الفصل الثالث: تشريعات الإسلام لحفظ كيان الأسرة

الفصل الثالث

تشريعات الإسلام لحفظ كيان الأسرة

وضع الإسلام الكثير من التشريعات والمبادئ التي تحفظ كيان الأسرة المسلمة رعاية للمقاصد السابق ذكرها، وهذه التشريعات تساهم في تضييق كل المنافذ المؤدية للطلاق، ولا يمكننا هنا حصر كل ذلك، ولكنا سنذكر بعض هذه التشريعات من باب التلخيص والاختصار لما تمس الحاجة إليه، أما التفاصيل فتوجد في محالها من سائر السلسلة.

أولا ـ التأسيس الصحيح للزواج

لأن بناء الأسرة المسلمة ينطلق من التأسيس الصحيح لها، ويتحقق هذا التأسيس بمراعاة الأركان المتعلقة بالاختيار وغيره، وهي وإن ذكر بعضها في الفقه كسنن ومستحبات إلا أنها بالنسبة للحياة الزوجية الصحيحة فرائض لا يستغنى عنها، ويمكن حصر هذه الأسس في الأركان الثالثة التالية:

1 ـ حسن اختيار الزوجة:

فقد رغب الشرع في اختيار المرأة الصالحة، لأن استقرار الحياة الزوجية يرتبط بصلاحهما، وكثير من مشاكل الفرقة تكون بسبب قلة الدين والخلق، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يكون القصد الأول من الزواج هو مجرد الحسن أو المال وذكر العواقب الوخيمة لذلك فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(لا تتزوجوا النساء لحسنهن فعسى حسنهن أن يرديهن، ولا تتزوجوهن لأموالهن فعسى أموالهن أن تطغيهن. ولكن تزوجوهن على الدين، فلأمة خرقاء سوداء ذات دين أفضل)([1])

وقد حذر صلى الله عليه وآله وسلم من أن يكون مصدر الاختيار هو الأعراف والأذواق البعيدة عن اعتبار الدين، فقال :(تنكح المرأة لأربع لمالها ولحسبها وجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك)([2])

ولكنه مع هذا راعى الطبيعة البشرية في الاختيار، بل دعا إلى أن يراعي المؤمن ذوقه وهواه المحصن بحصن الدين حتى تستقر حياته مع زوجته استقرارا صحيحا لأنها مبنية على الدين بمثاليته وعلى الطبيعة البشرية بواقعيتها، ولهذا قال صلى الله عليه وآله وسلم لجابر: أتزوجت يا جابر؟ قال: قلت: نعم قال: بكرا أم ثيبا؟ قال: قلت: بل ثيبا قال: فهلا بكرا تلاعبها وتلاعبك؟)([3])

وراعى الطبيعة البشرية في حب الولد، فقد جاءه صلى الله عليه وآله وسلم رجل فقال: إني أصبت امرأة ذات حسب ومنصب، إلا أنها لا تلد، أفأتزوجها؟ فنهاه، ثم أتاه الثانية، فنهاه، ثم أتاه الثالثة، فقال: (تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم)([4])

وجمع صلى الله عليه وآله وسلم كل صفات المرأة المستحسنة التي يقي اختيار مثلها عن عواقب التفريق بقوله صلى الله عليه وآله وسلم وقد سئل: أي النساء خير؟ فقال:(التي تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها ولا في ماله بما يكره)([5])

وقد استحب العلماء لمن أراد الزواج أن يختار من مال إليها قلبه، وحنت إليها عاطفته، قال ابن الجوزي: (ومن ابتلي بالهوى، فأراد التزوج، فليجتهد في نكاح التي ابتلي بها إن صح ذلك وجاز وإلا فليتخير ما يظنه مثلها)([6])

2 ـ التحقق من الاختيار:

وهذا سواء من الزوج بأن يتحقق ويدقق في صفات زوجته باستعمال وسائل التحقق الشرعية، أو من أولياء الزوجة، بالبحث عن سيرة المتقدم لموليتهم، وهذا تفاديا للغرر الذي اعتبره الفقهاء من موجبات التفريق بين الزوجين.

وتفاديا لحصول هذا شرع الإسلام كثيرا من وسائل التحقق من الاختيار، وأهمها تعريف الشخص بنفسه، سواء للمرأة أو لأوليائها، وبمقدار صدقه في إخباره عن نفسه تستقر حياته الزوجية وبقدر تغريره تنهار، وقد روي أن بلالاً وصهيباً أتيا أهل بـيت من العرب فخطبا إليهم فقيل لهما: من أنتما؟ فقال بلال: أنا بلال وهذا أخي صهيب، كنا ضالين فهدانا الله، وكنا مملوكين فأعتقنا الله، وكنا عائلين فأغنانا الله، فإن تزوجونا فالحمد لله، وإن تردونا فسبحان الله، فقالوا: بل تزوجان، والحمد لله، فقال صهيب: لو ذكرت مشاهدنا وسوابقنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: اسكت فقد صدقت، فأنكحك الصدق([7]).

ومن الوسائل الهامة للتحقق من الاختيار أن يرسل الراغب في الزواج أمه أو إحدى قريباته للتعرف على من يريد خطبتها كما هو حاصل في بعض المناطق المحافظة، ولكن ذلك لا يكفي، ولا يغني عن معاينة الشخص نفسه، ولهذا شرع الإسلام النظر للمخطوبة أو لمن يرغب في خطبتها واعتبر ذلك صلى الله عليه وآله وسلم من الوسائل التي تحصل بها الألفة بين الزوجين، فقال لمن خطب امرأة:(انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما)([8])، أي أجدر وأدعى أن يحصل الوفاق والملاءمة بينكما، وبين جواز ذلك قبل الخطبة فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(إذا ألقى الله عز وجل في قلب امرئ خطبة امرأة فلا بأس أن ينظر إليها)([9])

وكما يندب نظر الخطيب لخطيبته يستحب للمرأة أن تنظر كذلك للرجل الذي خطبها لأنها يعجبها منه ما يعجبه منها، قال الحطاب:(هل يستحب للمرأة نظر الرجل؟ لم أر فيه نصا للمالكية، والظاهر استحبابه وفاقا للشافعية، قالوا: يستحب لها أيضا أن تنظر إليه)([10])

3 ـ الرضى التام من المرأة:

ولهذا شرع استئذانها بل استئمارها، ونهي عن جبرها، أو أن يفرض ولي المرأة أي رجل على موليته إلا برضاها، بل ذهب بعض الفقهاء إلى أن الولي إذا زوج القاصرة أو البكر بغير كفء لها فسخه بعد البلوغ، وقد روي أن خنساء بنت خدام زوجها أبوها وهي كارهة وكانت ثيبا فأتته صلى الله عليه وآله وسلم فرد نكاحها([11])، وروي أن جارية بكرا أتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكرت له أن أباها زوجها كارهة فخيرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم)([12])، وفي الحديث المشهور قال صلى الله عليه وآله وسلم::(لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا تنكح البكر حتى تستأذن)، قالوا: يا رسول الله وكيف إذنها؟ قال: (أن تسكت)([13])

ثانيا ـ حماية الحياة الزوجية

شرع الإسلام للحياة الزوجية الكثير من الضوابط التي تضع الأمور في نصابها، وتنقسم بها المهمات الزوجية بين الرجل وامرأته بحيث لا يبغي بعضهم على بعض، وفيما يلي بعض هذه الأسباب التي تحفظ الحياة الزوجية، وسترد تفاصيلها في محالها من هذه السلسلة:

1 ـ توزيع متطلبات الحياة الزوجية بين الزوجين:

فقد تولى الشرع تقسيم متطلبات الحياة الزوجية بين الرجل والمرأة تقسيما عادلا بحسب القدرات والرغبات، لأن الكثير من أسباب الفرقة تنتج من عدم تعرف كل فرد على دوره المناط به أو تخليه عنه أو تدخله في الدور المتعلق بغيره.

وقد نص صلى الله عليه وآله وسلم على هذا التقسيم في اكبر اجتماع له مع المسلمين، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم في خطبته في حجة الوداع:(فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتن فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف)([14])

وبين واجبات الزوج على زوجته، فقال مجيبا من سأله: يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا عليه؟ فأجابه صلى الله عليه وآله وسلم:(أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت، أو اكتسبت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت)([15])

ونهى الزوج أن يتدخل في تصرفاتها لاقتصادية معاوضات كانت أو تبرعات، وحرم عليه أن يطمع في مالها، أو يأخذ منه إلا بما سمحت به عن طيب نفس، فقال تعالى:{ وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا}(النساء:4)

وفي حال التعدد أمر برعاية العدل بين الزوجات بحيث لا يميل إلى إحداهن بأي وجه من وجوه الميل.

وفي مقابل هذا نص على أن للرجل حق القوامة على زوجته بقوله تعالى:{ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} (النساء: 34)

وهذه القوامة تتطلب طاعة المرأة لزوجها في المعروف وعلى قدر الطاقة، ولهذا ربط الإثم بمعصية المرأة لزوجها، ففي الحديث:(لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة: رجل أم قوما وهم له كارهون، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، ورجل سمع حي على الفلاح ثم لم يجب)([16])، وعلق الأجر على طاعتها له، ففي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :(أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة)([17])

ونهى الرجل أن يستبد بهذا الحق فيتجبر على زوجته، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(إن الرجل ليدرك بالحلم درجة، وإن الرجل ليكتب جبارا وما يملك إلا أهل بيته)([18])

ولهذا شرع قيودا كثيرا تجعل من هذا الطاعة أمرا ترضى به الزوجة وترغب فيه، بل تؤديه طوع نفسها من غير تكلف ولا عناء.

2 ـ الحث على المعاشرة بالمعروف:

وهو ركن الحياة الزوجية الأساسي، وقد قال تعالى:{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (النساء: 19)، أي: عاشروهن بالعشرة الإِنسانية التي تليق بالزوجة والمرأة، ثمّ عقب على ذلك بقوله: (فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً).

أي أنه: حتى إِذا لم تكونوا على رضا كامل من الزوجات، وكرهتموهنّ لبعض الأسباب فلا تبادروا إِلى الإِنفصال عنهن والطلاق، بل عليكم بمداراتهنّ ما استطعتم، إِذ يجوز أن تكونوا قد وقعتم في شأنهنّ في الخطأ وأن يكون الله قد جعل فيما كرهتموه خيراً كثيراً، ولهذا ينبغي أن لا تتركوا معاشرتهنّ بالمعروف والمعاشرة الحسنة ما لم يبلغ السيل الزبى، ولم تصل الأُمور إِلى الحدّ الذي لا يطاق، خاصّة وإِن أكثر ما يقع بين الأزواج من سوء الظن لا يستند إِلى مبرر صحيح، وأكثر ما يصدرونه من أحكام لا يقوم على أُسس واقعية إِلى درجة أنّهم قد يرون الأمر الحسن سيئاً والأمر السيء حسناً في حين ينكشف الأمر على حقيقة بعد مضي حين من الزمن، وشيء من المداراة([19]).

فالمعاشرة بالمعروف هي التي تحفظ كيان الأسرة، وتزرع السعادة في البيت المسلم، وهي تبنى أولا على المودة بين الزوجين، فهي التي تحمل على دوام العشرة مع تغير الأحوال، وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يذكر خديجة ويثني عليها أحسن الثناء، حتى قالت عائشة: فغرت يوما فقلت ما أكثر ما تذكر حمراء الشدقين، قد أبدلك الله خيرا منها، قال:(ما أبدلني الله خيرا منها، قد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله أولادها، وحرمني أولاد الناس)([20])

وهي تبنى ثانيا على التراحم بين الزوجين والمواساة والاعتراف بالجميل، وقد حذر صلى الله عليه وآله وسلم النساء خاصة من إنكار النعمة، وعدم الاعتراف بها، وسمى ذلك كفرا، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(يا معشر النساء تصدقن وأكثرن الاستغفار فإني رأيتكن أكثر أهل النار، فقالت امرأة منهن جزلة: وما لنا أكثر أهل النار؟ قال: تكثرن اللعن وتكفرن العشير)([21])

بل أجاز الشرع الكذب مع حرمته الشديدة إن كان فيه تراحما بين الزوجين، فقال صلى الله عليه وآله وسلم :(لا يحل الكذب إلا في ثلاث: يحدث الرجل امرأته ليرضيها، والكذب في الحرب، والكذب ليصلح بين الناس)([22])، قال الخطابي: كذب الرجل زوجته أن يعدها ويمنيها ويظهر لها من المحبة أكثر مما في نفسه يستديم بذلك صحبتها ويصلح به خلقها([23]).

وقد كان التراحم والمواساة من سنته صلى الله عليه وآله وسلم مع الناس جميعا ومع زوجاته خصوصا، فعن صفية بنت حيي، قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد بلغني عن حفصة وعائشة كلام فذكرت ذلك له، فقال: ألا قلت: فكيف تكونان خيرا مني، وزوجي محمد، وأبي هارون وعمي موسى، وكان الذي بلغها أنهم قالوا: نحن أكرم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منها، وقالوا نحن أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبنات عمه([24]).

ودعا إلى تلطيف الحياة الزوجية باللهو والمرح بين الزوجين، واعتبر ذلك من حسن الخلق ومن كمال الإيمان، فقال:(إن من أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا وألطفهم بأهله)([25])

3 ـ العلاج الواقعي للخلافات الزوجية:

وقد وضعت الشريعة الكثير من أنواع العلاج التي تحمي بنيان الأسرة من الانهيار، وسنتحدث عنها بتفصيل عند الحديث عن الأحكام المرتبطة بالعشرة الزوجية.

ومن أهمها المعرفة بطبيعة الزوجة الفطرية أو الخاصة، ولهذا لا يستغرب أن ترد الأحاديث المعرفة بطبيعة المرأة، لما لها من دور وقائي في الحفاظ على الأسرة حتى لا تعامل الرجل مع زوجته باعتبارها رجلا مثله، وهو من أكبر أسباب الشقاق بين الزوجين، ففي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :(إن المرأة كالضلع إن ذهبت تقيمها كسرتها وإن تركتها استمتعت بها على عوج)([26])، قال الشوكاني:(الحديث فيه الإرشاد إلى ملاطفة النساء والصبر على ما لا يستقيم من أخلاقهن، والتنبيه على أنهن خلقن على تلك الصفة التي لا يفيد معها التأديب ولا ينجع عندها النصح، فلم يبق إلا الصبر والمحاسنة وترك التأنيب والمخاشنة)([27])

ومن هذا الباب ما ورد من نهي الشرع عن التتعامل مع المرأة بالذوق المجرد عن الرحمة، والذي تمليه الأهواء والغرائز، ولا تستقيم معه الحياة المستقرة، ففي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:(لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقا رضي منها آخر)([28])

ونهى في هذا الميدان أن يلجأ إلى العلاج التأديبي قبل استنفاذ كل الوسائل الشرعية، فعن عبد الله بن زمعة أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب، وذكر الناقة، والذي عقر فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ انبعث أشقاها انبعث لها رجل عزيز عارم منيع في رهطه مثل أبي زمعة، وذكر النساء فقال:(يعمد أحدكم فيجلد امرأته جلد العبد، فلعله يضاجعها من آخر يومه)([29])، وهذا الجمع بين شقي ثمود ومن يضرب امرأته دليل على تجبر هذا الزوج وتكبره على نعمة ربه كما فعل الذي عقر الناقة، وقد كان يشرب من لبنها.

وسنرى في الأجزاء القادمة أن كل النصوص التي رخصت في الضرب حثت على الإحسان للزوجة واحترامها واعتبار العلاقة بها علاقة في الله وبكلمة الله، ثم قصرت إباحة الضرب على المعصية وقيدت المعصية على الأمر الكبير الخطير الذي تأنف منه الطباع، وهو أن تدخل المرأة الأجانب لبيت زوجها من غير إذنه([30])، ثم قيدت الضرب بكونه غير مبرح، وفسر بما لا يشين ولا يدمي، وفسرت وسيلته بالسواك ونحوه.

أما الآية الوحيدة التي وردت فيها هذه الرخصة، فقد جعلت الضرب هو الوسيلة النهائية لامرأة لم يجد معها القول الرقيق الواعظ، ولا السلوك الذي يمس صميم مشاعر المرأة، فلم يبق مع هذه المرأة التي لم يستجب عقلها ولا قلبها إلا اللجوء إلى هذه الوسيلة كحل ضروري مؤقت ومحدد، وقد ختمت الآية بنهي وفاصلة وكلاهما توجيه شديد للرجل بعدم الظلم والتعدي:

أما النهي فقوله تعالى:{ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً }(النساء:34)أي لا تجنوا عليهن بقول أو فعل، وهو نهى عن ظلمهن بعد تقرير الفضل عليهن والتمكين من أدبهن، ثم جاءت الفاصلة القرآنية بقوله تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً} (النساء:34)إشارة إلى الأزواج بخفض الجناح ولين الجانب، أي (إن كنتم تقدرون عليهن فتذكروا قدرة الله فيده بالقدرة فوق كل يد فلا يستعل أحد على امرأته فالله بالمرصاد فلذلك حسن الاتصاف هنا بالعلو والكبر)([31])

ويكفي في التنفير من هذا السلوك أنه خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ففي الحديث:(ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئا قط بيده ولا امرأة ولا خادما إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله فينتقم لله تعالى)([32])

ولهذا كان صلى الله عليه وآله وسلم يحذر من زواج من يتعدى على النساء بالضرب، وكأنه يحذر من الضرب نفسه، فعن فاطمة بنت قيس:قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أحللت فآذنيني، فآذنته فخطبها معاوية بن أبي سفيان وأبو الجهم، وأسامة بن زيد، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أما معاوية فرجل ترب لا مال له، وأما أبو الجهم فرجل ضراب للنساء)([33])

وفي الأخير، إن لم تجد كل العلاجات أوجب الشرع على الأهل التدخل للنظر في أسباب الخلافات ومحاولة علاجها، وقد فصل ابن عباس طريقة الحكمين في الحكم بين الزوجين فقال :(أمر الله تعالى أن يبعثوا رجلا صالحا من أهل الرجل ورجلا مثله من أهل المرأة، فينظران أيهما المسيء فإن كان الرجل هو المسيء حجبوا عنه امرأته وقصروه على النفقة، وإن كانت المرأة هي المسيئة قصروها على زوجها ومنعوها النفقة، فإن اجتمع رأيهما على أن يفرقا أو يجمعا فأمرهما جائز، فإن رأيا أن يجمعا فرضى أحد الزوجين وكره الآخر، ثم مات أحدهما فإن الذي رضى يرث الذي لم يرض، ولا يرث الكاره الراضي)([34])

ثالثا ـ بعد الفرقة الزوجية

مع كل التشريعات الوقائية السابقة، فإن الإسلام وضع للطلاق قبل وقوعه الكثير من القيود والضوابط التي سنرى تفاصيلها في محلها من هذه السلسلة، والتي تجعل منه أمرا محدودا في محال معينة لا يتجاوزها، أما بعد وقوعه، فإنه لم يجعله آخر العلاج، بل وضع من الحوافز ما يمكن أن يعيد للحياة الزوجية مسارها الطبيعي ومنها:

1 ـ الأمر بالتزام الطلاق السني:

لأن الطلاق السني هو الذي يترك الفرص للزوج في التراجع، ويحصر الطلاق في فترات محدودة يكون فيها الزوج راغبا في زوجته بحيث لا يطلق فيها إلا من كان قاصدا قصدا صحيحا.

وقد ورد في ذلك من حيث مراعاة الوقت قوله تعالى: { يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (الطلاق:1)وقد فسر ابن مسعود ذلك بأن يطلقها في طهر لا جماع فيه، ومثله عن ابن عباس، وعن ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض، فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مره فليراجعها، ثم ليتركها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء)([35])، وقد جاء في بعض الروايات بلفظ السنة، فقد وردت بلفظ: (يا ابن عمر ما هكذا أمر الله، أخطأت السنة، والسنة أن تستقبل الطهر فتطلق لكل قرء)([36])

ومن حيث العدد، نهى أن يقلص الفرص التي جعلها الله تعالى للمراجعة، فعن محمود بن لبيد قال أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا، فغضب، ثم قال: أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟ حتى قام رجل فقال: يا رسول الله، ألا أقتله([37]).

 ولهذا كان الأرجح عدم إيقاع الطلاق البدعي مهما كانت صفته، وسنرى التفاصيل الكثيرة المرتبطة بذلك في الأجزاء المتعلقة بحل عصمة الزوجية.

2 ـ تشريع العدة:

وهو فرصة من فرص المراجعة، حيث تظل المرأة المعتدة في بيت الزوجية، وقد أجاز لها الفقهاء أن تتزين لزوجها بما تفعله النساء لأزواجهن من أوجه الزينة من اللبس وغيره، وهو قول الجمهور، بل نص الحنابلة على أنها تتزين وتسرف في ذلك، ونص الحنفية على أن لها أن تتزين وتتشوف([38]) له، واستدلوا على ذلك بأن التزين وسيلة للرجعة، فلعله يراها في زينتها فتروق في عينه ويندم على طلاقها فيراجعها.

وبمثل هذا ذكر فقهاء الإمامية، قال المحقق البحراني: (أما الرجعية فلبقاء أحكام الزوجية وتوقع الرجعة، بل ظاهر جملة من الأخبار استحباب التزين لها كما ستقف عليه..والذي وقفت عليه من الاخبار المتعلقة بالمقام ما رواه في الكافي والتهذيب عن زرارة عن أبي عبد الله (ع) قال: (المطلقة تكتحل وتختضب وتلبس ما شاءت من الثياب لان الله عزوجل يقول: { لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } (الطلاق: 1)، لعلها أن تقع في نفسه فيراجعها… وهذه الاخبار كما ترى ظاهرة في نفي الحداد في المطلقة الرجعية، وأنه يستحب لها الزينة)([39])

3 ـ تشريع الرجعة:

وهو رجوع المرأة لزوجها، وقد ندب الشرع إلى ذلك إن تعلقت به المصالح الشرعية لكلا الزوجين، وذلك إما في فترة العدة أو بعدها، فقد ورد النهي عن عضل الزوجة إن رغبت في العودة إلى زوجها بعد انتهاء عدتها، قال تعالى:{ وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}(الطلاق:232)

وسنرى التفاصيل الكثيرة المرتبطة بذلك في الجزء المخصص لآثار حل عصمة الزوجية من هذه السلسلة.


([1])  قال الصنعاني: أخرجه ابن ماجه والبزار والبيهقي من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا، انظر:سبل السلام:3/111، سنن البيهقي الكبرى: 7/80، كشف الخفاء: 1/381.

([2])  البخاري :5/1958، مسلم :2/1086.

([3])  البخاري:3/1083،رقم:2805،مسلم:2/1087.

([4])  سنن أبي داود :2/220،رقم:2050، صحيح ابن حبان:9/328.

([5])  سنن النسائي :6/68،رقم3231، مسند أحمد:2/496،رقم:7372، سنن سعيد بن منصور:1/141،سنن البيهقي:10/244.

([6])  الإنصاف، ج8، ص19.

([7])  المراسيل لأبي داود: 194.

([8])  ابن ماجة:1/599،رقم:1865،مستدرك الحاكم:2/179،رقم:2697، مسند أحمد:5/299،رقم:17688.

([9])  ابن ماجة:1/599،رقم:1864،،رقم/:5839،مسند أحمد:4/549،رقم:15598.

([10])  الخرشي  ج3، ص166، وانظر: حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، ج2، ص216، أسنى المطالب، ج3، ص108.

([11])  الموطأ :2/535، المنتقى لابن الجارود: 1/178، سنن البيهقي الكبرى: 7/119، وغيرها.

([12])  البيهقي: 7/117، الدارقطني: 3/234، أبو داود: 2/232، ابن ماجة: 1/603، أحمد: 1/273، أبو يعلى: 4/404.

([13])  البخاري :5/1974، مسلم :2/1036،وغيرهما.

([14])  مسلم:2/889، ابن خزيمة:4/251، ابن حبان: 4/311، الدارمي:2/69، البيهقي:5/8، أبو داود: 2/185، النسائي:2/421، ابن ماجة: 2/1025، أحمد: 5/72.

([15])  رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم،قال الحاكم صحيح الإسناد، وألزم الدارقطني الشيخين تخريج هذه الترجمة، خلاصة البدر المنير:2/253، وانظر:أبو داود: 2/244، النسائي: 5/273، البيهقي:7/305، أحمد: 4/447.

([16])  ابن خزيمة: 3/11، الترمذي: 2/191، مجمع الزوائد: 2/68، البيهقي: 3/128، أبو داود: 1/162، ابن ماجة: 1/311، المعجم الكبير: 1/115.

([17])   الترمذي: حديث حسن غريب. وقال الحاكم في المستدرك على الصحيحين: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي في التلخيص، وقد ضعفه الشيخ الألباني في السلسلة الضعيفة برقم 1426.

([18])  رواه الطبراني في الأوسط وفيه عبدالحميد بن عبيدالله بن حمزة وهو ضعيف جدا، مجمع الزوائد:8/24، قال المنذري: رواه أبو الشيخ ابن حبان في كتاب الثواب، الترغيب والترهيب:3/281، وانظر: مجمع الزوائد: 8/24، المعجم الأوسط: 6/232، الفردوس بمأثور الخطاب: 1/194.

([19])   تفسير الأمثل – مكارم الشيرزي : 3/ 161.

([20])  أحمد:6/117، المعجم الكبير: 23/13، مجمع الزوائد: 9/224.

([21])  رواه البخاري.

([22])  الترمذي: 4/331، ابن ماجة: 1/18.

([23])  نقلا عن: عون المعبود: 13/179.

([24])  الترمذي: 5/708.

([25])  الحاكم: 1/119، الترمذي: 5/9، أحمد: 6/99، شعب الإيمان: 6/232، ابن أبي شيبة: 5/210.

([26])  قال الترمذي:حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه وإسناده جيد، الترمذي:3/493، مسند أبي عوانة: 3/142، المعجم الأوسط:1/293.

([27])  نيل الأوطار:6/358.

([28])  المسند المستخرج على صحيح مسلم:4/142، البيهقي:7/295، أحمد: 2/329، مسند ابي يعلى:11/303.

([29])  البخاري:4/1888.

([30])  ولأجل التستر على الأسرار الزوجية، جاء في الحديث أن عمر t  ضرب امرأته فعذل في ذلك فقال سمعت رسول الله a  يقول: لا يسأل الرجل فيم ضرب أهله»، البيهقي: 7/305، أبو داود: 2/246.

([31])  القرطبي: 5/173.

([32])  مسلم: 4/1814، النسائي: 5/370، أحمد: 6/130، مسند إسحق: 2/292.

([33])  مسلم: 2/1119، البيهقي: 7/136، ابن ماجة: 1/601، أحمد: 6/412.

([34])  رواه ابن أبي حاتم وابن جرير، انظر: تفسير ابن كثير:1/494.

([35])  البخاري: 5/2011، مسلم: 2/1095، المنتقى: 1/183، مسند أبي عوانة: 3/144، الدارمي: 2/213، البيهقي: 7/323، الدارقطني:4/6، مسند الشافعي: 101، أبو داود: 2/25، النسائي: 3/339، ابن ماجة: 1/651، الموطأ:2/576، أحمد: 2/61، مسند ابن الجعد: 409.

([36])  مجمع الزوائد:4/136.

([37])  قال ابن حجر: أخرجه النسائي ورجاله ثقات لكن محمود بن لبيد ولد في عهد النبي  a ولم يثبت له منه سماع وأن ذكره بعضهم في الصحابة فلأجل الرؤية، وقد ترجم له أحمد في مسنده وأخرج له عدة أحاديث ليس فيها شيء صرح فيه بالسماع، فتح الباري: 9/362.

([38])  التشوف وضع الزينة في الوجه، والتزين أعم من التشوف ; لأنه يشمل الوجه وغيره.

([39])   الحدائق الناضرة – المحقق البحراني (25/ 476)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *