالاحتراس في فترة حملها من كل ما قد يؤثر في الجنين، ومما ذكره الأطباء من ذلك:

سوء التغذية: فعندما يكون غذاء الأم غير كافٍ،سواء من حيث نوعه أو كميته، فإن ذلك يضر بالجنين،وقد ذكرنا بعض تفاصيل ذلك في محلها من هذا المبحث.

التدخين: فالتدخين يسبب زيادة خطر حوادث الإجهاض أو موت الجنين. وقد لوحظ أن السيدات اللاتي يدخِّن يضعن عادة مواليد أوزانها أقل من المعتاد؛ مما يعرِّض صحة المولود للخطر، بالإضافة إلي أن نسبة المواليد المُشوهين من السيدات المدخنات تكون كبيرة بالمقارنة بغيرهم.

الإدمان: فهو يؤدي إلي عيوب وراثية في الجنين، ينشأ عنها طفل يعاني من خلل في جزء أو أكثر من أجزاء جسمه، وقد يؤدي إلي الإعاقة العقلية والبدنية ؛ ولذا حرص الشرع الحنيف علي تحريم تعاطي المخدِّرات، وحذَّر من الوسائل التي تؤدي إلي إسقاط الجنين أو إضعافه وتشويهه، بل فرض علي الأم عقوبة إن فعلت ذلك، وذلك يعتق رقبة، ودفع غرة والغرة: هي عبد أو أمة، أو قيمتها: خمسمائة درهم أو مائة شاة أو خمس من الإبل، أو قيمتها بالذهب 5ر212 جم تقريبًا.

إصابة الأم بمرض مُعْدٍ: فتعرُّض الأم للإصابة ببعض الأمراض المعدية كالحصبة الألمانية أثناء الشهور الثلاثة الأولي من الحمل، أو أصابتها بالأمراض التناسلية كالزهري والسيلان؛ يؤدي إلي حدوث نمو شاذ للطفل.

الأدوية والعقاقير: فاستخدام الأدوية والعقاقير مثل: الإسبرين، والمهدئات، والمنومات، والمضادات الحيوية دون استشارة الطبيب يشكل خطرًا علي السيدة الحامل، وعلي صحة الجنين.

التعرض للإشعاع: فتعرض السيدة الحامل للإشعاع يعرض الجنين للتشوه، أو الاضطرابات العصبية والضعف العقلي وفقدان البصر.

الحالة الانفعالية للأم: من العوامل ذات التأثير القوي علي الجنين من حيث استجابته وتطوره: حالة الأم الانفعالية، فقد ثبت أنَّ لاضطراب غدد الأم أثرًا في نقص أو زيادة إفراز الهرمونات، وقد يؤدي هذا إلي نقص في نمو العظام أو الضعف العقلي، كما ثبت أن الخوف والغضب والتوتر والقلق عند الأم يؤدي إلي إفراز الغدد وتغير التركيب الكيميائي للدم؛ مما يؤثر بدوره في نمو الجنين.

عمر الأم: حيث يعتبر عمر الأم هامَّا لصحة الوليد، فالأم التي يزيد سنها علي الخامسة والثلاثين قد تكون أكثر عرضة للأخطار عن غيرها ؛كما أن الحمل بالنسبة لصغيرات السن قد يشكل خطورة عليهن، لذلك فإنَّ أفضل عمر للحامل يكون ما بين 20 إلي 30 سنة.

الإجهاض: وهو الخطر الأول والأكبر علي الأم الحامل والجنين، وهو يعني ولادة الجنين قبل نضج تكوينه الجسماني، وأول علامة تنذر بحدوث الإجهاض هي خروج الدم من المهبل.

ويحدث الإجهاض نتيجة الأمراض، فقد يحدث بسبب إصابة الأم بمرض الزهري، أو أمراض الكلي، أو البول السكري،أو الحميات المعدية والتسمم، أو التهابات الجهاز التناسلي، كما أن الانفعالات النفسية والصدمات العصبية والحزن والخوف لها تأثير كبير في إحداث الإجهاض.

ومن العوامل الأخري التي تسبب الإجهاض وقوع ضرر جسماني علي الأم: كالوقوع علي الأرض، أو حمل أشياء ثقيلة، أو القيام بمجهود شاق.

تلوث المجاري البولية: فانقطاع البول أو الانخفاض في كميته يعني علامة خطر يجب أن تنتبه لها السيدة الحامل، وعليها في هذه الحالة الإسراع بمراجعة الطبيبة قبل أن يسبب ذلك مضاعفات قد تكون خطرة.

تسمم الحمل: قد يبدأ التسمم فجأة ويتضاعف، ويسبب صداعًا مستمرّا أو زيادة محسوسة في الوزن، أو انخفاضًا في كمية البول، ويمكن اكتشاف التسمم عن طريق ملاحظة الارتفاع المفاجئ في ضغط الدم وزيادة الزُلال في البول.

وهناك العديد من الوسائل التي تقضي علي تسمم الحمل بسهولة، ولكن اكتشاف التسمم في مراحله الأولي أفضل كثيرًا ؛ حتى لا يسِّبب أضرارًا للحامل والجنين.

ومن الطبيعي أن ُتصاب المرأة الحامل بالإمساك، والذي يمكن أن يضر الأم والجنين، حيث إنَّ استمرار البراز داخل الجسم لمدة طويلة يؤدي إلي امتصاص الدم للسموم؛ فتُضَار الأم وجنينها.

ويمكن تفادي الإمساك بالطرق الطبيعية دون الاستعانة بالأدوية -قدر المستطاع- وذلك إذا أكثرت الحامل من شرب اللبن وأكل الفواكه التي تساعد علي تليين البراز، كذلك الخضروات الطازجة النيئة والمطبوخة.

والكثيرات من النساء اللاتي لم يحملن من قبل قد تظهر عليهن الأعراض الأولي للحمل، والتي يمكن أن تتشابه مع أعراض مرضية، وخصوصًا أمراض الجهاز الهضمي أو البولي أو بعض الحميات، ولعدم معرفتهن بأعراض الحمل ؛ فقد يتناولن الأدوية والعقاقير، أو يجرين فحوصًا بالأشعة، لذلك عليهن التأكد بواسطة الطبيبة المختصة أنهن غير حوامل قبل تناولهن أي دواء ؛ حتى لا يسبب ذلك ضررًا جسيمًا للجنين في الشهور الأولي من الحمل.

الحفاظ على الصحة:

وذلك بالاهتمام بكل ما تتطلبه فترة الحمل من رعاية صحية، فلذلك على الحامل أن تهتم اهتمامًا كبيرًا بصحتها، استعدادًا لتحمل مسئولية الإنجاب، وتربية الطفل والعناية به وإرضاعه، فتهتم بنظافتها وتغسل ثدييها، ولا يفوتها أن تكون ملابسها فضفاضة بقدر ما تسمح به حالة الجو -مع مراعاة الجانب الشرعي في الملابس- وألا تكون ضاغطة علي جزء ما من جسمها، وأن تتجنب استعمال الأحذية عالية الكعب؛ لأنها ترفع الجسم، وتلقي بالثقل علي الكعبين وأصابع القدمين؛ مما قد يسبب آلامًا في الظهر والساقين، ويفضل زيارة الحامل للطبيبة بصورة دورية إذا أمكنها ذلك، حتى تطمئن علي صحتها وسلامة حملها من آن لآخر.

 ويمكن للحامل في كثير من الأحيان أن تكون طبيبة نفسها، وذلك بتجنبها ما يضر حملها عملا بمبدأ: الوقاية خير من العلاج.

من كل ما سبق يتضح أن برنامج رعاية الأم الحامل يجب أن يشمل الاهتمام بالنواحي الغذائية والطبية، والتي يجب أن تقوم بدورها الوقائي، فالإشراف الكامل علي صحة الأم الحامل يحميها من الاضطرابات التي قد تتعرض لها أثناء الولادة وتقلِّل آثار العوامل التي لا تخضع للتحكم.

ويمكن أن نستنبط هذا المعنى من قوله تعالى لمريم ـ عليها السلام ـ:{ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً)(مريم:25)، فقد أمرها تعالى بهز الجذع، وهو يتطلب حركة رياضية معينة، وهو نفس ما ينصح به الأطباء الحامل قبل الوضع من المشي، والقيام ببعض التمرينات الرياضية البسيطة، في الشهر أو الشهرين الأخيرين من الحمل؛ لتيسير عملية الولادة.

ومما يزيد في تأكيد هذه الإشارة أن مريم ـ عليها السلام ـ كان يأتيها رزقها مهيئا رغدا من غير أن تتكلف أي حركة في سبيل الحصول عليه، كما قال تعالى:{ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}(آل عمران:37)، فإيراد الأمر بتلك الحركة في القرآن الكريم دلالة على أهمية الرياضة الجسمية للحامل قبل وضع حملها.

ثانيا ـ حق الرضيع في الرعاية الصحية

لعل أحرج الفترات التي يمر بها الأولاد هي الفترة التي تلي ميلادهم، أو ما يسمى بفترة الرضاعة، لأن الولد انتقل من عالم الرحم إلى عالم جديد، فيحتاج للتأقلم، وهذا التأقلم يستدعي عناية خاصة، أولتها الشريعة اهتماما شديدا بذكر بعض ما يرتبط بها من أحكام قد تشير إلى غيرها.

ولهذا نجد فقهاء المسلمين يتحدثون عن هذه المسائل باعتبارها أحكاما شرعية، يقول ابن القيم عند بيان ما يجب نحو الرضيع:(وينبغي أن يقتصر بهم على اللبن وحده إلى نبات أسنانهم لضعف معدتهم وقوتهم الهاضمة عن الطعام، فإذا نبتت أسنانه قويت معدته وتغذى بالطعام فإن الله سبحانه أخر إنباتها إلى وقت حاجته إلى الطعام لحكمته ولطفه ورحمة منه بالأم وحلمة ثديها فلا يعضه الولد بأسنانه)([5])

ويتحدث عن كيفية تغذيتهم بعد الفطام، فيقول:(وينبغي تدريجهم في الغذاء، فأول ما يطعمونهم الغذاء اللين فيطعمونهم الخبز المنقوع في الماء الحار واللبن والحليب، ثم بعد ذلك الطبيخ والأمراق الخالية من اللحم، ثم بعد ذلك ما لطف جدا من اللحم بعد إحكام مضغه أو رضه رضا ناعما، فإذا قربوا من وقت التكلم وأريد تسهيل الكلام عليهم فليدلك ألسنتهم بالعسل والملح الاندراني لما فيهما من الجلاء للرطوبات الثقيلة المانعة من الكلام، فإذا كان وقت نطقهم فليلقنوا لا إله إلا الله محمد رسول الله)

ويتحدث عن كيفية التعامل معهم عند نمو الأسنان، فيقول:(فإذا حضر وقت نبات الأسنان فينبغي أن يدلك لثاهم كل يوم بالزبد والسمن ويمرخ خرز العنق تمريخا كثيرا، ويحذر عليهم كل الحذر وقت نباتها إلى حين تكاملها وقوتها من الأشياء الصلبة، ويمنعون منها كل المنع لما في التمكن منها من تعريض الأسنان لفسادها وتعويجها وخللها)

ويتحدث عن فوائد بكاء الصبي، فيقول:(ولا ينبغي أن يشق على الأبوين بكاء الطفل وصراخه ولا سيما لشربه اللبن إذا جاع، فإنه ينتفع بذلك البكاء انتفاعا عظيما، فإنه يروض أعضاءه ويوسع أمعاءه ويفسح صدره ويسخن دماغه ويحمي مزاجه ويثير حرارته الغريزية ويحرك الطبيعة لدفع ما فيها من الفضول ويدفع فضلات الدماغ من المخاط وغيره)

ويتحدث عن كيفية تمرينه وتدريبه، فيقول:(وينبغي أن لا يهمل أمر قماطه ورباطه ولو شق عليه إلى أن يصلب بدنه وتقوى أعضاؤه ويجلس على الأرض فحينئذ يمرن ويدرب على الحركة والقيام قليلا قليلا إلى أن يصير له ملكة وقوة يفعل ذلك بنفسه)

وهكذا يتحدث عن التفاصيل الكثيرة المرتبطة بهذا الجانب، ونحن لم ننقلها هنا على اعتبار تطبيق ما ذكره، فذلك قد يختلف من بيئة إلى بيئة ومن عصر إلى عصر، وإنما على اعتبار بيان ارتباط هذه الأمور بالأحكام الشرعية.

وانطلاقا من هذا سنتحدث في هذا المبحث الطويل عما يرتبط بالرعاية الصحية من أحكام شرعية، وقد قسمنا الحديث عنها إلى ثلاثة مطالب:

1 ـ وقاية الأولاد من الأمراض المحتملة.

2 ـ الرضاعة، باعتبارها غذاء ودواء.

3 ـ الختان، باعتباره من الأحكام الشرعية التي شرعت لحفظ الصحة.

ونحب أن ننبه إلى أن ما سنذكره خارج الأحكام الشرعية من الأمور الطبية مأخوذ من جهة من ثقات الأطباء، ومن جهة أخرى نريد به التنبيه إلى ضرورة الاهتمام بهذه الجوانب لا أن عين ما سنذكره من أحكام الشرع.

1 ـ وقاية الأولاد من الأمراض المحتملة

وهو من أهم أصول الحفاظ على الأولاد من الجانب الصحي، ذلك لأن الصبي معرض كثيرا للأمراض بسبب اختلاف الجو الذي ولد فيه عن الجو الذي كان فيه.

فلذلك يوفر له ما يحتاجه جسمه من الغذاء الجيد والمسكن الصحي، والراحة والنوم الجيد والحصانة من الأمراض، فالغذاء الجيد الصحي يلعب دوراً هاما في نمو الطفل، فهو يزود الجسم بالطاقة التي يحتاج إليها للقيام بنشاطه، وله دوره الهام في تكوين الخلايا وزيادة مناعة الجسم ضد الأمراض ووقايته منها.

زيادة على هذا يهتم بمناعته من الأمراض وتحصينه منها، فمناعة الوليد الجديد الذاتية ضعيفة بشكل عام لأن أجهزة هذه المناعة لا تتطوّر في جسمه بعد الولادة، أمَّا المناعة التي وصلته مما في دم أمه من العناصر المناعية فهي غير كافية، ولا تقيه إلا من بعض الأمراض البسيطة.

وهذا يوضح أهمية عدم تعرض الوليد لما يسبِّب له الالتهابات والمرض، وبالتالي أهمية اعتناء الأم البالغ بنظافة مكان الطفل وكل ما يحيط به من سريره، وغرفته، وشراشفه، وثيابه وغيرها.

وعندما تكون الأم في المستشفى ويؤتى إليها بطفلها لترضعه، عليها أن تمنع كثرة التحركات من حوله، وانتقاله من يد إلى يد، وتمنع أحداً من تقبيله.

وقبل أن ترضعه عليها بالتأكد من كونها غسلت يديها وصدرها أو المصَّاصة بالصابون المعقم.

فعلى الأم أن تعلم أن أفضل وسيلة لتطوير مناعة الطفل هي إرضاعه، أي مَدهُ بالعناصر الوقائية المنتقلة إليه عبر حليبها، لذلك يعتبر الأخِصّائيون أن امتناع الأم عن الإرضاع هو خطأ كبير إلا إذا كان السبب طبيّاً.

أما الوسيلة الثانية لزيادة هذه المناعة وحماية الوليد من الأمراض الخطيرة التي تهدِّد حياته فهي اللقاح.

وتعتبر مرحلة اللقاحات إحدى أهمُّ المحطات الصحيَّة في حياة الطفل والولد، فعلى الوالدين تقع مسؤولية حصول الطفل على اللقاحات اللازمة في الوقت المناسب، فتوفِّر عليه مخاطر قد تجعله معوقاً طوال عمره، أو تودي بحياته وتوفِّر على نفسها الندم بعد فوات الأوان.

واللقاح كلمة عامة تعني: حثُّ الجسم على تشكيل مناعة ذاتية ضد العناصر الممرضة والأمراض التي قد تصيب الطفل، وصنِّفت كالآتي: شديدة الخطر، وخطرة.

الشديدة الخطر كالسِلِّ والتيتانس (كزاز)، وشلل الأطفال، والجدري، والشاهوق، والحميراء، والخناق، ويعتبر اللقاح ضد هذه كلِّها إجبارياً.

أما الأمراض الخطرة كالتهاب السحايا، والكوليرا، والتيفوئيد، والحمَّى الصفراء، والكَلَب، فيتم تلقيح الطفل ضدَّها في حال الضرورة، أي في حال انتشار وبائي في البيئة المحيطة، أو إصابة واحد من المقرَّبين، أو في حال السفر والانتقال إلى مناطق قد تكون موبوءة.

واللقاح قد يعطي الجسم جراثيم مضعفة مخبرياً، أو ميتة، أو سموم الجراثيم، وكلها تحثُّ جهاز المناعة على تكوين العناصر المناعية الذاتية الجاهزة والقادرة على مهاجمة أسباب المرض لدى دخولها الجسم.

ويستغرق تكوُّن المناعة نتيجة للقاح الجرثومي أسبوعين أو ثلاثة بحسب كل لقاح، وقد يعطى الجسم أمصالاً تحوي مواد مانعة يتمُّ الحصول عليها من دم الحيوانات، كالحصان مثلاً، فيلقح الحصان بالجراثيم، وتؤخذ العناصر المناعية من دمه، ونتيجة للقاح المصل تحصل المناعة على الفور.

2 ـ الختان

مع أن الختان من الأحكام البديهية التي تعارفت عليها المجتمعات الإسلامية من بداية عهدها، ولم تتعرض للنقد والتشكيك، إلا أن بعض المشاغبين في هذا العصر حاول التشكيك فيها من جهتين:

1 ـ من جهة علاقتها بصحة الطفل، وسلامته الجسدية.

2 ـ من جهة ارتباطها بالديانة اليهودية، أو بالأعراف الجاهلية التي كانت سائدة في عهد النبوة.

ومن أمثلة التشكيك الوارد في هذا القضية التي أثارتها في صفحة (قضايا ساخنة)جريدة (الأحداث المغربية)في إطار الحوار الذي أجرته مع أحد الباحثين المدرسين لمادة القانون بسويسرا، والمتخصصين في العلاقة بين الدين والقانون([6]).

وقد دار الحوار حول موضوع: (ختان الأطفال)وهو منشور بتاريخ 27، 28 ذو القعدة 1420هـ الموافق 4 5 مارس عام 2000م، تحت عنوان: (ختان الأطفال عادة تمسُّ الحق في سلامة الأبدان، وإلغاؤه جزء من تحرير الإنسان).

وهذا العنوان ملخص عن المقال المنشور، والمقال ملخص من كتاب ألفه الباحث نفسه في الموضوع ذاته، ومن خلال العنوان تتضح أهداف صاحب المقال ومقاصده ومراميه وطبيعة دعوته.

فالباحث المذكور يدعو بصراحة إلى محاربة عملية الختان والقضاء عليها، وهو يدَّعي أنه قضى ست سنوات من الدراسة والبحث والتنقيب والتفتيش انتهت به إلى تأليف كتابه المطبوع المتداول: (ختان الذكور والإناث في الديانات السماوية الثلاث)

وهو في سبيل بيان أن عملية الختان عادة ضارة ومخالفة لحقوق الإنسان من حيث إنها عنف واضطهاد، وتعدٍّ على سلامة الأبدان عمد إلى نفي الطابع الشرعي لهذه العملية الجراحية مدعياً أنها عرف يهودي سيئ نقله من أسلم من اليهود وفرضوه على المجتمع الإسلامي فرضاً ؛ هذا مع تأكيده على أن القرآن الكريم لم يذكر الختان بتاتاً ولا نص عليه، وأنه على خلاف ذلك ينص على كمال الخلقة، ويدعو إلى احترام الأبدان ثم يقول: (وعلى هذا الأساس فسكوت القرآن عن الختان ليس عبثاً ؛ فالختان بوصفه تعدياً على سلامة جسد الإنسان يعتبر خرقاً للمفهوم الفلسفي للقرآن بأن الخلق كامل).

ثم بعد محاولته هذه لنفي الشرعية القرآنية على الختان يحاول يائساً كذلك نفي الشرعية السنِّية عنه فيقول: (وهناك المصدر الثاني للشريعة الإسلامية وهي السنة ؛ فبعد تمحيصي لكل النصوص التي صدرت في ختان الذكور يمكن القول: إن كل هذه النصوص ضعيفة، وكل الأحاديث التي وردت في ختان الذكور مختلقة، وما روي منها أكثره عن الرواة اليهود، إلى درجة أنَّ ختان النبي صلى الله عليه وآله وسلم غير معروف ؛ فهناك أربع روايات متضاربة تماماً بخصوص ختان النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأكثر الظن أنه لم يختن)

وانطلاقا من هذه المحاولات التشكيكية التي لا تستحق أن تعتبر قولا ثانيا في المسألة له اعتباره واستحقاق طرحه نحاول أن نبين هنا خطأ هذا التشكيك وعدم صحة الأسس التي يعتمد عليها:

مشروعية الختان:

من القرآن الكريم:

مما لا شك فيه أن القرآن الكريم لم ينص تنصيصاً صريحا على جميع جزئيات الشرع ؛ بل ذكر بعضها بصيغة الإبهام، وبعضها الآخر بالإطلاق، وبعضها بالعموم تاركاً المجال واسعاً للسنة النبوية الشريفة لتبيين المجمل وتقييد المطلق وتخصيص العام.

فلذلك لا نجد في القرآن الكريم ذِكراً لعدد ركعات الصبح أو الظهر أو العصر أو غيرها، ولا نجد ذكراً لنصاب المال الذي تجب فيه الزكاة ولا لمقدار ما يجب في المال منها، إلا أن السنَّة فصَّلت ذلك تفصيلاً نفت به الإجمال عن النصوص.

بل إن في السنة زيادة على ذلك أحكام جديدة باعتبار لا تختلف عن القرآن الكريم في كونها وحيا يوحى بلغة صاحب الشرع الذي لا ينطق عن الهوى.

وقد كان من منهج السلف في مناظراتهم مع من أنكر مشروعية أمر لعدم وروده في القرآن الكريم تنصيصاً، أن يقيموا عليه الدليل بنص من النصوص القرآنية الداعية إلى ضرورة اتباع محمد صلى الله عليه وآله وسلم والاقتداء به في أفعاله وأقواله وتقريراته([7]).

وهذا المنهج هو الذي سنبين من خلاله شرعية الختان من القرآن الكريم، ويقال حينها للمنكر ما قال السلف لمثله:(لو قرأت فعلاً القرآن قراءة تأمل وتدبر وإمعان وإنصاف لوجدت فيه ذكراً صريحاً للختان وما في معناه من مظاهر الفطرة التي فطر الناس عليها)، وسنكتفي هنا بإيراد دليلين من جنس ما كان يستدل به السلف من القرآن الكريم:

الدليل الأول: أن القرآن الكريم يدعو إلى اتباع ملة إبراهيم u، قال تعالى:{ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ }(النحل: 123)، وقال تعالى:{ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ }(البقرة: 130)

ومن مظاهر ملة إبراهيم، والتي لا يستطيع أحد التشكيك فيها سواء من المسلمين أو من غيرهم (الاختتان)، فقد ورد في نصوص شرعية عديدة أن إبراهيم u اختتن ([8]).

فالختان إذن مظهر من مظاهر الملة التي أمر إبراهيم الخليل بإظهارها والتي أمرنا باتباعه فيها، والأمر يفيد حكماً شرعياً يقتضي الامتثال، يقول القرطبي:(قلت: قد تقدم أن إبراهيم أول من اختتن، وأن ذلك لم يزل سُنَّة عامة معمولاً بها في ذريته وأهل الأديان المنتمين إلى دينه، وهو حكم التوراة على بني إسرائيل كلهم)

وقد كان العرب قبل الإسلام على بقية من دين إبراهيم u أظهرها الحج، قال أبو شامة:(إن القلفة من المستقذرات عند العرب، وقد كثر ذم الأقلف- أي غير المختون ـ في أشعارهم، وكان للختان عندهم قدر، وله وليمة خاصة به، وأقر الإسلام ذلك)

الدليل الثاني: أن القرآن الكريم يحث على ضرورة الاقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما قال تعالى:{ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}(الحشر:7)، وقال تعالى:{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} (الأحزاب:21)، ومن سنته صلى الله عليه وآله وسلم التي لا يمكن الجدال في ثبوتها الختان.

أما ما زعم من تضارب الروايات في ختانه صلى الله عليه وآله وسلم، فالذي ترشد إليه هذه الروايات ـ بغض النظر عن درجتها في الصحة أو الضعف ـ هو أن التضارب لم يحصل في إثبات ختانه أو نفيه، وإنما وقع في بيان طبيعة ختانه: هل ولد مختوناً؟ أم ختنه جبريل u يوم شق صدره؟ أم أن جده عبد المطلب هو الذي تولى الأمر؟

ويلحق بهذا ما ورد في النصوص من أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد تولى هذه العملية في حياته، ومن ذلك حديث جابر أنه قال: (عق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الحسن والحسين وختنهما لسبعة أيام)

هذا بخصوص سنته الفعلية، أما سنته القولية، فسنورد ما ورد فيها من أدلة في محلها بعد هذا.

من السنة المطهرة:

من الأحاديث الواردة حول مشروعية الختان:

1 ـ قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظافر، ونتف الآباط)([9])، قال ابن القيم رحمه الله: (فجعل الختان رأس خصال الفطرة، وإنما كانت هذه الخصال من الفطرة ؛ لأن الفطرة هي الحنيفية ملة إبراهيم، وهذه الخصال أُمِرَ بها إبراهيم وهي الكلمات التي ابتلاه ربه بهن)

2 ـ قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(أربع من سنن المرسلين: الختان، والتعطر، والسواك، والنكاح)

3 ـ قوله صلى الله عليه وآله وسلم لمن أسلم جديدا: (ألقِ عنك شعر الكفر، واختتن)([10])

الحكمة من الختان

تكملة للكلام السابق في الرد على من يشكك في الختان، فيعتبره منافيا لحقوق الإنسان مضرا بصحته خاليا من أي مصلحة معتبرة نورد هنا بعض ما أثبتته الدراسات من وجوه المصالح المعتبرة في الختان، والتي تزيد في تأكيد مشروعيته التي سبق ذكر النصوص الدالة عليها، وهي في نفس الوقت أكبر رد على من لا تقنعهم النصوص الشرعية بقدر ما تقنعهم الدراسات العلمية([11]):

الختان وقاية من الالتهابات الموضعية: فالقلفة التي تحيط برأس القضيب تشكل جوفاً ذو فتحة ضيقة يصعب تنظيفها، إذ تتجمع فيه مفرزات القضيب المختلفة بما فيها ما يفرز سطح القلفة الداخلي من مادة بيضاء ثخينة تدعى اللخن Smegma وبقايا البول والخلايا المتوسفة والتي تساعد على نمو الجراثيم المختلفة مؤدية إلى التهاب الحشفة أو التهاب الحشفة والقلفة الحاد أو المزمن([12]).

الختان يقي من الإصابة بالتهاب المجاري البولية: ثبت في عديد من الدراسات الطبية أن التهابات الجهاز البولي في الذكور، صغاراً وكباراً، تزداد نسبتها زيادة ملحوظة في غير المختونين، وأن عدوى الأمراض المنقولة جنسياً كالزهري والسيلان وعلى الخصوص مرض الإيدز تكون في غير المختونين أكبر بكثير منها في المختونين.

وقد وجد جنز برغ أن 95% من التهابات المجاري البولية عند الأطفال تحدث عند غير المختونين.و يؤكد أن جعل الختان أمراً روتينياً يجري لكل مولود في الولايات المتحدة منع حدوث أكثر من 50 ألف حالة من التهاب الحويضة والكلية سنوياً([13]).

ولهذا كتب البروفسور ويزويل في عام 1990 يقول:(لقد كنت من أشد أعداء الختان وشاركت في الجهود التي بذلت عام 1975 ضد إجرائه، إلا أنه في بداية الثمانينات أظهرت الدراسات الطبية زيادة في نسبة حوادث التهابات المجاري البولية عند الأطفال غير المختونين، وبعد تمحيص دقيق للأبحاث التي نشرت، فقد وصلت إلى نتيجة مخالفة وأصبحت من أنصار جعل الختان أمراً روتينياً يجب ان يجري لكل مولود)([14])

الختان والأمراض الجنسية: أكد البروفسور وليم بيكوز الذي عمل في البلاد العربية لأكثر من عشرين عاماً، وفحص أكثر من 30 ألف امرأة ندرة الأمراض الجنسية عندهم وخاصة العقبول التناسلي والسيلان والكلاميديا والتريكوموناز وسرطان عنق الرحم ويُرجع ذلك لسببين هامين ندرة الزنى وختان الرجال([15]).

الختان والوقاية من السرطان: يقول البرفسور كلو دري:(يمكن القول وبدون مبالغة بأن الختان الذي يجري للذكور في سن مبكرة يخفض كثيراً من نسبة حدوث سرطان القضيب عندهم)

وقد نشرت المجلة الطبية البريطانية BMG ـ وهي من أشهر المجلات الطبية ـ مقالاً عن سرطان القضيب ومسبباته عام 1987، جاء في هذا المقال: إن سرطان القضيب نادر جداً عند اليهود وفي البلدان الإسلامية، حيث يجري الختان أثناء فترة الطفولة، وأثبتت الإحصائيات الطبية أن سرطان القضيب عند اليهود لم يشاهد إلا في تسعة مرضى فقط في العالم كله.

ومن العوامل المهيئة لحدوث سرطان القضيب: التهاب الحشفة، ولما كان الختان يزيل هذه القلفة من أساسها فإن المختونين لا يحدث لديهم تضيُّق في القلفة، كما أنه يندر جداً أن يحدث التهاب الحشفة عندهم، ويبدو أن تضيُّق القلفة ينجم عن احتباس اللخن وهي مفرزات تتجمع بين حشفة القضيب والقلفة عند غير المختونين، وقد ثبت أن لهذه المواد فعلاً مسرطناً.

ونشرت مجلة المعهد الوطني للسرطان دراسة أكدت فيها أن سرطان القضيب ينتقل عبر الاتصال الجنسي، وأشارت إلى أن الاتصال الجنسي المتعدد بالبغايا يؤدي إلى حدوث هذا. كما ورد في تقرير نشرته الأكاديمية لأمراض الأطفال جاء فيه: إن الختان هو الوسيلة الفعالة للوقاية من سرطان القضيب. وأكدت المجلة الأمريكية لأمراض الأطفال أن العوامل الدينية عند المسلمين واليهود التي تقرر اتباع الختان: تلعب عاملاً أساسياً في حث هؤلاء على الأخذ بهذه الفطرة.

حكم أخرى: بالإضافة إلى هذه الحكم الصحية هناك حكم أخرى منها:

1 ـ أن الأقلف أي الذي لم يختتن في حكم من به سلس البول أو غيره لاحتباس البول في القلفة ؛ إذ إن (الأقلف مُعرَّض لفساد طهارته وصلاته ؛ فإن القلفة تستر الذكر كله فيصيبها البول، ولا يمكن لاستجمار لها، فصحة الطهارة والصلاة موقوفة على الختان)

2 ـ أن الختان يساهم في تحقيق التوازن الجنسي عند بني آدم. يقول ابن القيم: (هذا مع ما في الختان من الطهارة، والنظافة، والتزيين، وتحسين الخلقة، وتعديل الشهوة التي إذا أفرطت ألحقت الإنسان بالحيوانات، وإذا عدمت بالكلية ألحقته بالجمادات ؛ فالختان يعدلها)

أحكام الختان

الحكم التكليفي:

 اختلف الفقهاء في حكم الختان بعد الاتفاق على مشروعيته على الأقوال التالية:

القول الأول: الختان سنة في حق الرجال وليس بواجب، وهو قول الحنفية والمالكية، وهو وجه شاذ عند الشافعية، ورواية عن أحمد، وقالوا: إنه من الفطرة ومن شعائر الإسلام، فلو اجتمع أهل بلدة على تركه حاربهم الإمام، كما لو تركوا الأذان.

وقد استدلوا على هذا بما يلي:

1 ـ حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:(الختان سنة للرجال مكرمة للنساء)([16])

2 ـ قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(خمس من الفطرة الختان، والاستحداد، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار، وقص الشارب)([17])، فقد اقترن الختان في الحديث بقص الشارب وغيره، مع أنه ليس واجبا.

3 ـ أن الختان قطع جزء من الجسد ابتداء، فلم يكن واجبا بالشرع قياسا على قص الأظفار.

القول الثاني: الختان واجب على الرجال، قال ابن القيم:(قال الشعبي، وربيعة، والأوزاعي، ويحيى بن سعيد الأنصاري، ومالك([18]) والشافعي وأحمد: هو واجب، وشدد فيه مالك حتى قال: من لم يختتن لم تجز إمامته ولم تقبل شهادته)([19])، وقد استدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ قوله تعالى:{ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(النحل:123)، فقد أمرنا باتباع إبراهيم u، وهويدل على أن فعل تلك الأمور التي كان يفعلها هي من شرعنا وواجبة علينا.

2 ـ ما روي من حديث كليب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم:(قال له:(ألق عنك شعر الكفر واختتن)([20])

3 ـ قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(اختتن إبراهيم عليه السلام وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم)([21])

4 ـ أن الختان لو لم يكن واجبا لما جاز كشف العورة من أجله، ولما جاز نظر الخاتن إليها وكلاهما حرام.

5 ـ أن الختان من شعار المسلمين فكان واجبا كسائر شعارهم.

6 ـ أن الختان مما جرى عليه المسلمون وعملوا به، وتوارثوه كابراًعن كابر، بقضهم وقضيضهم، ولا يمكن أن يكون ذلك إلا في أمر واجب.

7 ـ أن القلفة تحبس النجاسة فتمنع صحة الصلاة، كمن أمسك نجاسة.

8 ـ أنه قطع عضو- لا يستخلف- من الجسد، تعبداً، فيكون واجباً كقطع اليد في السرقة.

الترجيح:

 نرى أن الأرجح في المسألة هو القول بالوجوب اعتبارا للأدلة الكثيرة على ذلك، زيادة على المنافع الحاصلة للمختتن، زيادة على كون الختان من الأمور الضرورية التي تعارفت بها الأمة.

ولكن هذا الحكم مع ذلك قد يصدق مع الصغير، فلا يكلف الكبير الذي أسلم بالختان، والحديث المروي في أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم للكبير بالختان ضعيف، لا يصح الاستدلال به، فلذلك يمكن القول بسنيته للكبير في حال عدم تضرره به.

مقدار ما يقطع في الختان:

اختلف الفقهاء في مقدار ما يقطع في الختان على الأقوال التالية:

القول الأول: يكون ختان الذكور بقطع الجلدة التي تغطي الحشفة، وتسمى القلفة، والغرلة، بحيث تنكشف الحشفة كلها.

القول الثاني: إنه إذا اقتصر على أخذ أكثرها جاز، وهو قول عند الحنابلة.

القول الثالث: يكفي قطع شيء من القلفة وإن قل بشرط أن يستوعب القطع تدوير رأسها، وهو قول ابن كج من الشافعية.

الترجيح:

 نرى أن الأرجح في المسألة هو أنها من المسائل الطبية التي يرجع فيها للأطباء ليفتوا فيها بحسب المصلحة الصحية للمختون، لأن الختان لا يعدوا أن يكون عملية جراحية تجميلية لها فوائد صحية، وهو أشبه ما يكون بقطع الحبل السري للاستغناء عنه.

وقت الختان:

اتفق الفقهاء القائلون بوجوب الختان على أن وقت الوجوب هو ما بعد البلوغ، لأن الختان من أجل الطهارة، وهي لا تجب عليه قبله، واختلفوا في الوقت المستحب لذلك على قولين:

القول الأول: الوقت الذي يستحب فيه الختان هو اليوم السابع، وهو قول الجمهور والإمامية، لحديث جابر:(عق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الحسن والحسين وختنهما لسبعة أيام)([22])

القول الثاني: إن المستحب ما بين العام السابع إلى العاشر من عمره، وهو قول للحنابلة والمالكية، لأنها السن التي يؤمر فيها بالصلاة.

القول الثاث: أنه وقت الإثغار، إذا سقطت أسنانه، وهو رواية عن مالك.

القول الرابع: أن العبرة بطاقة الصبي إذ لا تقدير فيه، فيترك تقديره إلى الرأي، وهو الأشبه عند الحنفية.

الترجيح:

 نرى أن الأرجح في المسألة هو خضوعها لحكم الطبيب المختص الثقة الذي ينظر إلى مدى استعداد الصبي للختان، وأشبه الأقوال بهذا هو القول الرابع، فإن رأى الطبيب عدم تضرر الصبي بالختان في اليوم السابع، فهو أفضل، فإن لم ير ذلك، فإنه يقدم بقدر الإمكان مراعاة للفورية في تنفيذ الأحكام الشرعية، ولمصلحة الصبي الصحية.

مسقطات وجوب الختان

من مسقطات الختان التي نص عليها الفقهاء:

ختان من يضعف عن الختان:

من كان ضعيف الخلقة بحيث لو ختن خيف عليه، لم يجز أن يختن حتى عند القائلين بوجوبه، بل يؤجل حتى يصير بحيث يغلب على الظن سلامته، لأنه لا تعبد فيما يفضي إلى التلف ؛ ولأن بعض الواجبات يسقط بخوف الهلاك فالسنة أحرى، وهذا عند من يقول إن الختان سنة.

وللحنابلة تفصيل في مذهبهم، ملخصه أن وجوب الختان يسقط عمن خاف تلفا، ولا يحرم مع خوف التلف لأنه غير متيقن، أما من يعلم أنه يتلف به وجزم بذلك فإنه يحرم عليه الختان لقوله تعالى:{ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (البقرة:195)

الموت:

اختلف الفقهاء في حكم من مات من غير اختتان، هل يختتن أم لا على قولين:

القول الأول: لا يختن الميت الأقلف الذي مات غير مختون، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ أن الختان كان تكليفا، وقد زال بالموت.

2 ـ أن المقصود من الختان التطهير من النجاسة، وقد زالت الحاجة بموته.

3 ـ أنه جزء من الميت فلا يقطع، كيده المستحقة في قطع السرقة، أو القصاص وهي لا تقطع من الميت.

4 ـ أنه لا يصح قياس الختان على قص الشعر والظفر ؛ لأنهما يزالان في الحياة للزينة، والميت يشارك الحي في ذلك، وأما الختان فإنه يفعل للتكليف به، وقد زال بالموت.

القول الثاني: أنه يختن، وهو قول ثان للشافعية، لأنه كالكبير والصغير، لأنه كالشعر والظفر وهي تزال من الميت.

الترجيح:

 نرى أن الأرجح في المسألة هو أن الختان حكم معقول المعنى، يرتبط بصحة الإنسان وطهارته، وهذه الحكمة تنتفي بعد الموت، فلا حاجة للختان بعد الموت.

عدم القلفة:

اختلف الفقهاء في حكم ختان من من ولد مختونا بلا قلفة على قولين:

القول الأول: من ولد مختونا بلا قلفة فلا ختان عليه لا إيجابا ولا استحبابا، فإن وجد من القلفة شيء يغطي الحشفة أو بعضها، وجب قطعه كما لو ختن ختانا غير كامل، فإنه يجب تكميله ثانيا حتى يبين جميع القلفة التي جرت العادة بإزالتها في الختان.

القول الثاني: إنه تجرى عليه الموسى، فإن كان فيه ما يقطع قطع، وهو قول عند المالكية.

الترجيح:

 نرى أن الأرجح في المسألة هو ما ذكرنا سابقا من أن الختان عملية جراحية تجميلية لها قصد صحي، فلذلك تنتفي بكل ما يرفع عنها هذه الحكمة، زيادة على ذلك، فهو من خصال الفطرة، ولم يقل أحد من الفقهاء بأن من لم تنموا أظفاره عليه أن يجري عليها الموسى ليقوم بسنة قص الأظفار.

ختان الإناث

من الأحكام التي تلقى جدلا كبيرا في الواقع (ختان الإناث)بأشكاله المختلفة في بعض بلدان العالم الإسلامي، وهو بتطبيقاته الواقعية في أكثر هذه البلدان ضرر محض لم تأت به الشريعة ولا نص عليه الفقهاء، بل هو من العادات التي قد تكون متوارثة في هذه البلدان من غير حرص منها على تطبيق الشرع في المسألة، وإلا فإن للتطبيق الشرعي شروطه التي تنفي الضرر.

وقد اختلف الفقهاء في مدى مشروعية هذا النوع من الختان على قولين:

القول الأول: أنه مشروع، وهو قول جماهير العلماء، واستدلوا لذلك بالأدلة التي سيرد ذكرها عند بيان اختلافهم في نوع مشروعيته.

وقد اختلف أصحاب هذا القول في نوع الحكم المرتبط به، والذي يفهم من الأدلة التي أوردوها على الآراء التالية:

الرأي الأول: أنه واجب، قال النووي:(الختان واجب على الرجال والنساء عندنا، وبه قال كثيرون من السلف، كذا حكاه الخطابي، وممن أوجبه أحمد)، ورى عن الشافعي وجهان آخران، فقال:(وقال مالك وأبو حنيفة: سنة في حق الجميع وحكاه الرافعي وجها لنا، وحكى وجها ثالثا أنه يجب على الرجل وسنة في المرأة، وهذان الوجهان شاذان، والمذهب الصحيح المشهور الذي نص عليه الشافعي رحمه الله وقطع به الجمهور أنه واجب على الرجال والنساء)، وقال الإمام أحمد هو واجب فى حق الرجال. وفى النساء عنه روايتان أظهرهما الوجوب، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ لو كان الختان سنة لما كشفت العورة المحرم كشفها له.

2 ـ أن الختان قطع عضو سليم، فلو لم يجب لم يجز كقطع الأصبع، فإن قطعها إذا كانت سليمة لا يجوز إلا إذا وجب بالقصاص.

وقد حاول الشيخ جاد الحق على جاد الحق أن ينتصر لهذا القول في فتوى من فتاويه، نص سائلها على (أن له بنتين صغيرتين إحداهما ست سنوات والأخرى سنتان وأنه قد سأل بعض الأطباء المسلمين عن ختان البنات، فأجمعوا على أنه ضار بهن نفسيا وبدينا، فهل أمر الإسلام بختانهن أو أن هذا عادة متوارثة عن الأقدمين فقط)

فأجاب الشيخ بعد استعراضه لما ورد في المصنفات الفقهية من أقوال العلماء في حكم الخفاض:(لما كان ذلك كان المستفاد من النصوص الشرعية، ومن أقوال الفقهاء على النحو المبين والثابت فى كتب السنة والفقة أن الختان للرجال والنساء من صفات الفطرة التى دعا إليها الإسلام وحث على الالتزام بها على ما يشير إليه تعليم رسول الله كيفية الختان، وتعبيره فى بعض الروايات بالخفض، مما يدل على القدر المطلوب فى ختانهن)

وأضاف بعد استدلاله بكون المراد بالفطرة سنة الإسلام، لا السنة التي تقابل الفرض:(ومن هنا اتفقت كلمة فقهاء المذاهب على أن الختان للرجال والنساء من فطرة الإسلام وشعائره، وأنه أمر محمود، ولم ينقل عن أحد من فقهاء المسلمين فيما طالعنا من كتبهم التى بين أيدينا – القول بمنع الختان للرجال أو النساء، أو عدم جوازه أو إضراره بالأنثى، إذا هو تم على الوجه الذى علمه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لأم حبيبة فى الرواية المنقولة آنفا، أما الاختلاف فى وصف حكمه، بين واجب وسنة ومكرمة، فيكاد يكون اختلافا فى الاصطلاح الذى يندرج تحته الحكم، يشير إلى هذا ما نقل فى فقه الإمام أبى حنيفة من أنه لو اجتمع أهل مصر على ترك الختان، قاتلهم الإمام (ولى الأمر)لأنه من شعائر الإسلام وخصائصه([23])، كما يشير إليه أيضا أن مصدر تشريع الختان هو اتباع ملة إبراهيم، وقد اختتن، وكان الختان من شريعته، ثم عده الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من خصال الفطرة، وأميل إلى تفسيرها بما فسرها به الشوكانى – حسبما سبق – بأنها السنة التى هى طريقة الإسلام ومن شعائره وخصائصه، وكما جاء فى فقه الحنفيين)

وانطلاقا من هذا رد على الاستفتاء السابق بقوله:(وإذا قد استبان مما تقدم أن ختان البنات المسئول عنه من فطرة الإسلام وطريقته على الوجه الذى بينه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه لا يصح أن يترك توجيهه وتعليمه إلى قول غيره ولو كان طبيبا، لأن الطب علم والعلم متطور، تتحرك نظرته ونظرياته دائما، ولذلك نجد أن قول الأطباء فى هذا الأمر مختلف، فمنهم من يرى ترك ختان النساء، وآخرون يرون ختانهن، لأن هذا يهذب كثيرا من إثارة الجنس لا سيما فى سن المراهقة التى هى أخطر مراحل حياة الفتاة، ولعل تعبير بعض روايات الحديث الشريف فى ختان النساء بأنه مكرمة يهدينا إلى أن فيه الصون،انه طريق للعفة، فوق أنه يقطع تلك الإفرازات الدهنية التى تؤدى إلى التهابات مجرى البول وموضع التناسل، والتعرض بذلك للأمراض الخبيثة، هذا ما قاله الأطباء المؤيدون لختان النساء، وأضافوا أن الفتاة التى تعرض عن الختان تنشأ من صغرها وفى مراهقتها حادة المزاج سيئة الطبع، وهذا أمر قد يصوره لنا ما صرنا إليه فى عصرنا من تداخل وتزاحم، بل وتلاحم بين الرجال والنساء فى مجالات الملاصقة والزحام التى لا تخفى على أحد، فلو لم تقم الفتاة بالاختتان لتعرضت لمثيرات عديدة تؤدى بها – مع موجبات أخرى، تذخر بها حياة العصر، وانكماش الضوابط فيه – إلى الانحراف والفساد)([24])

الرأي الثاني: أنه سنة، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(إذا التقى الختانان وجب الغسل)([25])، ففيه بيان أن النساء كن يختتن.

2 ـ حديث عمر: إن ختانة ختنت، فقال:(أبقي منه شيئا إذا خفضت)

3 ـ قال صلى الله عليه وآله وسلم:(الختان سنة للرجال، ومكرمة للنساء)([26])، وعن جابر بن زيد مثل ذلك موقوفا عليه.

4 ـ قوله صلى الله عليه وآله وسلم للخافضة:(أشمي ولا تنهكي، فإنه أحظى للزوج، وأسرى للوجه)([27])، والخفض: ختانة المرأة.

الرأي الثالث: أنه مكرمة.

القول الثاني: عدم مشروعية ختان الأنثى، وأنه لا سنة ولا مكرمة، ولا حظ له من المشروعية، وهو قول بعض الفقهاء المعاصرين، ومن بينهم الأستاذ سليم العوا([28])، وسنقتبس هنا من كلامه ما استدل به لهذا القول محاولين التصرف معه بحسب الطريقة التي جرينا علهيا في هذه السلسلة من تصنيف الأدلة:

الاستصحاب: وهو كما ينص الأستاذ سلم:(أن حكم الشريعة الإسلامية يؤخذ من مصادرها الأصلية المتفق عليها: وهي القرآن الكريم، والسنة النبوية الصحيحة، والإجماع بشروطه المقررة في علم أصول الفقه، والقياس المستوفي لشروط الصحة.

أما فقه الفقهاء، فهو العمل البشري الذي يقوم به المتخصصون في علوم الشرع لبيان أحكام الشريعة في كل ما يهم المسلمين- بل الناس أجمعين- أن يعرفوا حكم الشريعة فيه. ولا يعد كلام الفقهاء شريعة، ولا يحتج به على أنه دين، بل يحتج به على أنه فهم للنصوص الشرعية، وإنزال لها على الواقع، وهو سبيل إلى فهم أفضل لهذه النصوص وكيفية إعمالها، لكنه ليس معصوماً، ويقع في الخطأ كما يقع في الصواب. والمجتهد المؤهل من الفقهاء مأجور أجرين حين يصيب ؛ ومأجور أجراً واحداً حين يخطىء.

فإذا أردنا أن نتعرف على حكم الشريعة الإسلامية في مسألة ختان الإناث، فإننا نبحث في القرآن الكريم ثم السنة النبوية ثم الإجماع ثم القياس، وقد نجد في الفقه ما يعيننا فنطمأن به إلى فهمنا ونؤكده، وقد لا نجد فيه ما ينفع في ضوء علم عصرنا وتقدم المعارف الطبية خاصة، فنتركه وشأنه ولا نعول على ما هو مدون في كتبه.

وقد خلا القرآن الكريم من أي نص يتضمن إشارة من قريب أو بعيد إلى ختان الإناث. وليس، هناك إجماع على حكم شرعي فيه، ولا قياس يمكن أن يقبل في شأنه.

أما السنة النبوية فإنها مصدر ظن المشروعية، لما ورد في مدوناتها من قريب أو منسوبة إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الشأن الحق أنه ليس في هذه المرويات دليل واحد صحيح السند يجوز أن يستفاد منه حكم شرعي في مسألة بالغة الخطورة على الحياة الانسانية كهذه المسألة.

ولا حجة ــ عند أهل العلم- في الأحاديث التي لم يصح نقلها، إذ الحجة فيما صح سنده دون سواه.

ولمثل هذا الفهم قال الإمام ابن المنذر:(ليس في الختان خبر يرجع إليه ولا سنة تتبع)([29])، وقال الإمام الشوكاني:(ومع كون الحديث لا يصلح للاحتجاج به فهو لا حجة فيه على المطلوب)([30])

وهكذا يتبين أن السنة الصحيحة لا حجة فيها على مشروعية ختان الأنثى. وأن ما يحتج به من أحاديث الختان للإناث كلها ضعيفة لا يستفاد منها حكم شرعي. وأن الأمر لا يعدو أن يكون عادة من العادات، ترك الإسلام للزمن ولتقدم العلم الطبي أمر تهذيبياً أو إبطالها.

عدم صحة ما استدل به المخالفون من السنة: يتفق جميع العلماء على تضعيف الأحاديث الواردة في ختان الإناث، قال ابن المنذر: ليس في الختان خبر يرجع إليه، ولا سند يتبع([31])، وقال الشيخ سيد سابق:(أحاديث الأمر بختان المرأة ضعيفة لم يصح منها شيء)([32])

وسنورد ما ذكر المحدثون عن النصوص التي وردت في ختان الإناث:

الحديث الأول: قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(الختان سنة في الرجال، مكرمة في النساء)، وقد توجه له النقد التالي في السند والمتن:

السند: نص الحافظ العراقي في تعليقه على إحياء علوم الدين على ضعفه، ونص الحافظ ابن حجر في كتابه: تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير، على ضعف هذا الحديث([33])، ونقل قول الإمام البيهقي فيه: إنه ضعيف منقطع.

وقال ابن عبد البر في (التمهيد):(إنه يدور على رواية راوٍ لا يحتج به([34]).

وكلام الحافظ أبي عمر ابن عبد البر في كتابه المذكور نصه:(واحتج من جعل الختان سنة بحديث أبي المليح هذا، وهو يدور على حجاج بن أرطاة، وليس ممن يحتج بما انفرد به)([35])

وعلى ذلك فليس في هذا النص حجة، لأنة نص ضعيف، مداره على راو لايحتج بروايته، فكيف يؤخذ منه حكم شرعي بأن أمراً معيناً من السنة أو من المكرمات وأقل أحوالها أن تكون مستحبة، والاستحباب حكم شرعي لا يثبت، إلا بدليل صحيح.

ولا يرد على ذلك بأن لهذا الحديث شاهداً أو شواهد من حديث أم عطية، فإن جميع الشواهد التي أوردها بعض من ذهب إلى صحته، معلولة بعلل قادحة فيها، مانعة من الاحتجاج بها.

المتن: على الفرض الجدلي أن الحديث صحيح- وهو ليس كذلك- فإنه ليس فيه التسوية بين ختان الذكور وختان الإناث في الحكم، بل فيه التصريح بأن ختان الإناث ليس بسنة، وإنما هو في مرتبة دونها.

وكأن الإسلام حين جاء وبعض العرب يختنون الإناث أراد تهذيب هذه العادة بوصف الكيفية البالغة منتهى الدقة، الرقيقة غاية الرقة، بلفظ (أشمى ولا تنهكى)الذي في الرواية الضعيفة الأولى، وأراد تبيين أنه ليس من أحكام الدين ولكنه من أعراف الناس بذكر أنه (سنة للرجال…)وهي ـ أي السنة ـ هنا بمعنى العادة لا بالمعنى الأصولي للكلمة- في الرواية الضعيفة الثانية.

ولا تحتمل الروايتان على الفرض الجدلي بصحتهما تأويلاً سائغاً فوق هذا. ولو أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم التسوية بين الرجال والنساء لقال:(إن الختان سنة الرجال والنساء)، أو لقال:(الختان سنة)وسكت؟ فإنه عندئذ يكون تشريعاً عاماً ما لم يقم دليل على خصوصيته ببعض دون بعض. أما وقد فرق بينهما في اللفظ- لو صحت الرواية- فإن الحكم يكون مختلفاً، وكونه سنة- بالمعنى الأعم لهذه الكلمة ــ يكون في حق الرجال فحسب. وهذا هو ما فهمه الإمام ابن عبد البر القرطبى حين. عرض بالذين قالوا إنه (سنة)لاعتمادهم تلك الرواية الضعيفة وبين أن الإجماع منعقد على ختان الرجال.

الحديث الثاني: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لأم عطية وكانت خافضة:(يا أم عطية أشمي ولا تنهكي، فإنه أسرى للوجه وأحظى عند الزوج)

وهذا الحديث أشهر أحاديث ختان الإناث وقد تعرض للنقد التالي:

السند: هذا الحديث رواه الحكم والبيهقي وأبو داوود بألفاظ متقاربة، وكلهم رووه بأسانيد ضعيفة كما بين ذلك الحافظ زين الدين العراقي في تعليقه على إحياء علوم الدين للغزالي([36]).

وقد عقب أبو داوود على هذا الحديث بقوله:(روي عن عبيد الله بن عمرو عن عبد الملك بمعناه وإسناده. وليس هو بالقوي، وقد روي مرسلاً… وهذا الحديث ضعيف)([37])

وقد جمع بعض المعاصرين طرق هذا الحديت، وكلها طرق ضعيفة لا تقوم بها حجة([38]) حتى قال العلامة محمد الصباغ في رسالته عن ختان الإناث:(فانظر رعاك الله إلى هذين الإمامين الجليلين أبي داود والعراقي وكيف حكما عليه بالضعف، ولا تلتفت إلى من صححه من المتأخرين)

فحديث أم عطية- إذن- بكل طرقه لا خير فيه ولا حجة تستفاد. منه.

الحديث الثالث: ما روي من قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(يا نساء الأنصار اختضبن غمسا، واخفضن، ولا تنهكن، فإنه أحظى عند أزواجكن، وإياكن وكفران النعم)

وقد توجه له النقد التالي:

السند: هذا الحديث رواه البزار، وفي إسناده مندل بن علي وهو ضعيف، وفي إسناد ابن عدي: خالد بن عمرو القرشي وهو أضعف من مندل، ورواه الطبراني في الصغير وابن عدي أيضا عن أبي خليفة، عن محمد بن سلام الجمحي، عن زائدة بن أبي الرقاد، عن ثابت، عن أنس نحو حديث أبي داود، قال ابن عدي: تفرد به زائدة، عن ثابت، وقال الطبراني: تفرد به محمد بن سلام، وقال ثعلب: رأيت يحيى بن معين في جماعة بين يدي محمد بن سلام فسأله عن هذا الحديث، وقد قال البخاري في زائدة: إنه منكر الحديث([39]).

المتن: أن التوجيه الوارد فيه لا يتضمن أمراً بختان البنات، وإنما يتضمن تحديد كيفية هذا الختان إن وقع، وأنها (إشمام)وصفه العلماء بأنه كإشمام الطيب، يعنى أخذ جزء يسير لا يكاد يحس من الجزء الظاهر من موضع الختان وهو الجلدة التي تسمى (القلفة)، وهو كما قال الإمام النووي:(قطع أدنى جزء مها)

فالمسألة مسألة طبية دقيقة تحتاج إلى جراح متخصص يستطيع تحديد هذا الجزء المستعلي الذي هو أدنى جزء منها، ولا يمكن أن تتم لو صح جوازها- على أيدي الأطباء العاديين فضلاً عن غير المتخصصين في الجراحة من أمثال القابلات والدايات وحلاقي الصحة، كما هو الواقع في بلادنا وغيرها من البلاد التي تجرى فيها هذه العملية الشنيعة للفتيات.

الحديث الرابع: قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(إذ التقى الختانان فقد وجب الغسل)

هذا الحديث صحيح رواه مالك في الموطأ، ومسلم في صحيحه، والترمذي وابن ماجة في سننهما، وغيرهم من أصحاب مدونات الحديث النبوي.

وموضع الشاهد هنا قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(الختانان)إذ فيه تصريح بموضع ختان الرجل والمرأة، مما قد يراه بعضا الناس حجة على مشروعية ختان النساء.

ولا حجة في هذا الحديث الصحيح على ذلك. لأن اللفظ هـنا جاء من باب تسمية الشيئين أو الشخصين أو الأمرين باسم الأشهر منهما، أو باسم أحدهما على سبيل التغليب.

وقد وقع مثل هذا كثيرا في الغة العربية، ومنه على سبيل المثال: العمران (أبو بكر عمر)، والقمران (الشمس والقمر)والنيران (هما أيضاً، وليس في القمر نور بل انعكاس نور الشمس عليه)والعشاءان (المغرب والعشاء)والظهران (الظهر، العصر)

والعرب تغلب الأقوى والأقدر في التثنية عادة ولذلك، قالوا للوالدين: (الأبوان)وهما أب وأم. وقد يغلبون الأخف نطقاً في العمرين (لأبي بكر وعمر)، أو الأعظم شأناً كما في قوله تعالى:{ وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ)(فاطر:12)، فالأول النهر والثاني البحر الحقيقي، وقد يغلبون الأنثى في هذه التثنية ومن ذلك قولهم: (المروتان)يريدون جبلي الصفا والمروة في مكة المكرمة. وكل ذلك مشهور معروف عند أهل العلم بلسان العرب([40]).

الرد على ما توهمه المخالفون من سد الذريعة: فقد نص المخالفون ـ كما مر معنا ـ على أن الختان يهذب كثيراً من إثارة الجنس، لا سيما في سن المراهقة) إلى أن قالوا:(وهذا أمر قد يصوره لنا، ويحذر من آثاره ما صرنا إ إيه في عصرنا مدى تداخل وتزاحم بل، وتلاحم بين الرجال والنساء في مجالات الملاصقة التي لا تخفى على أحد فلو لم تختن الفتيات… لتعرضن لمثيرات عديدة تؤدي بهن مع موجبات أخرى تزخر بها حياة العصر وانكماش الضوابط فيه إلى الانحراف والفساد)

وقد رد على هذا الاستدلال بأن ذلك غير صحيح، لأن موضع الختان لا تتحقق الإثارة الجنسية فيه إلا باللمس الخاص المباشر، الذي لا يقع قطعاً في حالات التداخل والتزاحم ومجالات الملاصقة (التى أظهرها وسائل المواصلات العامة)التى يتحدثون عنها. وهذه المجالات يجرى فها تلامس غير جائز بين الرجال والنساء في أجزاء شتى من الجسم البشري، فهل تعالج هذه الأجزاء بقطع هذه الأجزاء من أجسام الناس جميعاً؟

ومعلوم أن كل عفيف وكل صائبةٍ نفسها يكونان في غاية الألم والأسى إذا وقع شيء من ذلك، وهو يقع عادة دون قصد أو تعمد. ومع هذه الحالة النفسية- التي يكون فيها الأسوياء من الناس، نساء ورجالا، تعساء آسفين مستغرقين حياءً وخجلاً- لا تقع استثارة جنسية أصلاً، لأن مراكز الإحساس في المخ تكون معنية بشأن آخر، غير هذا الشأن الذي لا يكون إلا في طمأنينة تامة وراحة كاملة واستعداد راض، اللهم إلا عند المرضى والشواذ، وهم لا حكم لهم.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو عدم قيام الأدلة على حسب ما ذكر الأستاذ سليم العوا وغيره على اعتبار هذا النوع من الختان واجبا ولا سنة ولا مكرمة.

بل هو عرف من الأعراف التي وجدها الإسلام في البيئة العربية، فلم ينكرها، بل أرشد إلى ما يخفف أضرارها، فلم تشرع ابتداء.

ويدل لهذا قوله صلى الله عليه وآله وسلم لعائشة:(لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله ولجعلت بابها بالأرض ولأدخلت فيها من الحجر)([41])، فقد امتنع صلى الله عليه وآله وسلم من تجديد بناء الكعبة خشية فتنة من أسلم حديثا.

وهكذا هذا الأمر، فإنه كان سائدا في بعض المجتمعات، كعرف من الأعراف، فلذلك أرشد صلى الله عليه وآله وسلم إلى تصليحه، ولم ينه عنه نهيا كليا.

والأمر الثاني هو ما ذكرنا سابقا من أن الختان عملية معقولة المعنى، فلذلك يرجع الأمر فيه إلى أهل الاختصاص، فإن رأوا صحة هذه العملية وجدواها ومنفعتها كان القول قولهم، وإن رأوا عكس ذلك كان القول قولهم كذلك.

هذا فيما يتعلق بحكم الختان، أما ما يطلق عليه الخفاض الفرعوني، وهو يمارس الآن في السودان والصومال وكينيا وأجزاء من أندونيسيا ([42])، فنتيجة للأخطار الكثيرة التي لا شك في مصداقيتها، فإن الحكم الشرعي في هذا النوع من العمليات لا يتوقف عند القول بحرمته، أو كونه كبيرة من الكبائر([43])، بل إنه من الجرائم التي يعاقب فاعلها بكل ما يراه الإمام من صنوف التعزير زيادة على تعويض الفتاة على ما أصباها من أضرار نتيجة هذه العملية.

والأمر في ذلك لا يختلف عما ذكره الفقهاء من تضمين الخاتن إذا ما تسبب في الإضرار بالمختون.

فقد اتفق الفقهاء على تضمين الخاتن إذا مات المختون بسبب سراية جرح الختان، أو إذا جاوز القطع إلى الحشفة أو بعضها أو قطع في غير محل القطع.

وللفقهاء بعض التفاصيل التي يمكن الاستفادة منها هنا في وضع أنواع العقوبات التعزيرية المرتبطة بهذا النوع من العمليات:

فقد نص الحنفية على أن الخاتن إذا ختن صبيا فقطع حشفته ومات الصبي، فعلى عاقلة الخاتن نصف ديته، وإن لم يمت فعلى عاقلته الدية كلها، وذلك لأن الموت حصل بفعلين: أحدهما مأذون فيه وهو قطع القلفة، والآخر غير مأذون فيه وهو قطع الحشفة، فيجب نصف الضمان. أما إذا برئ فيجعل قطع الجلدة وهو المأذون فيه كأن لم يكن، وقطع الحشفة غير مأذون فيه فوجب ضمان الحشفة كاملا وهو الدية ؛ لأن الحشفة عضو مقصود لا ثاني له في النفس فيقدر بدله ببدل النفس كما في قطع اللسان.

ونص المالكية على أن الخاتن إن كان من أهل المعرفة بالختان وأخطأ في فعله فالدية على عاقلته، فإن لم يكن من أهل المعرفة عوقب، وفي كون الدية على عاقلته أو في ماله قولان: فلابن القاسم إنها على العاقلة، وعن مالك وهو الراجح إنها في ماله. لأن فعله عمد والعاقلة لا تحمل عمدا.

ونص الشافعية على أن الخاتن إذا تعدى بالجرح المهلك، كأن ختنه في سن لا يحتمله لضعف ونحوه أو شدة حر أو برد فمات لزمه القصاص، فإن ظن كونه محتملا فالمتجه عدم القود لانتفاء التعدي. ويستثنى من حكم القود الوالد وإن علا ؛ لأنه لا يقتل بولده، وتلزمه دية مغلظة في ماله لأنه عمد محض. فإن احتمل الختان وختنه ولي، أو وصي، أو قيم فمات، فلا ضمان في الأصح لإحسانه بالختان، إذ هو أسهل عليه ما دام صغيرا بخلاف الأجنبي لتعديه ولو مع قصد إقامة الشعار. ولم ير الزركشي القود في هذه الحالة على الأجنبي أيضا لأنه ظن أنه يقيم شعيرة.

ونص الحنابلة على أنه لا ضمان على الخاتن إذا عرف منه حذق الصنعة، ولم تجن يده ؛ لأنه فعل فعلا مباحا فلم يضمن سرايته كما في الحدود، وكذلك لا ضمان إذا كان الختان بإذن وليه، أو ولي غيره أو الحاكم. فإن لم يكن له حذق في الصنعة ضمن ؛ لأنه لا يحل له مباشرة القطع، فإن قطع فقد فعل محرما غير مأذون فيه، وكذلك يضمن إذا أذن له الولي وكان حاذقا ولكن جنت يده ولو خطأ، مثل أن جاوز قطع الختان فقطع الحشفة أو بعضها، أو غير محل القطع، أو قطع بآلة يكثر ألمها، أو في وقت لا يصلح القطع فيه، وكذلك يضمن إذا قطع بغير إذن الولي.

وقد نص الفقهاء ـ بخصوص هذه المسألة ـ على أن في قطع الشفرين الدية الكاملة، والدية عقوبة لمن يدفعها وتعويض لمن يستحقها. وعللوا ذلك بأنه بهذين الشفرين يقع الالتذاذ بالجماع، فكل فوات لهذا الالتذاذ أو بعضٍ منه يوجب هذه العقوبة التعويضية، ومنع سببه جائز قطعاً، بل هو أولى من انتظار وقوعه ثم محاولة تعليله أو تحليله([44]).

ثالثا ـ حق الأولاد في الرضاعة

اتفق الفقهاء على أنه يجب إرضاع الطفل ما دام في حاجة إليه، وما دام في سن الرضاع، واختلفوا فيمن تجب عليه، هل الأم أو الأب، أي هل يمكن للأم أن ترفض رضاعة ولدها بحيث يضطر الأب إلى استرضاع امرأة أخرى أم لا، على الأقوال التالية:

القول الأول: يجب على الأب استرضاع ولده، ولا يجب على الأم الإرضاع، وليس للزوج إجبارها عليه، دنيئة كانت أم شريفة، في عصمة الأب كانت أم بائنة منه، إلا إذا تعينت بأن لم يجد الأب من ترضع له غيرها، أو لم يقبل الطفل ثدي غيرها، أو لم يكن للأب ولا للطفل مال، فيجب عليها حينئذ، وهو قول الشافعية([45]) والحنابلة، قال الشافعي معبرا عن هذا القول:(لا يلزم المرأة رضاع ولدها كانت عند زوجها، أو لم تكن إلا إن شاءت وسواء كانت شريفة، أو دنية، أو موسرة، أو معسرة)([46])، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ قوله تعالى:{ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى)(الطلاق:6)، وإن اختلفا فقد تعاسرا.

2 ـ أن قوله تعالى:{ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ)(البقرة:233)([47]) محمول على حال الاتفاق وعدم التعاسر.

3 ـ أن إجبار الأم على الرضاع لا يخلو: إما أن يكون لحق الولد، أو لحق الزوج، أو لهما، ولا يجوز أن يكون لحق الزوج، لأنه لا يملك إجبارها على رضاع ولده من غيرها، ولا على خدمة نفسه فيما يختص به. ولا يجوز أن يكون لحق الولد ؛ لأنه لو كان لحقه للزمها بعد الفرقة ولم يقله أحد.

4 ـ أن الرضاع مما يلزم الوالد لولده، فلزم الأب على الخصوص كالنفقة، أو كما بعد الفرقة، ولا يجوز أن يكون لهما ؛ لأن ما لا مناسبة فيه لا يثبت الحكم بانضمام بعضه إلى بعض.

5 ـ أنه لو كان لهما لثبت الحكم به بعد الفرقة.

القول الثاني: يجب على الأم ديانة لا قضاء، وهو قول الحنفية، قال الكاساني بعد إيراده لأدلة عدم إجبار المرأة على الإرضاع:(وهذا في الحكم، وأما في الفتوى فتفتى بأنها ترضعه)، واستدلوا على ذلك بما يلي ([48]):

1 ـ قوله تعالى:{ لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا } (البقرة:233)قيل في بعض تأويلات الآية: أي لا تضار بولدها بأن ترميه على الزوج بعد ما عرفها وألفها ولا ترضعه فيتضرر الولد ومتى تضرر الولد تضرر الوالد ؛ لأنه يتألم قلبه بذلك، وقد قال الله تعالى:{ وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} (البقرة:233)أي: لا يضار المولود له بسبب الإضرار بولده.

2 ـ أن النكاح عقد سكن وازدواج وذلك لا يحصل إلا باجتماعهما على مصالح النكاح ومنها إرضاع الولد.

3 ـ قوله تعالى:{ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوف} (البقرة:233)، فقد جعل عليها الرضاع بحذاء ما أوجب لها من النفقة والكسوة، فكيف يجوز إلزامها ذلك بغير بدل.

4 ـ أن لزوم النفقة للأب بدلا من الرضاع يوجب أن تكون تلك المنافع في الحكم حاصلة للأب ملكا باستحقاق البدل عليه، فاستحال إيجابها على الأم، وقد أوجبها الله تعالى على الأب بإلزامها بدلها من النفقة والكسوة.

5 ـ أن قوله تعالى:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} (البقرة:233)ليس فيه إيجاب الرضاع عليها، وإنما جعل به الرضاع حقا لها ؛ لأنه لا خلاف أنها لا تجبر على الرضاع إذا أبت وكان الأب حيا ؛ وقد نص الله على ذلك في قوله تعالى:{وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} (الطلاق:6)، فلا يصح الاستدلال بالآية على إيجاب الرضاع عليها في حال فقد الأب، وهو لم يقتض إيجابه عليها في حال حياته، وهو المنصوص عليه في الآية.

6 ـ أنها إن كانت منافع الرضاع مستحقة عليها للولد في حال فقد الأب، فواجب أن يكون ذلك عليها في مالها إذا تعذر عليها الرضاع، كما وجب على الأب استرضاعه. وإن لم تكن منافع الرضاع مستحقة عليها في مالها، فغير جائز إلزامها الرضاع ؛ وما الفرق بين لزومها منافع الرضاع وبين لزوم ذلك في مالها إذا تعذر عليها؟

7 ـ عن أبي إسحاق الشيباني قال: أتي عبد الله بن عتبة بن مسعود في رجل تزوج امرأة ولها ولد ترضعه فأبى الزوج أن ترضعه؟ فقضى عبد الله بن عتبة أن لا ترضعه؟

القول الثالث: يجب الرضاع على الأم بلا أجرة إن كانت ممن يرضع مثلها، وكانت في عصمة الأب، ولو حكما كالرجعية، أما البائن من الأب، والشريفة التي لا يرضع مثلها فلا يجب عليها الرضاع، إلا إذا تعينت الأم لذلك بأن لم يوجد غيرها، وهو قول المالكية، الشريعة فيها، إلا أن مالكا دون فقهاء الأمصار استثنى الحسيبة، فقال: لا يلزمها إرضاعه، فأخرجها من الآية)

واستدل ابن العربي لذلك بأن مالكا لجأ في هذا إلى العمل بالمصلحة، ووجهها ـ كما يذكر ابن العربي ـ (هو أن هذا أمر كان في الجاهلية في ذوي الحسب، وجاء الإسلام عليه فلم يغيره ؛ وتمادى ذوو الثروة والأحساب على تفريغ الأمهات للمتعة بدفع الرضعاء إلى المراضع إلى زمانه، فقال به، وإلى زماننا؛ فحققناه شرعا)([49])

أما النص الوارد في ذلك وهو قوله تعالى:{ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ }(البقرة:233)، فقد ألغوا الاستدلال به على لـ (أنه لفظ محتمل لكونه حقا عليها أو لها، لكن العرف يقضي بأنه عليها، إلا أن تكون شريفة، وما جرى به العرف فهو كالشرط حسبما بيناه في أصول الفقه من أن العرف والعادة أصل من أصول الشريعة يقضى به في الأحكام [والعادة] إذا كانت شريفة ألا ترضع فلا يلزمها ذلك)([50])

القول الرابع: هو وجوب الرضاعة على الأم ديانة وقضاء، وهو قول الظاهرية، وقد نسبه ابن حزم لابن أبي ليلى، والحسن بن حي، وأبي ثور، وأبي سليمان، قال ابن حزم معبرا عن مذهبه في هذه المسألة:(الواجب على كل والدة – حرة كانت أو أمة – في عصمة زوج أو في ملك سيد، أو كانت خلوا منهما – لحق ولدها بالذي تولد من مائه أو لم يلحق – أن ترضع ولدها – أحبت أم كرهت، ولو أنها بنت الخليفة – وتجبر على ذلك إلا أن تكون مطلقة–)

 وفي حال كونها مطلقة لا تجبر على إرضاع ولدها من الذي طلقها إلا أن شاءت هي ذلك، وفي هذه الحالة ينص ابن حزم على أن (لها ذلك – أحب أبوه أم كره، أحب الذي تزوجها بعده أم كره)

وفي حال عدم وجوب الرضاع عليها وتعاسرت هي وأبو الرضيع فإنه يؤمر الوالد بأن يسترضع لولده امرأة أخرى، فإن رفض قبول ثديها تجبر أمه على إرضاعه، قال ابن حزم:(فتجبر حينئذ – أحبت أم كرهت، أحب زوجها إن كان لها أم كره –)

ونفس الشيء في حال موت أبي الرضيع، أو إفلاسه، أو غيابه بحيث لا يقدر على طلب الرضاع له، فإن ابن حزم ينص على إجبار أمه على إرضاعه (إلا أن لا يكون لها لبن، أو كان لها لبن يضر به: فإنه يسترضع له غيرها، ويتبع الأب بذلك إن كان حيا وله مال)

وينص ابن حزم على جواز اتفاقا الوالدين على استرضاع امرأة أخرى إذا قبل ثديها، يقول في ذلك:(فإن لم تكن مطلقة لكن في عصمته أو منفسخة النكاح منه أو من عقد فاسد بجهل، فاتفق أبوه وهي على استرضاعه وقبل غير ثديها فذلك جائز)

وهذا بشرط اتفاق الطرفين، فلذلك لو أراد أبوه ذلك فأبت هي إلا إرضاعه فلها ذلك، ومثل ذلك ما لو أرادت هي أن تسترضع له غيرها وأبى الوالد: لم يكن لها ذلك، وأجبرت على إرضاعه – قبل غير ثديها أو لم يقبل غير ثديها – إلا أن يكون لها لبن، أو كان لبنها يضر به: فعلى الوالد حينئذ أن يسترضع لولده غيرها.

وإذا لم يكن لهذا الرضيع أب إما بسبب فساد الوطء ككونه ابن زنا، أو إكراه، أو لعان، أو بحيث لا يلحق بالذي تولد من مائه، أو بموت والده، (فالأم تجبر على إرضاعه، إلا أن لا يكون لها لبن، أو كان لها لبن يضر به، أو ماتت أمه، أو غابت حيث لا يقدر عليها: فيسترضع له غيرها، سواء في كل ذلك كان للرضيع مال أو لم يكن)، واستدل على ذلك بما يلي:

1 ـ قول الله تعالى:{ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ}(البقرة:233)، وهذا عموم لا يحل لأحد أن يخص منه شيئا إلا ما خصه نص ثابت وإلا فهو كذب على الله تعالى، ولا يرد الاستدلال بهذه الآية ورودها بصيغة الخبر لا الأمر، قال ابن حزم:(فإن قيل: هذا خبر لا أمر؟ قلنا: هذا أشد عليكم، إذ أخبر تعالى بذلك، فمخالف خبره ساع في تكذيب ما أخبر الله تعالى وفي هذا ما فيه)

2 ـ قول الله تعالى:{ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ }(الأنعام:140)، وقوله تعالى:{ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)(المائدة:2)، وقوله تعالى:{ لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ }(البقرة:233)، وهذه هي المضارة حقا، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:(من لا يرحم الناس لا يرحمه الله)

3 ـ دليل عدم إجبار المطلقة على إرضاع ولدها من الذي طلقها إلا أن تشاء هي (فإن شاءت هي ذلك فذلك لها أحب ذلك الذي طلقها أو أبى)قول الله تعالى في سورة الطلاق بعد ذكر المعتدات:{فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى)(الطلاق:6)، فلم يخص تعالى ذات زوج من غيرها ولا جعل في ذلك خيارا للأب ولا للزوج بل جعل الإرضاع إلى الأمهات.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الرابع، لأن الآية واضحة في الدلالة على ذلك من وجوه كثيرة لعل أهمها، وبسببه جاءت الآية بصيغة الخبر لا بصيغة الإنشاء أن عملية الرضاع عملية فطرية للمرأة سواء بتوفر الآلات الكفيلة بذلك، أو بالدواعي النفسية له.

وإنما لم تأت بصيغة الإنشاء لأن الطبيعة السليمة للمرأة تجعلها تقبل عليها من غير شعور بأن في ذلك كلفة أو مشقة، بل هي بالنسبة لها كالأكل والشرب.

ولهذا، فإن تكليف الرجل بالبحث عن مرضعة لابنه قد لا يتوافق لبنها معه، فيه من المشقة ما لا يصح تكليفه به، زيادة على ما جبل الله به نفس الصبي من الحنين إلى أمه أكثر من حنينه إلى غيرها، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى:{ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} (القصص:11 ـ 13)

فالآيات وإن وردت إخبارا عن قصة معينة ففيه دلالة على ما جبل الله عليه نفس الصبي من الحنين إلى أمه وعدم ارتياحه لغيرها إلا بشدة.

وهذا ما يثبته علماء النفس الحديث، فهم يتفقون على أن الرضاعة من ثدي الأم – من الناحية النفسية – أفضل بكثير من الرضاعة بالزجاجة، أو من غيرها، ذلك لأنها توجد رابطة لا تنفصم بين الطفل وأمِّه، فالطفل يشعر بلذّة لا توصف من التغذية بالثدي.

بل إنهم ينصحون بإنشاء هذه العلاقة النفسية منذ ولادتها([51])، فينصحون بتقديم الوليد إليها في غرفة الولادة بالمستشفى، أو عندما تتمُّ الولادة في المنزل، والسماح لها بحضنه حتى قبل تغسيله، هذا إن لم تكن هناك معالجات فوريَّة ينبغي إخضاع الوليد لها.

والوليد الجديد يتعرَّف بسرعة على خواص أمِّه، فهو يشم رائحة جسمها، ويحسُّ بحرارته، كما يتعرَّف على الخواصِّ الأخرى لسلوكها، وقد ثبت أن الأطفال الحديثي الولادة الذين تحضنهم أمَّهاتهم إلى صدروهنَّ يقلُّ بكاؤهم، ويتكيفون بصورة أسرع، ويتميزون بمزاجٍ هادئ، ويصبحون أقلُّ عرضةً للإصابة بالأمراض من الأطفال الذين يبقون بعيدين عن أمهاتهم.

وقد ثبت أنَّ خمس عشر دقيقة حتى عشرين دقيقة من الاتصال بين الأم وطفلها تُعدُّ كافية لتوطيد علاقة صحيَّة سليمة بينهما.

وهذا كله يفسِّر سبب تعلق الطفل بأمه دون المربية، كما يفسر كذلك سبب العاطفة التي يبديها الطفل نحو أمِّه التي تقوم بمداعبته، وتوليه اهتماماً بالغاً.

ولكنه مع نموِّ الطفل تزداد قدراته الحسِّيَّة الحركيَّة، ويزداد تبعاً لذلك احتمال مواجهته لأشياء ومواقف جديدة توسع دائرة علاقاته الاجتماعية، فيصبح وجود الأم غير ضروري، لتوفير الحوافز للطفل، بل لأداء وظائف مختلفة.

وانطلاقا من هذه الحقائق العلمية ـ المؤيدة بالأدلة الكثيرة التي لا محل لذكرها هنا ـ لا يصح ما ذكر عن مالك من التفريق بين الشريفة والدنيئة، لأن المتضرر الأكبر بشرف الشريفة هو ابنها الذي هو فلذة كبدها.

فالرضاعة حقه قبل أن تكون واجبا عليها أو على والده، وقد رد ابن حزم بلهجته على هذا ردا عنيفا، فقال:(وهذا قول في غاية الفساد ؛ لأن الشرف هو التقوى، فرب هاشمية أو عبشمية بنت خليفة تموت هزلا، ورب زنجية أو بنت غية قد صارت حرمة مالك، أو أمة)

بل إن هناك زيادة على هذا مصالح كثيرة تتحقق للأم نتيجة لإرضاعها لولدها، ولا بأس أن نسوق هنا بعض ما ذكر المختصون من فوائد تعود على الأم بسبب الرضاعة:

1 ـ الرضاع الطبيعي يفيد بعملية إنطمار الرحم بعد الولادة، نتيجة منعكس يثيره مص الحلمة من قبل الطفل، فيعود حجم الرحم بسرعة أكبر لحجمه الطبيعي وهذا يقلل من الدم النازف بعد الولادة.

2 ـ النساء المرضعات أقل إصابة بسرطان الثدي من النساء غير المرضعات، فمن قواعد سرطان الثدي أنه ـ يصيب العذارى أكثر من المتزوجات المرضعات، فمن قواعد سرطان الثدي أنه يصيب العذارى أكثر من المتزوجات، ويصيب المتزوجات غير المرضعات أكثر من المرضعات، ويصيب المتزوجات قليلات الولادة أكثر من الولادات.فكلما أكثرت المرأة من الإرضاع، قل تعرضها لسرطان الثدي.

3 ـ الإرضاع من الثدي، هو الطريقة الغريزية المثلى لتنظيم النسل، إذ يؤدي الإرضاع لانقطاع الدورة الطمثية بشكل غريزي، ويوفر على المرأة التي ترغب في تأجيل الحمل أو تنظم النسل، مخاطر الوسائل التي قد تلجأ إليها كالحبوب،و الحقن، واللولب…أما آلية ذلك، فهي أن مص حلمة الثدي ن يحرض على إفراز هرمون البرولاكتين من الفص الأمامي للغدة النخامية،و البرولاكتين ينبه الوظيفة الإفرازية لغدة الثدي،و يؤدي لنقص إفراز المنميات والبرولاكتين ينبه الوظيفة الإفرازية لغدة الثدي،و يؤدي لنقص إفراز المنميات التناسلية المسؤلة عن التغيرات الدورية في المبيض، وهذا ما يحصل عند 60% من النساء المرضعات.

4 ـ لإرضاع الأمي يقوي الرابطة الروحية والعاطفة بين الأم ووليدها، ويجعل الأم أكثر عطفاً بطفلها، وهذه الرابطة هي الضمان الوحيد الذي يحدو بالأم للاعتناء بوليدها بنفسها.فهو ليس مجرد عملية مادية، بل هو رابطة مقدسة بين كائنين، تشعر فيه الأم بسعادة عظمى لأنها أصبحت أماً، تقوم على تربية طفل صغير، ليكون غرساً في بستان الحياة.

ونرى كذلك أن الأصل وجوب الرضاع على المطلقة إلا إذا تطوع من تشاء من النساء لإرضاعه، حتى لو تزوجها زوج آخر، وقد قال ابن حزم ردا على من تعلل بعدم الوجوب بسبب زواجها:(فإن قالوا: إنما تزوجها للوطء؟ قلنا: نعم، فكان ماذا؟ وإنما ولدته لترضعه، فحق الصبي قبل حق الذي تزوجها بعد أن ولدته، ولا يمنعه إرضاعها ولدها من وطئه لها)

1 ـ حق الأم في الرضاع:

اختلف الفقهاء ـ بناء على ما سبق ـ فيما لو رغبت الأم في إرضاع ولدها، هل تمكن من ذلك أم لا على قولين:

القول الأول: أن لها الحق في ذلك، فتجاب وجوبا. سواء أكانت مطلقة، أم في عصمة الأب، وهو قول جمهور الفقهاء، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ قوله تعالى:{ لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا)(البقرة:233)، والمنع من إرضاع ولدها مضارة لها.

2 ـ قول الله تعالى:{ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ)(البقرة:233)وهذا خبر يراد به أمر، وهو عام في كل والدة.

3 ـ أنها أحنى على الولد وأشفق، ولبنها أمرأ وأنسب له غالبا.

القول الثاني: للزوج منعها من الإرضاع سواء كان الولد منه أو من غيره، وهو قول الشافعية، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ القياس على حقه في منعها من الخروج من منزله بغير إذنه.

2 ـ أنه يخل باستمتاعه منها، فأشبه ما لو كان الولد من غيره.

الترجيح:

 نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الأول بناء على ما ذكرنا سابقا، بل لا يصح طرح هذه المسألة إطلاقا، فالابن ابنها كما أنه ابن زوجها، فلا يصح استئثار أحدهما به، بل لو صح ذلك لكان للأم بدل الأب، لأنه ـ في ذلك الحين ـ أحوج إليها من أبيه، ويدل على ذلك ما سنراه من أحكام الحضانة.

2 ـ حكم الإرضاع الصناعي

وهي من المسائل المعاصرة، والتي تتطلب الجواب الشرعي، ونقول فيها ابتداء ـ وعلى الحالة العامة ـ انطلاقا من قوله تعالى:{ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (البقرة:233)، وهي الآية التي تشرع أحكام الرضاع، أن الرضاع واجب لا يكفي فيه أي بديل إلا إذا حكم الطبيب المختص بعدم صلاحية لبن الأم للرضاعة أو عدم استعداد الرضيع لرضاعتها.

زيادة على هذا، فإن المقارنة بين الرضاع الطبيعي والإرضاع الصناعي تدل على هذا، ولا بأس أن نسوق بعض المقارنات هنا، كأدلة على ما ذكرنا([52]):

تناسب الحليب مع حاجة الرضيع:

يتطور تركيب حليب الأم من يوم لآخر بما يلائم حاجة الرضيع الغذائية، وتحمل جسمه، وبما يلائم غريزته وأجهزته التي تتطور يوماً بعد يوم ن وذلك عكس الحليب الصناعي الثابت التركيب: فمثلاً يفرز الثديان في الأيام الأولى اللبن Colostrm الذي يحوي أضعاف ما يحوي اللبن من البروتين والعناصر المعدنية، لكنه فقير بالدسم والسكر، كما يحوي أضدادا لرفع مناعة الوليد، وله فعل ملين، هو الغذاء المثالي للوليد.

كما يخف إدرار اللبن من ثدي الأم، أو يخف تركيزه بين فترة وأخرى بشكل غريزي وذلك لإزاحة الجهاز الهضمي عند الوليد، ثم يعود بعدها بما يلائم حاجة الطفل.

سهولة الهضم:

لبن الأم أسهل هضماً لاحتوائه على خمائر هاضمة تساعد خمائر المعدة عند الطفل على الهضم، وتستطيع المعدة إفراغ محتواها منه بعد ساعة ونصف، وتبقى حموضة المعدة طبيعية ومناسبة للقضاء على الجراثيم التي تصلها. بينما يتأخر هضم خثرات الجبن في حليب البقر، لثلاثة أو أربع ساعات، كما تعدل الأملاح الكثيرة الموجودة في حليب البقر حموضة المعدة،و تنقصها مما يسمح للجراثيم وخاصة الكولونية بالتكاثر مما يؤدي للإسهال والإقياء.

وبالإضافة إلى هذا يسبب لبن البقر مضاعفات عدم تحمل وتحسس، لا تشاهد في الإرضاع الطبيعي كالإسهال والنزف المعوي والتغوط الأسود ومظاهر التجسس الشائع، كما إن الإلعاب والمغص والإكزما البنيوية أقل تواجداً في الإرضاع الطبيعي.

التعقيم:

حليب الأم معقم، بينما يندر أن يخلو الحليب في الرضاع الصناعي من التلوث الجرثومي، وذلك يحدث إما عند عملية الحلب، أو باستخدام الآنية المختلفة أو بتلوث زجاجة الإرضاع.

درجة الحرارة:

درجة حرارة لبن الأم ثابتة وملائمة لحرارة الطفل، ولا يتوفر ذلك دائماً في الإرضاع الصناعي.

الإرضاع الطبيعي أقل كلفة، بل لا يكلف أي شيء من الناحية الاقتصادية.

تقوية المناعة:

يحوي لبن الأم أجسام ضدية نوعية، تساعد الطفل على مقاومة الأمراض، وتواجد بنسبة أقل بكثير في حليب البقر، كما أنها غير نوعية، ولهذا فمن الثابت أن الأطفال الذين يرضعون من أمهاتهم أقل عرضة للإنتان ممن يعتمدون على الإرضاع الصناعي.

والإرضاع الطبيعي يدعم الزمرة الجرثومية الطبيعية في الأمعاء ذات الدور الفعال في امتصاص الفيتامينات وغيرها من العناصر الغذائية، بينما يسبب الإرضاع الصناعي اضطراب هذه الزمرة.

ويهيء الإرضاع الطفل للإصابة أكثر، بأمراض مختلفة، كالتهابات الطرق التنفسية، وتحدد الرئة المزمن الذي يرتبط بترسب بروتين اللبن في بلاسما الطفل وحذف لبن البقر من غذاء الطفل يؤدي لتحسنه من المرض. وكذلك التهاب الأذن الوسطى، لأن الطفل في الإرضاع الصناعي يتناول وجبته وهو مضطجع على ظهره، فعند قيام الطفل بأول عملية بلع بعد الرضاعة ينفتح نفير أوستاش ويدخل الحليب واللعاب إلى الأذن الوسطى مؤدياً لالتهابها.

وتزيد حالات التهاب اللثة والأنسجة الداعمة للسن بنسبة ثلاثة أضعاف، عن الذين يرضعون من الثدي. أما تشنج الحنجرة، فلا يشاهد عند الأطفال الذين يعتمدون على رضاعة الثدي.

وهذه الفروق وغيرها، تفسر لنا نسبة الوفيات عند الأطفال الذين يعتمدون الإرضاع الصناعي عن نسبة وفيات إخوانهم الذين من الثدي بمقدار أربعة أضعاف رغم كل التحسينات التي أدخلت على طريقة إعداد الحليب في الطرق الصناعية، وعلى طريقة إعطائه للرضيع..

الفوائد النفسية والاجتماعية:

زيادة على هذه الفوائد الصحية، هناك فوائد نفسية واجتماعية كثيرة، فقد أكد علماء النفس([53]) أن الرضاعة (ليست مجرد إشباع حاجة عضوية إنما هو موقف نفسي اجتماعي شامل، تشمل الرضيع والأم وهو أول فرصة للتفاعل الاجتماعي)

وفي الرضاعة يشعر الطفل بالحنان والحب والطمأنينة ويحدث اندماج في المشاعر بين الطفل وأمه وهذا يحدث من التصاقه بأمه أثناء الرضاعة وخصوصا الرضاعة لفترة طويلة وبذلك تقوي العلاقة بين الطفل والام من خلال الرضاعة الطبيعية عكس الطفل الذي يأخذ غذاءه عن طريق الرضاعة الصناعية فهو محروم من الحب والحنان والشعور بالأمن فهو دائما خائف وتكون العلاقة بينه وبين أمه مضطربة الى حد كبير مما يؤدي فيما بعد أو أثناء فترة الطفولة الى الاستعداد للإصابة بالأمراض النفسية المختلفة.

والرضاعة الطبيعية تعد مناعة الطبيعية ضد حدوث المرض النفسي والعقلي سواء في فترة الطفولة أو باقي مراحل الحياة وعلى اثر ما نشر من الأبحاث في تأثير الرضاعة الطبيعية والرضاعة الصناعية على الصحة النفسية والعقلية للطفل فقد وجد أن الأطفال الذين تم تغذيتهم عن طريق الرضاعة الطبيعية أكثر ذكاء ويمتازون بسلوكيات سوية مثل التعامل مع الآخرين والتفاعل الجيد والسليم مع المواقف والتفكير السليم والمشاعر الاجتماعية النبيلة ودرجة الانتباه الجيدة وقدراته على التقاط المعلومات الجيدة، أيضا كان لديهم بصيرة قوية عن أنفسهم عما يدور من حولهم أما من الأطفال الذين كانوا يتعاطون عن طريق الرضاعة الصناعية كانوا أقل ذكاء وأكثر توترا وأقل تعاونا مع الآخرين وكانوا يعانون من بعض الأمراض النفسية مثل الحركة الزائدة أو التخلف في بعض منهم والتردد والإصابة بالنزعات العصبية والأزمات وكذلك الأنانية والتمركز حول الذات والعنف والاندفاعية والبعض منهم كان مصابا بالأفعال القهرية وعدم الثبات في المشاعر والقلق المستمر والاكتئاب والمخاوف العديدة واضطراب التفكير واضطراب الكلام مثل التلعثم وغيرها وعدم التركيز وقلة الانتباه والبعد عن الواقع وقلة البصيرة وقلة الحصول على المعلومات العامة واصابة بعضهم بالاضطرابات العديدة في السلوك والتصرفات المضادة للمجتمع.

الفوائد الاقتصادية:

زيادة على هذا، فإن في الرضاعة الطبيعية فوائد اقتصادية كبيرة، لا على الأسرة وحدها بل على المجتمع جميعا، ولهذا نرى حرص الشركات الكبرى الممونة للرضاعة الصناعية على إشهار منتوجات تحت ألبسة مختلفة، وقد ورد في مقال تحت عنوان (معونات الألبان الصناعية.. خطـر يهدد أطفال العالم)للدكتور: محمد مصطفى كامل مروان، قوله:

 يعتبر مسحوق اللبن الصناعي صنفا محببا من أصناف الغذاء الذي تقدمه الدول الغنية إلى الدول التي تعاني من كوارث ومجاعات، ولكن المعارضة على هذه المعونات تتزايد لأنها تعيق استمرار الرضاعة الطبيعية التي تعتبر أفضل وسيلة لحماية الطفل، فاستخدام قارورة الرضاعة مرة واحدة قد يجعل الطفل يعاف الرضاعة من الثدي مرة أخرى، كما تتعرض هذه المساحيق بسهولة إلى التلوث أثناء تحضيرها نتيجة لتدني مستويات النظافة في المناطق المنكوبة، وهذا كله يعرض الأطفال في تلك المجتمعات الفقيرة للخطر، ويهدد بانتشار أوبئة الإسهال والنزلات الشعبية والرئوية القاتلة.

وعلى الرغم من توصيات خبراء التغذية بعدم التوسع في استخدامها، مازالت المجتمعات الدولية تقدم الألبان الصناعية كمعونات، وتعتبر منظمة الصليب الأحمر أكبر المنظمات التي توزع الألبان الصناعية في العالم، وأحد الأسباب الهامة وراء انخفاض معدلات الرضاعة الطبيعية كان بسبب برامج المساعدات الدولية في فترة الأربعينيات والخمسينيات.

وقد كان فائض إنتاج اللبن الصناعي عن حاجة الدول الغربية في عام 1986م وحده، يمكن أن يملأ استاد الكولوسيوم في روما إلى ارتفاع 41 كيلو مترا في السماء، ولذا تقبل الدول الغربية بشغف على توزيعه كمعونات حتى تتخلص من المختزن لديها، وهي في نفس الوقت تشعر بالراحة لأنها توزعه على المحتاجين، واللبن عند أغلب الناس رمز للغذاء الصحي المفيد.

وعلى الجانب الآخر، ينظر المستقبلون للمعونات بعين الرضاء إلى اللبن الصناعي، على سبيل المثال طلبت البرازيل ـ عقب إصابتها بفيضانات مدمرة ـ إمدادها بمعونات اللبن وقوارير الرضاعة والحلمات الصناعية، وعلى الفور نصحها المختصون بالرابطة المشتركة للهلال والصليب الأحمر بعدم جدوى هذا، ومع هذا أصرت حكومة البرازيل على طلبها، وحصلت على ما تريده من فروع منظمة الصليب الأحمر الأوروبي، وساهم الصليب الأحمر الفرنسي في توزيع أقراص مصنعة من مسحوق اللبن المجفف، وذلك على الرغم من سياسة تمنع توزيعها.

وفي إثيوبيا.. لم ينفع توزيع الألبان المجففة على البالغين، فاللبن لا يعتبر غذاء رئيسيا على موائدهم، وكان من الممكن أن يوزع أصناف أخرى من أغذية معروفة لديهم، والمختصون يرون أن مع اعتياد الناس على هذه الوجبات الجديدة يزداد الطلب عليها، ويتناقص المخزون منها، وبالتالي ترتفع أسعارها.

وتحكي إحدى المختصات عن منظر أهلها عقب زيارتها إحدى مناطق الكوارث في بنجلاديش، وهو منظر أم وابنتها يعيشان في العراء دون مأوى، وهما ترضعان أحد الأطفال من قارورة ـ حصلت عليها من المعونات الأجنبية ـ وتحت ظروف قاسية لا تجد فيها ماء صالحا لغسل القارورة وتخفيف اللبن.

وتستورد سيراليون الألبان من الولايات المتحدة الأمريكية وتوزعها الجماعات المسيحية الكاثوليكية على الفقراء، اللبن مع الزيت يوزعان على الأمهات اللاتي يراجعن العيادات في المستشفيات، ولهذا تفضل الأمهات الذهاب إلى العيادات سعيا وراء المعونات المجانية، بينما لا يرى الأطباء أي جدوى من هذه المواد، ونتيجة لذلك انخفضت نسبة الأمهات اللاتي يرضعن طبيعيا من 57% عام 1979م إلى 53% عام 1989م، وفي الجزء الغربي من سيراليون لا يرضع من الثدي سوى 31% فقط من الأطفال، والباقين أغلبهم يعانون من سوء التغذية، وأثناء الفياضانات التي ضربت جواتيمالا عامي 1983م ـ 1984م استوردت منظمة اليونيسيف وقتها ألبانا مجففة ووزعتها على الأطفال، وعلى الرغم من نصحها الأمهات بعدم استخدام قارورة الرضاعة في إطعام الأطفال، استخدمت الأمهات القوارير، وتلوثت عبوات الألبان فور فتحها، وتسبب ذلك في انتشار الأمراض، وفي النهاية فشل برنامج المساعدة وتوقف.

وأثناء الحرب الأهلية بنيكاراجوا، وفي أعقاب زلزال المكسيك، وصلت مساعدات الألبان الصناعية، وعلى الفور تناقصت معدلات الرضاعة الطبيعية.

إن معونات الألبان الصناعية تهدد الرضاعة الطبيعية، وتوجد اعتمادا مستمرا عليها من الدول المحتاجة، وفي النهاية يقع الضرر على المحتاجين بينما ينتفع من ذلك الدول المتبرعة التي يزداد الطلب والشراء على منتجاتها.

3 ـ أحكام استئجار المرضع

اتفق الفقهاء([54]) على جواز استئجار المرضع، بل وقع الإجماع على ذلك، قال ابن قدامة:(أجمع أهل العلم على جواز استئجار الظئر، وهي: المرضعة)([55])، ومن الأدلة على ذلك:

1 ـ ورود النص على ذلك في القرآن الكريم، قال تعالى:{ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ)(الطلاق:6)

2 ـ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استرضع لولده إبراهيم.

3 ـ أن الحاجة تدعو إليه فوق حاجتها إلى غيره، لأن الطفل في العادة إنما يعيش بالرضاع، وقد يتعذر رضاعه من أمه، فجاز ذلك كالإجارة في سائر المنافع.

وبناء على هذا اعتبر الفقهاء الرضاع نوعا من أنواع الإجارة، فلذلك خصوه ببعض المسائل التي تشترك مع الإجارة في أركانها وشروطها وتفاصيلها، وسنذكر أهم المسائل هنا مصنفة بحسب أركان الإجارة:

الركن الأول: المعقودعليه

اختلف الفقهاء في المعقود عليه في الرضاع، هل هو خدمة الصبي وحمله ووضع الثدي في فمه، واللبن تبع، أم أن اللبن هو المعقود عليه والخدمة تبع، على قولين:

القول الأول: هو خدمة الصبي وحمله ووضع الثدي في فمه واللبن تبع، كالصبغ في إجارة الصباغ، وماء البئر في الدار ؛ لأن اللبن عين من الأعيان، فلا يعقد عليه في الإجارة، كلبن غير الآدمي.

القول الثاني: هو اللبن، ومن الأدلة على ذلك:

1 ـ أنه المقصود دون الخدمة، ولهذا لو أرضعته دون أن تخدمه، استحقت الأجرة، ولو خدمته بدون الرضاع، لم تستحق شيئا.

2 ـ قوله تعالى:{ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ)(الطلاق:6)، فجعل الأجر مرتبا على الإرضاع، فيدل على أنه المعقود عليه.

3 ـ أن العقد لو كان على الخدمة، لما لزمها سقيه لبنها.

4 ـ جاز كونه عينا في الإجارة من باب الرخصة ؛ لأن غيره لا يقوم مقامه، والضرورة تدعو إلى استيفائه، وإنما جاز هذا في الآدميين دون سائر الحيوان، للضرورة إلى حفظ الآدمي، والحاجة إلى إبقائه.

الترجيح:

 نرى أن الأرجح في المسألة هو أن هذا يخضع لما تراضى عليه الطرفان، فإن لم ينصا على ذلك في العقد عاد الأمر إلى ما تعارفوا عليه عرفا، فإن لم يكن هناك عرف تحاكموا إلى حكام عدول ليحكموا بقدر ما يتطلبه عملها من جهد.

علاقة الحضانة بالرضاعة في الاستئجار:

اتفق الفقهاء على جواز استئجار الظئر للرضاع دون الحضانة، أو للحضانة دون الرضاع، أو لهما معا([56])، واختلفوا فيما لو أطلق العقد على الرضاع، هل تدخل فيه الحضانة، أم لا على قولين:

القول الأول: لا تدخل فيه الحضانة، وهو قول أبي ثور، وابن المنذر، وقول للحنابلة والشافعية ؛ لأن العقد ما تناولها.

القول الثاني: تدخل فيه الحضانة، وهو قول أصحاب الرأي ؛ وقول للحنابلة والشافعية، لأن العرف جار بأن المرضعة تحضن الصبي، فحمل الإطلاق على ما جرى به العرف والعادة.

الترجيح:

 نرى أن الأرجح في المسألة هو ما دل عليه العرف، وهو ما ذهب إليه أصحاب القول الثاني، قال السرخسي:(والمرجع في ذلك إلى العرف في كل موضع وهو أصل كبير في الإجارة فإن ما يكون من التوابع غير مشروط في العقد يعتبر فيه العرف في كل بلدة)

وضرب مثلا لذلك، فقال:(حتى قيل: في استئجار اللبان: إن الزنبيل والملبن على صاحب اللبن بناء على عرفهم، والسلك والإبرة على الخياط باعتبار العرف والدقيق على صاحب الثوب دون الحائك فإن كان عرف أهل البلدة بخلاف ذلك فهو على ما يتعارفون)

ما تطالب به المرضعة:

نص الفقهاء على أن المرضعة مطالبة بأن تأكل وتشرب ما يدر به لبنها، ويصلح به، وللمستأجر مطالبتها بذلك ؛ لأنه من تمام التمكين من الرضاع، وفي تركه إضرار بالصبي.

واتفقوا على أنها لو سقته لبن الغنم، أو أطعمته على أنه لا أجر لها ؛ لأنها لم توف المعقود عليه، وذلك كما لو اكتراها لخياطة ثوب، فلم تخطه.

أما إذا دفعته إلى من يرضعه بدلها، فقد اختلف الفقهاء في ذلك على قولين:

القول الأول: لا أجر لها ؛ وهو قول أبي ثور وأحمد، واستدلوا على ذلك بأنها لم ترضعه، فأشبه ما لو سقته لبن الغنم.

القول الثاني: لها أجرها، وهو قول الحنفية، لأن رضاعه حصل بفعلها.

الترجيح:

 نرى أن الأرجح في المسألة هو النظر في مصلحة الصبي، فإن تحققت المصلحة، استحقت الأجر على ذلك، وإلا لم تستحق شيئا.

ونرى أن يبقى الأولياء على اتصال دائم بالمرضع للنظر في أدائها لما كلفت به، ولما تحتاجه حتى يسد الضرر قبل أن يستفحل.

أمانة المرضع:

نص الفقهاء على اعتبار المرضع أمينة فيما ندبت له من إجارة، فلذلك لا تتهم فيما لو ضاع الصبي من يدها، أو وقع فمات، أو سرق من حلي الصبي، أو من ثيابه شيء.

فلا تضمن الظئر شيئا من ذلك، وذلك لأنها بمنزلة الأجير الخاص فإن العقد ورد على منافعها في المدة، فلذلك لا تشغل نفسها في تلك المدة عن رضاع الصبي، ولا تؤاجر نفسها من غيرهم.

والأجير الخاص أمين فيما في يده بخلاف الأجير المشترك على قول من يضمنه.

الركن الثاني: الأجير

استئجار الأم:

اختلف الفقهاء فيم لو طلبت الأم([57]) إرضاع ابنها بأجرة مثلها، هل تمكن من ذلك، أم لا على الأقوال التالية:

القول الأول: هي أحق به، سواء كانت في حال الزوجية أو بعدها، وسواء وجد الأب مرضعة متبرعة أو لم يجد، وهو قول الحنابلة، أما إن كانت مطلقة، فطلبت أجر المثل، فأراد انتزاعه منها ليسلمه إلى من ترضعه بأجر المثل أو أكثر، لم يكن له ذلك، وإن وجد متبرعة، أو من ترضعه بدون أجر المثل، فله انتزاعه منها، أما إن طلبت الأم أكثر من أجر مثلها، ووجد الأب من ترضعه بأجر مثلها، أو متبرعة، جاز انتزاعه منها وإن لم يجد مرضعة إلا بمثل تلك الأجرة، فالأم أحق، واستدلوا على هذه التفاصيل بما يلي:

1 ـ الدليل على وجوب تقديم الأم، إذا طلبت أجر مثلها، على المتبرعة هو قوله تعالى:{ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوف}(البقرة:233)، وقوله تعالى:{ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ }(الطلاق:6)

2 ـ أن الأم أحنى وأشفق، ولبنها أمرأ من لبن غيرها، فكانت أحق به من غيرها، كما لو طلبت الأجنبية رضاعه بأجر مثلها.

3 ـ أن في رضاع غير الأم تفويتا لحق الأم من الحضانة، وإضرارا بالولد، ولا يجوز تفويت حق الحضانة الواجب، والإضرار بالولد لغرض إسقاط حق أوجبه الله تعالى على الأب.

4 ـ أن كل عقد يصح أن تعقده مع غير الزوج، يصح أن تعقده معه، كالبيع.

5 ـ أن منافعها في الرضاع والحضانة غير مستحقة للزوج، بدليل أنه لا يملك إجبارها على حضانة ولدها، ويجوز لها أن تأخذ عليها العوض من غيره، فجاز لها أخذه منه، كثمن مالها.

6 ـ لا يصح ما قاله المخالفون من أنها استحقت عوض الحبس والاستمتاع، لأن استحقاق منفعة من وجه، لا يمنع استحقاق منفعة سواها بعوض آخر، كما لو استأجرها أولا ثم تزوجها.

7 ـ أن القول الثالث يفضي إلى تفويت حق الولد من لبن أمه، وتفويت حق الأم في إرضاعه لبنها، فلم يجز ذلك، كما لو تبرعت برضاعه.

8 ـ يدل على جواز الاستئجار، أنه عقد إجارة يجوز من غير الزوج إذا أذن فيه، فجاز مع الزوج، كإجارة نفسها للخياطة أو الخدمة.

9 ـ اعتبار المخالفين بأن المنافع مملوكة للزوج غير صحيح ؛ لأنه لو ملك منفعة الحضانة، لملك إجبارها عليها، ولم تجز إجارة نفسها لغيره بإذنه، ولكانت الأجرة له، وإنما امتنع إجارة نفسها لأجنبي بغير إذنه، لما فيه من تفويت الاستمتاع في بعض الأوقات ؛ ولهذا جازت بإذنه، وإذا استأجرها، فقد أذن لها في إجارة نفسها، فصح، كما يصح من الأجنبي.

10 ـ إن طلبت الأم أكثر من أجر مثلها جاز انتزاعه منها ؛ لأنها أسقطت حقها باشتطاطها، وطلبها ما ليس لها، فدخلت في عموم قوله تعالى:{ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى)(الطلاق:6)

11 ـ إن لم يجد مرضعة إلا بمثل تلك الأجرة، فالأم أحق ؛ لأنهما تساوتا في الأجر، فكانت الأم أحق، كما لو طلبت كل واحدة منهما أجر مثلها.

القول الثاني: إن كانت في عصمة الزوج، فلزوجها منعها من إرضاعه، وهو قول بعض أصحاب الشافعي، لأنه يفوت حق الاستمتاع بها في بعض الأحيان، وإن استأجرها على رضاعه، لم يجز ؛ لأن المنافع حق له، فلا يجوز أن يستأجر منها ما هو أو بعضه حق له.

القول الثالث: إن طلبت الأجر، لم يلزم الأب بذله لها، ولا يسقط حقها من الحضانة، وتأتي المرضعة ترضعه عندها، وهو قول أبي حنيفة؛ لأنه أمكن الجمع بين الحقين، فلم يجز الإخلال بأحدهما.

الترجيح:

 نرى أن الأرجح في المسألة هو ما ذكرنا سابقا من أن الرضاعة واجبة على الأم ديانة وقضاء، فلذلك لا تستحق الأجرة عليها، والآية واضحة في الدلالة على وجوب النفقة وحدها

إجارة الزوجة:

بما أن المستأجرة للرضاع عادة تكون متزوجة([58])، فقد تحدث الفقهاء عن حكم ذلك، بناء على علاقة هذا الأمر بزوجها، ويمكن تقسيم الأحوال في المسألة إلى الحالتين التاليتين:

حصول الإجارة قبل الزواج:

اتفق الفقهاء على أن المرأة إن أجرت نفسها للرضاع ثم تزوجت، صح زواجها، ولا يملك زوجها فسخ الإجارة، ولا منعها من الرضاع حتى تنقضي المدة، واختلفوا في حق ولي الصبي في منعه من معاشرتها الجنسية على قولين:

القول الأول: ليس لولي الصبي منع هذا الزواج، ولا منعه من معاشرتها، وهو قول الشافعي وأحمد، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ أن منافعها ملكت بعقد سابق على نكاحه، فأشبه ما لو اشترى أمة مستأجرة، أو دارا مشغولة فإن نام الصبي، أو اشتغل بغيرها، فللزوج الاستمتاع، وليس لولي الصبي منعه

2 ـ أن وطء الزوج مستحق بالعقد، فلا يسقط بأمر مشكوك فيه، كما لو أذن الولي فيه.

3 ـ أنه يجوز له الوطء مع إذن الولي، فجاز مع عدمه ؛ لأنه ليس للولي الإذن فيما يضر الصبي، ويسقط حقوقه.

القول الثاني: ليس له وطؤها إلا برضاء الولي، وهو قول مالك؛ واستدلوا على ذلك بأنه يؤدي إلى نقص اللبن.

الترجيح:

 نرى أن الأرجح في المسألة هو ما تراضى عليه الطرفان: الزوج والزوجة، والمرضعة وولي الرضيع، وهو ما سبق ذكره في الشروط المقيدة للعقد، فإن اشترطت الزوجة استمرار إرضاعها لم يكن له الحق في منعها.

وإن اشترط الولي عدم زواجها كان له أن يفسخ عقد الرضاع بزواجها.

أما قول المالكية بأنه ليس له وطؤها إلا برضاء الولي، فلا دليل عليه، وإلا لمنع الزوج من وطء زوجته حال الرضاع، وهو لا يصح، بل قد قال صلى الله عليه وآله وسلم:(لقد هممت أن أنهى عن الغيلة فنظرت في الروم وفارس فإذا هم يغيلون أولادهم فلا يضر أولادهم)([59])

حصول الإجارة بعد الزواج:

 اتفق الفقهاء على أن المرأة المزوجة إن أجرت نفسها للرضاع، بإذن زوجها، جاز، ولزم العقد ؛ لأن الحق لهما، ولا يخرج عنهما، واختلفوا فيما لو أجرت نفسها بغير إذن زوجها على قولين كلاهما وجهان للجنابلة والشافعية:

القول الأول: لا تصح الإجارة ؛ لأنه عقد يفوت به حق من ثبت له الحق بعقد سابق، فلم يصح، كإجارة المستأجر.

القول الثاني: تصح الإجارة، لكن للزوج فسخه؛ ومن الأدلة على ذلك:

1 ـ أنه تناول محلا غير محل النكاح.

2 ـ أنه يفوت به الاستمتاع.

الترجيح:

 نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الثاني بناء على أن للرضاعة تأثيرا في الحياة الزوجية، لأنها تستلزم وجود الرضيع في الأسرة، وهو يتطلب خدمات كثيرة قد تمنع الزوج من الحياة الطبيعية.

فلذلك يرجع الأمر إلى موافقته، فإن وافق صح العقد وإلا بطل.

الركن الثالث: المكلف بدفع أجرة الرضاع

اتفق الفقهاء على أن أجرة الرضاع كالنفقة واجبة على الوالد([60])، لقوله تعالى:{ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (الطلاق:6)أي فعلى الآباء أن يعطوهن أجرة إرضاعهن.

واختلفوا في الصبي إذا لم يكن له أب، هل يجبر وارثه على نفقته ودفع اجرة رضاعه، أم لا على الأقوال التالية:

القول الأول: أن النفقة وأجر الرضاعة تجب على كل وارث لموروثه، وهو قول الحسن، ومجاهد، والنخعي، وقتادة، والحسن بن صالح، وابن أبي ليلى، وأبي ثور وقول الحنابلة في ظاهر المذهب([61])، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ قول الله تعالى:{ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (البقرة:233)، ثم قال تعالى:{ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} (البقرة:233)، فأوجب على الأب نفقة الرضاع، ثم عطف الوارث عليه، فأوجب على الوارث مثل ما أوجب على الوالد.

2 ـ ما روي أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: من أبر؟ قال: أمك وأباك، وأختك وأخاك)، وفي لفظ: ومولاك الذي هو أدناك، حقا واجبا، ورحما موصولا)، وهذا نص ؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ألزمه الصلة والبر والنفقة من الصلة، بل جعلها صلى الله عليه وآله وسلم حقا واجبا.

3 ـ أنه لا يصح الاحتجاج بقول الله تعالى:{ وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } (لأنفال:75)، لأن اللفظ عام في كل ذي رحم، فيكون حجة على المخلفين في عداد الرحم المحرم، وقد اختصت بالوارث في الإرث فكذلك في الإنفاق.

4 ـ أن ما اجتج به أصحاب القول الرابع من الحديث قضية في عين، يحتمل أنه لم يكن له غير من أمر بالإنفاق عليه ؛ ولهذا لم يذكر الوالد والأجداد وأولاد الأولاد.

القول الثاني: أن نفقته وأجر رضاعه على الرجال دون النساء، وهو قول الأوزاعي، وإسحاق، وهو رواية عن أحمد، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ ما روي عن عمر أنه قضى على بني عم منفوس بنفقته، قال ابن المنذر: روي عن عمر أنه حبس عصبة ينفقون على صبي الرجال دون النساء.

2 ـ أنها مواساة ومعونة تختص القرابة، فاختصت بها العصبات، كالعقل.

القول الثالث: تجب النفقة على كل ذي رحم محرم، ولا تجب على غيرهم، وهو قول الحنفية([62])، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ قوله تعالى:{ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ)(البقرة:233)، فقد اعتبر صفة الوراثة في حق غير الأب، فدل ذلك على أنه يكون على الورثة بحسب الميراث، ولكن بعد أن يكون ذا رحم محرم لما ثبت ذلك بقراءة ابن مسعود:(وعلى الوارث ذي الرحم المحرم مثل ذلك)، فإن قراءته لا تختلف عن روايته عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

2 ـ قول الله تعالى:{ وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ)

القول الرابع: لا نفقة إلا على المولودين والوالدين، وهو قول مالك، والشافعي، وابن المنذر، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لرجل سأله: عندي دينار؟ قال: أنفقه على نفسك، قال: عندي آخر؟ قال: أنفقه على ولدك. قال: عندي آخر؟ قال: أنفقه على أهلك. قال: عندي آخر؟ قال: أنفقه على خادمك. قال: عندي آخر؟ قال: أنت أعلم)ولم يأمره بإنفاقه على غير هؤلاء.

2 ـ أن الشرع إنما ورد بنفقة الوالدين والمولودين، ومن سواهم لا يلحق بهم في الولادة وأحكامها، فلا يصح قياسه عليهم.

الترجيح:

 نرى أن الأرجح في المسألة هو القول بوجوب أجرة الرضاع على كل وارث لما صرحت به الآية، وهي قوله تعالى:{ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (البقرة:233)، ثم قال تعالى:{ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} (البقرة:233)، فأوجب على الأب نفقة الرضاع، ثم عطف الوارث عليه، فأوجب على الوارث مثل ما أوجب على الوالد.

فإن لم يكن له وارث، فإن ذلك واجب على كل قريب له، بناء على صراحة النصوص الدالة على هذا، فهذه الأوامر الإلهية المتظافرة الواردة في قوله تعالى:{ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ} (البقرة:177)، وقولهتعالى:{ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً} (النساء:36)، وقوله تعالى:{ وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً(لا يصح التساهل فيها، خاصة مع وروده بصيغة الأمر التي لا تفيد في أصلها إلا الوجوب.

فإن لم يكن له قريب، فذلك واجب كفائي على المسلمين جميعا، وسنرى تفاصيل ذلك في محلها من الجزء الرابع من هذه المجموعة.

الركن الرابع: العوض

اتفق الفقهاء على أن الوالد أو الوارث إذا استأجر مرضعا ترضع صبيا له سنتين حتى تفطمه بأجر معلوم فهو جائز ؛ لأنه استأجرها بعمل معلوم ببدل معلوم.

واتفقوا على أن الأصل هو كون طعامها وكسوتها على نفسها ؛ لأنها شرطت عليهم الأجر المسمى بمقابلة عملها، واتفقوا أنها ترضعه في بيتها إن شاءت وليس عليها أن ترضعه في بيت أبيه ؛ لأنها بالعقد التزمت فعل الإرضاع وما التزمت المقام في بيتهم وهي تقدر على إيفاء ما التزمت في بيت نفسها.

واختلفوا فيما لو اشترطت كسوتها كل سنة، أو اشترطت عند الفطام دراهم مسماة، وقطيفة، ومسحا، وفراشا وطعاما، هل يصح هذا الشرط، فيوفى لها به، أم لا يصح على قولين:

القول الأول: جواز ذلك، وهو قول أبي حنيفة في هذا الموضع خاصة دون سائر الإجارات([63])، ومن الأدلة على ذلك:

1 ـ قوله تعالى:{ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ }(البقرة:233)يعني أجرا على الإرضاع بعد الطلاق، ويؤيده قوله تعالى:{ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ }(البقرة:233)، وهو أجر الرضاع لا نفقة النكاح.

2 ـ أن الناس تعارفوا بهذا العقد بهذه الصفة وليس في عينه نص يبطله.

3 ـ أن في النزوع عن هذا العرف حرج ؛ لأنهم يعدون الظئر من أهل بيتهم فالظاهر أنهم يستنكفون عن تقدير طعامها وكسوتها كما يستنكفون عن تقدير طعام الزوجات وكسوتهن.

4 ـ أن هذا لم يجوز في سائر الإجارات لتمكن المنازعة، وهو لا يوجد هنا ؛ لأنهم لا يمنعون الظئر كفايتها من الطعام ؛ لأن منفعة ذلك ترجع إلى ولدهم وربما يكلفونها أن تأكل فوق الشبع ليكثر لبنها، وكذلك لا يمنعونها كفايتها من الكسوة لكون ولدهم في حجرها.

5 ـ أن أحد العوضين في هذا العقد يتوسع فيه ما لا يتوسع في سائر العقود حتى أن اللبن الذي هو عين حقيقة يستحق بهذه الإجارة دون غيرها، فكذلك يتوسع في العوض الآخر في هذا العقد ما لا يتوسع في غيره.

القول الثاني: لا يجوز إلا أن يسموا لها ثيابا معلومة الجنس والطول والعرض والرقعة ويضربوا لذلك أجلا ويسموا لها كل يوم كيلا من الدقيق معلوما فحينئذ يجوز كما في سائر الإجارات والبيوع، وهو قول أبي يوسف ومحمد والشافعي، وقول أبي ثور وابن المنذر، وهو رواية عن أحمد،فإن أقامت العمل فلها أجر مثلها ؛ لأنها وفت المعقود عليه بحكم عقد فاسد، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ أن هذا عقد إجارة فلا يصح إلا بإعلام الأجرة كما في سائر الإجارات، والطعام مجهول الجنس والمقدار والصفة، والكسوة كذلك هنا، وهذه الجهالة تمنع صحة التسمية كما في سائر الإجارات ؛ لأنها تفضي إلى المنازعة فكذلك هنا.

2 ـ أن هذ القياس يشده الأثر وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(من استأجر أجيرا فليعلمه أجره)

الترجيح:

 نرى أن الأرجح في المسألة هو ما تراضى عليه الطرفان ـ كسائر العقود ـ فإن لم يتراضوا على شيء حكموا العرف، فإن لم يكن هناك عرف حكموا من يقدر الجهد المبذول ليضع له الأحر المعلوم، بشرط عدالته وخبرته.

 إكرام المرضعة:

نص الفقهاء على أنه ـ من باب الكرم والفضل ـ أن تعطى المرضع عند الفطام عبدا أو أمة، من غير إيجاب لذلك، واستدلوا لذلك بما روي عن حجاج بن حجاج الأسلمي، عن أبيه، قال: قلت: يا رسول الله، ما يذهب عني مذمة الرضاع؟ قال: الغرة([64]) العبد أو الأمة)([65])

أي ما يذهب عني الحق الذي تعلق بي للمرضعة لأجل إحسانها إلي بالرضاع، فإني إن لم أكافئها على ذلك صرت مذموما عند الناس بسبب المكافأة([66])، قال القاضي: والمعنى أي شيء يسقط عني حق الرضاع حتى أكون بأدائه مؤديا حق المرضعة بكماله؟ وكانت العرب يستحبون أن يرضخوا للظئر بشيء سوى الأجرة عند الفصال، وهو المسئول عنه في الحديث.

وقد علل العلماء تخصيص الرقبة بالمجازاة بها دون غيرها ؛ لأن فعلها في إرضاعه وحضانته، سبب حياته وبقائه وحفظ رقبته، فاستحب جعل الجزاء هبتها رقبة، ليناسب ما بين النعمة والشكر([67])، ولهذا اعتبر الله تعالى المرضعة أما، فقال تعالى:{ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ)(النساء:23)

وإن كانت المرضعة مملوكة، استحب إعتاقها ؛ لأنه يحصل أخص الرقاب بها، وتحصل به المجازاة التي جعلها النبي صلى الله عليه وآله وسلم مجازاة للوالد من النسب، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم:(لا يجزي ولد والده، إلا أن يجده مملوكا فيعتقه)([68])

ونرى انطلاقا من عدم إمكانية التطبيق الحرفي لهذا الحكم في الوقت الحاضر، وذلك لعدم وجود الرقيق أن يعطى للمرضع أي عطية ذات قيمة أو لها تأثير مهم في حياتها، فقد كانت الغرة من العبيد والإماء عندهم من أفضل أموالهم.

وزيادة على هذه العطية المادية يستحب إكرامها واحترامها وإظهار ذلك لها، ويدل على هذا فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقد روى أبو الطفيل قال: رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقسم لحما بالجعرانة ـ قال أبو الطفيل: وأنا يومئذ غلام أحمل عظم الجزور ـ إذ أقبلت امرأة حتى دنت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فبسط لها رداءه فجلست عليه، فقلت: من هي؟ فقالوا: هذه أمه التي أرضعته)([69])

وهذه المعاملة لا تختص فقط بالمرضع، بل تتعداها لكل من له علاقة رضاعة، وقد روى عمر بن السائب أنه بلغه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان جالسا يوما فأقبل أبوه من الرضاعة فوضع له بعض ثوبه فقعد عليه، ثم أقبلت أمه فوضع لها شق ثوبه من جانبه الآخر فجلست عليه، ثم أقبل أخوه من الرضاعة، فقام له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأجلسه بين يديه([70]).

ما تنفسخ به إجارة المرضعة

نص الفقهاء على ما يمكن أن تنفسخ به إجارة الرضاعة، كما تنفسخ به سائر الإجارات، ومما ذكروه:

موت المرضعة:

اختلف الفقهاء في انفساخ الإجارة بموت المرضعة أو عدم انفساخها على قولين:

القول الأول: تنفسخ الإجارة بموت المرضعة ؛ ومن الأدلة على ذلك:

1 ـ فوات المنفعة بهلاك محلها.

2 ـ أنه هلك المعقود عليه، وذلك يشبه ما لو هلكت البهيمة المستأجرة.

القول الثاني: أنها لا تنفسخ، ويجب في مالها أجر من ترضعه تمام الوقت، لأنه كالدين.

الترجيح:

 نرى أن الأرجح في المسألة هو ما عرف في العرف بشرط عدم إضراره بأي طرف من الأطراف، وخاصة طرف المرضعة باعتبارها أضعف الطرفين، لأنها لم ترضعه إلا للحاجة.

موت الطفل:

نص الفقهاء على أنه إن مات الطفل انفسخ العقد ؛ لأنه يتعذر استيفاء المعقود عليه، لأنه لا يمكن إقامة غيره مقامه، لاختلاف الصبيان في الرضاع، واختلاف اللبن باختلافهم، فإنه قد يدر على أحد الولدين دون الآخر.

وإذا انفسخ العقد عقيبه، بطلت الإجارة من أصلها، ورجع المستأجر بالأجر كله، وإن كان في أثناء المدة، رجع بحصة ما بقي.

قال السرخسي:(فإن هلك الصبي بعد سنة فلها أجر ما مضى ولها مما اشترطت من الكسوة والدراهم عند الفطام بحساب ذلك ؛ لأنها أوفت المعقود عليه في المدة الماضية فتقرر حقها فيما يقابل ذلك من البدل، ثم يتحقق فوات المقصود فيما بقي فلا يجب ما يخصه من البدل)([71])

الأعذار المبيحة لإقالة المرضع:

نص الفقهاء على أن أهل الصبي إذا أراد أن يخرجوا الظئر قبل الأجل ليس لهم ذلك إلا من عذر ؛ باعتبار العقد لازما من الجانبين، ومن الأعذار التي ذكرها السرخسي:

1 ـ أن لا يأخذ الصبي من لبنها فيفوت به ما هو المقصود، ومثل ذلك ما لو تقايأ لبنها ؛ لأن ذلك يضر بالصبي عادة فالحاجة إلى دفع الضرر عنه عذر في فسخ الإجارة.

2 ـ حملها، لأن لبنها يفسد بذلك ويضر بالصبي فإذا خافوا على الصبي من ذلك كان لهم عذر.

3 ـ إن كانت سارقة ؛ فإنهم يخافون على متاعهم إن كانت في بيتهم وعلى متاع الصبي وحليته إذا كان معها.

4 ـ إن كانت فاجرة بينة فجورها فيخافون على أنفسهم فهذا عذر ؛ لأنها تشتغل بالفجور وبسببه ينقص من قيامها بمصالح الصبي وربما تحمل من الفجور فيفسد ذلك لبنها وهذا بخلاف ما إذا كانت كافرة ؛ لأن كفرها في اعتقادها ولا يضر ذلك بالصبي([72]).

5 ـ إذا أرادوا سفرا فأبت أن تخرج معهم فهذا عذر ؛ لأنه لا يتعذر الخروج للسفر عند الحاجة لما عليهم من ذلك من الضرر ولا تجبر هي على الخروج معهم ؛ لأنها ما التزمت تحمل ضرر السفر ولا يمكنهم ترك الصبي عندها ؛ لأن غيبتهم عن الولد توحشهم فلدفع الضرر يكون لهم أن يفسخوا الإجارة.

4 ـ أحكام الفطام

انطلاقا من الحاجة إلى تنظيم عملية الرضاع بحيث لا تصبح شكلية لا أثر لها في المحافظة على صحة ونمو الرضيع، وضعت الشريعة، بنص القرآن الكريم الشرطان التاليان ليصح فطام الصبي في الوقت المناسب بعيدا عن النزاع:

الشرط الأول: وقت الفطام:

بما أن السنتين الأوليين من عمر الرضيع هي أهم المراحل في حياته الصحية والجسمية، لما يتسم فيها نموه بالاستمرار، فهي تعتبر مرحلة انطلاق القوى الكامنة، وهي مرحلة الإنجازات الكبيرة، فالطفل ينمو نموا جسميا سريعا ويتزايد حسيا وحركيا تزايدا ملحوظا في السيطرة على الحركات حيث تبدو حركات القدمين ثم الجلوس فالحبو فالوقوف ثم المشي بالإضافة إلى تعلم الطفل الكلام واكتساب اللغة ونمو الاستقلال والاعتماد النسبي على النفس والاحتكاك الاجتماعي بالعالم الخارجي.

ولهذا حددت الشريعة أكمل فترة للرضاع بحولين كاملين([73])، قال تعالى:{ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ }(البقرة:233)، فالآية الكريمة لم تكتف بذكر الحولين بل قيدتهما بالكمال حتى لا يتوهم أنهما حول وبعض حول، لأن القائل قد يقول: أقمت عند فلان حولين وهو يريد حولا وبعض حول آخر، كما قال تعالى:{ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} (البقرة:203)، وإنما يتعجل في يوم وبعض الثاني([74]).

وصرح في آية أخرى بأن الفطام يكون بعد سنتين فقال تعالى:{ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} (لقمان:14)

وفي هذا دليل على أن أكمل الرضاع هو سنتان كاملتان، وقد أثبت البحوث الصحية والنفسية في الوقت الحاضر أن فترة عامين ضرورية لنمو الطفل نموا سليما من الوجهتين الصحية والنفسية، فالطفل في أيامه الأولى، وبعد خروجه من محضنه الدافئ الذي اعتاد عليه فترة طويلة يحتاج إلى التغذية الجسمية والنفسية ليعوض ما اعتاده وألفه وهو في وعاء أمه.

ومع ذلك، فإن إرضاع الحولين ليس حتما واجبا([75])، بل إنه يجوز الفطام قبل الحولين بشرطين:

1 ـ التراضي على ذلك، فلهذا لو أراد الأب الفطم قبل هذه المدة ولم ترض الأم لم يكن له ذلك، كما سنرى ذلك في الشرط الثاني، قال ابن العربي:(لما جعل مدة الرضاع حولين بين أن فطامها هو الفطام، وفصالها هو الفصال، وليس لأحد عنه منزع، إلا أن يتفق الأبوان على أقل من ذلك العدد من غير مضارة بالولد، فذلك جائز بهذا البيان)

2 ـ أن لا يكون في ذلك ضرر على المولود، ولعله لأجل هذا قال ابن عباس:(إن إرضاع الأم الحولين مختص بمن وضعت لستة أشهر([76])، ومهما وضعت لأكثر من ستة أشهر نقص من مدة الحولين)مستنبطا هذا المعنى من أن الله تعالى حدد في القرآن الكريم مدة الحمل والرضاع بثلاثين شهرا، فقال تعالى:{ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} (الاحقاف:15)، ثم نص في الآية الأخرى على مدة الرضاع فقط فقال تعالى:{ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْن} (البقرة:233)، وهو معنى صحيح، فالصبي كلما كان ناقصا في نموه كان أكثر حاجة للرضاعة بخلاف مكتمل النمو.

ونرى أن الشرط الثاني يحتاج في بعض الأحوال إلى استشارة المختصين، فهم الذين يحددون مدى حاجة الصبي إلى استكمال الرضاعة أو توقفها.

ونحب أن ننبه هنا إلى أن هؤلاء، وإن كان الشرع قد حث على احترامهم ومراعاة تخصصهم، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم:(أنزلوا الناس منازلهم)إلا أن الاستغراق في الثقة في كل ما يأتي من الغرب من دراسات، أو سوء الظن بما تتطلبه حياتنا من فطرية وتلقائية، يجعلهم غير مؤهلين أحيانا للاستنصاح في هذا المجال([77]).

الشرط الثاني: تشاور الزوجين:

وقد نص على هذا الشرط قوله تعالى:{ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا }(البقرة:233)أي إذا اتفق والد الطفل على فطامه قبل الحولين، ورأيا في ذلك مصلحة له، وتشاورا في ذلك وأجمعا عليه، فلا جناح عليهما في ذلك.

فيؤخذ منه أن انفراد أحدهما بذلك دون الآخر لا يكفي، ولا يجوز لواحد منهما أن يستبد بذلك من غير مشاورة الآخر، قال ابن حزم:(فإن كان له أب، أو أم، فأراد الأب فصاله دون رأي الأم، أو أرادت الأم فصاله دون رأي الأب: فليس ذلك لمن أراده منهما قبل تمام الحولين – كان في ذلك ضرر بالرضيع أو لم يكن –)

أما بعد الحولين فلا يشترط اتفاق الوالدين جميعا على ذلك، بل يكفي رأي أحدهما إذا لم يكن في ذلك مضرة على الرضيع، قال ابن حزم:(فإن أرادا التمادي على إرضاعه بعد الحولين فلهما ذلك، فإن أراد أحدهما – بعد الحولين – فصاله وأبى الآخر منهما، فإن كان في ذلك ضرر على الرضيع لم يجز فصاله، وكذلك لو اتفقا على فصاله. وإن كان لا ضرر على الرضيع في فصاله بعد الحولين: فأي الأبوين أراد فصاله – بعد تمام الحولين – فله ذلك، هذا حق الرضيع، والحق على الأب والأم في إرضاعه)

 وهذا فيه احتياط للطفل، وإلزام للنظر في أمره، وهو من رحمة الله بعباده، حيث حجر على الوالدين في تربية طفلهما، وأرشدهما إلى ما يصلحهما ويصلحه.

ولكن اتفاق الوالدين على فطام الرضيع يبقى موقوفا على عدم تضرره بذلك، كما ذكرنا سابقا، قال ابن حزم معبرا عن هذا الشرط:(فإن أرادا جميعا فصاله قبل الحولين، فإن كان في ذلك ضرر على الرضيع لمرض به، أو لضعف بنيته، أو لأنه لا يقبل الطعام: لم يجز ذلك لهما فإن كان لا ضرر على الرضيع في ذلك فلهما ذلك)

وهذا ـ كما ذكرنا سابقا ـ يستدعي مشاورة أهل الثقة من أهل الاختصاص.

آداب الفطام:

من أهم الآداب التي نص عليها العلماء، والمتعلقة بالفطام، أن يختار للفطام الوقت المناسب الذي لا يتضرر به الرضيع، وأن يكون ذلك بالتدريج، وهو يتطلب من الأم التدرج والصبر والحلم وعدم القيام بهذه العملية فجأة، إذ أن ذلك يسبب للطفل صدمة نفسية قاسية لاسيما إذا لجأت الأم إلى استخدام الوسائل البدائية في عملية الفطام.

ومن الممكن أن تتم عملية الفطام بطريقة أكثر فعالية، كأن تستبعد رضعة أو رضعتين خلال الأسبوع وتحل مكانها وجبة غذائية.

قال ابن القيم:(وأحمد أوقات العظام إذا كان الوقت معتدلا في الحر والبرد وقد تكامل نبات أسنانه وأضراسه وقويت على تقطيع الغذاء وطحنه، ففطامه عند ذلك الوقت أجود له، ووقت الاعتدال الخريفي أنفع في الطعام من وقت الاعتدال الربيعي، لأنه في الخريف يستقبل الشتاء والهواء يبرد فيه والحرارة الغريزية تنشأ فيه وتنمو والهضم يزداد قوة وكذلك الشهوة)([78])

ونص على التدريج في الفطام بقوله:(وينبغي للمرضع إذا أرادت فطامه أن تفطمه على التدريج ولا تفاجئه بالفطام وهلة واحدة، بل تعوده إياه وتمرنه عليه لمضرة الانتقال عن الإلف والعادة مرة واحدة كما قال بقراط في فصوله:(استعمال الكبير بغتة مما يملأ البدن أو يستفرغه أو يسخنه أو يبرده أو يحركه بنوع آخر من الحركة أي نوع كان فهو خطر، وكلما كان كثيرا فهو معاد للطبيعة وكلما كان قليلا فهو مأمون)([79])


([1])  هناك حكم طبية معجزة في هذه الآيات تتعلق باختيار ثمار النخيل دون سواه من ناحية، ثم توقيته مع مخاض الولادة من ناحية أخرى:

1 ـ تبين في الأبحاث المجراة على الرطب أي ثمرة النخيل الناضجة، أنها تحوي مادة مقبضة للرحم، تقوي عمل عضلات الرحم في الأشهر الأخيرة للحمل فتساعد على الولادة من جهة كما تقلل كمية النزف الحاصل بعد الولادة من جهة أخرى.

2 ـ الرطب يحوي نسبة عالية من السكاكر البسيطة السهلة الهضم والامتصاص، مثل سكر الغلوكوز ومن المعروف أن هذه السكاكر هي مصدر الطاقة الأساسية وهي الغذاء المفضل للعضلات، وعضلة الرحم من اضخم عضلات الجسم وتقوم بعمل جبار أثناء الولادة التي تتطلب سكاكر بسيطة بكمية جيدة ونوعية خاصة سهلة الهضم سريعة الامتصاص، كتلك التي في الرطب ونذكر هنا بأن علماء التوليد يقدمون للحامل وهي بحالة المخاض الماء والسكر بشكل سوائل ولقد نصت الآية الكريمة على إعطاء السوائل أيضاً مع السكاكر بقوله تعالى: (فكلي واشربي) وهذا إعجاز آخر.

3 ـ إن من آثار الرطب أنه يخفض ضغط الدم عند الحوامل فترة ليست طويلة ثم يعود لطبيعة،و هذه الخاصة مفيدة لأنه بانخفاض ضغط الدم تقل كمية الدم النازفة.

4 ـ الرطب من المواد الملينة التي تنظف الكولون، ومن المعلوم طبياً أن الملينات النباتية تفيد في تسهيل وتأمين عملية الولادة بتنظيفها للأمعاء الغليظة خاصة، ولنتذكر بأن الولادة يجب أن يسبقها رمضة شرجية (حقنة) لتنظيف الكولون. انظر: أبحاث المهندس الزراعي اجود الحراكي ـ حضارة الإسلام ـ السنة 18 العدد 7، والإسلام والطب الحديث: للدكتور عبد العزيز باشا إسماعيل، وحوار مع صديقي الملحد للدكتور مصطفى محمود.

([2])  ولهذا فإن بعض ما سنذكره من التفاصيل هنا قد يخضع للآراء الطبية المختلفة، وقد يتغير بالجديد الذي يأتي به العلم في المستقبل.

([3])  لعل الحليب واللبن الرائب، ومشتقاتهما من لبنة وأجبان هي ينبوع تلك المادتين المهمتين الكالسيوم والفسفور اللتين تتوفران أيضا في الخضر والبيض والكبد والفاصوليا، وغيرها.

([4])  واختلفوا فيما لو أفطرت خوفا على ولدها.

القول الأول: لا يجب عليها الفدية، وهو قول الحنفية والمالكية وهو قول عند الشافعية، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1.أن الحمل متصل بالحامل، فالخوف عليه كالخوف على بعض أعضائها.

2.أن الفدية ثبتت على الشيخ الفاني بخلاف القياس لأنه لا مماثلة بين الصوم والفدية، والفطر بسبب الخوف على الولد ليس في معناه.

القول الثاني: إذا أفطرت الحامل خوفا على ولدها فعليها مع القضاء الفدية، وهو قول الحنابلة والشافعية في الأظهر عندهم، لما روي عن ابن عباس في قوله تعالى:) وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ)(البقرة:184أنه نسخ حكمه إلا في حق الحامل والمرضع إذا خافتا على أولادهما.

([5])  تحفة المودود: 230.

([6])  الختان من الإسلام حق من حقوق الإنسان، كتبه أبو أنس ميمون باريش، مجلة البيان.

([7])  من أمثلة ذلك: ما رواه البخاري ومسلم وأبو داود عن عبد الله بن مسعود قال:« لعن الله الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمصات، والمتفلِّجات للحسن المغيِّرات خلق الله »، فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب، وكانت تقرأ القرآن فأتته، فقالت: ما حديث بلغني عنك أنك لعنت الواشمات والمستوشمات، والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله ؟ ! فقال عبد الله: وما لي لا ألعن من لعن رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟! وهو في كتاب الله. فقالت المرأة، لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته ! ! فقال: لئن كنت قرأته لقد وجدته ! قال الله تعالى:) وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ﴾(الحشر: 7).

([8])  البخاري ومسلم.

([9])  البخاري ومسلم وغيرهما من أهـل السنن.

([10])  أحمد وأبو داود بسند حسن.

([11])  قبسات من الطب النبوي باختصار، الأربعون العلمية، عبد الحميد محمود طهماز.

([12]) د. محمد علي البار، الختان، دار المنار.

([13])  د. حسان شمسي باشا: أسرار الختان تتجلى في الطب والشريعة ابن النفيس دمشق.

([14])  البروفسور ويزويل عن مجلة Amer.Famil J. Physician.

([15])  Pikers W: Med. Dijest jour.April 1977.

([16]) أحمد.

([17])  البخاري: 5/2209، مسلم: 1/221، ابن حبان: 12/293، البيهقي 1/149، أبو داود: 4/84، النسائي: 1/65، ابن ماجة: 1/107، أحمد: 2/239، مسند الحميدي: 2/418.

([18])  روي عن الإمام مالك القولان، وإن كان المذهب على أنه سنة مؤكدة كم ذكر ذلك ابن جزي في « القوانين الفقهية، ص 129 » قال:« أما ختان الرجل فسنة مؤكدة عند مالك وأبى حنيفة كسائر خصال الفطرة التى ذكر معها وهى غير واجبة اتفاقاً »

ونقل كثير من الفقهاء عن مالك أنه سنة، حتى قال القاضي عياض: الاختتان عند مالك وعامة العلماء سنة، ولكن السنة عندهم يأثم بتركها، فهم يطلقونها على مرتبة بين الفرض والندب، وإلا فقد صرح مالك بأنه لا تقبل شهادة الأقلف، ولا تجوز إمامته..

([19])  تحفة المودود: 162.

([20])  انظر: مسند أحمد: 3/415، وسنن أبي داوود: 1/148 برقم 356، والكامل لابن عدي: 1/223، والسنن الكبرى: 1/172.

([21])  البخاري كتاب أحاديث الأنبياء: 4/170/171.

([22])  قال ابن حجر في  التلخيص : 4 / 83: [ أخرجه الحاكم والبيهقي من حديث عائشة، والبيهقي من وراية جابر عن رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم -]. قلت: وأخرجه البيهقي في  الكبرى: 8/ 324 من طريق الوليد بن مسلم، عن زهير بن محمد المكي، عن محمد بن المنكدر، عن جابر، قال:  عق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الحسن والحسين، وختنهما لسبعة أيام . وزهير بن محمد المكي قال أبو حاتم: محله الصدق وفي حفظه سوء، وكان حديثه بالشام أنكر من حديثه بالعراق لسوء حفظه، فما حدث من حفظه ففيه أغاليط، وما حدث من كتبه فهو صالح. مات سنة 162. وانظر  التهذيب  للمزي: 9 / 417.

([23])  الاختيار شرح المختار: 2/121.

([24])  ختان البنات، المفتى: فضيلة الشيخ جاد الحق على جاد الحق، ربيع الأول 1401 هجرية – 29 يناير 1981م.

([25])  الترمذي:رقم (108 و109) وقال: حديث حسن صحيح.

([26])  سيأتي تخريج الحديث مفصلا.

([27])  سيأتي تخريج الحديث مفصلا.

([28])  قال بعد سرده للأدلة على هذا القول:« وهكذا يتبين حكم الشرع في ختان الأنثى: أنه لا واجب ولا سنة، ولم يدل على واحد منهما دليل، وليس مكرمة أيضاً لضعف جميع الأحاديث الواردة فيه. بل هو عادة، وهي عادة ليست عامة في كل بلاد الإسلام بل هي خاصة ببعضها دون بعض. وهي عادة ضارة ضرراً محضاً لا يجوز إيقاعه بإنسان دون سبب مشروع، وهو ضرر لا يعوض لا سيما النفسي منه »

([29])  نقله عنه: شمس الحق العظيم آبادي في شرحه لسنن أبي داوود، 14/ 126.

([30])  نيل الأوطار:1/139.

([31])  التلخيص الحبير: 4\154.

([32])  فقه السنة: 1/33.

([33])  هذا النص الكامل لكلام ابن حجر في الحديث:« رواه أحمد والبيهقي من حديث الحجاج بن أرطاة، عن أبي المليح بن أسامة، عن أبيه به، والحجاج مدلس وقد اضطرب فيه، فتارة رواه كذا، وتارة رواه بزيادة شداد بن أوس بعد والد أبي المليح، أخرجه ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم في العلل والطبراني في الكبير وتارة رواه عن مكحول، عن أبي أيوب أخرجه أحمد وذكره ابن أبي حاتم في العلل، وحكى عن أبيه أنه خطأ من حجاج، أو من الراوي عنه، عبد الواحد بن زياد، وقال البيهقي هو ضعيف منقطع، وقال ابن عبد البر في التمهيد هذا الحديث يدور على حجاج بن أرطاة، وليس بمن يحتج به. قلت: وله طريق أخرى من غير رواية حجاج، فقد رواه الطبراني في الكبير والبيهقي من حديث ابن عباس مرفوعا، وضعفه البيهقي في السنن، وقال في المعرفة: لا يصح رفعه، وهو من رواية الوليد، عن ابن ثوبان، عن ابن عجلان، عن عكرمة، عنه، ورواته موثقون إلا أن فيه تدليسا، انظر: التلخيص الحبير: 4\153.

([34])  عون المعبود في شرح سنن أبي داوود لشمس الحق العظيم آبادي، 14/124.

([35])  التمهيد: 21/59.

([36])  انظر: الإحياء: / 148.

([37])  سنن أبى داوود مع شرحها عون المعبود،13/135.

([38])  قال ابن حجر: رواه الحاكم في المستدرك من طريق عبيد الله بن عمرو، عن زيد بن أبي أسيد، عن عبد الملك بن عمير، ورواه الطبراني وأبو نعيم في المعرفة، والبيهقي من هذا الوجه، عن عبيد الله بن عمرو قال: حدثني رجل من أهل الكوفة، عن عبد الملك بن عمير به، وقال المفضل العلائي: سألت ابن معين عن هذا الحديث فقال: الضحاك بن قيس هذا ليس بالفهري، قلت: أورده الحاكم، وأبو نعيم في ترجمة الفهري، وقد اختلف فيه على عبد الملك بن عمير، فقيل عنه كذا، وقيل: عنه عن عطية القرظي، قال: كانت بالمدينة خافضة يقال لها: أم عطية، فذكره، رواه أبو نعيم في المعرفة، وقيل: عنه، عن أم عطية، رواه أبو داود في السنن، وأعله بمحمد بن حسان، فقال: إنه مجهول ضعيف، وتبعه ابن عدي في تجهيله والبيهقي، وخالفهم عبد الغني بن سعيد فقال: هو محمد بن سعيد المصلوب، وأورد هذا الحديث من طريقه في ترجمته من إيضاح الشك، وله طريقان آخران، رواه ابن عدي من حديث سالم بن عبد الله بن عمر » .

([39])  التلخيص الحبير: 4\154.

([40])  انظر: النحو الوافي لعباس حسن، 1/118- 119.

([41])  مسلم.

([42])  دلل المسح الديموغرافي الصادر عن منظمة الصحة العالمية أن مليوني فتاة في العالم يخضعن لعمليات الختان سنوياً. وتقول التقارير أن هناك نحو 138 مليون فتاة وامرأة، في 28 دولة أفريقية وبعض بلدان آسيا والشرق الأوسط، شوهت أعضائهن التناسلية، وبدرجات متفاوتة. وبحسب منظمة العفو الدولية تحتل مصر الصدارة، بمعدل 97%، في قائمة تلك الدول.

([43])  وهو يدخل بذلك في ما ورد في النصوص من تحريم تبديل خلق الله، كماقال تعالى:) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَاناً مَرِيداً لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً﴾ (النساء:117 ـ 119)

 وقال صلى الله عليه وآله وسلم:« لعن الله الواشمات… المغيرات خلق اللة »، وهذه الأمور المذكورة في الحديث محرمة كلها وما ماثلها، ويدخل فيها الخفاض الفرعوني بل هو أولى منها بالحرمة، وقد شهدت الأحاديث بلعن فاعلها وأنها من الكبائر لأنها من تغيير خلق الله.

([44])  انظر المحلى لابن حزم الظاهري،10 /458، حيث نقل آراء الفقهاء في ذلك وخالفهم إلى إيجاب القصاص على المتعمد، ونفى الدية عن المخطىء ؛ والمغني لابن قدامة، 12/158 و11/546.

([45])  لكن الشافعية قالوا: يجب على الأم إرضاع الطفل اللبأ وإن وجد غيرها، واللبأ ما ينزل بعد الولادة من اللبن ؛ لأن الطفل لا يستغني عنه غالبا، ويرجع في معرفة مدة بقائه لأهل الخبرة.

([46])  أحكام القرآن للشافعي:1/265.

([47])  بما أن هذه الآية هي الأصل الذي يعتمد عليه فقه هذا الباب، كما سنرى، نحب أن ننبه إلى أن الخلاف قديم في كونها عامة في جميع الوالدات ؟ أو تختص بالمطلقات ؟ على قولين:

القول الأول: أنها خاصة بالمطلقات، وهو قول سعيد بن جبير، ومجاهد، والضحاك، والسدي، ومقاتل، وآخرين.

القول الثاني: العموم لجميع النسوة، وهو قول أبي سليمان الدمشقي والقاضي أبي يعلى في آخرين.

وقد حصل بسبب هذا الخلاف في كثير من المسائل، منها ما قال القاضي: ولهذا نقول: لها أن تؤجر نفسها لرضاع ولدها، سواء كانت مع الزوج، أو مطلقة.

فالذين خصوه بالمطلقات أوجبوا نفقة جديدة بسبب الرضاع، كما ذكر في سورة الطلاق وهذا مختص بالمطلقة. انظر: الفتاوى الكبرى لابن تيمية: 3/369.

([48])  أحكام القرآن للجصاص: 1/556.

([49])  أحكام القرآن لابن العربي: 1/278.

([50])  أحكام القرآن لابن العربي: 4/248.

([51])  ولهذا لا يصح ما ذكره ابن القيم من أنه « ينبغي أن يكون رضاع المولود من غير أمه بعد وضعه يومين أو ثلاثة وهو الأجود لما في لبنها ذلك الوقت من الغلظ والأخلاط بخلاف لبن من قد استقلت على الرضاع  وكل العرب تعتني بذلك حتى تسترضع أولادها عند نساء البوادي كما استرضع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بني سعد » [ تحفة المودود: 230]

وذلك لأن الثديين في الأيام الأولى يفرزان اللبن الذي يحوي أضعاف ما يحوي اللبن من البروتين والعناصر المعدنية، لكنه فقير بالدسم والسكر، كما يحوي أضدادا لرفع مناعة الوليد، وله فعل ملين، هو الغذاء المثالي للوليد.

أما من الناحية النفسية، فقد ثبت أن إرضاع الطفل من الثدي بعد الولادة مباشرة – أي: بعد تنظيفه وإلباسه – ربما كان أفضل طريقة لإيجاد ثقة متبادلة من الناحيتين النفسية والجسميَّة بين الطفل وأمّه.

فهذه الرابطة القائمة على القرب والحنان هي من أقوى الغرائز الاجتماعية، وهي تبدأ منذ الولادة، والأم تحقِّق بذلك غرضاً واضحاً يمليه عليها وضع طفلها العاجز الضعيف.

فالطفل يحتاج إلى رعاية وحماية وإلى تغذية كافية ومؤانسة، وهو يبدي أنواعاً من السلوك تعبِّر عن رغبته في الاتصال والاقتراب من الكبار، كالبكاء والتعلُّق بهم، وتتبعهم بعينيه أو بكامل جسمه، أو مجرَّد الإمساك بذراعهم، وبهذه الصلة الوثيقة يتحقَّق هدف الطفل، ويستطيع أن يسدَّ حاجاته.

بل إن صوت الأم ـ مع أنه لا علاقة له بتغذيته ـ يمنح الطفل الدفء والأمن، ويشرع الطفل بتمييزه فور سماعه عن الأصوات الأخرى جميعاً.

ومن الحقائق المعلومة كذلك أن الفترة الرئيسية في الاتصال الأولي بين الأم وطفلها هي فترة الاثنتي عشرة ساعة الأولى.

([52])  رجعنا للمعلومات العلمية في هذا المطلب إلى كتاب « مع الطب في القرآن الكريم » للدكتور عبد الحميد دياب، والدكتور أحمد قرقوز، مؤسسة علوم القرآن، دمشق.

([53])  أ0 فاطمة موسى، أستاذ الطب النفسي، طب القصر العيني – جامعة القاهرة.

([54])  انظر في مسائل هذا الباب المراجع التالية: الجصاص: 2/106، المبدع: 5/66، المغني: 5/287، حاشية ابن عابدين: 3/456، المبسوط: 15/118، مختصر اختلاف العلماء: 4/103، المدونة: 11/441.

([55])  المغني: 5/287.

([56])  اتفق الفقهاء على أن المرضع المستأجرة لا يدخل في عملها خدمة البيت إلا إذا تطوعت به، أو نالت أجرتها عنه، قال السرخسي:« وليس عليها من عمل أبوي الصبي شيء إن كلفوها عجنا، أو طبخا، أو خبزا ؛ لأنها التزمت بالعقد الظئورة، وهذه الأعمال لا تتصل بالظئورة فلا يلزمها إلا أن تتطوع به »، المبسوط.

([57])  اتفق الفقهاء على أنه يجوز استئجار الأم، والأخت، والبنت، وسائر الأقارب لرضاع الولد، من غير خلاف في المسألة.

([58])  ولا يعترض هنا بأن غير المتزوجة لا لبن لها، لأن غير المتزوجة لا يراد بها البكر فقط، بل يدخل فيها المطلقة والمتوفى عنها زوجها.

([59])  مسلم.

([60])  وهذا بخلاف كون المستأجرة زوجة، حال قيام النكاح بينهما ـ عند من لا يقول باستحقاق الأم للأجر، كما بينا ذلك سابقا ـ لأنها ـ عندهم ـ لا تستوجب الأجر على إرضاع الولد، وإن استأجرها؛ لأن في حال بقاء النكاح يعد الرضاع من الأعمال المستحقة عليها دينا، أما بعد الفرقة فليس ذلك بمستحق عليها دينا ولا دنيا.

([61])  وهذا يختص عندهم بالوارث بفرض أو تعصيب، ولا يتناول ذوي الأرحام، فإن كان اثنان يرث أحدهما الآخر ولا يرثه الآخر، كالرجل مع عمته أو ابنة عمه وابنة أخيه، والمرأة مع ابنة بنتها وابن بنتها، فالنفقة على الوارث دون الموروث.

وهناك رواية أخرى على أنه لا تجب النفقة على الوارث هاهنا ؛ لقول أحمد: العمة والخالة لا نفقة لهما.

([62])  وهذا تفصيل قولهم في المسألة بحسب الترتيب الذي وضعوه:

إن لم يكن للصبي أب وكان له أم وعم فالرضاع عليهما أثلاثا على قدر ميراثهما إن كانا موسرين، فأما الرضاع فإنه كله على الأم ؛ لأنها موسرة باللبن والعم معسر في ذلك ولكن في ظاهر الرواية قال: قدرة العم على تحصيل ذلك بماله يجعله موسرا فيه فلهذا كان عليهما إثلاثا والأم أحق أن يكون عندها حتى يبلغ ما وصفنا، فإن كان العم فقيرا والأم غنية فالرضاع والنفقة على الأم ؛ لأن النفقة على العم مستحقة في ماله لا في كسبه والمعسر ليس له مال فلا يلزمه شيء من النفقة بل هو كالمعدوم فكانت النفقة على الأم

فإن كان له أم وأخ لأب وأم وعم وهم أغنياء فالرضاع على الأم والأخ أثلاثا بحسب الميراث ولا شيء من ذلك على العم ؛ لأنه ليس بوارث مع الأخ والغرم مقابل بالغنم وإنما يستحق على من يكون الغنم له إذا مات الولد والحاصل أن بعد الأب النفقة على كل ذي رحم محرم إذا كانوا أغنياء على حسب الميراث ومن كان منهم فقيرا لم يجبر على النفقة فإن تطوع بشيء فهو أفضل

فإن كانت الأم فقيرة وللولد عمة وخالة غنيتان فالنفقة عليهما أثلاثا على العمة الثلثان وعلى الخالة الثلث ؛ لأن الأم الفقيرة كالمعدومة وبعدها الميراث بين العمة والخالة أثلاثا فكذا النفقة عليهما وعلى هذا لو كان له ابن عم هو وارثه فإن ابن العم ليس بذي رحم محرم فلا شيء عليه من النفقة بل يجعل هو في حق النفقة كالمعدوم وتكون النفقة على العمة والخالة أثلاثا وإن كان الميراث لابن العم، وكذلك كل عصبة ليس بذي رحم محرم فلا نفقة عليه، وإن كان الميراث له، ألا ترى أن مولى العتاقة عصبة في حق الميراث ولا نفقة عليه، فكذلك من ليس بمجرد من الأقارب، انظر: المبسوط.

([63])  وإذا جاز العقد عنده كان لها الوسط من المتاع والثياب المسماة ؛ لأنها لا تستحق ذلك بمطلق التسمية في عقد المعاوضة فينصرف إلى الوسط كما في الصداق إذا سمى لها عبدا، أو ثوبا هرويا وهذا ؛ لأن في تعيين الوسط نظر من الجانبين ولو اشترطوا عليها أن ترضع الصبي في منزلهم فهو جائز كما في سائر الإجارات إذا اشترط المستأجر على الأجير إقامة العمل في بيته وهذا ؛ لأنهم ينتفعون بهذا الشرط فإنها تتعاهد الصبي في بيتهم ما لا تتعاهده في بيت نفسها، وربما لا يتحمل قلبهما غيبة الولد عنهما والشرط المفيد في العقد معتبر.

([64])  قال الطيبي: الغرة المملوك وأصلها البياض في جهة الفرس ثم استعير لأكرم كل شيء كقولهم غرة القوم سيدهم،ولما كان الإنسان المملوك خير ما يملك سمي غرة. انظر: تحفة الأحوذي: 4/264، وقال الخطابي: يقول: إنها قد خدمتك وأنت طفل، وحضنتك وأنت صغير، فكافئها بخادم يخدمها ويكفيها المهنة، قضاء لذمامها (أي لحقها) وجزاء لها على إحسانها.

([65])  رواه الخمسة إلا ابن ماجه، وقال الترمذي بعد إخراجه: هذا حديث حسن صحيح.

([66])  نيل الأوطار: 6/379.

([67])  انظر: مشكل الاثار: 1/173، وقيل: لما جعلت الظئر نفسها خادمة جوزيت بجنس فعلها،انظر: تحفة الأحوذي: 4/264.

([68])  مسلم وأبو داود والترمذي.

([69])  أبو يعلى وابن حبان.

([70])  أبو داود.

([71])  المبسوط: 15/119.

([72])  لأن عيب الفجور في هذا فوق عيب الكفر، فقد كان في بعض نساء الرسل كافرة كامرأة نوح ولوط عليهما السلام، وما بغت امرأة نبي قط.

([73])  أي إذا كان من عاشر المحرم كان الكمال في عاشر المحرم في مثل تلك الساعة ؛ فإن الحول المطلق هو اثنا عشر شهرا من الشهر الهلالي، كما قال تعالى:) إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾(التوبة:36)

وللفقهاء هنا قولان آخران هما:

القول الأول: إذا كان في أثناء الشهر كان جميع الشهور بالعدد، فيكون الحولان ثلثمائة وستين. وعلى هذا القول تزيد المدة اثني عشر يوما.

القول الثاني: منها واحد بالعدد، وسائرها بالأهلة. انظر: الفتاوى الكبرى لابن تيمية: 3/369.

([74])  وهذا معروف في كلام العرب، يقال: لفلان عشرون عاما إذا أكمل ذلك، قال الفراء والزجاج وغيرهما: لما جاز أن يقول:  حولين  ويريد أقل منهما، قال: ) كاملين ﴾ ليبين أنه لا يجوز أن ينقص منهما. وهذا بمنزلة قوله تعالى:) تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾(البقرة:196)، فإن لفظ  العشرة  يقع على تسعة وبعض العاشر. فيقال: أقمت عشرة أيام. وإن لم يكملها. فقوله هناك ) كاملة ﴾ بمنزلة قوله هنا ) كاملين ﴾.

([75])  قال قتادة: كان الرضاع واجبا في الحولين وكان يحرم الفطام قبله، ثم خفف وأبيح الرضاع أقل من الحولين بقوله تعالى:) فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا)(البقرة:233)

وقد أجمع العلماء على عدم اشتراط الحولين في الرضاعة،قال القرطبي:« الناس مجمعون على العامين في مدة الرضاع في باب الأحكام والنفقات، وأما في تحريم اللبن فحّددت فرقة بالعام لا زيادة ولا نقص. وقالت فرقة: العامان وما اتصل بهما من الشهر ونحوه إذا كان متصل الرضاع. وقالت فرقة: إن فطم الصبّي قبل العامين وترك اللبن فإن ما شرب بعد ذلك في الحولين لا يحّرم ».

([76])  أقل مدة الحمل 28 أُسبوعاً بزيادة يوم أو أيام (بعد إتمام 28 أُسبوعاً وقبل إتمام 37 أُسبوعاً) أي ستة أشهر وستة عشر يوماً، بل أكثر ان كان بعض الشهور ناقصاً على قول: وستة أشهر على قول آخر، لكن مع لزوم رعاية طبية وأجهزة حديثة. وتقدم عن بعضهم احتمال انقاذ اجنة عمرها ما يقل عن خمسة أشهر بعشرة أيام، وولادة جنين كامل النمو تحدث بعد 259 يوماً الى 293 يوماً.

([77])  ولا نرى محلا لذكر الأدلة هنا، فالواقع يدل على ذلك، بل إن بعض الأطباء قد يتسببون في أخطار كثيرة في صحة الأولاد بإعطائهم أدوية قد تضر بمستقبلهم الصحي لأجل تفادي عرض من الأعراض البسيطة التي قد يتحملها الجسم ويقاومها.

([78])  تحفة المودود: 235.

([79])  تحفة المودود: 235.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *