الفصل الثالث: جوانب الخلاف بين الجمعية والطرق الصوفية حول العرفان الصوفي

الفصل الثالث

جوانب الخلاف بين الجمعية والطرق الصوفية حول العرفان الصوفي

سبق أن عرفنا أن التصوف نوعان أو جانبان: سلوك، وعرفان، وعرفنا أن السلوك هو الغالب على أكثر مريدي الطرق الصوفية، والعرفان درجة رفيعة قد يبلغها السالك حال سلوكه، وقد لا يبلغها، وهو الأعم الأغلب، ثم عند بلوغه لها قد يستطيع أن يعبر عنها، وقد تبقى محصورة في جوانحه ووجدانه، وبالتالي فإن العارفين أو العرفاء الذين استطاعوا أن يعبروا عن معارفهم قليل من قليل.

ولهذا لا نجد في الكتب المؤلفة في الطرق الصوفية الجزائرية في عهد الجمعية إلا عدد قليل ظفر بأكثره الشيخ أحمد بن عليوة شيخ الطريقة العلاوية، والذي فاز من الجمعية – كما عرفنا سابقا- بلقب (شيخ الحلول)

بالإضافة إلى هذا، فإن الإشكال الأكبر الذي اعترضنا في هذا الفصل هو أنا نجد من الجمعية تهما مجملة يعزوها التفصيل والتحديد والبراهين، فهي في هذا الجانب – كما سنرى – ترمي التهم من غير أن تفصل بعض التفصيل مثلما عرفنا سابقا في الجوانب السلوكية، ولهذا سنحاول الرجوع إلى مصادر الجميعة في تهمها، وهي ما كتبه التيار السلفي وخصوصا المحافظ منه، حتى نتعرف على سر التهم التي تلقيها على الطرق الصوفية، وخصوصا على من تسميها طريقة الحلول وشيخها.

وبناء على هذا، فقد قسمنا هذا الفصل إلى قسمين:

الأول: تناولنا فيه مصادر المعرفة عند الجمعية والطرق الصوفية، باعتبارها الأساس الذي يستند إليه العرفان الصوفي.

الثاني: تناولنا فيه جوانب الخلاف بين الجمعية والطرق الصوفية حول العرفان الصوفي.

المبحث الأول

 مصادر المعرفة عند الصوفية وموقف الجمعية منها

من أهم أسباب الخلاف الفكري بين الجمعية والطرق الصوفية الخلاف في المصادر التي تتلقى منها الشريعة الإسلامية بعقيدتها وفقهها وسلوكها ومواقفها المختلفة، فبينما نرى الجمعية تنتهج في التلقي من المصادر التي ترى أن السلف الصالح قد تلقى منها، وهي الكتاب والسنة وفهوم السلف لهما، نجد للصوفية مصادرهم الخاصة بهم، والتي يزعمون هم أيضا أنها تستند للمصادر الأولى للشريعة من الكتاب والسنة وغيرها من المصادر.

وانطلاقا من هذا لا يمكن أن نتحدث عن تفاصيل الخلاف بين الجمعية والطرق الصوفية حول العرفان الصوفي دون الانطلاق من البحث عن جذور الخلاف، والتي تتمثل في مصادر التلقي.

وقد رأينا من خلال استقراء جذور الخلاف في المصادر التي يعتمد عليها كلا الطرفين أنها ترجع إلى أمرين:

الأول: الخلاف في نوع التلقي وكيفيته من المصادر النقلية، وخاصة القرآن الكريم، ذلك أن الخلاف فيها ليس في اعتمادها أو عدم اعتمادها، فالكل يعتمدها، وإنما في منهج الاستنباط منها وحدوده.

الثاني: الموقف من المصادر الغيبية من الكشف والإلهام والرؤى والاستمداد وغيرها، والتي اختص بالاستناد إليها الصوفية، ولقيت إنكارا كبيرا من المخالفين لهم.

بناء على هذا قسمنا هذا المبحث، فخصصنا كل قسم منها بمطلب خاص.

المطلب الأول: المصادر النقلية بين الجمعية والطرق الصوفية

تتفق جمعية العلماء والطرق الصوفية على تعظيم المصادر النقلية سواء القرآن الكريم أو السنة المطهرة، واعتبارهما المصدر الأول للإسلام بتشريعاته جميعا، بل تعتبران أن الإصلاح النفسي والاجتماعي لا يمكن أن يتم إلا من خلالهما، وقد مضى ذكر الكثير من الأدلة على هذا في محلها من الفصول السابقة.

ولكن الخلاف بينهما في هذا المحل يكمن في منهج التعامل مع هذه المصادر، وكيفية الاستنباط منها، فبينما ترجع الجمعية إلى منهج السلف في ذلك كما تتصوره، وهو ما يرجع في العموم إلى ظواهر النصوص، أو إشاراتها الواضحة القريبة، نرى الصوفية بطرقها جميعا – بل قبل أن تكون للتصوف طرق – أن القرآن الكريم أعظم من أن يحصر بين جدران الألفاظ، ولذلك يتوسعون في فهمه والاستنباط منه بما لا تسعه العبارة الظاهرة، ويتعاملون بنفس المعاملة مع السنة المطهرة.

وقد قال الشيخ ابن عليوة معبرا عن هذه النظرة في مناقشته للشيخ عثمان بن المكي الذي يرى حكر الكتاب والسنة للسلفيين: ( أمّا قولكم: (فما الإسلام إلاّ كتاب الله وسنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)، فمن ذا الذي بلغّك عن الصوفيّة أنّهم يقولون إنّ الإسلام غير هذين الأصلين؟، نعم، يقولون: إنّ في كتاب الله من العلوم ما لا يتوصل إليه العموم، قال سلطان العاشقين([1]):         

فثمّ وراء النقل علم يدق عن
 
مدارك غايات العقول السليمة
 

ثم عقب على هذا بقوله: (ولعلّ المتجمّد على الظواهر لا يدري من كتاب الله إلاّ ما وصل إليه من جهة بضاعته القليلة، وقريحته الكليلة وينكر ما وراء ذلك، وهل يعتقد أنّ ما وصل إليه فهمه هو ما كانت عليه بواطن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في كتاب الله)([2])

بناء على هذا الاختلاف المهم في هذين المصدرين، سنبحث أدلة الفريقين، والمناقشات التي حصلت بينهما، أو بين مدرستيهما على ضوئه.

أولا ــ موقف الجمعية من كيفية الاستنباط من المصادر الأصلية

بناء على كون الجمعية – كما ذكرنا في بيان اتجاهها الفكري – تأخذ من المدرستين السلفيتين المحافظة والتنويرية، فإنها قبلت بعض الإشارات التي يوردها الصوفية في تفاسيرهم، ولم تجادل فيها بناء على اعتبار كلا الطرفين لها.

أما الطرف التنويري، فواضح في كونه يأخذ بالتفسير الإشاري، بل هو يبنى تعامله مع القرآن الكريم على أساسها، فيمكن اعتبار تفسير المنار إلى آخره عبارة عن تفسير إشاري، لأنه استنبط الكثير من المعاني النفسية والاجتماعية والحضارية وغيرها من الإشارات القرآنية.

وأما الطرف الثاني، وهو السلفية المحافظة، فإن مراجعها الكبار كابن تيمية وابن القيم لا ينكرونه، فابن تيمية يذكر أنَّ التفسيرَ المعتمدَ على الإشاراتِ المنسوبَ إلى بعضِ الأعلامِ، كجعفر الصَّادق (ت: 148) وغيره، بعضها كلامٌ حسنٌ، وبعضُها باطلٌ مردودٌ، وبعضُها مكذوبٌ مفترى على قائله، وأنها من بابِ الاعتبارِ والقياسِ، وإلحاقِ ما ليس بمنصوصٍ بالمنصوصِ، مثلُ الاعتبارِ والقياسِ الذي يستعمله الفقهاء في الأحكامِ([3])

وابن القيم يقول: (وتفسير النَّاسِ يدورُ على ثلاثةِ أصولٍ: تفسيرٌ على اللَّفظِ، وهو الذي ينحو إليه المتأخِّرون، وتفسيرٌ على المعنى، وهو الذي يذكره السَّلفُ، وتفسيرٌ على الإشارةِ والقياسِ، وهو الذي ينحو إليه كثيرٌ منَ الصُّوفيَّةِ وغيرهم)([4])

ثم عقب على هذا النوع الأخير، وهو التفسير الإشاري بقوله: (وهذا لا بأسَ به بأربعةِ شرائط: أن لا يناقضَ معنى الآية، وأن يكون معنًى صحيحًا في نفسِهِ، وأن يكون في اللَّفظِ إشعارٌ به، وأن يكون بينه وبين معنى الآيةِ ارتباطٌ وتلازمٌ، فإذا اجتمعت هذه الأمورُ الأربعةُ كان استنباطًا حسنًا)([5])

بالإضافة إلى هذا، فإن الشاطبي الذي هو مرجع الجمعية الأكبر في مثل هذه المسائل نص على اعتباره، فقال: (.. وكَونُ الباطنِ هو المرادُ من الخطابِ قد ظَهَرَ أيضًا مما تقدَّم في المسألةِ قبلَها، ولكن يُشترطُ فيه شرطان: أحدهما: أن يَصِحَّ على مقتضى الظَّاهرِ المقرَّرِ في لسان العربِ، ويجري على المقاصدِ العربيَّةِ.. والثاني: أن يكونَ له شاهدٌ – نصًّا أو ظاهرًا – في محلٍّ آخر يشهدُ لصحَّتِه من غير معارضٍ)([6])

وبناء على هذا قبلت الجمعية هذا النوع من التفسير، ولم تنكره، وكمثال على ذلك ما ذكره ابن باديس عند تفسير قوله سبحانه: {مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ } [النمل: 20]، فقد اقتبس نصا من القشيري في تفسير الآية([7]) واصفا إياه بالإمام وأنه شيخ الصوفية في زمانه، وعقّب عليه بقوله: (مثل هذه المعاني الدقيقة القرآنية الجليلة النفيسة من مثل هذا الإمام الجليل، من أجلّ علوم القرآن وذخائره)([8])

ثمَّ ذكر الشروط التي ذكرها ابن تيمية وابن القيم والشاطبي، وغيرهم، وهي:

1 ــ أن يكون ما يذكرونه معاني صحيحة في نفسها.

2 ــ أن تكون المعاني مأخوذة من التركيب القرآني أخذاً عربياً صحيحاً.

3 ــ أن يكون للمعاني ما يشهد لها من أدلة الشرع.

ويعقب على هذه الشروط بقوله: (كلّ ما استجمع هذه الشروط الثلاثة فهو صحيح مقبول، أمّا ما لم تتوفّر فيه الشروط المذكورة وخصوصاً الأول والثاني، فهو الذي لا يجوز في تفسير كلام الله. وهو كثير في التفاسير المنسوبة لبعض الصوفية، كتفسير ابن عبد الرحمن السلمي من المتقدّمين، والتفسير المنسوب لابن عربي من المتأخّرين)([9])

ولكن هذا القبول يكاد يكون نظريا، أو محصورا في دائرة ضيقة جيدا من الإشارات الواضحة، بناء على أن التفسير الإشاري الصوفي مبني على العرفان الصوفي، والجمعية والاتجاه السلفي عموما ينكر هذا النوع من العرفان، بل يكفر منتحليه، ويرميهم كما ترمي الجمعية الشيح ابن عليوة بالحلول.

ولهذا فإن موقف الجمعية الحقيقي أو الواقعي من هذا النوع من التفسير سلبي إلى درجة كبيرة، وللدلالة على هذا ننقل موقفا للشيخ أحمد حماني من كلام واضح بسيط قاله الشيخ ابن عليوة عند ذكره لكيفية وشروط الاستفادة من الإشارات القرآنية، فقد قال: (.. لا تستبعد ذلك فإن الكلام كلام الله ولا يتصف به غيره، نعم الكل يعتقد أنه كلام الله وما فاته إلا أن يسمعه من الله، ولا يسمعه من الله إذا كان سمعه سمع الله)([10])

واستدل لهذا بما ورد في الحديث من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به)([11])، وعلق على ذلك بقوله: (والصفة لا تنفك عن موصوفها، ولا تظهر إلا من حجاب لبسها، {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى: 51] موسى عليه السلام لما سمع خطابا من جانب الطور الأيمن لم يستدل على أنه كلام الله يكلمه به إلا به من أجل ما أعطي من سلامة الذوق وصحة الوجدان، وهكذا الواحد منا مهما تقوى يقينه وانشرح باطنه في ما يسمعه من ألفاظ القرآن، فلا يراه إلا كلاما يكلمه الله به في ذلك الحال، ولا يستدل عليه إلا به لما يحده في قلبه من تأثير النزول ورعدة الزواجر)([12])

وقد ذكر الشيخ العلاوي عن نفسه أنه مر بهذه الحالة واستدل لها بما ورد في الحديث عن النواس بن سمعان مرفوعا: (إذا أراد الله أن يوحي بأمره تكلم بالوحي فإذا تكلم بالوحي أخذت السماء رجفة شديدة من خوف الله فإذا سمع ذلك أهل السماوات صعقوا وخروا سجداً فيكون أولهم يرفع رأسه جبريل فيكلمه الله من وحيه بما أراد فينتهي به جبريل على الملائكة كلما مر بسماء سأله أهلها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ قال: الحق وهو العلي الكبير فيقول كلهم مثل ما قال جبريل فينتهي به جبريل حيث أمر من السماء والأرض)([13])، وقد عبر عن هذا بقوله: (وهكذا لما ينزل به على محمد صلى الله عليه وآله وسلم يحصل من تأثر النزول ما ترتعد به مفاصله، ولن يزال هكذا مهما مر على قلب فارغ من الكدورات إلا ويحدث فيه من تأثير النزول، وقد كان لي نصيب من ذلك والحمد لله، فكنت مهما يطرق سمعي كلام الله فترتعد بوادري عن الفحص حتى كأني أسمع حسيسا من بقية صلصلة الجرس، وكنت إذا ما تناولت المصحف الكريم نتناوله بيد التبجيل والتعظيم، ونراه كتابا وصل إلي من حكيم عليم مرقوما في أوله بعد الفاتحة وبسم الله الرحمن الرحيم ألم ذلك الكتاب لا ريب فتأخذ في الفحص فيه أشد من فحص الغريب إذا أتاه كتاب من أهله، فهو بالطبع يسكن إليه ولا يمطمئن إلا إذا استوعبه بأجمعه، وبهذه الخاصية والحمد لله أطلعني الله على بعض من جواهره، ولا تحسبن ما رسمته هو مجموع ما فهمته بل ولا عشوره ومصداقه (القرآن لا تنقضي عجائبه)([14])

وقد لقي هذا الحديث الذي عبر به الرجل عن حالة حصلت له قد يحصل مثلها لأي شخص – خاصة إذا توثقت صلته بالقرآن – معارضة كبيرة من الشيخ أحمد حماني باعتبار أن الكتاب لم يطبع في عهد ابن باديس، ولو أنه طبع في عهده كما يذكر الشيخ حماني لوجد معارضة أشد، وليسر على الجمعية إثبات الصلة بين العلاوية والقاديانية، باعتبار أن كليهما يرى (استمرار الوحي بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) ([15])

يقول الشيخ أحمد حماني: (وكانت جريدة الشهاب قد أثبتت الصلة الموجودة بين العليويين والقاديانية باعتراف جريدتهم البلاغ، ونشرها رسالة من أحد دعاتهم، وهاجمت الشهاب الطائفتين معا، فسكتت العليوية ولم يتبرأوا من التهمة، وهذه الدعوى من شيخهم تثبت اتهام الشهاب، ولم ينشر هذا الكتاب في حياة ابن باديس، ولو نشر لما احتاج إلى دليل آخر ليبرهن على أن مذهب القاديانية يتلاقى مع مذهبهم في هذه النقطة)([16])

وهذا يدل على أن الشيخ أحمد حماني – كالتيار السلفي المحافظ خصوصا – يفهم مما نقلناه من نصوص عن الشيخ العلاوي، وقبله من الشيخ أبي حامد الغزالي أن الصوفية يدعون استمرار الوحي.

يقول الشيخ أحمد حماني عند ذكره لخطورة المنهج الذي دعا إليه الشيخ العلاوي في التعامل مع القرآن الكريم: (وفي كتاب منسوب اليه، وإن كان تحريره وأسلوبه يعلو عن تعبيراته، ولكن ما فيه من الضلالات يشبه شعره، واسمه (البحر المسجور في تفسير القرآن بمحض النور) يقول عن القرآن الكريم: (من المؤمنين من فتح الله بصيرته يراه الآن يتنزل به الروح الأمين، وإذا قرأه يقرؤه من إمام مبين وأعظمهم درجة من يتلقاه من ارحم الراحمين وقليل ما هم)([17])

وقد علق على هذا بقوله: (وهذه جراءة لم يتح لأحد ـ فيما مضى ـ أن يعلن بمثلها في قوم من المسلمين فتروى عنه وتطبع وتروج، إنها تؤدى بقائلها والمصدق به إلى الاستغناء عن رسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذا كان (المؤمن) يأخذ القرآن من الامام المبين.. أو يأخذ مباشرة من أرحم الراحمين فإنه ليس من أمة محمد لأن أمة محمد أخذت القرآن منه عليه الصلاة والسلام، أخذه الصحابة مباشرة وكتبوه ورووه، وبلغ إلى من لم يكن حاضرا نزوله ومن بعده برواية بلغت حد التواتر في كل كلمة منه وكل حرف، وهو عليه الصلاة والسلام لم يأخذ القرآن مباشرة من اللوح المحفوظ، ولا تلقاه مباشرة من الله، وإنما تلقاه من لدن حكيم عليم بواسطة أمين الوحي جبريل عليه السلام، كما أنبأنا علام الغيوب، {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 192].. إن هذه الدعوى خطيرة جدا لأنها تؤدي إلى أن الوحي لم ينقطع بختم الرسالة، فمن يقرأ اللوح المحفوظ، ومن يتلقى عن الله فهو يوحى إليه (وما كان لبشر أن يكلمه)، ونحن المسلمين نعتقد أن الوحي قد انتهى بختم الرسالة، ولكن القاديانية تزعم غير ذلك) ([18])

ونحب أن ننبه هنا إلى أن ما ذكره الشيخ أحمد حماني من أن الشيخ العلاوي هو السابق لهذا، ولم يقل به إلا القاديانية غير صحيح، فقد ذكر أبو حامد الغزالي في هذا عن بعض الصوفية قوله: (كنت أقرأ القرآن فلا أجد له حلاوة حتى تلوته كأني أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتلوه على أصحابه، ثم رفعت إلى مقام فوقه كنت أتلوه كأني أسمعه من جبريل عليه السلام يلقيه على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم جاء الله بمنزلة أخرى فأنا الآن أسمعه من المتكلم به فعندها وجدت له لذة ونعيما لا أصبر عنه)([19])

وهم لا يقصدون منه ـ كما هو ظاهر ـ المعاني الحرفية للتنزل أو السماع، وإنما يريدون بهذا الأدب وتعظيم القرآن، ففرق كبير بين أن نقرؤه وكأننا نسمعه من الله مباشرة، وبين أن نعتبره كتابا كأي كتاب.

ولعله مما يثير الغرابة أن يستنكر الكثير هذه المقولات من الصوفية في نفس الوقت الذي يثنون فيه على الشيخ محمد إقبال، وينقلون عنه قوله في ذكرياته مع والده: (كنت قد تعودت أن أقرأ القرآن كل يوم بعد صلاة الصبح، وكان أبي كلما رآني يسألني: ماذا تصنع؟ فأجيبه: أقرأ القرآن، وظل على هذه الحال ثلاث سنوات متتاليات يسألني سؤاله وأجيبه جوابي، حتى قلت له ذات يوم: أبي ما بالك تسألني السؤال نفسه وأجيبك الجواب نفسه، ثم تعود إلى السؤال من جديد؟ فقال: إنما أردت أن أقول لك: (يا ولدي اقرأ القرآن وكأنه أنزل عليك)، ومنذ ذلك الحين بدأت أتفهم القرآن وأغوص في بحاره وأطير في أجوائه وأجوب في آفاقه، فأخرج من ذلك بعلم جديد وإشراق جديد، وأزداد إيماناً بأن القرآن هو الكتاب الخالد والدستور الأبدي للحياة، والنبراس الهادي الذي يضيء للبشرية طريقها إذا ما ادلهمت الظلمات)([20])

ثانيا ــ موقف الطرق الصوفية من كيفية الاستنباط من المصادر الأصلية

لا يختلف الصوفية مع الجمعية في كل ما ذهبوا إليه من التعامل مع المصادر الأصلية، وضرورة تفعيلها في الاستنباط، بل تفعيلها في الحياة جميعا، ولكنهم – مع ذلك- يعتبرون كل ذلك من الظاهر الذي لا يكفي وحده للاستفادة من المصادر الأصلية.

ولذلك يضيفون معان أخرى تتعلق بالنواحي الوجدانية والذوقية والعرفانية، وهذا كما ذكرنا هو لب التصوف بمدارسه جميعا، فهو يجنح إلى الباطن والوجدان، ولا يعني ذلك كما ذكرنا إنكار الباطن أو التهوين من شأنه.

ويمكن تقسيم ما ذكروه في هذا الباب إلى قسمين:

1 ــ قسم يرتبط بالآداب الباطنية التي ينبغي على قارئ القرآن الكريم أن يتحلى بها لتصل المعاني القرآنية إلى أعماقه ووجدانه.

2 ــ وقسم يرتبط بالمعاني التي يرون أنهم يلهمون أو يعلمهم الله إياها أثناء التلاوة، وهو ما يسمى بالتفسير الإشاري أو الباطني على حسب أنواع الإلهامات.

وسنشرح كلا الأمرين في هذا المطلب لأن فيه من القضايا ما يدخل في الخلاف بين المدرسة الصوفية والمدرسة السلفية، وقد حصل بسببه اختلاف في عهد الجمعية بينها وبين الطرق الصوفية، وخصوصا الطريقة العلاوية.

1 ــ أسس الآداب الباطنية للتلقي من القرآن الكريم:

يعتبر الصوفية الاقتصار على الآداب الظاهرية نحو القرآن الكريم من القصور الكبير في التعامل معه، ذلك أن القرآن ليس ظاهرا فقط، بل هو ظاهر وباطن، وهو حروف وحقيقة، والأدب مع الحروف لا يكفي للوصول إلى الحقيقة إلا إذا صحبه الأدب مع الحقيقة نفسها.

وبناء على هذا، فقد ذكر الشيخ العلاوي بعضا من المعاني في مقدمة تفسيره (البحر المسجور في تفسير القرآن بمحض النور) تشكل مقدمات أساسية للآداب الباطنية للقارئ مع القرآن الكريم، وهي ضرورية لمن يريد أن يفهم العلاقة التي تربط الصوفي بالقرآن الكريم، وقد دعا إلى قراءتها والتمعن فيها قبل قراءة التفسير.

وقد ساق هذه المقدمات على ترتيب خاص، فقسمها إلى ستة أقسام أو أسس، كل أساس منها يرشد إلى نافذة من نوافذ الأدب الباطني مع القرآن الكريم، وسنختصر هذه المقدمات هنا مع ما ساقه من الأدلة عليها، مع التعقيب عليها بما يوضح مقصدها:

الأساس الأول:

وقد خصصه لبيان أن القائم بالحق موجود في كل زمان، ويرد على القول السائر: (ما ترك الأول للآخر شيئا)، وكأنه يرد بهذا على ما يستند إليه الاتجاه السلفي خصوصا من تقييد فهم الدين بفهم السلف، ومن ثم الاقتصار على ما ورد في ظاهر التفسير دون غيره من المعاني التي قد تلوح لأي شخص في أي زمن.

وهذا الذي ذكره متفق عليه عند الصوفية، فهم يرون أن الفهوم القرآنية ليست خاصة بجيل دون جيل، وقد لقوا الإنكار عليهم بسبب هذا من طرف الفقهاء والمفسرين الذين يرون ضرورة الرجوع إلى فهوم الأولين، وقد نقل الغزالي ذلك، فقال: (لعلك تقول عظمت الأمر فيما سبق في فهم أسرار القرآن وما ينكشف لأرباب القلوب الزكية من معانيه، فكيف يستحب ذلك، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار)([21])، وعن هذا شنع أهل العلم بظاهر التفسير على أهل التصوف من المقصرين المنسوبين إلى التصوف في تأويل كلمات في القرآن على خلاف ما نقل عن ابن عباس وسائر المفسرين وذهبوا إلى أنه كفر، فإن صح ما قاله أهل التفسير فما معنى فهم القرآن سوى حفظ تفسيره وإن لم يصح ذلك فما معنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار)([22])

وقد أجاب الغزالي على هذا الإشكال، فقال: (اعلم أن من زعم أن لا معنى للقرآن إلا ما ترجمه ظاهر التفسير فهو مخبر عن حد نفسه وهو مصيب في الإخبار عن نفسه، ولكنه مخطئ في الحكم برد الخلق كافة إلى درجته التي هي حده ومحطه، بل الأخبار والآثار تدل على أن في معاني القرآن متسعا لأرباب الفهم)([23])

وقد ذكر بعض هذه الآثار، ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن للقرآن ظهرا وبطنا وحدا ومطلعا)([24])

ومنها قول علي: (إلا أن يؤتى الله عبدا فهما في القرآن) ([25])، وقد عقب الغزالي على هذا بقوله: (فإن لم يكن سوى الترجمة المنقولة، فما ذلك الفهم؟)([26])

ومن الآثار التي استدل بها الشيخ العلاوي في هذا ما ورد في الحديث من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لن تخلو الأرض من أربعين رجلا مثل خليل الرحمن فبهم تسقون وبهم تنصرون ما مات منهم أحد إلا أبدل الله مكانه الآخر)([27])، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أمتي مثل المطر لا يدرى أيه أنفع أوله أو آخره) ([28])

ويعقب على هذه النصوص بقوله: (حاشا لله أن يترك المحبوب أمة حبيبه سدى، فلم تزل أمة قائمة بالحق وبه يعدلون، ولو اعتمدنا مجرد الظن الحسن في الأمة المحمدية، لكان كافيا وأحرى مع وجود النقل الصحيح والنص الصريح)([29])  

ويختم هذا القسم بقوله: (لا يجهل فضل السابقين إلا مغرور، ولا ينكر وجود الباقية إلا هالك مبتور، ولكن الغبي لا ينكر الوجود إنما ينكر الوجدان بحيث لا يقدر أن يحققه في أي إنسان، والمعاصرة حرمان، ولعل القارئ لا ينكر وحود الباقية إنما ينكر فينا وجود الأهلية، فهذا كتابي لمن خلفه أية، فإن لم يسر المعاصرين (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) (صّ:86)، (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) (صّ:88)([30])

الأساس الثاني:

وقد خصصه لبيان أن للقرآن الكريم وجوها لا وجها واحد، وأنه لا تنقضي عجائبه حتى يستغنى بفهم المتقدمين منه عن فهم المتأخرين([31]).

والفرق بين هذا القسم والقسم الذي سبقه هو أنه في ذلك القسم بين أن المترجمين لمعاني القرآن غير محصورين في جيل من الأجيال، بل هم ينتشرون في كل الأجيال، وفي هذا القسم بين أن المعاني القرآنية ليست محصورة في وجه واحد، بحيث يصح فهم واحد منها دون ما عداه، أو يصبح ما عداه معارضا لما قبله، بل القرآن الكريم حمال وجوه، وهو بذلك لا تتعارض فيه المعاني.

وقد استدل لهذا بما ورد في الأحاديث، وخاصة قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن للقرآن ظاهرا وباطنا وحداومطلعا)([32])

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (القرآن لا تنقضي عجائبه)([33])

وقد عقب الشيخ العلاوي على هذا الحديث بقوله: (ومن عجائبه أن المتدبر فيه يرى من غرائبه كل يوم ما لا يراه بالأمس) ([34])

ويستدل لهذا من فعل سلف الصوفية بقول ابن عون: (ثلان أحبهن لي ولإخواني، وذكر منها أن هذا القرآن يتدبره الرجل ويتفكر فيه، فيوشك أن يقع على علم لم يكن يعلمه)

وبما ذكره أبو بكر بن العربي في فنون التأويل من أن (علوم القرآن خمسون علما، وأربعمائة علم وسبعة آلاف علم وسبعون ألف علم مضروبة في أربعة، إذ لكل كلمة ظاهر وباطن وحد ومطلع، وهذا دون اعتبار التركيبات وما بينها من الروابط) ([35])

بل هو يذكر فوق هذا أن هذه الفهوم لا ترتبط فقط بالجمل والكلمات الواضحة، بل يرتبط فوق ذلك بالحروف نفسها، وهو يستند في ذلك إلى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا أقول ألم حرف، بل الألف حرف، واللام حرف والميم حرف)([36])

وبما ورد من الآثار من أن (ما في الكتاب في الفاتحة وما في الفاتحة في بسم الله الرحمن الرحيم)، وبما ورد من أن (البسملة في بائها، وفي الباء في النقطة التي تحتها)([37])

بالإضافة إلى هذه الأدلة النقلية يستدل من المعقول بقوله: (ولولا ما اشتمل عليه كتاب الله من الغرائب لم نؤمر بالتدبر فيه على مر الدهور) ([38])

ويرد على من يتصور أن الفهوم محصورة في الجيل الأول، فيقول: (ولعل القائل يقول: قد كفانا الله ما أهمنا من استخراج جواهره على يد من تقدمنا، فأقول، وإذن لضاع حظنا من التدبر فيه، وحاشا لله فلا يقول بهذا عاقل، ولا من هو بالإيمان حافل، فإن كان ذلك لم لم يكتف أهل القرن الثاني على الكلام فيه بكلام من تقدمهم من أهل القرن الأول وأهل الثالث بالثاني، وهكذا.. فدل هذا على أن الحق جل ذكره لم يخصص بالتدبر جيلا دون جيل وأيضا لو كان التخصيص يشعر بانقضاء معانيه والحالة بخلاف ذلك)([39])

ويرى الشيخ أن هذه الفهوم الباطنية للقرآن تحتاج إلى أوعية خاصة، فكما أن ظاهر التفسير يحتاج إلى علوم وآلات، فكذلك باطن المعاني يحتاج إلى قلب صالح لاستقرار المعاني الإيمانية فيه، يقول في ذلك: (ولا يقع على علومه ويتفرس في وجوهه إلا مفتوح عليه، وأما المحجوب فإنه ينادى من مكان بعيد، ويسمع من وراء حجاب، فهو أبعد من أن يتناول الغاية من ظواهره، فكيف بباطنه، وأين هو من حده ومطلعه، ومن فتح الله عليه بالتوصل إلى شيء من ذلك لا يبعد أن يقول كما قال الإمام علي كرم الله وجهه وشئت لوقرت أربعين وقرا من شرح الفاتحة، أو كلاما هذا معناه، ولعلك تقول أين الإمام علي وأين علومه؟ فأقول: يا لله العجب، ومع ذلك لم يحتفل به من أهل زمانه إلا القليل، حتى كان يقول: أنا جنب الله الذي فرطتم فيه، وهو على المنبر والمفرط فيه هو المفرط الآن في أهل زمانه) ([40])

الأساس الثالث:

وتحدث فيه الشيخ العلاوي على أن من العلوم القرآنية ما هو خاص بالخاصة، ولا يمكن للعامة أن تفهمه أو تتعاطاه، يقول في بيان ذلك: (ولعل المتجمد على الظواهر لا يرى من كتاب الله إلا ما وصل إليه من جهة بضعته القليلة، وقريحته الكليلة، وينكر ما وراء ذلك، ولم يعلم أن ما عرفه من ظاهر الكتاب إلا كمن عرف القشر من اللباب، وما وراء ذلك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وهل يعتقد أن ما وصل إليه فهمه ما كانت عليه بواطن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في كتاب الله، وليفتش نفسه إن كان ما أكنه فؤاده أعز ما تحدث به فهو على بينه من ربه، وإلا ما ضاع له أكثر مما حصل عليه) ([41])

واستدل لهذا بما يورده الصوفية عادة في تبرير ما يطرحونه من مسائل غامضة مستعصية على الفهم العامي البسيط، ومن ذلك ما يروون أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا العلماء بالله، فإذا أظهروه أنكرته أهل الغرة بالله) ([42])

وما روي في الآثار من أن (علم الباطن سر من أسرار الله، يقذفه الله في قلب من يشاء من عباده)([43])، و(العلم علمان: فعلم في القلب، فذلك العلم النافع)([44])

وما روي عن أبي هريرة من قوله: (حفظت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعاءين من العلم)([45])، وعن ابن عباس: (لو قلت لكم ما أعلم من تفسير قوله تعالى: { يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} [الطلاق: 12] لرجمتموني) ([46])

ويروون عن سلمان الفارسي: (لو حدثتكم بكل ما أعلم لقلتم رحم الله قاتل سلمان)، ويروون عن زين العابدين قوله([47]):

إني لأكتم من علمي جواهره
 
كيلا يرى الحق ذو جهل فيفتننا
 
يا رب جوهر علم لو أبوح به
 
لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا
 
ولاستحل رجال مسلمون دمي
 
يرون أقبح ما يرونه حسنا
 

ويركز الشيخ العلاوي في هذا خصوصا على ما وري عن الإمام علي الذي يعده الصوفية إمامهم الأول والأكبر، فأكثر الطرق تعود في سندها إليه، ومما نقله عن الشيخ العلاوي في هذا قوله: (إن بجانبي علما لو قلته لأزلتم هذا عن هذا)، وأشار برأسه عن جثته، وعلق على هذا بقوله: (فدل هذا على أن في الزوايا خبايا)([48])

ونقل كذلك وصيته المشهورة لكميل بن زياد بطولها، وقد قدم لها بقوله: (وفي وصابته لسيدنا كميل بن زياد ما يلائم أكثر المشار، ولنردها مع طولها لما فيها من الحكم التي لا يستغنى عنها)([49])

وهذه الوصية هي التي يقول فيها علي لكميل: (يا كُميل، إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها، فاحفظ عني ما أقول لك: الناس ثلاثة؛ عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباعُ كل ناعق، مع كل ريح يميلون، لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجئوا إلى ركن وثيق، فاحذر أن تكون منهم يا كميل.. العمل خير من المال، لأن العلم يحرسك، وأنت محرس المال والمال تُنقصه النفقة، والعلم يزكوا على الإنفاق، ومنفعة العلم باقية ومنفقعة المال تزول بزواله.. يا كميل: محبة العلم دين يدان به يكسب الإنسان به الطاعة في حياته وميل الأحدوثة بعد وفاته، العلم حاكم والمال محكوم عليه.. يا كميل: مات خزَّان المال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة… آه لو وجدت لهذا العلم حملة لا أجد إلا لقناً غير مأمون، يستعمل آلة الدين للدنيا، ويستظهر بنعم الله على عباده، وبحججه على أوليائه، أو منقاداً لحملة الحق، ولا بصيرة له في أحناته، ينقدح الشك في قلبه لأول عارض من شُبهة، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، أو منهوكا باللذة سلس القياد للشهوة، أو مغرماً بالجمع والادخار، ليسا من رعاة الدين في شيء، أقربُ شبهاً بهما الأنعامُ السائمة كذلك يموت العلم بموت حامليه مستترا.. يا كميل: لا تخلو الأرض من قائم بحجة الله، إما ظاهراً مشهوراً أو مغموراً لئلا تبطل حجج الله وبيناته، أولئك والله الأقلون عدداً والعظمون قدراً، بهم يحفظ الله حججه، وبيناته حتى يودعوها نظراءهم ويزرعوها في قلوب أشباههم، هجم بهم العلم على حقيقة الإيمان حتى باشروا روح اليقين، فاستلانوا ما استخشن المترفون، وأنسوا بما استوحش من الجاهلون وصحبوا الدنيا بأبدان معلقة بالرفيق العلى.. يا كميل: أولئك خلفاء الله في أرضه، والدعاة إلى دينه، آه شوقاً إليهم)([50])

وبعد نقله لهذه النصوص وغيرها قال: (والمحصول مما نقلناه أن جميع ما أشارت إليه الكتب هو بعض مما تضمنته القلوب وما عند الله خير للأبرار)([51])

ونحب أن نشير هنا إلى أن هذه الغوامض التي يسميها الصوفية أسرارا لا تعني السر بمفهومه السطحي، والتي يتصور البعض أنها قد تخالف الظاهر، بل تعني عندهم كل معنى عميق لا يطاق فهمه لمن لم يستكمل أدوات فهمه.

وأدوات الفهم هنا ليست علوما آلية كسائر العلوم، بل هي المجاهدات والسلوك، أو كما قال الغزالي بعدما درس التصوف، وبعدما ما انشغل قبله بدراسة علم الكلام والفلسفة وغيرهما: (ثم إني لما فرغت من هذه العلوم، أقبلت بـهمتي على طريق الصوفية وعلمت أن طريقتهم إنما تتم بعلم وعمل ؛ وكان حاصل علومهم قطع عقبات النفس. والتنـزه عن أخلاقها المذمومة وصفاتها الخبيثة، حتى يتوصل (بـها) إلى تخلية القلب عن غير الله (تعالى) وتحليته بذكر الله.. وكان العلم أيسر عليّ من العمل. فابتدأت بتحصيل علمهم من مطالعة كتبهم مثل: (قوت القلوب) لأبي طالب المكي (رحمه الله) وكتب (الحارث المحاسبي)، والمتفرقات المأثورة عن (الجنيد) و(الشبلي) و(أبي يزيد البسطامي) [قدس الله أرواحهم]، وغيرهم من المشايخ ؛ حتى اطلعت على كنه مقاصدهم العلمية، وحصلت ما يمكن أن يحصل من طريقهم بالتعلم والسماع. فظهر لي أن أخص خواصهم، ما لا يمكن الوصول إليه بالتعلم بل بالذوق والحال وتبدل الصفات. وكم من الفرق بين أن تعلم حد الصحة وحد الشبع وأسبابـهما وشروطهما، وبين أن تكون صحيحاً وشبعان؟ وبين أن تعرف حد السكر، وأنه عبارة عن حالة تحصل من استيلاء أبخرة تتصاعد من المعدة على معادن الفكر، وبين أن تكون سكران! بل السكران لا يعرف حدّ السكر وعِلمه وهو سكران وما معه من علمه شيء! والصَّاحي يعرف حدّ السُكر واركأنه ومَا معه من السكر شيء. والطبيب في حالة المرض يعرف حدّ الصحة وأسبابـها وأدويتها، وهو فاقد الصحة. فكذلك فرقٌ بين أن تعرف حقيقة الزهد وشروطه وأسبابه، وبين أن تكون حالك الزهد وعزوف النفس عن الدنيا!)([52])

الأساس الرابع:

وقد خصصه الشيخ العلاوي لبيان أن المقصود بالخطاب في القرآن هو جميع المكلفين واحدا واحدا و(ولا واحد أولى من الآخر في كل زمان)، يقول في بيان هذا: (إن القرآن كلام الله يكلم به عباده، وهم لا يشعرون، وكتاب بعث إليهم بالخصوص وهم لا يدرون، لاهية قلوبهم كأنهم يظنون أنه وجد اتفاقا، فصاروا يأخذون منه أحكامهم وليسوا بالمقصودين في علم)([53])

وهو لا يريد بهذا المعنى ما هو مشهور من أن الخطاب في القرآن يتوجه إلى المكلفين باعتبارهم المقصودين بالأوامر الإلهية فقط، فذلك لا يجادل فيه أحد، وإنما يشير إلى معنى أعمق وأخطر، وقد لقي معارضة من المنكرين، كما لقي قبله من قال ذلك من الصوفية، وهو ما عبر عنه بقوله: (فمن فتح الله بصيرته يراه الآن يتنزل به الروح الأمين، وإذا قرأه يقرأه من إمام مبين، وأعظمهم درجة من يتلقاه من أرحم الراحمين وقليل ما هم)([54])

وقد أشار الصوفية قبله إلى هذا المعنى، فقد ذكر الشيخ الغزالي عند ذكره للآداب الباطنة مع القرآن أدبا خاصا بهذا سماه (الترقي)، وعرفه بأن (يسمع الكلام من الله عز وجل لا من نفسه)([55])

وبين أن القراءة النافعة ثلاث درجات، ولكل درجة السلوك الخاص المرتبط بها، ولا بأس أن نذكر ما ذكره هنا لصلته بما ذكره الشيخ العلاوي أولا، ولبيان أن ما يذكره الصوفية من درجات لا تتنافى مع ما يذكره غيرهم، وإنما يختلفون فقط في المراتب، لا في الحقائق، فالصوفية يعتبرون أن ما يذكره غيرهم صحيح، ولكنه درجة دنيا، وهناك ما هو أرفع منه، وهم يدعون إلى هذا الأرفع، ولهذا فإن مراتب السماع الروحي للقرآن تتدرج عند الغزالي والصوفية معه في هذا إلى ثلاث مراتب([56]):

الأولى، وهي أدناها أن يقدر العبد كأنه يقرؤه على الله عز وجل واقفا بين يديه وهو ناظر إليه ومستمع منه فيكون حاله عند هذا التقدير السؤال والتملق والتضرع والابتهال.

والثانية، وهي أرفع من التي قبلها: أن يشهد بقلبه كأن الله عز وجل يراه ويخاطبه بألطافه ويناجيه بإنعامه وإحسانه فمقامه الحياء والتعظيم والإصغاء والفهم

والثالثة، وهي أعلى الجميع: أن يرى في الكلام المتكلم، وفي الكلمات الصفات، فلا ينظر إلى نفسه ولا إلى قراءته ولا إلى تعلق الإنعام به من حيث إنه منعم عليه، بل يكون مقصور الهم على المتكلم، موقوف الفكر عليه، كأنه مستغرق بمشاهدة المتكلم عن غيره، وقد عبر عن هذه الدرجة جعفر بن محمد الصادق حين قال: (والله لقد تجلى الله عز وجل لخلقه في كلامه ولكنهم لا يبصرون)، وقال، وقد سألوه عن حالة لحقته في الصلاة حتى خر مغشيا عليه فلما سرى عنه قيل له في ذلك فقال: (ما زلت أردد الآية على قلبي حتى سمعتها من المتكلم) ([57])

وقد ذكر الغزالي أن هذه الدرجة هي درجة المقربين، وما قبله درجة أصحاب اليمين، وما خرج عن هذا فهو درجات الغافلين([58]).

الأساس الخامس:

وقد خصصه الشيخ العلاوي بناء على ما سبق على أن كل ما ورد في القرآن الكريم خاص بكل المكلفين في كل وقت وآن، حتى ما تعلق من ذلك بالأمم السابقة، يقول في بيان هذا الأساس: (ومهما اعتبرنا ما بين دفتي المصحف كتابا من الله جل ثناؤه وصل إلينا بالخصوص لزمنا أن لا نحمل ما أوعد الله أو وعد به على غيرنا من الأمم، فمهما ثبت الاستحقاق في شخص بشيء من ذلك فيكون هو المقصود نفسه بذلك الخطاب، وهكذا سائر الأوامر والنواهي والترغيبات والترهيبات، وهذا وجه كون الكتاب إلينا) ([59])

ورد على ما قد يتعقب عليه به مما تذكره عادة كتب التفسير من رد أسباب النزول إلى أشخاص معينين أو أحداث معينة بأن سبب النزول مرتبط فقط بابتداء النزول، يقول في ذلك: (وأما كون الآية نزلت في فلان أو فلان، إنما ذلك الشخص سبب لابتداء تهيئ الجنس المستحق لذلك الوصف أو الحكم، والمعتبر من خطاب الله عموم اللفظ لا خصوص السبب) ([60])

ولم يكتف الشيخ العلاوي ــ كعادة الصوفية ــ بالتعليل الأصولي والفقهي، والذي ينص على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وإنما راح يستدل على ذلك بما يذكره العرفانيون من الحقائق حول الروح الإنسانية، فقال: (والأرواح جنود مجندة متساوية في تعلق الخطاب بها ليست متعاقبة الوجود كتعاقب الأجسام، فأرواح المنافقين مثلا من عهد رأس المنافقين الأولين إلى خاتمهم يشملهم وعد المنافقين، فتكون آية المنافقين نزلت في كل فرد من ذلك الجنس، وقس على ذلك أنواع المخاطبين، وإلا كان الكثير من ألفاظ التنزيل في حيز التعطيل) ([61])

وهنا يقرر الشيخ العلاوي قضية مهمة ركز عليها في تفسيره كما ركز عليها الصوفية من قبله، وهي أنه ليس في القرآن الكريم ما يذكره الكثير من المفسرين من المعطل الذي لا يعمل به، فلا حروف زائدة، ولا مكرر، والناسخ والمنسوخ له محله من العمل.. وهكذا ما ورد في شأن الأمم السابقة فله مقتضاه ومتعلقه في كل زمان، يقول الشيخ العلاوي في بيان هذا: (وإني لا أرى من كتاب الله لفظا معطلا لم يكن مقرونا بمستحقه في كل زمان، وإن لم نقل في كل آن، والمعنى أن سائر ألفاظه دائرة بين مخاطب ومخاطب في كل حين واقعة موقعها من غير زيادة ولا نقصان) ([62])

بل حتى ما ورد في شأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرى الشيخ العلاوي أن له أهله من الورثة، يقول في بيان ذلك: (والأغرب من هذا أن الخطاب المختص بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم حقيقة قد يتناول غيره من ورثته على سبيل الإشارة مجازا، وأما ما فيه من التهديدات ونسبة التقصير له فيكون لوارثه حقيقة لأنه أولى بالتقصير، فالطب المحمدي أو من على قلب سيدنا إبراهيم على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام إذا طرق سمعه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} [الأنفال: 64]، أو {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [المائدة: 67] لا يرى ذلك إلا أمرا من الله، وهو المقصود به في تبليغ الشرائع، وهذه هي الحكمة، والله أعلم في عدم ندائه في كتابه المجيد باسمه كأن يقول: يا محمد أو يا أحمد، كندائه من تقدم من المرسلين عليهم صلوات الله وسلامه، إنما جاء بالنداء: يا أيها النبي، يا أيها الرسول، يا أيها المزمل، يا أيها المدثر، وهكذا يتناول الورثة من بعده المبلغين عنه على سبيل الإشارة والعلماء ورثة الأنبياء والمبلغون ورثة الرسل) ([63])

وهنا يعود الشيخ إلى ما تنكره عليه الجمعية والاتجاه السلفي عموما من ذكر استمرار رسالية التبليغ، ويستدل لذلك بما ورد في القرآن الكريم من الآيات التي سمت رسل المسيح رسلا، يقول في ذلك: (ألا ترى أن عيسى عليه السلام لما بعث المبلغين عنه إلى مدينة أنطاكية سماهم الله رسلا، وأضاف إرسالهم لنفسه، فقال: {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} [يس: 14] فلا مانع أن ينادى المبلغ من الأمة المحمدية على لسان القرآن بذلك الاسم، ويكون مقصودا به في علم الله، ألا ترى أنه نادى محمدا صلى الله عليه وآله وسلم في التوراة وغيرها من الكتب بما هو من هذا القبيل كقوله: (يا أيها الجبار تقلد سيفك)، وهذا الخطاب يحتمل أن يكون متناولا لغيره في ذلك العصر مجازا مدخرا للمصطفى صلى الله عليه وآله وسلم حقيقة) ([64])

ولأجل هذا علل الشيخ العلاوي (عدم نداء الأنبياء بغير الاسم الصريح)، وذلك (لعدم استمرار شرائعهم بخلاف شريعة نبينا الأحمدية، فإنها مستمرة والنداء فيها يعم كل وارث، حتى ينتهي إلى المهدي، ثم لعيسى عليهما السلام، فإن أمر الله لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم أمر لهما، وخطابه خطاب لهما، فلهذا جاء في النداء في التنزيل ب (يا أيها)([65])

وهذا التعليل الذي يذكره الشيخ ينبع من الحقيقة المحمدية التي تعتبر من المعارف الكبرى لدى الصوفية، ومن نتائجها أن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ما زالت سارية في الوجود، وأن الوفاة لم ترتبط إلا بجسده الشريف، أما فاعليته باسم النبوة والرسالة فهي ثابتة دائمة لم تزل، يقول في ذلك: (ثم اعلم أن المبلغ الحقيقي الآن، وقبل الآن وبعد الآن ليس هو إلا محمد صلى الله عليه وآله وسلم فنوره الكامن في خلفائه هو الذي يسمع النداء المختص به) ([66])

واستدل لهذا بحديث نقله عن ابن عبد البر وهو أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (رحمة الله على خلفائي)، قالوا: من خلفاؤك يا رسول الله؟ قال: (الذين يحيون سنتي ويعلمونها عباد الله)([67])

واستأنس لهذا أيضا بعدم حذف (قل) في الكثير من المواضع في القرآن الكريم، يقول في ذلك: (والذي يزيدنا شعورا بما قدمناه هو عدم حذف كلمة قل من التلاوة والرسم مع أنها ليست داخلة في مقول القول ضرورة، فإذا قال الله لنبيه: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ } [الأعراف: 188]، فالمتبادر فهمه أن يقول: (لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً) بحذف كلمة قل: وما أثبتت في هذه الكلمة إلا لأنها فعل متصل، الدائم التعلق كغيره من الأفعال، يتناول كل من يستحق القول، مهما فهم عن الله، ونعني به الوارث المحمدي، ولو حذفت كلمة (قل) لضاع حظنا، أو نقول: فهمنا من كتاب الله وما يعقلها إلا العالمون) ([68])

الأساس السادس:

وهو الأساس الذي قدم له بجميع المقدمات السابقة، وهو الذي يريد أن يصل من خلاله إلى ما يذكره في تفسيره من المعاني الغامضة، وخلاصة ما ذكره في هذا القسم هو أن النزول القرآني ليس مرتبطا فقط بالآيات المتنزلة، بل هناك أيضا أنوار وملائكة خاصة تتنزل مع حروف القرآن وكلماته وآياته، وهذه الأنوار والملائكة المصاحبة لها لا تزال مصاحبة للقرآن الكريم، وأنها إن وافقت استعدادا من أي قارئ فإنها تصيبه من بركاتها وأنوارها.

وقد قدم لهذا المعنى بقوله: (وأهم شيء نعتبره من كتاب الله إذا تناولناه هو أن نراه واصلا إلينا الآن من حضرة الله جل ذكره على الهيئة التي هو عليها بين دفتي المصحف وعلى عنوان: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2])([69])

ورد على الإشكال الذي ينظر إلى النواحي التاريخية المرتبطة بتوثيق القرآن الكريم وحفظه، فيقول: (ولا يشكل عليك من أن جمع المصحف وتنظيمه على الهيئة الحاضرة وبعثه للأمصار هو من أثر الصحابة عليهم رضوان الله، نعم كان ذلك، ولكنهم مسخرون، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] فقد تولى الله حفظه كما تولى إنزاله، فيكون هو الجامع له، والمنظم له في الحقيقة على الهيئة السابقة في علمه) ([70])

ويستدل لهذا بما ورد في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (البقرة سنم القرآن وذروته نزل مع كل آية منها ثمانون ملكا)([71])

وعقب على هذا الحديث بقوله: (أو هل ترى أن الملائكة النازلة إلى الأرض مع هاته السورة بلغوها وتركوها بالأرض سدى، كلا لن يزال كتاب الله بعناية الله محفوفا مشيعا بالملائكة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وإلى الله تصير الأمور، ولا يوهمك عبث الشياطين ببعض أجزائه فإن حفظه وتشييعه في الجملة من حيث وجوده بين أفراد الإنسان، وأما كون البقرة سنمه وذروته دليل على تنظيم الله له في سابق علمه وعلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهيئة الحاضرة) ([72])

ويمكن أن يستدل لهذا الذي ذكره الشيخ بما ورد في الحديث الذي حدث به أسيد بن الحضير عن نفسه أنه ذكر أنه بينما كان يقرأ من الليل سورة البقرة، وفرسه مربوطة عنده، إذ جالت الفرس، فسكت فسكنت، ثم قرأ، فجالت، فسكت فسكنت، ثم قرأ فجالت الفرس، فانصرف، وكان ابنه يحيى قريبا منها، فأشفق أن تصيبه، فلما اجتره رفع رأسه إلى السماء حتى ما يراها، فلما أصبح حدث النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال:(اقرأ يا بن حضير، اقرأ يا بن حضير)، قال: فأشفقت يا رسول الله أن تطأ يحيى، وكان منها قريبا، فرفعت رأسي وانصرفت إليه، فرفعت رأسي إلى السماء، فإذا مثل الظُّلَّة، فيها أمثال المصابيح، فخرجت حتى لا أراها قال:(أو تدري ما ذاك؟)، قال: لا، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(الملائكة دَنَتْ لصوتك، ولو قرأت لأصبحت نظر الناس إليها لا تتوارى منهم)([73])

وفي رواية أخرى عن أسيد بن حضير قال: قلت: يا رسول الله، بينما أنا أقرأ البارحة بسورة، فلما انتهيت إلى آخرها سمعت جبة من خلفي، حتى ظننت أن فرسي تطلق، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(اقرأ أبا عتيك) مرتين، قال: فالتفت إلى أمثال المصابيح ملء بين السماء والأرض، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(اقرأ أبا عتيك)، فقال: والله ما استطعت أن أمضي فقال:(تلك الملائكة نزلت لقراءة القرآن، أما إنك لو مضيت لرأيت الأعاجيب) ([74])

2 ــ معاني القرآن الإشارية

بناء على ما سبق من الأسس التي يقوم عليها التعامل الصوفي مع القرآن الكريم نجد الصوفية يستنبطون المعاني الكثيرة من الآية الواحدة، ولو كان المعنى المستنبط في ظاهره غريبا تماما عن المقصود الظاهر من الآية.

وسنحاول هنا أن نذكر بعض النماذج عن الشيخ الذي تلقى النقد الأكبر من طرف جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وهو الشيخ ابن عليوة، وذلك من خلال تفسيره السابق، ومن خلال مواضع تفسيرية أخرى في سائر كتبه ورسائله:

النموذج الأول:

وهو ما أورده في تفسيره لسورة العصر، والتي خصها برسالة عنوانها (رسالة مفتاح علوم السر في تفسير سورة والعصر)([75])، وسبب تأليفه لها هو سؤاله من قبل بعض العلماء الأعيان أن يبسط له بعض الحديث في شأن ما يتعلق بها على طريق الفهم الخاص.

فبعد أن أورد فيها ما يورده أصحاب التفسير الظاهر من معاني أخذ يذكر الإشارات الكثيرة المرتبطة بها، وأهمها ما ذكره عند بيانه لسر تأكيد الله تعالى لخسران الإنسان بالقسم بالعصر أن الحكمة من ذلك (تفيد كون الإنسان يجهل خسرانه، ويبعد أن يدركه ما دام لا يشعر بحقيقة ما كان عليه قبل تعلّق الروح بالجسم المعدني، أمّا لو تخيل ذلك عندما كـان جوهرا خالصا متخلّصا من عموم المواد، وسائر لوازم الفساد، لاعترف بخسرانه بالنظر لما هو عليه الآن، ومن أين له أن يدرك ذلك وهو مكبول بشهواته، مسجون في ظروف طبيعته، وتلك الحالة هي أبعد المراتب، وأقصى الغايات التي تبعد به عن نيل سعادته الأبديّة، وكذلك يبقى ما دامت بصيرته لم تنفذ إلى ما وراء هذه الظروف المحدقة به، ولكن لا تنفذ إلاّ بتصريح برهان {فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن: 33]، وإذ ذاك يدرك خسرانه بالنسبة لما كان عليه قبل تعلّق الروح بالبدن ولو تخيّل ذلك لما احتيج للتوكيد)([76])

وهو يفصل في النواحي الجمالية التي كان يعيشها الإنسان قبل نزوله إلى هذا العالم، فقال: (كانت الروح في كرامة عظيمة وحالة جسيمة تتلّقى نداها من الله من غير واسطة، وتجيب جـوابا خاليا من كلّ شبه، ولم تفقد حظّها من تلك الكرامة ولو بعد هبوطها وتعلّقها بأول جسم للإنسـان فإنّه توجها بتاج العلم، وكلّلها بإكليل الفهم، وعلمها ما لم تكن تعلم، وكفاها أنّه أسجد لهـــا الملائكة، وعموم الأرواح كالذر وفي ظهر آدم)([77])

ثم يبين كيف انتقل الإنسان من تلك الأحوال السامية إلى الأحوال الحيوانية، وعظم الخسارة التي خسرها بسبب ذلك، فقال: (غير أنّ الرابطة بالجسم أكسبتها صبغة غير التي كانـت عليها، فلم يشعر الإنسان إلاّ وهو نوع من أنواع الحيوان يعمل بحكم الطبيعة داخل الجنس العام، وشتان ما بين المرتبتين، وبعد ما بين الحالتين، أعني حال الإنسان الأوّل، وحال الإنسان الثاني على مـا يقتضيه النور الشاسع بين الرتبتين حتى كأنّه لم يكن هو، وليس بمستبعد إن قلنا أنّ الإنسان الأول هو غير الإنسان الثاني مهما كان يطلق لفظ الإنسان على المعنيين)([78])

وهو في هذا ينطلق من الفهم الصوفي للحقيقة الإنسانية، وأن ما هي عليه الإنسان الآن مجرد نشأة من النشآت، وأن هناك نشآت كثيرة سابقة، كان الإنسان فيها في أعلى عليين، ويعبر العرفانيون عن ذلك النزول بــ (قوس النزول)([79])

ثم يذكر أثر هذه النشأة في تحديد مصيره في النشآت الأخرى فيما يسميه العرفانيون (قوس الصعود) الذين يستشهدون له بقوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 46]، وقوله: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } [البقرة: 156]، فيذكر أن باستطاعة الإنسان (أن يتدارك ما فاته من عزّة، وليس ذلك إلاّ أن يكون بالروح إنسانا)([80])، وذلك يتم بالتحقق بمقتضى قوله تعالى: { إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 3]

يقول معبرا عن ذلك: (أمّا الخلاص النهائي فإنّه لا يتحقّق ولا يتصوّر بمعناه اللازم إلاّ باستجماع تلك الخصال الأربعة وهـي: الإيمان، والأعمال الصالحة، والتواصي بالحقّ، والتواصي بالصبر عليه، أمّا إذا فات الإنسان – والعياذ بالله – حظّه من الإيمان في هاته الحياة، الدنيا فقد خسر خسرانا مبينــا يجعله يقول يوم يرى سعادة السعداء بالنظر إلى شقاوة الأشقياء، يا ليتني كنت ترابــا، أمّا إذا نال حظّه من الإيمان في هاته الدنيا بالقدر الذي يفصله عن محيط الكفران بالله ورسولــه، فقد يتقدّم بذلك شوطا غير قصير في سبيل سعادته ونيل بغيته، ولكن لا تثبت أقدامه في ذلك الدور إلاّ بالأعمال الصالحة، والأعمال الصالحة هي جنس يدخل تحته أفراد كلّ فعل محمود، ويخرج منه كلّ فعل مذموم، وهذا الدور يعتبر أرفع درجة في نيل السعادة غير أنّه لا تستقر أقدام صاحبه استقرارا تاما إلاّ مع التواصي بالحقّ، ومن لم يتواص بالحقّ قل أن يصبر في طريق الحقّ، بناء على أن رأس الأعمـال الصالحة هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن لم ينه ويأمر يخش عليه يوما من الأيام يصبـح فيه حيث لا نهي ولا أمر)([81])

وهكذا نجده يعود من العرفان إلى الشريعة، وهو كشأن الصوفي المحققين الذين لا يدلهم عرفانهم إلى على المزيد من التمسك بالشريعة وأحكامها، ولكن في درجة أمتن وأرفع وأحكم.

النموذج الثاني:

وهو في تفسيره للمراد بالأسباط في قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إبراهيم وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ} [النساء: 163]، واعتبار أنهم إخوة يوسف عليه الىسلام، وأنهم أنبياء على الرغم مما فعلوه مما يتنافى مع عصمة الأنبياء – عليهم السلام- وقد وجه ذلك توجيها نرى فيه نوعا من التكلف، بل نرى الشيخ في هذا اقترب كثيرا من المنهج السلفي الذي يقصر كثيرا في تصوره لعصمة الأنبياء.

وسنعرض توجيهه لذلك، فقذ استنتج من قوله تعالى على لسان يوسف عليه السلام:{إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا} [يوسف: 4]أن (تمثيلهم في عالم الرؤيا بالكوكب دلالة على نبوءتهم، لأنّ الكواكب ممّا يهتدى به، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا} [الأنعام: 97]، ومثل ذلك قول سيدنا يعقوب في جوابه ليوسف، فيما حكى الله عنه: {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ} [يوسف: 6]، ولا يعني بالآل إلاّ الأسباط، ولا يعني بالنعمة إلاّ نعمة النبوءة، والله أعلم)([82])

ونرى أن هذا فيه نوع من التكلف، فالآل لا يراد بهم مجرد الأقربين من أهل الإنسان، كما أن النعمة لا يراد بها النبوة فقط.

وفوق ذلك نرى تكلفا في تأويل تصرفهم مع أبيهم وأخيهم، فقد قال الشيخ ابن عليوة في هذا: (وأمّا من جهة فعلهم مع يوسف، فهو قابل للتأويل لو تأملناه مع مراعاة الداعي لذلك فلا نجده إلاّ شدّة حبّهم ورغبتهم في أبيهم، والعبرة بالمقاصد، والعلّة غير خافية، من انّهم ما أرادوا بتغريب يوسف إلاّ ليحلو لهم وجه أبيهم، فكأنّهم اشتروا بذلك صفاء الوقت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بدليل قولهم: {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ } [يوسف: 9]، أمّا القتل فقد كان مجرد اهتمام لم يبرز إلى حيز الفعل، وأمّا الترغيب فهو المقصود، بدليل قولهم: {يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ } [يوسف: 10].. أمّا رجوعهم إلى أبيهم يبكون، فلاحتمال لما لحقهم من الرقّة والأسف على فعلهم الذي كانوا يرونه ممّا لا بدّ منه، وإلاّ لما خلا لهم وجه أبيهم)

وهكذا يمضي الشيخ في التأويل البعيد، والذي لا ينسجم مع ما للأنبياء من كرامة وعصمة.

بل إنه يغرب أحيانا في تأويله إلى حد لا يكاد يطاق، فنراه مثلا يقول في توجيه قول يوسف عليه السلام لإخوته: {أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا } [يوسف: 77]: (وإن كانت كلمة ذمّ فما أتى بها يوسف إلاّ تعجبّا من دهائهم، وجودة فكرهم، حيث أرادوه وقصدوه بما أرادهم به يوسف، لمّا جعل السقاية في رحل أخيه وقصدهم بقوله: {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ} [يوسف: 73]، وفي هذا دلالة على أنّهم متحسّسون من أن يكون هو يوسف، وإلاّ ما أقسموا يمينا من أنّه على علم من شأنهم، ولمّا أخرجت السقاية من رحل أخيه، وتحقّقت تهمتهم، لزمهم أن يقصدوه بما قصدهم)([83])

وبعد هذه التوجيهات وغيرها ينتقل الشيخ إلى الجانب الإشاري الصوفي، والذي تمنينا لو أنه اقتصر عليه، فقد قال: (ويستنبط من هاته القصّة أنّه يجري للقلب الذي يريد الله تعالى أن يستخلصه لنفسه مع النفس الأمارة، مثلما جرى ليوسف مع امرأة العزيز، لأنّ النفس تريد أن تستحلّ القلب بكلّ وسيلة، لتستعمله في غرضها، لما يشغفها من حبّه، وهكذا تراوده إلى أن تغلق عليه الأبواب، وتقول له: {هَيْتَ لَكَ} [يوسف: 23]، فيقول القلب المخلص لله: {مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ } [يوسف: 23])([84]) وهكذا يصور الشيخ الصراع بين النفس الأمارة، والقلب الذي يراد أن يستخلص لله تعالى، وهي إشارة عميقة جميلة مؤثرة.

المطلب الثاني: المصادر الغيبية بين الجمعية والطرق الصوفية

من النواحي التي اختص بها الصوفية بمختلف مدارسهم اهتمامهم بما يمكن تسميته بالمصادر الغيبية للمعرفة([85])، وهي المصادر التي لا يمكن لغير صاحب التجربة أن يستدل لها، ذلك أنها غيبية، لا تدل عليها المدارك الحسية، ولا يدل عليها المنطق العقلي المجرد، والدليل الوحيد الذي يمكن الوثوق به نحوها هو الثقة في من أدركها أو حصلت له، كما قال الشيخ الشيخ أحمد زروق عند تفريقه بين العلم والذوق: (العلم برهانه في نفسه، فمدعيه مصدق باختباره، مكذب باختلاله، والذوق، علمه مقصور على ذائقه، فدعواه ثابتة بشواهد حاله، كاذبة بها)([86])

والصوفية – رغم المعارضة الشديدة التي ووجهوا بها بالنسبة لهذا النوع من المصادر- يعتبرونها مصادر أساسية لا يمكن للصوفي أن يستغني عنها، بل لا يسمى الصوفي صوفيا إلا إذا آمن بها، وتحققت له.

بينما يرى المخالفون، وخاصة من الاتجاه السلفي الذي ذكرنا أن الجمعية كانت لسانه الناطق في الجزائر، ينكر الاعتماد على هذا النوع من المصادر إنكارا شديدا، ويرمي أصحابه بالخرافة، ويرميهم فوق ذلك بمزاحمة المصادر الأصلية بهذا النوع من المصادر.

انطلاقا من هذا نحاول في هذا المبحث أن نتعرف على حقيقة ذلك الخلاف وأسبابه الفكرية والشرعية والواقعية.

وحرصا منا على جلاء الحقيقة من الطرفين جميعا، فقد حاولنا أن نذكر كل ما يستند إليه الطرفان من الأدلة، لأنا ــ للأسف ــ وجدنا أكثر الباحثين الذي تحدثوا عن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين يكتفون برمي المخالفين لها في هذا الباب بالخرافة والشعوذة ونحو ذلك متناسين أن القضية لها جذورها التاريخية والفكرية والشرعية بل حتى الفلسفية، فهي من القضايا التي لها علاقة بنظرية المعرفة التي كانت من أوائل ما بحث في الفلسفة.

وربما جرهم إلى هذا الخطأ بعض ما يرونه في الواقع الصوفي من أخطاء، والمنهج العلمي يبرأ من هذا المسلك، وإلا فهل كانت الجمعية مبرأة من المندسين، أم لم تتبرأ الجمعية في يوم من الأيام من لسانها الناطق في الرد على الطرقية الشيخ الزاهري، بل تتهمه فوق ذلك بالعمالة، فهل تتهم الجمعية كلها بسببه بالعمالة؟

وهكذا الأمر مع الصوفية، ففيهم – كما يذكرون – الصديق، وفيهم الزنديق، وحتى صديقهم ليس معصوما، ولذلك فإن المنهج العلمي يستدعي مناقشة القضايا من مصادرهم، أما الأشخاص الممثلون، فيتركون لله، فالله هو الديان.

بناء على هذا، وبناء على تصنيفنا السابق للمدرسة التي تنتمي إليها الجمعية، والمدرسة التي تنتمي إليها الطرق الصوفية، فإنا لا نكتفي في إيراد الأدلة بما ذكره أعضاء الجمعية، ولا أصحاب الطرق الصوفية الذين عاصرتهم الجمعية، وإنما نذكر ما تستند إليه كلا المدرستين، كما وضحنا سابقا أن الخلاف الذي حصل بين الجمعية والطرق الصوفية له جذوره في تراثنا الإسلامي، ومن غير الموضوعية أن نفصل القضايا عن جذورها ومصادرها.

بناء على هذا قسمنا هذا المطلب إلى ثلاثة أقسام:

الأول: في التعريف بالمصادر الغيبية وأنواعها.

الثاني: في موقف الجمعية من المصادر الغيبية.

الثالث: في موقف الطرق الصوفية من المصادر الغيبية.

أولا ــ التعريف بالمصادر الغيبية وأنواعها:

أشار الغزالي إلى تنوع المصادر الغيبية التي يعتمد عليها الصوفية بقوله: (فاعلم أن أرباب القلوب يكاشفون بأسرار الملكوت تارة على سبيل الإلهام بأن يخطر لهم على سبيل الورود عليهم من حيث لا يعلمون، وتارة على سبيل الرؤيا الصادقة، وتارة في اليقظة على سبيل كشف المعاني بمشاهدة الأمثلة كما يكون في المنام، وهذا أعلى الدرجات وهي من درجات النبوة العالية كما أن الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة)([87])

وبناء على هذا يمكن تقسيم المصادر الغيبية التي نرى الصوفية عادة يتحدثون عنها إلى أربعة مصادر، هي:

المصدر الأول: الكشف.

المصدر الثاني: الذوق

المصدر الثالث: الإلهام

المصدر الرابع: الرؤى والأحلام

وسنرى سر هذه القسمة ووجه انحصارها عند التعرف عليها، وعلى الفروق بينها، ونحب أن ننبه هنا إلى تعدد المصطلحات في هذا الباب، حيث نجد المصدر الواحد يعبر عنه بالصيغ المختلفة، ونرى أحيانا اختلافا في إيراد هذه المصطلحات بين الصوفية وغيرهم، أي أن الصوفية قد يقصدون من المصطلح معنى، ويقصد المخالفون لهم معنى آخر، ولهذا حاولنا في التعريف بهذه المصادر أن نذكر التعاريف المختلفة سواء من الصوفية أو من غيرهم.

1 ــ الكشف:

لغة: قال ابن منظور كشف الامر يكشف كشفا: أظهره([88]).

اصطلاحا: عرفه الجرجانى بأنه (الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعانى الغيبية والأمور الحقيقية وجودا وشعورا)([89])، ومعنى الحجاب فى هذا التعريف هو (كل ما يستر مطلوبك، وهو عند الصوفية (انطباع الصور الكونية فى القلب المانعة لقبول تجلي الحق)([90])

وعرفه الشيخ أحمد الرفاعي شيخ الطريقة الرفاعية بقوله: (الكشف: هو قوة جاذبة بخاصيتها نور عين البصيرة إلى فضاء الغيب، فيتصل نورها به اتصال الشعاع بالزجاجة الصافية حال مقابلتها إلى فيضه، ثم ينصرف نوره منعكساً بضوئه على صفاء القلب، ثم يترقى ساطعاً إلى عالم العقل، فيتصل به اتصالاً معنوياً له أثر في استفاضة نور العقل على ساحة القلب، فيشرق القلب على إنسان عين السر، فيرى ما خفي عن الأبصار موضعه، ودق عن الإفهام تصوره، واستتر عن الأغيار مرآه) ([91])  

2 ــ الذوق:

لغة: الذوق: مصدر ذاق الشيء يذوقه ذوقا، والمذاق طعم الشيء وهو يقال فى المحسوسات والمعنويات([92]):

فمن المحسوسات قوله تعالى: { فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا } [الأعراف/22]

ومن المعنويات قوله تعالى في التعبير عن استشعار سكرات الموت: { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْت ِ } [آل عمران/185]، وقوله في التعبير عن الإحساس بالألم والعذاب: { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ } [النساء/56]، وقوله في التعبير عن الإحساس بالرحمة والنعمة: { وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ } [هود/9]

اصطلاحا: يعبر الصوفية بالذوق عن المشاعر الإيمانية التي يجدونها، ولا يستطيعون التعبير عنها، وهو يجري في كلامهم كثيرا، قال أبو القاسم القشيرى: (ومن جملة ما يجرى فى كلامهم، الذوق والشرب، ويعبرون بذلك عما يجدونه من ثمرات التجلى ونتائج الكشوفات وبوادة الواردات، وأول ذلك الذوق ثم الشرب ثم الرى فصفاء معاملاتهم يوجب لهم ذوق المعانى، ووفاء منازلتهم يوجب لهم الشرب ودوام مواصلاتهم يقتضى لهم الرى، فصاحب الذوق متساكر، وصاحب الشرب، سكران وصاحب الرى صاح)([93])

وهو يرد خصوصا على ألسنة شعراء الصوفية، ولهذا يذكرون الشراب والخمرة في أشعارهم، كما مر ذكر ذلك، يقول ابن الفارض([94]):

وعنى بالتلويح يفهم ذائق
 
غنى عن التصريح للمتعنت
 
منحتك علما إن ترد كشفه فرد
 
سبيلى واشرع فى اتباع شريعتى
 
فمنبع صدى من شراب نقيعة
 
لدى فدعنى من سراب بقيعة
 

ويقول الشيخ محمد أبو المواهب الشاذلي([95]):

ومقعد قوم قد مشى من شرابنا
 
وأعمى سقيناه ثلاثاً فأبصرا
 
وأخرسٌ لم ينطق ثمانين حجة
 
أدرنا عليه الراح يوماًفاخبرا
 
وآخر بين الناس لا يعرف الهوى
 
سقى قطرة من خمرنا فتحيرا
 
وميت دعا الساقي به فأجابه
 
وسبح للصهباء طوعاً وكبرا
 
فلو عاين الرهبان سرعة بعثه
 
لصلوا له مثل المسيح وأكثرا
 

3 ــ الإلهام:

لغة: لتلقين: تقول ألهمه الله الخير أي لقنه إياه([96])، قال ابن منظور: (ما يلقي فى الروع أو (أن يلقي الله فى النفس أمرا يبعثه على الفعل أو الترك)([97])

اصطلاحا: عرفه الشيخ عبد الله الهروي بقوله: (الإلهام: هو مقام المحدثين، وهو فوق الفراسة، لأن الفراسة ربما وقعت نادرةً أو استصعبت على صاحبها وقتاً واستعصت عليه، والإلهام لا يكون إلا في مقام عتيد)([98])

وعرفه ابن عربي بأنه: (خبر إلهي، وإخبار من الله للعبد على يد ملك مغيب عن هذا الملهم، وقد يلهم من الوجه الخاص. فالرسول والنبي يشهد الملك ويراه رؤية بصر عندما يوحى إليه، وغير الرسول يحس بتأثره ولا يراه رؤية بصر، فيلهمه الله به ما شاء أن يلهمه أو يعطيه من الوجه الخاص بارتفاع الوسائط: وهو أجل الإلقاء وأشرفه، وهو الذي يجتمع فيه الرسول والولي)([99])

وعرفه الشريف الجرجاني في تعريفاته بقوله: (الإلهام: ما يُلقَى في الرُّوع بطريق الفيض. وقيل: الإلهام ما وقع في القلب من علم. وهو يدعو إلى العمل من غير استدلال بآية، ولا نظر في حجة)([100])

ثانيا ـ موقف جمعية العلماء من المصادر الغيبية:

مثلما وقف الاتجاه السلفي، ومثله كثير من العلماء المعتبرين، وخصوصا المالكية منهم وقفت الجمعية موقفا سلبيا من هذا النوع من المصادر، واعتبرت مدعيها إما كاذبين، وإما موحى إليهم من طرف الشياطين.

وكعادة الجمعية في مناقشاتها لا تلجأ إلى مناقشة النصوص، بل تلجأ إلى استخدام عينات واقعية تنتيقها انتقاء لترد من خلالها على المخالف، من غير نظر في الأدلة التي يعتمدها، أو من غير نظر إلى خطأ العينة التي اعتمدت عليها، وأنها لا تعبر بالضرورة عن الحقيقة من جميع زواياها.

ومن الأمثلة على هذا ما ذكره الشيخ مبارك الميلي في رده على اعتماد هذا المصدر من ذكره نماذج سمعها في المقاهي والشوراع، ومنها أنه (كان بوادى القطن قرب ميلة شرقيها، كاهن اسمه (سيدي مبارك) يأتيه المستطلعون للغيب، من مئات الأميال، كسوق هراص وأراضي الحراكتة. ومات فقام ابنه مقامه، ولم يزل حيّا بل حيّةً على الجهّال.. ومثله كثيرون وإن اختلفت شهرتهم ضيقا واتّساعا)([101])

وفي موضع آخر قال: (وحدّثني ميليان لم يزالا حيين، قال أحدهما: كنت عند باش تارزي شيخ الطريقة الرحمانية بقسنطينة أعلم القرآن، وكنت نفسي تدعوني إلى (الفاحشة)([102])، فلم يكن يمنعني إلا خشية الشيخ أن يطّلع علي عن طريق الغيب !!

وقال الآخر: كنتُ ذا سوق في تاجنانت من أرض أولاد عبد النّور، وبقربي اثنان يتنازعان، فحلف أحدهما للآخر بسيده عبد الرحمن بن حملاوي، شيخ من شيوخ الطريقة الرحمانية، قرب سقّان فتغير وجه المحلوف له وأنكر على الحالف قائلا: أليس الشيخ عالما بما يجري الآن بيننا؟ قال محدّثي: ظننته لأوّل سماع إنكاره أنّه ينهاه عن الحلف بالمخلوق، فإذا هو يكبره عن الحلف به ! ويشركه مع الله في غيبه)([103])

ثم ذكر الشيخ كثرة الحكايات التي تروى في هذا (ممّا لا تسعه المجلّدات)([104])

ثم عقب بفتوى خطيرة في هذا المجال كفر بها من يقول بهذا، بل ادعى الإجماع على ذلك من غير أن يذكر عالما واحدا ذكر هذا الإجماع، فقال: (فإنّ نسبة الغيب المطلق إلى الأولياء، ممّا شاع وذاع وملأ الحزن والقاع وهو شرك بإجماع، وإنّما حسّنه الجهل والقعود عن العلم، حتى فقد طلابه وتنوّعت عقباته وصعابه، ولم يبق من أهله إلا من يدعى فقه الفروع على قلّته، وجمود الفقه الأكبر)([105])

وهو – تحت ضغوط عقدة تعظيم المشرق – يذكر أن العلم في الجزائر (انقطع منذ أزمان من وطننا حتى أحياه من ارتحلوا في طلبه، ممّن تكوّنت منهم جمعية العلماء فكانت بهم للوطن توبة. عملوا فيها بآية التوبة: ({فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122])([106])

بالإضافة إلى هذه الدعوى، وهي كون الصوفية يدعون علم الغيب، يدعي الشيخ مبارك الميلي أن الصوفية من خلال هذا المصدر يدعون التصرّف في الكون، ويستدل لذلك من النصوص بقوله: (حدّثني بقرية أبي سعادة من حضر مجلسا فيه كاهن سكّير، ممن يُعرَفون في العرف بالمرابطين، فطلب رجل من مرابطه ذلك ولدا ذكراً فأعطاه إيّاه، وعيّن له علامة تكون بجسمه عند الوضع، وقال له: إن وُضع بها فهو منّي، وإن خلا منها فهو من الله)([107])

بالإضافة إلى ما ذكره الشيخ مبارك الميلي نجد الجمعية ومثلها الاتجاه السلفي يعتبر كلام الصوفية فيه مناقضا للعلم، أو محرضا على ترك العلم الشرعي، والتفرغ لهذا العلم الغيبي، ويستدلون لهذا بما حدث به إبراهيم بن سبتيه من قوله: (حضرت مجلس أبي يزيد البسطامي، والناس يقولون فلانا لقي فلانا وأخذ من علمه وكتب منه الكثير وفلانا لقي فلانا فقال أبو يزيد: (مساكين أخذوا علمهم ميتا عن ميت، وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت)([108])

ويعتبرون أن أبا يزيد بكلامه هذا قد قلل من شأن الإسناد الذي يعتبر مفخرة عظيمة للأمة الإسلامية، بالإضافة إلى أنه قلل من شأن علماء السنة. بالإضافة إلى أن ادعاء أبي يزيد بأنه أخذ علمه هو وجماعته الصوفية عن الله ما هو إلا محض افتراء على الله، ذلك لأن في هذا دعوى لاستمرار النبوة، وهو مخالف لقوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب: 40]

بل إن الله عز وجل أخبر أنه لا يكلم البشر إلا بالوحي أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء، وأبو يزيد البسطامي وأمثاله من المتصوفة يدعون أنهم يتلقون علومهم من الله مع أنهم ليسوا بأنبياء ولا رسل، فدعواهم التلقي المباشر عن الله دعوى لا أساس لها من الصحة، بل هي كذب وافتراء على الله عز وجل.

ويبنون على هذا أن الصوفية يحتقرون العلماء ويسخرون منهم بدعوى أنهم لم يبلغوا مبلغهم من العلم، ويستدلون لهذا بما بما وصف به (ابن عربي) العلماء، حيث شبههم بأوصاف كثيرة منها أنهم فراعنة الرسل، وأنهم فاقدو الإدراك، وهكذا، فمن ذلك قوله: (ما خلق الله أشق ولا أشد من علماء الرسوم على أهل الله المختصين بخدمته العارفين به من طريق الوهب الإلهي الذي منحهم أسراره في خلقه وفهمهم معاني كتابه وإشارات خطابه فهم لهذه الطائفة مثل الفراعنة للرسل)([109])

وقوله: (ولو كان علماء الرسوم ينصفون لاعتبروا بما في نفوسهم إذا نظروا في الآية بالعين الظاهرة التي يسلمون بها فيما بينهم، فيرون أنهم يتفاضلون في ذلك ويعلو بعضهم في كلام على معنى تلك الآية، ويقر القاصر بفضل غير القاصر، وكلهم في مجرى واحد. ومع هذا الفضل المشهود لهم فيما بينهم في ذلك ينكرون على أهل الله إذا جاءوا بشيء مما يغمض عن إدراكه، وذلك لأنهم يعتقدون فيهم أنهم ليسوا بعلماء، وأن العلم لا يحصل إلا بالتعلم المعتاد في العرف، وصدقوا فإن أصحابنا ما حصل لهم العلم إلا بالتعلم وهو الإعلام الرحماني الرباني)([110])

وقوله: (فلما رأى أهل الله أن الله قد جعل الدولة في الحياة الدنيا لأهل الظاهر من علماء الرسوم، وأعطاهم التحكم في الخلق بما يفتون به، وألحقهم بالذين يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون، وهم في أفكارهم عن أهل الله يحسبون أنهم يحسنون صنعا، سلم أهل الله لهم أحوالهم لأنهم علموا من أين تكلموا، وصانوا عنهم أنفسهم لتسميتهم الحقائق إشارات، فإن علماء الرسوم لا ينكرون الإشارات)([111])

ويستنتجون في الأخير أن التفسير الصحيح لما يرونه من الكشف – في حال عدم كذب أصحابه في دعواهم- هو أنهم يوحى إليهم من قبل الشياطين، لأن الله تعالى قد أثبت في كتابه الكريم بأن الشياطين يوحون إلى أوليائهم حيث قال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } [الأنعام: 121]، وقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 112]

ويذكرون بناء على هذا أن الصوفية لم يفرقوا بين الكشف الرحماني والكشف الشيطاني مما فتح الباب أمام الشيطان ليتلاعب بهم وبعقولهم مع أن هذا النوع من الكشف المدعى كما يكون للمؤمن يكون لسواه من الفساق والكفار والمشركين من الكهان والمنجمين والرمالين الذي كان سببا في انتشار أنواع من الخرافات والشعوذات في محيط الصوفية والتصوف، وقد ذكر ابن تيمية عدة وجوه تدل على بطلان هذا النوع من الكشف وعدم إمكان الاعتماد عليه في تحصيل المطالب الشرعية وهي([112]):

أولا: أن الرسل لم تأت به وإنما جاءت بالرد للكتاب والسنة وقال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } [النساء: 59]

ثانيا: أن مجرد ترك الشهوات لا يكفي في تحصيل الحال الإيماني، بل لا بد أن تنضم إليه أنواع من العبادات الظاهرة والباطنة حتى تكتمل بصيرته.

ثالثا: اتفاق شيوخ الصوفية وأئمتهم على وجوب تعلم العلم الشرعي وأن طريقتهم لا تستقيم إلا باتباع الكتاب والسنة.

رابعا: أن الاعتماد في تحصيل المطالب الإلهية عليه غير مأمون لإمكان أن يكون الحاصل في القلب من وساوس الشيطان.

خامسا: أن الكشف لا يمكن أن يكون طريقا للمطالب الإلهية لأن إيصاله للمطلوب غير متيقن والدليل لا بد أن يستلزم المدلول وهو لا يستلزم المطلوب فقد يوصل إليه وقد يوصل إلى ضده.

سادسا: عدم معرفة إيصاله إلى الحق إلا إذا وصل إليه فهو ليس بمأمون ولا متعين للوصول إلى الحق.

سابعا: أن الكشف لا يوصل إلا إلى معرفة إجمالية، أما التفصيلية فهذا ما لا يمكنه أن يوصل إليه وإذا ظهر لنا عدم إمكان الاعتماد على الكشف كطريق للمعرفة الصحيحة المدلول عليها بالكتاب والسنة وأن خطأ الكشف يعرف بمخالفة الكتاب والسنة أو مخالفة العقل الصحيح المهتدي بهما أو مخالفته للحس الظاهر والباطن.

ثالثا ــ موقف الطرق الصوفية من المصادر الغيبية:

يعتبر الصوفية هذا المصدر خصوصا ركنا أصيلا في الطريق الصوفي، بل يعتبرونه هو الغاية التي من أجلها يكون السلوك وتكون المجاهدات، فالسلوك غايته المعرفة، والمعرفة الحقيقية هي التي تنتقش في القلب، لا التي تحفظ في الصدر، وهم يعتبرون أنفسهم (خاصة) بسبب هذا المنهج المعرفي، ذلك أن العلوم الأخرى، والتي يسمونها العلوم الظاهرة يشترك الجميع في معرفتها وتحصيلها، بل لا يستدعي تحصيلها إلا الاجتهاد والمذاكرة وبعض الذكاء، والتمكن فيها لا يدل بحال من الأحوال على قرب صاحبها من الله، أو أن له حظا في درجات الكمال الروحاني.

أما تمكن الصوفي من الاستمداد من المصادر الغيبية، فإنه يدل على أن له مكانة خاصة من الله بحيث استحق بسببها أن ينال معارفة من مصدرها المباشر، ولهذا يردد الصوفية في مجالسهم قول أبي يزيد البسطامي: (أخذتم علمكم ميتاً عن ميت، وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت)([113])

بناء على هذا التصور العام الذي يقرره الصوفية لحقيقة هذا المصدر، نحاول في هذا المطلب أن نبين أمرين مهمين يرتبطات به، ولهما علاقة بالرد على التهم التي يوجهها التيار السلفي وفرعه في الجزائر جمعية العلماء له:

أولهما: الضوابط التي تحمي هذا المصدر من أن يستغل استغلالا خاطئا.

ثانيهما: هو الأدلة التي يعتمد عليها الصوفية في إثبات هذا المصدر، وردهم على ما يثيره خصومهم نحوها.

1 ــ ضوابط الاعتماد على المصادر الغيبية عند الصوفية:

مع الاهتمام والتقديس لهذا المنهج المعرفي يضع الصوفية له من الضوابط ما يحميه من أن يلتبس به ما يسيئ إليه أو يشوهه أو ينحرف به إلى غير الجهة التي قصد بها، ونستطيع من خلال دراسة ما كتبه مشايخ الصوفية بطرقها المختلفة أن نحصر هذه الضوابط في أربعة أمور:

عدم عصمة المصدر:

وذلك لأن المتعرض للكشف أو الإلهام غير معصوم، وبالتالي يمكن أن تصبح للأهواء والمعارف السابقة تأثيرها فيما قد يعتقده كشفا صحيحا، ولهذا اتفق مشايخ الصوفية سلفهم وخلفهم على عرض ما يكشف لهم على المصادر المعصومة، فإن وافقت فبها، وإلا رمي بها.

وفي هذا يقول الإمام الجنيد سيد الطائفة: (إن النكتة لتقع في قلبي من جهة الكشف فلا أقبلها إلا بشاهدى عدل من الكتاب والسنة)

ويقول الشيخ عبد القادر الجيلاني مؤسس الطريقة القادرية: (كل حقيقة لا تشهد لها الشريعة فهي زندقة.. طِرْ إِلى الحق عز وجل بجناحي الكتاب والسنة، ادخل عليه ويدك في يد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم)([114])

ويرد منكراً على من يعتقد أن التكاليف الشرعية تسقط عن السالك في حال من الأحوال: (ترك العبادات المفروضة زندقة، وارتكاب المحظورات معصية، لا تسقط الفرائض عن أحد في حال من الأحوال)([115])

ومثله الشيخ أبو الحسن الشاذلي مؤسس الطريقة الشاذلية، فقد كان يقول: (إِذا عارض كشفُك الصحيح الكتابَ والسنة فاعمل بالكتاب والسنة ودع الكشف، وقل لنفسك: إِن الله تعالى ضمن لي العصمة في الكتاب والسنة، ولم يضمنها لي في جانب الكشف والإِلهام)([116])

وبناء على هذا يخطئ الصوفية بعضهم بعضا في نتائج الكشف، ومن ذلك قول ابن عربي في الكشف الذي لا يمكن اعتباره: (الكشف الذي يؤدي إلى فضل الإنسان على الملائكة أو فضل الملائكة على الإنسان مطلقاً من الجهتين لا يعول عليه) ([117])

ويقول: (كل كشف يريك ذهاب الأشياء بعد وجودها لا يعول عليه) ([118])

ويقول: (كل كشف لا يكون صرفاً لا يخالطه شيء من المزاج لا يعول عليه، إلا أن يكون صاحب علم بالمصور) ([119])

ومما يروى في هذا عن الشيخ ابن عطاء الله وكيفية لقائه مع شيخه أبي العباس المرسي، وعلاقة ذلك بالكشف وعلاقة الكشف بالعصمة، فيقول: (قال في لطائف المنن وكنت أنا لأمره من المنكرين وعليه من المعترضين لا لشئ سمعته منه ولا لشئ صح نقله عنه حتى جرت مقاولة بيني وبين بعض أصحابه وذلك قبل صحبتي إياه وقلت لذلك الرجل ليس إلا أهل العلم الظاهر وهؤلاء القوم يدعون أموراً عظاماً وظاهر الشرع يأباها فقال لي ذلك الرجل بعد أن صحبت الشيخ تدري ما قال لي الشيخ يوماً تخاصمنا قلت لا قال دخلت عليه فأول ما قال لي هؤلاء كالحجر ما أخطأك منه خير مما أصابك فعلمت أن الشيخ كوشف بنا قال ولعمري لقد صحبت الشيخ أثنى عشر عاماً فما سمعت منه شيئاً ينكره ظاهر العلم من الذي كان ينقله عنه من يقصد الأذى وكان سبب اجتماعي به أن قلت في نفسي بعد أن جرت المخاصمة بيني وبين ذلك الرجل دعني أذهب فأرى هذا الرجل فصاحب الحق له أمارة لا يخفي شأنها فأتيت إلى مجلسه فوجدته يتكلم في الأنفاس التي أمر الشارع بها فقال الأول إسلام والثاني إيمان والثالث إحسان وإن شئت قلت الأول عبادة والثاني عبودة وإن شئت قلت الأول شريعة والثاني حقيقة الثالث تحقق أو نحو هذا فما زال يقول وإن شئت قلت وإن شئت قلت إلى أن أبهر عقلي وعلمت أن الرجل إنما يغرف من فيض بحر إلهي ومدد رباني فأذهب الله ما كان عندي)([120])

ولهذا يحرص الصوفية على تعلم العلوم الظاهرة قبل الخوض في السلوك، ولهذا نجد اهتمام الشيخ ابن عليوة خصوصا بذكر حرمة الشريعة كل حين، بل إنه وضع بعض الكتب الدراسية المبسطة في الفقه والتوحيد وغيرهما، ككتاب (المنهج المفيد في أحكام الفقه والتوحيد)، ورسالة (مبادئ التأييد في بعض ما يحتاج إليه المريد)، وغيرهما.

استمداده من المصادر الأصلية:

يعتقد الصوفية – كما مر معنا – أن القرآن الكريم أعظم من أن ينحصر في قيود الألفاظ، وأنه ليس ذلك الذي نقرؤه فقط، وإنما تختفي وراء حروفه وألفاظه جمبع الحقائق، ولهذا فإنهم يربطون دائما بين نتائج كشفهم، وما ورد في القرآن الكريم.

وقد نقل الشيخ ابن عليوة عن ابن عربي قوله: (أعطيت مفاتيح القرآن العظيم)([121])، وعقب عليه بقوله: (وليس هو أول من أعطي مفاتيحه، ولا هو آخرهم، وإنّما كلّ من كان له نصيب من فهم القرآن العظيم، ومن لم يكن له نصيب من هذا العلم فلا نصيب له من باطن القرآن، وإنّما حظّه بظاهر اللفظ، ويستدل الشيخ ابن عليوة على هذا بقول الإمام عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه: (لو شئت لوقرت أربعين وقرا من تفسير الفاتحة)([122])

وبناء على هذا، فقد ألف الشيخ العلاوي رسالة حول نقطة الباء التي ذكرها في (المنح القدوسية في شرح المرشد المعين على الطريقة الصوفية)، فقال: (إذا استقر في ذهنك أيّها القارىء اللبيب أن نقطة الباء جامعة لسائر الأحكام والرسوم والمعارف والفهوم، فمن باب أولى وأحرى الكلمة، فسلّم لأهل هذا العلم ولا تستغرب إن رأيتهم استخرجوا من المعنى الواحد معاني شتى، ومن الكلمة الواحدة كلمات جمّة، فلهم أن يستخرجوا ما شاءوا من أي شيء شاءوا، تالله لو أراد أحدهم أن يستخرج العسل من الخل لفعل: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ } [الأنعام: 95]، وكلّ ذلك دليل على ما منحهم الله من الأسرار والمعارف والأنوار)([123])

وكعادته يعود، فيحذر من الاتجاه السلفي المتنامي المتمثل في جمعية العلماء، فيقول: (فلا تغتر يا أخي بأقوال المغرورين الذين ينقصون أولياء الله، ويخوضون في أعراضهم، ويزعمون أنّ لهم يدا عليهم، وما هم إلاّ بمنزلة الصبيان معهم، لكونهم لا يدرون من أي بحر غرفوا، ولا لأي جهة من الجهات توجّهوا)([124])

عدم التعبير عنه إلا لضرورة:

وهذا مما يتفق عليه الصوفية جميعا من الناحية النظرية، وإن كانوا يختلفون في تطبيق ذلك على الواقع، وقد ذكر الغزالي، وهو من الداعين إلى عدم التعبير عنه الأسباب الداعية إلى ذلك، والتي حصرها في الأسباب التالية([125]):

الأول: أن يكون هذا العلم في نفسه دقيقا تكل أكثر الأفهام عن دركه، فيختص بدركه الخواص وعليهم أن لا يفشوه إلى غير أهله، فيصير ذلك فتنة عليهم حيث تقصر أفهامهم عن الدرك.

وقد عبر عن ذلك الشيخ ابن عليوة عند ذكره لشروط الإمامة الروحية، فقال: (ومن شروط الكمال للإمام أن يتكلّم مع الحاضرين كلّ حسب طاقته، وعلى ما تسعه حوصلته من قوّة وضعف لأنّ طعام الرجال يضرّ بالصبيان، والحقائق ليست متعاطيّة بين الخلائق، وعليه أن يكتم ما أمره الله بكتمانه)([126])

وقد أورد الغزالي في باب وظائف المعلم، أن من وظائفه (أن يقتصر بالمتعلم على قدر فهمه، فلا يلقى إليه ما لا يبلغه عقله، فينفره أو يخبط عليه عقله اقتداء في ذلك بسيد البشر صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال: (نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن ننزل الناس منازلهم ونكلمهم على قدر عقولهم)([127])

ويروي في هذا أن بعض العلماء سئل عن شيء فلم يجب، فقال السائل: أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من كتم علما يعلمه جاء يوم القيامة ملجما بلجام من نار)([128])، فقال العالم: (اترك اللجام، واذهب فإن جاء من يفقه وكتمته فليلجمني، فقد قال الله تعالى: (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ)(النساء: من الآية5)) تنبيها على أن حفظ العلم ممن يفسده ويضره أولى)([129])

وأنشد([130]):

أأنثر درا بين سارحة النعم
 
فأصبح مخزونا براعية الغنم
 
لأنهم أمسوا بجهل لقدره
 
فلا أنا أضحى أن أطوقه البهم
 
فإن لطف الله اللطيف بلطفه
 
وصادفت أهلا للعلوم وللحكم
 
نشرت مفيدا واستفدت مودة
 
وإلا فمخزون لدي ومكتتم
 
فمن منج الجهال علما أضاعه
 
ومن منع المستوجبين فقد ظلم
 

 الثاني: ما هو مفهوم في نفسه لا يكل الفهم عنه، لكن ذكره يضر بأكثر المستمعين ولا يضر بالأنبياء والصديقين، كما يضر نور الشمس بأبصار الخفافيش، وكما تضر رياح الورد بالجعل.

وعلى هذا المنهج يقول الشيخ ابن عليوة واصفا بعض منازل العارفين: (ففي هذا المقام تكلّ العبارات، وتضيع الإشارات، وتخشع الأصوات: {لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا } [النبأ: 38]، وكيف يتكلّم من لم يجد كلاما، إذ الكلام ممنوع على أهل هذا المقام والذي أعطاهم ذلك مبالغتهم في التوحيد وغوصهم في ميادين التفريد، فاستخرجوا من ذلك البحر الراكض والكنز الغامض أقوالا لا تقتضي تعطيل النعوت، فلهذا استحبّوا السكوت، فهم في كلل ورهبة وجلال وغلبة دعاهم ذلك إلى الفناء عن الحقّ كما أفناهم أولا عن الخلق، فهم في حضرة مستوية الطرفين من نفي وإثبات، وحياة وممات، فإفشاء الحقائق بالنسبة لهؤلاء تشريع)([131])

الثالث: أن يكون الشيء بحيث لو ذكر صريحا لفهم ولم يكن فيه ضرر، ولكن يكنى عنه على سبيل الاستعارة والرمز ليكون وقعه في قلب المستمع أغلب، وله مصلحة في أن يعظم وقت ذلك الأمر في قلبه([132]).

ولهذا نجد اهتمام الصوفية بالتعبير عن معارفهم بالشعر لما يحمله من قدرات لا توجد في النثر العادي، ومن هذا الباب نجد اهتمام الشيخ ابن عليوة في ديوانه بالرموز التي تجعل القارئ يتشوف إلى البحث عن حقيقة المراد منها.

الرابع: أن يدرك الإنسان الشيء جملة، ثم يدركه تفصيلا بالتحقيق والذوق بأن يصير حالا ملابسا له فيتفاوت العلمان، ويكون الأول كالقشر والثاني كاللباب والأول كالظاهر والثاني كالباطن، وذلك كما يتمثل للإنسان في عينه شخص في الظلمة أو على البعد فيحصل له نوع علم فإذا رآه بالقرب أو بعد زوال الظلام أدرك تفرقة بينهما ولا يكون الأخير ضد الأول بل هو استكمال له، فكذلك العلم والإيمان والتصديق إذ قد يصدق الإنسان بوجود العشق والمرض والموت قبل وقوعه ولكن تحققه به عند الوقوع أكمل من تحققه قبل الوقوع بل للإنسان في الشهوة والعشق وسائر الأحوال ثلاثة أحوال متفاوتة وإدراكات متباينة([133]).

الخامس: أن يعبر بلسان المقال عن لسان الحال، فالقاصر الفهم يقف على الظاهر ويعتقده نطقا والبصير بالحقائق يدرك السر فيه وهذا كقول القائل: (قال الجدار للوتد لم تشقني؟) قال: (سل من يدقني، فلم يتركني ورائي الحجر الذي ورائي) فهذا تعبير عن لسان الحال بلسان المقال([134]).

عدم تعويضه للعلوم الظاهرة:

وهذا الضابط من النقاط الأساسية التي أساء التيار السلفي فهمها، وأساءت الجمعية تبعا لذلك تصورها للطرق، فهي تصورت أن تعظيم الصوفية لعلوم المكاشفة والإلهام حط من العلوم الأخرى، وليس مرادهم كذلك، كما تدل على ذلك أفعالهم وأقوالهم:

أما أفعالهم، فأكثر مشايخ الصوفية جمعوا بين العلمين الظاهر والباطن، أو المعاملة والمكاشفة كما يعبر الغزالي، ومع أن الغزالي عظم علم المكاشفة، واعتبره العلم الحقيقي، لأنه لا يتعلق بالذهن، وإنما يتغلغل في جميع الكيانن إلا أنه كتب في الفقه والأصول الكلام والفلسفة وغيرها، حتى أنه كتب المستصفى بعد خلوته.

وهكذا مشايخ الصوفية جميعا، فمشايخ الطريقة التيجانية اهتموا بالعلم ابتداء من شيخهم أحمد التيجاني الذي زكاه الكثير من العلماء الذين عرفوه، كفهذا الشيخ العلامة محمد بن سليمان المناعي التونسي الذي اجتمع بالشيخ التيجاني، ووصفه فقال: (بحر في علوم الشرع الظاهر لا مثيل له فيما رأت عيني يحفظ من كتب الفقه: مختصر ابن الحاجب ومختصر خليل وتهذيب البرادعي على ظهر قلب، وحكي لي أنه يحفظ جميع ما سمع من سماع واحد، وأما كتب الحديث فيحفظ صحيح البخاري وصحيح مسلم والموطأ على ظهر قلبه وأما كتب التوحيد فهو نظير الغزالي)([135])

وقال عنه علامة تونس ومفتيها الأعظم إبراهيم بن عبدالقادر الرياحي الذي اجتمع بالشيخ التيجاني، وقال عنه: (اعلم أن الشيخ المشار اليه من الرجال الذين طار صيتهم في الآفاق وسارت بأحاديث بركاتهم وتمكنه في علمي الظاهر والباطن طوائف الرفاق وكلامه في المعارف وغيرها من أصدق الشواهد على ذلك، ولقد اجتمعت به في زاويته بفاس مرارا وبداره أيضا وصليت خلفه صلاة العصر فما رأيت أتقن لها منه ولا أطول سجودا وقياما وفرحت كثيرا برؤية صلاة السلف الصالح ولخفة صلاة الناس اليوم كادوا أن لا يقتدى بهم)([136])

ومثل ذلك الشيخ ابن عليوة، فكما أنه كتب في المعارف الإلهية، والعلوم الصوفية كتب في الفقه والتوحيد ونحوها، بل له كتاب جميل بسيط في الفلك، بحسب ما انتهى إليه في عصره، وهو دليل على اهتمامه العلمي، وهو كتابه (مفتاح الشهود في مظاهر الوجود)، وكان سبب كتابته كما يذكر خليفته في الطريقة الشيخ عدة بن تونس، قول الشيخ: (تدبرت في عوالم خلق اللّه يوما، وأجلت الفكر في مواقعها وتنظيم حركتها, فوجدتها حكمة بليغة، وقدرة عظيمة لا يتوصل الى غايتها لبيب، ولا يدرك حقيقتها أريب {إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه: 109] لأنها من غيب الله، واللّه لا يظهر على غيبه أحدا {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ } [الجن: 27]، وقد كنت قبل تسطيري لهذا الكتاب أمرّ في الطريق، وأنا مشتغل البال بالعوالم العلوية حتى أحس من نفسي كأني أذود في مناكبها وأشاهد أفلاكها رأي العين، ثم يشملني حسي فأرجع الى نفسي وأنا مندهش حيران، ولما غلب علي هذا الحال وتكرر مني مرارا بثثته الى الشيخ -و هو الشيخ سيدي محمد البوزيدي – وأخبرته بما كان يقع لي تفصيلا.فقال لي: (ضعه في كتاب تسترح منه)، فعمدت الى تأليف هذا الكتاب، ولما فرغت من مسودته استرحت مما كان يعتريني من ذلك الابجذاب والاختطاف الباطني، فصرت مستريح البال متنعما بفضل الله، والله ولي المتقين)

ولو قارنا موقفه في هذا الكتاب بموقف الاتجاه السلفي من دوران الشمس حول الأرض، لوجدناه موفقا متطورا جدا، فبينما نرى أعمدة الاتجاه السلفي، وبعد تطور العلوم لا يزالون يصرون على أن الشمس تدور حول الأرض([137])، نرى الشيخ ابن عليوة، وفي المبحت الثاني عشر من كتابه، والذي عقده لما (يتعلق بحركة الأرض وما ينشأ عنها)([138]) يقول: (إذا تصورت الحركة في جرم الشمس الذي هو أعظم العلويات، فلا مانع من أن تتصور في الأرض، والحالة أنها صالحة لذلك، والحاصل أن الأرض لا تتغير ظروفها الزمانية من فصول وغيرها إلا بتغير موقعها من الشمس، وهكذا يغير اللّه بها كلما غيرت بنفسها، فبحركتها وتكويرها تتعاقب قطع الزمان عليها؛ وبيان ذلك أن الأرض لها حركتان تعتبر نتيجتها حركة يومية وحركة سنوية؛ فالحركة اليومية حركة تكوير والحركة السنوية حركة مسير، وبحركة التكوير ينشأ الليل والنهار ولهذا قال تعالى: { يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} [الزمر: 5]، فهي دائما بهذه الحركة بين ليل ونهار، أي فأحد شقيها ليل والآخر نهار)([139])

ونحسب أن هذا النص المهم وغيره من النصوص الكثيرة لو قال مثله الإبراهيمي أو ابن باديس لطار في الآفاق، ولكتبت الرسائل الجامعية عن (علم الفلك عند جمعية العلماء)، ولكن بما أن الكاتب له هو الشيخ ابن عليوة، فقد كيل معه بالمكيال البخس في زمان المطففين في الموازين.

ومن هنا نحب أن ننبه الباحثين إلى أن الكتاب جدير بالاهتمام، ويستحق الدراسة، وهو يدل على ناحية قصرت فيها جمعية العلماء، بينهما اهتم بها الصوفية كثيرا، وهي العلوم الكونية والتجريبية، سواء تعلقت بالفلك أو غيره([140])، وخصوصا الطب أو ما يسمى بالطب البديل، حيث نجد الكثير من الزوايا مراجع في هذا الباب الذي يعاد الآن اعتباره.

ولسنا ندري بعد هذا أيهما أكثر خرافة أذلك الذي يكتب في علم الفلك، ويحاول أن يبرهن على النظريات العلمية الصحيحة بقدر ما أوتيه من طاقة تأمل وطاقة عقل وطاقة علم، أم ذلك الذي يقبع في قصره العاجي، ولا يهتم إلا بالهدم وبرمي الناس بالخرافة والضلال، ويرى القذى في عين أخيه، ولا يرى الجذع في عينه.

هذا بالنسبة لأفعالهم، أما أقوالهم، فقد ذكروا أن هذا العلم لا يعوض العلوم الظاهرة، فلا يمكن لهذا العالم أن يعرف أركان الصلاة ولا الواجب في الزكاة من خلال هذا العلم، وإنما يعلم ذلك من خلال العلوم الظاهرة، ولهذا كتب الشيخ ابن عليوة كتبه في الفقه مراعيا ما ورد من ذلك في كتب الفقه.

وقد بين الغزالي المجالات التي يكون فيها هذا العلم، فقال: (هو عبارة عن نور يظهر في القلب عند تطهيره وتزكيته من صفاته المذمومة وينكشف من ذلك النور أمور كثيرة كان يسمع من قبل أسماءها فيتوهم لها معاني مجملة غير متضحة فتتضح إذ ذاك حتى تحصل المعرفة الحقيقية بذات الله سبحانه وبصفاته الباقيات التامات وبأفعاله وبحكمه في خلق الدنيا والآخرة ووجه ترتيبه للآخرة على الدنيا والمعرفة بمعنى النبوة والنبي ومعنى الوحي ومعنى الشيطان ومعنى لفظ الملائكة والشياطين وكيفية معاداة الشياطين للإنسان وكيفية ظهور الملك للأنبياء وكيفية وصول الوحي إليهم والمعرفة بملكوت السموات والأرض ومعرفة القلب وكيفية تصادم جنود الملائكة والشياطين فيه ومعرفة الفرق بين لمة الملك ولمة الشيطان ومعرفة الآخرة والجنة والنار وعذاب القبر والصراط والميزان والحساب ومعنى قوله تعالى اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ومعنى قوله تعالى وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون ومعنى لقاء الله عز وجل والنظر إلى وجهه الكريم ومعنى القرب منه والنزول في جواره ومعنى حصول السعادة بمرافقة الملأ الأعلى ومقارنة الملائكة والنبيين ومعنى تفاوت درجات أهل الجنان)([141])

أما ما ورد من تشددهم مع من يسمونهم علماء الظاهر، أو تحذيرهم من كثير من العلوم، فهو لما دخلها من الحشو والمبالغات، مما قد يسيء إلى تدين المتعلم لها، ولذلك صح تحذيرهم منها، وقد ذكر الغزالي عند بيانه لما بدل من ألفاظ العلوم كلمة (العلم)، فذكر أنه (كان يطلق على العلم بالله تعالى وبآياته وبأفعاله في عباده وخلقه.. وقد تصرفوا فيه بالتخصيص حتى شهروه في الأكثر بمن يشتغل بالمناظرة مع الخصوم في المسائل الفقهية وغيرها، فيقال هو العالم على الحقيقة وهو الفحل في العلم، ومن لا يمارس ذلك ولا يشتغل به يعد من جملة الضعفاء ولا يعدونه في زمرة أهل العلم)([142])

ومثل ذلك لفظ (التوحيد)، فقد حول إلى (صناعة الكلام، ومعرفة طريق المجادلة، والإحاطة بطرق مناقضات الخصوم، والقدرة على التشدق فيها بتكثير الأسئلة وإثارة الشبهات وتأليف الإلزامات)([143])

ومثل ذلك لفظ (الفقه)، فقد حولوه إلى (معرفة الفروع الغريبة في الفتاوى، والوقوف على دقائق عللها واستكثار الكلام فيها وحفظ المقالات المتعلقة بها، فمن كان أشد تعمقا فيها وأكثر اشتغالا بها يقال هو الأفقه)([144])

مع أن اسم (الفقه) عند السلف الصالح كان يطلق (على علم طريق الآخرة ومعرفة دقائق آفات النفوس ومفسدات الأعمال وقوة الإحاطة بحقارة الدنيا وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة واستيلاء الخوف على القلب)([145])

وبناء على هذا، فقد ذكر الشيخ ابن عليوة في رسالة وجهها لبعض الأساتذة المدرسين بــ (جامع الزيتونة) عاتبه فيها على في كونه أفشى ما لا ينبغي إفشاؤه من علوم المكاشفة، بأن الأمر ليس كذلك، وأنه يقتصر مع المريدين على العلوم الظاهرة، وأن تلك العلوم الخاصة لا تذكر إلا الخواص، يقول ابن عليوة: (بلغنا مكتوبكم، فتصفحناه بعين الإنصاف، فوجدناه كفيلا بالغرض المومى إليه محضتمونا النصح فيه، لا حرمنا الله وإياكم من الانتفاع به، غير أنّه قد تجاوزتم الحدّ في بعض الجمل، وكلّ ذلك مقبول، إن قصدتم {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا } [الأنفال:70])([146])

ثم ذكر جوابا على أول الأمور التي انتقد فيها، وهو ما عبر عنه بقوله: (الجملة الأولى: تخبرنا فيها أنّنا فتنّا العموم بما أذعناه فيما بينهم من الحقائق، فكأنّنا ألزمناهم بتعاطي ذلك، وهذا يا سيدي خلاف ما اعتقدتموه، فإننا ما ألزمنا العامّة إلاّ ببعض الأذكار، وأدعية وعقيدة بسيطة للغاية، قد طبعت في هذا الحين بعنوان (القول المقبول فيما تتوصل إليه العقول)([147])، وأمّا أسرار الخصوص فلم تزل ولن تزال حبسا على الخصوص، تؤخذ بشروطها، غير أنّنا اختلفنا في الخصوص من هم؟، فقد عبرتم عنهم بأهل العلم الظاهر، ونحن نعبّر عنهم بالمتقين)([148])

بعد هذا، فإن الصوفية – كما ذكرنا سابقا عند الحديث عن البدعة – يعتبرون أن الدين وإن اكتملت شرائعه ووضحت إلا أنه في مجال التطبيق المفصل لا نزال بحاجة إلى سند يدلنا على كيفية ذلك.

فالقرآن الكريم – مثلا – ذكر بأن الله تعالى جعل في القرآن الكريم شفاء، كما قال تعالى:{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارً} [الإسراء: 82]، لكن الدواء يحتاج إلى معرفة المقادير والمواقيت والكيفيات ونحوها، وإلا لم ينفع صاحبه، كما نصت الآية نفسها، والتي اعتبرت أن القرآن الكريم {لَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارً} [الإسراء: 82]

ولهذا، فإن الصوفية بناء على مفهومهم العرفاني لحياة الرسل والأولياء وقربهم، وأن الموت لم يصب منهم إلا أجسادهم، يرون أن أنوارهم ساطعة قريبة، يمكن لكل من تطهر أن يتصل بهم، ويستفيد منهم، ويتربى على أيديهم، ويستلهم من إرشاداتهم.

بناء على هذه المعرفة يرون أنه يمكن أن تنال بعض العلوم الظاهرة من هذه المصادر المطهرة، وقد سبق ذكر بعض الأمثلة على ذلك عند الحديث عن موقف الصوفية من تصحيح الأحاديث وتضعيفها، ويضم إلى ذلك ما رواه الشيخ عبد الوهاب الشعراني الطبقات الكبرى من أنّ الشيخ (إبراهيم المتبولي) رضي (كان من أصحاب الدوائر الكبرى في الولاية، ولم يكن له شيخ إلاّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان يرى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في المنام فيخبر أمّه فتقول: يا ولدي إنّما الرجل الذي يجتمع به في اليقظة، فصار يجتمع به في اليقظة ويشاوره على أموره، قالت له: الآن شرعت في مقام الرجولة)([149])

وروي عن الشيخ أبي العباس المرسي أنّه قال: (لو حجب عنّي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طرفة عين ما عددت نفسي من المسلمين)، وفي لفظ آخـر: (لو حجبت عنّي جنّة الفردوس طرفة عين أو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفاتني الوقوف بعرفة سنة واحدة ما عددت نفسي من جملة الرجال)([150])

وروي عن الشيخ أبي السعود أبي العشائر، قال: (كنت أزور شيخنا أبا العباس البصير أحمد بن محمد بن عبد الرحمن الأنصاري الخزرجي الأندلسي، الّذي برع في علوم الشرع ببلده ثمّ سافر على قدم التجريد فدخل الصعيد، ثمّ أقام بالقاهرة يقرىء الناس وينفعهم، أجاز سبعة آلاف رجل بالقراءات السبع، وكان بارعا في الحديث حافظا لمتونه عارفا بعلله ورجاله حسن الاستنباط بذهن وقّاد، مات سنة ثلاث وعشرين وستمائة، فلمّا انقطعت واشتغلت وفتح عليّ لم يكن لي شيخ إلاّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وذكر أنّه كان يصافحه عقب كل صلاة وذلك يقظة وحسبه بذلك شرفا)([151])

وروي عن الشيخ (خليفة بن موسى النهر ملكي) (أنّه كان كثير الرؤية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقظة ومناما، ورآه في ليلة واحدة سبع عشرة مرّة، قال في إحداهن: يا خليفة لا تضجر منّي، فكثير من الأولياء مات بحسرة رؤيتي)

وروي عن الشيخ (محمد بن أحمد النبهان الحلبي) أنّه تشرّف بهذه الرؤية المباركة، وممّا قاله في هذا الشأن (.. وكنت أجلس معه صلى الله عليه وآله وسلم لا أريد مفارقته ولا يريد مفارقتي، وكان يمشي معي في الطريق ويعلمني كلّ شيء، فإذا أردت أن أنفك عنه لا أقدر، وكنت أجتمع بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقظة وأكلّمه كما يكلّم الجليس جليسه، فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم إمامنا وصديقنا وإذا صدقتم فهو يمشي معكم في الطريق)([152])

بغض النظر عن مدى صحة هذه الدعاوى، فإنها تدل على أن الصوفي لا يكتفي بالمعرفة الذهنية الظاهرية للحقائق، وإنما يعرج منها إلى أن يعيشها، فهو لذلك لا يكتفي من رسو الله صلى الله عليه وآله وسلم بما تلقاه تقليدا أو اتباعا، وإنما يحاول أن يصاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويتربى على يده كالصحابة سواء بسواء.

تعرض أصحابه للفتنة:

ولعل هذا ما أشار إليه رجال الجمعية، ومثلهم الكثير من أصحاب الاتجاه السلفي، والذين اعتمدوا في إنكارهم لهذه المصادر الغيبية على عينات أساءت استعمال ما كشف الله لها، هذا إن لم تكن كاذبة في ادعاء ذلك الكشف.

فالصوفية ينتقدون بشدة أن تستعمل المكاشفة في غير محلها الصحيح، وقد قال ابن عطاء الله موجها إلى المريدين إلى الحذر من هذا النوع من الفتن: (تشوفك إلى ما بطن فيك من العيوب خير من تشوفك إلى ما حجب عنك من الغيوب)([153])

وعقب ابن عجيبة عليها بقوله شارحا لها: (تشوفك أيها الإنسان إلى ما بطن فيك من العيوب كالحسد والكبر وحب الجاه والرياسة وهم الرزق وخوف الفقر وطلب الخصوصية وغير ذلك من العيوب والبحث عنها والسعي في التخلص منها أفضل من تشوفك إلى ما حجب عنك من الغيوب كالاطلاع على أسرار العباد، وما يأتي به القدر من الوقائع المستقبلة وكالاطلاع على أسرار غوامض التوحيد قبل الأهلية له، لأن تشوفك إلى ما بطن من العيوب سبب في حياة قلبك وحياة قلبك سبب في الحياة الدائمة والنعيم المقيم، والاطلاع على الغيوب إنما هو فضول، وقد يكون سبباً في هلاك النفس كاتصافها بالكبر ورؤية المزية على الناس)([154])

وقال ابن عطاء الله في حكمة أخرى: (من اطلع على أسرار العباد ولم يتخلق بالرحمة الإلهية كان اطلاعه فتنة لعيه وسبباً بحر الوبال إليه)([155])

وقد شرحها ابن عجيبة بقوله: (الاطلاع على أسرار العباد قبل التمكن في الشهود والتخلق بأخلاق الملك المعبود فتنة عظيمة وبلية ومصيبة، وذلك لأنه قبل التمكين في المعرفة قد يشتغل بذلك قلبه ويتشوش خاطره ولبه، فيفتره عن الشهود، ويفتنه عن الرسوخ في معرفة الملك الودود، وأيضاً ما دامت النفس ولم يقع الفناء عنها قد يعتقد بذلك المزية على الناس فيدخله الكبر والعجب، وهما أصل المعاصي فكان اطلاعه حينئذ على أسرار العباد سبباً في جر هذا الوبال أي العقوبة إليه وهو التكبر على الناس واعتقاد المزية عليهم وهو سبب البعد عن الله)([156])

2 ــ أدلة اعتبار المصادر الغيبية:

بعد أن تعرفنا على الضوابط التي تحمي هذه المصادر من سوء الاستعمال، نحاول هنا – باختصار – أن نورد ما يورده الصوفية من أدلة على اعتبار هذا المصدر، راجعين في ذلك ما أمكن إلى ما كتبه رجال الطرق الصوفية الجزائرية المعاصرين للجمعية، أو ما كتبه تلاميذهم، وخصوصا ما كتبه الشيخ عبد القادر عيسى، وهو تلميذ محمد بن الهاشمي، والذي كان بدوره مريدا للشيخ أحمد بن مصطفى العلوي، وقد أذن له بالورد الخاص [تلقين الاسم الأعظم] وبالإِرشاد العام، وهو مؤسس الطريقة العلاوية في بلاد الشام، وأهم كتاب كتبه في نصرة الطرق الصوفية كتاب (حقائق التصوف)، ويمكن اعتباره – من خلال الطرح الذي طرحه فيه- من تراث الطريقة العلاوية.

بالإضافة إلى هذا ما كتبه المحدث الحافظ جلال الدين السيوطي في نصرة الطرق الصوفية، وخصوصا رسالته (تنوير الحلك في إِمكان رؤية النبي والملك)

وقد صنفنا الأدلة بحسب مصادرها إلى أربعة أقسام، وهي نفس الأقسام التي يحتج بها علماء الجمعية على الطرق الصوفية، ويعتبرون أنها حكر لهم، ودمجنا مع كل دليل أنواع المصادر الغيبية.

من القرآن الكريم:

من الآيات القرآنية التي يستدل بها الصوفية على اعتبار هذا المصدر:

1 ــ قوله تعالى في حق إبراهيم خليل الله عليه السلام: {وكذلِكَ نُري إبراهيم مَلكُوتَ السمواتِ والأرضِ ولِيَكُونَ مِنَ الموقنينَ} [الأنعام: 75]، وهذا هو الكشف بعينه، ولم يقيد في النص بالنبوة، بل ذكر باعتبارا إكراما أكرم الله به إبراهيم عليه السلام، وقد يتحقق هذا الإكرام لأي ولي من أولياء الله.

2 ــ ما أخبر الله عز وجل عن الخضر عليه السلام الذي لم تثبت نبوته، حين صحب موسى عليه السلام في المسائل الثلاثة، فقد انكشف للخضر أن السفينة التي ركبها مجاناً في طريقهم عبر البحر، سيأخذها ملك غاشم ظلماً، فخرقها ليعيبها ولينقذها من شر ذلك الغاصب مكافأة للمعروف بالمعروف: {أمَّا السفينَةُ فكانتْ لمساكينَ يعمَلُونَ في البحر فأردْتُ أنْ أعيبَها وكانَ وراءهم مَلِكٌ يأخُذ كلَّ سفينَةٍ غَصْباً} [الكهف: 79].

وكُشف له عن الغلام؛ إِن بقي حياً فسيقتل أبويه في كبره، ويوقعهما في الكفر، فقتله رحمة بأبويه المؤمنيْن، واستجابة لإِرادة الله تعالى بإِبداله بخير منه زكاةً ورحمة: {وأمّا الغلامُ فكانَ أبواهُ مؤمنينِ فخشينا أنْ يُرهِقَهما طُغياناً وكُفراً. فأردنا أن يُبدِلَهُما رَبُّهما خيراً منه زكاةً وأقرب رُحْماً} [الكهف: 80ـ81].

وكشف له الكنز الذي تحت الجدار، وكان لغلامين يتيمن من أب صالح، فأقام الجدار حفظاً للكنز، ورحمةً للغلامين، ومحبةً لأبيهما الصالح، بلا أجر وبلا مقابل، مروءةً وإِخلاصاً: {وأمّا الجدارُ فكانَ لغُلامينِ يتيمينِ في المدينة وكان تحتهُ كنزٌ لهما وكانَ أبوهما صالحاً فأرادَ ربُّكَ أنْ يبْلُغا أشُدَّهما ويَسْتَخرِجا كنْزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الكهف: 82].

3 ــ قوله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)} [الشمس: 7، 8]، فالآية عامة في أن الله ألهم جميع النفوس فجورها وتقواها، فما المانع بعد ذلك أن يخبر الصوفية بأن ما أعطوا من علوم إلهامات إلهية.

 2 ــ قوله تعالى حكاية عن عن مريم عليها السلام حين أوتْ إِلى النخلة في أيام الشتاء، فخوطبت بإِلهام ووحي من دون واسطة، وقيل لها: {وهُزِّي إليكِ بجذْعِ النَّخلة تُساقِطْ عليكِ رُطَباً جَنياً. فكُلِي واشرَبي وقرِّي عيناً} [مريم: 25]،

3 ــ قوله تعالى إخبارا عن بشارة الملائكة لمريم عليها السلام: {وإذْ قالتْ الملائِكَةُ يا مريَمُ إنَّ اللهَ اصطفاكِ وطَهَّرَكِ واصطَفاكِ على نساءِ العالَمينَ} [آل عمران: 42]، قال فخر الدين الرازي عند تفسيره الآية: (اعلم أن مريم عليها السلام ما كانت من الأنبياء لقوله تعالى: {وما أرْسلْنا مِنْ قَبْلِكَ إلا رِجالاً نوحِي إليهِم مِنْ أهْلِ القرى} [يوسف: 109]. وإِذا كان كذلك؛ كان إِرسال جبريل عليه السلام كرامة لها، وكلمها شفاهاً، وليس هذا خاصاً بها، بل هناك كثير من الصالحين كلمتهم الملائكة عليهم السلام)([157])

4 ــ أن الله تعالى أخبرنا عن أُم موسى عليه السلام، حينما ضاق بها الحال من أمر ابنها موسى عليه السلام، وداهمها جنود فرعون لقتله، فألهمها، وأوحى إِليها بلا واسطة، فقال: {وأوحينَا إلى أُمِّ موسى أنْ أرضِعيهِ فإذا خِفتِ عليه فألْقِيهِ في اليَّمِ ولا تخافي ولا تحزَني إنَّا رادُّوه إليكِ وجاعِلُوه مِنَ المرسلينَ} [القصص: 7]، قال الألوسي عند تفسيره للآية: (والمراد بالإِيحاء عند الجمهور ما كان بإِلهام، كما في قوله تعالى: {وأوحَى ربُّكَ إلى النَّحْلِ} [النحل: 68].. وإِلهام الأنفس القدسية مثل ذلك لا بُعد فيه، فإِنه نوع من الكشف)([158])

5 ــ أن الله أخبر أنه ألهم الحواريين، وعبر عن ذلك بالوحي مع كونهم باتفاق العلماء ليسوا بأنبياء، وأولياء الأمة لا يقلون عنهم، قال تعالى: {وإذ أوحيتُ إلى الحواريينَ} [المائدة: 111].

6 ــ قوله تعالى في بيان ما أكرم به أولياءه في الدنيا: {إنَّ الذين قالوا ربُّنا اللهُ ثُمَّ استقاموا تَتَنَزَّلُ عليهِمْ الملائِكَةُ أنْ لا تخافوا ولا تحزَنُوا وأبْشِروا بالجَنَّةِ التي كنتم توعَدُونَ. نحنُ أولياؤكُم في الحياة الدنيا وفي الآخِرة} [فصلت: 30ـ31]، وقد ذكر الألوسي المقالات الواردة في الآية، ومنها أن الملائكة تتنزل عند الموت والقبر والبعث، أو أنها تتنزل عليهم بمعنى (يمدونهم فيما يَعِنُّ ويطرأ لهم من الأمور الدينية والدنيوية، بما يشرح صدورهم، ويدفع عنهم الخوف والحزن، بطريق الإِلهام)

ثم اعتبر هذا القول هو الأصح والأظهر؛ لما فيه من الإِطلاق والعموم الشاملِ لتنزلهم في المواطن الثلاثة وغيرها، وأن جمعاً من الناس يقولون بتنزل الملائكة على المتقين في كثير من الأحايين، وإِنهم يأخذون منهم ما يأخذون([159]).

وفي قوله تعالى إخبارا عن مقالة الملائكة: {نحنُ أولياؤكُمْ في الحياة الدنيا} [فصلت: 31] دلالة على الدور الكبير الذي يقوم به الملائكة في صحبة الأولياء والمتقين، كما قال الألوسي: (أي أعوانكم في أموركم، نلهمكم الحق ونرشدكم إِلى ما فيه خيركم وصلاحكم)([160])

وعبر الرازي عن هذه الحقيقة القرآنية بلغة أوضح وأصرح، فقال: (ومعنى كونهم أولياء للمؤمنين أن للملائكة تأثيرات في الأرواح البشرية بالإِلهامات والمكاشفات اليقينية والمقامات الحقيقية، كما أن للشياطين تأثيرات في الأرواح بإِلقاء الوساوس فيها وتخييل الأباطيل إِليها)

ثم عقب على ذلك بما يذكره الصوفية من منهج تحصيل الإلهام، بقوله: (وبالجملة فكون الملائكة أولياء للأرواح الطيبة الطاهرة حاصل من جهات كثيرة معلومة لأرباب المكاشفات والمشاهدات، فهم يقولون: كما أن تلك الولاية كانت حاصلة في الدنيا، فهي تكون باقية في الآخرة، فإِن تلك العلائق ذاتية لازمة غير قابلة للزوال، بل كأنها تصير بعد الموت أقوى وأبقى، وذلك لأن جوهر النفس من جنس الملائكة، وهي كالشعلة بالنسبة إِلى الشمس، والقطرة بالنسبة إِلى البحر. والتعلقات الجسمانية هي التي تحول بينها وبين الملائكة، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم لى: (لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إِلى ملكوت السماوات)([161])، فإِذا زالت العلائق الجسمانية والتدبيرات البدنية، فقد زال الغطاء والوطاء، فيتصل الأثر بالمؤثر، والقطرة بالبحر والشعلة بالشمس)([162])

من السنة المطهرة:

من الأحاديث التي استدل بها الصوفية على اعتبار المصادر الغيبية:

1 ــ قوله صلى الله عليه وآله وسلم مخبرا عن دور الملك الواعظ في قلب الإنسان: (.. وأما لَمَّةُ([163]) الملك فإِيعادٌ بالخير وتصديقٌ بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله)([164])، فقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أنه إن وجد المؤمن هذه الخواطر الطيبة، فلينسبها إلى الله، وهذا ما يفعله الصوفية حينما يتحدثون عن تحديث الله لهم.

2 ــ قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إِن رجلاً زار أخاً له في قرية أخرى، فأرصد الله على مَدْرجتِه([165]) مَلَكاً، فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أُريد أخاً لي في هذه القرية. قال: هل لك عليه من نعمة ترُبُّها([166])؟ قال: لا، غير أني أحببته في الله عز وجل، قال: فإِني رسول الله إِليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه)([167])، قال محمد بن علاّن الصديقي الشافعي، وهو من المحدثين المعتبرين لدى الصوفية:: (ظاهره أن المَلكَ خاطبه وشافهه)([168])

3 ــ قوله صلى الله عليه وآله وسلم لحصين بن منذر الخزاعي لما أسلم: (قل: (اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي)([169])

4 ــ قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (اتقوا فراسة المؤمن، فإِنه ينظر بنور الله)([170])، والفراسة نوع من المصادر الغيبية، و(هي على حسب قوة القرب والمعرفة، فكلما قوي القرب، وتمكنت المعرفة صدقت الفراسة، لأن الروح إِذا قربت من حضرة الحق لا يتجلى فيها غالباً إِلا الحق)([171])

5 ــ قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا)([172])، وقد علق عليه ابن القيم بقوله: (فأخبر أن للإيمان طعما وأن القلب يذوقه كما يذوق الفم الطعام والشراب)، وهذا نفس ما يقصده الصوفية من حديثهم عن الذوق.

وهو ما فسر به ابن القيم قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إني أظل يطعمني ربي ويسقيني)([173])، فقد عقب عليه بقوله: (وقد غلظ حجاب من ظن أن هذا الطعام والشراب حس من الفم.. وهذا الذوق هو الذي استدل به هرقل على صحة النبوة حيث قال لأبي سفيان: (هل يرتد أحد منهم سخطة لدينه فقال: لا قال كذلك الإيمان إذا خالطت حلاوته بشاشة القلب)، فاستدل بما يحصل لاتباعه من ذوق الإيمان الذي خالطته بشاشة القلب لم يسخطه ذلك القلب أبدا على أنه دعوة نبوة ورسالة ملك ورياسة.. وبذا يثبت أن للقلب ذوقا يجده كذوق الفم للطعام والشراب وهذا اللفظ والمعنى ثابت بدلالة الكتاب والسنة)([174])

6 ــ أن الكشف وراثة محمدية صادقة، وَرِثَها أولياء الله من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بسبب صدقهم وتصديقهم وصفاء سريرتهم، ومما يروونه في كشف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما ورد في الحديث عن أنس قال: أُقيمت الصلاة، فأقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بوجهه فقال: (أقيموا صفوفكم وتراصُّوا، فإِني أراكم من وراء ظهري)([175])، وفي الحديث عن أنس: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زيداً، وجعفراً وابن رواحة، ورفع الراية إِلى زيد، فأُصيبوا جميعاً، فنعَاهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إِلى الناس قبل أن يجيءَ الخبر، فقال: (أخذ الراية زيد فأُصيب، ثم أخذها جعفر فأُصيب، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأُصيب، وإِن عيني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تذرفان، ثم أخذها خالد بن الوليد من غير إِمرة، فَفُتِح له([176])، وهذا يدل على تلاشي قيود الزمان والمكان عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فاستوى عنده في الرؤية القرب والبعد، وذلك نهاية الكشف.

من الآثار عن السلف الصالح:

بالإضافة إلى ما سبق من النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، وبناء على احترام الصوفية للسلف الصالح من جهة، وعلى اعتبارهم أن السلف لا يمثلهم الاتجاه السلفي فقط، وإنما يمثلهم الصوفية أيضا، فإنهم يستندون إلى ما ورد عن الصحابة والتابعين من اعتبار هذه المصادر، ومن الروايات التي يستدلون بها لهذا:

1 ــ ما روي من النصوص عن إخبار الصحابة من الكشوفات، ومما يروى عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه من ذلك ما حدث به أصبغ قال: أتينا مع عليّ فمررْنا بموضع قبر الحسين، فقال علي: (ههنا مناخ ركابهم، وههنا موضع رحالهم، وههنا مهراق دمائهم. فتية من آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم يقتلون بهذه العَرْصة، تبكي عليهم السماء والأرض)([177])، وقوله لأهل الكوفة: (سينزل بكم أهلُ بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيستغيثون بكم فلم يغاثوا) فكان منهم في شأن الحسين ما كان([178]).

2 ــ ما روي في الحديث عن عمران بن الحصين أنه كان يسمع تسبيح الملائكة حتى اكتوى، فانحبس ذلك عنه، ثم أعاده الله إِليه، فقد روي عن مطرف قال: قال لي عمران بن حصين: قد كان يسلم علي حتى اكتويت فترك ثم تركت الكي فعاد([179])، قال النووي في شرح الحديث: (معنى الحديث أن عمران بن حصين كانت به بواسير، فكان يصبر على ألمها، وكانت الملائكة تسلم عليه، واكتوى، وانقطع سلامهم عليه، ثم ترك الكي فعاد سلامهم عليه)([180])

3 ــ ما روي من الأخبار المتواترة عن كشف العارفين من سلف الصوفية، ومن ذلك ما وري عن أبي سعيد الخراز قال: (دخلت المسجد الحرام، فرأيت فقيراً عليه خرقتان، فقلت في نفسي: هذا وأشباهه كَلٍّ على الناس؛ فناداني وقال: {واعلموا أنَّ اللهَ يعلَمُ ما في أنْفُسِكُم فاحذَروهُ} [البقرة: 235]. فاستغفرْتُ الله في سرِّي، فناداني وقال: {وهوَ الذي يَقْبَلُ التوبَةَ عن عبادِهِ} [الشورى: 25]. ثم غاب عني، ولم أره)([181])

ومثل هذا وقع لغيره. يقول خير النسَّاج رحمه الله تعالى: (كنت جالساً في بيتي، فوقع لي أن الجنيد بالباب، فنفيت عن قلبي ذلك، فوقع ثانياً وثالثاً، فخرجت، فإِذا الجنيد، فقال: لِمَ لم تخرج مع الخاطر الأول؟)([182])

 وحُكي عن إبراهيم الخوّاص قال: (كنت في بغداد في جامع المدينة، وهناك جماعة من الفقراء، فأقبل شاب ظريف طيب الرائحة، حسن الحرمة حسن الوجه، فقلت لأصحابنا: يقع لي أنه يهودي، فكلهم كرهوا ذلك، فخرجت وخرج الشاب، ثم رجع إِليهم وقال: إِيش قال الشيخ؟ فاحتشموه، فألح عليهم فقالوا: قال: إِنك يهودي. قال: فجاءني، وأكبَّ على يدي وأسلم، فقيل: ما السبب؟ قال نجد في كتبنا أن الصدّيق لا تخطىء فراسته فقلتُ: أمتحنُ المسلمين، فتأملتهم فقلت: إِن كان فيهم صدّيق، ففي هذه الطائفة لأنهم يقولون حديثه سبحانه، فلبَّستُ عليهم، فلما اطّلع عليَّ وتفرَّس فيَّ علمتُ أنه صدّيق، وصار الشاب من كبار الصوفية)([183])

ووقف نصراني على الجنيد، وهو يتكلم في الجامع على الناس، فقال: أيها الشيخ! ما معنى حديث: (اتقوا فراسة المؤمن فإِنه ينظر بنور الله)([184])، فأطرق الجنيد ثم رفع رأسه وقال: أسلمْ فقد جاء وقت إِسلامك، فأسلم الغلام([185])

من أقوال العلماء:

بالإضافة إلى هذا نرى استدلال الطرق الصوفية وخصوصا الطريقة العلاوية بأقوال العلماء، وخصوصا من كان منهم مقبولا لدى الجمعية، ومما استدل به الشيخ ابن عليوة في هذا المجال:

1 ــ عز الدين بن عبد السلام: ونقل في إثبات ذلك ما ذكره الشعراني في طبقاته قال: اجتمع الأولياء والعلماء في واقعة الفرنجة بالمنصورة قريباً من ثغر دمياط جلس الشيخ عز الدين والشيخ مكين الدين الأسمر والشيخ ابن دقيق العيد وأضرابهم وقرأت عليهم رسالة القشيري وصار كل واحدٍ يتكلم إذ جاء أبو الحسن الشاذلي، فقالوا له: نريد أن تسمعنا شيئاً من معاني هذا الكلام فقال: أنتم مشائخ الإسلام وكبراء الزمان وقد تكلمتم فما بقي لكلام مثلي موضع، فقالوا: لا بل تكلم فحمد الله وأثنى عليه وشرع يتكلم صاح عز الدين من داخل الخيمة وخرج ينادي بأعلى صوته: (هلموا إلى هذا الكلام القريب العهد من الله تعالى تعالوا فاسمعوه)([186])

2 ــ ابن قيم الجوزية: وهو من العلماء الكبار للمدرسة السلفية المحافظة، وقد استدل الشيخ ابن عليوة بما ذكره في (مدارج السالكين)، من قوله: (فالعارف صاحب ضياء الكشف أوسع باطناً وقلباً وأعظم إطلاقاً من صاحب العلم، ونسبته إليه كنسبة صاحب العلم إلى الجاهل، فكما أن العالم أوسع باطناً من الجاهل، وله إطلاق بحسب علمه فالعارف بما معه من روح العلم وضياء الكشف ونوره هو أكثر إطلاقاً وأوسع باطناً من صاحب العلم فيتقيد العالم بظواهر العلم وأحكامه والعارف لا يراها قيوداً)([187])

وقد عقب ابن القيم على قوله هذا بقوله: (ومن ههنا تزندق من تزندق، وظن أنه إذا لاحت له حقائقها وبواطنها: خلع قيود ظواهرها ورسومها اشتغالا بالمقصود عن الوسيلة وبالحقيقة عن الرسم فهؤلاء هم المقطوعون عن الله القطاع لطريق الله وهم معاطب الطريق وآفاتها)([188])، وفي هذا دليل واضح على أن ابن القيم لم ينكر الكشف، وإنما أنكر الاستعمال الخاطئ له، وهو ما يتفق فيه مع الصوفية، وفي هذا دليل على ما ذكرنا من أني في كثير من المسائل وجدت علماء الجمعية أكثر تشددا من السلفية حتى المحافظين منهم، وذلك لغلبة الصراع عليهم على التحقيق والبحث.

3 ــ محمد عبده: وقد استدل به الشيخ ابن عليوة باعتباره مصدرا مهما لدى الجمعية، وقد نقل عنه قوله في شرحه على مقامات بديع الزمان الهمداني عند قول المصنف: (فلما تجلينا وأخبرنا بحالنا أسفرت القصة عن أصل كوفي ومذهب صوفي) قال الأستاذ الشارح: (والصوفي نسبة إلى الصوفية وهم طائفة من المسلمين هممهم من العمل إصلاح القلوب وتصفية السرائر والاستقبال بالأرواح وجهة الحق الأعلى جل شأنه حتى تأخذهم الجذبات عمن سواه وتفنى ذاهتم في ذاته وصفاتهم في صفاته والعارفون منهم البالغون إلى الغاية من سيرهم في أهلا مرتبة من الكمال البشري بعد النبوة)، وعقب على هذا النقل بقوله: (وما كانت هاته العقيدة من الشيخ محمد عبده في رجال التصوف من كونهم في أعلا مرتبة من الكمال البشري بعد النبوي إلا منتزعة من صميم عقيدة سلف الأمة على أنها عقيدة الحق الصرف) ([189])

4 ــ القاضي أبو بكر بن العربي: وهو أحد أئمة المالكية، وهو معتبر اعتبارا خاصا عند الجمعية، وخصوصا عند ابن باديس، فقد قال في كتاب (قانون التأويل) – على حسب ما ينقل السيوطي-: (ذهبت الصوفية إِلى أنه إِذا حصل للإِنسان طهارة النفس في تزكية القلب، وقطع العلائق، وحسم مواد أسباب الدنيا من الجاه والمال والخلطة بالجنس، والإِقبال على الله تعالى بالكلية، علماً دائماً وعملاً مستمراً، كشفت له القلوب، ورأى الملائكة وسمع أقوالهم، واطلع على أرواح الأنبياء، وسمع كلامهم)، ثم قال ابن العربي تعليقا على هذا: (ورؤية الأنبياء والملائكة وسماع كلامهم ممكن كرامة، وللكافر عقوبة) ([190])


([1])  ابن عليوة، القول المعروف، ص 52.

([2])  ابن عليوة، القول المعروف، ص 52.

([3])  ابن تيمية، ومجموع الفتاوى (2: 28)

([4])  ا محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله ابن القيم الجوزية، التبيان في أقسام القرآن، لابن القيم، دار الفكر، (ص: 51)

([5])  التبيان في أقسام القرآن، لابن القيم، (ص: 51)

([6])  الموافقات، للشاطبي،  (3: 268)

([7])  هذا النص هو قوله: ( إنما قال مالي لا أرى لأنه اعتبر حال نفسه ذا علم أنه أوتي الملك العظيم وسخر له الخلق فقد لزمه حق الشكر بإقامة الطاعة وإدامة العمل فلما فقد نعمة الهدهد توقع أن يكون قصر في حق الشكر فلأجله سلبها فجعل يتفقد نفسه فقال: مالي، وكذلك تفعل شيوخ الصوفية إذا فقدوا آمالهم تفقدوا أعمالهم، هذا في الآداب فكيف بنا اليوم ونحن نقصر في الفرائض)، وابن باديس لم يرجع فيه مباشرة إلى تفسير القشيري مع كونه متداولا، وإنما رجع إلى تفسير ابن العربي، وفي ذلك دلالة على أنه لم يطلع عليه (آثار ابن باديس: 2/34)، وإلا كيف يثني عليه وما ذكره في تفسير لا يختلف عما تذكره الطرق الصوفية في ذلك الحين مما ينكره عليها.

([8])  آثار ابن باديس (2/ 35)

([9])  آثار ابن باديس (2/ 35)

([10])  ابن عليوة، البحر المسجور، ص19.

([11])  صحيح البخاري (8/ 131)

([12])  ابن عليوة، البحر المسجور، ص19.

([13])  قال فيه ابن حجر في (مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (6/ 474): (رواه الطبراني عن شيخه يحيى بن عثمان بن صالح، وقد وثق وتكلم فيه من لم يسم بغير قادح معين،وبقية رجاله ثقات)

([14])  البحر المسجور: 19- 20.

([15])  أحمد حماني، صراع بين السنة والبدعة، (1/271).

([16])  أحمد حماني، صراع بين السنة والبدعة، (1/271)

([17])  أحمد حماني، صراع بين السنة والبدعة، (1/272)

([18])  أحمد حماني، صراع بين السنة والبدعة، (1/272)

([19])  إحياء علوم الدين: 1/288.

([20])  وقد نقل هذا النص الشيخ عائض القرني في مقال له بعنوان: (محمد إقبال الشاعر الأول) (انظر: موقع الشبكة الإسلامية) (http://www.islamweb.net) مقرا له في نفس الوقت الذي ينكر على الصوفية ما يذكرونه من نفس هذا المعنى.

([21])  نص الحديث كما في (سنن الترمذي (5/ 200): (من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ)

([22])  إحياء علوم الدين (1/ 37)

([23])  إحياء علوم الدين (1/ 289)

([24])   قال العراقي في تخريج أحاديث الإحياء  (ج 1 / ص 232): (أخرجه ابن حبان في صحيحه من حديث ابن مسعود بنحوه)

([25]) نص الحديث كما في مسند الشافعي: عن أبي جحيفة قال : سألت عليًا ، هل عندكم من النبي صلى الله عليه وسلم شيء سوى القرآن ؟ فقال : لا، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا أن يؤتى الله عبدا فهما في القرآن وما في الصحيفة قلت وما في الصحيفة قال العقل وفكاك الأسير ولا يقتل مؤمن بكافر. (انظر: محمد بن إدريس أبو عبد الله الشافعي، مسند الشافعي، دار الكتب العلمية – بيروت، 260) 

([26])  إحياء علوم الدين (1/ 289)

([27])  المعجم الأوسط (4/ 247)

([28])   أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، المعجم الأوسط، تحقيق : طارق بن عوض الله بن محمد ,‏عبد المحسن بن إبراهيم الحسيني، الناشر : دار الحرمين – القاهرة، 1415، (4/ 78)

([29])  البحر المسجور، ص9.

([30])  إحياء علوم الدين: 1/288.

([31])  البحر المسجور، ص10.

([32])  قال العرافي في تخريج أحاديث الإحياء (ج 1 / ص 232): (أخرجه ابن حبان في صحيحه من حديث ابن مسعود بنحوه)

([33])  سنن الترمذي (5/ 172)

([34])  البحر المسجور،ص 12.

([35])  البحر المسجور، ص 12.

([36])  نص الحديث: (من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول آلم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف) (سنن الترمذي: (5/ 175).

([37])  لم أجد الحديث في مصادر الحديث المعروفة، وقد ذكره القندوزي الحنفي في (ينابيع المودّة) من غير إسناد، ولعل الشيخ نقله عنه، وهذا نص ما في (ينابيع المودّة، طبعة إسلامبول، ص 69 ): (وفي الدرّ المنظم: إعلم أنّ جميع أسرار الكتب السماوية في القرآن، وجميع ما في القرآن في الفاتحة، وجميع ما في الفاتحة في البسملة، وجميع ما في البسملة في باء البسملة، وجميع ما في باء البسملة في النقطة التي تحت الباء، قال الإمام علي كرّم اللّه وجهه: أنا النقطة التي تحت الباء)

([38])  البحر المسجور، ص11.

([39])  البحر المسجور:ص 11.

([40])  البحر المسجور:ص 11.

([41])  البحر المسجور، ص13.

([42])  قال العراقي في تخريجه: (رواه أبو عبد الرحمن السلمي في الأربعين له في التصوف من حديث أبي هريرة بإسناد ضعيف) (انظر: أبو الفضل العراقي، المغني عن حمل الأسفار، تحقيق : أشرف عبد المقصود، مكتبة طبرية الرياض، 1415هـ – 1995م، (1/ 23)

([43])  أبو شجاع شيرويه بن شهردار بن شيرويه الديلمي الهمذاني الملقب إلكيا، الفردوس بمأثور الخطاب، تحقيق : السعيد بن بسيوني زغلول، دار الكتب العلمية، بيروت، 1406 هـ – 1986م، (3/ 42)

([44])  رواه الدارمي، انظر: محمد بن عبد الله الخطيب التبريزي، مشكاة المصابيح، تحقيق : تحقيق محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي – بيروت، الطبعة : الثالثة – 1405 – 1985، (1/ 58)

([45])  نص قول أبي هريرة: (حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم) (صحيح البخاري (1/ 41)

([46])  لم أجد نص الحديث، ولكني رأيت في (الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي، قوله: ( أخرج عَبد بن حُمَيد، وَابن المنذر من طريق أبي رزين قال : سألت ابن عباس هل تحت الأرض خلق قال : نعم ألم تر إلى قوله : {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} [الطلاق: 12] (انظر: عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، الدر المنثور في التفسير بالماثور، تحقيق : مركز هجر للبحوث، دار هجر – مصر، [ 1424هـ ـ 2003م ])

([47])  وقد نسب الغزالي هذه الأبيات في (منهاج العابدين) إلى زين العابدين ونسبها ابن عربي في الفتوحات إلى الرضى من حفدة علي بن أبي طالب وكان الخطيب أول من ذكرها في تاريخ بغداد ونسبها إلى العتابي (ت:220هـ) وهو متهم بالزندقة قال د/الشيبي: (وهذه النسبة أقرب للصواب) (انظر صابر طعيمة، التصوف والتفلسف – الوسائل والغايات، مكتبة مدبولي، القاهرة, 2005، (ص:81)

([48])  البحر المسجور، ص13.

([49])  البحر المسجور، ص13.

([50])  البحر المسجور، ص17، وانظر: عبد الحميد بن هبة الله بن محمد بن الحسين بن أبي الحديد، أبو حامد، عز الدين، شرح نهج البلاغة، تحقيق: محمد أبو الفضل ابراهيم، دار احياء الكتب العربية عيسى البابي الحلبي وشركاه، (18/ 346)

([51])  البحر المسجور، ص17.

([52])  الغزالي، المنقذ من الضلال، ص32.

([53])  ابن عليوة، البحر المسجور، ص17.

([54])  ابن عليوة، البحر المسجور، ص18.

([55])  إحياء علوم الدين (1/ 287)

([56])  إحياء علوم الدين (1/ 287)

([57])  إحياء علوم الدين (1/ 287)

([58])  إحياء علوم الدين (1/ 288)

([59])  ابن عليوة، البحر المسجور، ص23.

([60])  ابن عليوة، البحر المسجور، ص24.

([61])  ابن عليوة، البحر المسجور، ص24.

([62])  ابن عليوة، البحر المسجور، ص25.

([63])  ابن عليوة، البحر المسجور، ص25.

([64])  ابن عليوة، البحر المسجور، ص26.

([65])  البحر المسجور: 26.

([66])  البحر المسجور: 26.

([67])  قال العراقي في (تخريج أحاديث الإحياء (1/ 16): (رواه ابن عبد البر في العلم والهروي في ذم الكلام من حديث الحسن فقيل هو ابن علي وقيل ابن يسار البصري فيكون مرسلا ولابن السني وأبي نعيم في رياضة المتعلمين من حديث علي نحوه)، وانظر: ابن عبد البر، جامع بيان العلم وفضله (2/ 120)

([68])  البحر المسجور: 26.

([69])  البحر المسجور: 27.

([70])  البحر المسجور: 27.

([71])  مسند أحمد (5/ 26)

([72])  البحر المسجور: 28.

([73])  صحيح البخاري (6/ 234)

([74])  محمد بن عبدالله أبو عبدالله الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، تحقيق : مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة الأولى، 1411 – 1990، (1/ 740)

([75])  وقد طبعت أولا بمدينة تونس، وطبعت بعد ذلك في المطبعة العلاوية بسمتغانم.

([76])  ابن عليوة، مفتاح علوم السر في تفسير سورة والعصر، المكتبة الدينية للطريقة العلاوية، ص3.

([77])  ابن عليوة، مفتاح علوم السر في تفسير سورة والعصر، المكتبة الدينية للطريقة العلاوية، ص5.

([78])  ابن عليوة، مفتاح علوم السر في تفسير سورة والعصر، المكتبة الدينية للطريقة العلاوية، ص5.

([79])  يذكر فلاسفة العرفان أن لنظام الوجود أو للحركة الجوهرية قوسان: قوس نزول وقوس صعود:

1 – قوس النزول، وهو الذي يبدأ من عالم العقل، اي المجردات التامة والملائكة المقربين، وينتهي إلى أدنى موجود وهو الهيولى والمادة الأولى لعالم الطبيعة.

2 – قوس الصعود، وهو الذي الذي يبدأ من الهيولى الأولى، أي أدنى موجود – مادة المواد – وينتهي إلى عالم العقل والمجردات التامة؛ لأن مادة المواد تامة القابلية، ولها قابليات متنوعة، وان الله تعالى تام الفاعلية وفياض على الاطلاق، وبلطف الله تعالى تتحرك المادة في مختلف المسيرات وتتلبس بصور وفعليات متنوعة حتى تبلغ مرتبة العقل والوصول إلى الله تعالى، التي هي الغاية من خلق الانسان.. (انظر: حسين علي المنتظري، من المبدأ إلى المعاد في حوار بين طالبين، تعريب السيد حسن علي حسن، دار الفكر، ص٢٣٩)

([80])  ابن عليوة، مفتاح علوم السر في تفسير سورة والعصر، المكتبة الدينية للطريقة العلاوية، ص6.

([81])  ابن عليوة، مفتاح علوم السر في تفسير سورة والعصر، المكتبة الدينية للطريقة العلاوية، ص7.

([82])  ابن عليوة، أعذب المناهل في الأجوبة والمسائل، نقلا عن: صفحات مطوية في التصوف الإسلامي، ص135.

([83])  ابن عليوة، أعذب المناهل في الأجوبة والمسائل، نقلا عن: صفحات مطوية في التصوف الإسلامي، ص135.

([84])  ابن عليوة، أعذب المناهل في الأجوبة والمسائل، نقلا عن: صفحات مطوية في التصوف الإسلامي، ص137.

([85])  وقد لقب طه عبد الرحمن هذا النوع من المصادر ب (العقل المؤيد)، وفرق بينه وبين المصادر الأخرى بقوله: (قإذا كان العقل المجرد يطلب أن يعقل من الأشياء أوصافها الظاهرة أو بالاصطلاح “رسومها”، وكان العقل المسدد يقصد أن يعقل من الأشياء أفعالها الخارجية أو “أعمالها”، فإن العقل المؤيد على خلاف منهما يطلب، بالإضافة إلى هذه الرسوم وتلك الأعمال، الأوصاف الباطنة والأفعال الداخلية للأشياء أو “ذواتها”، والمراد بـ “الذات”، ما به يكون الشيء هو هو، أو قل “هويته”) (انظر: الدكتور طه عبدالرحمن، العمل الديني وتجديد العقل، منشورات المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية، 1997، ص 121)

([86])  أبو العباس أحمد بن أحمد بن محمد زروق، قواعد التصوف، مكتبة الكليات الازهرية، الطبعة الثانية، طبعة الثانية، 1976 م، ص 123

([87])  إحياء علوم الدين (1/ 82)

([88])  لسان العرب 12/102.

([89])  علي بن محمد بن علي الجرجاني، التعريفات، تحقيق : إبراهيم الأبياري، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1405،ص 237.

([90])  التعريفات للجرجانى، ص 111.

([91])  أحمد الرفاعي الكبير، البرهان المؤيد، طبعة الآستانة، الطبعة الأولى،  ص 97.

([92])  لسان العرب 10/111، والمفردات ص182.

([93])  الرسالة القشيرية،  1/239.

([94])  ابن الفارض، الديوان، دار صادر، بيروت، ص60.

([95])  الشيخ جمال الدين محمد أبي المواهب الشاذلي، قوانين حكم الإشراق إلى كافة الصوفية بجميع الآفاق، مكتبة الكليات الأزهرية، ص  92.

([96])  القاموس المحيط 4/80.

([97])  ابن منظور، لسان العرب المحيط، قدم له الشيخ عبد الله العلايلي ،اعداد وتصنيف يوسف خياط، طباعة دار لسان العرب، بيروت، 12/346.

([98])  الشيخ عبد الله الأنصاري الهروي، كتاب منازل السائرين، مكتبة الشرق الجديدة، بغداد، ص 82.

([99])  ابن عربي، الفتوحات المكية، ج 3 ص 239.

([100])  الجرجاني، تعريفات الشريف، ص23.

([101])  رسالة الشرك ومظاهره (ص: 210)

([102])  ما بين قوسين من تصرفي، لأنه ذكر كلمة أربأ بالقارئ عن قراءتها.

([103])  رسالة الشرك ومظاهره (ص: 211)

([104])  رسالة الشرك ومظاهره (ص: 211)

([105])  رسالة الشرك ومظاهره (ص: 211)

([106])  رسالة الشرك ومظاهره (ص: 211)

([107])  رسالة الشرك ومظاهره (ص: 194)

([108])  عبد الرؤوف المناوي، الكواكب الدرية في تراجم السادة الصوفية، تحقيق: دكتور عبد الحميد صالح حمدان، المكتبة الأزهرية للتراث، (1/ 346)

([109])  الفتوحات المكية، (2/ 175)

([110])  الفتوحات المكية)، (2/ 176)

([111])  الفتوحات المكية، (2/ 279)

([112]) مجموع الفتاوى، (2 \ 65، 69، 74، وغيرها)

([113])  انظر: الفتوحات المكية، (1/31)

([114])  الشيخ عبد القادر الجيلاني، الفتح الرباني والفيض الرحماني، دار الكتاب العربي، بيروت، 1980 ص29.

([115])  الفتح الرباني للشيخ عبد القادري الجيلاني ص29.

([116])  انظر: إِيقاظ الهمم، (2/302)

([117])  ابن عربي، رسالة لا يعول عليه، جمعية دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد الدكن، ط1، 1948، ص 3.

([118])  رسالة لا يعول عليه، ص 14

([119])  رسالة لا يعول عليه، ص 18.

([120])  ابن عطاء الله السكندري، لطائف المنن، تحقيق عبد الحليم محمود، دار المعارف، بيروت، ص76.

([121])  لم أجد هذا النص في الفتوحات المكية، ولم أبحث في غيرها لكثرتها.

([122])  ابن عليوة، المنح القدوسية في شرح المرشد المعين على الطريقة الصوفية، ص19.

([123])  ابن عليوة، المنح القدوسية في شرح المرشد المعين على الطريقة الصوفية، ص19.

([124])  ابن عليوة، المنح القدوسية في شرح المرشد المعين على الطريقة الصوفية، ص20.

([125])  انظر: إحياء علوم الدين:1/99، وما بعدها.

([126])  ابن عليوة، المنح القدوسية في شرح المرشد المعين على الطريقة الصوفية، ص264.

([127])  قال العراقي تخريجه: ويناه في جزء من حديث أبي بكر بن الشخير من حديث عمر أخصر منه وعند أبي داود من حديث عائشة أنزلوا الناس منازلهم، انظر: تخريج الإحياء، هامش الإحياء: (1/ 57)

([128])  مسند أحمد بن حنبل (2/ 508)

([129])  إحياء علوم الدين (1/ 58)

([130])  إحياء علوم الدين (1/ 58)

([131])  ابن عليوة، المنح القدوسية في شرح المرشد المعين على الطريقة الصوفية، ص220.

([132])  إحياء علوم الدين (1/ 102)

([133])  إحياء علوم الدين (1/ 102)

([134])  إحياء علوم الدين (1/ 103)

([135])  نقلا عن: الأستاذ: ديدي السعيد، الشيخ سيدي أحمد التيجاني ، من موقع التيجانية على هذا الرابط (http://atijania-online.com/vb/showthread.php?p=2990)

([136])  المصدر السابق.

([137])  من البديهيات العقدية التي تنتشر بين أصحاب المدرسة السلفية المحافظة (الوهابيين) أن الشمس تدور حول الأرض، وللأسف فإن هذا القول ينتشر بكثرة في النوادي الإلكترونية، وقد استغله المبشرون أسوأ استغلال، ومن أمثلة ما كتبوه في ذلك كتاب (هداية الحيران في مسألة الدوران) لعبد الكريم بن صالح الحميد،، والشيخ يحيى الحجوري فى كتابه [الصبح الشارق]، والذي قال فيه:( وهذا الباب لا يدور تارة من الجنوب، وتارة من المشرق، وتارة من الشمال، وتارة ما بين ذلك؛ بل هو منذ خلق السماوات والأرض لا يزال عن جهة المغرب على ما خلقه الله، ولو كانت الأرض تدور لدار معها يوماً من الدهر من جهة إلى جهة أخرى، لكنها ساكنة لا تتحرك كما قال الله عزَّوجل: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا } [فاطر: 41] (انظر: يحيى الحجوري، الصبح الشارق،  ( ص 200 -201)

وللاطلاع على استغلال المسيحيين لمثل هذه الأقوال انظر مقالا بعنوان: (هل تدور الارض في الفقه الاسلامي؟) على هذا الرابط: (http://www.alzakera.eu/fardiga/Ijaz-0011.htm

([138])  ابن عليوة، مفتاح الشهود في مظاهر الوجود، المطبعة العلاوية، مستغانم، ص28 .

([139])  ابن عليوة، مفتاح الشهود في مظاهر الوجود، ص28.

([140])  وقد كان الشيخ مولود الحافظي من كبار الفلكيين، وقد رأيت مزولة صنعها في الزاوية الحملاوية، بالإضافة إلى بحوثه فيه.

([141])  إحياء علوم الدين (1/ 19)

([142])  إحياء علوم الدين (1/ 33)

([143])  إحياء علوم الدين (1/ 33)

([144])  إحياء علوم الدين (1/ 32

([145])  إحياء علوم الدين (1/ 32

([146])  ابن عليوة، أعذب المناهل في الأجوبة والمسائل، نقلا عن: صفحات مطوية في التصوف الإسلامي، ص165.

([147])  سنتحدث عن بعض محتوياتها في آخر فصل من الرسالة عند الحديث عن (موقف الطرق الصوفية من وحدة الأديان)

([148])  ابن عليوة، أعذب المناهل في الأجوبة والمسائل، نقلا عن: صفحات مطوية في التصوف الإسلامي، ص165.

([149])  عبد الوهاب بن أحمد بن علي الحَنَفي، نسبه إلى محمد ابن الحنفية، الشَّعْراني، أبو محمد، الطبقات الكبرى (لوافح الأنوار في طبقات الأخيار)، مكتبة محمد المليجي الكتبي وأخيه، مصر، 1315 هـ، (2/75)

([150])  عبد الوهاب الشَّعْراني، الطبقات الكبرى (لوافح الأنوار في طبقات الأخيار)، (2/13)

([151])  عبد الوهاب الشَّعْراني، الطبقات الكبرى (لوافح الأنوار في طبقات الأخيار)، (1/137)

([152])  انظر: الموقع المخصص له في الإنترنت، موقع العارف  بالله محمد بن أحمد النبهان الحلبي على هذا الرابط: (http://alsayed-alnabhan.com/)

([153])  إيقاظ الهمم شرح متن الحكم ،ص: 49.

([154])  إيقاظ الهمم شرح متن الحكم، ص  49.

([155])  إيقاظ الهمم شرح متن الحكم، ص  171.

([156])  إيقاظ الهمم شرح متن الحكم،ص: 171.

([157])  التفسير الكبير، للإِمام فخر الدين الرازي ج2. ص669.

([158])  محمود الألوسي البغدادي، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، ج16. ص170.

([159])  محمود الألوسي البغدادي، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، ج24 ص107

([160])  محمود الألوسي البغدادي، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، ج24 ص107

([161])  قال العراقي: رواه أحمد من حديث أبي هريرة بنحوه، انظر: تخريج أحاديث الإحياء (1/ 189)

([162])  تفسير الإِمام الرازي ج7. ص371.

([163])  واللمة: الهمة والخطرة تقع في القلب. كما في غريب الحديث.

([164])  سنن الترمذي (5/ 219)، السنن الكبرى للنسائي (10/ 37)

([165])  أرصد الله على مدرجته: أي وكَّله بحفظ المدْرجَة، وهي الطريق وجعله رصَداً: أي حافظاً مُعَداً.

([166])  تَرُبُّها: أي تحفظها وتربيها كما يربي الرجلُ ولدَه.

([167])  صحيح مسلم (8/ 12)

([168])  محمد علي بن محمد بن علان بن إبراهيم البكري الصديقي الشافعي، دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين، دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت – لبنان، الطبعة: الرابعة، 1425 هـ – 2004 م، ج3. ص232.

([169])  سنن الترمذي(5/ 519)، مسند البزار (9/ 53)

([170])  سنن الترمذي (5/ 298)

([171])  ابن عجيبة، معراج التشوف الى حقائق اهل التصوف، تصحيح وتعليق محمد بن احمد بن الهاشمي بن عبد الرحمن التلمساني، مطبعة الاعتدال – دمشق – الطبعة الاولى سنة 1355 هـ – 1937 م ص18.

([172])  صحيح مسلم (1/ 46)

([173])  صحيح البخاري (9/ 119)

([174])  حمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية، زاد المعاد في هدي خير العباد، مؤسسة الرسالة، بيروت – مكتبة المنار الإسلامية، الكويت، (2/ 31)

([175])  صحيح البخاري (1/ 184)، سنن النسائي (2/ 92)

([176])  صحيح البخاري (2/ 92)

([177])  المحب الطبري، الرياض النضره في مناقب العشره، تصحيح: محمد بدر الدين النعساني الحلبي، طبعه مصر سنه 1951، (2/295)

([178])  انظر: فيض القدير شرح الجامع الصغير” للعلامة المناوي ج1. ص143.

([179])  صحيح مسلم (4/ 47)

([180])  أبو زكريا يحيى بن شرف بن مري النووي، المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، دار إحياء التراث العربي – بيروت، الطبعة الثانية، 1392، (4/ 326)

([181])  الإِحياء” للغزالي ج3 ص21].

([182])  الرسالة القشيرية” ص110

([183])  الرسالة القشيرية” ص110

([184])  سنن الترمذي (5/ 298)

([185])  أحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي السعدي الأنصاري، شهاب الدين شيخ الإسلام، أبو العباس، الفتاوى الحديثية، دار الفكر، ص223.

([186])  الرسالة القشيرية، ص110

([187])  مدارج السالكين (2/ 420)

([188])  مدارج السالكين (2/ 420)

([189]) ابن عليوة، الناصر معروف، ص36.

([190])  السيوطي، الحاوي للفتاوي ج2 ص257، انظر المعنى المشار إليه في : أبو بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري الإشبيلي المالكي، قانون التأويل، تحقيق محمد السليماني، دار القبلة، جدة – ومؤسسة علوم القرآن، بيروت، الطبعة الاولى، 1406 هـ، ص460، وما بعدها.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *