الفصل الثالث: التفريق بأسباب أخلاقية

الفصل الثالث

التفريق بأسباب أخلاقية

ونريد بالأسباب الأخلاقية هنا إما أن يكون ظلم الرجل لزوجته واتهامه لها، أو حصول الفاحشة من المرأة، وفي كلتا الحالتين تستحيل العشرة الزوجية، ولهذا يتدخل القضاء الشرعي لحل هذه المشكلة بدل أن تحل بالانفعالات النفسية والأعراف الفاسدة.

أولا ـ قذف الزوجة وأحكامه

عرف القذف بأنه (آدمي مكلف غيره حرا عفيفا مسلما بالغا أو صغيرة تطيق الوطء لزنا أو قطع نسب مسلم)([1]).

وقد ذكر الفقهاء أنه يعرض لقذف الزوجة الأحكام التكليفية التالية، والمتعلقة بالقاذف الذي هو الزوج:

الوجوب:

وقد نص الفقهاء انه يتحقق في حالة واحدة، وهي أن يرى امرأته تزني في طهر لم يمسها فيه، فإنه يلزمه في هذه الحالة اعتزالها حتى تنقضي عدتها، فإذا أتت بولد لستة أشهر من حين الزنا، وأمكنه نفيه عنه، لزمه قذفها، ونفي ولدها ؛ لأن ذلك يجري مجرى اليقين في أن الولد من الزاني.

والحكمة الشرعية من إيجاب ذلك، كما يقول العز بن عبد السلام عند بيانه لتعارض المصالح مع المفاسد:(الرمي بالزنا مفسدة لما فيه من، الإيلام بتحمل العار، لكنه يباح في بعض الصور، ويجب في بعضها، لما يتضمنه من المصالح)([2])، ومن الأمثلة التي ذكرها لذلك:(وجوب قذفها إذا أتت بولد يلحقه في ظاهر الحكم وهو يعلم أنه ليس منه، فيلزمه أن يقذفها لنفيه، لأنه لو ترك نفيه لخالط بناته وأخواته وجميع محارمه، وورثه ولزمته نفقته ولتولى أنكحة بناته إلى غير ذلك من الأحكام المتعلقة بالنسب، فيلزمه نفيه درءا لهذه المفاسد وتحصيلا لأضدادها من المصالح، ولو أتت به خفية بحيث لا يلحق به في الحكم لم يجب نفيه، والأولى به الستر والكف عن القذف)([3])

ومثله ما لو تيقن زناها، ولكنه شك في كون الولد منه، أو من الزاني، مثل زناها في طهر أصابها فيه، أو زنت فلم يعتزلها، ولكنه كان يعزل عنها، أو كان لا يطؤها إلا دون الفرج، ثم جاء الولد شبيها بالزاني دونه، فإنه يلزمه نفيه، ومن الأدلة على ذلك:

1 ـ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حكم بولد امرأة هلال لشريك بن سحماء، بشبهه له، مع لعان هلال لها، وقذفه إياها.

2 ـ أن تلك القرائن مع الزنا توجب نسبته إلى الزاني.

ونرى أن ما ذكره الفقهاء من هذا يقبل في حكمه التشريعي الذي له ما يسنده من الأدلة، أما التفاصيل التطبيقية لهذا الحكم الشرعي، فتتوقف على التحري القضائي والطبي ونحوه، فما ذكروه مثلا من الولادة لستة أشهر ليس عاما، ومثله ما ذكروه من القيافة، وتتوفر الآن من الوسائل العلمية ما يمكن به وضع الأمور في نصابها، ولا مانع من استعمالها.

الإباحة:

وقد ذكر الفقهاء قيدين لإباحة القذف، هما:

1 ـ أن لا يلحقه من زناها نسب.

2 ـ أن يثبت عنده زناها، وقد ذكر الفقهاء لذلك طرقا مختلفة منها أن يراها تزني، أو يثبت عنده زناها، أو يخبره بزناها ثقة يصدقه، أو يشيع في الناس ذلك منها مع مشاهدة المقذوف عندها، أو داخلا إليها أو خارجا من عندها، أو يغلب على ظنه فجورها([4])، وفي بعض ما ذكروه خلاف سنتطرق له في محله من هذا المبحث.

ففي كل هذه الحالات وما شابهها له قذفها وله السكوت عن ذلك، بل استحب الفقهاء له السكوت، يقول ابن قدامة:(وإن سكت جاز، وهو أحسن ؛ لأنه يمكنه فراقها بطلاقها، ويكون فيه سترها وستر نفسه، وليس ثم ولد يحتاج إلى نفيه) ([5])، ومن الأدلة على ذلك:

1 ـ ما روي أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا، فتكلم جلدتموه، أو قتل قتلتموه، أو سكت سكت على غيظ، ووجه الاستدلال الحديث اقرار النبي صلى الله عليه وآله وسلم على قوله: أو سكت سكت على غيظ([6]).

2 ـ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم ينكر على هلال والعجلاني قذفهما حين رأيا.

الحرمة:

وهو ما عدا الحالتين السابقتين، وهي قذف الزوجة أو غيرها من غير بينة، وقد أجمع العلماء على أن القذف مطلقا سواء كان من الزوج لزوجته أو لغيرها من الكبائر([7])، قال ابن حزم بعد ذكره للنصوص الدالة على تحريم القذف:(فصح أن قذف المؤمنات المحصنات البريئات من الكبائر الموجبة للعنة في الدنيا والآخرة، والعذاب العظيم في الآخرة، ودخل فيها قذف الأمة والحرة دخولا مستويا، لأن الله تعالى لم يخص مؤمنة من مؤمنة، وبقي قذف الكافرة فوجدنا الله تعالى قال: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً }(النور:4) فهذا عموم تدخل فيه الكافرة والمؤمنة، فوجب أن قاذفها فاسق إلا أن يتوب)([8])وقد وردت النصوص الكثيرة على تحريم القذف مطلقا لا حاجة لذكرها هنا، وهي تنطبق على الزوجة كما تنطبق على غيرها، بل انطباقها على الزوجة من باب أولى.

ثانيا ـ مفهوم اللعان وأحكامه

عرف اللعان بأنه: شهادات مؤكدات بالأيمان، مقرونة باللعن من جهة، وبالغضب من الأخرى، قائمة مقام حد القذف في حقه، ومقام حد الزنا في حقها([9]).

وقد سمى لعانا لقول الزوج (على لعنة الله ان كنت من الكاذبين)، وقد ذكر العلماء سبب الاصطلاح على هذا اللفظ دون لفظ الغضب وإن كانا موجودين في الآية الكريمة وفي صورة اللعان، لأن لفظ اللعنة متقدم في الآية الكريمة وفي صورة اللعان، ولأن جانب الرجل فيه أقوى من جانبها لأنة قادر على الابتداء باللعان دونها، ولأنه قد ينفك لعانه عن لعانها ولا ينعكس، ولأن اللعن هو الطرد والابعاد لأن كلا منهما يبعد عن صاحبه ويحرم النكاح بينهما على التأبيد بخلاف المطلق وغيره([10]).

وقد اختلف الفقهاء في اللعان هل هو شهادة أم يمين، وبناء على هذا الاختلاف اختلفوا في بعض الفروع الفقهية المتعلقة باللعان كما سنرى، والنص الوارد في اللعان يحتمل كلا المعنيين، فلذلك نرى أن الأرجح في الخلاف في حقيقة اللعان هو أنه يجمع الوصفين جميعا، فهو يمين مؤكد لشهادة، أو شهادة مؤكدة بأيمان، وقد انتصر ابن القيم لهذا، وذكر أدلته، وسنسوق قوله مع أدلته، لشدة الحاجة إليها في بعض تفاصيل مسائل اللعان.

قال ابن القيم: (والصحيح أن لعانهم يجمع الوصفين، اليمين والشهادة، فهو شهادة مؤكدة بالقسم والتكرار، ويمين مغلظة بلفظ الشهادة والتكرار لاقتضاء الحال تأكيد الأمر، ولهذا اعتبر فيه من التأكيد عشرة أنواع) ([11])، وهذه الأنواع العشرة من التأكيد هي:

1 ـ ذكر لفظ الشهادة.

2 ـ ذكر القسم بأحد أسماء الربّ سبحانه وأجمعها لمعاني أسمائه الحسنى، وهو اسم الله جَل ذِكرُه.

3 ـ تأكيدُ الجواب بما يُؤكد به المقسم عليه، من (إن، واللام)، وإتيانه باسم الفاعل الذي هو صادق وكاذب دون الفعل الذي هو صدق وكذب.

4 ـ تكرارُ ذلك أربع مرات.

5 ـ دعاؤه على نفسه في الخامسة بلعنة الله إن كان من الكاذبـين.

6 ـ إخبارُه عند الخامسة أنها الموجِبةُ لعذاب الله، وأن عذاب الدنيا أهونُ مِن عذاب الآخرة.

7 ـ جعل لعانه مقتضى لحصول العذاب عليها، وهو إما الحدُّ أو الحبسُ، وجعل لعانها دارئاً للعذاب عنها.

8 ـ أن هذا اللعان يُوجب العذاب على أحدهما إما في الدنيا، وإما في الآخرة.

9 ـ التفريقُ بـين المتلاعنين، وخرابُ بـيتها، وكسرها بالفراق.

10 ـ تأبـيد تلك الفرقة ودوام التحريم بـينهما.

قال ابن القيم بعد سوقه لهذه المؤكدات:(فلما كان شأنُ هذا اللعانِ هذا الشأن، جُعِلَ يميناً مقروناً بالشهادة، وشهادة مقرونة باليمين، وجعل الملتعن لقبول قوله كالشاهد) ([12])

حكم اللعان

اللعان رخصة شرعية لدرء الحد عمن قذف زوجته بغير بينة، لأنه إذا قذف زوجته المحصنة وجب عليه الحد، وحكم بفسقه، ورد شهادته، إلا أن يأتي ببينة أو يلاعن.

وهذه الرخصة واجبة في حال القذف مع عدم البينة، قال القرطبي:(ويجب اللعان إن لم يأت بأربعة شهداء، وهذا قول الجمهور وعامة الفقهاء، وجماعة أهل الحديث)([13])،ومن الأدلة على ثبوت هذه الرخصة:

1 ـ قوله تعالى: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ}(النور: 6-9)

2 ـ روي أن عويمرا العجلاني أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله، أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا فيقتله فتقتلونه، أم كيف يفعل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك، فاذهب فائت بها، قال الراوي: فتلاعنا، وأنا مع الناس عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما فرغا، قال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها، فطلقها ثلاثا بحضرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم([14]).

3 ـ حديث هلال بن أمية الطويل، فعن ابن عباس قال: جاء هلال بن أمية، وهو أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم، فجاء من أرضه عشاء، فوجد عند أهله رجلا فرأى بعينيه، وسمع بأذنيه، فلم يهجه حتى أصبح، ثم غدا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول الله، إني جئت أهلي، فوجدت عندهم رجلا، فرأيت بعيني، وسمعت بأذني. فكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ما جاء به، واشتد عليه، فنزلت { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ }(النور: 6-9) الآيتين كلتيهما، فسري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أبشر يا هلال، فقد جعل الله لك فرجا ومخرجا قال هلال:قد كنت أرجو ذلك من ربي تبارك وتعالى، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أرسلوا إليها. فأرسلوا إليها، فتلاها عليهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وذكرهما، وأخبرهما أن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا، فقال هلال: والله لقد صدقت عليها. فقالت: كذب، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لاعنوا بينهما، فقيل لهلال: اشهد، فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، فلما كانت الخامسة قيل: يا هلال اتق الله، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب، فقال: والله لا يعذبني الله عليها، كما لم يجلدني عليها، فشهد الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم قيل لها: اشهدي. فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، فلما كانت الخامسة قيل لها: اتقي الله، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب، فتلكأت ساعة، ثم قالت: والله لا أفضح قومي، فشهدت الخامسة، أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين. ففرق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بينهما، وقضى أن لا بيت لها عليه، ولا قوت، من أجل أنهما يتفرقان من غير طلاق، ولا متوفى عنها([15])

4 ـ أن الزوج يبتلى بقذف امرأته لينفي العار والنسب الفاسد، وتتعذر عليه البينة، فجعل اللعان بينة له، ولهذا لما نزلت آية اللعان، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:(أبشر يا هلال، فقد جعل الله لك فرجا ومخرجا)

حكم اللعان عند وجود البينة

نص الفقهاء على أنه إن كانت له بينة تشهد بزناها، فهو مخير بين لعانها وبين إقامة البينة أو الجمع بينهما، لأنهما بينتان، فكان له الخيار في إقامة أيتهما شاء، ولأن كل واحدة منهما يحصل بها ما لا يحصل بالأخرى، فإنه يحصل باللعان نفي النسب الباطل، ولا يحصل ذلك بالبينة، ويحصل بالبينة ثبوت زناها، وإقامة الحد عليها، وذلك لا يحصل باللعان.

ولذلك لو لاعنها من أجل نفى ولدها منه، ثم أراد إقامة البينة لإقامة الحد عليها، ثبت موجب اللعان وموجب البينة.

أما إن أقام البينة أولا، فإنه يثبت بها الزنا وموجبه، ولم ينتف عنه الولد،لأنه لا يلزم من الزنا كون الولد منه، فإن أراد لعانها بعد ذلك، وليس بينهما ولد يريد نفيه، فليس له ذلك ؛ لأن الحد قد انتفى عنه بإقامة البينة، فلا حاجة إليه، أما إن كان بينهما ولد يريد نفيه، فله أن يلاعن لنفيه.

محل وجوب اللعان:

اتفق الفقهاء على أنه لا يتعرض للزوج بإقامة الحد عليه، ولا طلب اللعان منه إلا بعد مطالبة زوجته بذلك، لأن ذلك حق لها، فلا يقام من غير طلبها([16])، كسائر حقوقها، فلذلك لا يحق لوليها المطالبة عنها ولوكانت مجنونة أو محجورا عليها، وليس لولي الصغيرة من باب أولى المطالبة بالتعزير من أجلهما، لأن القصد من هذا الحق رد الاعتبار، فلا يقوم الغير فيه مقام المستحق، مثل القصاص.

أما إن أراد الزوج اللعان من غير مطالبة الزوجة به، فيختلف حكمه بحسب الحالتين التاليتين:

الحالة الأولى: ليس هناك نسب يريد نفيه:

وقد اختلف الفقهاء في هذه الحالة على قولين:

القول الأول: ليس له أن يلاعن، وهو قول أكثر العلماء، قياسا له على كل موضع سقط فيه الحد عنه مثل إقامته البينة بزناها، أو أبرأته من قذفها، أو حد لها ثم أراد لعانها، ولا نسب هناك ينفى.

القول الثاني: أن له أن يلاعن، وهو قول بعض أصحاب الشافعي وهو خلاف الصحيح عندهم، لإزالة الفراش.

الترجيح:نرى أن الأرجح في المسألة هو عدم اللعان، لعدم جدواه، أما إزالة نسبة الفراش عنه فيمكنه التوصل إليها بالطلاق، أما التحريم المؤبد فليس بمقصود شرع اللعان من أجله، وإنما حصل ذلك ضمنا.

الحالة الثانية: إذا كان هناك ولد يريد نفيه:

ولم تطالب الزوجة بالبينة ولا اللعان، وقد اختلف الفقهاء في هذه الحالة على قولين:

القول الأول: أن له أن يلاعن لنفيه، وهو قول الجمهور، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ أن هلال بن أمية لما قذف امرأته، وأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره، أرسل إليها، فلاعن بينهما، ولم تكن طالبته.

2 ـ أنه محتاج إلى نفيه، فشرع له اللعان طريقا إليه، كما لو طالبته.

3 ـ أن نفي النسب الباطل حق له، فلا يسقط برضاها به، كما لو طالبت باللعان ورضيت بالولد.

القول الثاني: أنه ليس له أن يلاعن، وهو قول الحنفية، لأنه أحد موجبي القذف فلا يشرع مع عدم المطالبة كالحد.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو أن له الحق في طلب اللعان لنفي الولد الذي يشك في نسبته إليه كما أن لها الحق في طلبه إن قذفها، فالحق ثابت لكلا الزوجين اجتمعا على طلبه أو انفرد أحدهما بالطلب.

حكم الامتناع عن الملاعنة بعد وجوبها

ويختلف حكم ذلك بحسب الملاعن كما يلي:

1 ـ امتناع الزوج عن الملاعنة:

اختلف الفقهاء فيما لو قذف الرجل زوجته بدون بينة، ثم امتنع من اللعان، هل يلزمه ما سبق من الحد ورد الشهادة والحكم بالفسق أم لا؟ على قولين:

القول الأول: يلزمه الحد ورد الشهادة والحكم بالفسق، وهو قول مالك، والشافعي، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ قول الله تعالى: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ}(النور:4) وهذه الآية عامة في الزوج وغيره، وإنما خص الزوج بأن أقام لعانه مقام الشهادة، في نفي الحد والفسق ورد الشهادة عنه.

2 ـ قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (البينة وإلا حد في ظهرك) ([17])

3 ـ قوله صلى الله عليه وآله وسلم للملاعن:(عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة) ([18])

4 ـ أن قذفه جناية منه على عرضها، فكان موجبها الحدُّ كقذف الأجنبـي، ولما كان فيها شائبةُ الدعوى عليها بإتلافها لحقه وخيانتها فيه، ملك إسقاطَ ما يُوجبه القذفُ مِن الحد بلعانه، فإذا لم يُلاعِن مع قدرته على اللعان، وتمكنه منه، عمل مقتضى القذفِ عملَه، واستقل بإيجاب الحد، إذ لا معارض له.

5 ـ أنه قاذف يلزمه الحد لو كذب نفسه، فلزمه الحد إذا لم يأت بالبينة المشروعة كالأجنبي.

القول الثاني: يجب اللعان دون الحد، فإن أبى حبس حتى يلاعن، وهو قول الحنفية، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ قوله تعالى: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ..}(النور: 6-9)}، فلم يوجب بقذف الأزواج إلا اللعان.

2 ـ أن قذفه لها دعوى تُوجب أحد أمرين، إما لعانه، وإما إقرارها، فإذا لم يُلاعن، حبِسَ حتى يلاعن، إلا أن تُقِر فيزول موجبُ الدعوى، وهذا بخلاف قذف الأجنبـي، فإنه لا حقّ له عند المقذوفة، فكانَ قاذفاً محضاً.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الأول، لأنه لا فرق بين قاذف زوجته وقاذف غيرها إلا في موضع واحد هو الاكتفاء بشهادته، مع تشريع اللعان بدلا عن استكمال الشهود، فإذا لم يأت باللعان صار كالأجنبي، ووجب عليه حد القذف، فليس في النصوص ما يرفعه عنه، بل فيها كما ذكرنا ما يؤكده، وفي ذلك ردع عن القذف في غير محله، وهو من المقاصد الشرعية في تشريع هذه العقوبة.

وقد ذكر ابن القيم سبب الخلاف في المسألة بين الحنفية والجمهور، وهو اختلافهم في موجب قذفِ الزوج لامرأته هَل هو الحد، كقذف الأجنبـي، وله إسقاطه باللعان، أو موجبه اللعان نفسه؟ فالأول: قول الجمهور. والثاني: قول أبـي حنيفة([19]).

وقد رد ابن القيم على هذا التفسير من الحنفية للعان بقوله:(إن أردتُم أن من موجبه إسقاطُ الحد عن نفسه فحق، وإن أردتُم أن سقوطَ الحد عنه يسقط جميع موجبه، ولا موجب له سواه، فباطل قطعاً، فإن وقوع الفرقة، أو وجوب التفريق والتحريم المؤبد، أو المؤقت، ونفي الولد المصرح بنفيه، أو المكتفى في نفيه باللعان، ووجوب العذاب على الزوجة إما عذاب الحد، أو عذاب الحبس، كُلُّ ذلك من موجب اللعان، فلا يصح أن يقال: إنما يوجب سقوط حد القذف عن الزوج فقط) ([20])

2 ـ امتناع الزوجة عن الملاعنة:

اختلف الفقهاء فيما لو لاعنها، وامتنعت هي من الملاعنة، هل عليها الحد أم لا على قولين:

القول الأول: لا حد عليها([21])، وهو قول الحسن، والأوزاعي، وأصحاب الرأي والحنابلة، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ أن موجبَ لِعانه إسقاط الحد عن نفسه لا إيجابَ الحد عليها، ولهذا قال النبـي صلى الله عليه وآله وسلم(البـينَةُ وإلا حَدٌّ في ظَهرِكَ)([22])، وذلك لأن موجِبَ قذفِ الزوج، كموجب قذفِ الأجنبـي وهو الحدُّ، فجعل الله سبحانه له طريقاً إلى التخلص منه باللعان، وجعل طريق إقامة الحد على المرأة أحدَ أمرين: إما أربعة شهود، أو اعتراف، أو الحَبَلُ عند من يَحُدُّ به مِن الصحابة، كعمر ومن وافقه، وقد قال عمر على منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(والرجمُ واجِبٌ على كُل من زَنَى مِن الرجال والنساء إذا كان محصَناً إذا قامَت بـينةٌ، أو كان الحَبَلُ، أو الاعترافُ) ([23])، وكذلك قال عليٌّ، فجعلا طريق الحد ثلاثة لم يجعلا فيها اللعان.

2 ـ قوله تعالى: { وَيدرَؤ عَنهَا العَذَابَ أَن تَشهَدَ}، فالعذاب ها هنا يجوز أن يُراد به الحدُّ، وأن يُرادَ به الحبسُ والعقوبةُ المطلوبة، فلا يتعين إرادة الحد به، فإنّ الدال على المطلق لا يدلُّ على المقيد إلا بدليل من خارج، وأدنى درجاتِ ذلك الاحتمال، فلا يثبتُ الحدُّ مع قيامه، وقد يُرجحُ هذا بما تقدم مِن قول عمر وعلي ما: إن الحد إنما يكون بالبـينة أو الاعتراف أو الحبل.

3 ـ قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (البَـينَةُ عَلى المُدعي)، ولا ريب أن الزوج ها هنا مدع، فلذلك وجب عليه إقامة البينة لإقامة الحد عليها.

4 ـ شدة الشرع في المطالبة ببينة الزنا، فقد اعتبر في بينته من العدد ضعف ما اعتبر في سائر الحدود، واعتبر في حقهم أن يصفوا صورة الفعل، وأن يصرحوا بلفظه، وغير ذلك، مبالغة في نفي الشبهات عنه، وتوسلا إلى إسقاطه، فلذلك لا يجوز أن يقضى فيه بالنكول الذي هو في نفسه شبهة، لا يقضى به في شيء من الحدود ولا العقوبات ما عدا الأموال.

5 ـ أن الحد لا يثبت بالنكول، فإنه يدرأ بالشبهات، فلا يثبت بها، لأن النكول يحتمل أن يكون لشدة محافظتها، أو لعقلة على لسانها، أو غير ذلك.

6 ـ أن تحقق زناها لا يخلو إما أن يكون بلعان الزوج، أو بنكولها، أو بهما جميعا، ولا يجوز أن يكون بلعان الزوج وحده ؛ لأنه لو ثبت زناها به، لما سمع لعانها، ولا وجب الحد على قاذفها.

7 ـ أنها لو أقرت بلسانها، ثم رجعت، لم يجب عليها الحد، فلأن لا يجب بمجرد امتناعها من اليمين على براءتها أولى.

8 ـ أن اللعان إما يمين، وإما شهادة، وكلاهما لا يثبت له الحق على غيره.

9 ـ أنه لم يتحقق من زناها، فلا يجب عليها الحد، كما لو لم يلاعن.

10 ـ لو كان لِعانُ الرجل بـينةً تُوجِبُ الحد عليها، لم تملك إسقاطَه باللعانِ، وتكذيب البـينة، كما لو شهد عليها أربعة.

11 ـ أنه لو شهد عليها مع ثلاثة غيرِه، لم تحد بهذه الشهادة، فلأن لا تُحد بشهادته وحده أولى وأحرى.

12 ـ أنه أحدُ المتلاعنين، فلا يُوجبُ حد الآخر، كما لم يُوجب لِعانُها حده.

القول الثاني: أن عليها الحد، وهو قول مكحول، والشعبي، ومالك، والشافعي، وأبي عبيد، وأبي ثور، وأبي إسحاق الجوزجاني، وابن المنذر، وقد رجحه ابن القيم، وانتصر له، قال بعد سوقه لأدلة ترجيحه: (وإذا تبـين هذا، فهذا هو القولُ الصحيح الذي لا نعتقِدُ سواه، ولا نرتضي إلا إياه) ([24])، وهذا ملخص ما ذكره من أدلة، ومن أجوبة على المخالفين من أصحاب القول الأول([25]):

1 ـ أن الله تعالى جعل التعانَ الزوج بدلاً عن الشهود، وقائماً مقامهم، بل جعل الأزواج الملتعنِينَ شهداءَ كما تقدم، وصرحَ بأن لِعانهم شهادةٌ، وأوضح ذلك بقوله تعالى: { وَيدرَؤُ عَنهَا العَذَابَ أَن تَشهَدَ أَربَعَ شَهَادَاتٍ باللهِ }(النور:6)، وهذا يدلُّ على أن سببَ العذاب الدنيوي قد وُجِدَ، وأنه لا يدفعه عنها إلا لعانُها، والعذاب المدفوع عنها بلعانها هو المَذكُور في قوله تعالى {وليَشهَد عَذَابَهُما طَائِفَةٌ مِنَ المُؤمِنينَ}، وهذا عذابُ الحد قطعاً، فذكره مضافاً، ومعرفاً بلام العهد، فلا يجوزُ أن ينصرِفَ إلى عُقوبةٍ لم تُذكر في اللفظ، ولا دل عليها بوجهٍ ما منِ حبس أو غيره، فكيف يخلى سبـيلُها، ويدرأ عنها العذابُ بِغير لِعان، وهل هذا إلا مخالفةٌ لِظاهر القرآن؟

2 ـ جعل الله تعالى لِعَانَ الزوج دارئاً لحد القذف عنه، وجعل لِعانَ الزوجة دارئاً لعذاب حد الزنى عنها، فكما أن الزوج إذا لم يُلاعن يُحدُّ حَد القذف، فكذلك الزوجةُ إذا لم تُلاعن يجب عليها الحد.

3 ـ أن استدلال المخالفين بأن لعانَ الزوج لو كان بـينة تُوجب الحد عليها لم تملك هي إسقاطه باللعان، كشهادة الأجنبـي، فالجواب عليه بأن حكم اللعان حُكمٌ مستقلٌّ بنفسه غيرُ مردود إلى أحكام الدعاوى والبـينات، بل هو أصل قائم بنفسه شَرعَه الذي شرع نظيرَه مِن الأحكامِ، وفصله الذي فصل الحلالَ والحرام، ولما كان لِعانُ الزوج بدلاً عن الشهود لا جَرَمَ نزل عن مرتبة البـينة، فلم يستقِل وحدَه بحكم البـينة، وجعل للمرأة معارضته بلعان نظيره، وحينئذ فلا يظهر ترجيحُ أحد اللعانين على الآخر لنا، والله يعلم أن أحدهما كاذب، فلا وجه لحد المرأة بمجردِ لِعان الزوج، فإذا مُكنت من معارضته وإتيانها بما يُبرىء ساحتها، فلم تفعل، ونكلت عن ذلك، عَمِلَ المقتضى عمَله، وانضاف إليه قرينة قوته وأكدته، وهي نكولُ المرأة وإعراضُها عما يُخلصها من العذاب، وَيَدرَؤُه عنها.

4 ـ أن استشهاد المخالفين بأنه لو شهد عليها مع ثلاثة غيره لم تُحَد بهذه الشهادة، فكيف تُحدُّ بشهادته وحدَه؟ فجوابُه أنها لم تُحد بشهادة مجردة، وإنما حُدت بمجموع لِعانه خمسَ مرات، ونكولِها عن معارضته مع قدرتها عليه، فقامَ من مجموع ذلك دليل في غاية الظهور والقوة على صحة قوله، والظنُّ المستفاد منه أقوى بكثير من الظن المستفاد من شهادة الشهود.

5 ـ أن استشهاد المخالفين بأن الزوج أحد اللعانين، فلا يُوجب حد الآخر، كما لم يُوجب لِعانُها حده، فجوابه أن لِعانها إنما شرع للدفع، لا للإيجاب، كما قال تعالى: { وَيَدرَؤُ عَنهَا العَذَابَ أَن تَشهَدَ} فدل النصُّ على أن لعانه مقتضٍ لإيجاب الحد، ولعانها دافع ودارىء لا موجب، فقياسُ أحد اللعانينِ على الآخر جمع بـين ما فرق الله سبحانه بـينهما وهو باطل.

6 ـ أن استدلال المخالفين بقوله صلى الله عليه وآله وسلم (البـينةُ عَلى المُدعِي) على عدم الحد لا يصح، لأن لِعان الزوجِ المذكورِ المكرر بـينة، وقد انضم إليها نكولُها الجاري مجرى إقرارها عند قوم، ومجرى بـينة المدعين عند آخرين، وهذا مِن أقوى البـينات، ويدل عليه أن النبـي صلى الله عليه وآله وسلمقال له: (البـينةُ وإلا حَدٌّ في ظهرك)، ولم يُبطل اللهُ سبحانه هذا، وإنما نقله عند عجزه عن بـينة منفصلة تُسقط الحد عنه يعجز عن إقامتها، إلى بـينة يتمكن مِن إقامتها، ولما كانت دونها في الرتبة، اعتبر لها مُقوٍ منفصل، وهو نكولُ المرأة عن دفعها، ومعارضتها مع قدرتها وتمكنها.

7 ـ أن استدلال المخالفين بعدم تحقق زناها لا يصح، لأن التحقيق اليقينَ المقطوعَ به كالمحرمات، لا يُشترط في إقامة الحد، ولو كان هذا شرطاً، لما أقيمَ الحدُّ بشهادةِ أربعة، إذ شهادتُهم لا تجعلُ الزنى محققاً بهذا الاعتبار، وإن أريد بعدم التحقق أنه مشكوكٌ فيه على السواء، بحيث لا يترجح ثبوتُه، فباطل قطعاً، وإلا لما وجب عليها العذابُ المدرَأُ بلعانها، ولا ريبَ أن التحقُّقَ المستفادَ مِن لعانه المؤكد المكرر مع إعراضها عن معارضة ممكنة منه أقوى من التحقق بأربع شهود، ولعل لهم غرضاً في قذفها وهتكِها وإفسادها على زوجها، والزوجُ لا غرض له في ذلك منها.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو التربص بها للنظر في علة امتناعها عن اللعان، وفي تلك الفترة يمكن وعظها وتذكيرها، وتبيين عظم العقوبة التي قد تتعرض لها في حال نكولها، وبعد ذلك إن استمر نكولها أو اعترفت وجب عليها الحد الشرعي إلا إذا قامت الشبه على درء الحد عنها كأن تكون قد أكرهت على الزنا وغير ذلك.

والعلة المانعة من تعجيل العقوبة بمجرد نكولها أن بعض الناس يتورع من الحلف ولو كان صادقا مخافة الإثم، أو لعلها لا تعرف المراد من الزنا حقيقة، فيختلط عندها مع المباشرة ونحوها، فلذلك كان في التربص مزيد تيقن قبل إقامة الحد.

والفرق بين تعجيل العقوبة للزوج الممتنع والتريث بها للزوجة الممتنعة، أن الزوج مدع، وعقوبته أهون، بينما هي مدعى عليها، ومتهمة في عرضها، وذلك مما يشدد المصيبة عليها، فلا تعرف الطريقة السليمة للتصرف، فتحتاج إلى التريث والمراجعة والتذكير، زيادة على ذلك عظم العقوبة المتعلقة بنكولها مقارنة بعقوبة الرجل.

أما ما ذهب إليه أصحاب القول الأول، فإن الأدلة الصريحة تخالفه زيادة على أن اللعان يصبح بذلك أمرا شكليا لا مصلحة واقعية له، فأي امرأة تحت أي زوج يمكن أن تفعل ما تشاء لا تخاف أن يبصرها زوجها، لأن الحد مرفوع عنها سواء التعنت أو لم تلتعن.

حكم قتل من وجد رجلا في بيته

اختلف الفقهاء في وجوب القصاص على من قتل رجلا وجده في بيته مع أهله على قولين:

القول الأول: أنه يُقتل به، وقد روي عن عمر كما سنذكر قصته في ذلك، وبه قال بعض أصحاب المذاهب مع اختلاف بينهم في بعض التفاصيل التي تقربهم من القول الثاني، فقال الشافعي وأبو ثور، يسعهُ قتلُه فيما بـينه وبـين الله تعالى إذا كان الزاني محصناً، فجعلاه من باب الحدود، وقال أحمد وإسحاق، يُهدَرُ دمُه إذا جاء بشاهدين ولم يُفصلا بـين المحصن وغيره، واختلَفَ قولُ مالك في هذه المسألة، فقال ابنُ حبـيب: إن كان المقتولُ محصناً، وأقام الزوجُ البـينة، فلا شيء عليه، وإلا قُتل به، وقال ابنُ القاسم: إذا قامت البـينةُ فالمحصَنُ وغيرُ المحصَنِ سواء، ويهدُر دمه، واستحب ابنُ القاسم الديةَ في غير المحصنَ.

وقد اختاره ابن تيمية، ومما نقله عنه ابن القيم من قوله في ذلك:(ليس هذا مِن بابِ دفعِ الصائل، بل مِن باب عقوبةِ المعتدي المؤذي، وعلى هذا فيجوزُ له فيما بـينَه وبـين اللهِ تعالى قتلُ من اعتدى على حريمِه، سواء كان محصَناً أو غيرَ محصن، معروفاً بذلك أو غيرَ معروف، كما دل عليه كلام الأصحاب، وفتاوى الصحابة) ([26])، ومن الأدلة على ذلك:

1 ـ أن عمر بـينا هو يوماً يتغدى، إذ جاءه رجلٌ يعدو وفي يده سيف ملطخ بدم، ووراءه قوم يعدون، فجاء حتى جلسَ مع عمر، فجاء الآخرون، فقالوا: يا أميرَ المؤمنين إن هذا قتل صاحبنا، فقال له عمر: ما تقول؟ فقال له: يا أميرَ المؤمنين إني ضربت بـين فخذي امرأتي، فإن كان بـينَهما أحد فقد قتلتُه، فقال عمر: ما تقولون؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين إنه ضربَ بالسيفِ، فوقع في وسط الرجل وفخذي المرأة، فأخذ عُمر سيفَه فهزّه، ثم دفعه إليه، وقال: إن عادوا، فعد([27]).

2 ـ عن الشعبي قال: كان رجلان أخوان من الأنصار يقال لأحدهما أشعث فغزا في جيش من جيوش المسلمين، قال: فقالت: امرأة أخيه لأخيه هل لك في امرأة أخيك، معها رجل يحدثها، فصعد فأشرف عليه وهو معها على فراشها.. فوثب إليه الرجل فضربه بالسيف حتى قتله، ثم ألقاه، فأصبح قتيلا بالمدينة، فقال عمر:(أنشد الله رجلا كان عنده من هو أعلم إلا قام به)، فقام رجل فأخبره بالقصة، فقال: سحقا وبعدا([28]).

3 ـ عن أنس أن رجلاً أطلع مِن جحر في بعض حُجر النبـي صلى الله عليه وآله وسلم، فقام إليه بمِشقَصٍ أو بمشَاقِص، وجعل يَختِلُه ليطعنَه([29])، قال ابن القيم تعليقا على هذا الحديث:(فأين الدفعُ بالأسهل وهو صلى الله عليه وآله وسلم يختِلُه، أو يختبىء له، ويختفي لِيَطعنَه)

4 ـ عن سهل بن سعد أن رجلاً اطلع في جُحرٍ في باب النبـيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وفي يد النبـي صلى الله عليه وآله وسلم مِدرىً يَحُكُّ بِهِ رَأسَهُ، فلما رآهُ قال: (لَو أَعلَمُ أَنكَ تَنظُرني لَطَعَنتُ به في عَينِك، إنما جُعِلَ الإذنُ مِن أَجلِ البَصَرِ) ([30]).

5 ـ ما ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لَو أن امرأً اطلَعَ عَلَيكَ بِغَيرِ إذنٍ، فَخَذَفتَهُ بِحَصَاةٍ، فَفَقَأتَ عَينَهُ لَم يَكُن عَلَيكَ جُنَاحٌ) ([31])، وفي رواية: (مَن اطلَعَ في بَـيتِ قَومٍ بِغَيرِ إذنِهِم، فَفَقؤوا عَينَهُ فَلاَ دِيَةَ لَهُ وَلاَ قِصَاصَ) ([32]).

6 ـ أن ما استدل به المخالفون من حديث سعد بن عبادة صحيح نقول بموجبه، وآخِرُ الحديث دليل على أنه لو قتله لم يُقد به، لأنه قال: بلى والذي أكرمَكَ بالحق، ولو وجب عليه القصاصُ بقتله، لما أقره على هذا الحلف، ولما أثنى على غَيرَته، ولقال: لو قتلتَه قُتِلتَ به، والحديث صريحٌ في هذا، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أَتَعجَبُونَ مِن غَيرَة سَعدٍ فَوَاللهِ لأَنَا أَغيَرُ مِنهُ واللهُ أَغيَرُ مِني) ([33])، ولم ينكر عليه، ولا نهاه عن قتله.

القول الثاني: أنه لا يُقتل به، وهو قول علي على حسب ما نقل عنه، فقد سُئِلَ عمن وَجَدَ مع امرأته رجلاً فقتله: إن لم يأتِ بأربعةِ شُهداء، فليُعطَ بِرُمتِهِ، قال ابن عبد البر: (ولا خلاف علمته بين العلماء([34]) فيمن قتل رجلا، ثم ادعى أنه إنما قتله لأنه وجده مع امرأته بين فخذيها ونحو ذلك من وجوه زناه بها، ولم يعلم ما ذكر عنه إلا بدعواه، أنه لا يقبل منه ما ادعاه، وأنه يقتل به إلا أن يأتي بأربعة شهداء يشهدون أنهم رأوا وطئه لها وإيلاجه فيها، ويكون مع ذلك محصنا مسلما بالغا، أو من يحل دمه بذلك، فإن جاء بشهداء يشهدون له بذلك نجا وإلا قتل)

ثم قال مبينا وجه الاستدلال على هذا: (وهذا أمر واضح لو لم يجيء به الخبر لأوجبه النظر، لأن الله حرم دماء المسلمين تحريما مطلقا، فمن ثبت عليه أنه قتل مسلما فادعى أن المسلم قد كان يجب قتله لم يقبل منه رفعه القصاص عن نفسه، حتى يتبين ما ذكر، وهكذا كل من لزمه حق لآدمي لم يقبل قوله في المخرج منه إلا ببينة تشهد له بذلك)، ومن الأدلة على ذلك:

1 ـ عن أبـي هريرة، أن سعد بن عبادة قال: يا رسولَ الله: أرأيتَ الرجلَ يَجِدُ مع امرأته رجلاً أيقتُلُه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا)، فقال سَعدٌ: بَلَى والذِي بَعَثَكَ بالحَق، فقال رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم: (اسمَعُوا إلى مَا يَقُولُ سَيدُكُم)، وفي اللفظ الآخر: (إن وَجَدتُ مَعَ امرأتِي رَجُلاً أُمهِلُهُ حَتى آتي بِأَربَعَةِ شُهَدَاء؟ قال: (نعم) قال: والذي بَعَثَكَ بالحَق، إن كُنتُ لأُعَاجِلُهُ بالسيفِ قَبلَ ذلِكَ، قال رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: (اسمَعُوا إلى مَا يَقُولُ سَيدُكُم إنهُ لَغَيُورٌ وأَنَا أَغيَرُ مِنهُ، واللهُ أَغيَرُ مِني؟)([35])

2 ـ قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(لَو أنّ رجلاً وَجَدَ مع امرأتِهِ رجلاً يقتُلُه فتقتُلُونه به)، وهو دليل على أن من قتل رجلاً في داره، وادعى أنه وجده مع امرأتِه أو حريمِه، قتل فيه، ولا يُقبل قوله.

3 ـ أنه لو قُبِلَ قولُه، لأُهدِرَتِ الدماءُ، وكان كل من أراد قتلَ رجل أدخله دارَه، وادعى أنه وجده مع امرأته.

4 ـ أن ما روي في هذه المسألة عن عمر أنه أهدر دمه لم يصح، وإنما يصح عن عمر أنه أهدر دم الذي أراد اغتصاب الجارية الهذلية نفسها، فرمته بحجر ففضت كبده فمات، فارتفعوا إلى عمر فقال: ذلك قتيل الله، والله لا يودى أبدا. قال ابن عبد البر: ففي هذا جاء عن عمر أنه أهدر دمه، لأنها دفعته عن نفسها، فأتى دفعها على روحه لا في الذي وجد مع امرأته رجلا)([36])

5 ـ أن ما روي عن هانئ بن حرام أن رجلا وجد مع امرأته رجلا فقتلهما، فكتب عمر بكتاب في العلانية أن أقيدوه، وكتابا في السر أن أعطوه الدية، لا يصح، قال ابن عبد البر: (وهذا لا يصح مثله عن عمر والله أعلم، ولم تكن في أخلاقه المداهنة في دين الله) ([37])

6 ـ أن ما رواه الشعبي عن عمر لا يصح، قال ابن عبد البر:(هذا خبر منقطع وليس فيه شهادة قاطعة على معاينة القتل ولا إقرار القاتل، فلا حجة فيه) ([38])، وذكر عن مجاهد أنه كان ينكر أن يكون عمر أهدر دمه إلا بالبينة، قال ابن جريج وقال عطاء لا إلا بالبينة، وقد جاء عن عمر في رجل وجد رجلا في داره ملفوفا في حصير بعد العتمة أنه ضربه مائة جلدة.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو التفريق في هذا بين أمرين، يمكن من خلالهما الجمع بين النصوص، وما روي عن الصحابة، وهو أن حكم المسألة يختلف بين الحكم التكليفي والحكم الوضعي.

أما الحكم التكليفي، فإن ما ذكرنا من أدلة نصية يدل على إباحة القتل ونحوه، حرصا على حرمة البيوت، وتلبية لدافع الغيرة التي جبل عليها الإنسان السوي، ولكن مع ذلك نرى أن لا يعمد في هذه الحالة إلى القتل المباشر، بل يمكن أن يدفعه بطرق مختلفه، ولا نريد بذلك ما ذكره بعض الفقهاء من أنه يدفعه بالأسهل فالأسهل، فيبدأ بقوله: انصرف واذهب، وإلا نفعل بك كذا، فإن ما جاء في النصوص السابقة يدل على خلافه، بل نريد أن يصيبه بأذى لا يقتله به، لا خوفا على حياة من اقتحم بيته، وإنما حرصا على مصلحة من يدافع على عرضه كما سنذكره في الحكم الوضعي.

أما الحكم الوضعي، فإن هذا القاتل لا يسلم من القصاص المشروع بسبب القتل العمد إلا ببينة تثبت صدق ما يدعي، وهذا حتى لا يعمد أي قاتل لجلب المقتول إلى بيته، ثم رميه بعرضه، ولهذا رجحنا عدم العمد إلى القتل المباشر لما قد يؤدي إلى عدم الحصول على بينة تثبت دعواه، قال ابن القيم مبينا علل هذا الحكم الوضعي تعقيبا على حديث سعد بن عبادة: (لأن قولَه صلى الله عليه وآله وسلم حُكم ملزم، وكذلكَ فتواه حكم عام للأمة، فلو أذن له في قتله، لكان ذلك حكماً منه بأن دمه هدرٌ في ظاهر الشرع وباطنه، ووقعت المفسدةُ التي درأها اللهُ بالقِصاصِ، وتهالك الناس في قتل من يريدون قتله في دورهم، ويدعونَ أنهم كانُوا يَرَونَهُم على حريمهم، فسد الذرِيعَةَ، وحمَى المفسدَة، وصان الدماء، وفي ذلك دليل على أنه لا يُقبل قولُ القاتل ويُقاد به في ظاهر الشرع) ([39])

وبهذا نفرق بين الحكم الأخروي الذي هو ارتفاع الإثم عن فاعل ذلك حرصا على عرضه، وبين الحقوق الدنيوية التي تقتضيها المصالح الشرعية، ولو تأملنا ما ورد عن الصحابة مما سقناه لكلا القولين وجدناه يدل على هذا، ولهذا نفى ابن القيم وجود الخلاف بين الصحابة فقال: (ولكن ها هنا مسألتان يجب التفريقُ بـينهما. إحداهما: هل يسعه فيما بـينه وبـين الله تعالى أن يقتُلَه. أم لا؟ والثانية: هل يُقبل قوله في ظاهر الحكم أم لا؟ وبهذا التفريق يزولُ الإشكالُ فيما نُقلَ عن الصحابة م في ذلك) ([40])

ثم بين وجه الجمع بين الروايات الواردة في ذلك، فقال: (وأنتَ إذا تأملتَ حُكميهما، لم تَجِد بـينهما اختلافاً، فإن عمر إنما أسقط عنه القودَ لما اعترف الوليُّ بأنه كان مع امرأته، وقد قال أصحابنا واللفظ لصاحب (المغني): فإن اعترفَ الوليُّ بذلك، فلا قِصاصَ ولا دِية، لما رُوي عن عمر، ثم ساق القِصة، وكلامه يُعطي أنه لا فرق بـين أن يكون محصناً وغيرَ محصن، وكذلك حكمُ عمر في هذا القتيل، وقولُه أيضاً: فإن عادوا فعد ولم يفرق بـين المحصَن وغيره، وهذا هو الصوابُ) ([41])

أما البينة التي ترفع القصاص عن القاتل، فالأرجح أنها كسائر البينات خلافا لمن اشترط أربعة شهود، لأن البينة هنا ليست على الزنى، قال ابن القيم:(والصحيح أن البـينة متى قامت بذلك، أو أقر به الوليُّ، سقط القصاص محصناً كان أو غيره، وعليه يدل كلام علي، فإنه قال فيمن وجد مع امرأته رجلاً فقتله: إن لم يأت بأربعة شهداء فليُعطَ بِرُمتِهِ وهذا لأن هذا القتل ليس بحد الزنى، ولو كان حداً لما كان بالسيف ولاعتُبِرَ له شروطُ إقامة الحد وكيفيته، وإنما هو عقوبةٌ لمن تعدى عليه، وهتك حريمَه، وأفسد أهلَه) ([42])

ثالثا ـ شروط صحة اللعان

يشترط لصحة اللعان الشروط التالية مع اختلاف بين الفقهاء في تفاصيلها:

1 ـ توفر القرائن الكافية الدالة على ثبوت الزنى

اختلف الفقهاء في القرائن التي تدررؤ حد القذف عن الزوج، وتصح بموجبها الملاعنة على قولين:

القول الأول: إن الملاعنة لاتجب إلا بقرينيتين هما ادعاء الرؤية، أو نفي الحمل مع دعوى الاستبراء، وقد روي عن مالك، فقد كان يقول: لايلاعن إلا أن يقول رأيتك تزني أو ينفي حملا أو ولدا منها، وهو قول أبي الزناد ويحيى بن سعيد والبتي، وهو المشهور عند مالك وقاله ابن القاسم، ومن الأدلة على ذلك:

1 ـ عن ابن عباس في حديث هلال بن أمية، قال: يارسول الله إني جئت أهلي عشاء فوجدت عندهم رجلا، فرأيت بعيني، وسمعت بأذني، وذكر الحديث وهو نص على أن الملاعنة التي قضى فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنما كانت في الرؤية، فلا يجب أن يتعدى ذلك.

2 ـ أن من قذف امرأته ولم يذكر رؤية حد لعموم قوله تعالى: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ}(النور:4)

القول الثاني: إن الملاعنة تصح مع القذف بغض النظر عن القرينة، وهو قول الجمهور، ومن الأدلة على ذلك:

1 ـ عموم قوله تعالى:{ { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنفُسُهُمْ } (النور: 6)، قال ابن العربي: وظاهر القرآن يكفي لإيجاب اللعان بمجرد القذف دون رؤية فلتعولوا عليه.

2 ـ ما ورد في الحديث من قول الرجل: أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاذهب فأت بها، ولم يكلفه ذكر الرؤية.

3 ـ أن العلماء أجمعوا أن الأعمى يلاعن إذا قذف امرأته ولو كانت الرؤية من شرط اللعان ما لاعن الأعمى.

ومن القرائن التي ذكرها الفقهاء، واعتبروها:

1 ـ إخبار الثقة: اتفق الفقهاء على أنه لا يجوز قذفها بخبر من لا يوثق بخبره ؛ لأنه غير مأمون على الكذب عليها.

2 ـ مشاهدة رجل خارج من عندها مع استفاضة زناها ؛ أما إذا لم يستفض، فلا يصح قذفها، فقد يكون دخل سارقا، أو هاربا، أو لحاجة، أو لغرض فاسد، فلم يمكنه.

3 ـ قذف الناس لها واستفاضة ذلك مع القرينة التي تدل على صدقهم ؛ بخلاف عدم توفر القرينة، لاحتمال أن يكون أعداؤها أشاعوا ذلك.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو عدم صحة اللعان إلا بما يدل دلالة أكيدة على وقوعها في الفاحشة، وما ذكره أصحاب القول الثاني من القرائن قد لا يكون كافيا في كل حالة، فكون الشخص ثقة مثلا لا يكفي لاتهامها بالفاحشة، فقد يكون متهما، زيادة على أن العدالة أمر اعتباري، فقد يكون عدلا وثقة في موضع ومتهما ومجروحا في موضع آخر.

واستفاضة زناها أيضا غير كافية، فما أسهل أن تنتشر الإشاعات في مجتمعاتنا كما تنتشر النار في الهشيم، وما أسهل على من يريد أن يفرق بينها وبين زوجها، ويتهمها في عرضها أن يدخل إلى بيتها بأي طريق من الطرق، ثم يخرج منه، بعد أن ينشر الإشاعات المغرضة حولها.

قال ابن العربي في بيان علة تشدد مالك في المسألة:(ووجه القول باشتراط الرؤية الزجر عن دعواها حتى إذا رهب ذكرها وخاف من تحقيق ما لم يتيقن عيانه كف عن اللعان ؛ فوقعت السترة، وتخلص منها بالطلاق إن شاء ؛ ولذلك شرطنا على إحدى الروايتين كيفية الرؤية، كما يذكرها الشهود تغليظا، وظاهر القرآن يكفي لإيجاب اللعان بمجرد القذف من غير رؤية) ([43])

انطلاقا من هذا، فإن الطريق لإثبات الفاحشة هو ما شرعه الله تعالى في إثبات الزنا من غير الزوجة، لأن الفرق بين زنا الزوجة وغيرها هو في الاكتفاء من الزوجة بشاهد واحد هو الزوج، للضرورة الداعية لذلك، بخلاف غيرها، فيحتاج إلى أربعة شهود.

2 ـ الشك في الولد

اتفق الفقهاء على أنه لا يحل للزوج قذف زوجته ولا لعانها إذا أتت بولد، فشك فيه من غير معرفته لزناها، وكذلك إن عرف زناها، ولم يعلم أن الولد من الزاني، ولا يوجد دليل عليه، فليس له نفيه ؛ لأن الولد للفراش وللعاهر الحجر.

ومن الصور التي ذكرها الفقهاء للشك، مع اختلافهم في اعتبار الشك في بعضها أو عدم اعتباره:

مخالفة الولد لون والديه أو شبههما:

اختلف الفقهاء في صحة القذف في حال نفي الزوج لولده بذلك على قولين:

القول الأول: عدم صحة القذف في هذه الحالة، فلا يجوز له قذفها ولا نفي ولده، وهو قول جمهور العلماء، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ عن أبي هريرة قال: جاء رجل من بني فزارة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إن امرأتي جاءت بولد أسود، وهو يعرض بنفيه، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: هل لك من إبل؟ قال: نعم. قال: فما ألوانها؟. قال: حمر. قال: هل فيها من أورق؟. قال: إن فيها أورق. قال: فأنى أتاها ذلك؟ قال: عسى أن يكون نزعه عرق. قال: فهذا عسى أن يكون نزعه عرق([44])، ولم يرخص له في الانتفاء منه.

2 ـ أنه لما تنازع سعد بن أبي وقاص، وعبد بن زمعة، في ابن وليدة زمعة، ورأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيه شبها بينا بعتبة، ألحق الولد بالفراش، وترك الشبه.

3 ـ أن الناس كلهم من آدم وحواء، وألوانهم وخلقهم مختلفة، فلولا مخالفتهم شبه والديهم، لكانوا على خلقة واحدة.

4 ـ أن دلالة الشبه ضعيفة، ودلالة ولادته على الفراش قوية، فلا يجوز ترك القوي لمعارضة الضعيف.

القول الثاني: جواز قذف زوجته ونفي ولده، وهو ظاهر كلام أحمد، والوجه الثاني لأصحاب الشافعي، واستدلوا على ذلك يقوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث اللعان: (إن جاءت به أورق جعدا جماليا خدلج الساقين سابغ الأليتين، فهو للذي رميت به) ([45])، فأتت به على النعت المكروه، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:(لولا الأيمان، لكان لي ولها شأن)، فجعل الشبه دليلا على نفيه عنه.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الأول في الحالة العادية، أما إن ارتبط بهذا الشك القرائن الدالة على ثبوت زناها، فإن للقول الثاني قيمته الشرعية، فيمكن عرض هذا على مختصين للتعرف على حقيقة نسبته لوالده، أو نسبته للمتهم به، والعلم قد توصل في هذا المجال إلى مراتب اليقين بحيث يصح الاعتماد عليه في ذلك، والحديث الذي أورده أصحاب القول الثاني يدل على هذا.

أما إن لم يتوصل العلم إلى الجزم بذلك، فإن نسبته تظل ثابتة للفراش الذي ولد فيه، ولا يصح نفيه بالقافة وغيرها لعدم يقينية أحكامها.

ولادة المرأة التي يستعمل زوجها وسائل منع الحمل:

نص الفقهاء على أن الزوج إن كان يعزل عن امرأته، أو يستعمل أي وسيلة من وسائل منع الحمل فأتت بولد، لم يبح له نفيه، ومن الأدلة على ذلك:

1 ـ عن أبي سعيد أنه قال: يا رسول الله، إنا نصيب من النساء، ونحب الأثمان، أفنعزل عنهن؟ قال: (إن الله إذا قضى خلق نسمة خلقها)

2 ـ أنه قد يسبق من الماء ما لا يحس به فتعلق، وقد أثبت العلم الحديث هذا، فلا توجد وسيلة من وسائل منع الحمل يوثق بها وثوقا تاما.

رابعا ـ آثار اللعان

من الآثار التي ذكرها الفقهاء للعان:

1 ـ ارتفاع العقوبة الشرعية للقذف والزنا

اتفق الفقهاء على أن من آثار اللعان ومقاصده التي شرع من أجلها سقوط الحد عن القاذف، فإذا قذف امرأته بالزنا برجل بعينه، فقد قذفهما، وإذا لاعنها سقط الحد عنه لهما، سواء ذكر الرجل في لعانه أو لم يذكره، وتتعلق بهذا الأثر المسائل التالية:

تكرر القذف:

نص الفقهاء([46]) على أنه إن قذف زوجته أوغيرها مرات، فعليه حد واحد سواء قذفها بزنا آخر، أو كرر القذف بالأول، ولو قذفها فحد لها، ثم قذفها مرة أخرى بذلك الزنا، فقد اختلف الفقهاء في ذلك، هل يجب عليه حد واحد أم حدان على قولين:

القول الأول: لا حد عليه، ولكنه يعزر تعزير السب والشتم، وهو رواية عند الحنابلة وقول عند الشافعية، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ لما جلد عمر أبا بكرة حين شهد على المغيرة بن شعبة، أعاد قذفه، فهم عمر بإعادة الحد عليه، فقال له علي: إن جلدته فارجم صاحبه، فتركه.

2 ـ أنهما حدان ترادف سببهما، فتداخلا، كالزنا مرارا.

3 ـ أنه قد تحقق كذبه فيه بالحد، فلا حاجة إلى إظهار كذبه فيه ثانيا.

القول الثاني: أن عليه الحد ثانيا، وهو مثل القول الأول قول عند الشافعية، ورواية عن الحنابلة، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ أنه قذف ثان بعد إقامة الحد عليه، فأشبه ما لو قذفه بزنا ثان.

2 ـ أنه قذف لمحصن لم يحد فيه، فوجب أن يتعقبه الحد كالأول.

3 ـ أن سبب الحد وجد بعد إقامته، فأعيد عليه، كالزنا والسرقة.

ومثل هذه المسألة ما لو قذف أجنبية، ثم تزوجها، ثم قذفها، فقد اختلف الفقهاء في كيفية إقامة الحد عليه على قولين:

القول الأول: أن عليه الحد للقذف الأول، ولا شيء عليه للثاني، وهو قول الزهري، والثوري، والحنفية، واستدلوا على ذلك بأنه لو قذف أجنبية قذفين، لم يجب عليه أكثر من حد واحد.

القول الثاني: أن عليه حدان لكل قذف، فإن طالبت المرأة بموجب القذف الأول، فأقام به بينة، سقط عنه حده، ولم يجب في الثاني حد ؛ لأنها غير محصنة، وإن لم يقم بينة، حد لها، ومتى طالبته بموجب الثاني، فأقام به بينة، أو لاعنها، سقط، وإلا وجب عليه الحد أيضا، فإن بدأت بالمطالبة بموجب الثاني، فأقام بينة به، أو لاعن، سقط حده، ولها المطالبة بموجب الأول، فإن أقام به بينة، وإلا حد([47])، وهو قول الشافعي ورواية عند الحنابلة.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألتين هو أن الشرع شرع الحد للقذف مطلقا، بغض النظر عن ذلك القذف هل حد عليه من قبل أم لا، حتى لا يكون الحد الأول تحصينا له من سائر الحدود، بل إقامة الحد على القاذف لا يلغي حق المقذوف في عقوبة من قذفه.

تعدد المقذوف:

ومثاله ما لو قال لزوجته: يا زانية بنت الزانية. فقد قذفها، وقذف أمها بكلمتين، فإن لكليهما الحق في المطالبة بحد القذف، وله الحق في اللعان مع زوجته والبينة مع أمها، وقد اختلف الفقهاء في أيتهما يقدم، فقيل: نقدم الأم ؛ لأن حقها آكد، ولكونه لا يسقط إلا بالبينة، وقيل: تقدم البنت ؛ لأنه بدأ بقذفها، وهل يقدم حد المقذوف أولا فيه وجهان أحدهما نعم كما لو قتل شخصين، والثاني لا كما لو أتلف مال شخصين.

فإن لم يلاعن ولم يأت بالبينة حد حدان حد للأم، ثم ينتظر حتى يبرأ جلده من حد الأولى، ثم يحد للثانية.

قذف الأجنبي للملاعنة:

اتفق الفقهاء على أنه لو قذف المرأة الملاعنة أجنبي، بما لاعنت عليه، أو بزنا غيره، فعليه الحد([48])، واستثنى من ذلك الحنفية أنه إن لم ينف بلعانها ولدا، حد قاذفها، وإن نفاه، فلا حد على قاذفها ؛ لأنه منتف عن زوجها بالشرع، ولكن الأدلة الصريحة تخالفه، ومنها:

1 ـ قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من رماها، أو ولدها، فعليه الحد)([49])

2 ـ أنه لم يثبت زناها، ولا زال إحصانها، فيلزم قاذفها الحد بقوله تعالى: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ}(النور:4)

ولوقذف زوجته ولاعنها، ثم قذفها بزنا آخر، فعليه الحد ؛ لأنها بانت منه باللعان، وصارت أجنبية، إلا أن يضيف الزنا إلى حال الزوجية، فعند ذلك إن كان ثم نسب يريد نفيه، فله الملاعنة لنفيه، وإلا لزمه الحد، ولا لعان بينهما.

قذف الملاعن لأجنبي:

نص الفقهاء على أنه لو قذف أجنبـية بالزنى برجل سماه، فقال: زنى بكِ فلان، فإنه يجب عليه حدان، لأنه قاذف لكل واحد منهما، ولم يأتِ بما يُسقط موجبَ قذفه، فوجب عليه حكمه، إذ ليس هنا بـينة بالنسبة إلى أحدهما، ولا ما يقومُ مقامَها، واختلفوا في الملاعن إذا سمى من يتهمه بالفجور مع زوجته، هل يحد بقذفه كما يحد من ذكرنا أم لا على قولين كلاهما وجهان عند الحنابلة:

القول الأول: لا يحد بقذفه، ومن الأدلة على ذلك:

1 ـ أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يحد الزوج بشريك بن سحماء، وقد سماه صريحاً، أما قول من قال بأنه يهودي كما ذهب إليه أصحاب القول الثاني، فباطل، فإنه شريك بن عبدة وأمه سحماء، وهو حليفُ الأنصار، وهو أخو البراء بن مالك لأمه. قال ابن القيم نقلا عن بعض العلماء: اختلفَ أهلُ العلم في شريك بن سحماء المقذوف، فقيل: إنه كان يهودياً وهو باطل، والصحيح: أنه شريك بن عبدة حليف الأنصار، وهو أخو البراء بن مالك لأمه([50])، أما عدم مطالبته بالحد، فإنه لما استقر عنده أنه لا حق له في هذا القذف، لم يطالِب به، ولم يتعرض له، وإلا كيف يسكت عن براءة عرضه، وله طريق إلى إظهارها بحد قاذفه، والقوم كانُوا أشد حميةً وأنَفَةً مِن ذلك.

2 ـ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال للزوج: (البَـينَةُ وَإِلا حدٌّ في ظَهرِكَ) ([51])، ولم يقل: وإلا حَدانِ.

3 ـ أن اللعان أقيمَ مقام البـينة للحاجة، وجعل بدلاً مِن الشهود الأربعة، ولهذا كان الصحيح أنه يُوجِبُ الحد عليها إذا نكلت، فإذا كان بمنزلة الشهادة في أحد الطرفين كان بمنزلتها في الطرف الآخر، ومِن المحال أن تحد المرأة باللعان إذا نَكَلَت، ثم يُحد القاذف حد القذف وقد أقام البـينة على صدق قوله، ومثل ذلك ما لو اعتبر يميناً فإنها كما درأت عنه الحد مِن طرف الزوجة، درأت عنه مِن طرف المقذوف.

4 ـ أن به حاجة إلى قذف من أفسد عليه مِن فراشه، وربما يحتاجُ إلى ذِكره ليستدل بشبه الولد له على صدق قاذفه، كما استدل النبـيُّ صلى الله عليه وآله وسلم على صِدق هلال بشبه الولد بشريك بن سحماء، فوجب أن يسقط حكم قذفه ما أسقط حكم قذفها.

القول الثاني: يحد بقذفه، ومن الأدلة على ذلك:

1 ـ أن المقذوفَ كان يهودياً، ولا يجب الحدُّ بقذف الكافر.

2 ـ أنه لم يُطالب به، وحدُّ القذف إنما يُقام بعد المطالبة.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الأول، لا من باب الجواز والرخصة، بل من باب الوجوب من جهتين:

1 ـ أن ذلك قد يساعد القاضي على التحري في المسألة، والتأكد من حقيقة الأمر قبل إجراء الملاعنة، فقد يعترف المقذوف([52])، وقد يبين حقيقة ما حصل مما ينفي التهمة عن المرأة، وينفي الشبهة عن الزوج.

2 ـ أنه في حال صدقه يكون قد رمى فاسقا وحذر منه، ولا شك في وجوب التحذير من الفساق خاصة ممن يقتحمون بيوت الناس، وقد يلبسون لذلك من المسوح ما ينفي عنهم التهمة، فكان في ذكره خدمة للمجتمع كما كان في ذكره للقاضي خدمة للبحث عن الحقيقة.

2 ـ التفريق بين المتلاعنين

ويتعلق بهذا الأثر المسائل التالية:

حكم التفريق بين المتلاعنين:

اتفق الفقهاء على أن الفرقة تحصل بين المتلاعنين، واختلفوا في وقت ذلك على الأقوال التالية:

القول الأول: أن الفرقةَ تحصلُ بمجرد القذفِ، وهو قولُ أبـي عبـيد، وقد انفرد به.

القول الثاني: لا يقع باللعان الفرقة مطلقا، وهو قول جابر بن زيد، وعثمان البَتي، ومحمد بن أبـي صُفرة، وطائفة من فُقهاء البصرة.

 ومن الأدلة على ذلك أن النبـي صلى الله عليه وآله وسلم لم يُنكِر عليه الطلاقَ بعد اللعان، بل هو أنشأ طلاقَها، ونزه نفسه أن يُمسِكَ من قد اعترف بأنها زنت، أو أن يقومَ عليه دليل كذب بإمساكها، فجعل النبـيُّ صلى الله عليه وآله وسلم فِعلَه سنة.

القول الثالث: اللعانُ يُوجِبُ الفرقة الدائمة بين المتلاعنين، وهو قول جماهير العلماء، وقد اختلفوا في بعض الفروع، منها: هل تقع الفرقة بمجرد لعان الزوج وحدَه، وإن لم تلتعِن المرأة، أو أنها أنها لا تحصُل إلا بلعانهما جميعاً، فإذا تَم لِعانهما، وقعت الفرقةُ، ولا يُعتبر تفريقُ الحاكم، أو أن الفرقةَ لا تحصلُ إلا بتمام لعانهما، وتفريق الحاكم، وسنتعرض لهذه الخلافات في هذا المبحث في محالها المختلفة.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الثالث، لما سنراه من أدلة نصية، زيادة على أن المصلحة الشرعية لكلا الزوجين ترتبط بذلك، فإنه تستحيل المعاشرة بينهما بعد حصول اللعان، كما سنفصله عند بيان الحكمة من التفريق بين المتلاعنين.

حكم الزواج بالملاعنة بعد تكذيب الملاعن نفسه:

اتفق الفقهاء القائلون بالتفريق باللعان على أن الحرمة بين المتلاعنين حرمة مؤبدة إلا إذا عاد وكذب نفسه، قال ابن قدامة:(لا خلاف بين أهل العلم في أنه إذا لم يكذب نفسه لا تحل له، إلا أن يكون قولا شاذا) ([53])، وقد اختلف الفقهاء بعد تكذيبه لنفسه، هل تحل له أم لا على قولين:

القول الأول: أنها تحل له إذا عاد وكذب نفسه، فإذا كذب نفسه أقيم عليه حد القذف، وحلَّت له بعد ذلك فيجوز له أن يعقد عليها عقداً جديداً، وهو قول الحنفية ورواية شاذة عن أحمد([54])، وعن سعيد بن المسيب أنه قال: إن أكذب نفسه، فهو خاطب من الخطاب، وقال سعيد بن جبير: إن أكذب نفسه، ردت إليه ما دامت في العدة.

ومن أدلتهم على ذلك انتفاء العلة التي من أجلها حصل التفريق، لأنه إذا كذب نفسه فقد بطل حكم اللعان، فكما يلحق به الولد كذلك ترد المرأة عليه، لأن السبب الموجب للتحريم هو الجهل بتعيين صدق أحدهما مع القطع بأن أحدهما كاذب فإذا انكشف ارتفع التحريم.

القول الثاني: أن حرمتها مؤبدة مع ذلك فلا تحل له أبدا كذب نفسه أو لم يكذب، وهو قول المالكية والشافعية والحنابلة، ومن أدلتهم على ذلك:

1 ـ عن سهل بن سعد، قال: مضت السنة في المتلاعنين أن يفرق بينهما، ثم لا يجتمعان أبدا.

2 ـ أنه تحريم لا يرتفع قبل الحد والتكذيب، فلم يرتفع بهما، كتحريم الرضاع.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الأول لانتفاء علة التحريم، بل نرى أن هذا من علامة صدق توبته فيما رماها به، وذلك للمصالح الشرعية التالية:

1 ـ نفي التهمة عن المرأة التي لوعنت، لأن العامة عادة لا يصدقون تكذيبه لنفسه كلاما بقدر ما يصدقونه إن عاد وتزوجها، ولعل في الطريقة التي حرمت بها الشريعة التبني، من عدم الاقتصار على التحريم النصي، بل تأييده بفعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دلالة على هذا، لأن ما يستقر في نفوس العامة يصعب قلعه بغير الإجراءات العملية.

2 ـ أن المرأة المتهمة في عرضها لا يرغب عادة في الزواج بها، فبذلك تبقى هذه المرأة رهينة بيتها محرومة من الزواج بسبب هذا الزوج الذي كذب عليها، ثم كذب نفسه، ليتركها تعاني جريرة صنعه، فلذلك كان زواجه منها تكفيرا عن بعض سيئاته التي جناها عليها.

3 ـ أن هذا الرجل قد تكون له رغبة شديدة في هذه الزوجة، بحيث لم يستطع فراقها، فإذا عاد إليها بالطريق الشرعي، لا يصح أن يحرم من الزواج منها مع أن النصوص تجعل المحرمات حرمة مؤبدة محصورات في عدد محدود، وما عداهن داخل في عموم قوله تعالى:{ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ}(النساء:24)

نوع التفريق:

اختلف الفقهاء في اعتبار الفرقة فسخا أو طلاقا على قولين:

القول الأول: أن فرقة اللعان فسخ، وهو قول الجمهور، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ أنها فرقة توجب تحريما مؤبدا، فكانت فسخا، كفرقة الرضاع.

2 ـ أن اللعان ليس بصريح في الطلاق، ولا نوى به الطلاق، فلم يكن طلاقا كسائر ما ينفسخ به النكاح.

3 ـ أنه لو كان اللعان صريحاً في الطلاق، أو كناية فيه، لوقع بمجرد لعان الزوج، ولم يتوقف على لِعان المرأة.

4 ـ أنه لو كان طلاقاً، فهو طلاق من مدخول بها بغير عوض لم ينو به الثلاث، فكان يكون رجعياً.

5 ـ أن الطلاقَ بـيد الزوج، إن شاء طلقَ، وإن شاء أمسكَ، وهذا الفسخُ حاصِل بالشرع وبغير اختياره.

6 ـ أنه إذا ثبت بالسنة وأقوال الصحابة، ودلالةِ القرآن، أن فرقة الخُلع ليست بطلاقٍ، بل هي فسخ مع كونها بتراضيهما، فكيف تكونُ فرقةُ اللعان طلاقاً؟

القول الثاني: هي طلاق، وهو قول الحنفية، فقد نصوا على أن الفرقة تطليقة بائنة عند أبي حنيفة ومحمد([55]) ؛ لأنها بتفريق القاضي، ولها النفقة والسكنى في عدتها، ويثبت نسب ولدها إلى سنتين إن كان معتدة، وإن لم تكن معتدة فإلى ستة أشهر.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو اعتبارها فسخا لاحتمال أن يكذب نفسه، فتعود إليه من غير أن يكون قد حصل بينهما طلاق، زيادة على أن الطلاق لم يحصل من الزوج، كما ذكرنا ذلك في كل المسائل المشابهة التي اختلف الفقهاء في كونها فسخا أم طلاقا.

من يتولى التفريق:

اختلف الفقهاء فيمن يتولى التفريق بين المتلاعنين على قولين:

القول الأول: لا تحصل الفرقة بين المتلاعنين حتى يفرق الحاكم بينهما، وهو قول الحنفية ورواية عند الحنابلة، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ قول ابن عباس في حديثه: (ففرق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بينهما)، وهو يقتضي أن الفرقة لم تحصل قبله.

2 ـ حديث عويمر، قال: كذبت عليها يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن أمسكتها، فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو يقتضي إمكان إمساكها، وأنه وقع طلاقه، ولو كانت الفرقة وقعت قبل ذلك، لما وقع طلاقه، ولا أمكنه إمساكها.

3 ـ أن سبب هذه الفرقة يقف على الحاكم، فالفرقة المتعلقة به لم تقع إلا بحكم الحاكم، كفرقة العنة.

القول الثاني: تحصل الفرقة بمجرد لعانهما، وهو قول مالك([56])، وأبي عبيد، وأبي ثور، وداود، وزفر، وابن المنذر،ورواية عند الحنابلة، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:(لا سبيل لك عليها) يدل على ذلك، أما تفريقه بينهما، فهو بمعنى إعلامه لهما بحصول الفرقة.

2 ـ ما روي عن عمر أنه قال: المتلاعنان يفرق بينهما، ولا يجتمعان أبدا.

3 ـ أنه معنى يقتضي التحريم المؤبد، فلم يقف على حكم الحاكم، كالرضاع.

4 ـ أن الفرقة لو لم تحصل إلا بتفريق الحاكم، لساغ ترك التفريق إذا كرهاه، كالتفريق للعيب والإعسار، ولوجب، أن يبقى النكاح مستمرا إذا لم يفرق الحاكم بينهما.

5 ـ إن الفرقة بنفس اللعان أقوى مِن الفرقةِ بتفرق الحاكم، لأن فُرقة اللعان تستنِدُ إلى حكم الله ورسوله، سواءٌ رضي الحاكمُ والمتلاعِنانِ التفريقَ أو أَبَوهُ، فهي فُرقة من الشارع بغير رضى أحدٍ منهم ولا اختياره، بخلافِ فُرقة الحاكم، فإنه إنما يفرق باختياره.

6 ـ أن اللعان يكون قد اقتضى بنفسه التفريق لقوته وسلطانه عليه، بخلاف ما إذا توقف على تفريق الحاكم، فإنه لم يقو بنفسه على اقتضاء الفرقة، ولا كان له سلطانٌ عليها.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو أن الفرقة بين المتلاعنين تحصل بمجرد لعانهما دون احتياج لتفريق الحاكم، وإن كان شرطا في مجلس اللعان، لأن الصيغة التي جعلها الشارع للعان كافية للتفريق بينهما بدون حاجة لتطليق الحاكم أو تكليف الزوج بتطليقها.

الحكمة من التفريق بين المتلاعنين:

ذكر العلماء الحكم الشرعية من التفريق بين المتلاعنين، ومن أهم الحكم التي ذكروها ـ والتي لها اعتبارها الشرعي، وأمثلتها كثيرة في سائر الأحكام الشرعية ـ هو أن سبب الفرقة هي النفرة الحاصلة من إساءة كل واحد منهما إلى صاحبه، فإن الرجل إن كان صادقا، فقد أشاع فاحشتها، وفضحها على رؤوس الأشهاد، وحقق عليها اللعنة والغضب، وقطع نسب ولدها، وإن كان كاذبا، فقد أضاف إلى ذلك بهتها وقذفها بهذه الفرية العظيمة.

أما المرأة فإنها إن كانت صادقة، فقد أكذبته على رؤوس الأشهاد، وأوجبت عليه لعنة الله، وإن كانت كاذبة، فقد أفسدت فراشه، وخانته في نفسها، وألزمته العار والفضيحة، وأحوجته إلى هذا المقام المخزي.

ونتيجة لما حصل من إساءة كلاهما للآخر إساءة لا يكاد يلتئم لهما معها حال اقتضت حكمة الشارع لزوم الفرقة بينهما، وإزالة الصحبة المتمحضة مفسدة، لأنه إن كان كاذبا عليها، فلا ينبغي أن يسلط على إمساكها، مع ما صنع من القبيح إليها، وإن كان صادقا، فلا ينبغي أن يمسكها مع علمه بحالها.

وقد ذكرت حكم أخرى نرى أنها تدخل في الأحكام الغيبية أكثر من دخولها في الأحكام الشرعية، ومن ذلك أن الفرقة إنما حصلت باللعان ؛ لأن لعنة الله وغضبه قد وقع بأحدهما لتلاعنهما، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال عند الخامسة:(إنها الموجبة)، أي إنها توجب لعنة الله وغضبه، ولا نعلم من هو منهما يقينا، ففرق الشرع بينهما خشية أن يكون هو الملعون، فيكون شريكا لامرأة غير ملعونة، وهو لا يجوز كما لا يجوز أن يكون شريك المسلمة كافر، أو أن الموجب للفرقة وقوع اللعنة والغضب بأحدهما من غير تعيين، فيفضي إلى زواج ملعون لغير ملعونة، أو إلى إمساكه لملعونة مغضوب عليها.

ولا يمكن الجزم بهذا التعليل لوجوه كثيرة أهمها أنه لو صح هذا التعليل لحرم الشرع على المتلاعنين الزواج مطلقا، لأنه لا تخلو اللعنة من ثبوتها على أحدهما، فيكون شريكا لغيره([57])، ثم إن اللعنة مع ذلك ليست حكما مستقرا ثابتا كما لعن الشيطان الرجيم، بل قد ترتفع عن صاحبها بالتوبة، فالتوبة النصوح ترفع كل أثر من آثار المعصية سواء كان عقوبة أو لعنة أو غيرها.

3 ـ انقطاعُ نسب الولد من جهة الأب

اتفق الفقهاء على أن الزوجة إذا ولدت ولدا يمكن كونه منه، فهو ولده في الحكم لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (الولد للفراش). ولا ينتفي عنه إلا أن ينفيه باللعان التام، الذي اجتمعت شروطه والتي سنفصلها في الفصول القادمة، ويضاف إليها فيما يتعلق بنفي الولد الشروط التالية:

أن يذكر نفي نسب الولد إليه حال الملاعنة:

وقد اختلف الفقهاء في اعتبار هذا الشرط على قولين:

القول الأول: اعتبار هذا الشرط، فإذا لم يذكر، لم ينتف، إلا أن يعيد اللعان ويذكر نفيه، وعلى هذا، لا بد من ذكر الولد في كل لفظة، ومع اللعن في الخامسة ؛ لأنها من لفظات اللعان، وهو قول الشافعية ورواية عند الحنابلة، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ أن من سقط حقه باللعان، كان ذكره شرطا، كالمرأة.

2 ـ أن غاية ما في اللعان أن يثبت زناها، وذلك لا يوجب نفي الولد، كما لو أقرت به، أو قامت به بينة.

3 ـ أن حديث سهل بن سعد، ورد فيه:(وكانت حاملا، فأنكر حملها) ([58])

4 ـ عن ابن عمر أن رجلا لاعن امرأته في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وانتفى من ولدها، ففرق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بينهما، وألحق الولد بالمرأة([59])، والزيادة من الثقة مقبولة.

القول الثاني: عدم اعتبار هذا الشرط، ولا يحتاج إلى ذكر الولد ونفيه، لأنه ينتفي بزوال الفراش، وهو رواية عند الحنابلة، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ أن حديث سهل بن سعد الذي وصف فيه اللعان، لم يذكر فيه الولد، وقال فيه: ففرق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بينهما، وقضى أن لا يدعى ولدها لأب، ولا يرمى ولدها.

2 ـ أن رجلا لاعن امرأته على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ففرق النبي صلى الله عليه وآله وسلم بينهما، وألحق الولد بأمه([60]).

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الأول بناء على الأدلة الصحيحة الواردة فيه، أما الأحاديث التي استدل بها أصحاب القول الثاني، فهي مطلقة فتحمل على التقييد الوارد في أحاديث أصحاب القول الأول، وقد أجاب ابن حجر على الحديث الثاني من أدلة القول الثاني على اعتبارهم الفاء سببية أي الملاعنة سبب الانتفاء بقوله:(فإن أراد أن الملاعنة سبب ثبوت الانتفاء فجيد، وإن أراد أن الملاعنة سبب وجود الانتفاء فليس كذلك، فإنه أن لم يتعرض لنفي الولد في الملاعنة لم ينتف، والحديث في الموطأ بلفظ وانتفى بالواو لا بالفاء) ([61])

زيادة على أن رمي الزوجة بالزنى لا يدل على انتفاء ولده منها، لأنه خلاف الأصل، فالأصل أن الولد للفراش، فلذلك لا يصح الخروج عن الأصل إلا بدليل، وهو التصريح بنفي ولده.

بل نرى مع ذلك ـ والله أعلم ـ أن هذا التصريح يفيد في حال الشك في كون ابن اللعان من الزوج أو من الزاني، أما في حال توفر الوسائل الكفيلة بإزالة الشك، فإنه لا يصح اللعان بنفي الولد، إن ثبت نسبه من أبيه، ويبقى اللعان لدرء الحد، فالحد يدرأ باللعان، سواء حد القذف أم حد الرجم، أما النسب، فيمكن إثباته بالوسائل الكفيلة بذلك.

ونرى أن في قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(لولا الأيمان) دليل على ذلك، فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث لم يعمل الشبه في نسبة ابن اللعان لأبيه لسببين:

1 ـ أن الشبه وحده ليس دليلا كافيا، بل هو محتمل، فلذلك لم يلحقه بناء على هذا الاحتمال الذي قد يتخلف، وإن صدق مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو رسول الله، قد لا يصدق مع غيره، والرسول صلى الله عليه وآله وسلم مشرع لأمته، فلذلك لم يبن هذا الحكم على علمه، خشية الاقتداء به في ذلك.

2 ـ أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبر عن هذا بعد حصول اللعان، فلذلك لو أن التحري الدقيق بالوسائل الحديثة أدت إلى التعرف على نسبة الابن قبل اللعان، صح ذلك، وكان فيه إثبات نسب قبل اللعان.

زيادة على أن نفي الأب لابنه قد يكون لغلبة شكه، فلذلك إن أزيل هذا الشك بما ينفيه نفيا جازما لم يستطع أن يتبرأ منه، بل قد يكون ذلك سببا لترك اللعان مطلقا، وعودة الزوج لزوجته، أو الاكتفاء بتطليقها، وهو من المقاصد الشرعية في اللعان كما سنرى في محله.

وقد تعرض ابن القيم لهذا التجاذب بين اللعان الذي يقتضي نفي النسب، وبين الشبه الذي يقتضي إثباته، فقال:(فإن قيل: فالنبـيُّ صلى الله عليه وآله وسلم قد حكم بعدَ اللعان، ونفى الولد بأنه إن جاء يُشبِهُ الزوجَ صاحبَ الفراش فهو له، وإن جاء يُشبه الذي رميت به، فهو له، فما قولُكم في مثل هَذه الواقعة إذا لاعن امرأته وانتفى من ولدها، ثم جاء الولدُ يُشبهه، هل تُلحِقُونه به بالشبه عملاً بالقافة، أو تحكمون بانقطاع نسبه منه عملاً بموجب لعانه؟)([62])

وأجاب بما يبين حقيقة هذا التعارض، وأن كل الاعتبارات فيه ممكنة، فقال جوابا عن الإشكال السابق:(هذا مجال ضَنكٌ، وموضع ضيق تجاذب أعِنتَه اللعانُ المقتضي لانقطاع النسب، وانتفاء الولد وأنه يُدعى لأمه ولا يدعى لأب، والشبه الدال على ثبوت نسبه من الزوج، وأنه ابنُه، مع شهادة النبـي صلى الله عليه وآله وسلم بأنها إن جاءت به على شبهه، فالولدُ له، وأنه كذب عليها، فهذا مضيق لا يتخَلصُ منه إلا المستبصرُ البصير بأدلة الشرع وأسراره، والخبـيرُ بجمعه وفرقهِ الذي سافرت به هِمتُه إلى مطلع الأحكام، والمشكاة التي منها ظهر الحلالُ والحرام) ([63])

ومرادنا من هذا أن المسألة محتملة لكلا الوجهين فلذلك لا حرج من اعتبار ما ذكرناه، فهو من الوجوه المحتملة، ولو أن ابن القيم رجح وجها آخر عبر عن بقوله:(والذي يظهر في هذا، والله المستعان وعليه التكلان، أن حكم اللعان قطع حكم الشبه، وصار معه بمنزلة أقوى الدليلين مع أضعفِهما، فلا عبرة للشبه بعد مضي حكم اللعان في تغيـير أحكامه، والنبـيُّ صلى الله عليه وآله وسلم لم يُخبِر عن شأن الولد وشبهه ليغير بذلك حكم اللعان، وإنما أخبر عنه، ليتبـين الصادقُ منهما من الكاذب الذي قد استوجبَ اللعنة والغضب، فهو إخبار عن أمر قدري كوني يتبـين به الصادقُ مِن الكاذب بعد تقرر الحكم الديني، وأن الله سبحانه سيجعل في الولد دليلاً على ذلك، ويدل عليه أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال ذلك بعد انتفائهِ من الولد، وقال: (إِن جَاءَت بِهِ كذا وكذا، فَلَا أُرَاهُ إِلا صَدَقَ عَلَيها، وَإِن جَاءَت بِهِ كَذَا وَكَذَا، فَلَا أُرَاهُ إِلا كَذَبَ عَلَيها)، فجاءت به على النعت المكروه، فعلم أنه صَدَقَ عليها، ولم يَعرِض لها، ولم يفسخ حكم اللعان، فيحكم عليها بحكم الزانية مع العلم بأنه صدق عليها) ([64])

وما ذكره ابن القيم من عدم انتفاء اللعان صحيح لأن من مقاصد اللعان درء الحد، فلذلك لا يفسخ اللعان، ولا يقام على الرجل أو المرأة الحد حتى لو ثبت صدق أحدهما، وإنما الذي ذكرناه هو أمر له علاقة بالنسب حرصا على إثباته لأهله لتشوف الشرع لإثبات الأنساب، وهو أمر تبعي للعان وأثر من آثاره، فلذلك يمكن تخلفه، بل يتحرى القاضي لإزالته، فهو أخطر آثار اللعان.

ولو أن ابن القيم اطلع على دقة الوسائل الحديثة في إثبات الأنساب لقال بما ذكرنا، فإن النصوص الشرعية جعلته محتملا لاحتمال الوسائل التي كانت موجودة حينذاك، فإذا زال الوهم عن الوسيلة وتحقق بها المقصود تحققا يقينيا، عاد الحكم إلى أصله، والأصل في هذا الباب عودة الأنساب إلى أصحابها.

أن لا يكذب الزوج نفسه بعد اللعان:

اتفق الفقهاء على أن الزوج الملاعن إن كذب نفسه بعد اللعان، وتبين له خطؤه، فإن ولده يلحق به، وقد اختلف في حقه في استلحاق الولد بعد موته على قولين:

القول الأول: يلحقه نسب الولد مطلقا، حيا كان الولد أو ميتا، غنيا كان أو فقيرا، وهو قول الشافعي، وأبي ثور والحنابلة، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ أن هذا ولد نفاه باللعان، فكان له استلحاقه، كما لو كان حيا، أو كان له ولد.

2 ـ أن النسب لا تمنع التهمة لحوقه، بدليل أنه لو كان له أخ يعاديه، فأقر بابن، لزمه، وسقط ميراث أخيه، ولو كان الابن حيا وهو غني، والأب فقير، فاستلحقه، فهو متهم في إيجاب نفقته على ابنه، ومع ذلك يقبل قوله، فكذلك هاهنا.

القول الثاني: يلحقه نسب الولد بقيود معينة، فقيده الثوري بقوله:(إذا استلحق الولد الميت نظرنا ؛ فإن كان ذا مال، لم يلحقه ؛ لأنه إنما يدعي مالا، وإن لم يكن ذا مال، لحقه)

وقيده الحنفية بأنه إن كان الولد الميت ترك ولدا، ثبت نسبه من المستلحق، وتبعه نسب ابنه، وإن لم يكن ترك ولدا، لم يصح استلحاقه، ولم يثبت نسبه، ولا يرث منه المدعي شيئا؛ لأن نسبه منقطع بالموت، فلم يصح استلحاقه.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو ثبوت النسب بالاستلحاق بشروط نعرفها في محلها من هذا الفصل.

أن لا تكون الزوجة مكرهة على الزنا:

ولو في طهر لم يمسها فيه، وقد اختلف الفقهاء في اعتبار هذا الشرط على قولين:

القول الأول: إن أكرهت زوجته على الزنا في طهر لم يصبها فيه، فأتت بولد يمكن أن يكون من الواطئ، فهو منه، وليس للزوج قذفها بالزنا، وهو قول الحنفية ورواية عند الحنابلة، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ أن هذا ليس بزنا منها.

2 ـ أن نفي الولد لا يكون إلا باللعان، ومن شرط اللعان القذف.

3 ـ أن اللعان لا يتم إلا بلعان المرأة، ولا يصح اللعان من المرأة هنا ؛ لأنها لا تكذب الزوج في إكراهها على ذلك.

القول الثاني: أن له نفيه باللعان، وهو قول الشافعي ورواية عند الحنابلة، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ أنه محتاج إلى نفيه، فشرع له اللعان طريقا إليه، كما لو طالبته.

2 ـ أن نفي النسب الباطل حق له، فلا يسقط برضاها به، كما لو طالبت باللعان ورضيت بالولد.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو التحري بالوسائل الدقيقة في حال الشك، كما ذكرنا سابقا، حتى لا ينسب الابن لغير أبيه، وحتى يزول ألم الشك عن الأب ببرد اليقين، لأن الأب الذي يشك في نسبة ابنه إليه لا يمكنه أن يتعامل معه معاملة أبوية محضة، فلذلك يحتاج لإزالة هذا الشك إما بإثباته له أو بإثباته لأبيه من الزنا.

أن تضع الحمل:

فلا يصح نفي الحمل قبل الوضع، وقد اختلف الفقهاء في اعتبار هذا الشرط على الأقوال التالية:

القول الأول: لا ينتفي الحمل بنفيه قبل الوضع، ولا ينتفي حتى يلاعنها بعد الوضع، فإن لاعنها وهي حامل، ثم أتت بالولد لزمه، ولم يتمكن من نفيه، وهو قول أبي حنيفة وقول عند الحنابلة، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ أن الحمل غير مستيقن، فيمكن أن يكون حملا وهميا، فيصير نفيه مشروطا بوجوده، ولا يجوز تعليق اللعان بشرط.

2 ـ ثبوت الولد له إن لاعنها حال الحمل بسبب أن اللعان لا يكون إلا بين الزوجين، وهي قد بانت منه بلعانها في حال حملها.

القول الثاني: يصح نفي الحمل، وينتفي عنه، وهو قول مالك، والشافعي، ومن الأدلة على ذلك:

1 ـ ما ورد في حديث هلال من أنه نفى حملها فنفاه عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وألحقه بالأول. ولا خفاء بأنه كان حملا، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (انظروها، فإن جاءت به كذا وكذا) ([65])

2 ـ الآثار الكثيرة الدالة على ذلك من السلف.

3 ـ أن عدم القول بذلك فيه إلزام الزوج ولدا ليس منه، وسد باب الانتفاء من أولاد الزنا، مع أن الله تعالى قد جعل له إلى ذلك طريقا، فلا يجوز سده.

4 ـ أن الحمل مظنون بأمارات تدل عليه، ولهذا ثبتت للحامل أحكام تخالف بها الحائل: من النفقة، والفطر في الصيام، وترك إقامة الحد عليها، وتأخير القصاص عنها وصحة استلحاق الحمل، فكان كالولد بعد وضعه.

القول الثالث: إن كانت المرأة الملاعنة حاملا فبتمام الالتعان منهما جميعا ينتفي عنه الحمل ذكره أو لم يذكره، إلا أن يقر به فيلحقه ولا حد عليه في قذفه لها مع إقراره بأن حملها منه إذا التعن، فلو صدقته هي فيما قذفها به، وفي أن الحمل ليس منه حدث، ولا ينتفي عنه ما ولدت، بل هو لاحق به، فإن لم يلاعنها حتى وضعت حملها فله أن يلاعنها لدرء الحد عن نفسه، وأما ما ولدت فلا ينتفي عنه بعد أصلا، وهو قول ابن حزم، وهو الموضع الوحيد لنفي الولد عنده([66]).

وقد استدل لذلك بقوله صلى الله عليه وآله وسلم:(الولد للفراش)، قال ابن حزم:(فصح أن كل من ولد على فراشه ولد فهو ولده إلا حيث نفاه الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، أو حيث يوقن بلا شك أنه ليس هو ولده، ولم ينفه صلى الله عليه وآله وسلم إلا وهي حامل باللعان فقط، فيبقى ما عدا ذلك على لحاق النسب)

ولهذا الاعتبار قال بأن الزوجة إن صدقته في أن الحمل ليس منه، فإن تصديقها له لا يلتفت إليه، بناء على تغليب اعتبار النسب، فهو حق متعد، ليس قاصرا على الأبوين، فلذلك لا حق لهما في نفيه، واستدل لذلك بقوله تعالى:{ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى }(الأنعام:164)، قال: (فوجب أن إقرار الأبوين لا يصدق على نفي الولد، فيكون كسبا على غيرهما، وإنما نفى الله تعالى الولد إن كذبته الأم والتعنت هي والزوج فقط، فلا ينتفي في غير هذا الموضع) ([67])

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو ثبوت حق الزوج في اللعان لنفي الولد الذي شك فيه سواء كانت زوجته حاملا أو غير حامل بالشروط التي ذكرناها سابقا من تقديم التحري، واللعان في هذه الحالة، لا يكون لنفي الولد بل لدرء الحد، إلا إذا لم تفلح الوسائل في التعرف على صحة النفي، أو لم توجد، فحينذاك يمكن الالتعان لنفي الولد.

فلذلك فإن القول الثاني هو الأرجح لتصريح الأدلة به، قال ابن قدامة: (وهذا القول هو الصحيح ؛ لموافقته ظواهر الأحاديث وما خالف الحديث لا يعبأ به كائنا ما كان) ([68])

وقد فصل ابن القيم موضع الالتعان في هذه الحالة بقوله:(هذا موضعُ تفصيل لا بُد منه، وهو أن الحملَ إن كان سابقاً على ما رماها به، وعلم أنها زنت وهي حامل منه، فالولد له قطعاً، ولا ينتفي عنه بلعانه، ولا يَحِلُّ له أن ينفيَه عنه في اللعان، فإنها لما علقت به، كانت فراشاً له، وكان الحملُ لاحقاً به، فزناها لا يُزيل حكم لحوقه به، وإن لم يعلم حملَها حالَ زناها الذي قد قذفها به، فهذا ينظر فيه، فإن جاءت به لأقل مِن ستة أشهر من الزنى الذي رماها به، فالولدُ له، ولا ينتفي عنه بلعانه، وإن ولدته لأكثر من ستة أشهر من الزنى الذي رماها به، نظر، فإما أن يكون استبرأها قبل زناها، أو لم يستبرئها، فإن كان استبرأها، انتفى الولد عنه بمجرد اللعان، سواء نفاه، أو لم ينفه، ولا بُد من ذِكره عند من يشترط ذِكره، وإن لم يستبرئها، فهاهنا أمكن أن يكون الولدُ منه، وأن يكون من الزاني، فإن نفاه في اللعان، انتفى، وإلا لحق به، لأنه أمكن كونُه منه ولم ينفه) ([69])

وما ذكره ابن القيم من التفصيل يدل على تشديد الشرع في اللعان المتعلق بنفي الولد، بخلاف اللعان لدرء الحد، لاختلاف المقصد في كليهما، وهو يؤيد بذلك ما ذكرناه سابقا من تقديم التحري على اللعان.

التصريح بنفيه عند الوضع:

وهو أن يصرح بنفيه حال اللعان وبعد الوضع، فإن سكت عن نفيه، مع إمكانه، فقد اختلف الفقهاء في ذلك على الأقوال التالية:

القول الأول: له تأخير نفيه مدة، وقد اختلفوا في تقدير هذه المدة، فقدرها أبو حنيفة باليوم واليومين، لأن النفي عقيب الولادة يشق، فقدر باليومين لقلته، وقدرها أبو يوسف ومحمد بمدة النفاس ؛ لأنها جارية مجرى الولادة في الحكم، وحكي عن عطاء، ومجاهد، أن له نفيه ما لم يعترف به فكان له نفيه، كحالة الولادة.

القول الثاني: إن سكت عن نفيه، مع إمكانه التصريح بنفيه لزمه نسبه، ولم يكن له نفيه بعد ذلك، وهو قول الشافعية والحنابلة، ولا يتقدر ذلك عندهم بزمن، بل هو على ما جرت به العادة، إن كان ليلا فحتى يصبح وينتشر الناس، وإن كان جائعا أو ظمآن فحتى يأكل أو يشرب، أو ينام إن كان ناعسا، وأشباه ذلك من أشغاله، فإن أخره بعد هذا كله، لم يكن له نفيه، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ أنه خيار لدفع ضرر متحقق، فكان على الفور، كخيار الشفعة.

2 ـ أن قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (الولد للفراش) ([70]) عام خرج منه ما وردت به السنة الثابتة، وبقي ما عداه على عموم الحديث.

3 ـ أن ما ذكره المخالفون من آجال تحكم لا دليل عليه.

القول الثالث: أنه ليس له نفيه بعد الوضع، وهو قول ابن حزم، وقد سبق ذكر أدلته في المسألة السابقة.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو أن التأخر عن نفيه بعد الوضع، وبعد توفر الأسباب الكافية للعانه تهمة تقتضي المزيد من التحري، زيادة على التحري الذي ذكرناه سابقا.

أعذار التأخر عن التصريح بالنفي وأحكامها:

نص الفقهاء([71]) القائلون باشتراط الفورية في اعتبار تعلله بالجهل، على الحالات التي يمكن اعتبارها وعدم اعتبارها، وهذه خلاصة ما ذكروا من ذلك([72]):

تعلله بالجهل بالولادة: فيتعلل بأنه لم يعلم بالولادة، فيصدق إن كان في موضع يخفى عليه ذلك، مثل أن يكون في بلدة أخرى، فالقول قوله مع يمينه ؛ لأن الأصل عدم العلم، أما إن كان معها في الدار فلا يقبل منه ذلك، لأنه لا يكاد يخفى عليه.

تعلله بالجهل بحقه في نفيه: بأن يقول: علمت ولادته، ولم أعلم أن لي نفيه، أو علمت ذلك، ولم أعلم أنه على الفور، فينظر إلى علمه وفقهه، فإن كان ممن يخفى عليه ذلك، كعامة الناس، قبل، أما إن كان فقيها، فلا يقبل ذلك منه ؛ إلا إذا خفيت عليه مثل هذه الأحكام.

تعلله بالعذر الذي يمنعه من الحضور لنفيه:كالمرض أو العمل، وفي هذه الحالة ينظر إلى مدة تأخره، فإن كانت قصيرة لم يبطل نفيه، أما إن كانت طويلة وأمكنه التنفيذ إلى الحاكم ليبعث إليه من يستوفي عليه اللعان والنفي، فلم يفعل، سقط نفيه إلا إذا أشهد على نفسه أنه ناف لولد امرأته، فإن لم يشهد، بطل خياره.

تعلله بعدم تصديق المخبر له بولادة زوجته:وينظر في هذه الحالة إلى مدى استفاضة الخبر وانتشاره، فإن كان مستفيضا منتشرا، لم يقبل قوله، أما إن لم يكن مستفيضا، وكان المخبر غير عدل فإنه يقبل منه هذا العذر.

تعلله بالستر على نفسه وعلى زوجته: إن ادعى تأخير نفيه رجاء موت الولد ليستر عليه وعلي نفسه لم يقبل عذره، لأنه أخر نفيه مع الإمكان لغير عذر.

التصريح بالقذف مع نفي النسب:

فإذا وجد نفي النسب وحده دون القذف، فإن له في ذلك أحكاما خاصة ترجع إلى تعبيره في نفي ولده، ومن الأمثلة التي ذكرها الفقهاء لعدم التصريح قوله عن ولده:ليس هذا الولد مني، فلا حد عليه في هذه الحالة لاحتمال أنه يريد أنه من زوج آخر، أو من وطء بشبهة، أو غير ذلك، ولهذا يسأل عن مراده، ويصدق في إخباره عن نفسه، ولا يحد أو يطالب باللعان إلا في حالة واحدة، وهي أن يصرح بزناها، فإن قالت الزوجة: بل أردت قذفي، فالقول قوله ؛ لأنه أعلم بمراده.

وقد اختلف الفقهاء هنا في المسائل التالية:

ادعاء حصول الإكراه للزوجة على الزنا:

لو ادعى أنها أكرهت على الزنا([73])، فهل يلاعن لأجل نفي ولده منها،أم لا يلاعن، وقد اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: لا يطالب باللعان لأنه لم يقذفها، ومن شرط اللعان القذف، ويلحقه نسب الولد، وهو قول الحنفية وقول عند الحنابلة، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ أن اللعان إنما ورد به الشرع بعد القذف، في قوله تعالى:{ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ}(النور:6)

2 ـ لما لاعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين هلال وامرأته كان بعد قذفه إياها، وكذلك لما لاعن بين عويمر العجلاني وامرأته كان بعد قذفه إياها.

3 ـ أن نفي اللعان إنما ينتفي به الولد بتمامه منهما، ولا يتحقق اللعان من المرأة هاهنا.

القول الثاني: أن له اللعان، وهو قول الشافعي وقول عند الحنابلة.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو عدم اللعان، مع التحري في نسب الولد، لأن مقصد اللعان درء الحد، وفي هذه الحالة يدرأ الحد عنها إن نكلت عن اللعان باعتبارها مكرهة، أما التحقق من نسب الولد، فلنفي الشك كما ذكرنا سابقا.

ادعاء حصول الوطء بشبهة:

لو صرح بأنها موطوءة بشبهة مع ادعائه علمها بذلك، وقد اتفق الفقهاء على أنه قد قذفها بذلك، ولكنهم اختلفوا في حقه في لعانها لنفي نسب ولدها على قولين:

القول الأول: ليس له نفيه باللعان، وهو قول الشافعية وقول عند الحنابلة، لأنه يمكنه نفي نسبه بعرضه على القافة.

القول الثاني: أن له اللعان لنفي نسب الولد منها، وهو قول الحنابلة، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ أنه رام لزوجته، فيدخل في عموم قوله تعالى:{ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ}(النور:6)

2 ـ أنه قد تتعذر القافة، وقد لا يعترف الرجل بما نسب إليه، أو يغيب أو يموت، فلا ينتفي الولد.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة أنه ليس له نفي الولد باللعان، بل له أن يستعمل في ذلك وسائل التتحقق الشرعية، وهي متيسرة ويقينية في عصرنا.

ادعاء عدم ولادة الزوجة:

لو قال لزوجته: ما ولدته وإنما التقطته أو استعرته، وخالفته المرأة في ذلك، وقد اختلف الفقهاء في أيهما يصدق، واختلفوا بناء على ذلك في حقه في لعانها لنفي النسب على قولين:

القول الأول: القول قول الرجل، ولا يقبل قول المرأة إلا ببينة وهي امرأة مرضية، تشهد بولادتها له، فإذا ثبتت ولادتها له، لحقه نسبه ؛ لأنه ولد على فراشه، والولد للفراش،وهو قول الشافعي وأبي ثور والحنفية وقول عند الحنابلة، واستدلوا على ذلك بأن الولادة يمكن إقامة البينة عليها، والأصل عدمها، فلم تقبل دعواها من غير بينة، كالدين.

القول الثاني: أن القول قول المرأة، وهو قول عند الحنابلة، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ قول الله تعالى:{ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ }(البقرة:228)، وتحريم كتمانه دليل على قبول قولها فيه.

2 ـ أنه خارج من المرأة، تنقضي به عدتها، فقبل قولها فيه، كالحيض.

3 ـ وعلى هذا القول فإن النسب لاحق به إلا أن ينفيه باللعان، فقد اختلف فيه على وجهين:

4 ـ ليس له نفيه ؛ لأن إنكاره لولادتها إياه، إقرار بأنها لم تلده من زنا، فلا يقبل إنكاره لذلك، لأنه تكذيب لنفسه.

5 ـ أن له نفيه ؛ لأنه رام لزوجته، وناف لولدها، فكان له نفيه باللعان، كغيره.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو أن القول في هذه الحالة هو قول البينة، وهي التأكد من صحة نسبة الولد لأبيه، ولا يصح اللعان في هذا، لأن اللعان مرتبط بالقذف، والزوج لم يقذفها، وإنما اتهمها، فإن تعذرت البينة أو لم تكن جازمة، فإن الولد للفراش.


([1]) انظر: شرح حدود ابن عرفة:497.

([2]) قواعد الأحكام: 1/115.

([3]) قواعد الأحكام: 1/115.

([4]) انظر: المغني: 8/59، مغني المحتاج: 3/373.

([5]) المغني:8/59.

([6]) أحمد 1/421 (4001)،  ومسلم 4/208 (3748)

([7]) وهو ليس كفرا بإجماع العلماء خلافا لمن ذهب إلى ذلك، قال الجصاص:وفيما حكم الله تعالى به من آية اللعان دلالة على أن الزنا والقذف ليسا بكفر من فاعلهما ; لأنهما لو كانا كفرا لوجب أن يكون أحد الزوجين مرتدا ; لأنه إن كان الزوج كاذبا في قذفها فواجب أن يكون كافرا، وإن كان صادقا فواجب أن تكون المرأة كافرة بزناها، وكان يجب أن تبين منه امرأته قبل اللعان، فلما حكم الله تعالى فيهما باللعان ولم يحكم ببينونتها منه قبل اللعان ثبت أن الزنا والقذف ليسا بكفر ودل على بطلان مذهب الخوارج في قولهم إن ذلك كفر. انظر: أحكام القرآن للجصاص:3/447.

([8]) المحلى:12/224.

([9]) أسنى المطالب:3/370.

([10]) انظر: النووي على مسلم: 10/119، نيل الأوطار:7/62.

([11]) زاد المعاد: 5/362.

([12]) زاد المعاد: 5/363.

([13]) القرطبي:12/185.

([14]) البخاري: 5/2014، مسلم: 2/1129، ابن حبان: 10/117، الدارمي: 2/201، البيهقي: 7/328، الدارقطني: 3/277، أبو داود: 2/273، النسائي: 3/349، الموطأ: 2/566، أحمد: 5/336.

([15]) وتتمة الحديث تثبت صدق هلال، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: إن جاءت به أصيهب أريصح أثيبج حمش الساقين، فهو لهلال، وإن جاءت به أورق جعدا جماليا خدلج الساقين سابغ الأليتين، فهو للذي رميت به. فجاءت به أورق، جعدا، جماليا، خدلج الساقين، سابغ الأليتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لولا الأيمان، لكان لي ولها شأن. قال عكرمة: فكان بعد ذلك أميرا على مصر، وما يدعى لأب، انظر: البخاري: 5/2382، مسلم: 2/1134، الحاكم: 2/78، البيهقي: 10/104، أبو داود: 2/277، النسائي: 2/80.

([16]) وقد خالف في ذلك ابن حزم، فذهب إلى أنه من قذف امرأته بالزنا هكذا مطلقا، أو بإنسان سماه، فواجب على الحاكم أن يجمعهما في مجلسه ؟ طلبت هي ذلك أو لم تطلبه، طلب هو ذلك أولم يطلبه، لا رأي لهما في ذلك، ثم يسأله البينة على ما رماها به ؟ فإن أتى ببينة عدول بذلك على ما ذكرنا في الشهادة بالزنا أقيم عليها الحد. فإن لم يأت بالبينة قيل له: التعن ؟،انظر: المحلى: 9/331.

([17]) أخرجه أحمد 3/142 (12477) وعبد بن حميد 1218 ومسلم 3750 والنسائي 6/171،.

([18]) البخاري 3/233 (2671) و6/126 (4747) و7/69 (5307).

([19]) زاد المعاد: 5/374.

([20]) زاد المعاد: 5/370.

([21]) وقد اختلف أصحاب هذا القول فيما يصنع بها على رأيين كلاهما روي عن أحمد:

 الرأي الأول: أنها تحبس حتى تلتعن أو تقر أربعا.

           الرأي الثاني: يخلى سبيلها، لأنه لم يجب عليها الحد، فيجب تخلية سبيلها، كما لو لم تكمل البينة، انظر: المحرر في الفقه: 2/99، الكافي في فقه ابن حنبل: 3/291.

([22]) أخرجه أحمد 3/142 (12477) وعبد بن حميد 1218 ومسلم 3750 والنسائي 6/171،.

([23]) ذكره في: القرطبي: 10/185، المغني: 9/60.

([24]) زاد المعاد: 5/373.

([25]) انظر: زاد المعاد: 5/369.

([26]) زاد المعاد: 5/406.

([27]) المغني: 8/216.

([28]) التمهيد: 21/258.

([29]) البخاري: 6/2530، مسلم: 3/1699، البيهقي: 8/338، أبو داود: 4/343، أحمد: 3/242.

([30]) البخاري: 6/2530، مسلم: 3/1698، ابن حبان: 13/126، النسائي: 4/247.

([31]) البخاري: 6/2525، مسلم: 3/1699، ابن حبان: 13/350، البيهقي: 8/338، أحمد: 2/243.

([32]) البيهقي: 8/338، الدارقطني: 4/144، النسائي: 4/247، الموطأ: 2/873.

([33]) أخرجه أحمد (4/248، رقم 18193)، والبخارى (6/2698، رقم 6980)، ومسلم (2/1136، رقم 1499)

([34]) لكنه عاد فنقل عن ابن القاسم في هذه المسألة أنه لو كان المقتول بكرا حده الجلد، فقتله ثم أتى بأربعة شهداء أنهم رأوا ذلك كالمرود في المكحلة، قال ابن القاسم:« يستحب في هذا أن تكون الدية على القاتل في ماله يؤديها إلى أولياء المقتول»، قال: وغيره يرى عليه في ذلك القود لأنه قتل من لم يجب عليه القتل، التمهيد: 8/259.

([35]) مسلم: 2/1135، مسند أبي عوانة: 3/214.

([36]) التمهيد: 21/256.

([37]) التمهيد: 21/258.

([38]) التمهيد:21/258.

([39]) زاد المعاد: 5/408.

([40]) زاد المعاد: 5/403.

([41]) زاد المعاد: 5/403.

([42]) زاد المعاد: 5/405.

([43]) أحكام القرآن لابن العربي: 3/352.

([44]) عبد الرزاق (7/99، رقم 12371).

([45]) البخاري 3/233 (2671) و6/126 (4747) و7/69 (5307).

([46]) ذكر الفقهاء صورا كثيرة لتكرر القذف اكتفينا منها بهذه المسائل لعلاقتها بهذا المبحث، انظر: كشاف القناع: 5/402، المغني: 8/72، المهذب: 2/275، الوسيط: 6/97، روضة الطالبين: 8/347 مغني المحتاج: 3/369.

([47]) وللشافعية قول آخر هو أنه إن أقام بالثاني بينة، سقط موجب الأول، وقد رد عليه بأن سقوط إحصانها في الثاني، لا يوجب سقوطه فيما قبل ذلك، كما لو استوفى حده قبل إقامة البينة.

([48]) أما إن أقام بينة، فقذفها قاذف بذلك الزنا، أو بغيره، فلا حد عليه ; لأنه قد زال إحصانها، لأن هذا القذف لم يدخل المعرة عليها، وإنما دخلت المعرة بقيام البينة، ومع ذلك يعزر تعزير السب والأذى.

([49]) رواه أبو داود.

([50]) زاد المعاد: 5/383.

([51]) أخرجه أحمد 3/142 (12477) وعبد بن حميد 1218 ومسلم 3750 والنسائي 6/171،.

([52]) ونرى أن اعترافه وحده غير كاف لعقوبة الزوجة إذا ما لا عنت، لأنه قد يكون غير محصن، فتقتصر عقوبته على الجلد، بينماتعاقب هي بالرجم، وفي ذلك تهمة له.

([53]) المغني: 8/54..

([54]) قال ابن القيم: « وهي رواية شاذة شذ بها حنبل عنه. قال أبو بكر: لا نعلَمُ أحداً رواها غيره»، وقد حملها ابن قدامة على ما إذا لم يُفرّق بـينهما. فأما مع تفريقِ الحاكم بـينهما، فلا وجهَ لبقاء النكاح بحاله، وقد رد عليه ابن القيم بقوله:« الروايةُ مطلقة، ولا أثر لتفريقِ الحاكم في دوام التحريم، فإن الفُرقة الواقعة بنفس اللعان أقوى من الفُرقة الحاصلة بتفريق الحاكم، فإذا كان إكذابُ نفسه مؤثراً في تلك الفُرقة القوية، رافعاً للتحريم الناشىء منها، فلأن يُؤثرَ في الفُرقة التي هي دونها، ويرفعَ تحريمها أولى»، انظر: زاد المعاد: 5/392، المغني: 8/54..

([55]) وذهب أبو يوسف إلى أنها تحرم عليه تحريما مؤبدا ولو كذب نفسه، الجوهرة النيرة: 2/71.

([56]) اختلف المالكية في ذلك، فقيل: تقع الفرقة بينهما بتمام التحالف دون حكم حاكم، قاله مالك وابن القاسم، وقال ابن حبيب لا تقع حتى يفرق الإمام بينهما، وقال ابن نافع يستحب له أن يطلقها ثلاثا عند فراغه من اللعان، فإن لم يفعل أجريا على سنة المتلاعنين أنهما لا يتناكحان أبدا، وقال ابن لبابة إن لم يفعل طلقها الإمام عليه ثلاثا، ولم يمنعه من مراجعتها بعد زوج، وقيل: فرقة المتلاعنين ثلاث، ويتزوجها بعد زوج آخر وفي الجلاب فرقة المتلاعنين فسخ بغير طلاق والمشهور ما قدمنا عن مالك وابن القاسم، انظر: تبصرة الحكام: 1/398.

([57]) وقد أجاب ابن القيم على هذا الاعتراض بقوله: « لأنا لم نتحقق أنه هو الملعون، وإنما تحققنا أن أحدهما كذلك، وشككنا في عينه، فإذا اجتمعا، لزمه أحدُ الأمرين ولا بد، إما هذا وإما إمساكُه ملعونةً مغضوباً عليها قد وجب عليها غضبُ الله، وباءت به، فأما إذا تزوجت بغيره، أو تزوج بغيرها، لم تتحقق هذه المفسدة فيهما» ونرى أن هذا حكم أخروي لا يصح إعماله هنا، وإلا قيل بكراهة الزواج من أحد المتلاعنين لكون أحدهما حاقت به اللعنة، زاد المعاد: 5/393.

([58]): البخاري: 4/1772، ابن حبان: 10/114، أبو داود: 2/275، النسائي: 3/266.

([59]) البخاري: 5/2036، ابن حبان: 10/122، البيهقي: 7/402، أبو داود: 2/278، ابن ماجة: 1/669، أحمد: 2/7.

([60]) مسلم: 2/1132، البيهقي: 7/409، النسائي: 3/376، أحمد: 2/64.

([61]) فتح الباري: 9/460.

([62]) زاد المعاد: 5/381.

([63]) زاد المعاد: 5/381.

([64]) زاد المعاد: 5/381.

([65]) أخرجه أحمد 3/142 (12477) ومسلم 3750.

([66]) المحلى: 9/332.

([67]) المحلى: 9/332.

([68]) المغني: 8/61.

([69]) زاد المعاد: 5/380.

([70]) الترمذى (4/434، رقم 2121) وقال: حسن صحيح. وغيره.

([71]) المغني:8/61.

([72]) انظر: المبدع: 8/96، الإنصاف للمرداوي: 9/256، كشاف القناع: 5/404، المغني: 8/62، المهذب: 2/122، إعانة الطالبين: 3/390.

([73]) مع اتفاقهم على أنه لا حد عليه في ذلك لأنه ليس قذفا.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *