الفصل الأول: حق الزوجة في المهر

الفصل الأول
حق الزوجة في المهر
أولا ـ حقيقة المهر وحكمه
عرف بعض الفقهاء المهر بأنه (مال يجب في عقد النكاح على الزوج في مقابلة منافع البضع، إما بالتسمية أو بالعقد)([1])، واعترض بعدم شموله للواجب بالوطء بشبهة، ومن ثم عرفه آخر بأنه: اسم لما تستحقه المرأة بعقد النكاح أو الوطء([2]).
وقد اهتم الفقهاء([3]) بتعديد المصطلحات الدالة عليه، بل رتبوا على بعضها أحكاما، وقد جمع بعض تلك المصطلحات الناظم في قوله:
صداق ومهر نحلة وفريضة حباء وأجر ثم عقد علائق
وبناء على ذلك وغيره اختلفت آراء الفقهاء في حقيقة المهر على قولين:
القول الأول: أنه عوض عن شيء ملكه الزوج في مقابلته، وهو ملك المتعة، ومن هنا حكموا بفساد العقد إذا تزوجها على ألا مهر لها وقبلت ذلك قياساً له على البيع إذا نفى فيه الثمن([4])، ومن الأدلة على ذلك أن القرآن سماه أجراً في قوله تعالى:{ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} (النساء:24)،وفي الآية التي بعدها يقول: {وآتوهن أجورهن بالمعروف} (النساء:25)
القول الثاني: أنه هدية لازمة فرضها الشارع من غير مقابلة شيء، وهو قول الظاهرية والإمامية، قال الشيرازي: (وأمّا تفسير البعض لمسألة المهر بنحو خاطىء، واعتبار الصداق أنّه من قبيل ثمن المرأة فلا يرتبط بالقوانين الإِسلامية، لأن الإِسلام لا يعطي للصداق الذي يقدمه الرجل إِلى المرأة صفة الثمن كما لا يعطي المرأة صفة البضاعة القابلة للبيع والشراء، وأفضل دليل على ذلك هو صيغة عقد الزواج الذي يعتبر فيه الرجل والمرأة كركنين أساسيين في الرابطة الزوجية، في حين يقع الصداق والمهر على هامش هذا العقد، ويعتبر أمراً إِضافياً، بدليل صحّة العقد إذا لم يرد في صيغة البيع والشراء وغير ذلك من المعاملات المالية إِذ بدونه تبطل هذه المعاملات)([5])، وقد استدل القائلون بهذا بما يلي:
- أن القرآن سماه نحلة في قوله تعالى:{ وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (النساء: 4)، والنحلة تطلق على ما ينحله الإنسان ويعطيه هبة عن طيب نفس بدون مقابلة عوض، قال الجصاص: (نحلة يعني بطيبة أنفسكم، يقول لا تعطوهن مهورهن، وأنتم كارهون ولكن آتوهم ذلك وأنفسكم به طيبة، وإن كان المهر لهن دونكم، فجائز على هذا المعنى أن يكون إنما سماه نحلة، لأن النحلة هي العطية،وليس يكاد يفعلها الناحل إلا متبرعا بها طيبة بها نفسه، فأمروا بإيتاء النساء مهورهن بطيبة من أنفسهم كالعطية التي يفعلها المعطي بطيبة من نفسه)([6])
- أن البيع بغير ذكر ثمن لا يحل، والزواج بغير ذكر صداق حلال صحيح.
نرى أن الأرجح في المسألة، والأوفق بمقاصد الشريعة هو القول الثاني، لأن القول الأول يقتضي أن المعاشرة الجنسية حق للرجل وحده، مع أنها حق لكليهما، كما سنرى.
وقد اشتد ابن حزم على أصحاب القول الأول، ومما قاله في الرد عليهم:(وليت شعري، ماذا باع أو ماذا اشترى، أرقبتها؟ فبيع الحر لا يجوز، أم فرجها؟ فهذا أبين في الحرام، وهو قد استحل بكلمة الله تعالى فرجها الذي كان حراما عليه قبل النكاح، كما استحلت بكلمة الله تعالى فرجه الذي كان حراما عليها قبل النكاح، ففرج بفرج، وبشرة ببشرة وأوجب الله تعالى عليه وحده الصداق لها زيادة على استحلالها فرجه، وليس البيع هكذا إنما هو جسم يبادل بجسم، أحدهما ثمن والآخر مبيع مثمون لا زيادة هاهنا لأحدهما على الآخر) ([7])
واعتبار المهر معاوضة من المعاوضات منتقض بأن الشرع لم يشترط فيه شروط المعاوضات من نفي الجهالة للمرأة، بل يجوز العقد على المجهولة مطلقا، ولا تعرض لتحديد مدة الانتفاع، وفي ذلك كله وشبهه دليل على عدم قصد الشرع إلى المعاوضة، وأنه إنما جعله شرطا لأصل الإباحة، (وقاعدة الشرط أن يتعين ثبوته عند ثبوت المشروط، فلذا قال في المشهور بعدم التقرر مطلقا إلا بالدخول أو بالموت، لأن الصداق إنما التزم إلى أقصر الزوجين عمرا أو بالفراق ولم يجعله كالثمن) ([8])
ثم إن من المقاصد في اعتباره نحلة وهبة للمرأة تعميق معاني المحبة والمودة بين الزوجين بخلاف اعتباره عوضا، فالهدية تنتج المحبة، والتلاحي في المهر باعتباره عوضا ينشئ الشحناء والبغضاء.
والتعبير في الآية بلفظ النحلة يشير إلى ذلك، وغيره، ولا بأس هنا أن ننقل كلاما لسيد قطب، يشير إلى بعض المعاني التي يوحي بها اختيار القرآن هذا اللفظ، يقول سيد ـ رحمه الله ـ بتصرف:(وهذه الآية تنشىء للمرأة حقا صريحا، وحقا شخصيا، في صداقها، وتنبى ء بما كان واقعا في المجتمع الجاهلي من هضم هذا الحق في صور شتى. واحدة منها كانت في قبض الولي لهذا الصداق وأخذه لنفسه؛ وكأنما هي صفقة بيع هو صاحبها! وواحدة منها كانت في أن يزوج الولي المرأة التي في ولايته، في مقابل أن يزوجه من يأخذها امرأة هي في ولاية هذا الآخر. واحدة بواحدة. صفقة بين الوليين لا حظ فيها للمرأتين، كما تبدل بهيمة ببهيمة! فحرم الإسلام هذا الزواج كلية؛ وجعل الزواج التقاء نفسين عن رغبة واختيار، والصداق حقا للمرأة تأخذه لنفسها ولا يأخذه الولي! وحتم تسمية هذا الصداق وتحديده، لتقبضه المرأة فريضة لها، وواجبا لا تخلف فيه. وأوجب أن يؤديه الزوج (نحلة) – أي هبة خالصة لصاحبتها – وأن يؤديه عن طيب نفس، وارتياح خاطر. كما يؤدي الهبة والمنحة. فإذا طابت نفس الزوجة بعد ذلك لزوجها عن شيء من صداقها – كله أو بعضه – فهي صاحبة الشأن في هذا؛ تفعله عن طيب نفس، وراحة خاطر؛ والزوج في حل من أخذ ما طابت نفس الزوجة عنه، وأكله حلالا طيبا هنيئا مريئا. فالعلاقات بين الزوجين ينبغي أن تقوم على الرضى الكامل، والاختيار المطلق، والسماحة النابعة من القلب، والود الذي لا يبقى معه حرج من هنا أو من هناك) ([9])
ثم ذكر سيد الآثار التي أنشأها هذا التصور لمعنى المهر، والذي يخالف التصورات الجاهلية فقال:(وبهذا الإجراء استبعد الإسلام ذلك الراسب من رواسب الجاهلية في شأن المرأة وصداقها، وحقها في نفسها وفي مالها، وكرامتها ومنزلتها، وفي الوقت ذاته لم يجفف ما بين المرأة ورجلها من صلات، ولم يقمها على مجرد الصرامة في القانون؛ بل ترك للسماحة والتراضي والمودة أن تأخذ مجراها في هذه الحياة المشتركة، وأن تبلل بنداوتها جو هذه الحياة) ([10])
2 ـ الحكم التكليفي للمهر:
اتفق الفقهاء على أن المهر حق واجب للمرأة على الرجل، وقد دل على ذلك الكتاب والسنةوالإجماع:
أما الكتاب: فقوله تعالى: { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} (النساء: 24)، وقال تعالى:{ وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً } (النساء: 4)، وقال تعالى:{ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} (النساء:24)
أما السنة: فقد دلت على ذلك الأحاديث الكثيرة، ومنها:
- أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى على عبد الرحمن بن عوف درع زعفران، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: مهيم؟ فقال: يا رسول الله، تزوجت امرأة. فقال: ما أصدقتها؟. قال: وزن نواة من ذهب. فقال: بارك الله لك، أولم ولو بشاة([11]).
- أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعتق صفية، وجعل عتقها صداقها([12]).
الإجماع: أجمع المسلمون على مشروعية الصداق في الزواج، قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: { وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً } (النساء: 4):(هذه الآية تدل على وجوب الصداق للمرأة، وهو مجمع عليه، ولا خلاف فيه إلا ما روى عن بعض أهل العلم من أهل العراق أن السيد إذا زوج عبده من أمته أنه لا يجب فيه صداق، وليس بشئ، لقوله تعالى: { وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً }(النساء:4)، فعم، وقال:{ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}(النساء: 25)([13])
ذكرنا في الجزء السابق خلاف الفقهاء في اعتبار المهر ركنا أو شرطا، وذكرنا أن الأرجح في المسألة هو اعتبار المهر أثرا من آثارالعقد المترتبة عليه، فليس هو بالشرط ولا بالركن، قال في التاج المذهب:(والمهر لازم للعقد لا شرط، هذا مذهبنا ـ يقصد الزيدية ـ وهو قول أبي حنيفة والشافعي)([14])، فإذا تم العقد بدون ذكر مهر صح باتفاق العلماء، ولكنه مع ذلك يستحب أن لا يعرى الزواج عن تسمية الصداق، وقد اختلف الفقهاء بناء على ذلك في وقت وجوب المهر على قولين:
القول الأول: لا يجب المهر بنفس العقد، وإنما يجب بالفرض على الزوج أو بالدخول حتى لو دخل بها قبل الفرض يجب مهر المثل، ولو طلقها قبل الدخول بها، وقبل الفرض لا يجب مهر المثل بلا خلاف، وإنما تجب المتعة، ولو مات الزوجان لا يقضى بشيء([15])،وهو قول الشافعية.
وقريب منه قول الإمامية، فقد نصوا على أنه لو وقع العقد بلا مهر فإن المرأة لا تستحقّ قبل الدخول شيئاً إلّا إذا طلقها، فتستحقّ عليه أن يعطيها شيئاً بحسب حاله من الغنى والفقر واليسار والإعسار، ويقال له المتعة، ولو انفسخ العقد قبل الدخول بأمر غير الطلاق أو مات أحدهما قبله لم تستحقّ شيئاً، ولو دخل بها استحقّت عليه بسبب الدخول مهر أمثالها. والأحوط وجوباً في مهر المثل – هنا – التصالح فيما زاد عن مهر السنّة([16]).
ومن الأدلة التي استدلوا بها على ذلك:
- قوله تعالى:{ وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً }(النساء: 4) فقد سمى الصداق نحلة، والنحلة هي العطية، والعطية هي الصلة، فدل ذلك على أن المهر صلة زائدة في باب الزواج، فلا يجب بنفس العقد.
- قوله تعالى: { لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} (البقرة: 236)، فإباحة الطلاق قبل المسيس وقبل فرض صداق يدل على جواز عدم تسمية المهر في العقد.
- قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} (الأحزاب: 49)، والمراد منه الطلاق في زواج لا تسمية فيه، بدليل أنه أوجب المتعة بقوله تعالى: { فمتعوهن }، والمتعة إنما تجب في زواج لا تسمية فيه، فدل على جواز الزواج من غير تسمية.
- أن المهر عهدة زائدة في حق الزوج صلة لها، فلا يصير عوضا إلا بالتسمية.
- أنه متى قام الدليل على أنه لا جواز للزواج بدون مهر كان ذكره ذكرا للمهر ضرورة.
القول الثاني: يثبت بنفس العقد، وهو قول الحنفية، حتى أن من تزوج امرأة، ولم يسم لها مهرا، بأن سكت عن ذكر المهر، أو تزوجها على أن لا مهر لها، ورضيت المرأة بذلك، وجب لها مهر المثل بنفس العقد، ولو ماتت المرأة قبل الدخول يؤخذ مهر المثل من الزوج، ولو مات الزوج قبل الدخول تستحق مهر المثل من تركته، ويجوز الزواج عندهم بدون المهر حتى يثبت لها ولاية المطالبة بالتسليم، واستدلوا على ذلك بما يلي:
- قوله تعالى:{ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ }(النساء: 24)، فقد أخبر تعالى أنه أحل ما وراء ذلك بشرط الابتغاء بالمال، فدل على أنه لا جواز للزواج بدون المال.
- أن المراد من النحلة الدين، فيصير معنى قوله تعالى: { وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً }(النساء: 4) أي دينا، وذلك يقتضي أن يكون وجوب المهر في الزواج دينا.
- أن الأصل في الأبضاع والنفوس هو الحرمة، والإباحة تثبت بالمهر، فعند عدم الشرط تبقى الحرمة على الأصل لا حكما للتعليق بالشرط.
- عن عبد الله بن مسعود أن رجلا كان يختلف إليه شهرا يسأله عن امرأة مات عنها زوجها ولم يكن فرض لها شيئا، وكان يتردد في الجواب فلما تم الشهر، قال للسائل: لم أجد ذلك في كتاب الله ولا فيما سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولكن أجتهد برأيي، فإن أصبت فمن الله وإن أخطأت، فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان أرى لها مثل نسائها لا وكس ولا شطط، فقام رجل يقال له: معقل بن سنان وقال: إني أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قضى في بروع بنت واشق الأشجعية مثل قضائك هذا، ثم قام أناس من أشجع، وقالوا: إنا نشهد بمثل شهادته ففرح عبد الله فرحا لم يفرح مثله في الإسلام لموافقة قضائه قضاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)([17])
- أن ملك الزواج لم يشرع لعينه، بل لمقاصد لا حصول لها إلا بالدوام على الزواج والقرار عليه، ولا يدوم إلا بوجوب المهر بنفس العقد لما يجري بين الزوجين من الأسباب التي تحمل الزوج على الطلاق من الوحشة، والخشونة فلو لم يجب المهر بنفس العقد لا يبالي الزوج عن إزالة هذا الملك بأدنى خشونة تحدث بينهما، لأنه لا يشق عليه إزالته لما لم يخف لزوم المهر فلا تحصل المقاصد المطلوبة من الزواج.
- أن مصالح الزواج ومقاصده لا تحصل إلا بالموافقة، ولا تحصل الموافقة إلا إذا كانت المرأة عزيزة مكرمة عند الزوج ولا عزة إلا بانسداد طريق الوصول إليها إلا بمال له خطر عنده، لأن ما ضاق طريق إصابته يعز في الأعين فيعز به إمساكه، وما يتيسر طريق إصابته يهون في الأعين فيهون إمساكه ومتى هانت في أعين الزوج تلحقها الوحشة فلا تقع الموافقة فلا تحصل مقاصد الزواج.
- أن الملك ثابت في جانبها إما في نفسها وإما في المتعة، وأحكام الملك في المرأة تشعر بالذل والهوان فلا بد وأن يقابله مال له خطر لينجبر الذل من حيث المعنى.
- أن الفرض تقدير، ومن المحال وجوب تقدير ما ليس بواجب.
- أن لها أن تحبس نفسها حتى يفرض لها المهر ويسلم إليها بعد الفرض، وذلك كله دليل الوجوب بنفس العقد.
نرى أن النتيجة العملية لأكثر مسائل القولين تكاد تكون واحدة، ولو أن القول بثبوته بمجرد العقد يعطي هيبة للعقد، فلا يقدم عليه المتلاعبون الهازلون، وذلك من مقاصد الشرع من العقود حتى لا يتلاعب بها.
اختلف الفقهاء في حكم حبس الزوج إذا لم يدفع المهر الذي حل أجله على قولين([18]):
القول الأول: إنه لا يحل حبسه بمجرد قول المرأة: إنه مليء، وإنه غيب ماله، وهو قول جمهور العلماء، وقد انتصر له ابن القيم، وبين البديل عن الحبس بأن يتثبت الحاكم ويتحرى، فإن تبين له مطله وظلمه ضربه إلى أن يوفي أو يحبسه، وإن تبين له بالقرائن والأمارات عجزه لم يحل له أن يحبسه ولو أنكرت الزوجة إعساره، ومن الأدلة التي ساقها لذلك:
- عن أبي سعيد الخدري قال: أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ثمار ابتاعها، فكثر دينه فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(تصدقوا عليه (فتصدق الناس عليه، فلم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لغرمائه:(خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك([19])، وهو صريح في أنه ليس لهم إذا أخذوا ما وجدوه إلا ذلك، وليس لهم حبسه ولا ملازمته.
- أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يحبس طول مدته أحدا في دين قط، وقد كان علي لا يحبس في الدين، ويقول: (إنه ظلم)، وقال:(حبس الرجل في السجن بعد معرفة ما عليه من الحق ظلم)، ويروى أنه كان إذا جاءه الرجل بغريمه، قال: لي عليه كذا. يقول: اقضه فيقول: ما عندي ما أقضيه، فيقول: غريمه: إنه كاذب، وإنه غيب ماله. فيقول: هلم بينة على ماله يقضى لك عليه. فيقول: إنه غيبه. فيقول: استحلفه بالله ما غيب منه شيئا. قال: لا أرضى بيمينه. فيقول: فما تريد؟ قال: أريد أن تحبسه لي، فيقول: لا أعينك على ظلمه، ولا أحبسه، قال: إذن ألزمه، فيقول: إن لزمته كنت ظالما له، وأنا حائل بينك وبينه)
- أن الحبس من جنس الضرب، بل قد يكون أشد منه، وقد اتفق الفقهاء على أنه لو قال الغريم للحاكم: اضربه إلى أن يحضر المال، لم يجبه إلى ذلك فكيف يجيبه إلى الحبس الذي هو مثله أو أشد.
- أن الحبس عقوبة، والعقوبة إنما تسوغ بعد تحقق سببها.
- أن السجن من جنس الحدود، فلا يجوز إيقاعها بالشبهة.
القول الثاني: تسأل الزوجة عن إعسار الزوج، فإن أقرت بإعساره لم يحبس له، وإن أنكرت إعساره، وسألت حبسه: حبس، لأن الأصل بقاء عوض المهر عنده، والتزامه للقسم الآخر باختياره يدل على قدرته على الوفاء، وهو قول الحنفية.
وقد اختلفوا في وقت سماع البينة بالإعسار، هل تكون قبل الحبس أو بعده، على قولين عندهم، وفي حال عدم السماع، اختلفوا في مدة الحبس، فقال بعضهم: تكون مدة الحبس شهرا، وقيل: اثنان، وقيل: ثلاثة، وقيل: أربعة، وقيل: ستة، والصحيح عندهم أنه لا حد له، وأنه مفوض إلى رأي الحاكم.
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة هو أن حبس المرأة لزوجها من أجل المهر لا خير فيه لكليهما، إلا إذا رأى ولي الأمر في ذلك مصلحة للمرأة، أو ردعا عن المماطلة، فيتخذ هذا الإجراء في أضيق الحدود، وقد يستعيض عنه بتكليفه بعمل تعود بعض أجرته لزوجته، أو يخصم من مرتبه ـ إن كان موظفا ـ ما يسد هذا الحق الذي وجب عليه، وقد رجح هذا القول، كما ذكرنا ابن القيم، فقال في دين المهر وفي سائر الديون:(والذي يدل عليه الكتاب والسنة، وقواعد الشرع: أنه لا يحبس في شيء من ذلك، إلا أن يظهر بقرينة أنه قادر مماطل، سواء كان دينه عن عوض أو عن غير عوض، وسواء لزمه باختياره أو بغير اختياره) ([20])
اتفق الفقهاء على أن المهمر حق شرعي لإبانة خطر العقد وصيانة المرأة عن الابتذال، ولذلك لا يجوز التنازل عنه بحال من الأحوال.
وأنه ـ مع ذلك ـ حق للمرأة: حالة البقاء بعد تمام العقد، ولذلك يجوز لها التنازل عنه لزوجها، بخلاف تنازلها عن عدم اشتراط المهر، فلا يحق لها لأنه حق الشرع.
وأنه مع ذلك جميعا حق للأولياء: فلذلك يجوز لهم الاعتراض إذا زوجت البالغة العاقلة نفسها بأقل من مهر المثل، وقد تحدث الفقهاء هنا على الحلوان([21])، واختلفوا في حكمه، وفي حكم من اشترط عليه في الصداق حباء يحابى به الأب على أربعة أقوال([22]):
القول الأول: الشرط لازم والصداق صحيح، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، وهو مذهب الحنابلة،وهو قول مسروق، وقيل: يختص ذلك بالأب دون غيره من الأولياء.
القول الثاني: إذا كان الشرط عند الزواج فهو لابنته، لأنه من جملة المهر، وإن كان بعد الزواج فهو له، إن فارقها زوجها قبل أن يدخل بها فلزوجها نصف الحباء الذي وقع به الزواج لأنه من الصداق وهو يتشطر بالطلاق قبل الدخول([23])، وهو قول عمر بن عبد العزيز والثوري وأبي عبيد، وقول المالكية، ومن الأدلة على ذلك:
- قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(أيما امرأة نكحت على صداق أو حياء أو عدة قبل عصمة النكاح فهو لها، فما كان بعد عصمة النكاح فهو لمن أعطيه، وأحق ما أكرم به الرجل ابنته أو أخته)([24])قال الشوكاني:(وفيه دليل على أن المرأة تستحق جميع ما يذكر قبل العقد من صداق أو حباء وهو العطاء أو عدة بوعد ولو كان ذلك الشيء مذكورا لغيرها وما يذكر بعد عقد النكاح، فهو لمن جعل له سواء كان وليا ولي أو المرأة نفسها)([25])
- سدا للذريعة، للتهمة فيما لو كان الشرط في عقد الزواج، فيكون ذلك الذي اشترطه لنفسه نقصانا من صداق مثلها، ولا توجد التهمة فيما إذا كان بعد انعقاد الزواج والاتفاق على الصداق([26]).
وقد ذهب ابن العربي إلى التفصيل في المسألة، فقال:(والذي يصح عندي التقسيم، فإن المرأة لا تخلو أن تكون بكرا أو ثيبا، فإن كانت ثيبا جاز، لأن نكاحها بيدها، وإنما يكون للولي مباشرة العقد، ولا يمنع أخذ العوض عليه، كما يأخذه الوكيل على عقد البيع، وإن كانت بكرا كان العقد بيده، وكأنه عوض ف0ي النكاح لغير الزوج، وذلك باطل، فإن وقع فسخ قبل البناء، وثبت بعده على مشهور الرواية) ([27])
القول الثالث: إن وقع في نفس العقد وجب للمرأة مهر مثلها، وإن وقع خارجا عنه لم يجب، وهو قول الشافعية، وقريب منه قول الإمامية، فقد نص السيد علي السيستاني في بعض فتاويه على أنه (إذا اشرك اباها مثلاً في المهر بأن جعل مقداراً من المهر لها ومقداراً منه لأبيها، أو جعل مهرها عشرين مثلاً على ان تكون عشرة منها لأبيها، سقط ما سماه للأب فلا يستحق شيئاً. ولو لم يشركه في المهر ولكن اشترط عليها أن تعطيه شيئاً من مهرها صحّ، وكذا لو جعل له شيئاً زائداً على مهرها لشرطها عليه ذلك، وأما لو كان شرطاً ابتدائياً من الزوج له فلا يصحّ)
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة ما ذهب إليه أصحاب القول الثاني من التفريق بين حلوان ما قبل العقد، والهدايا التي تكون بعده، لنص الحديث على ذلك، وهو مع ما قيل فيه أولى من غيره، خاصة وأن كثيرا من المصالح الشرعية تستفاد من هذا القول.
ومنها أن الحلوان قبل المهر أشبه بالرشوة منه بالهدية، فقد يخاف الخاطب أن يرفض من المرأة أو من أوليائها، فيغريهم بهذا الحلوان، أو يستغل حاجتهم للمال فيرشوهم به، فتتحقق مصلحته من غير الطريق الشرعي، وقد يكون في ذلك مفسدة للمرأة، وأقل المفاسد أن هذا الحلوان قد يؤثر في مهره فيزيد من الحلوان بقدر ما ينقص من المهر.
أما ما بعد العقد، فإن المضار تنتفي، بل إن هناك بعض االمصالح المرجوة، مثل الصلة التي تحدثها مثل تلك الهدايا بين الزوج وأهل زوجته، والتي يكون مصدرها الصلة لا الاشتراط، وسنوضح هذا المقصد الشرعي عند الحديث عن حقوق الزوجة الاجتماعية.
وقد ذكر الفقهاء أن سبب الاختلاف في المسألة هو تشبيه الزواج في ذلك بالبيع فمن شبهه بالوكيل يبيع السلعة ويشترط لنفسه حباء قال لا يجوز الزواج كما لا يجوز البيع، ومن جعل الزواج في ذلك مخالفا للبيع قال: يجوز([28])، ونرى أن قياس الصداق على البيع أو أي عقد من عقود المعاوضات قياس مع الفارق، فالمرأة ليست سلعة، والمهر ليس ثمنا.
من الشروط التي نص عليها الفقهاء، والتي لا يعتبر المهر مهرا إلا بتوفرها ـ على اختلاف بينهم في ذلك ـ الشروط التالية:
الشرط الأول ـ كون المهر متقوما:
يرد تعبير (المال المتقوم) في عرف الفقهاء على أحد شيئين:
- ما يباح الانتفاع به شرعا.
- ما يقابله في عرف الناس.
وسبب هذا الخلاف في التعريف أن الحنفية قسموا المال إلى قسمين: متقوم وغير متقوم، فاعتبروا المتقوم هو ما يحل الانتفاع به شرعا في حال الاختيار، وغير المتقوم: ما لا يحل الانتفاع به شرعا من الأموال.
بينما ذهب سائر الفقهاء إلى اشتراط حل الانتفاع شرعا في ماهية المال، وعلى ذلك لا يتصور عندهم مال لا يحل الانتفاع به شرعا، لانعدام الماهية بانتفاء شرطها، غير أنه يرد على ألسنتهم تعبير المال المتقوم، بمعنى المال الذي تقابله قيمة مادية في عرف الناس.
اختلف الفقهاء في اشتراط أن يكون المهر مالا متقوما على الأقوال التالية:
القول الأول:اشتراط أن يكون المال متقوما، وهو قول الحنفية والمالكية، واستدلوا على ذلك بما يلي:
- قوله تعالى: { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ } (النساء: 24)، فشرطت الآية أن يكون المهر مالا، فما لا يكون مالا لا يكون مهرا، فلا تصح تسميته مهرا.
- قوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُم} (البقرة: 237)، فقد أمر تعالى بتنصيف المفروض في الطلاق قبل الدخول فيقتضي كون المفروض محتملا للتنصيف، وذلك لا يكون إلا في المال.
- أن الحديث الذي استدل به المخالفون، حملوه على إرادة: زوجتكها بسبب ما معك من القرآن وبحرمته وبركته، لا أنه كان ذلك الزواج بغير تسمية مال.
القول الثاني: عدم اشتراط التقوم في المال، وأن كل ما جاز أن يتملك بالهبة أو بالميراث جاز أن يكون صداقا، سواء حل بيعه أو لم يحل كالماء، والكلب، والسنور، والثمرة التي لم يبدو صلاحها والسنبل قبل أن يشتد.
قال ابن حزم: وهو قول سفيان الثوري، والأوزاعي، والحسن بن حي والليث بن سعد، وابن أبي ليلى، وابن وهب صاحب مالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل وإسحاق، وأبي ثور، وأبي سليمان، وأصحابهم، وجملة أصحاب الحديث ممن سلف وخلف([29]).
وهو مذهب الإمامية، فقد نصوا على أنه (يكفي في الصداق ما تراضى به الزوجان من ناحية الكثرة ومن ناحية القلة. كما انه لا يشترط أن يكون مالاً أو يكون عيناً أو يكون منفعة بل كل ما يملكه المسلم يصح أن يجعل صداقاً سواء كان عيناً أو كان ديناً أو منفعة لعين كدار أو عقار أو حيوان كما يصح جعله منفعة كتعليم صنعة أو علم او فن ونحو ذلك من كل عمل محلل، بل الظاهر أيضاً صحة جعل الصداق في الحقوق المالية القابلة للنقل والانتقال كحق التحجير مثلاً، ولذا ورد في الأخبار انه ما ترضى عليه الزوجان قليلاً كان أو كثيراً)([30])
وهو مذهب الظاهرية، فقد أجاز ابن حزم كذلك أن يكون صداقا كل ما له نصف قل أو كثر، ولو أنه حبة بر أو حبة شعير أو غير ذلك، وكذلك كل عمل حلال موصوف، كتعليم شيء من القرآن أو من العلم أو البناء أو الخياطة أو غير ذلك إذا تراضيا بذلك، وقد استدل ابن حزم على ذلك بما يلي([31]):
- إطلاق الآيات الواردة في المهر، كما قال تعالى: { وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً } (النساء: 4)، وقال تعالى { وآتوهن أجورهن بالمعروف } وقال تعالى: { وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ }(البقرة: 237)، فلم يذكر الله تعالى في شيء من كتابه الصداق، فجعل فيه حدا بل أجمله إجمالا، مع أنه لو أراد أن يجعل للصداق حدا لا يكون أقل منه لما أهمله، ولا أغفله.
- أن الله تعالى إنما عظم أمر الصداق في إيجاب أدائه، وتحريم أخذه بغير رضاها، وذلك موجود في كل حق سواء كان كثيرا أو قليلا، كما قال الله تعالى: { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه}(الزلزلة: 7، 8)،وقد صح عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (اتقوا النار ولو بشق تمرة) ([32]) مع أنه لا عظيم أعظم من اتقاء النار، وصح عنه صلى الله عليه وآله وسلم كذلك قوله: (من حلف على منبري بيمين آثمة وجبت له النار وإن كان قضيبا من أراك) ([33])
- الأحاديث الواردة في المهر بدون اشتراط أن يكون متقوما، ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(التمس ولو خاتما من حديد؟)، فالتمس الرجل فلم يجد شيئا، فقال: أمعك من القرآن شيء؟ قال: نعم سورة كذا وسورة كذا، قال: قد زوجناكها بما معك من القرآن([34])، قال ابن حزم:(والحديث مشهور ومنقول نقل التواتر من طريق الثقات)، ولا بأس أن نذكر هنا قول ابن حزم مع ما فيه من الحدة التي لا نوافقه عليها، ولكن نوافقه على رده على ما تأولوا به الحديث، قال ابن حزم بعد سياقه لروايات الحديث ـ بتصرف ـ:(فاعترضوا في هذا فقال: إنما كلفه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خاتما من حديد، مزينا يساوي عشرة دراهم من فضة، أو ثلاثة دراهم من فضة خالصة، فقول يضحك الثكلى ويسيء الظن بقائله، لأنها مجاهرة بما لم يكن قط، ولا خلقه الله عز وجل قط في العالم أن تكون حلقة من حديد وزنها درهمان تساوي ما ذكروا ولا سيما في المدينة، وقد علم كل ذي حظ من التمييز أن مرورهم ومساحيهم لحفير الأرض، وشوافرهم وفؤوسهم لقطع الحطب، ومناجلهم لعمل النخل، وحصاد الزرع، وسككهم للحرث، ومزابرهم للزرجون، ودروعهم ورماحهم، كل ذلك من حديد فمن أين استحلوا أن يخبروا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الكذبة السخيفة؟)([35])
- عن أنس بن مالك أن عبد الرحمن بن عوف، قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: تزوجت امرأة من الأنصار، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كم سقت إليها؟ قال: وزن نواة من ذهب فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أولم ولو بشاة، قال أنس:وذلك دانقان من ذهب، وقد حدد ابن حزم قيمة ذلك في عصره بأن الدانق: سدس الدرهم الطبري – وهو الأندلسي – فالدانقان، وزن ثلث درهم أندلسي، وهو سدس المثقال من الذهب، وكذب الرواية في ذلك عن قتادة عن أنس في النواة المذكورة أنها قومت بثلاث دراهم، لأن حجاج أحد رواة الحديث ساقط ولا يعارض بروايته رواية عبد الرزاق.
- أن هذا قول السلف، فعن ابن عباس قال: (لو رضيت بسواك من أراك لكان مهرا)، وعن أبي سعيد الخدري أنه قال: (ليس على أحد جناح أن يتزوج بقليل ماله أو كثيره إذا استشهدوا وتراضوا)، وعن جابر بن عبد الله قال: (من أعطى في صداق امرأة ملء حفنة من سويق أو تمر فقد استحل)،وعن عطاء، أنه قال في الصداق: أدنى ما يكفي: خاتمه، أو ثوب يرسله، وقال عمرو بن دينار: أدنى الصداق ما تراضوا به، وقال سعيد بن المسيب: لو أصدقها سوطا حلت له، وعن سعيد بن المسيب أنه زوج ابنته ابن أخيه، فقيل له: أصدق؟ فقال: درهمين، وعن الحسن البصري أنه كان يقول في الصداق: هو على ما تراضوا عليه من قليل أو كثير، ولا يؤقت شيئا، وقال: ما تراضوا به عليه فهو صداق، وعن يحيى بن سعيد الأنصاري أنه قال: يحل المرأة ما رضيت به من قليل أو كثير([36]).
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الثاني لتواتر الآثار الكثيرة في اعتبار المهر هدية رمزية واجبة يقدمها الرجل لزوجه من غير تحديد شرعي لذلك، وسنرى أدلة أكثر لهذا الترجيح في محلها عند ذكر الحد الأدنى للمهر، والقول بهذا يتفق مع مقصد الشريعة من الزواج والتفريق بينه وبين سائر المعاوضات، فالصداق ـ كما ذكرنا سابقا ـ ليس عوضا، بل هو نحلة وعربون مودة يزيد في الصلة بين الرجل وزوجه، وأن العبرة فيه برضا الطرفين، فعن عامر بن ربيعة، أن امرأة من بني فزارة، تزوجت على نعلين، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أرضيت من نفسك ومالك بنعلين؟ قالت: نعم، فأجازه([37]).
حكم اعتبار تحفيظ القرآن الكريم صداقا:
بناء على ما سبق، اختلف الفقهاء في اعتبار تحفيظ القرآن الكريم صداقا على قولين([38]):
القول الأول: عدم جواز جعل تحفيظ القرآن الكريم صداقا، وهو قول الحنفية والمالكية في المشهور عندهم وأحمد في رواية عنه، واستدلوا على ذلك بما يلي:
- أن الزوجة لا يمكن استباحتها إلا بالأموال لقوله تعالى: { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً }(النساء: 24)، وذكر الله الطول في الزواج، والطول المال، والقرآن ليس بمال.
- أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى أن يؤكل بالقرآن، أو يتعوض به شيء من أمور الدنيا، فعن عبادة قال: (كنت أعلم ناسا من أهل الصفة القرآن، فأهدى إلي رجل منهم قوسا، على أن أقبلها في سبيل الله. فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال إن أردت أن يطوقك الله بها طوقا من النار، فاقبلها) ([39])، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (اقرؤوا القرآن ولا تغلوا فيه، ولا تجفوا عنه، ولا تأكلوا به، ولا تستكثروا به) ([40])، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (اقرؤوا القرآن، واسألوا الله به، فإن من بعدكم قوما يقرؤون القرآن يسألون به الناس) ([41])، وعن جابر قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،ونحن نقرأ القرآن، وفينا الأعرابي والعجمي، فقال: اقرؤوا فكل حسن، وسيجيء أقوام يقيمونه كما يقام القدح([42])، يتعجلونه ولا يتأجلونه([43])([44])، وعن أبي قال: كنت أختلف إلى رجل مسن قد أصابته علة قد احتبس في بيته أقرئه القرآن، فيؤتى بطعام لا آكل مثله بالمدينة، فحاك في نفسي شيء، فذكرته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (إن كـان ذلك الطعام طعامه وطعم أهله، فكل منه، وإن كان بحقك فلا تأكله) ([45])
- أن تحفيظ القرآن الكريم ليس هو المهر المراد في الحديث، وإنما معناه ببركة ما معك من القرآن، أو بسبب ما معك من القرآن، أو من أجل أنك من أهل القرآن، وليس فيه دلالة على أنه جعله مهرا، ونفس التأويل حملوه على حديث أبي طلحة حين تزوج أم سليم على إسلامه فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فحسنه) ([46]). فلم يعتبروا الإسلام مهرا في الحقيقة، وإنما معناه تزوجها على إسلامه، أي تزوجها لإسلامه([47])، وقد ذكر ابن حزم أنهم استدلوا بما روي عن أبي النعمان الأزدي قال: زوج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم امرأة على سورة من القرآن، ثم قال: لا يكون لأحد بعدك مهرا ([48])، وذكر القرطبي زيادة أخرى ظاهرها الضعف، قال القرطبي:(وفيه زيادة تبين ما احتج به مالك وغيره، وفيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:من ينكح هذه؟ فقام ذلك الرجل، فقال: أنا يارسول الله،فقال: ألك مال؟ قال: لا يارسول الله، قال: فهل تقرأ من القرآن شيئا؟ قال: نعم سورة البقرةوسورة المفصل، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أنكحتكها على أن تقرئها وتعلمها، وإذا رزقك الله عوضتها، فتزوجها الرجل على ذلك)، قال القرطبي: وهذا نص ـ لو صح ـ في أن التعليم لا يكون صداقا، قال الدارقطني: تفرد به عتبة بن الموطأ وهو متروك الحديث([49]).
- أن تعليم القرآن الكريم فرض كفاية، فكل من علم إنسانا شيئا من القرآن، فإنما قام بفرض، فكيف يجوز أن يجعل عوضا للبضع، ولو جاز ذلك لجاز التزويج على تعليم الإسلام، وهو باطل، لأن ما أوجب الله تعالى على الإنسان فعله، فهو متى فعله فعله فرضا، فلا يستحق أن يأخذ عليه شيئا من أعراض الدنيا، ولو جاز ذلك لجاز للحكام أخذ الرشى على الحكم، وقد جعل الله ذلك سحتا محرما([50]).
- القياس عل عدم صحة الإجارة أو البيع على التعليم، لأن الإجارات لا تجوز إلا لأحد معنيين: إما على عمل بعينه كخياطة ثوب وما أشبهه، وإما على وقت معلوم، وكان إذا استأجره على تعليم سورة فتلك إجارة لا على وقت معلوم، ولا على عمل معلوم، وإنما استأجره على أن يعلم،وقد يفهم بقليل التعليم وكثيره في قليل الأوقات وكثيرها، وكذلك لو باعه داره على أن يعلمه سورة من القرآن، لم يجز للمعاني التي ذكرناها في الإجارات، وإذا كان التعليم لا يملك به المنافع ولاأعيان الأموال، فأولى من ذلك أن لا تملك به الأبضاع([51]).
- أن تحفيظ القرآن الكريم لا يجوز أن يقع إلا قربة لفاعله.
القول الثاني: جواز جعل تحفيظ القرآن الكريم صداقا للمرأة، وهوقول الشافعية، وهو خلاف المشهور عند بعض المالكية([52])، وأحمد في رواية عنه، قال ابن عبد البر:(وأكثر أهل العلم لا يجيزون ما قال الشافعي)([53])
وهو قول الإمامية، قال في النهاية: (يجوز العقد علي تعليم آية من القرآن أو شي ء من الحکم والآداب لأنّ ذلک له أجر معيّن وقيمة مقدّرة)([54])، ومن الروايات الواردة في هذا عن أبي جعفر ع أنه سئل عن رجل تزوّج امرأة علي أن يعلّمها سورة من کتاب اللّه فقال: (ما أحبّ أن يدخل حتّي يعلّمها السورة، ويعطيها شيئا، قلت: أيجوز أن يعطيها تمرا أو زبيبا؟ فقال: لا بأس بذلك إذا رضيت به كائنا ما كان)([55])
ومن الأدلة على ذلك:
- أن الحديث الثابت ورد بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زوج ذلك الرجل تلك المرأة على تعليمه إياها سورا سماها.
- أن تعليم القرآن يصح أخذ الأجرة عليه، فجاز أن يكون صداقا.
- أنه لا وجه لقول من قال: إن ذلك كان من أجل حرمة القرآن، ومن أجل كونه من أهل القرآن، لأن في الحديث ما يبطل هذا التأويل، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: التمس شيئا، ثم قال له التمس ولو خاتما من حديد، ثم قال له: هل معك من القرآن شيء؟ فقال: سورة كذا، فقال: قد زوجتكها بما معك من القرآن، أي بأن تعلمها تلك السورة من القرآن.
- أن أبا طلحة تزوج أم سليم على أن يسلم، فلم يكن لها مهر غيره، وهذا لا حجة لهم فيه لوجهين،أحدهما: أن ذلك كان قبل هجرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمدة، لأن أبا طلحة قديم الإسلام، من أول الأنصار إسلاما، ولم يكن نزل إيجاب إيتاء النساء صدقاتهن به. الثاني: أنه ليس في ذلك الخبر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علم ذلك.
- أن اعتبار الخصوصية في ذلك يتنافى مع قول الله تعالى: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (الأحزاب: 21)، فكل ما فعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فالفضل لنا والأجر والإحسان في أن نفعل كما فعل ائتساء به، والمانع من ذلك مخطئ، إلا أن يأتي نص قرآن أو سنة ثابتة بأنه خصوصي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلا يحل أن يعمل به حينئذ.
- أنه لا يصح استدلالهم بنصف الصداق الوارد في الآية، في حال الطلاق قبل الدخول، لأنه إن كان قد علمها السورة التي أصدقها تعليمها فقد استوفت صداقها، ولا سبيل لها إليه، لأنه عرض قد انقضى – وإن كان لم يعلمها إياه فعليه أن يعلمها نصفها فقط، وهذا لا يحرم على أحد – يعني تعليم امرأة أجنبية – وقد كلم أمهات المؤمنين الناس.
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة هو ما ذكره أصحاب القول الثاني لصحة الحديث الوارد في ذلك، ولكن ذلك يبقى مربتبطا بحال لحاجة والضرورة، وليس مطلقا، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يذكر له القرآن الكريم كمهر يقدمه لها إلا بعد علمه بفاقته الشديدة، أو أن يكون ذلك برغبة منها، فالمهر حقها، ولها الحرية في تحديده، ولكنه مع ذلك، يستحب خروجا من الخلاف، وتأليفا لقلبها أن يقدم لها من الهدايا باسم المهر ما تسر له النساء، لأنه المقصد الأصلي من تشريع المهر.
أما ما استدل به المخالفون من الآية، فإن تفسير الآية محل نزاع بين العلماء، والأكثر على أنها في زواج المتعة، أو أنها منسوخة، فلذلك لا يصح الاستدلال بها على هذا الوجه، بل لو فرض صحة الاستدلال بها، فإنه يمكن توجيهها على أن المراد من الأموال فيها ما يشترطه الولي أو المرأة، ولا خلاف في وجوبه أما في حال عدم اشتراطه، أو اشتراط المنافع، فإنها تجب بإيجاب الولي أو المرأة.
ثم إن المال ما يمتلك، وله قيمة، ولا حرج في اعتبار القرآن لذلك من باب المجاز نوعا من المال، بل هو أغلى المال، وفي النصوص الشرعية الكثير مما يدل على ذلك.
أما ما ذكروه من النصوص واستدلوا به من النهي عن الأكل بالقرآن الكريم، فنحن نسلم له، ونقول به، ولا نرى تناقضا بينه وبين ما رجح هنا، ولا نرى حاجة لتضعيف الأحاديث، فهي من الكثرة بحيث يقوي بعضها بعضا، وقد حاولنا أن نجمع الكثير منها غير مكتفين بما سرد في كتب الفقه، ولكنا مع ذلك لا نراها متعلقة بهذا الموضوع، لأن المهر ليس ثمنا حتى تعتبر فيه المالية، وليس عوضا كسائر المعاوضات حتى يحرم استغلال القرآن لخدمة تلك المعاوضة، بل هو كما ذكرنا نوع صلة مادية تربط بين المرأة وزوجها، فلذلك كان القرآن أشرف ما يوثق هذه الرابطة.
حتى ولو اعتبر تعليم المرأة القرآن مهرا لها أكلا بالقرآن، فإن ذلك لا يصح تنزيل الأحاديث السابقة عليه، قال ابن حزم:(لو صح لم تكن لهم به حجة، لأن الأكل أكلان: أكل بحق، وأكل بباطل، فالأكل بحق حسن، وقد مضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى المدينة – كمصعب بن عمير وغيره – يعلمون الأنصار القرآن والدين، وينفق الأنصار عليهم، قال الله تعالى:{ هُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُون}(المنافقون:7)، فأنكر الله تعالى على من نهاهم عن النفقة على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أشد النكير)
ولو فرضت صحة تلك الأحاديث فإنها معارضة بنصوص أخرى، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث المشهور:(إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله عز وجل) ([56])
أما دعوى الخصوصية، فلا تسلم في هذا الموضع كما لا تسلم في أكثر المواضع، لعدم الدليل عليها، ولو ترك القول بها لمن شاء أن يقول لبطلت السنة، وبطل معها الإسلام جميعا قال ابن عبد البر:(دعوى التعليم على الحديث دعوى باطل لا يصح، وتأويل الشافعي على ما ذكرنا في هذا الباب محتمل، فأما دعوى الخصوص فضعيف لا وجه له، ولا دليل عليه) ([57])
أما قياس المهر عل الإجارة والبيع كما ذكره الطحاوي، فلا يصح باعتبار المهر ليس من عقود المعاوضات، بل هو نحلة يقدمها الرجل لزوجه، ولو فرض ذلك، فإنه لا حرج في أن يجعل الرجل مبلغا من المال أو أن يبيع داره، أو يستأجر أجيرا، ثم يوفيه أجره علما ينتفع به، إذا ما تراضيا على ذلك، ولا عبرة في ذلك بطول الوقت وقصره، ولا حرج أن لا نسمي هذا العقد بيعا أو إجارة أو جعالة لأن العبرة في العقود بالحقائق والمعاني لا بالألفاظ والمباني.
أما اعتبار تعليم القرآن فرضا كفائيا، فلذلك لا يصح جعله مهرا، فإن جعله مهرا يحوله من الفرضية الكفائية إلى الفرضية العينية، مع أن الفرضية الكفائية متعلقة بالعموميات أو التفاصيل التي يحتاج إليها دون غيرها، فلم يقل أحد بوجوب تحفيظ الرجل زوجته القرآن الكريم لا بعضه، ولا كله.
أما الغاية المقاصدية من جعل المهر قرآنا، فهي غاية جليلة تؤكد المعاني الروحية التي يريدها الإسلام من الزواج، فليس مقصد الزواج في الإسلام شهوة تنطفئ، أو أجيالا تنشأ، أو غير ذلك فقط، بل إن قمتها هي في الترقي الروحي للزوجين، ورحلة الجميع إلى الله، وما أجمل أن يكون عربون تلك الرحلة القرآن الكريم كلام الله.
القدر الواجب من الإصداق بالقرآن:
اتفق القائلون بجواز اعتبار القرآن الكريم صداقا على أنه لا بد من تعيين ما يحفظها إياه من السور والآيات، لأن السور والآيات تختلف، كما اتفقوا على وجوب تحفيظها القدر المتفق عليه من السور والآيات([58])، واتفقوا على أنهم إذا شرطوا قراءة معينة يجب عليه أن يحفظها هذه القراءة، فإن خالف وعلمها قراءة أخرى غيرها فمتطوع، ويلزمه تعليمها القراءة المتفق عليها عملا بالشرط، ولكنهم اختلفوا هل يشترط تعيين القراءة التي يعلمها وفقا لها أم لا على قولين:
القول الأول: عدم اشتراط ذلك لأن كل قراءة تنوب مناب القراءة الأخرى، وهو مذهب جمهور الشافعية وهو أحد الوجهين عند الحنابلة، وهو قول الإمامية، واستدلوا على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يعين للمرأة قراءة معينة، وقد كانوا يختلفون في القراءة أشد من اختلاف القراء اليوم، فيعلمها ما شاء من القراءات المتواترة([59]).
القول الثاني: أنه يجب تعيين قراءة بعينها لأن الأغراض تختلف، والقراءات كذلك تختلف، فمنها صعب ومنها سهل، ونقل عن البصريين من الشافعية أنه يعلمها ما غلب على قراءة أهل البلد، وإن لم يكن فيها أغلب علمها ما شاء من القراءات.
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة هو تعليمها أي قراءة قرآنية متواترة، ولا حرج في ذلك، لأنه لا يصح التفضيل بين القراءات، أما الأداءات المختلفة، فالمستحب أن يختار لها أيسر الأداءات، وذلك يكون غالبا مما أخذ به أهل البلد.
حكم جعل صداق الكتابية تعليمها القرآن:
اتفق الفقهاء على حرمة أن يجعل مهر الكتابية تعليمها من التوراة أو الإنجيل،لأنه منسوخ مبدل محرم([60])، واختلفوا في جواز جعل تعليمها القرآن صداقا على قولين:
القول الأول: جواز ذلك إذا كان يتوقع إسلامها، وهوقول الشافعية، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى:{ وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ}(التوبة:6)
القول الثاني: عدم جواز ذلك وأن لها مهر المثل، وهو قول الحنابلة، واستدلوا على ذلك بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو) ([61])، وذلك مخافة أن تناله أيديهم فالتحفيظ أولى أن يمنع منه.
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الأول، مع مراعاة ما ذكرناه في الجزء السابق من حكم الزواج بالكتابيات، وهو اقتصاره على الضرورة والطمع في إسلامها، أو أن يكون زواجا مؤقتا.
وفي هذه الحالة نرى استحباب تعليمها القرآن الكريم سواء جعل ذلك مهرا أو لم يجعل، أما الاستدلال على النهي عن ذلك بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو)، فاستدلال غير صحيح، فقد علل ذلك بقوله صلى الله عليه وآله وسلم:(مخافة أن يناله العدو)، ويقصد بذلك انتهاك حرمته([62]).
ويوافق هذا أن الإجماع ورد على مفهوم هذا الحديث في حال الخوف على المصحف من الانتهاك، قال ابن عبد البر:(وأجمع الفقهاء أن لا يسافر بالقرآن إلى أرض العدو في السرايا والعسكر الصغير المخوف عليه) ([63])
أما في غير ذلك، وحال عدم الخوف فقد اختلفوا في جواز ذلك في العسكر الكبير المأمون عليه، فقال مالك: لا يسافر بالقرآن إلى أرض العدو، ولم يفرق بين العسكر الكبير والصغير، وقال أبو حنيفة: يكره أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو إلا في العسكر العظيم فإنه لا بأس بذلك.
ونرى أن المرأة التي اختارها زوجة، وتألفت بينهما عرى المودة والرحمة ليست جيش عدو يخاف عليها انتهاك حرمة المصحف، وليست دارهما بدار حرب، ولو كانت كذلك لمنع من إدخال المصحف إلى بيته.
ومن هذا الباب اختلاف الفقهاء في جواز تعليم الكافر القرآن، فمذهب أبي حنيفة أنه لا بأس بتعليم الحربي والذمي القرآن والفقه، وقال مالك: لا يعلمون القرآن ولا الكتاب، بل كره رقية أهل الكتاب، وعن الشافعي روايتان أحدهما الكراهة والأخرى الجواز.
ونرى في كلتا المسألتين قرب فقه أبي حنيفة من تحقيق الأمر بالجهاد بالقرآن الذي نص عليه في قوله تعالى: { فَلَا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا}(الفرقان:52) وقوله تعالى: { وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ}(التوبة:6)، لأن الغرض من تعليم القرآن وتحفيظه الدعوة إلى ماجاء به، وكيف يؤمن الحربي أو الذمي، أو الزوجة بالقرآن، والحجب تحول بينهم وبينه بحجة قوله تعالى: { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ }(التوبة:28)، أو قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(لا يمس القرآن إلا طاهر) أو أن من تنزيه القرآن وتعظيمه إبعاده عن الأقذار والنجاسات، وفي كونه عند أهل الكفر تعريض له لذلك وإهانة له.
ونرى أن كل هذه الفهوم والاستدلالات تخالف المقاصد الشرعية أولا، وتخالف النصوص الصريحة ثانيا، فقد كتب صلى الله عليه وآله وسلم إلى أهل الكتاب المحاربين لا الذميين بكتب فيها قرآن، وكان يكتب في صدر كتبه إلى أهل النواحي بسم الله الرحمن الرحيم، وقد قال ابن عبد البر:(فإن قال قائل أفيجوز أن يكتب المسلم إلى الكافر كتابا فيه آية من كتاب الله، قيل له: أما إذا دعي إلى الإسلام، أو كانت ضرورة إلى ذلك فلا بأس به) ([64])
ثم أورد حديث أبي سفيان في قصة هرقل وحديثه، وفيه: فقرأ كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإذا فيه:(بسم الله الرحمان الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فعليك إثم الأريسيين، و{ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}(آل عمران:64)والآية الصريحة المذكورة سابقا تنص على ذلك، قال القرطبي في تفسيرها:(وإن أحد من المشركين، أي من الذين أمرتك بقتالهم، {استجارك} أي سأل جوارك أي أمانك وذمامك،فأعطه إياه ليسمع القرآن، أي يفهم أحكامه وأوامره ونواهيه، فإن قبل أمرا فحسن، وإن أبى فرده إلى مأ منه وهذا ما لا خلاف فيه) ([65])
فإن كان هذا التصرف يجوز،بل نؤمر به مع كافر محارب، فكيف لا يجوز مع الزوجة، ولذلك لا نرى حرجا في عصرنا أن تطبع المصاحف بلغات العالم المختلفة لتنشر في جميع ديار الحرب والذمة، معربة ومترجمة، بل نرى وجوب ذلك لاقتضاء الدعوة هذا السبيل، ولانتفاء محاذير الإهانة، فلا يمكن أن ننشر دين الله، ونحن نستر كتابه في بيوتنا مخافة أن يدنس، وكيف يدنس، وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة يقرؤونه بملء أفواههم والأصنام تحيط بهم من كل النواحي.
حكم المهر المتقوم شرعا بمنفعة:
اختلف الفقهاء في جعل المنافع صداقا على قولين:
القول الأول: يجوز أن يكون المال المتقوم شرعا بمنفعة مهرا مطلقا، وهو قول الإمامية([66]) والشافعية والحنابلة، فيصح عندهم أن يتزوج الرجل المرأة على عمل معلوم كخياطة ثوب معين، وبناء دار وتعليم صنعة وغير ذلك من كل ما هو مباح، ويجوز أخذ الأجرة عليه،بل يصح (أن يصدقها تعليم علم معين من فقه وأدب كنحو وصرف وبيان ولغة ونحوها، وشعر مباح معلوم، ولو أنه يتعلمه ويعلمها، وكذا لو أصدقها تعليم صنعة أو كتابة أو خياطة ثوبها أو رد قنها من محل معين) ([67])، فإن تعلمت ما أصدقها تعليمه من غيره، أو تعذر عليه تعليمها، بأن أصدقها تعليم خياطة فتعذر، لزمته أجرة التعليم، لأنه لما تعذر الوفاء بالواجب وجب الرجوع إلى بدله.
فإن علمها ما أصدقها تعليمه ثم نسيت ما علمه إياها، فلا شيء عليه، لأنه قد وفاها، وإن لقنها الجميع، وكلما لقنها شيئا نسيته، لم يعتد بذلك تعليما، لأن العرف لا يعده تعليما، فإن ادعى الزوج أنه علمها، وادعت أن غيره علمها، فالقول قولها، لأن الأصل عدمه،وإن أتاها بغيره يعلمها،لم يلزمها قبوله، لأن المعلمين يختلفون في التعليم، وقد يكون لها غرض في التعليم منه لكونه زوجها.
فإن طلقها قبل الدخول، وقبل تعليمها، فعليه نصف الأجرة، أي نصف أجرة مثل تعليم ما أصدقها تعليمه، لأنها قد صارت أجنبية منه، فلا يؤمن في تعليمها الفتنة،وعليه بطلاقها قبل التعليم، وبعد الدخول كل الأجرة لاستقرار ما أصدقها بالدخول، وإن كان طلقها قبل الدخول بعد تعليمها رجع عليها بنصف الأجرة، لأن الطلاق قبل الدخول يوجب نصف الصداق، وبما أن الرجوع بنصف التعليم متعذر، فإنه يجب الرجوع إلى بدله وهو نصف الأجرة، ولو حصلت الفرقة من جهتها قبل الدخول، وبعد التعليم رجع عليها بالأجرة كاملة لتعذر الرجوع بالتعليم([68]).
وقد نص أصحاب هذا القول ـ كذلك ـ على أنه إن كانت المنفعة التي جعلها صداقا لها مجهولة،كرد آبقها أين كان، وخدمتها فيما شاءت شهرا لم يصح ذلك صداقا، لأنه عوض في عقد معاوضة، فلم يصح مجهولا كالثمن في البيع والأجرة في الإجارة.
ونصوا على أنه إن تلف الثوب قبل خياطته، فعليه أجرة المثل([69])، وإن عجز عن خياطته مع بقائه، فمات لمرض ونحوه، فعليه أن يقيم مقامه من يخيطه، وإن طلقها قبل خياطته وقبل الدخول فعليه خياطة نصفه، إن أمكن معرفة نصفه، وإلا فنصف الأجرة، إلى أن يبدل خياطة أكثر من نصفه، بحيث يعلم أنه قد خاط النصف يقينا([70]).
ومن أدلة أصحاب هذا القول:
- قوله تعالى حكاية عن شعيب مع موسى عليهما الصلاة والسلام: { قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَةَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّالِحِينَ}(القصص:27)
- أن منفعة الحر يجوز أخذ العوض عنها في الإجارة فجازت صداقا.
القول الثاني: عدم الجواز، وهو قول الحنفية، وقول عند المالكية([71])، وقد فرق الحنفية بين المنافع المتعلقة بالزوج كأن يصدقها خدمته وهو حر([72]) أو على تعليم القرآن، فلم يجيزوها، أما لو تزوجها على منافع سائر الأعيان من سكنى داره وركوب دابته والحمل عليها وزراعة أرضه ونحو ذلك من منافع الأعيان مدة معلومة صحت التسمية، لأن هذه المنافع أموال أو التحقت بالأموال شرعا في سائر العقود لمكان الحاجة، والحاجة في الزواج متحققة، وإمكان الدفع بالتسليم ثابت بتسليم محالها إذ ليس فيه استخدام المرأة زوجها فجعلت أموالا والتحقت بالأعيان فصحت تسميتها.
ومن الأدلة على ذلك:
- أن ما استدلوا به من قوله تعالى:{ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَةَ حِجَجٍ }(القصص:27) لا يصح الاستدلال به في هذا المقام، لأنه لم يشرط المنافع للمرأة، وإنما شرطها لشعيب u،وما شرط للأب لا يكون مهرا، ولو صح أنها كانت مشروطة لها، وأنه إنما أضافها إلى نفسه، لأنه هو المتولي للعقد، أو لأن مال الولد منسوب إلى الوالد، فهو منسوخ بالنهي عن الشغار، ثم إنه يجوز أن يكون هذا الزواج جائزا في تلك الشريعة بغير بدل تستحقه المرأة، وهو منسوخ بشريعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ([73]).
- أن ما جرى من شعيب uلم يكن ذكرا لصداق المرأة، وإنما اشتراطا لنفسه على ما يفعله الأعراب، فإنها تشترط صداق بناتها، وتقول لي كذا في خاصة نفسي وترك المهر مفوضا، وزواج التفويض جائز.
- أن خدمة الزوج الحر ليست بمال حقيقة، إذ لا تستحق فيه أي شيء، وإنما تصير مالا للضرورة والحاجة عند استحقاق عينها والانتفاع بها، فعند عدم استحقاق عينها لا ضرورة إليها، فلا تجعل مالا فصارت كالخمر ونحوها فيجب مهر المثل.
- أن المنافع ليست بأموال متقومة، ولهذا لم تكن مضمونة بالغصب والإتلاف، وإنما يثبت لها حكم التقوم في سائر العقود شرعا ضرورة، دفعا للحاجة بها، ولا يمكن دفع الحاجة بها ههنا، لأن الحاجة لا تندفع إلا بالتسليم.
- أن استخدام الحرة زوجها الحر حرام، لكونه استهانة وإذلالا، وهو لا يجوز، ولهذا لا يجوز للابن أن يستأجر أباه للخدمة، فلا تسلم خدمته لها شرعا، فلا يمكن دفع الحاجة بها، فلم يثبت لها التقوم فبقيت على الأصل، فصار كما لو سمى ما لا قيمة له كالخمر والخنزير.
- أن مبنى الزواج على الاشتراك في القيام بمصالح المعاش، فكان لها في خدمته حق، فإذا جعل خدمته لها مهرها، فكأنه جعل ما هو لها مهرها، فلم يجز كالأب إذا استأجر ابنه بخدمته، فإنه لا يجوز، لأن خدمة الأب مستحقة عليه.
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة هو أن العبرة في المهر بالتراضي، والتراضي عادة يكون موافقا للمصالح التي يطلبها كلا الطرفين، فلذلك لا يلزم الشرع طرفا من الأطراف بما لا يرضاه، ما دام في ذلك الرضا تحقيق مصلحة أو درء مفسدة.
ثم إن في الصنعة التي تكتسبها المرأة، أو العلم الذي تنتفع به، أو الخدمات التي يقدمها الزوج ما يفوق الأعيان نفسها، لأن مصير الأعيان إلى التلف أما تلك المنافع فقد تمتد معها طول عمرها، ولعل المرأة تكون مستغنية عن المال العيني لعدم حاجتها إليه أو لغناها، وتكون في نفس الوقت مفتقرة إلى شيء تتعلمه، أو خدمة تؤدى لها، فلماذا نحرمها من هذه الخدمة، وهي تعتقد أنها أصلح لها من المال العيني.
وما لنا نناقش الأمر عقليا، وقد صرحت النصوص التي لا كلام معها بجواز ذلك، فالآية صريحة في جواز جعل المنافع صداقا، أما القول بنسخ الآية، أو تخصيصها بشرع من قبلنا، فلا دليل عليه، ولو كان الأمر كذلك لنص عليه القرآن الكريم، فالسكوت عن البيان وقت الحاجة لا يجوز، أما ما ذكره بعضهم من أن ذلك من الحلوان الذي يأخذه الأب، فقد قال فيه ابن العربي:(هذا الذي تفعله الأعراب هو حلوان وزيادة على المهر، وهو حرام([74]) لا يليق بالأنبياء) ([75])
اتفق الفقهاء([76]) على أنه لا يعتبر مهرا ما لا يجوز تملكه كالخمر والخنزير، فلو تزوج المسلم المسلمة على ميتة أو دم أو خمر أو خنزير لم تصح التسمية، لأن الميتة والدم ليسا بمال في حق أحد، والخمر والخنزير ليسا بمال متقوم في حق المسلم فلا تصح تسمية ذلك مهرا، ولأجل هذا الشرط حرم زواج الشغار ؛ لأن كل واحد منهما جعل بضع كل واحدة منهما مهر الأخرى، والبضع ليس بمال ففسدت التسمية.
وقد اختلف الفقهاء فيما لو سمى في الزواج صداقا محرما، كالخمر والخنزير على قولين:
القول الأول: التسمية فاسدة، والزواج صحيح، وهو قول عامة الفقهاء، منهم الثوري، والأوزاعي، والشافعي، والحنفية، وهو قول الإمامية([77])، وحكي عن مالك([78]) أنه إن كان بعد الدخول، ثبت الزواج، وإن كان قبله، فسخ، واستدلوا على ذلك بما يلي:
- أنه عقد لا يفسد بجهالة العوض، فلا يفسد بتحريمه كالخلع.
- أن فساد العوض لا يزيد على عدمه، فإنه لو عدم المهر كان العقد صحيحا، فكذلك إذا فسد.
القول الثاني: الزواج فاسد، وهو رواية عند الحنابلة([79])، واستدلوا على ذلك بأنه زواج جعل الصداق فيه محرما، فأشبه زواج الشغار.
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الأول، لأن المهر جزء مكمل للزواج، وليس ركنا من أركانه، فلا يصح أن يفسد بسببه على أن ما روي عن الإمام أحمد في ذلك أظهر في الدلالة على الاستحباب منه على الوجوب، فقد سئل في رواية المروذي: إذا تزوج على غير طيب، فكرهه، فقلت: ترى استقبال النكاح، فأعجبه، قال ابن قدامة:(وكلام أحمد في رواية المروذي محمول على الاستحباب، فإن مسألة المروذي في المال الذي ليس بطيب، وذلك لا يفسد العقد بتسميته فيه اتفاقا) ([80])
ومع ذلك، فإن قول الإمام مالك له قيمته من حيث مراعاة المفاسد التي قد تنجر على التفريق بعد الدخول، فلذلك فرق بين الحالتين، وهو الصحيح، لأن الذي يقدم على تقديم مهر محرم، إما أن يكون فاسقا فاجرا، أو مستهينا بهذا العقد الجليل، فلذلك أفتى مالك بالفسخ قبل الدخول، أما بعد الدخول، فإن الصحيح هو تصحيح الفاسد بإعطاء مهر صحيح لا بالتفريق درءا لمفسدة التفريق.
الشرط الثالث ـ كون المهر معلوما
ويتحقق ذلك([81]) بأن يكون خالياً من الجهالة الفاحشة، وتكون الجهالة بالجنس والنوع([82])، مثل أن يسمى لها حيواناً أو بيتاً أو قنطاراً أو ثوباً، وقد اتفق الفقهاء على اشتراط ذكر الجنس والنوع، واختلفوا في ذكر الوصف على قولين:
القول الأول: لا تضر جهالة الوصف لأنها يسيرة لا تؤدي إلى الخلاف، وهو قول الحنفية والمالكية والحنابلة والإمامية([83]).
وهم يوجبون الوسط من الصفات لا الأعلى ولا الأدنى، ويخير الزوج بين دفع الوسط أو القيمة، لأن الوسط يعرف بالقيمة، ولأن مجهول الوصف لا يثبت في الذمة، بل الذي يثبت فيها هو القيمة، وحينئذ يكون الواجب هو الوسط باعتباره مذكوراً في العقد أو القيمة باعتبار ثبوتها في الذمة، ومن أدلتهم على ذلك:
- قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (العلائق ما تراضى عليه الأهلون) ([84])، وهذا قد تراضوا عليه.
- أنه لو فسدت التسمية بجهالة الوصف وجب مهر المثل، وجهالة التسمية أقل من جهالة مهر المثل، لأنه يعتبر بنسائها ممن يساويها في صفاتها وبلدها وزمانها ونسبها.
- أن المال غير مقصود في عقد الزواج، لأنه يتساهل فيه بخلاف المعاوضات المالية لأنها مبنية على المساومة فجهالة الوصف فيها مفضية إلى النزاع.
القول الثاني: أن جهالة الوصف تفسد التسمية، فلو سمى لها قنطاراً من القطن وبين نوعه ولم يبين درجة جودته فإن التسمية تكون فاسدة ويجب مهر المثل، وهو مذهب الشافعية، واستدلوا على ذلك بالقياس على المعاوضات المالية.
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة هو أن الأولى والأورع والأحوط تحديد الجنس والنوع والصفة سواء في المنافع أو الأعيان درءا للخلاف الذي قد يحدث بسبب الجهل بأحد هذه الأمور.
أما القول بأن الجهل بالصفة لا يضر، فإن ذلك لا يصدق على عصرنا الذي أعطيت فيه النوعية قيمة كبرى، بسبب تنافس الشركات فيما بينها، حتى أصبح الشيء الواحد يباع بأسعار مختلفة اختلافا فاحشا، قد يكون أضعافا مضاعفة بسبب نوعيته أو علامته المسجلة، ولهذا نرى الأرجح تحديد الوصف بدقة في الأمور التي تحتاج إلى وصف، أو ترك ذلك للعرف، إن كان في العرف تحديد لذلك، فإن حصل الخلاف حكم لها بمهر أمثالها.
الشرط الرابع ـ ألا يقل المهر عن الحد المقدر له شرعا
ويتعلق بهذا الشرط المسائل التالية:
اختلف الفقهاء في الحد الأدنى للمقدار الذي يصلح مهرا على قولين([85]):
القول الأول: أن المهر غير مقدر بمقدار شرعي، فلذلك يستوي فيه القليل والكثير، وهو قول الحسن وسعيد بن المسيب وابن أبي ليلى وعطاء، وعمرو بن دينار، وابن أبي ليلى، والثوري، والأوزاعي، والليث، والشافعي، وإسحاق، وأبي ثور، وداود والطبري وابن حزم، وهو قول الإمامية، ومن الأدلة على ذلك:
- أن تقدير المقادير يحتاج إلى الدلالة الشرعية، ولم ترد النصوص التي تحدد ذلك، بل وردت النصوص عامة بطلب المهر دون تحديده، كقوله تعالى: { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ }(النساء: 24)، فإنه يدخل فيه القليل والكثير.
- قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم للذي زوجه: (هل عندك من شيء تصدقها؟ قال: لا أجد، قال: التمس، ولو خاتما من حديد)([86])
- عن عامر بن ربيعة، أن امرأة من بني فزارة، تزوجت على نعلين، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أرضيت من نفسك ومالك بنعلين؟ قالت: نعم، فأجازه([87]).
- قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لو أن رجلا أعطى امرأة صداقا ملء يده طعاما، كانت له حلالا)([88])
- عن جابر، قال: (كنا ننكح على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على القبضة من الطعام)([89])
- قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أدوا العلائق قيل: وما العلائق يا رسول الله؟ قال ما تراضى به الأهلون) ([90])، قال الشافعي: ولا يقع اسم علق إلا على شيء مما يتمول وإن قل ولا يقع اسم مال ولا علق إلا على ما له قيمة يتبايع بها، ويكون إذا استهلكها مستهلك أدى قيمتها)([91])
- عن أنس، أنه قال: تزوج عبد الرحمن بن عوف امرأة على وزن نواة من ذهب([92])، وكان ذلك بمحضر من الصحابة، فدل أن التقدير في المهر ليس بلازم.
- أن دعوى أن هذه الأحاديث مختصة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم أو أنها منسوخة أو أن أهل المدينة على خلافها فدعوى لا يقوم عليها دليل والأصل يردها.
- أن الصداق شرع في الأصل حقا للمرأة تنتفع به، فإن رضيت بالعلم والدين وإسلام الزوج وقراءته للقرآن، كان هذا من أفضل المهور وأجلها، وقد حصل لها انتفاع بذلك، وهذا هو الذي اختارته أم سليم من بإسلام أبي طلحة وبذلها نفسها له إن أسلم وهذا أحب إليها من المال.
- أن المهر ثبت حقا للعبد وهو حق المرأة بدليل أنها تملك التصرف فيه استيفاء وإسقاطا، فكان التقدير فيه إلى العاقدين.
- أن المهر بدل منفعتها، فجاز ما تراضيا عليه من المال، كالعشرة وكالأجرة.
القول الثاني: أن له حدا أدنى، وهو قول سعيد بن جبير، والنخعي، وابن شبرمة، ومالك وأبي حنيفة، واستدلوا على ذلك بما يلي:
- قوله تعالى: { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ }(النساء: 24)، فشرط تعالى أن يكون المهر مالا، والحبة والدانق ونحوهما لا يعدان مالا فلا يصلحان مهرا.
- أن المهر فيه حق للشرع قصد به إبانة خطر البضع صيانة له عن شبهة الابتذال بإيجاب مال له خطر في الشرع كما في نصاب السرقة.
وقد اختلفوا في تحديد المقدار الأدنى للمهر في قيمة المقدار على الأقوال التالية([93]):
الأول: أن أدناه عشرة دراهم أو ما قيمته عشرة دراهم، وهو قول الحنفية، واستدلوا على ذلك بما يلي:
- قياس الصداق على قطع اليد، واليد عند أبي حنيفة، لا تقطع إلا في دينار ذهبا أو عشرة دراهم كيلا، ولا صداق عنده أقل من ذلك، وعلى ذلك جماعة أصحابه وأهل مذهبه، وهو قول أكثر أهل بلده في قطع اليد لا في أقل الصداق.
- عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (لا مهر دون عشرة دراهم) ([94])
الثاني: أن المقدار الأدنى هو ربع دينار، أو ثلاثة دراهم، وهو قول المالكية، قال مالك في الموطأ: (لا أرى أن تنكح المرأة بأقل من ربع دينار، وذلك أدنى ما يجب به القطع) واستدلوا على ذلك كما قال مالك بأدنى ما يجب به القطع، فمن نكح بأقل من أقله أتم الباقي وإلا فسخ قبل الدخول، وإن دخل أتمه جبرا. ([95])
وقد علل بعض المالكية سبب اختيار مالك أدنى ما يجب به القطع حدا أدنى للمهر بقوله ـ كما حكاه عنه القرطبي ـ:(وكان أشبه الأشياء بذلك قطع اليد، لأن البضع عضو، واليد عضو يستباح بمقدر من المال، وذلك ربع دينار أو ثلاثة دراهم كيلا فرد مالك البضع إليه قياسا على اليد) ([96])
وقد كان اختيار مالك لهذه العلة سببا لعتاب الفقهاء من أصحابه وغيرهم عليه، واعتبروه في ذلك متأثرا بأبي حنيفة، قال الدراوردي لمالك إذ قال لا صداق أقل من ربع دينار: تعرقت فيها يا أبا عبدالله، أي سلكت فيها سبيل أهل العراق، وقال ابن عبد البر: قد تقدمه إلى هذا أبو حنيفة فقاس الصداق على قطع اليد.
الثالث: أن أقله خمسون درهما، وهو قول سعيد بن جبير.
الرابع: أن أقله أربعون درهما، وهو قول النخعي، وربما يكون مقصده من ذلك أن يكون المال له قيمة، وليس تحديد الأربعين، فقد روي عنه قوله:(أكره أن يكون مثل مهر البغي، ولكن العشرة والعشرون) ([97])
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة انطلاقا مما سبق ذكره أن الأساس في المهر هو التراضي بين الطرفين، فلذلك لم تحدد النصوص الشرعية قيمة بعينها، بل رغبت عموما في التيسير في المهر، كما سنرى الأدلة على ذلك في حينها، ولهذا ذهب أكثر المحققين من المالكية وغيرهم إلى هذا، قال القرطبي: (واختلف من قال بذلك في قدر ذلك فتعلق الشافعي بعموم قوله تعالى:{ بِأَمْوَالِكُمْ } (النساء: 24)، في جواز الصداق بقليل وكثير، وهو الصحيح)، ثم قال:(وهذا قول جمهور أهل العلم، وجماعة أهل الحديث من أهل المدينة وغيرها، كلهم أجازوا الصداق بقليل المال وكثيره، وهو قول عبدالله بن وهب صاحب مالك، واختاره ابن المنذر وغيره، قال سعيد بن المسيب: لو أصدقها سوطا حلت به) ([98])
وقد اعتبر ابن القيم القول بتحديد الحد الأدنى للمهر من رد السنة الصحيحة الثابتة بالفهوم الخاصة والآثار الضعيفة والقياس الفاسد، فقال:(رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في جواز الزواج بما قل من المهر ولو خاتما من حديد مع موافقتها لعموم القرآن في قوله تعالى: { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ }(النساء: 24)، وللقياس في جواز التراضي بالمعاوضة على القليل والكثير، بأثر لا يثبت، وقياس من أفسد القياس على قطع يد السارق، وأين النكاح من اللصوصية؟ وأين استباحة الفرج به من قطع اليد في السرقة؟)([99])
اتفق الفقهاء على أنه لا حد لأكثر الصداق، واستدلوا على ذلك بما يلي:
- قوله تعالى:{ وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا([100])فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}(النساء:20)، قال القرطبي: الآية دليل على جواز المغالاة في المهور لأن الله تعالى لا يمثل إلا بمباح([101]).
- قال عمر بن الخطاب على المنبر: (ألا لا تغالوا في صدقات النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا وتقوى عند الله لكان أولاكم بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ما أصدق قط امرأة من نسائه ولا من بناته فوق اثنتي عشرة أوقية)، فقامت إليه امرأة فقالت: يا عمر، يعطينا الله وتحرمنا أنت؟ أليس الله تعالى يقول: { وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا } (النساء:20) فقال عمر: (امرأة أصابت وأمير أخطأ) ([102]).
- أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لرجل أترضى أن أزوجك فلانة، قال: نعم وقال للمرأة: أترضين أن أزوجك فلانا قالت: نعم،فزوج أحدهما صاحبه ولم يفرض لها صداقا، ولم يعطها شيئا، وكان ممن شهد الحديبية، وله سهم بخيبر، فلما حضرته الوفاة قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زوجني فلانة، ولم أفرض لها صداقا، ولم أعطها شيئا، وإني أشهدكم أني أعطيتها صداقها سهمي بخيبر، فأخذت سهما فباعته بمائة ألف، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(خير الصداق أيسره)([103])
اتفق الفقهاء([104]) على سنية تحفيف المهر وكراهية المغالاة فيه، ومن الأدلة على ذلك:
- قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن أعظم النساء بركة أيسرهن مئونة) ([105])، وقد علل بعض العلماء ذلك بأن المرأة إذا قنعت بالقليل من الحلال عن الشهوات وزينة الحياة الدنيا، فخفت عنه كلفتها، ولم يلتجىء بسببها إلى ما فيه حرمة أو شبهة، فيستريح قلبه وبدنه من التعنت والتكلف، فتعظم البركة لذلك([106])، وقد ورد روايات أخرى للحديث تؤكد هذا المعنى، وتفصله، وهي كما أوردها صاحب كشف الخفاء: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (خيرهن أيسرهن صداقا) ([107])، وفي رواية:(إن من يمن المرأة تيسير خطبتها، وتيسير صداقها، وتيسير رحمها) ([108])، وفي رواية:(من يمن المرأة تسهيل أمرها وقلة صداقها) ([109]).
- قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (خير النكاح أيسره ([110])) ([111])
- عن ابن أبي حدرد الأسلمي أنه أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يستفتيه في مهر امرأة، فقال: كم أمهرتها؟ قال: مائتي درهم، فقال: لو كنتم تغرفون من بطحان([112]) ما زدتم([113]).
- ورود الآثار في ذلك عن السلف، ومنها قول عمر السابق: ألا لا تغالوا في مهور النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله كان أولاكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ما أصدق امرأة من نسائه ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية، وقال عروة: أول شؤم المرأة كثرة صداقها، وفي أثر آخر: تياسروا في الصداق، إن الرجل ليعطي المرأة حتى يبقى ذلك في نفسه عليها حسيكة.
وقد ذكر الفقهاء من مستحبات الصداق أن لا يزيد أكثره مع القدرة واليسار على مهر أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا بناته، وكان ما بين أربعمائة إلى خمسمائة بالدراهم الخالصة، وذلك نحو تسعة عشر دينارا، قال ابن تيمية:(فهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من فعل ذلك فقد استن بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الصداق.. فمن دعته نفسه إلى أن يزيد صداق ابنته على صداق بنات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اللواتي هن خير خلق الله في كل فضيلة، وهن أفضل نساء العالمين في كل صفة، فهو جاهل أحمق، وكذلك صداق أمهات المؤمنين، وهذا مع القدرة واليسار، فأما الفقر ونحوه فلا ينبغي له أن يصدق المرأة إلا ما يقدر على وفائه من غير مشقة) ([114])
وقد ذهب الكثير من علماء الإمامية إلى وجوب رد المهر الكثير إلى السنة، فقد ذكر الشريف المرتضى أنّ (مما انفردت به الإمامية أنّه لا يتجاوز بالمهر خمسمئة درهم جياداً، قيمتها خمسون ديناراً، فما زاد على ذلك ردّ إلى هذه السنّة)([115])
ومثله كل فقهاء الإمامية الذين تشددوا في الاحتراس من تجاوز المهر لـ (500) درهم، والشريف المرتضى يستـند إلى إجماع المذهب لإثبات عدم جواز ما زاد عن (500) درهم.
لكن الشيخ جعفر السبحاني يرى غير ذلك، وأن الروايات في ذلك لا تعني التحديد، قال ـ بعد ذكره للأقوال في المسألة: (وعلي کل تقدير، فهذا القول مخالف لظاهر الکتاب والسنّة، قال سبحانه: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا }(النساء:20) وفسر القنطار بوجوه مختلفة يجمعها زيادته علي مهر السنّة کثيرا)([116])
وقد نص الفقهاء على حرمة من لم يتوصل إلى أداء المهر إلا بمسألة أو غيرها من الوجوه المحرمة، فأما إن كثر وهو مؤخر في ذمته، فيكره لما فيه من تعريض نفسه لشغل الذمة، ومن الأدلة على ذلك:
- روي أنه جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إني تزوجت امرأة من الأنصار. فقال: على كم تزوجتها؟ قال: على أربع أوراق. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: على أربع أوراق فكأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل، ما عندنا ما نعطيك؛ ولكن عسى أن نبعثك في بعث تصيب منه قال: فبعث بعثا إلى بني عبس فبعث ذلك الرجل فيهم([117])، والأوقية هي أربعون درهما، وهي مجموع الصداق، ليس فيه مقدم ومؤخر.
- أن المهر إذا كان قليلا لم يستصعب الزواج من يريده، فيكثر الزواج المرغب فيه ويقدر عليه الفقراء، ويكثر النسل الذي هو أهم مطالب الزواج، بخلاف ما إذا كان المهر كثيرا فإنه لا يتمكن منه إلا أرباب الأموال، فيكون الفقراء الذين هم الأكثر في الغالب غير مزوجين فلا تحصل المكاثرة التي أرشد إليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ([118])
ونص العلماء على الكراهية الشديدة بل الحرمة فيما يفعله بعض الناس، من أهل الجفاء والخيلاء والرياء من تكثير المهر للرياء والفخر، وهم لا يقصدون أخذه من الزوج، وهو ينوي أن لا يعطيهم إياه، وإنما غرضهم من ذلك الفخر والخيلاء، وقد أشار ابن تيمية إلى هذه الظاهرة في عصره، وحكم عليها بقوله: (منكر قبيح، مخالف للسنة، خارج عن الشريعة، وإن قصد الزوج أن يؤديه وهو في الغالب لا يطيقه فقد حمل نفسه، وشغل ذمته، وتعرض لنقص حسناته، وارتهانه بالدين، وأهل المرأة قد آذوا صهرهم وضروه) ([119])، وأخطر ما ينتج عن مثل هذا السلوك اللاأخلاقي أن ينتشر التغالي في المهور، بحجة أن فلانا من الناس قدم من المهر كذا وكذا، فيكون بذلك قد سن سنة سيئة في المسلمين، وآذاهم من حيث يشعر أو لا يشعر.
اختلف الفقهاء في من تزوج المرأة في السر بمهر، ثم يعقد عليها في العلانية بمهر آخر، في أيهما يطالب، على قولين([120]):
القول الأول: أنه يؤخذ بالعلانية، وهو قول الشعبي، وابن أبي ليلى، والثوري والشافعي، وهو ظاهر قول أحمد([121]) في رواية الأثرم، وهو رواية عن أبي حنيفة، واستدلوا على ذلك بما يلي:
- أن المرأة لم تقر بزواج السر فثبت مهر العلانية.
- أن المهر هو المذكور في العقد، لأنه اسم لما يملك به البضع، والذي يملك به البضع هو المذكور في العقد وأنه يصلح أن يكون مهرا، لأنه مال معلوم فتصح تسميته ويصير مهرا ولا تعتبر المواضعة السابقة.
القول الثاني: أن الواجب هو المهر الذي انعقد به الزواج سرا كان أو علانية، وهو قول شريح، والحسن، والزهري، والحكم بن عتيبة، ومالك، وإسحاق،وهو ظاهر الرواية عن أبي حنيفة، وهو قول أبي يوسف ومحمد، وهو قول الإمامية([122])، وقد استدلوا على ذلك بأن الزيادة منهما كانت من باب السمعة، فقد هزلا بذلك حيث لم يقصدا به مهرا، والمهر مما يدخله الجد والهزل، ففسدت تسميته وبقي العقد على ما اتفقا عليه.
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الثاني، خاصة إذا كان هدفهما من ذلك صالحا، كأن يكون الرجل غنيا، أو المرأة طالبت للحاجة بسبب غناه مهرا غاليا، وخشيا أن يؤثر ذلك في انتشار المغالاة في المهور، فإن هذه النية الطيبة تخول التفريق بين مهر السر ومهر العلانية، ومثله ـ ولكنه أدنى منه، وأقرب إلى الكراهة ـ ما لو طالبت المرأة بمهر مثلها في العلانية، وطالبت بما دونه في السر، والمحرم ما ذكرنا سابقا من التغالي في مهور العلانية من باب الفخر والخيلاء.
اختلف الفقهاء فيما إذا اختلف الزوج والزوجة في القدر المتفق عليه في الصداق بعد العقد، ولا بينة لأحد منهما على قولين:
القول الأول: أن القول قول من يدعي مهر المثل منهما، فإن ادعت المرأة مهر مثلها أو أقل، فالقول قولها([123])، وإن ادعى الزوج مهر المثل أو أكثر، فالقول قوله، وهو قول الحنفية، ورواية عن الحنابلة، وروي عن الحسن والنخعي، وحماد بن أبي سليمان، وأبي عبيد نحوه، واستدلوا على ذلك بما يلي:
- أن الظاهر قول من يدعي مهر المثل، فكان القول قوله، قياسا على المنكر في سائر الدعاوى، وعلى المودع إذا ادعى التلف أو الرد.
- أنه عقد لا ينفسخ بالتحالف فلا يشرع فيه كالعفو عن دم العمد.
- أن القول بالتحالف ـ وهو القول الثالث ـ يفضي إلى إيجاب أكثر مما يدعيه أو أقل مما يقر لها به، فلو كان مهر مثلها مثلا مائة فادعت ثمانين، وقال: بل هو خمسون أوجب لها عشرين يتفقان على أنها غير واجبة، ولو ادعت مائتين، وقال: بل هو مائة وخمسون ومهر مثلها مائة، فأوجب مائة لأسقط خمسين يتفقان على وجوبها.
- أن مهر المثل إن لم يوافق دعوى أحدهما، لم يجز إيجابه، لاتفاقهما على أنه غير ما أوجبه العقد، وإن وافق قول أحدهما، فلا حاجة في إيجابه إلى يمين من ينفيه، لأنها لا تؤثر في إيجابه، وفارق البيع، فإنه ينفسخ بالتحالف، ويرجع كل واحد منهما في ماله.
القول الثاني: أن القول قول الزوج بكل حال، وهو قول الشعبي، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وأبي ثور، ورواية عند الحنابلة، وبه قال أبو يوسف، إلا أن يدعي مهرا لا يتزوج بمثله في العادة، لأنه منكر للزيادة، ومدعى عليه، فيدخل تحت قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(ولكن اليمين على المدعى عليه) ([124])
القول الثالث: يتحالفان، فإن حلف أحدهما ونكل الآخر، ثبت ما قاله، وإن حلفا وجب مهر المثل، وهو قول الشافعي والثوري، وقريب منه قول الإمامية([125])، واستدلوا على ذلك بأنهما اختلفا في العوض المستحق في العقد، ولا بينة، فيتحالفان قياسا على المتبايعين إذا اختلفا في الثمن.
القول الرابع: إن كان الاختلاف قبل الدخول، تحالفا وفسخ الزواج، وإن كان بعده فالقول قول الزوج، وهو قول المالكية واستدلوا على ذلك بما يلي:
- القياس على البيع، فإنه يفرق في التحالف فيه بين ما قبل القبض وبعده.
- أنها إذا أسلمت نفسها بغير إشهاد، فقد رضيت بأمانته.
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة هو أن هذه المسألة من المسائل القضائية، والقاضي يحكم فيها بعد التحري بما يتناسب مع أحوال كل من الزوجين بعد محاولة التعرف عليهما، ومدى صدق كل منهما، ويمكنه لذلك أن يضع حلا وسطا يرضي الجميع، ويمكنه أن يفصل بينهما بناء على ما يتفرسه منهما ما دامت له أهلية ذلك.
وهذا الرأي هو الذي نعتمده في كل المسائل القضائية، لأن القاضي يحكم بضوابط الشريعة، ثم يترك له بعدها المجال واسعا للتحري والتحقيق، ولا يصح أن نصف له وصفا واحدا لكيفية التحقيق مع مجتمع مختلف متناقض من الناس.
الاختلاف في كون المدفوع مهرا أو هدية:
اختلف الفقهاء في اعتبار المدفوع صداقا أو هبة في حال اختلاف الزوجين، بأن قال الزوج: دفعتها إليك صداقا، وقالت الزوجة: بل هبة، ومن الأقوال في المسألة:
القول الأول: اعتبارالنية واللفظ، وهو قول الحنابلة، ولذلك نظروا إلى المسألة على الاعتبارين التالين([126]):
اختلافهما في نيته:كأن قالت: قصدت الهبة. وقال: قصدت دفع الصداق، فالقول قول الزوج بلا يمين، لأنه أعلم بما نواه، ولا تطلع المرأة على نيته.
اختلفاهما في لفظه: كأن قالت: قد قلت خذي هذا هبة أو هدية، فأنكر ذلك، فالقول قوله مع يمينه، لأنها تدعي عقدا على ملكه، وهو ينكره، فأشبه ما لو ادعت عليه بيع ملكه لها.
واستدلوا على هذا الاعتبار بأنهما اختلفا في صفة انتقال ملكه إلى يدها، فكان القول قول المالك، كما لو قال: أودعتك هذه العين. قالت: بل وهبتها.
وقريب منه قول الإمامية، قال الشيخ الطوسي: (و إن اختلفا فقالت: قلت لي: خذي هذه هدية أو قالت هبة، وقال: بل قلت خذيها مهرا، فالقول قول الزوج بکلّ حال)([127])، وعلق عليه السبحاني بقوله: (و على کلّ تقدير فإنّما يقدّم قول الزوج لو لم تکن هناک قرينة دالّة علي کونه هدية، کالمقنعة والجورب بل الخاتم أحيانا، فإنّ الظاهر المفيد للاطمئنان في هذه الموارد موجب لتقدّم قولها علي ادّعاء الزوج) ([128])
القول الثاني: اعتبار العرف، وهو قول المالكية، فإن كان المدفوع مما جرت العادة بهديته، كالثوب والخاتم، فالقول قولها، لأن الظاهر معها، وإلا فالقول قوله([129]).
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة في حال إقرار الزوجة بعدم تلفظ الزوج أن القول قوله، لأن القصد المجرد لا يطلع عليه غير صاحبه، أما فيما عدا ذلك فهي مسألة قضائية، ويمكن حلها ـ كما اقترح المالكية ـ باعتبار العرف، أو باعتبار ما ذكره الشيخ السبحاني من النظر في قيمة المختلف فيه، فالهدية عادة تكون أدنى قيمة من المهر.
اتفق الفقهاء([130]) على أنه إذا وجب المهر وعلم، فلا بأس أن يقع فيه التراضي بعد ذلك بين الرجال والنساء في تركه كله أو بعضه، أو الزيادة عليه، سواء كان ذلك بين المرأة والرجل إذا كانا مالكين أمرهما أو إلى الولي إن كان منهما من لا يملك أمر نفسه، واستدلوا على ذلك بما يلي:
- قوله تعالى:{ وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}(البقرة:237)، قال القرطبي:والعافيات في هذه الآية كل امرأة تملك أمر نفسها، فأذن الله تعالى لهن في إسقاطه بعد وجوبه، إذ جعله خالص حقهن، فيتصرفن فيه بالإمضاء والإسقاط كيف شئن إذا ملكن أمر أنفسهن، وكن بالغات عاقلات راشدات([131]).
- قوله تعالى:{ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} (النساء:24)، فقد رفعت الآية الجناح فيما تراضى به الزوجان بعد الفريضة وهو التسمية، وذلك هو الزيادة في المهر أوالحط منه.
نص الفقهاء على أنه يجوز للمرأة أن تهب مهرها لزوجها الذي دخل بها أو لم يدخل، وليس لأحد من أوليائها الاعتراض عليها، سواء كان أبا أو غيره، ومن الأدلة على ذلك:
- قوله تعالى: { فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا}(النساء:4)
- أنها وهبت خالص ملكها وليس لأحد في عين المهر حق.
اتفق الفقهاء على أنه ليس للأب أن يهب مهر ابنته([132])، ومن الأدلة على ذلك:
- قوله تعالى: { فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا}(النساء:4)، فقد علق تعالى الإباحة بطيب أنفسهن، فدل ذلك كله على أن مهرها ملكها وحقها، وليس لأحد أن يهب ملك الإنسان بغير إذنه.
- قوله تعالى: { وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً }(النساء: 4)، أضاف المهر إليها، فدل أن المهر حقها وملكها.
- أن المهر ملك المرأة وحقها، لأنه بدل بضعها، وبضعها حقها وملكها.
قسم الفقهاء المهر بحسب تحديد المهر وعدم تحديده إلى ثلاثة أنواع نعرض لهما في هذا المبحث، ونتعرض للأنواع الأخرى المتعلقة بالتسليم وعدمه في المبحث الرابع.
وهو الذي يتفق عليه الزوجان أو وليهما، سواء ذكر في العقد أو لم يذكر، وسواء كان الاتفاق عليه قبل العقد أو عنده أو بعده، فإنه إذا حصل الاتفاق بينهما على مقدار معين كمهر، ثبت استحقاق المرأة له بكامله بعد الدخول، أما إذا طلقها قبل الدخول فإنها تستحق نصف المهر المتفق عليه، إلا أن تتنازل عنه، أو يتنازل عنه وليها، والذي يجب أن يراعي مصلحتها في أصل العفو ومقداره.
وقد عرفته مجلة الأحكام العدلية بأنه: المهر المسمى للزوجة حين عقد النكاح، ويكون معجلا ومؤجلا([133]).
وقد ذكر الفقهاء لوجوبه الأسباب التالية:
اتفق الفقهاء على أنه مما يترتب على العقد الصحبح وجوب المهر المسمى للزوجة، ومن الأدلة على ذلك:
- قال تعالى: { وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً }(النساء: 4)
- أنه إحداث الملك، والمهر يجب بمقابلة إحداث الملك.
- أنه عقد معاوضة، على القول بذلك، وهو معاوضة البضع بالمهر فيقتضي وجوب العوض كالبيع.
واختلفوا هل تستحق المرأة المهر كاملا بمجرد العقد أم أنها تستحق نصفه فقط على قولين:
القول الأول: إذا أصدقها صداقا ملکته بالعقد، وکان من ضمانه إن تلف قبل القبض، ومن ضمانها إن تلف بعد القبض. فإن دخل بها استقرّ، وإن طلّقها قبل الدخول بها رجع بنصف المهر المعيّن دون نمائه. وبه قال أبو حنيفة، وأصحابه، والشافعي وهو قول الإمامية، ومن الأدلة التي استدلوا بها على ذلك قوله تعالى: { وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً }(النساء: 4)، ففيه دلالة من وجهين([134]):
أحدهما: أنّه أضاف الصدقات إليهن، والظاهر أنّه لهنّ، ولم يفرق بين قبل الدخول وبعده.
والثاني: أنّه لمّا أمر بايتائهنّ ذلک کلّه، ثبت أنّ الکل لهنّ.
القول الثاني: لا تملك المرأة بالعقد إلا نصف المهر، فيکون الصداق بينهما نصفين، فإذا قبضته کان لها نصفه بالملک، والآخر أمانة في يدها لزوجها. فإن هلک من غير تفريط هلک منهما. فإن طلّقها قبل الدخول کان له أخذ النصف، لأنّه ملکه لم يزل عنه، وهو قول المالكية.
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة القول الأول بناء على أن الأصل هو أن استحقاق المرأة للمرأة بسبب موافقتها على الزواج والذي يتم بمجرد الإيجاب والقبول، أما التطليق قبل الدخول فمسألة طارئة، وهي لا تخرق الأصل، ولهذا إذا توفي عنها قبل الدخول استلمت المهر كاملا كما سنرى.
لا خلاف بين الفقهاء في أن من سمى مهرا لزوجته قبل الدخول لزمه بالدخول، لأنه تحقق به تسليم المبدل، وإن طلقها قبل الدخول لزمه نصفه، لقوله تعالى: { وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ }(البقرة: 237)
اختلف الفقهاء في تأثير الخلوة في استحقاق الزوجة المهر كاملا على قولين([135]):
القول الأول: إن الخلوة بين الزوجين البالغين المسلمين وراء ستر أو باب مغلق يوجب المهر والعدة، وهو قديم قولي الشافعي، وهو قول الحنفية([136])، واستدلوا على ذلك بما يلي:
- قوله تعالى: { وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا}(النساء:20، 21) فقد نهى تعالى في هذه الآية الزوج عن أخذ شيء مما ساق إليها من المهر عند الطلاق، وعلل النهي بوجود الإفضاء، وهو الخلوة دخل بها أو لم يدخل، ومأخذ اللفظ دليل على أن المراد منه الخلوة الصحيحة، لأن الإفضاء مأخوذ من الفضاء من الأرض، وهو الموضع الذي لا نبات فيه، ولا بناء، ولا حاجز يمنع عن إدراك ما فيه، فكان المراد منه الخلوة على هذا الوجه، وهي التي لا حائل فيها ولا مانع من الاستمتاع عملا بمقتضى اللفظ، فظاهر النص يقتضي أن لا يسقط شيء منه بالطلاق.
- قوله تعالى:{ وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً }(النساء: 4) فأوجب إيفاء الجميع، فلا يجوز إسقاط شيء منه إلا بدليل.
- قوله تعالى:{ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (النساء:25)، وقوله تعالى { فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} (النساء: 24)، يعني مهورهن، وظاهره يقتضي وجوب الإيتاء في جميع الأحوال إلا ما قام دليله.
- قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(من كشف خمار امرأة ونظر إليها وجب الصداق دخل بها أو لم يدخل) ([137])
- أنها لو حملت بعد تلك الخلوة لحق به الولد، وقد روي أن الحارث بن الحكم تزوج امرأة، فأغلق عليها الباب، ثم خرج فطلقها، وقال: لم أطأها، وقالت المرأة: قد وطئني، فاختصموا إلى مروان، فدعا زيد بن ثابت، فقال: كيف ترى، فإن الحارث عندنا مصدق، فقال زيد: أكنت راجمها لو حبلت قال: لا قال: فكذلك تصدق المرأة في مثل هذا.
- أن المهر متى صار ملكا لها بنفس العقد، فالملك الثابت لها لا يجوز أن يزول إلا بإزالة المالك، أو بعجزه عن الانتفاع بالمملوك حقيقة، إما لمعنى يرجع إلى المالك، أو لمعنى يرجع إلى المحل، ولم يوجد شيء من ذلك، فلا يزول إلا عند الطلاق قبل الدخول، وقبل الخلوة سقط النصف بإسقاط الشرع، وهو غير معقول المعنى إلا بالطلاق، لأن الطلاق فعل الزوج، والمهر ملكها، والإنسان لا يملك إسقاط حق الغير عن نفسه.
- أنها سلمت المبدل إلى زوجها فيجب على زوجها تسليم البدل إليها، كما في البيع والإجارة، والدليل على أنها سلمت المبدل أن المبدل هو ما يستوفى بالوطء، وهو المنافع، إلا أن المنافع قبل الاستيفاء معدومة، فلا يتصور تسليمها لكن لها محل موجود وهو العين، وأنها متصور التسليم حقيقة،فيقام تسليم العين مقام تسليم المنفعة، كما في الإجارة، وقد وجد تسليم المحل.
- أن التسليم هو جعل الشيء سالما للمسلم إليه، وذلك برفع الموانع، وقد وجد، لأن الكلام في الخلوة الصحيحة، وهي عبارة عن التمكن من الانتفاع، ولا يتحقق التمكن إلا بعد ارتفاع الموانع كلها، فثبت أنه وجد منها تسليم المبدل، فيجب على الزوج تسليم البدل، لأن هذا عقد معاوضة وأنه يقتضي تسليما بإزاء التسليم كما يقتضي ملكا بإزاء ملك تحقيقا بحكم المعاوضة.
- أن المستحق من قبلها هو التسليم، ووقوع الوطء إنما هو من قبل الزوج، فعجزه وامتناعه لا يمنع من صحة استحقاق المهر، ولذلك قال عمر في المخلو بها:(لها المهر كامل،ا ما ذنبهن إن جاء العجز من قبلكم)، ومثله ما لو استأجر دار أو خلى بينها وبينه استحق الأجر لوجود التسليم، فكذلك الخلوة في الزواج.
- أن الاستدلال بأن مجرد الخلوة لا يحلها لزوجها الأول خطأ،لأن التسليم إنما هو علة لاستحقاق كمال المهر، وليس بعلة لإحلالها للزوج الأول، فالزوج لو مات عنها قبل الدخول استحقت كمال المهر، وكان الموت بمنزلة الدخول، ومع ذلك لا يحلها ذلك للزوج الأول.
- أن قوله تعالى:{ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ }(البقرة:237) الذي استدل به المخالفون لا يصح استدلالهم به من الوجهين التاليين:
الوجه الأول: أن الصحابة اختلفوا فيه، فتأوله علي وعمر وابن عباس وزيد وابن عمر على الخلوة، وهذا التأويل إلا أن يكون مصدره اللغة أو أنه اسم له في الشرع، فإن كان مصدر ذلك اللغة، فهم حجة فيها لأنهم أعلم باللغة ممن جاء بعدهم، وإن كان مصدره الشرع، فأسماء الشرع لا تؤخذ إلا توقيفا، فيصير تقدير الآية بذلك:(وإن طلقتموهن من قبل الخلوة فنصف ما فرضتم)
الوجه الثاني: أنهم لما اتفقوا على أنه لم يرد به حقيقة المس باليد، وتأوله بعضهم على الجماع، وبعضهم على الخلوة، ومتى كان مرادا به الجماع كان كناية عنه، وجائز أن يكون حكمه كذلك، وإذا أريد به الخلوة سقط اعتبار ظاهر اللفظ، لاتفاق الجميع على أنه لم يرد حقيقة معناه، وهو المس باليد، ووجب طلب الدليل على الحكم من غيره، وما ذكر من الدلالة يقتضي أن مراد الآية هو الخلوة دون الجماع، فأقل أحواله أن لا يخص به ما ذكر من ظاهر الآي والسنة.
القول الثاني: إن الخلوة لا توجب المهر كاملا، ما لم يحصل مسيس، وهو قول شريح، والشعبي، وطاوس، وابن سيرين، والشافعي في الجديد، وحكي ذلك عن ابن مسعود، وابن عباس، وروي نحو ذلك عن أحمد، وهو القول المشهور عند الإمامية([138]).
وقد بالغ في القول بهذا ابن حزم حتى نص على أنه (من طلق قبل أن يدخل بها، فلها نصف الصداق الذى سمى لو دخل بها، ولم يطأها طال مقامه معها أو لم يطل) ([139])، واستدلوا على ذلك بما يلي:
- قوله تعالى: { وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ }(البقرة: 237)، وقوله تعالى في آية أخرى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا}(الأحزاب:49)، فعلق تعالى استحقاق كمال المهر ووجوب العدة بوجود المسيس، وهو الوطء، لأنه من المعلوم أنه لم يرد به وجود المس باليد، وإنما أراد به الجماع، كما قال ابن عباس:(إن الله تعالى يكني القبيح بالحسن، كما كنى بالمس عن الجماع)، فقد أوجب الله تعالى على ذلك نصف المفروض في الطلاق قبل الدخول في زواج فيه تسمية، ولم يفصل بين وجود الخلوة، وعدمها فمن أوجب كل المفروض فقد خالف النص.
- أنه قد اختلف في معنى الإفضاء في قوله تعالى:{ وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} (النساء:21)، فقال بعضهم: الإفضاء إذا كان معها في لحاف واحد، جامع أو لم يجامع، وقيل:أن يخلو الرجل والمرأة وأن يجامعها،وقال ابن عباس ومجاهد والسدي وغيرهم: الإفضاء في هذه الآية الجماع، مع أن أصل الإفضاء في اللغة المخالطة، فيقال للشئ المختلط فضا، فلذلك لا يصح استدلال المخالفين بهذه الآية.
- قوله تعالى:{ لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ}(البقرة:236) أي في حال لم تفرضوا لهن فريضة فمتعوهن، فأوجب تعالى لهن المتعة في الطلاق في زواج لا تسمية فيه مطلقا من غير فصل بين حال وجود الخلوة وعدمها.
- قوله تعالى:{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا}(الأحزاب:49) فدلت الآية الشريفة على نفي وجوب العدة ووجوب المتعة قبل الدخول من غير فصل.
- أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعل لها المهر بما استحل من فرجها، يعني أصاب، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل فنكاحها باطل فنكاحها باطل، فإن دخل بها، فلها المهر بما استحل من فرجها، فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له) ([140])
- أن هذه خلوة خلت عن الإصابة، فلا توجب المهر والعدة كالخلوة الفاسدة، وهذا لأن تقرر البدل في عقود المعاوضات بقبض المعقود عليه، والمعقود عليه معنى في باطنها لا يصير مستوفى إلا بالآلة التي تصل إلى ذلك الموضع، فلا تكون الخلوة فيها قبضا كالقصاص، فإن حق من له القصاص في الباطن لا يصير مستوفى إلا بالآلة الجارحة فلم تكن الخلوة فيه قبضا.
- أنه لو كان التسليم قائما مقام الوطء لوجب أن يحلها للزوج الأول كما يحلها الوطء.
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة هو أن الزوجين إذا اختليا بالشروط التي نص عليها الفقهاء، ولم يحصل مسيس بالمعنى القرآني الذي هو الجماع أو المباشرة التي تقرب من الجماع، فإنه لا حق لها ديانة إلا في نصف المهر إلا إذا تنازل الزوج بإعطائها النصف الثاني تورعا واحتياطا.
اختلف الفقهاء في تعريفه بناء عل اختلافهم في اعتبارات الكفاءة، فعرفه المالكية بأنه ما يرغب به مثله فيها: باعتبار دين، وجمال، وحسب، ومال، وبلد، وأخت شقيقة أو لأب؛ لا الأم، والعمة([141]).
وعرفه الحنفية بأنه المهر الذي أعطي مثله لمن تساويها في بلدها وعصرها على مالها وجمالها وسنها وعقلها ودينها.
وعرفه الشافعية بأنه ما يرغب به في مثلها، وركنه الأعظم النسب،، ويعتبر سن وعقل ويسار وبكارة وثيوبة وما اختلف به غرض، فإن اختصت بفضل أو نقص زيد أو نقص لائق في الحال، ولو سامحت واحدة لم تجب موافقتها، ولو خفضن للعشيرة فقط اعتبر([142]).
الاعتبارات المقدمة في مهر المثل:
اتفق الفقهاء على كثير من الاعتبارات المحددة لمهر المثل، ولكنهم اختلفوا في تقديم بعضها على بعض، بناء على اختلافهم في خصال الكفاءة على قولين:
القول الأول: تقديم اعتبار النسب على غيره، وهو قول الجمهور من الشافعية والحنابلة والحنفية، وقد اختلفوا في النسب المعتبر في ذلك:
فذهب الحنفية إلى اعتبار مثل نسائها من أخواتها لأبيها وأمها أو لأبيها وعماتها وبنات أعمامها، ولا يعتبر مهرها بمهر أمها ولا بمهر خالتها إلا أن تكون من قبيلتها من بنات أعمامها، لأن المهر ـ عند القائلين باعتبار الكفاءة في النسب ـ يختلف بشرف النسب، والنسب من الآباء لا من الأمهات فإنما يحصل لها شرف النسب من قبيل أبيها أو قبيلته لا من قبل أمها وعشيرتها([143]).
ونص الشافعية على أنه ما يرغب به في مثلها من نساء عصباتها، وهن المنسوبات إلى من تنسب هي إليه، كالأخت وبنت الأخ والعمة وبنت العم، وإن متن فتراعى القربى فالقربى فتقدم، الأخوات من الأبوين ثم من الأب ثم بنات الأخ لأبوين ثم لأب ثم العمات على ترتيب الإرث في الأقربية، فإن فقدن، أو لم ينكحن، أو جهل مهرهن، فنساء الأرحام فتقدم القربى فالقربى من الجهات، وكذا من الجهة الواحدة كالجدات والخالات، وإن تعذرت نساء الأرحام اعتبرت الأجنبيات([144]).
وقال ابن أبي ليلى: يعتبر بذوات الأرحام([145]).
واعتبار النسب عندهم لا يلغي سائر الاعتبارات ولكن يقدم عليها، قال الشافعي: ومتى قلت: لها مهر نسائها، فإنما أعني نساء عصبتها، وليس أمها من نسائها، وأعني نساء بلدها، ومهر من هو في مثل سنها وعقلها وحمقها وجمالها وقبحها ويسرها وعسرها وأدبها وصراحتها وبكرا كانت أو ثيبا، لأن المهور بذلك تختلف) ([146]).
ونص الحنفيه على أنه يعتبر في مهر المثل أن تتساوى المرأتان في السن والجمال والمال والعقل والدين والبلد والعصر، لأن مهر المثل يختلف باختلاف هذه الأوصاف، وكذا يختلف باختلاف الدار والعصر، ويعتبر التساوي أيضا في البكارة، لأنه يختلف بالبكارة والثيوبة([147]).
ومن الاعتبارات التي اتفق عل القول بها جميع الفقهاء بما فيهم أصحاب القول الثاني اعتبار البلاد لاختلاف أعرافها في المهور، ومثلها العصور، وقد علل ذلك بأن البلدين تختلف عادة أهلهما في المهر في غلائه ورخصه، فلو زوجت في غير البلد الذي زوج فيه أقاربها لا يعتبر بمهورهن([148]).
القول الثاني: اعتبار صفات الزوجة التي يرغب فيها من أجلها كالدين والأدب والعقل والتعليم والجمال والسن والبكارة والثيوبة، وكونها ولوداً أو عقيماً، وقد اعتبرها المالكية الركن الأعظم في تحديد مهر المثل، بناء عل قولهم في الكفاءة، قال الباجي:(ما يعتبر في مهر المثل، فإنه أربع صفات: الدين والجمال والمال والحسب، ومن شرط التساوي مع ذلك الأزمنة والبلاد، فمن ساواها في هذه الصفات ردت إليها في مهر المثل، وإن لم تكن من أقاربها) ([149])، وقريب منه قول الإمامية، فقد نصوا على أن (المرأة التي يتم زواجها دون مهر معين، فإن الشرع يوجب الرجوع حينئذٍ إلى العرف الاجتماعي لتحديد صداقها، حسب المتداول لأمثالها، مع ملاحظة حال المرأة وصفاتها، وكل ماله دخل في العرف والعادة في ارتفاع المهر ونقصانه، حماية وحفظاً لحقها)([150]) واستدلوا على ذلك بما يلي:
- قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ينكح النساء لأربع لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك). فوجه الدين من الحديث أنه صلى الله عليه وآله وسلم فأخبر أن المقصود من النساء في الزواج هذه الصفات فوجب أن يزيد المهر وينقص بحسب هذه المعاني المقصودة ولا يقصر ذلك على الحسب دون غيره.
- أنه صلى الله عليه وآله وسلم حض على ذات الدين فوجب أن يكون الاعتبار بهذه الصفات أولى.
- من جهة القياس أن هذه زوجة فوجب أن يعتبر في مهر مثلها من كان على مثل حالها وإن لم تكن من قومها كالتي لا عشيرة لها([151]).
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة بناء على ما سبق ذكره في الكفاءة، وبناء على الواقع، وتقربا من المقاصد الشرعية في الزواج وغيره القول الثاني.
لأن من مقاصد الشرع الجليلة في جميع أحكامه إزالة كل السبل التي قد تعيد نخوة الجاهلية وتزرع الفرقة بين الناس بسبب أنسابهم وعشائرهم، ومثل هذه الأحكام، ولو تصورناها بسيطة أو لا أثر لها إلا أنها مقدمة من المقدمات الخطيرة لهذا السلوك الجاهلي، وفي مجتمعاتنا نسمع كثيرا هذا التعبير:(كيف تسوي فلانا بفلان، وهل تساوي بنت فلان بنت فلان)، وهي تعابير جاهلية محضة، ولكنها للأسف ترجع أو تستغل بعض أقوال الفقهاء التي أشرنا إليها في فصل الكفاءة، وتهمل كل النصوص القرآنية والنبوية التي تشنع على مثل هذه الاعتبارات.
ولكن الخطورة هنا أشد منها في الكفاءة، لأن الحاكم في الكفاءة هو الولي، وهو فرد من المسلمين، لكن الحاكم في مهر المثل قد يكون ولي أمر المسلمين، ومن الخطورة أن يشجع ولي أمر المسلمين على مثل هذا، فيأتي لامرأة قد تتوافر فيها كل الصفات التي يرغب بها في مثلها، فيفضل عليها امرأة أدنى منها علما وخلقا ودينا لأن قريبتها قدم لها المهر الفلاني، فما ذنب المرأة الصالحة أن لا يكون قد قدم لقريبتها مثلما قدم لقريبة صاحبتها.
اختلف الفقهاء في جواز تزويج الولي لموليته بأقل من مهر المثل على قولين:
القول الأول: أن للأب تزويج ابنته بدون صداق مثلها، بكرا كانت أو ثيبا، صغيرة كانت أو كبيرة، وهو قول الحنفية والمالكية ورواية عند الحنابلة، واستدلوا على ذلك بما يلي([152]):
- أنه ليس المقصود من الزواج العوض، وإنما المقصود السكن والازدواج، ووضع المرأة في منصب عند من يكفيها، ويصونها، ويحسن عشرتها.
- أن الزواج يشتمل على مصالح وأغراض ومقاصد جمة، والأب وافر الشفقة ينظر لولده فوق ما ينظر لنفسه، فالظاهر أنه إنما قصر في الكفاءة والصداق ليوفر سائر المقاصد عليها، وذلك أنفع لها من الصداق والكفاءة فكان تصرفه واقعا بصفة النظر فيجوز كالوصي إذا صانع في مال اليتيم جاز ذلك لحصول النظر في تصرفه، وإن كان هو في الظاهر يعطي مالا غير واجب، وهذا بخلاف تصرف الأب في المال إذ لا مقصود هناك سوى المالية، فإذا قصر في المالية فليس بإزاء هذا النقصان ما يجبره.
- أن الزواج يفارق سائر عقود المعاوضات، فإن المقصود فيها العوض، فلم يجز تفويته، بخلاف الزواج.
القول الثاني: أنه ليس له ذلك، فإن فعل فلها مهر مثلها، وهو قول الشافعية والظاهرية، وقول أبي سليمان، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن، واستدلوا على ذلك بما يلي([153]):
- أنه حق لها بقول الله تعالى: { وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً }(النساء: 4)،فهو حق لها، ومن جملة مالها.
- أنه لا حكم لأبيها في مالها، لقول الله تعالى: { وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى }(الأنعام:164)
- أنه لا يجوز أن يقضى بتمام مهر مثلها على أبيها إلا أن يضمنه مختارا لذلك في ماله، لأن الله تعالى يقول: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ }(النساء:29)
- أن الصداق – بنص القرآن – على الزوج لا على الأب، فالقضاء به على الأب في ماله قضاء ظلم وجور، وأكل مال بالباطل لا يحل.
- أن المهر من خالص حقها فإنه بدل ما هو مملوك لها لأن الاستيفاء والإبراء إليها والتصرف فيه كيف شاءت، وتصرفها فيما هو خالص حقها صحيح فلا يكون للأولياء حق الاعتراض.
- أنه عقد معاوضة فلم يجز أن ينقص فيه عن قيمة المعوض كالبيع.
- أنه تفريط في مالها، وليس له ذلك.
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة هو أن للأب حق تحديد المهر، ولو كان ذلك دون مهر المثل، مع بقاء حق الاعتراض من البنت، وذلك لسببين:
- أن الأعراف تجري من قديم على أن الولي هو الذي يحدد المهر، فلذلك كان من حسن خلق البنت رضاها بما يفرضه أبوها من صداق، لأن العادة فيه النظر لما يصلحها.
- أن لها حق الاعتراض في حالة إساءة أبيها لها بذلك درءا للمفسدة، فقد يتقدم لها الكفء الذي ترغب فيه، ولكن والدها بناء عل عدم فهمه لحاجتها يصرفه عنها بتحديد قيمة للمهر قد تكون أقل من مهر المثل، ولكنها تصرفه عنها، فكان لها، احتياطا لذلك،حق الاعتراض في حال إساءة الوالد التصرف، أو أن تكون المرأة مثلا امرأة صالحة مستغنية تريد أن يكون مهرها قرآنا تحفظه أو علما تتعلمه، فكان لها لذلك حق التحديد والاعتراض.
وانطلاقا من ذلك لا نرى صحة ما ذهب إليه الحنفية من أن للأولياء حق الاعتراض إن زوجت المرأة نفسها أو رضيت أن تزوج بأقل من مهر المثل لأن ذلك حقها تستطيع أن تأخذه أو تتنازل عنه، وهذا الاعتراض ليس على الحكم، وإنما على التوجيه الذي وجه به هذا الحكم، والاستدلال الذي بني عليه، فقد ذكروا أن (لهم حق الاعتراض كما لو زوجت نفسها من غير كفء، لأن الأولياء يتفاخرون بكمال مهرها، ويعيرون بنقصان مهرها، فإن ذلك مهر المومسات الزانيات عادة)، وبدل أن يستندوا في ذلك إلى آية أو حديث استندوا إلى قول الشاعر:
وما علي أن تكون جاريه تمشط رأسي وتكون فاليه
حتى ما إذا بلغت ثمانيـه زوجـتها مروان أو معاويه
أختان صدق ومهور غاليه
أما الضرر الثاني الذي ذكروه، فهو لحوق العار بالأولياء، لأن فيه إلحاق الضرر بنساء العشيرة، لأن من تزوج منهن بعد هذا بغير مهر فإنما يقدر مهرها بمهر هذه فيكون في ذلك ضررا عليهن، وإنما يذب عن نساء العشيرة رجالها، فكان لهم حق الاعتراض([154]).
والقول بهذا يتنافى تماما مع الغاية التي من أجلها شرع المهر، والتي تتضح من خلال النصوص القرآنية والسنة المطهرة، لا من خلال قصائد الشعر وخطب النثر التي تستوحي الجاهلية فكرا وسلوكا.
ثم ـ بعد هذا ـ ماذا نقول لامرأة صالحة أرادت أن تحيي سنة الزواج بالقرآن الكريم، أو أن تكون مباركة بتيسير مهرها، أو أن تتقرب إلى زوجها بعدم إرهاقه بما لا يطيق، أنلغي كل هذه المصالح من أجل أن تفتخر عشيرتها بمهرها الغالي، ألا يمكن لهذه العشيرة أن تفتخر بإحياء سنة عدم التغالي، وهي سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بينما التغالي سنة المتكبرين والمتعالين.
حالات استحقاق المرأة لمهر المثل:
اختلف الفقهاء اختلافا شديدا في الحالات التي تستحق فيها المرأة مهر مثلها، وسنذكر هنا بعض الحالات كنماذج عن غيرها مما لم نذكره، سواء اتفق عليها أو اختلف فيها:
عدم التسمية:
وذلك إذا ما صدرت الصيغة مجردة من ذكره أو نفيه، فيكون للزوجة حينذاك الحق في مطالبة زوجها بعد العقد بتقدير مهر لها، فإن فعل وتراضيا وجب ما تراضيا عليه، وإن لم يجبها إلى طلبها كان لها أن ترفع الأمر للقاضي ليأمره بالفرض، فإن لم يمتثل قضى لها بمهر المثل.
وإن سكتت عن المطالبة بالفرض حتى دخل بها، فلها مهر المثل، لأنه وجب بالعقد، وتأكد بالدخول، ومن الأدلة على ذلك([155]):
- أنه قد ملك عليها أمرها بالعقد، واستحق عليها تسليم نفسها إليه، فعليه لها مثل ملكه عليها، وهو مهر المثل.
- قوله تعالى:{ فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}(البقرة:194)، فقد عقل به وجوب قيمة ما يستملكه عليه بما لا مثل له من جنسه، وكذلك مثل تملك الحق في الزوجة هو مهر المثل.
- قوله صلى الله عليه وآله وسلم في المتوفى عنها زوجها،ولم يسم لها مهرا ولم يدخل بها:(لها مهر مثل نسائها ولا وكس ولا شطط) ([156])وقوله: (أيما امرأة تزوجت بغير إذن وليها فنكاحها باطل فإن دخل بها فلها مهر مثل نسائها ولا وكس ولا شطط) ([157])
اختلف الفقهاء في وجوب مهر المثل عند موت أحد الزوجين قبل التسمية على قولين([158]):
القول الأول: أنه يتأكد مهر المثل بموته، وبه قال ابن مسعود وابن سيرين وابن أبي ليلى وأبو حنيفة وأصحابه وإسحاق وأحمد، وهو قول الإمامية، واستدلوا على ذلك بما يلي:
- أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قضى في بروع بنت واشق – وقد مات عنها زوجها قبل أن يدخل بها – بمهر المثل، ولا بأس من ذكر قصة ورود الحديث هنا لقيمتها الاستدلالية، فعن علقمة، قال جاء رجل إلى ابن مسعود فقال: إن رجلا منا تزوج امرأة، ولم يفرض لها ولم يجامعها حتى مات، فقال ابن مسعود: ما سئلت عن شيء منذ فارقت النبي صلى الله عليه وآله وسلم أشد علي من هذا، سلوا غيري، فترددوا فيها شهرا، قال: فقال: من اسأل، وأنتم أجله أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم بهذا البلد؟ فقال: سأقول فيها برأيي، فإن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، أرى أن لها مهر نسائها لا وكس ولا شطط، ولها الميراث وعليها عدة المتوفى عنها زوجها، فقال ناس من أشجع: نشهد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قضى مثل الذي قضيت في امرأة منا، يقال لها بروع ابنة واشق، قال: فما رأيت ابن مسعود فرح بشيء ما فرح يومئذ([159]).
- أن المعنى الذي له وجب كل المسمى بعد موت أحد الزوجين في زواج فيه تسمية موجود في زواج لا تسمية فيه.
- أن الآية التي استدل بها المخالفون فيها إيجاب المتعة في الطلاق لا في الموت، فمن ادعى إلحاق الموت بالطلاق فإنه يحتاج إلى دليل آخر.
القول الثاني: أن لها المتعة، ومتعتها ما استحقت من الميراث لا غير، وقد روي عن علي وابن عباس وابن عمر، وهو قول ومالك والأوزاعي والليث وأحد قولي الشافعي وإحدى الروايتين عن القاسم، واستدلوا على ذلك بما يلي:
- قوله تعالى: { لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ}(البقرة:236)
- قوله تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا}(الأحزاب:49)، فأمر تعالى بالمتعة من غير فصل بين حال الموت وغيرها، والنص وإن ورد في الطلاق لكنه يكون واردا في الموت.
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الأول، لأن المهر حقها، ولا يسقط عنها بحال، أما الميراث فحق ثان، والحق الثاني لا يلغي الحق الأول، وما كان لنا ولا للمخالفين من أصحاب القول الثاني أن يذكروا أي دليل مع ورود نص خاص بالمسألة، فكيف يفتى فيما قضى فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وهو تسمية ما لا يصلح أن يكون مهراً شرعاً، ومن أمثلة ذلك:
- تسمية ما ليس بمال كالطير في الهواء والسمك في الماء.
- الأشياء التالفة التي لا ينتفع بها ولو كانت في أصلها مالا.
- المال غير المتقوم كالخمر والخنزير في زواج المسلم سواء كانت الزوجة مسلمة أو كتابية.
- تسمية مال مجهول جهالة فاحشة، كمجهول الجنس والنوع كأن يجعل مهرها حيواناً أو بيتاً أو حلياً مع عدم بيان نوعه.
وقد اختلف الفقهاء في حكم هذا الزواج على قولين([160]):
القول الأول: أن التسمية فاسدة، والزواج صحيح، وهو قول جمهور الفقهاء، ومنهم الثوري، والأوزاعي، والشافعي، والحنفية وهو قول الإمامية، ومن الأدلة على ذلك:
- أنه عقد لا يفسد بجهالة العوض، فلا يفسد بتحريمه.
- أن فساد العوض لا يزيد على عدمه، ولو عدم كان العقد صحيحا، فكذلك إذا فسد.
القول الثاني: أن الزواج فاسد، وهو رواية عند الحنابلة، وروي عن مالك أنه إن كان بعد الدخول، ثبت الزواج، وإن كان قبله فسخ، وذهب ابن حزم إلى أن الزواج فاسد مطلقا([161])، واستدلوا على ذلك بأنه زواج جعل الصداق فيه محرما، فأشبه زواج الشغار.
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الأول بناء على الاعتبارات التي ذكرناها في حقيقة المهر، وأنه ليس ركنا من أركان الزواج التي ينهدم بفقدها.
ويختلف حكمها بحسب حصول الدخول وعدم حصوله، كما يلي:
اتفق الفقهاء على أنه لا تستحق الزوجة المهر في الزواج الفاسد مطلقا، سواء اتفق على فساده أم لا، إذا حصل التفريق قبل الدخول والخلوة، قال ابن قدامة:(ولا يجب لها بالخلوة شيء. في قول أكثر أهل العلم، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعل لها المهر بما استحل من فرجها([162])
وقد ذكرنا لخلاف سابقا في حكم الخلوة في الزواج الصحيح، ويختلف قول الحنفية هنا عن قولهم هناك، فقد نصوا على أنه) إذا فرق القاضي بين الزوجين في الزواج الفاسد قبل الدخول فلا مهر لها، لأن المهر لا يجب فيه بمجرد العقد وإنما يجب باستيفاء منافعه..ولا يجب فيه بالخلوة، وكذا لو لمسها أو قبلها أو جامعها في الدبر، لأن الخلوة غير صحيحة كالخلوة بالحائض، وهو معنى قول المشايخ الخلوة الصحيحة في النكاح الفاسد كالخلوة الفاسدة في النكاح الصحيح([163])
أما الحنابلة فالمنصوص عن أحمد أن المهر يستقر بالخلوة، قياسا على العقد الصحيح، وبناء على أن الواجب المسمى بالعقد.
هذا مع استثناء بعض المسائل التي يثبت فيها نصف المهر قبل الدخول، ومن ذلك ما يقوله المالكية من أن سبب الفساد إذا لم يؤثر خللا في المهر، كزواج المحرم بالحج، ففيه نصف الصداق بالطلاق، وجميعه بالموت، وكذلك الزواج الفاسد عند المالكية لوقوع صداقه أقل من الصداق الشرعي، وامتنع الزوج من إتمامه، وهو ما يسمى بزواج الدرهمين، لأنهما أقل من الصداق الشرعي، ففيه نصف الدرهمين بفسخه قبل الدخول، ومن ذلك ما إذا ادعى الزوج قبل الدخول رضاعا محرما بلا بينة، وكذبته الزوجة، فإنه يفسخ، وعليه نصف الصداق كما يقول المالكية والحنابلة([164]).
اتفق الفقهاء على وجوب المهر في الزواج الفاسد مطلقا بالدخول، لما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (أيما امرأة أنكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فإن دخل بها فلها مهر مثلها)، فقد جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها مهر المثل فيما له حكم الزواج الفاسد، وعلقه بالدخول، فدل أن وجوبه متعلق به.
وقد اختلف الفقهاء في المقدار الواجب من المهر بعد الدخول على الأقوال التالية:
القول الأول: لها الأقل من مهر مثلها ومن المسمى، وهو قول الحنفية غير زفر، وقد عللوا ذلك بأن العاقدين ما قوما المنافع بأكثر من المسمى، فلا تتقوم بأكثر من المسمى، فحصلت الزيادة مستوفاة من غير عقد، فلم تكن لها قيمة إلا أن مهر المثل إذا كان أقل من المسمى لا يبلغ به المسمى، لأنها رضيت بذلك القدر لرضاها بمهر مثلها([165]).
القول الثاني: لها المسمى، وإن لم يكن مسمى – كزواج الشغار – فلها مهر المثل، وهو قول المالكية والإمامية، والرواية الصحيحة عند الحنابلة([166])، قال ابن القيم:(ووجوب المهر المسمى في النكاح الفاسد، وهذا هو الصحيح من الأقوال)([167])
ومن أمثلة قول مالك في ذلك ما قاله فيما لو تزوج امرأة فلم يبن بها حتى تزوج أختها فبنى بها، فأفتى بزواج الأولى ويفرق بينه وبين الثانية،) قلت: ويكون للأخت المدخول بها مهر مثلها أو المهر الذي سمى؟ قال: قال مالك: المهر الذي سمي لها، قال مالك: وكذلك إن تزوج أخته من الرضاعة ففرق بينهما بعد البناء، فإن لها المهر الذي سمى([168])
القول الثالث: لها مهر المثل، وهو قول الشافعية ورواية للحنابلة، وزفر من الحنفية، ومن أمثلة ذلك قول الشافعي:(ولو نكح المريض امرأة نكاحا فاسدا ثم مات لم ترثه، ولم يكن لها مهر إن لم يكن أصابها فإن كان أصابها فلها مهر مثلها كان أقل مما سمي لها، أو أكثر ([169])، وقال ابن قدامة:(والواجب لها مهر مثلها، أومأ إليه أحمد، فإنه قال في العبد يتزوج بغير إذن سيده: يعطي شيئا قال القاضي: يعني مهر المثل. وهو ظاهر قول الخرقي، لقوله:(وإذا زوج الوليان فالنكاح للأول منهما، فإن دخل بها الثاني فلها مهر مثلها([170])، ومن الأدلة على ذلك:
- قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:(فلها المهر بما استحل من فرجها (، فجعل لها المهر المميز بالإصابة، والإصابة إنما توجب مهر المثل.
- أن العقد ليس بموجب، بدليل الخبر، وأنه لو طلقها قبل مسها لم يكن لها شيء، وإذا لم يكن موجبا كان وجوده كعدمه، وبقي الوطء موجبا بمفرده، فأوجب مهر المثل، كوطء الشبهة.
- أن التسمية لو فسدت لوجب مهر المثل، فإذا فسد العقد من أصله كان أولى.
- أن المنافع تتقوم بالعقد الصحيح والفاسد جميعا كالأعيان، فيلزم إظهار أثر التقوم، وذلك بإيجاب مهر المثل بالغا ما بلغ، لأنه قيمة منافع البضع، وإنما العدول إلى المسمى عند صحة التسمية، ولم تصح، لهذا المعنى أوجبنا كمال القيمة في العقد الفاسد كذا ههنا([171]).
- ما قاله الحنفية بأنها رضيت بدون صداقها، إنما يصح إذا كان العقد هو الموجب، وقد بينا أنه إنما يجب بالإصابة، فيجب مهر المثل كاملا، كوطء الشبهة.
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة هو أن لها المهر المسمى كما ذكرنا سابقا علل ذلك.
اختلف الفقهاء في استحقاق المكرهة على الزنى لمهر المثل على قولين:
القول الأول: وجوب المهر لها، وهو قول الحنابلة([172]) والشافعية([173])،والمالكية، والإمامية، ومن الأدلة على ذلك ([174]):
- قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (فلها المهر بما استحل من فرجها)، لأن المكره مستحل لفرجها، فإن الاستحلال هو الفعل في غير موضع الحل، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ما آمن بالقرآن من استحل محارمه.
- أن الحد والصداق حقان أحدهما لله والثاني للمخلوق فجاز أن يجتمعا كالقطع في السرقة وردها
القول الثاني: أنه لا مهر للمكرهة على الزنى، وهو قول الحنفية، واستدلوا على ذلك بما يلي([175]):
- أنه قد تعلق بالزنا من إيجاب الرجم أو الجلد ما هو أغلظ من إيجاب المال.
- أن المال والحد يتعاقبان على الوطء، فمتى وجب الحد لم يجب المهر، ومتى وجب المهر لم يجب الحد، فكل واحد منهما يخلف الآخر، فإذا وجب الحد فذلك قائم مقام المال فيما تعلق بالوطء من الحكم، فلا فرق بينهما.
- أن القاعدة الشرعية في مثل هذا هي أنه إذا وجب الحد سقط ضمان حقوق الآدميين في المال والنفس والجراحات، وذلك لأن وجوب الحد بهذا الفعل يسقط ما تعلق به من حق الآدمي، كالسارق إذا سرق وقطع لم يضمن السرقة، وكالقاتل إذا وجب عليه القود لم يلزمه ضمان المال، والمحاربون إذا وجب عليهم الحد سقطت عنهم حقوق الآدميين، فمثلهم الزاني إذا وجب عليه الحد لم يلزمه المهر، فإذا سقط الحد عن هؤلاء وجب ضمان ما تناولوه من مال أو نفس، كالسارق إذا درئ عنه الحد وجب عليه ضمان المال، وكالزاني إذا سقط عنه الحد لزمه المهر كما في الزواج الفاسد.
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة بناء على الأضرار التي حصلت للمكرهة على الزنى هو وجوب كل من المهر وأرش البكارة([176])، بدون تفريق في ذلك بين المحارم وغيرهم، وقد سئل ابن الصلاح عن صبي افترع صبية دون البلوغ، فأذهب بكارتها، فأجاب: (يجب في ذمة الصبي مهر مثلها على المذهب الأصح، ويجب أرش بكارتها، ولا يندرج على الرأي الأظهر في المهر، ويكون ذلك على عاقلة الصبي، فإن لم يكن له عاقلة فعليه في ماله) ([177])
والعلة في هذا هو التشديد فيما ينجر عن الزنا من عواقب، لأن من الناس من لا تردعه عقوبة الجلد، بقدر ما تردعه عقوبة المال، فكان الأصلح في حقه الجمع بين العقوبتين، بل إن عقوبة الاغتصاب ليست كعقوبة الزاني، بل هي أشبه بعقوبة المحارب لأدلة لا بمكن بسطها هنا.
ثم إن القول بالاقتصار على العقوبة الجسدية فقط قد يخدم المجتمع فيسد فيه منافذ الفساد، ولكنه لا يخدم المرأة المتضررة، وإن كان قد يشفي غليلها، ومع ذلك فإن من مناهج الشرع في مثل هذا، التعويض وإزالة كل أنواع الأضرار، وتعويضها بالمهر وأرش البكارة ربما يرغب فيها الخطاب، ويزيل عنها الضرر، وقد ذكر القرافي عند بيانه لمقاصد العقوبات الشرعية من الزجر والجبرهذا النهج الشرعي، ومثل له بالأمثلة الكثيرة، قال(أما المنافع فالمحرم منها لا يجبر احتقارا لها كالمزمار ونحوه،كما لم تجبر النجاسات من الأعيان، واستثني من ذلك مهر المزني بها كرها تغليبا لجانب المرأة، فإنها لم تأت محرما والظالم أحق أن يحمل عليه، ولأنه كالغاصب لسكنى دار) ([178])
وهذا الحق للمرأة لا يقتصر على الإكراه على الزنى فقط، بل يتعداه لكل وسيلة تعرض المرأة لمثل هذا، وقد نص الحنابلة على أنه إذا دفع رجل أجنبية فأذهب عذرتها، أو أزالها بأصبع أو غيرها فعليه أرش بكارتها، (لأنه إتلاف جزء لم يرد الشرع بتقدير ديته، فرجح فيها إلى الحكومة كسائر مالم يقدر، ولأنه إذا لم يكمل الصداق به في حق الزوجة ففي حق الأجنبي أولى) ([179])
بل إن هذا الحق يجب لها حتى لو لم يكن الفاعل رجلا، فقد روي أن رجلا كانت عنده يتيمة، فخافت امرأته أن يتزوجها، فاستعانت بنسوة فأذهبن عذرتها، وقالت لزوجها: فجرت، فأخبر علي بذلك، فأرسل إلى امرأته والنسوة، فلما أتين لم يلبثن أن اعترفن بما صنعن، فقال للحسن بن علي: اقض فيها، فقال: الحد على من قذفها، والعقر عليها وعلى الممسكات)
ونقل ـ كذلك ـ فيمن تزوج بكرا، فدفعها هو وأخوه، فأذهبا عذرتها، ثم طلقها قبل الدخول: إن على الزوج نصف الصداق، وعلى الأخ نصف العقر، وقد روى ذلك عن علي والحسن وعبد الله بن معقل، قال ابن مفلح:(وهذه قصص مشتهرة ولم تنكر، فكانت كالإجماع)([180])
ونرى في عصرنا الحاضر الذي عطلت فيه الحدود أن على الحنفية أن يفتوا بهذا القول بناء على قاعدتهم في عدم اجتماع الحد مع المهر، فتعطيل الحدود لا يلغي وجوب المهر، لأن الحد فعل ولي الأمر، بينما تسليم المهر ممكن لكل مسلم.
ونرى كذلك أن من علامات صدق التائب الذي ارتكب هذه الجريمة، ولم يكتشف أمره، أو لم يحد بالحد الشرعي إبراءا لذمته وتصديقا لتوبته أن يعطي المرأة المغتصبة حقها من المهر، وتعويضها عن الضرر اللاحق بها، ولا تتم توبته ولا تصدق إلا بذلك، لأن حقوق العباد لا تتم التوبة منها إلا بتسليمها لأصحابها.
وهو من أنواع الزواج التي كانت تمارس في الجاهلية، قال في النهاية: کان الرجل يقول للرجل: شاغر منّي أي زوّجني اختک أو بنتک، أو من تلي أمرها حتّى أزوّجک أختي أو بنتي أو من إليّ أمرها. ولا يکون بينهما مهر، ويکون بضع کلّ واحد منهما في مقابلة بضع الأخرى، وقيل له: شغار، لارتفاع المهر بينهما)
وقريب منه ما جاء في صحاح الجوهري والقاموس والمصباح المنير، حيث فسّروه بقول الرجل للآخر: زوّجني ابنتک أو أختک على أنّ أزوّجک ابنتي أو أختي على أنّ صداق کلّ منهما بضع الأخرى.
وقد اختلف الفقهاء في تعريفه على القولين التاليين:
القول الأول: هو أن يزوج الرجل وليته على أن يزوجه الآخر وليته على أن مهر كل منهما بضع الأخرى، وهو قول الحنفية والمالكية والشافعية([181]).
القول الثاني: هو أن يزوجه وليته على أن يزوجه الآخر وليته، سواء جعلا مهر كل منهما بضع الأخرى أو سكتا عن المهر أو شرطا نفيه، وهو للحنابلة ([182])
وقد اتفق الفقهاء على حرمة زواج الشغار، بل نقل الإجماع على ذلك، قال ابن عبد البر: (أجمع العلماء على أن زواج الشغار لا يجوز) ([183])، ومن الأدلة على ذلك زيادة على الإجماع:
- ما روي في الأحاديث الصحيحة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن الشغار، وفسر([184]): بأن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه ابنته وليس بينهما صداق([185]).
- قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا شغار في الإسلام) ([186])
- قوله صلى الله عليه وآله وسلم: لا جلب ولا جنب، ولا شغار في الإسلام ومن انتهب فليس منا([187]).
- عن أبي ريحانة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن المشاغرة، والمشاغرة أن يقول زوج هذا من هذه وهذه من هذا بلا مهر([188]).
- عن أبي بن كعب مرفوعا: لا شغار، قالوا: يا رسول الله، وما الشغار، قال: إنكاح المرأة بالمرأة لا صداق بينهما([189]).
ومع هذه الأدلة اختلف الفقهاء في تأثير الشغار على صحة الزواج بعد اتفاقهم على حرمته التكليفية على قولين:
القول الأول: صحة الزواج ووجوب مهر المثل، وهو قول الزهري ومكحول والثوري والليث ورواية عن أحمد وإسحاق وأبي ثور، وهو مذهب الحنفية الذي اشتهروا به، واستدلوا على ذلك بما يلي([190]):
- أن الزواج لا تبطله الشروط الفاسدة، كما إذا تزوجها على أن يطلقها أو نحو ذلك، وتكون التسمية فاسدة لأن البضع ليس بمال، فلا يصلح أن يكون مهرا، بل يجب لكل منهما مهر المثل، كما لو تزوجها على خمر أو خنزير.
- أن علة النهي مسمى الشغار الدال على خلوه عن المهر وكون البضع صداقا، ونحن قائلون بنفي هذه الماهية وما يصدق عليها شرعا، فلا نثبت الزواج بل نبطله، فيبقى زواجا مسمى فيه ما لا يصلح مهرا، فينعقد بمهر المثل، كالمسمى فيه خمر أو خنزير، فما هو متعلق النهي لم نثبته، وما أثبتناه لم يتعلق به، بل اقتضت العمومات صحته.
القول الثاني: فساد الزواج، وهو مذهب جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة، لكنهم اختلفوا في حكم فسخه والآثار الناتجة عنه على المذاهب التالية:
مذهب المالكية: يختلف حكم الشغار عند المالكية([191]) بحسب نوع ما تقدم في التعريف:
صريح الشغار: وحكمه الفسخ مطلقا ولو ولدت الأولاد، ولا شيء للمرأة قبل الدخول، ولها بعده صداق المثل، وهذا مما لا خلاف فيه عندهم، وإنما الخلاف في كون فسخه بطلاق، وبه قال مالك مرة أو بغيره، وهو الذي قاله سحنون قائلا: عليه أكثر الرواة، وتظهر ثمرة هذا الخلاف فيما إذا تزوجها بعد ذلك، فإنها تكون على الأول على طلقتين وعلى الثاني على عصمة كاملة، ويظهر أيضا فيما لو خالعها على شيء، فعلى أن الفسخ بطلاق لا ترجع به، وعلى أن الفسخ بغير طلاق ترجع به([192]).
مركب الشغار: وحكمه أن يفسخ زواج كل منهما قبل الدخول، وأما بعده فيفسخ زواج من لم يسم لها، ولها صداق مثلها، ويثبت زواج المسمى لها بالأكثر من المسمى ومن صداق مثلها.
وجه الشغار: وحكمه أنه يفسخ قبله ولا شيء فيه للمرأة، ويثبت بعده بالأكثر من المسمى وصداق المثل.
مذهب الشافعية: نص الشافعية([193]) على أن هذا الزواج باطل، وقد اختلفوا في علة بطلانه على الأقوال التالية:
- معنى الاشتراك في البضع حيث جعله مورد الزواج وصداقا لأخرى فأشبه تزويج واحدة من اثنين، ولهذا لو سميا مالا مع جعل البضع صداقا كأن يقول: زوجتك ابنتي بألف من الدنانير مثلا على أن تزوجني بنتك بألف كذلك وبضع كل واحدة منهما صداق للأخرى، أو يقول: زوجتك بنتي على أن تزوجني بنتك ويكون بضع كل واحدة منهما وألف درهم صداقا للأخرى، فالأصح بطلان هذا الزواج لوجود التشريك فيه. وكذا إذا سميا لإحداهما مهرا دون الأخرى كأن يقول: زوجتك بنتي بألف درهم على أن تزوجني بنتك وبضع كل واحدة منهما صداق للأخرى فالأصح بطلانه أيضا لوجود معنى التشريك فيه.
- خلوه من المهر، وعلى هذا التعليل يصح الزواج في الصور السابقة لأنه لم يخل من المهر، وكذلك لو لم يجعل البضع صداقا بأن سكت عنه كقوله: زوجتك بنتي على أن تزوجني بنتك، ولو قال: زوجتك ابنتي على أن تزوجني ابنتك وبضع ابنتك صداق لابنتي صح الزواج الأول وبطل الزواج الثاني، ولو قال: وبضع ابنتي صداق لابنتك بطل الأول وصح الثاني.
- التعليق والتوقف الموجود في هذا الزواج، ولهذا لا يصح الزواج في الصور المذكورة سابقا لما فيها من معنى التعليق والتوقف.
ومن صور الشغار عند الشافعية أن يقول: زوجتك ابنتي على أن تزوج ابني ابنتك وبضع كل واحدة منهما صداق الأخرى، أو طلق امرأته على أن يزوجه زيد مثلا ابنته وصداق البنت بضع المطلقة فزوجه على ذلك صح التزويج بمهر المثل، لفساد المسمى ووقع الطلاق على المطلقة.
مذهب الحنابلة: وقد نصوا على أنه زواج فاسد([194])، لأنه جعل كل واحد من العقدين سلفا في الآخر فلم يصح، ولا فرق عندهم بين أن يقول: على أن صداق كل واحدة منهما بضع الأخرى، أو لم يقل ذلك بأن سكتا عنه أو شرطا نفيه، وكذا لو جعلا بضع كل واحدة منهما ودراهم معلومة مهرا للأخرى لأن فساد زواج الشغار لم ينشأ من قبل التسمية الفاسدة، بل من جهة أنه وقفه على شرط فاسد، أو لأنه شرط تمليك البضع لغير الزوج، فإنه جعل تزويجه إياها مهرا للأخرى فكأنه ملكه إياها بشرط انتزاعها منه.
مذهب الظاهرية: وهو أكثر المذاهب تشددا في ذلك، قال ابن حزم:(لا يحل زواج الشغار، وهو أن يتزوج هذا ولية هذا على أن يزوجه الآخر وليته أيضا، سواء ذكرا في كل ذلك صداقا لكل واحدة منهما أو لإحداهما دون الأخرى، أو لم يذكرا في شيء من ذلك صداقا، كل ذلك سواء يفسخ أبدا، ولا نفقة فيه، ولا ميراث، ولا صداق ولا شيء من أحكام الزوجية، ولا عدة، فإن كان عالما فعليه الحد كاملا، ولا يلحق به الولد، وإن كان جاهلا فلا حد عليه، والولد له لاحق، وإن كانت هي عالمة بتحريم ذلك فعليها الحد، وإن كانت جاهلة فلا شيء عليها) ([195])
مذهب الإمامية: وقد اتفقوا على بطلانه وعدم صحّته، قال الشيخ الطوسي في الخلاف: (نکاح الشغار باطل عندنا، وبه قال مالک والشافعي وأحمد وإسحاق، غير أنّ مالکا أفسده من حيث فساد المهر، وأفسده الشافعي من حيث إنّه ملک لبضع کلّ واحد من شخصين (الزوج باعتبار کونه زوجا لها، وزوجه الآخر باعتبار کونه مهرا لها)، وذهب الزهري والثوري وأبو حنيفة وأصحابه إلي أنّ نکاح الشغار صحيح وإنّما فسد فيه المهر فلا يفسد بفساده)([196])
ومن الأدلة التي استدل بها أصحاب هذا القول ([197]):
- الأحاديث الواردة في النهي عن زواج الشغار، والتي ذكرنا بعضها عند بيان الحكم التكليفي.
- أن النهي يدل على الفساد والنفي لنفي الحقيقة الشرعية.
نرى أن الأرجح في المسألة بناء على تحريم النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو أن النهي عن ذلك يقتضي الفساد لأن الشرع قصد من النهي عنه مراعاة مصلحة المرأة، بينما القول بالتحريم مع عدم الفساد لا ينتج عنه إلا الإثم المتعلق بمن فعل ذلك من الأولياء، وهي مسألة أخروية، لا علاقة لها بمصالح المرأة الدنيوية، والتي جاء هذا الحكم الشرعي لتقريرها.
والمصلحة التي نقصدها هنا ليست فقط في الإضرار بالمرأة ومنعها حقها من المهر الذي جعله الشرع لها، وإنما أن يصبح ذلك التبادل وسيلة استغلال من الأولياء، فيجبرون مولياتهم على الزواج بمن لا يرغبن فيهم حتى تتحقق مقاصدهم من الزواج بمن يرغبون.
ولكن هذا الفساد لا يمكن تعميمه في حال حصول الدخول، لأنا قد ندرأ مفسدة عدم المهر بمفسدة الفسخ، فلذلك الأصلح للمرأة باعتبارها صاحبة الحق في المهر أن نخيرها بين أن تبقى على زواجها مع استحقاقها مهر المثل، وبين التفريق، والغرض من هذا التخيير أمرين:
- التأكد من رغبة المرأة في استمرار الزواج بمن رضيه لها وليها، وذلك درءا لمفسدة استغلالها، كما ذكرنا.
- إعطاءها حقها من المهر، لأنه حق لا يفوت بالدخول، بل يتأكد به، ويصبح حكم زواج الشغار في هذه الحالة كحكم التسمية الفاسدة في المهر، فـ (الشريعة قد نهت عن صداق الخمر والخنزير والغرر والمجهول، والنكاح في ذلك كله يصح بمهر المثل)([198])
أما قبل الدخول، فيفسخ مطلقا لإمكان تصليحه بدون حصول أي مفسدة لأي طرف من الأطراف.
ونرى أنا بهذا القول قد جمعنا بين القولين، وراعينا مصلحة صاحبة الشأن بتخييرها، فلم نفرق بينها وبين زوج قد تكون راغبة فيه، ولا جمعنا بينهما إن كانت راغبة عنه، ولم يضع مع ذلك حقها من المهر.
رابعا ـ أحكام تعجيل المهر وتأجيله
يقصد بالمهر المعجل في عرف الفقهاء تقديم المهركاملا قبل الدخول، أو عدم ارتباط المهر بطلاق او موت.
وقد اتفق الفقهاء على استحباب تعجيل الصداق، لورود الأمر العام في الشريعة بتسليم أصحاب الحقوق حقوقهم، وكراهية التأخير لغير الحاجة، واختلفوا في جواز الدخول بالمرأة قبل إعطائها شيئا، سواء كانت مفوضة أو مسمى لها على قولين([199]):
القول الأول: إنه يستحب أن يعطيها شيئا، وهو قول جمهور العلماء، قال الزهري: مضت السنة أن لا يدخل بها حتى يعطيها شيئا، وقال ابن عباس: يخلع إحدى نعليه، ويلقيها إليها، ويروي الإمامية في هذا عن أبي جعفر ع في عن رجل تزوج امرأة على أن يعلمها سورة من كتاب الله عزوجل فقال: (ما أحب أن يدخل بها حتى يعلمها السورة ويعطيها شيئا)، قلت: أيجوز أن يعطيها تمرا أو زبيبا؟ فقال: (لا بأس بذلك إذا رضيت به كائنا ما كان)([200])، ومن الأدلة على ذلك:
- حديث عقبة بن عامر، في الذي زوجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودخل بها ولم يعطها شيئا، وقد سبق ذكره([201]).
- عن عائشة، قالت: أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أدخل امرأة على زوجها، قبل أن يعطيها شيئا([202]).
- أنه عوض في عقد معاوضة، فلم يقف جواز تسليم المعوض على قبض شيء منه، كالثمن في البيع، والأجرة في الإجارة.
- أن سبب الاستحباب هو الخروج من الخلاف اعتبارا لمن أوجبه من أوجبه([203]).
القول الثاني: وجوب إعطائها شيئا، وهو قول بعض الصحابة، وقد روي عن المالكية([204])، واستدلوا على ذلك بما يلي:
- أن عليا لما تزوج فاطمة، أراد أن يدخل بها، فمنعه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى يعطيها شيئا، فقال: يا رسول الله، ليس لي شيء. فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أعطها درعك. فأعطاها درعه، ثم دخل بها([205]).
- استدل في المنتقى بحديث (التمس ولو خامتا من حديد) على وجوب ذلك، يقول الباجي: (مطالبته بذلك في الحين تقتضي أن من حكمه تعجيله أو تعجيل ما يصح أن يكون مهرا منه ولو شرع تأخير جميعه لسأله هل يرجو أن يتكسب في المستقبل قدر الخاتم من الحديد بل الغالب تجويز ذلك كله فكان يقول له زوجتكها على أن يكون لها هذا في ذمتك ويضرب لذلك أجلا يغلب على الظن تكسبه لهذا ولما نقله عن وجود المهر إلى المنافع دون واسطة ثبت أن من حكم المهر أن يتعجل منه قبل البناء ما يصح أن يكون مهرا) ([206])
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة هو القول بالوجوب تحميلا للنصوص على ظاهرها، ولتيسر أداء ذلك بدون مشقة، ولأنه إذا أعطاها جزءا من المهر أو هدية باسم المهر لا يكون في ذلك أي مشقة عليه، ويكون في نفس الوقت قد خرج من الخلاف، هذا إن كان الزوج ورعا عن حق زوجته في مهرها.
وقد روى الإمامية في هذا عن أبي عبد الله ع قال: (إذا تزوج الرجل المرأة فلا يحل له فرجها حتى يسوق إليها شيئا درهما فما فوقه أو هدية من سويق أو غيره)([207])
أما إن كان غير ذلك، بأن عرفت منه المماطلة، فإن الأولى في حقه القول بوجوب إعطاء المهر كاملا، خشية مماطلة المرأة أو غصب حقها، إلا إذا سامحت المرأة في ذك مع علمها بحاله.
اختلف الفقهاء فيما إذا ثبت إعسار الزوج بمعجل الصداق وطالبته الزوجة به، هل يفسخ الزواج، أم يعذر الزوج، أم يؤجل الدخول على الأقوال الثلاثة التالية:
القول الأول: إنه يطلق عليه لكن بعد الإعذار، وهو قول المالكية، وقد ذهبوا إلى أن الزوجة إن طالبت الزوج بالصداق الواجب، ولم يجده فإنه لا يعجل بالطلاق أو الفسخ إلا بعد التأجيل والنظر،وخطوات التأجيل تجري قضائيا كما يلي:
- إن ادعى العدم، ولم تصدقه، ولا أقام بينة على صدقه، ولا مال له ظاهر، ولم يغلب على الظن عسره أجله القاضي لإثبات عسره، فإن أعطى كفيلا بالوجه، وإلا حبسه كسائر الديون، ومدة التأجيل متروكة للقاضي.
- إذا ثبت عسره بالبينة أو صدقته يؤجل للنظر.
- إذا لم يثبت عسره في مدة التأجيل ولم تصدقه، فالظاهر عندهم أنه يحبس إن جهل حاله ليستبين أمره، ولو غلب على الظن عسره تلوم له ابتداء، فأما ظاهر الغنى فيحبس إلى أن يأتي ببينة تشهد بعسره، إلا أن يحصل لها ضرر بطول المدة فلها طلب التطليق.
القول الثاني: لا يطلق بسببه، وهو قول الحنفية، وذهبوا إلى أنه يترتب على عدم قبض الزوجة معجل مهرها أنها تملك أن تمنع نفسها إذا أراد الزوج أن يسافر بها أو يبني بها حتى تأخذ مهرها منه، ولو سلمت نفسها ووطئها برضاها تعين حقها في البدل كما تعين حق الزوج في المبدل لقياسهم المهر بالبيع.
ونصوا على أنه ليس للزوج أن يمنعها من السفر والخروج من منزله حتى يوفيها مهرها، لأن حق الحبس لاستيفاء المستحق، وليس له حق الاستيفاء قبل الإيفاء، ويعتبر الحنفية في هذا أمرين:
العرف: فليس لها أن تحبس نفسها فيما تعورف تأجيله إلى الميسرة أو الموت أو الطلاق ولو كان حالا، لأن المتعارف كالمشروط وذلك يختلف باختلاف البلدان والأزمان والأشخاص.
التصريح:إذا نصا على تعجيل جميع المهر أو تأجيله فهو على ما شرطا حتى كان لها أن تحبس نفسها إلى أن تستوفي كله فيما إذا شرط تعجيل كله، وليس لها أن تحبس نفسها فيما إذا كان كله مؤجلا([208])، لأن التصريح أقوى من الدلالة فكان أولى.
وإذا أوفاها مهرها أو كان كله مؤجلا ينقلها حيث شاء لقوله تعالى:{ أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ }(الطلاق:6)، وكذلك إذا دخل بها برضاها عندهما لسقوط حق الحبس.
وقريب من هذا قول الإمامية، فقد نصوا على أنه (إذا كان المهر حالاً فللزوجة الامتناع من التمكين قبل قبضه سواء كان الزوج متمكناً من الأداء أم لا، ولو مكنته من نفسها فليس لها الامتناع بعد ذلك لأجل أن تقبضه، واما لو كان المهر كله أو بعضه مؤجلاً ـ وقد اخذت بعضه الحال ـ فليس لها الامتناع من التمكين وإن حلّ الاَجل ولم تقبض المهر بعد)
ونصوا على أنه (إنما يسقط حق امتناعها عن التمكين فيما إذا وطئها بتمكينه من نفسها اختياراً، فلو وطئها جبراً أو في حال النوم ونحوه أو كان تمكينها عن اكراه من جانب الزوج أوغيره لم يسقط حقها في ذلك.
القول الثالث: يفسخ بدون إعذار، وهو قول بعض الشافعية والحنابلة، حيث قالوا: يثبت لها الفسخ بالإعسار، ولم يذكروا إعذارا، لكنهم قالوا: إن الفسخ لا يكون إلا من الحاكم.
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة هو تخيير الزوجة بين الفسخ أو انتظار تسليمه للمهر، وللحاكم أن يتخذ الإجراءات المناسبة لتسليمه المهر، أما القول بالفسخ وعدمه من غير اختيار المرأة صاحبة الحق في المهر، فإن في ذلك مضرة بالغة لها.
والأولى كما ذكرنا سابقا تجنبا لمثل هذا أن يدفع المهر كاملا قبل البناء.
اتفق الفقهاء([209]) على أن الزوج لا تبرأ ذمته إلا بتسليم المهر إلى المرأة أو وكيلها، واختلفوا في تسليمه لأبيها، هل تبرا ذمته بذلك أم لا على قولين:
القول الأول: أنه ليس للأب قبض صداق البكر ولا الثبيب، وهو قول الشافعية والحنابلة، قال أحمد: إذا أخذ مهر ابنته، وأنكرت، فذاك لها، ترجع على زوجها بالمهر، ويرجع الزوج على أبيها، فقيل له: أليس قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (: أنت ومالك لأبيك) ([210])؟ قال: نعم ولكن هذا لم يأخذ منها، إنما أخذ من زوجها، واستدلوا على ذلك بأنها رشيدة، فلم يكن لغيرها قبض صداقها، كالثيب.
وقريب منه قول الإمامية، فقد نصوا على أن (الرجل إذا قبض صداق ابنته، وكانت صبية غير بالغ، في حجره، برئت ذمة الزوج من المهر، على كل حال، لأنه القابض عنها، والوالي عليها، ولم تكن للبنت مطالبته بالمهر بعد البلوغ، وإن كانت البنت بالغة، فإن كانت وكلته في قبض صداقها، فقد برأ أيضا ذمة الزوج، وإن لم تكن وكلته على ذلك، لم تبرأ ذمة الزوج، وكان لها مطالبته بالمهر، وللزوج الرجوع على الأب في مطالبته بالمهر، فإن كان الأب قد مات، كان له الرجوع على الورثة، إن كان خلف في أيديهم شيئا، ومطالبتهم بالمهر، كما كان له مطالبته في حال حياته، وهذا إذا لم يصدقه الزوج على وكالته، فأما إن ادعى الأب الوكالة من البنت بقبض المهر، وصدقه الزوج على ذلك، فليس للزوج الرجوع عليه، سواء كان حيا أو قد مات)([211])
القول الثاني: أن للأب قبض صداق البكر دون الثيب، وهو قول الحنفية والمالكية([212])، واستدلوا على ذلك بما يلي:
- اعتبارا للعرف.
- أن البكر تستحي، فقام أبوها مقامها، كما قام مقامها في تزويجها.
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة هو تسليم المهر لأبيها في حال الوثوق بأنه سيسلمه لها كما هو جار في العرف، مع توثيق ذلك بالشهود أو الكتابة ما أمكن.
أما إن كان الأب غير ثقة، ويخشى أن لا يسلمها حقها من المهر، أو يتخذه حلوانا، فإن الأرجح في هذا هو تسليمه للمرأة، أو للثقة الذي يسلمه لها، مع التوثيق كلما دعت الحاجة إلى ذلك.
ولا نرى أن المسألة تحتاج إلى التفريق بين البكر والثيب، لأن لكليهما الحق في المهر، أما التفريق فينبغي أن يكون بين الولي الثقة والولي غير الثقة والولي الورع، والولي الذي لا يبالي ما دخل في جيبه أمن حقه أم من غير حقه.
اختلف الفقهاء في حكم المهر المؤجل ومدة التأجيل على الأقوال التالية([213]):
القول الأول: يبطل الآجل لجهالة محله، ويكون حالا، وهو قول الحسن وحماد بن أبي سليمان وأبي حنيفة وسفيان الثوري وأبي عبيدة وابن حزم، واستدلوا على ذلك بما يلي:
- قوله تعالى: { وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً }(النساء: 4)، فمن شرط أن لا يؤتيها صداقها أو بعضه – مدة ما – فقد اشترط خلاف ما أمر الله تعالى به في القرآن،وهو مخالف لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:(من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد) ([214])
- أن المرأة بالتأجيل رضيت بإسقاط حق نفسها، فلا يسقط حق الزوج، كالبائع إذا أجل الثمن أنه يسقط حق حبس المبيع بخلاف ما إذا كان التأجيل إلى مدة مجهولة جهالة متفاحشة، لأن التأجيل ثمة لم يصح فلم يثبت الأجل فبقي المهر حالا.
القول الثاني: تفسد التسمية ويجب مهر المثل، وهو قول الشافعي وأبي الخطاب ومالك إلا أن مالكا قال:(إذا دخل بها أجزت النكاح، وجعلت لها صداق مثلها، ولم أنظر إلى الذي سمي من الصداق إلا أن يكون صداق مثلها أقل مما جعل لها فلا ينقص منه شيء) ([215])واستدلوا على ذلك بأنه عوض مجهول المحل، ففسد كالثمن في البيع، لجهالة العوض بجهالة أجله رجع إلى مهر المثل.
القول الثالث: يصح الآجل مع تحديده إلى فترة محددة، وهو قول إياس بن معاوية ومكحول والأوزاعي، وقول عند المالكية، وقد اختلفوا في تحديد الأجل على ما يلي:
- أن يفارقها أو يتزوج عليها أو يخرجها من بلدها، فلها حينئذ المطالبة به، وهو قول إياس بن معاوية.
- يحل بعد سنة من وقت الدخول،وهو قول مكحول والأوزاعي.
أما عند القائلين بذلك من المالكية فقد اختلف في مقدار التأخير، فحكى عن ابن القاسم تأخيره إلى السنتين والأربع، وعن ابن وهب إلى السنة، وعنه إن زاد الأجل على أكثر من عشرين سنة فسخ، وعن ابن القاسم إذا جاوز الأربعين فسخ، وعنه إلى الخمسين والستين، وقال عبد الملك: وما قصر من الأجل فهو أفضل، وإن بعد لم أفسخه إلا أن يجاوز ما قال ابن القاسم، وإن كانت الأربعون في ذلك كثيرة جدا([216]).
القول الرابع: الإلزام بالصداق الذي اتفق الزوجان على تأخير المطالبة به، وإن لم يسميا أجلا، فإن المؤخر لا يستحق المطالبة به إلا بموت أو الفرقة، وهو قول النخعي والشعبي والليث بن سعد([217])، وهو المنصوص عن أحمد، وهو اختيار ابن تيمية وابن القيم،
وهو قول الإمامية، فقد نصوا على أنه (يجوز أن يجعل المهر كله حالاً أي بلا أجل ومؤجلا أن يجعل بعضه حالاً وبعضه مؤجلاً، وذلك لأن الحق بينهما فلهما أن يتراضيا بكل ما شاءا وأرادا مضافاً إلى الأصل والإجماع والإطلاق وما روي عن الصادق ع في معتبرة رياض بن إبراهيم في الرجل يتزوج بعاجل وآجل قال: (الآجل إلى موت أو فرقة)
ومن الأدلة التي استدل بها أصحاب هذا القول:
- أن المطلق من العقود ينصرف إلى العرف والعادة عند المتعاقدين كما في النقد والسكة والصفة والوزن، والعادة جارية بين الأزواج بترك المطالبة بالصداق إلا بالموت أو الفراق، فجرت العادة مجرى الشرط
- أن عقد الزواج يخالف سائر العقود، ولهذا نافاه التوقيت المشترط في غيره من العقود على المنافع، بل كانت جهالة مدة بقائه غير مؤثرة في صحته، والصداق عوضه ومقابله، فكانت جهالة مدته غير مؤثرة في صحته
- قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (المسلمون على شروطهم، إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا)وهذا لا يتضمن واحدا من الأمرين، فإن ما أحل الحرام وحرم الحلال لو فعلاه بدون الشرط لما جاز.
- قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن أحق الشرط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج) ([218])
- أن تلك التقديرات المذكورة، والتي ذكرها أصحاب القول الثالث، يكفي في عدم اعتبارها عدم دليل واحد يدل عليها، ثم ليس تقدير منها بأولى من تقدير أزيد عليه أو أنقص منه، وما كان هذا سبيله فهو غير معتبر.
- أنه عوض في معاوضة، فجاز ذلك فيه كالثمن.
- أن المطلق يحمل على العرف، والعادة في الصداق الآجل ترك المطالبة به إلى حين الفرقة، فحمل عليه، فيصير حينئذ معلوما بذلك.
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الرابع، إذا ما تراضى الأطراف على ذلك أو دل العرف عليه، بشرط أن يسلم للمرأة مهرها المعجل الذي تستحل به، أما المهر المؤجل الذي اتفقا عليه، فلا جناح في تأخيره إما إلى مدة محددة ارتضياها، أو إلى غير مدة، وحينذاك يستقر على الفرقة أو الموت، أو يمكن أن يجعل أقساطا تأخذها الزوجة في مدد محددة،ويمكن بعد ذلك أن تتنازل عنه كما تتنازل عن سائر أنواع المهور.
ونرى ـ مع عدم الدليل على استحباب أو كراهة هذا النوع من المهر ـ خضوعه استحبابا أو كراهة لمصلحة المرأة من غير ابتزازه للرجل، فإن مثل هذا النوع من المهور قد يصلح مع رجل متلاعب ذواقة يستغل عدم غلاء المهور، فيتزوج كيف يشاء ويطلق متى شاء، فيكون في هذا النوع من المهر رادعا له.
ويمكن مع هذا النوع من المهر أن تحيا سنة تيسير المهور، لأن الكثير من الأولياء يغالي في المهور خوفا على ابنته من الطلاق، فيمكن لهذه المغالاة أن ترتبط بالمهر المؤجل، بينما يقتصر المهر المعجل على الحد الأدنى الذي يصح به الزواج، فنكون بذلك قد أحيينا السنة وقطعنا الطريق على المتلاعبين.
ويمكن لهذا النوع من المهر كذلك أن يحفظ حقوق المرأة وأولادها بعد الطلاق، فلا تضيع ولا تشرد، وذلك إذا ما شرطت عليه دارها كمهر مؤجل يتم استيفاؤه بالموت أو الطلاق، وليس في ذلك أي حرج شرعي كما قد يتصور البعض، لأن تشرد الرجل في الشارع أولى وأقل مفسدة من تشرد المرأة وأولادها.
والمصالح في ذلك كثيرة، قصدها الشرع بإطلاق القول في مثل هذا وعدم تحريمه، وقد يقال بعد هذا: فلماذا مع كل هذه المصالح لم يرد دليل واحد على الاستحباب، والإجابة على ذلك: أن النص على الاستحباب عادة يكون على المصالح المحضة، أما المصالح التي قد تختلط بالمفاسد، فإن أمر التمييز يبقى خاضعا للظروف والأعراف والأحوال، فما ذكرناه من مصالح ينسجم مع واقعنا البعيد في كثيرمن أخلاقياته عن المجتمع المسلم المثالي، أما في عهده صلى الله عليه وآله وسلم فكان الأمر مختلفا.
أما المفاسد التي قد تكتنف ما ذكرنا من مصالح، فهو استغلال المرأة تقييدها الرجل بالمهر المؤجل، فتتخلى عما طلب منها من أمور الزوجية وحقوقها، لأن الزوج صار في عصمتها، وقد ذكر ابن القيم بعض عيوب هذا النوع من الصداق، وخاصة على القول بحبس الزوج في حال عدم الوفاء بما شرط عليه، وهو يشير بذلك إلى التطبيق السيئ لهذا النوع من الصداق:(ومن حين سلط النساء على المطالبة بالصدقات المؤخرة، وحبس الأزواج عليها، حدث من الشرور والفساد ما الله به عليم، وصارت المرأة إذا أحست من زوجها بصيانتها في البيت، ومنعها من البروز، والخروج من منزله والذهاب حيث شاءت تدعي بصداقها، وتحبس الزوج عليه، وتنطلق حيث شاءت، فيبيت الزوج ويظل يتلوى في الحبس، وتبيت المرأة فيما تبيت فيه) ([219])
وهذا الخطر يشير إلى ضرورة التوثيق الصحيح لمثل هذا النوع من المهر، لأن ابن القيم أشار بهذا إلى ما يكون التحديد فيه مفوضا للزوجة بدون تقييد.
ولكنه مع ذلك، فإن لهذه المفسدة حلولها الشرعية التي أشرنا إليها في الشروط المقيدة للعقد، فيمكن لتلك الشروط أن تضمن مصالح الرجل كما تضمن مصالح المرأة.
يقصد بالتفويض في الزواج أمران:
تفويض البضع: وهو الذي ينصرف إليه إطلاق التفويض في الزواج، والمراد منه تفويض أمر زواجها.
تفويض المهر: وهو أن يجعل الصداق إلى رأي أحدهما، أو رأي أجنبي، فيقول: زوجتك على ما شئت، أو على حكمك أو على حكمي، أو حكمها، أو حكم أجنبي، ونحوه.
أو هو السكوت عن تعيين الصداق حين العقد، ويفوض ذلك إلى أحد الزوجين أو إلى غيرهما.
وعرفه ابن عرفة بأنه: عقد دون تسمية مهر ولا إسقاطه ولا صرفه لحكم أحد([220]).
وقد فرق في هذا بين التفويض والتحكيم، فالقدر المشترك بينهما وهو عدم ذكر المهر، أما في التفويض فلا يصرف تعيينه لحكم أحد، وفي التحكيم يصرف تعيينه لحكم أحد كما إذا تزوج امرأة على حكم فلان فيما يعينه من مهرها([221]).
وقد أجمع العلماء على جواز زواج التفويض، واستدلوا على ذلك بما يلي([222]):
- قوله تعالى: { لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً } (البقرة:236)
- أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قضى في بروع بنت واشق، وكان زوجها مات، ولم يدخل بها، ولم يفرض لها صداقا، فجعل لها مهر نسائها لا وكس ولا شطط([223]).
- أن القصد من الزواج الوصلة والاستمتاع دون الصداق، فصح من غير ذكره.
([1]) العناية:3/315.
([2]) رد المحتار:3/101.
([3]) ذكر ابن قدامة أن للصداق تسعة أسماء هي: الصداق ، والصدقة ، والمهر ، والنحلة ، والفريضة ، والأجر ، والعلائق ، والعقر ، والحباء. انظر: المغني :7/160، الموسوعة الفقهية :29/145، تبيين الحقائق: 2/135، الإنصاف: 8/227 ،منج الجليل :3/415، أسنى المطالب :3/200.
([4]) قال مالك: النكاح أشبه شيء بالبيوع ، لما فيه من أحكام البيوع ، وهو وجوب العوض وتعريفه وإبقاؤه ورده بالعيب والقيام فيه بالشفعة إلى غير ذلك من أحكامه، انظر:أحكام القرآن لابن العربي: 1/500.
([5]) تفسير الأمثل – مكارم الشيرزي: 3/ 103.
([6]) أحكام القرآن للجصاص:2/349.
([7]) المحلى :9/90.
([8]) أنوار البروق: 3/176.
([9]) في ظلال القرآن: 1/585.
([10]) في ظلال القرآن: 1/585.
([11]) البخاري: 2/722، الترمذي:3/402، النسائي: 3/336، ابن ماجة: 1/605، أحمد: 3/190.
([12]) البخاري:1/322، مسلم: 2/1045، الترمذيك 3/423، أبو داود: 2/221، النسائي :3/311، ابن ماجة: 1/629، الدارمي: 2/206.
([13]) تفسير القرطبي:5/23.
([14]) التاج المذهب:2/145.
([15]) وهو قول أبي حنيفة إذا مات الزوجان لأن موتهما معا في زمان واحد نادر ، وإنما الغالب موتهما على التعاقب فإذا لم تجز المطالبة بالمهر دل ذلك على الاستيفاء أو على استيفاء البعض والإبراء عن البعض، وقد قيل: إن قول أبي حنيفة محمول على ما إذا تقادم العهد حتى لم يبق من نسائها من يعتبر به مهر مثلها كذا ذكره أبو الحسن الكرخي وأبو بكر الرازي ، وعند ذلك يتعذر القضاء بمهر المثل، انظر: المبسوط: 2/274.
([16]) انظر: الجامع للشرايع – يحيى بن سعيد الحلي (ص: 441)
([17]) قال الترمذي: حديث ابن مسعود حديث حسن صحيح، الترمذي: 3/450، وانظر: النسائي: 3/316، أحمد: 1/447..
([18]) انظر: الفروع:4/294، الجوهرة النيرة: 1/247، الطرق الحكمية:57.
([19]) مسلم: 3/1191، ابن حبان: 11/409، الحاكم 2/47، الترمذي: 3/44، البيهقي: 6/49، أبو داود: 3/276، النسائي: 4/19، المجتبى: 7/265، ابن ماجة: 2/789.
([20]) الطرق الحكمية:57.
([21]) هو الحباء ، وهو أخذ الرجل من مهر ابنته، فتح الباري: 9/218.
([22]) اختلف في عد الأقوال في المسألة، انظر: سبل السلام:3/149، نيل الأوطار:6/320، بداية المجتهد: 2/21، فتح الباري: 9/218.
([23]) شرح الزرقاني: 3/170.
([24]) البيهقي:7/248، أبو داود: 2/241، النسائي: 3/322، ابن ماجة: 1/628، أحمد: 2/182، قال الشوكاني: الحديث سكت عنه أبو داود وأشار المنذري إلى أنه من رواية عمرو بن شعيب وفيه مقال معروف ومن دون عمرو بن شعيب ثقات، نيل الأوطار: 6/320.
([25]) نيل الأوطار:6/320.
([26]) انظر: بداية المجتهد:2/21.
([27]) أحكام القرآن :3/501، تفسير القرطبي:13/279.
([28]) انظر: بداية المجتهد:2/21.
([29]) المحلى:9/90.
([30]) الجامع للشرائع : ٤٣٩. وجواهر الكلام ٣١ : ٤..
([31]) انظر :المحلى:9/90.
([32]) البخاري: 2/513، مسلم: 2/704، النسائي: 2/39، الدارمي: 1/478.
([33]) قال ابن حجر: رواه أحمد وابن ماجة والحاكم بلفظ:« لا يحلف على هذا المنبر عبد ولا أمة على يمين آثمة ولو على سواك رطب إلا وجبت له النار»، تلخيص الحبير: 3/229، وانظر: البيهقي:10/176، أبو داود: 3/221، ابن ماجة: 2/779.
([34]) سبق تخريجه.
([35]) المحلى: 9/478.
([36]) انظر هذه الآثار بأسانيدها في المحلى:9/450.
([37]) قال الترمذي: حديث حسن صحيح، الترمذي:3/420، وقد خولف في تصحيحه، نيل الأوطار:6/309، وانظر: البيهقي: 7/138، أحمد: 3/445.
([38]) شرح معاني الآثار: 3/16، المغني :7/163.
([39]) البيهقي:6/125.
([40]) قال ابن حجر: رواه الطبراني واللفظ له وأحمد ورجالهما رجال الصحيح، مجمع الزوائد:8/36، وانظر: البيهقي: 2/17، أحمد: 3/428، المعجم الأوسط:8/344.
([41]) المعجم الكبير:18/166، ضعفاء العقيل: 2/29.
([42]) القدح وهو السهم قبل أن يراش، ومعنى الحديث، أنه سيجيء أقوام يقيمونه أي يصلحون ألفاظه وكلماته ويتكلفون في مراعاة مخارجه وصفاته كما يقام القدح أي يبالغون في عمل القراءة كمال المبالغة لأجل الرياء والسمعة، عون المعبود:3/42.
([43]) يتعجلونه: أي ثوابه في الدنيا ،ولا يتأجلونه بطلب الأجر في العقبى، بل يؤثرون العاجلة على الآجلة.
([44]) ابو داود: 1/220، أحمد: 3/397، شعب الإيمان: 2/539.
([45]) قال الشوكاني: أخرجه الأثرم في سننه، نيل الأوطار:6/25.
([46]) الحاكم: 2/196.
([47]) انظر:شرح معاني الآثار :3/17، التمهيد:21/119.
([48]) استدل بالحديث في: الروض المربع: 3/107، وقد قال فيه ابن حزم: هذا خبر موضوع ، فيه ثلاث عيوب: أولها أنه مرسل ، ولا حجة في مرسل ، إذ رواه شعبة عن أيوب، والثاني: أن أبا عرفجة الفاشي مجهول لا يدري أحد من هو، والثالث: أن أبا النعمان الأزدي مجهول أيضا لا يعرفه أحد، المحلى:9/499..
([49]) تفسير القرطبي: 5/135.
([50]) أحكام القرآن للجصاص:3/91.
([51]) حكى هذا الدليل القرطبي عن الطحاوي: تفسير القرطبي: 5/134.
([52]) قال الزرقاني: روي عن مالك هذا التفسير) أن يعلمها ما معه من القرآن أو مقدارا ما منه فيكون ذلك صداقها (رواه عنه ابن مضر الأندلسي واحتج شيوخنا العراقيون بهذا الحديث على أن منافع الأعيان يصح أن تكون عوضا عن البضع ،انظر: المنتقى:3/286.
([53]) التمهيد: 21/120.
([54]) النهاية: 469.
([55]) الوسائل: 15 الباب 1 من أبواب المهور، الحديث 2.
([56]) البخاري: 2/795، ابن حبان: 11/546، البيهقي: 1/430، الدارقطني: 3/65، شعب الإيمان: 2/536.
([57]) التمهيد: 21/120.
([58]) اشترط الشافعية أن يحفظها على الأقل أقصر سورة من القرآن وهي الكوثر ثلاث آيات فصاعدا ليكون قدر ما يختص به الإعجاز فإن كان أقل لم يجز لأنه لا يختص به الإعجاز وتعين القرآن يقتضيه ،أسنى المطالب: 3/215.
([59]) المغني:7/164.
([60]) الفروع :5/263.
([61]) قال في نصب الراية:: رواه الجماعة إلا الترمذي، فأخرجه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجة من حديث مالك عن نافع عن ابن عمر ،وزاد أبو داود وابن ماجة فيه « مخافة أن يناله العدو»، نصب الراية: 3/383، وانظر:مسلم :3/1491.
([62]) شرح العمدة:1/376.
([63]) التمهيد:15/254.
([64]) التمهيد:15/254.
([65]) القرطبي:8/76.
([66]) قال الطوسي في الخلاف: (يجوز أن يكون منافع الحر مهرا، مثل: تعلىم آية، أو شعر مباح، أو بناء، أو خياطة ثوب وغير ذلك، مما له أجرة. واستثنى أصحابنا من جملة ذلك الاجارة فقالوا: لا يجوز ذلك، لأنه كان يختص بذلك موسى – عليه السلام -) (الخلاف- الشيخ أبي جعفر محمد بن الحسن بن علي بن الحسن الطوسي ج 04 (ص: 366)
وقد ورد في الرواية ما يدل على علة ذلك، ما رواه الکليني عن أبي نصر البزنطي، قال: قلت لأبي الحسن ع: قول شعيب: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القصص: 27]، أيّ الأجلين قضي؟ قال: (الوفاء منهما أبعدهما عشر سنين) قلت: فدخل بها قبل أن ينقضي الشرط أو بعد انقضائه؟ قال: (قبل أن ينقضي)، قلت: فالرجل يتزوّج المرأة و يشترط لأبيها إجارة شهرين يجوز ذلک؟ فقال: (إنّ موسي عليه السّلام قد علم أنّه سيتمّ له شرطه فکيف لهذا بأن يعلم أن سيبقي حتّي يفي؟ وقد کان الرجل علي عهد رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يتزوّج المرأة علي السورة من القرآن وعلى الدرهم وعلى القبضة من الحنطة) (الوسائل: 15 الباب 22 من أبواب المهور، الحديث 1)
([67]) الروض المربع: 3/108.
([68]) كشاف القناع:5/131، وانظر: الأم:5/60.
([69]) هذا ما نص عليه الحنابلة « انظر: كشاف القناع:5/130»، وقد نص الشافعية هنا على أنه إذا مات الصبي الذى استؤجر على إرضاعه، أو تلف الثوب الذى استؤجر على خياطته، ففي الانفساخ بذلك ثلاثة وجوه:
- أنه لا ينفسخ لأنه كالمستوفي فأشبه موت العاقدين فإنه لا يوجب الفسخ.
- بنفسخ لأنه كموت الأجير لأن الغرض يختلف به، وقد نص الشافعي على أنه لو أصدقها خياطة ثوب فتلف الثوب رجعت إلى مهر المثل وهو حكم بالانفساخ.
أنهما إن لم يتشاحا في الإبدال استمر العقد وإلا ثبت الفسخ، ونرى أن هذا هو أعدل الأقوال في المسألة، انظر: الوسيط:4/200، روضة الطالبين: 5/244.
([70]) كشاف القناع:5/130.
([71]) اختلف المالكية في جعل المنافع صداقا على ثلاثة أقوال: كرهه مالك ، ومنعه ابن القاسم، وقال: يفسخ قبل البناء ، ويثبت بعده ، وأجازه غيرهما، وقال أصبغ: إن نقد معه شيء ففيه اختلاف ، وإن لم ينقد فهو أشد ، فإن ترك مضى على كل حال انظر :أحكام القرآن لابن العربي: 3/500، بداية المجتهد:2/16.
([72]) اختلف الحنفية في حال جعله المهر خدمته، فقيل :يجب مهر المثل ، وقال محمد: تجب قيمة الخدمة ; لأن المسمى مال إلا أنه عجز عن التسليم لمكان المناقضة فصار كالتزوج على عبد الغير بخلاف تعليم القرآن، وقد روي عنهم في رعي غنمها روايتين ، ومنهم من قال: يصح في رعي الغنم بالإجماع ، وإنما الخلاف في خدمته لها.انظر تفصيل الخلاف في: تبيين الحقائق: 2/145، بدائع الصنائع: 2/278..
([73]) أحكام القرآن للجصاص:3/92، 5/215، وانظر: بدائع الصنائع:2/260.
([74]) الأصح أن في المسألة خلافا للعلماء، فقد اختلفوا فيما يخرجه الزوج من يده، ولا يدخل في يد المرأة على أقوال ذكرناها في محلها من هذا الفصل.
([75]) أحكام القرآن :3/501.
([76]) الإنصاف :8/246، التاج والإكليل:5/174 ،البحر الرائق :3/176، مغني المحتاج :4/367.
([77]) وقد نصوا على أن لها القيمة، قال الطوسي: (إذا قال أصدقتها هذا الخلّ فبان خمرا کان لها قيمتها عند مستحلّيها، و قال الشافعي: و يبطل المسمّي و لها مهر المثل، دليلنا: أنّ العقد وقع علي معين و نقله إلي مهر المثل يحتاج إلي دليل ) (الخلاف: 2/ 406)، ومن الأدلة التي استدلوا على ذلك خبر عبيد بن زرارة قال: قلت لأبي عبد اللّه ع: النصراني يتزوّج النصرانية علي ثلاثين دنّا خمرا و ثلاثين خنزيرا ثمّ أسلما بعد ذلک و لم يکن دخل بها؟ قال: (ينظر کم قيمة الخمر و کم قيمة الخنازير و يرسل بها إليها ثمّ يدخل عليها و هما علي نکاحهما الأوّل ) (الوسائل: 15 الباب 3 من أبواب المهور، الحديث 2)
([78]) قال مالك في المدونة في هذه المسألة: إذا دخل بها كان لها صداق مثلها ، وهو بمنزلة الجنين في بطن أمه أو البعير الشارد أو الثمرة التي لم يبد صلاحها ،وإن لم يدخل بها فسخ زواجها ولم يثبتا عليه، انظر: المدونة: 2/147.
([79]) المبدع:7/89، كشاف القناع:5/98.
([80]) المغني:7/170.
([81]) المغني :7/168، العناية شرح الهداية :3/357 ،التاج والإكليل :5/275.
([82]) الجنس في اللغة الضرب من كل شيء، وقد عرفه الجرجاني بأنه اسم دال على كثيرين مختلفين بالأنواع، وقال الشربيني: الجنس: كل شيئين أو أشياء جمعها اسم خاص تشترك في ذلك الاسم بالاشتراك المعنوي، أما النوع فهو ما صدق في جواب ما هو على كثيرين متفقين بالحقيقة، الموسوعة الفقهية:16/86.
([83]) قال السبحاني، بعد ذكره لبعض الروايات الدالة على هذا: (فالحقّ ما ذکرناه، من عدم اشتراط شي ء سوي کونه متموّلا و موردا للرضا فلا يجب تعيين السورة فضلا عن تعيين القراءة..) (نظام النکاح في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 197)
([84]) قال ابن حجر: رواه الدارقطني والبيهقي من حديث ابن عباس، وإسناده ضعيف جدا ،ورواه أبو داود في المراسيل، ورواه الدارقطني من حديث أبي سعيد الخدري وإسناده ضعيف أيضا، وأخرجه البيهقي من حديث عمر بإسناد ضعيف أيضا، تلخيص الحبير: قال ابن الجوزي: فيه إسماعيل بن عياش، وقد ضعفوه، قال ابن حبان: خرج عن حد الاحتجاج به، وفيه أبو هارون العبدي، واسمه عمارة بن جوين قال حماد بن زيد: كان كذابا وقال أحمد: ليس بشيء، التحقيق في أحاديث الخلاف:2/281، وانظر: البيهقي: 7/239، الدارقطني: 3/244.
([85]) بدائع الصنائع: 2/276 ،المغني: 7/1661 ،الجوهرة المنيرة :3/14 ،الإنصاف :8/229 ،التاج والإكليل :5/187 ، حاشيتا قليوبي وعميرة:3/277.
([86]) سبق تخريجه.
([87]) سبق تخريجه.
([88]) رواه أحمد.
([89]) رواه مسلم وغيره.
([90]) سبق تخريجه.
([91]) الأم:5/63.
([92]) سبق تخريجه.
([93]) انظر هذه الأقوال في: التمهيد: 21/119، القرطبي:5/128.
([94]) أخرجه الدارقطني، وفي سنده مبشر بن عبيد متروك وروى عن داؤد الأودي عن الشعبي عن علي لا يكون المهر أقل من عشرة دراهم، قال أحمد بن حنبل لقن غياث بن إبراهيم داؤد الأودي عن الشعبي عن علي لا مهر أقل من عشرة دراهم فصار حديثا، تفسير القرطبي:5/128، وقال ابن عبد البر: وهو حديث لا يثبت ،وروي عن الشعبي عن علي مثله ولا يصح ايضا عن علي، التمهيد: 21/119.
([95]) التاج والإكليل:5/187.
([96]) تفسير القرطبي:5/128.
([97]) التمهيد:21/119.
([98]) تفسير القرطبي:5/128.
([99]) إعلام الموقعين :2/252.
([100]) ذكر المفسرون ما ورد في تحديد القنطار من أقوال كثيرة، حتى أن بعضهم اعتبره ملء مسك ثور من ذهب، وقد روي بعضها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ابن العربي :)ولا يصح في هذا الباب شيء، والذي يصح في ذلك أنه المال الكثير الوزن ، هذا عرف عربي (ولا يقصد بالقنطار ما هو محدد عندنا عرفا، انظر: أحكام القرآن لابن العربي: 1/469تفسير القرطبي:4/30.
([101]) تفسير القرطبي: 5/99.
([102]) فيض القدير: 2/7..
([103]) قال الحاكم :هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، الحاكم:2/198، البيهقي:7/232، أبو داود: 2/238، ابن أبي شيبة: 3/499.
([104]) هناك خلاف في المسألة ذكره الإمامية سنعرض له لاحقا.
([105]) رواه أحمد والبيهقي عن عائشة مرفوعا، كشف الخفاء:1/465، وانظر: الحاكم: 2/194، البيهقي: 7/235، النسائي: 402.
([106]) فيض القدير: 2/6.
([107]) رواه الطبراني عن ابن عباس مرفوعا بسندين ضعيفين، كشف الخفاء:1/465.
([108]) رواه أحمد والبيهقي والطبراني بسند جيد عنها بلفظ، كشف الخفاء:1/465.
([109]) رواه ابن حبان، كشف الخفاء:1/465.
([110]) أي أقله مهرا أو أسهله إجابة للخطبة، عون المعبود:6/107.
([111]) ابن حبان: 9/381، البيهقي:7/232، أبو داود: 2/238.
([112]) اسم واد بالمدينة، سمي به لسعته وانبساطه ،من البطيح وهو البسط، وخص بالذكر لأنه أقرب المواضع، فيض القدير: 5/330.
([113]) أخرجه الإمام أحمد والحاكم عن أبي حدرد الأسلمي وقال الحاكم صحيح تركها الذهبي وقال الهيثمي رجال أحمد رجال الصحيح، البيان والتعريف: 2/172، وانظر: الحاكم: 2/194، البيهقي:7/235، أحمد: 3/448.
([114]) الفتاوى الكبرى :3/195.
([115]) الانتصار 18: 651..
([116]) نظام النکاح في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 185.
([117]) مسلم: 2/1040، الحاكم: 2/193.
([118]) نيل الأوطار :6/197.
([119]) الفتاوى الكبرى :3/195.
([120]) المدونة:2/249، الأم :7/164، بدائع الصنائع: :2/287، المغني: 7/202.
([121]) قال أحمد ، في رواية ابن منصور: إذا تزوج امرأة في السر بمهر ، وأعلنوا مهرا ، ينبغي لهم أن يفوا ، ويؤخذ بالعلانية. فاستحب الوفاء بالشرط ، لئلا يحصل منهم غرور ، ولأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: « المؤمنون على شروطهم، انظر: المغني: 7/202.
([122]) وقد ذكروا أن للمسألة صورتين:
الأولي: إذا وقع العقد بمهر معيّن سرّا ثمّ عقدا ثانيا بمهر آخر، سواء کان الثاني أکثر أو أقلّ فالثاني لغو بلا کلام، وإليه تشير رواية زرارة عن أبي جعفر ع في رجل أسرّ صداقا و أعلن أکثر منه فقال: (هو الذي أسرّ و کان عليه النکاح)
الثاني: إذا عقدا على ألفين ظاهرا و کان الجد أنّ المهر هو ألف. و الظاهر، بطلان کون الألفين مهرا لعدم تعلّق الإرادة الجدّية لهما حسب الفرض. (نظام النکاح في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 199)
([123]) قال ابن قدامة: كل من قلنا: القول قوله في هذه المسألة، فهو مع يمينه ; لأنه اختلاف فيما يجوز بذله ، تشرع فيه اليمين ، كسائر الدعاوى في الأموال، انظر: المغني :7/180.
([124]) سبق تخريجه.
([125]) قال الشيخ الطوسي: (إنّ القول قول الزوج بيمينه إذا لم تکن هناک بيّنة معها، و وافقنا جماعة علي ذلک، و قال قوم يتحالفان، و بمن يبدأ؟ فيه أقوال ثلاثة: أحدها يبدأ بيمين الزوج، و الثاني بيمين الزوجة، و الثالث يبدأ الحاکم بأيّهما شاء- إلي أن قال:- و متي تحالفا بطل المهر و وجب لها مهر المثل) (الطوسي: المبسوط: 4/ 300)
([126]) هذا إذا كان المدفوع من جنس الواجب عليه ،أما إذا كان المدفوع من غير جنس الواجب عليه ، كأن أصدقها دراهم ، فدفع إليها عوضا ، ثم اختلفا ، وحلف أنه دفع إليها ذلك من صداقها ، فللمرأة رد العرض ، ومطالبته بصداقها.. فأما إذا ادعى أنها احتسبت به من الصداق ، وادعت هي أنه قال: هو هبة. فينبغي أن يحلف كل واحد منهما ، ويتراجعان بما لكل واحد منهما، المغني :7/181..
([127]) الطوسي: المبسوط: 4/ 302.
([128]) نظام النکاح في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 284.
([129]) اختلف قول مالك فيما جرى العرف به في الهدايا التي يتهاداها الأزواج عند الأعراس ، فمرة رأى القضاء بها لأن العرف كالشرط إلا أنه أبطلها في الموت ، ومرة لم ير القضاء بها، انظر: التاج والإكليل :5/210.
([130]) أحكام القرآن لابن العربي: 1/500، بدائع الصنائع: 2/290.
([131]) تفسير القرطبي:3/206.
([132]) أجاز بعضهم ذلك واستدلوا بقوله تعالى: « أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح »فاعتبروا الأب ممن بيده عقدة الزواج ،انظر: بدائع الصنائع: 2/290.
([133]) درر الحكام :2/783، وانظر: شرح حدود ابن عرفة:171.
([134]) نظام النکاح في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 260.
([135]) القرطبي:5/102، الجصاص:2/147، فتح القدير: 1/253، المبدع: 7/93، الفروع 5/223، الإنصاف للمرداوي 8/283، منار السبيل:2/180، المغني: 7/191، المهذب: 2/57، الوسيط: 5/236، حاشية البجيرمي: 3/402، روضة الطالبين:7/263، المبسوط: 5/150، مختصر اختلاف العلماء:2/348، التاج والإكليل:3/507.
([136]) المبسوط:5/149، المغني: 7/191، وللمالكية أربعة أقوال في المسألة، هي: أن المهر كاملا يستقر بمجرد الخلوة، وقيل لا يستقر إلا بالوطء، وقيل يستقر بالخلوة في بيت الإهداء، وقيل بالتفرقة بين بيته وبيتها، قال القرطبي: والصحيح استقراره بالخلوة مطلقا، تفسير القرطبي:5/102، وانظر:المدونة:2/229، مواهب الجليل:4/105.
([137]) البيهقي:7/256، الدارقطني:3/307، والحديث مرسل، وفيه ابن لهيغة، انظر: التحقيق في أحاديث الخلاف:2/284.
([138]) ذكر السبحاني أن للمسألة عند الإمامية أربعة أقوال:
1 – لا يجب بالخلوة و إن کانت تامة و هو المشهور.
2 – يجب بالخلوة بما أنّها سبب تام، حکاه الشيخ في الخلاف عن بعض أصحابنا و هو بعد غير محقق عندنا.
3 – يجب علي ظاهر الحال، بمعني أنّ الخلوة أمارة الدخول و أنّ اتّفاقهما علي عدمه، للفرار من العدّة من جانبها و المهر من جانبه.
4 – إنّ مقدّمات الوطء مطلقا، کالتقبيل و سائر الاستمتاعات تقوم مقام الدخول نسب إلي ابن الجنيد.. (انظر: نظام النکاح في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 229)
([139]) المحلى:9/485.
([140]) سبق تخريجه.
([141]) منح الجليل: 3/467.
([142]) مغني المحتاج :4/387، الأم:8/273.
([143]) رد المحتار :3/139.
([144]) مغني المحتاج :4/387، أسنى المطالب :3/206.
([145]) المنتقى:3/282.
([146]) الأم:8/283.
([147]) فتح القدير: 3/368.
([148]) فتح القدير:3/368.
([149]) المنتقى: 3/282، شرح حدود ابن عرفة:175.
([150]) الشيخ حسن الصفار، فقه الأسرة، ص 236.
([151]) المنتقى :3/282.
([152]) المبسوط:4/225، بدائع الصنائع:2/290،أحكام القرآن لا بن العربي:1/1/407.
([153]) المحلى:9/51.
([154]) المبسوط:5/13.
([155]) أحكام القرآن للجصاص: 1/512.
([156]) سبق تخريجه.
([157]) سبق تخريجه.
([158]) بدائع الصنائع: 2/295، القرطبي:3/198، شرح الزرقاني:3/170، عون المعبود:6/104، تحفة الأحوذي:4/253، سبل السلام: 3/150، المغني:7/182، اختلاف العلماء: 143، بداية المجتهد:2/20، نيل الأوطار:6/318.
([159]) مصنف ابن أبي شيبة:3/556، وقد قال البيهقي في الحديث مجيبا على اعتراض الشافعي: هذا إسناد صحيح، وقد سمي فيه معقل بن سنان وهو صحابي مشهور، ورواه يزيد بن هارون وهو أحد حفاظ الحديث مع عبد الرحمن بن مهدي وغيره بإسناد آخر صحيح كذلك، البيهقي:7/244، وانظر: صحيح ابن حبان:9/408، الحاكم:2/196، الترمذي: 3/450.
([160]) المغني :7/170، الأم:6/139، المبسوط:5/92، الفواكه الدواني :2/11.
([161]) يقول ابن حزم 🙂 كل نكاح عقد على صداق فاسد ، أو على شرط فاسد ، مثل أن يؤجل إلى أجل مسمى أو غير مسمى ، أو بعضه إلى أجل كذلك ، أو على خمر ، أو على خنزير ، أو على ما يحل ملكه ، أو على شيء بعينه في ملك غيره … فهو نكاح فاسد مفسوخ أبدا وإن ولدت له الأولاد ، ولا يتوارثان ولا يجب فيه نفقة ، ولا صداق ولا عدة. وهكذا كل نكاح فاسد ، حاشا التي تزوجت بغير إذن وليها جاهلة فوطئها ، فإن كان سمى لها مهرا فلها الذي سمي لها ، وإن كان لم يسم لها مهرا فلها عليه مهر مثلها ، فإن لم يكن وطئها فلا شيء لها. فإن كان الصداق الفاسد ، الشروط الفاسدة إنما تعاقداها بعد صحة عقد النكاح خاليا من كل ذلك فالنكاح صحيح تام ، ويفسخ الصداق ، ويقضى لها بمهر مثلها ، إلا أن يتراضيا بأقل أو أكثر ، فذلك جائز ، وتبطل الشروط كلها » المحلى:9/86.
([162]) المغني:7/9.
([163]) الجوهرة النيرة:2/19.
([164]) انظر: القواعد لابن رجب:334.
([165]) بدائع الصنائع:2/335.
([166]) ذكر ابن رجب أن خلاف هذه الرواية هي المشهورة عن احمد،قال:» النكاح الفاسد يستقر بالدخول فيه وجوب المهر المسمى في الرواية المشهورة عن أحمد، وهي المذهب عند أبي بكر وابن أبي موسى واختارها القاضي وأكثر أصحابه في كتب الخلاف«، القواعد لابن رجب:68..
([167]) زاد المعاد: 5/105.
([168]) المدونة:2/198.
([169]) الأم: 4/109.
([170]) المغني: 7/9..
([171]) بدائع الصنائع:2/335.
([172]) وعن أحمد ، رواية أخرى: أنه لا مهر لها إن كانت ثيبا. واختاره أبو بكر. ولا يجب مع ذلك أرش البكارة. وذكر القاضي ، أن أحمد قد قال في رواية أبي طالب ، في حق الأجنبية إذا أكرهها على الزنى ، وهي بكر: فعليه المهر ، وأرش البكارة، انظر:المغني:7/209.
([173]) قول الشافعية مقتصر على الأجنبية إذا أكرهها على الزنى ، وهي بكر.
([174]) المنتقى :5/269.
([175]) أحكام القرآن للجصاص:2/165، المبسوط:9/53.
([176]) أرش البكارة هو التفاوت بين قيمتها بكرا وثيبا قاله ابن قتيبة وغيره، الأرش مأخوذ من قول العرب لكفايته بين الرجلين تأريشا إذا أغريت أحدهما وصله، وواقعت بينهما الخصومة فسمي نقص السلعة أرشا، لكونه سببا للتأريش وهو الخصومة، تحرير ألفاظ التنبيه:178.
([177]) فتاوى ابن الصلاح:2/465..
([178]) أنوار البروق:1/213.
([179]) المبدع:7/174.
([180]) المبدع:7/174.
([181]) وقد قسم المالكية الشغار إلى ثلاثة أقسام:
صريح الشغار: وهو أن يقول زوجتك موليتي على أن تزوجني موليتك ولا يذكران مهرا.
وجه الشغار: وهو أن يقول: زوجتك موليتي بكذا مهرا على أن تزوجني وليتك بكذا، وسمي بذلك لأنه شغار من وجه دون وجه، فمن حيث إنه سمى لكل واحدة مهرا فليس بشغار، ومن حيث إنه شرط تزوج إحداهما بالأخرى فهو شغار.
مركب الشغار: وهو أن يسمي لواحدة منهما مهرا دون الأخرى كأن يقول: زوجني بنتك بمائة من الدنانير مثلا على أن أزوجك بنتي.منح الجليل :3/447، شرح حدود ابن عرفة:175.
([182]) المبدع: 7/83.
([183]) انظر نقل الإجماع في ذلك:التمهيد:14/71، شرح النووي على مسلم:9/201.
([184]) اختلف في هذا التفسير هل هو من الراوي أو من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال ابن حجر: تفسير الشغار من قول نافع، ولفظه قال عبيد الله بن عمر، قلت لنافع: ما الشغار؟ فذكره، فلعل مالكا أيضا نقله عن نافع، وقال أبو الوليد الباجي: الظاهر أنه من جملة الحديث، وعليه يحمل، حتى يتبين أنه من قول الراوي، وهو نافع، قال ابن حجر: قد تبين ذلك ولكن لا يلزم من كونه لم يرفعه أن لا يكون في نفس الأمر مرفوعا، فتح الباري:9/162، وعن الشافعي أنه قال: تفسير الشغار ما أدري هل هو من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو من قول إبن عمر أو من نافع أو من مالك،مجموعة رسائل في الحديث:29، والظاهر من خلال نص الحديث أنه من تفسير الراوي.
([185]) البخاري:5/1966، مسلم:2/1034، الترمذي: 3/431، البيهقي:7/199، الموطأ:2/535.
([186]) مسلم:2/1035، ابن حبان:7/416، الترمذي:3/431، البيهقي:7/200، الدارقطني:4/303، النسائي: 3/309، ابن ماجة:1/606.
([187]) قال الترمذي: حديث حسن صحيح،، الترمذي:3/431، وانظر: ابن حبان: 7/416،، البيهقي:10/21، الدارقطني:4/305، النسائي:3/309، أحمد:4/439.
([188]) أخرجه أبو الشيخ من حديث أبي ريحانة، نيل الأوطار:6/278.
([189]) أخرجه الطبراني، قال الحافظ: وإسناده وإن كان ضعيفا لكنه يستأنس به في هذا المقام، نيل الأوطار:6/278.
([190]) رد المحتار :3/106،نيل الأوطار:6/169، مجمع الأنهر :1/438 ،الفتاوى الهندية:1/303، فتح القدير:3/338.
([191]) المدونة:2/98،حاشية الصاوي:2/446، حاشية الدسوقي: 2/307، حاشية العدوي:2/52.
([192]) سنرى تفاصيل أكثر للمسألة في محلها من هذه السلسلة.
([193]) الأم: 8/276،حاشية البجيرمي :3/334، حاشية الجمل :4/135.
([194]) مطالب اولي النهى:5/124،كشف القناع:5/92، الإنصاف:8/159، المغني:7/135.
([195]) المحلى:9/118.
([196]) الخلاف: 2/ کتاب النکاح، المسألة 118..
([197]) المبدع: 7/83، منار السبيل:2/58، المغني:7/134، كشاف القناع:5/93.
([198]) التمهيد:14/73.
([199]) ذكر ابن قدامة في المسألة قولين، ولكنه عاد ورجح رواية قول واحد وحمل القول الثاني على الاستحباب، يقول في المغني:)وأما الأخبار فمحمولة على الاستحباب ، فإنه يستحب أن يعطيها قبل الدخول شيئا ، موافقة للأخبار، ولعادة الناس فيما بينهم ، ولتخرج المفوضة عن شبه الموهوبة ، وليكون ذلك أقطع للخصومة. ويمكن حمل قول ابن عباس ومن وافقه على الاستحباب فلا يكون بين القولين فرق(المغني :7/188.
([200]) الكافي ج 5 ص 380.
([201]) سبق تخريجه.
([202]) أبو داود:2/241.
([203]) وبهذا الأصل قال الشافعية باستحباب أن لا ينقص عن عشرة دراهم خروجا من خلاف أبي حنيفة، وبهذا الأصل نرى اتفاق الواقع في أكثر المسائل الخلافية ،انظر:أسنى المطالب: 3/200.
([204]) للمالكية في ذلك روايات مختلفة ذكرها الحطاب منها :أنه يكره الدخول قبل تقديم ربع دينار، ومنها أنه ليس لها أن تمكنه من الدخول قبل أن تقبض ربع دينار، ومنها أن للمرأة أن تمنع نفسها من الزوج حتى يقدم لها ربع دينار ولو لم يكن حالا ولو رضيت له بالدخول بلا شيء فلها أن تمنعه ; لأن الكراهة في ذلك حق لله فلا تسقط عنه بإذنها وهذا ما لم يدخل بها وإن دخل بها فلا يكره له وطؤها ثانية قبل أن يعطيها ربع دينار ولا لها أن تمنعه. أما الدخول بالهدية بدل الصداق فقد كرهه ابن القاسم ; لأنها ليست من الصداق ; لأنه لو طلقها لم يكن له فيها شيء انظر: مواهب الجليل :3/503.
([205]) ابن حبان: 15/396، البيهقي:7/252، أبو داود: 2/240، النسائي: 3/332..
([206]) المنتقى :3/275.
([207]) ظظ.
([208]) ولأبي يوسف رأي آخر قيل :إته رجع إليه وهو أن لها أن تمنع نفسها إذا كان كله مؤجلا استحسانا ; لأن الاستمتاع في مقابلة تسليم المهر فإذا طلب تأجيل المهر فقد رضي بإسقاط حقه في الاستمتاع، تبيين الحقائق: 2/155، العناية شرح الهداية:3/370..
([209]) المغني: 7/199، المبسوط :5/2، الفتاوى الهندية:1/319، مطالب أولي النهى:5/189.
([210]) سبق تخريجه.
([211]) السرائر – محمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلي ج 02 ص: 97.
([212]) ذهب المالكية إلى ان للأب أن يقبض مهر البكر وإن عنست والثيب إن صغرت، وللوصي قبض الصداق ، ولو لم يجبر، ونصوا على أن الولي إذا قبض الصداق لوليته التي في حجره لا يجوز له أن يدفع لها ذلك عينا فإن فعل ذلك فإنه يضمنه للزوج ليشتري له به جهازا وإنما يبرئه من ذلك أحد أمور ثلاثة:
ـ أن يشتري به جهازا يصلح لها وتشهد البينة بدفعه لها ومعاينة قبضها له ولا يحتاج لإقرارها بالقبض.
ـ أن يشتري الجهاز ويحضره لوليته ببيت البناء وتعاينه البينة أنه وصل إليه.
ـ أن يشتري الجهاز ويوجهه إلى بيت البناء بعد تقويمه ومعاينته ولا تفارقه البينة حتى يوجه إلى بيت البناء وإن لم تصحبه الشهود إلى البيت ولا تسمع دعوى الزوج أنه لم يصل إلى بيته، انظر: الخرشي :3/293..
([213]) الفتاوى الكبرى:5/470، تبيين الحقائق: 2/156، العناية شرح الهداية:3/372، التاج والإكليل :5/194، مغني المحتاج:4/327، كشاف القناع :5/134.
([214]) سبق تخريجه.
([215]) المدونة :2/131.
([216]) انظر: مواهب الجليل:3/510.
([217]) وله فيه رسالة كتبها إلى مالك ينكر عليه خلاف هذا القول، ومما جاء فيها: (ومن ذلك أن أهل المدينة يقضون في صدقات النساء أنها متى شاءت أن تتكلم في مؤخر صداقها تكلمت فدفع إليها ، وقد وافق أهل العراق أهل المدينة على ذلك وأهل الشام وأهل مصر ، ولم يقض أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا من بعدهم لامرأة بصداقها المؤخر إلا أن يفرق بينهما موت أو طلاق فتقوم على حقها.(نص الرسالة بطولها في: إعلام الموقعين :3/69.
([218]) سبق تخريجه.
([219]) الطرق الحكمية:58.
([220]) شرح حدود ابن عرفة :171.
([221]) حاشية الدسوقي :2/313.
([222]) الأم:8/273، المغني :/7/173، مطالب أولي النهى:5/200، منح الجليل: 3/459، الموسوعة الفقهية :13/107.
([223]) سبق تخريجه.