الفصل الأول: جوانب الخلاف بين الجمعية والطرق الصوفية حول مفهوم البدعة وضوابطها

الفصل الأول

جوانب الخلاف بين الجمعية والطرق الصوفية حول مفهوم البدعة وضوابطها

يعتبر الموقف من البدعة وضوابطها من نقاط الخلاف الجوهرية الكبرى بين الجمعية والطرق الصوفية، بل بين الاتجاه السلفي بمختلف مدارسه والصوفية بمختلف فرقها وطرقها ومذاهبها.

ولهذا لا يمكن فهم تفاصيل ما جرى من خلاف بين الجمعية والطرق الصوفية في الكثير من فروع المسائل قبل معرفة هذا الأصل المهم، وهو ضبط معنى البدعة وحدودها لدى كل فريق من الفريقين.

وبما أن هذه المسألة قديمة، وقد أخذت حظها من كتب الفقه والأصول والمقاصد، والجمعية والطرق الصوفية لم يقوما فيها إلا بتبني بعض الاتجاهات ونصرتها، فإنه لزاما علينا أن نعود إلى المسألة في أبوابها الخاصة بها من كتب الفقه والأصول القديمة، والتي كانت المصدر الذي من خلاله تبنت الجمعية ومثلها الطرق الصوفية ما رأته من مواقف.

ولهذا، فإنه سيغلب على هذا البحث المنهج الفقهي المقارن، أي أننا سنذكر المسألة، ونحرر النزاع فيها، ثم نذكر أدلة كل فريق، ونحاول إن رأينا الحاجة إلى بعض الترجيحات فعلنا، وإلا تركنا الأمر للقارئ يحكم في المسألة بما يشاء.

وبناء على هذا، فقد قسمنا هذا الفصل إلى ثلاثة مباحث:

تناولنا في المبحث الأول: حقيقة البدعة وحكمها

وتناولنا في المبحث الثاني: موقف الجمعية من البدعة وأدلتها.

وتناولنا في المبحث الثالث: موقف الطرق الصوفية من البدعة وأدلتها.

المبحث الأول

حقيقة البدعة وحكمها

المطلب الأول: حقيقة البدعة:

لغة:

اسم من الابتداع، يقال: أبدع الشيء يبدعه بدعاً، وابتدعه: أنشأه وبدأه. والبدع والبديع: الشيء الذي يكون أولاً، وفي القرآن الكريم: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 9] أي: ما كنت أول من أرسل بل أرسل قبلي رسل كثيرون، والبديع: من أسماء الله تعالى لإبداعه الأشياءوإحداثه إياها، وهو البديع الأول قبل كل شيء. وهو الذي بدع الخلق، أي بدأه، كما قال سبحانه: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البقرة: 117] أي خالقها ومبدعها([1]).

اصطلاحا:

اختلفت تعريفات العلماء للبدعة بحسب موقفهم من تقسيمها إلى حسنة وسيئة، وشرعية ولغوية، ولهذا سنكتفي هنا بإيراد بعض التعاريف، ونترك تفاصيل ما يرتبط بالتعريف من أحكام إلى محله من هذا المبحث.

عرف ابن رجب البدعة بأنّها: (ما أُحدث مما لا أصل له في الشريعة يدّل عليه، أما ما كان له أصل من الشرع يدّل عليه فليس ببدعة شرعاً وإنْ كان بدعة لغةً)([2])

وعرفها ابن حجر العسقلاني بأنها (ما أُحدث وليس له أصل في الشرع، ويسمّى في عرف الشرع بدعة، وما كان له أصل يدلُّ عليه الشرع فليس ببدعة)([3])

وعرفها ابن حجر الهيثمي بأنها (ما أُحدث على خلاف أمر الشرع ودليله الخاص أو العام)([4])

المطلب الثاني: حكم البدعة:

اختلف الفقهاء في حكم البدعة إلى اتجاهين متناقضين، أحدهما متشدد يرى أن كل البدع سيئة مذمومة محرمة، والفريق الثاني متساهل، يرى أنه تنطبق عليها الأحكام الشرعية جميعا من الإباحة والحرمة والكراهة والندب، بل والوجوب.

وبما أن مواقف الجمعية والطرق الصوفية لا تعدو أن تكون اختيارا ونصرة لأحد هذين الاتجاهين، فإن المنهج العلمي يلزمنا أن نبحث في جذور الخلاف في هذه المسألة لدى الفريقين.

الفريق الأول: المتشددون

ويمثله ــ كما ذكرنا ــ الشاطبي خاصة في كتابه الاعتصام، والذي عرف البدعة بأنها (طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه)([5])

وبين أن اسم البدعة لا ينطبق إلا على ما يرتبط بالدين، يقول في ذلك: (وإنما قيدت بالدين، لأنها فيه تخترع وإليه يضيفها صاحبها. وأيضاً فلو كانت طريقة مخترعة في الدنيا على الخصوص لم تسمَّ بدعة، كإحداث الصنائع والبلدان التي لاعهد بها فيما تقدم)([6])

ثم بين خروج الكثير من العلوم الحادثة في الملة من مسمى البدعة باعتبار أن لها أصولا سابقة في الشريعة، وكأنه يرد بذلك على الاتجاه الآخر، والذي يعتبر تلك العلوم من البدع المستحسنة أو الواجبة، يقول الشاطبي: (ولما كانت الطرائق في الدين تنقسم، فمنها ماله أصل في الشريعة، ومنها ما ليس له أصل فيها، خُصَّ منها ما هو المقصود بالحد، وهو القسم المخترع، أي: طريقة ابتدعت على غير مثال تقدمها من الشارع… وبهذا القيد انفصلت عن كل ما ظهر لبادي الرأي أنه مخترع مما هو متعلق بالدين، كعلم النحو والتصريف ومفردات اللغة وأصول الفقه وأصول الدين، وسائر العلوم الخادمة للشريعة)([7])

وعلل ذلك بقوله: (فإنها وإن لم توجد في الزمان الأول فأصولها موجودة في الشرع، إذ الأمر بإعراب القرآن منقول، وعلوم اللسان هادية للصواب في الكتاب والسنة، فحقيقتها إذاً أنها فقه التعبد بالألفاظ الشرعية الدالة على معانيها كيف تؤخذ وتؤدى، وأصول الفقه إنما معناها: استقراء كليات الأدلة حتى تكون عند المجتهد نصب عين وعند الطالب سهلة الملتمس) ([8])

وإلى هنا نرى اتفاق كلا الاتجاهين على مشروعية كل ما أحدث في أمور الدنيا، أو أمور الدين مما له أصل في الشريعة على اختلاف في التسمية، فالشاطبي لا يعتبرها بدعة مطلقا، بينما يراها أصحاب الاتجاه الأول بدعا مستحسنة.

ونقطة الخلاف تبدأ، وربما تنتهي في القيد الذي أطلق عليه الشاطبي (مضاهاة الشرعية)، قال الشاطبي شارحا لهذا القيد: (وقوله: تضاهي الشرعية، يعني أنها تشابه الطريقة الشرعية من غير أن تكون في الحقيقة كذلك، بل هي مضادة لها من أوجه متعددة: منها: التزام الكيفيات والهيئات المعينة، كالذكر بهيئة الاجتماع على صوت واحد، واتخاذ يوم ولادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عيداً، وما أشبه ذلك.. ومنها التزام العبادات المعينة في أوقات معينة لم يوجد لها ذلك التعيين في الشريعة، كالتزام صيام يوم النصف من شعبان وقيام ليلته..)([9])

فالشاطبي ومدرسته يعتبر كل ما لم يرد في النصوص من أمور العبادات بدعة، حتى لو كان له أصل في الشريعة إذا لم ترد النصوص بفعله من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو السلف الصالح، وهي نقطة الخلاف بينه وبين الاتجاه الآخر.

فالاتجاه الآخر – مثلا- لا يرى حرجا في الذكر الجماعي بصوت واحد ما دام يدخل في أصل الذكر الذي ورد في النصوص الحث عليه من غير تقييد له بكيفية ولا هيئة.

بينما يرى هذا الاتجاه أنه ما دام لم يرد في النصوص أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فعله، أو السلف الصالح فعلوه، فإنه بدعة، وكل بدعة ضلالة.

ويرى الشاطبي أن العلة الدافعة إلى هذه المضاهاة هو (المبالغة في التعبد لله تعالى.. فكأن المبتدع رأى أن المقصود هذا المعنى، ولم يتبين له أن ما وضعه الشارع فيه من القوانين والحدود كافٍ)([10])

والدافع النفسي لذلك بالإضافة إلى المضاهاة – كما يرى الشاطبي – هو ملل النفوس من العبادات والشرائع المضبوطة وطلبها للجديد، يقول في ذلك: (وأيضاً فإن النفوس قد تمل وتسأم من الدوام على العبادات المرتبة، فإذا جدد لها أمر لا تعهده، حصل لها نشاط آخر لايكون لها مع البقاء على الأمر الأول. ولذلك قالوا: (لكل جديد لذة بحكم هذا المعنى)، كمن قال (تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور) فكذلك (تحدث لهم مرغبات في الخير بقدر ما حدث لهم من الفتور) ([11])

وبناء على هذا أنكر الشاطبي تقسيم البدع واعتبر أن (هذا التقسيم أمر مخترع لا يدل عليه دليل شرعي، بل هو في نفسه متدافع ؛ لأن من حقيقة البدعة أن لا يدل عليها دليل شرعي لا من نصوص الشرع ولا من قواعده، إذ لو كان هنالك ما يدل من الشرع على وجوب أو ندب أو إباحة لَمَا كان ثَمّ بدعة ولكان العمل داخلاً في عموم الأعمال المأمور بـها أو المُخيَّر فيها. فالجمع بين تلك الأشياء بدعاً وبين كون الأدلة تدل على وجوبـها أو ندبها أو إباحتها: جمع بين متنافيين) ([12])

ونحب أن نبين أن هذا الموقف المتشدد من البدع انتهجته مدرستان فقهيتان قديمتان، هما مدرسة المالكية ومدرسة الحنابلة، فقد كان لكليهما موقف متشدد من المحدثات بغض النظر عما يدل عليها من النصوص.

ولهذا نرى الإمام مالك يعتمد عمل أهل المدينة، وكأنه يرى بذلك عصمة السلف الذين مثلهم أهل المدينة حسب تصوره، ولعل خير مثال يدل على هذا موقفه من التثويب([13]) في الأذان، فقد روى محمد بن وضاح قال: ثوب المؤذن بالمدينة في زمان مالك، فأرسل إليه مالك، فجاءه، فقال له مالك: ما هذا الذي تفعل؟ قال: أردت أن يعرف الناس طلوع الفجر فيقوموا فقال له مالك لا تفعل لا تحدث في بلدنا شيئا لم يكن فيه قد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهذا البلد عشر سنين وأبو بكر وعمر وعثمان فلم يفعلوا هذا، فلا تحدث في بلدنا ما لم يكن فيه. فكف المؤذن عن ذلك وأقام زمانا، ثم إنه تنحنح في المنارة عند طلوع الفجر، فأرسل إليه مالك فقال له: ما هذا الذي تفعل؟ قال أردت أن يعرف الناس طلوع الفجر. فقال له مالك: ألم أنهك ألا تحدث عندنا ما لم يكن؟ فقال: إنما نهيتني عن التثويب، فقال له مالك: لا تفعل، لا تحدث في بلدنا ما لم يكن فيه. فكف أيضا زمانا، ثم جعل يضرب الأبواب، فأرسل مالك إليه فقال له: ما هذا الذي تفعل؟ قال: أردت أن يعرف الناس طلوع الفجر، فقال له مالك: لا تفعل، لا تحدث في بلدنا ما لم يكن فيه)([14])

فهذا النص يبين شدة الإمام مالك عن كل محدث حتى لو كان معقول المعنى، ولهذا روى عنه ابن الماجشون قوله: (من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة زعم أن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم خان الرسالة، لأن الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } [المائدة: 3]، فما لم يكن يومئذ ديناً فلا يكون اليوم ديناً)([15])

وهو الذي كان يقول: (لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، فما لم يكن يومئذ دينا لا يكون اليوم دينا)([16])

ولهذا نرى أن لتبني الجمعية لمذهب الإمام مالك تأثيره الكبير في موقفها من الطرق الصوفية، ولهذا تستند إلى منهجه كثيرا في الرد عليها، وقد ورد في بعض ردود ابن باديس على بعضهم: (ثم يقول (نحن مالكيون) ومن ينازع في هذا وما يقرئ علماء الجمعية الا فقه مالك وياليت الناس كانوا مالكية حقيقة اذا لطرحوا كل بدعة وضلالة فقد كان مالك كثيرا ما ينشد:

وخير الأمور ما كان سنة
 
وشر الأمور المحدثات البدائع) ([17])
 

بالإضافة إلى المدرسة المالكية نرى المدرسة الحنبلية، وخير من يمثلها في الموقف من البدع الشيخ ابن تيمية الذي رد بشدة على من يرى تقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة، يقول في ذلك (واعلم أن هذه القاعدة، وهي: الاستدلال بكون الشيء بدعة على كراهته، قاعدة عامة عظيمة، وتمامها بالجواب عما يعارضها، وذلك أن من الناس من يقول:البدع تنقسم إلى قسمين: حسنة وقبيحة.. والجواب: أما القول: إن شر الأمور محدثاتـها، وإن كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، والتحذير من الأمور المحدثات: فهذا نص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلا يَحِل لأحد أن يدفع دلالته على ذم البدع، ومن نازع في دلالته فهو مراغم)([18])

الفريق الثاني: المتساهلون

ويرى هذا الفريق أنه ليست كل البدع محرمة، وإنما تنطبق عليها الأحكام الشرعية الخمسة، وقد اشتهر بهذا القول العز بن عبد السلام، كما اشتهر بالقول الآخر الشاطبي، ولكن الحقيقة التاريخية تبين أن المسألة قديمة، وأن تقسيم البدعة إلى مستحسن ومستهجن بدأ من السلف الأول، بل من جيل الصحابة أنفسهم.

فقد روي أن عمر بن الخطاب اعتبر صلاة التراويح بدعة، ومع ذلك أقرها، بل أثنى عليها، ففي الحديث عن عبد الرحمن بن عبد القاري أنه قال: خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم، قال عمر: (نعمت البدعة هذه والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون) يريد آخر الليل، وكان الناس يقومون أوله([19]).

وروي عن ابن عمر مثله في صلاة الضحى، فقد روي عن الأعرج قال: سألت ابن عمر عن صلاة الضحى فقال: بدعة، ونعمت البدعة، وقد قال تعالى حاكياً عن أهل الكتاب: {رَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } [الحديد: 27]([20])

بل إن الفقهاء الكبار قسموا البدع هذا التقسيم، فقد روي عن الشافعي أنه قال: (البدعة بدعتان: بدعة محمودة، وبدعة مذمومة، فما وافق السنة فهو محمود، وما خالف السنة فهو مذموم)([21])

وقال ابن حزم: (البدعة في الدين كل ما لم يأت في القرآن، ولا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن منها ما يُؤجر عليه صاحبه، ويعذر بما قصد إليه من الخير، ومنها ما يؤجر عليه ويكون حسناً، وهو ما كان أصله الإباحة، كما روي عن عمر: (نعمت البدعة هذه)، وهو ما كان فعل خير وجاء النص بعمومه استحباباً، وإن لم يقرر عمله في النص، ومنها ما يكون مذموماً ولا يعذر صاحبه، وهو ما قامت الحجة على فساده فتمادى القائل به)([22])

وقال أبو حامد الغزالي: (وما يقال إنه أبدع بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس كل ما أبدع منهياً عنه، بل المنهي عنه بدعة تضاد سنة ثابتة وترفع أمراً من الشرع مع بقاء علته، بل الإبداع قد يجب في بعض الأحوال إذا تغيرت الأسباب)([23])

وقال ابن الأثير: (البدعة بدعتان: بدعة هدى، وبدعة ضلال. فما كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم فهو في حَيِّز الذم والإنكار، وما كان واقعاً تحت عموم ما ندب الله إليه وحضّ عليه الله ورسوله: فهو في حَيِّز المدح)([24])

ولكن الذي نظر لهذا، ودافع عنه، حتى اشتهر به هو العز بن عبد السلام، فقد قال في كتابه الذي خصصه لمقاصد الشريعة، وسماه (قواعد الأحكام في مصالح الأنام): (البدعة فعل ما لم يُعْهَد في عصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهي منقسمة إلى: بـدعة واجبة وبدعة مُحَرَّمة، وبدعة مندوبة، وبدعة مكروهة، وبدعة مباحة. والطريق في معرفة ذلك أن تُعْرَض البدعة على قواعد الشريعة: فإن دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة، وإن دخلت في قواعد التحريم فهي مُحَرَّمة، وإن دخلت في قواعد المندوب فهي مندوبة، وإن دخلت في قواعد المكروه فهي مكروهة، وإن دخلت في قواعد المباح فهي مباحة)([25])

وتبعه على هذا الكثير من الفقهاء الذين انتشرت كتبهم ودرست في المدارس الإسلامية فترة طويلة، كالإمام النووي([26])، والحافظ ابن حجر([27]).

بل إن الكثير ممن كتب في ذم البدع ذهب إلى هذا الرأي:

فأبو شامة في كتابه (الباعث على إنكار البدع والحوادث) يقول: (ثم الحوادث منقسمة إلى بدع مستحسنة، وبدع مستقبحة)([28])

ومن المتأخرين الشيخ عبد الله الصديق الغماري، فقد قال في كتابه (القول المبين): (قَسّم عز الدين بن عبد السلام في قواعده الكبرى البدعة باعتبار استعمالها على المصلحة والمفسدة، أو خُلُوّها عنهما إلى أقسام الحكم الخمسة: الوجوب والندب والحرمة والكراهة والإباحة، ومَثّل لكل قسم منها، وذكر ما يشهد له من قواعد الشريعة. وكلامه في ذلك كلام ناقد بصير، أحاط خُبْراً بالقواعد الفقهية، وعرف المصالح والمفاسد التي اعتبرها الشارع في ترتيب الأحكام على وفقها. ومن مثل سلطان العلماء في معرفة ذلك؟ فجاء تقسيمه للبدعة مؤسساً على أساسٍ من الفقه وقواعدِهِ متين؛ ولذا وافقه عليه الإمام النووي والحافظ ابن حجر وجمهور العلماء تَلقّوا كلامه بالقبول، ورأوا أن العمل به متعين في النوازل والوقائع التي تحدث مع تطور الزمان وأهله، حتى جاء صاحب (الاعتصام) فخرج عن جمهرة العلماء، وشَذّ بإنكار هذا التقسيم فَبَرْهَن بـهذا الإنكار على أنه بعيد عن معرفة الفقه، بعيد عن قواعده المبنيَّة على المصالح والمفاسد لا يعرف ما فيه مصلحة فيطلب تحصيلها بفعله، ولا يَدْري ما فيه مفسدة فيطلب اجتنابـها بتركه ولا ما خلا عنهما فيجوز فعله وتركه على السواء. وأخيراً برهـن على أنه لم يَتَذوَّق علم الأصول تذوقاً يمكّنه من معرفة وجوه الاستنباط، وكيفية استعمالها، والتصرف فيها بما يناسب الوقائع، وإن كان له في الأصول كتاب (الموافقات) فهو كتاب قليل الجدوى، عديم الفائدة، وإنما هو بارع في النحو له فيه شرح على ألفية ابن مالك في أربعة مجلدات دَلَّ على مقدرته في علم العربية، على أنا وإن كنا نعلم أن للشاطبي دراية بعلم أصول الفقه على سبيل المشاركة: فلا نشك في أن سلطان العلماء فيه أمكن، وعلمه بقواعده أتم، وقواعده الكبرى خير شاهد على ذلك)([29])

ومنهم – كذلك – الشيخ محمد الطاهر بن عاشور شيخ المقاصد ومعلمها في هذا العصر، والذي تتلمذ عليه الشيخ عبد الحميد بن باديس، فهو من القائلين بانقسام البدع، وقد حصل بينه وبين ابن باديس خلاف شديد في هذا، رأينا بعض صوره عند الحديث عن الاتجاه الفكري للجمعية.

المبحث الثاني

 موقف الجمعية من البدعة وأدلتها.

بناء على ما سبق إثباته من أن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين انتهجت المنهج السلفي بمدرستيه المحافظة والتنويرية، وبناء على تبنيها لمنهج الإمام مالك في مواجهة جميع المحدثات، فإنه من البديهي أن تختار الاتجاه الذي يرى أن كل البدع ضلالة، وأنه لا صحة لتقسيمها لمقبولة ومرفوضة، وهذا الرأي – كما عرفنا- هو الرأي الذي اشتهر به الشاطبي، واشتهر به كتابه (الاعتصام)، والذي كانت توليه الجمعية عناية خاصة، كما كان يوليه الاتجاه السلفي بفرعيه المحافظ والتنويري.

وسنحاول في هذا المبحث أن نبين موقف الجمعية من تحديد مفهوم البدعة، وأنواعها، وضوابطها، ثم نذكر الأدلة على ما ذهبت إليه من ذلك مع ذكر مناقشات المخالفين لها.

المطلب الأول: حقيقة البدعة عند الجمعية:

يعرف ابن باديس البدعة بأنها (كل ما أحدث على أنه عبادة وقربة ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعله وكل بدعة ضلالة)([30])

ويقول في موضع آخر: (من أبين المخالفة عن أمره صلى الله عليه وآله وسلم وأقبحها الزيادة في العبادة التي يتعبد الله بها على ما مضى من سنته فيها واحداث محدثات على وجه العبادة في مواطن مرت عليه ولم يتعبد بمثل ذلك فيها وكلا هذين زيادة واحداث مذموم يكون مرتكبه كمن يرى أنه اهتدى الى طاعة لم يهتد اليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسبق الى فضيلة قصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنها وكفى بهذا وحده فتنة وبلاء ودع ما يجر اليه من بلايا أخرى)([31])

ويضرب الأمثلة على ذلك، وهي أمثلة تقترب كثيرا من الأمثلة التي تذكرها السلفية المحافظة، بل كما يذكرها الشيخ محمد بن عبد الوهاب خصوصا، يقول في الآثار: (من الناس من يخترع أعمالا من عند نفسه ويتقرب بها الى الله مثل ما اخترع المشركون عبادة الاوثان بدعائها والذبح عليها والخضوع لديها وانتظار قضاء الحوائج منها وهم يعلمون أنها مخلوقة مملوكة له وانما يعبدونها-كما قالوا-لتقربهم الى الله زلفى…. وكما اخترع طوائف من المسلمين الرقص والزمر والطواف حول القبور والنذر لها والذبح عندها ونداء أصحابها وتقبيل أحجارها ونصب التوابيت عليها وحرق البخور عندها وصب العطور عليها فكل هذه اختراعات فاسدة ليست من سعي الآخرة الذي كان يسعاه محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من بعده فساعيها موزور غير مشكور)([32])

وهذا النوع من الأعمال هو ما اصطلح عليه التيار السلفي بالبدع الحقيقية.

وهناك نوع آخر يطلقون عليه (البدع الإضافية)، ويريدون به تقييد ما ورد من الشعائر التعبدية بمواقيت أو أعداد ونحوها، وقد تحدث ابن باديس كذلك عن هذا النوع واعتبره من بدع الضلالة مخالفا بذلك أصحاب الفريق الأول الذي يرى أن هذا الصنف لا يشمله وصف الضلالة وإن شمله وصف البدعة، يقول في بيان ذلك: (إن ما ورد من العبادة مقيدا بقيده يلتزم قيده وما ورد منها مطلقا يلتزم اطلاقه فالآتي بالعبادة المقيدة دون قيدها مخالف لأمر الشرع ووضعه والآتي بالعبادة المطلقة ملتزما فيها ما جعله بالتزامه كالقيد مخالف كذلك لأمر الشرع ووضعه وهو أصل في جميع العبادات)([33])

بل إن الأمر وصل بالشيخ ابن باديس إلى التشدد حتى في ما ورد في الشرع إطلاقه من كل قيد، وهو مما لم يقل به حتى بعض من ينتمي إلى التيار السلفي المحافظ، يقول في ذلك: (وكذلك التزامها في وقت مخصوص بشكل مخصوص كما تلتزم الطاعات التي فرضها الشارع وجعل لها أوقاتا، فان هذا ليس مما يتسع له صدر الدين ولا مما كان في عهد السلف الصالحين ولاسيما مع التكلف الذي كثر من يرتكبه بالزام وبغير الزام)([34])

وهو يفرق في هذا بين العبادات والمعاملات، يقول في ذلك: (ما يجري به عمل الناس ينقسم الى قسمين قسم المعاملات وقسم العبادات، وقسم المعاملات هو الذي يتسع النظر فيه للمصلحة والقياس والأعراف وهو الذي تجب توسعته على الناس بسعة مدارك الفقه وأقوال الأئمة والاعتبارات المتقدمة وفي هذا القسم جاء كلام أبي سعيد هذا وغيره وفيه نقله الفقهاء أو ما تراه كيف يعبر بالعرف والعادة؟ وأما قسم العبادات فانه محدود لا يزاد عليه ولا ينقص منه فلا يقبل منه إلا ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلا يتقرب الا بما تقرب به وعلى الوجه الذي كان تقربه به ومن نقص فقد أخل ومن زاد فقد ابتدع وشرع وذلك هو الظلام والضلال)([35])

المطلب الثاني: أدلة الجمعية على موقفها من البدعة:

كما اهتمت الجمعية بالتشدد مع ما تراه من البدع، اهتمت كذلك ببيان ما تستند إليه من مصادر وأدلة على ذلك، وهي لا تعدو الأدلة التي ذكرها الشاطبي في الاعتصام، فهو الكتاب الذي نال عندها أهمية قصوى، بل نرى البشير الإبراهيمي ينتصر لهذا الكتاب، ويعتبره أكمل كتاب في تحرير معنى البدعة والسنة، ففي رسالة خطية بعث بها الإبراهيمي – وهو بمنفاه بـ(آفْلُو) – إلى تلميذه الشيخ أحمد بن أبي زيد قصيبة الأغواطي… وفي طياتها يجيبه طلبه؛ حيث سأله أن يذكر له جملة من الكتب الأصول، قال الإبراهيمي بعدما ذكر مجموعة من كتب الأدب واللغة، وكتب السيرة وغيرها: (كتاب الاعتصام للشاطبي. وهو أكمل كتاب في تحرير معنى البدعة والسنة)

ونرى كذلك الشيخ زموشي يقوم بتلخيص أهم مباحث كتاب (الاعتصام)، بأسلوب سهل مبسط، وينشره في (الشهاب) تحت عنوان: (بحثٌ في البدعة)([36])

وقد بدأ بحثه بذكر تقسيم العز بن عبد السلام للبدع، وتفاصيل ذلك، ثم رد الشاطبي عليه، وهو يدل على أن الجمعية مطلعة تماما على ما ذكره العز، وأنها اختارت عن قناعة مذهب الشاطبي.

بعد هذا، ومن خلال ما ذكرناه من مصادر نستطيع تصنيف أدلة الجمعية على هذا الموقف إلى الأدلة التالي:

النصوص الدالة على كمال الدين:

وعلى رأس هذه النصوص قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } [المائدة: 3]، فالآية الكريمة – كما هو واضح- تدل على تمامِ الشريعة وكمالها، وكفايتها لكل ما يحتاجه الخلق.

وقد استدل بالآية الشيخ عبد الحميد بن باديس على ذم البدع مطلقا، فقد قال في معرض رده على الشيخ ابن عاشور: (إن من ابتدع مثل هذه البدعة التي هي تقرب فيما لم يكن قربة كأنه يرى أن طاعة لله بقيت تنقص هذه الشريعة فهو يستدركها وأن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم خفيت عليه قربة هو اهتدى إليها أو لم تخف عليه ولكنه كتمها. وهذه كلها مهلكات لصاحبيها فلا يكون ما أوقعه فيها من ابتداع تلك التي يحسبها قربة إلا محرما. وقد قال مالك فيما سمعه من ابن الماجشون: (من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدا- صلى الله عليه وآله وسلم- خان الرسالة لأن الله يقول:: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } [المائدة: 3] فما لم يكن يومئذ دينا فلا يكون اليوم دينا)([37])

كما استدل بالآية كل من ذهب إلى ذم البدع بجميع أنواعها، يقول الشوكاني في (القول المفيد) في معرض مناقشته لبعض من يتصورهم مبتدعة: (فإذا كان الله قد أكمل دينه قبل أن يقبض نبيه r فما هذا الرأي الذي أحدثه أهله بعد أن أكمل الله دينه؟! إن كان من الدين في اعتقادهم؛ فهو لم يكمل عندهم إلا برأيهم وهذا فيه رد للقرآن! وإن لم يكن من الدين؛ فأي فائدة في الاشتغال بما ليس من الدين؟! وهذه حجة قاهرة، ودليل عظيم، لا يمكن لصاحب الرأي أن يدفعه بدافع أبداً، فاجعل هذه الآية الشريفة أول ما تصك به وجوه أهل الرأي،وترغم به آنافهم وتدحض به حججهم)([38])

ويقول الشاطبي: (إن المستحسِن للبدعِ يلزمه عادة أن يكون الشرع عنده لم يكمل بعد، فلا يكون لقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } [المائدة: 3] معنى يعتبر به عندهم)([39])

وقد أجاب على هذا الاستدلال الشيح ابن عليوة بتفصيل في رسالة كتب بها لبعض المخالفين، وهي رسالة مهمة جدا ترقى إلى مستوى المناقشات العلمية الهادفة المحترمة، ونحاول هنا باختصار عرض هذه الرسالة، ووجوه الاستدلال فيها.

بدأ الشيخ ابن عليوة مخاطبة المخالف له وللصوفية من غير أن يحدد من هو المخالف، بقوله: (أراني ملزما يا حضرة الأخ بذكر أمر طالما تردّد ذكره في مكاتباتكم، كمكاتبات غيركم من بعض كتّاب العصر، وقد جئتم به في هذا الكتاب الأخير أيضا بقصد الاستدلال على محدثات المتصوّفة، وأنّها ليست من الدين في شيء، وأكبر عمدتكم في ذلك قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } [المائدة: 3]، تريدون بذلك أنّ ما لم يكن دينا في ذلك الحين، ليس هو بدين من بعد)([40])

وبعد هذه المقدمة بدأ الشيخ في عرض الأدلة التي ترد على من يعتبر الآية دليلا على كون محدثات الصوفية بدعة، وأنها بدعة ضلالة، وهو يعتمد في ذلك على منهج إلزام الآخر بلوازم قوله، وهذه اللوازم تتدرج من إنكار جميع اجتهادات المجتهدين إلى إنكار أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه التي قالها بعد نزول الآية الكريمة، بل إلى إنكار ما ورد في القرآن الكريم من الأحكام بعد نزول الآية، أو ما هو قبل ذلك مما نجهل تاريخ نزوله.

أما بالنسبةللزوم إنكار جميع اجتهادات المجتهدين في جميع فروع الدين، فالأمر فيها واضح ذلك أن نصوص الكتاب والسنة لم تحط بتفاصيل الفروع، بل اقتصرت على أصول المسائل وطرق الاستنباط وكثير من الجزئيات، وتركت لأهل العلم – بعد ذلك – أن يستنبطوا من النصوص ما يحقق المقاصد الشرعية التي جاءت النصوص لتقريرها، يقول الشيخ ابن عليوة في ذلك: (وهذا شيء جميل، لو يقع تسلّطه على إخراج ما أحدثه المتصوّفة من وظائف الأذكار وغيرها، لكن بعيد أن يستقيم لنا ذلك، إلاّ إذا أخرجت معه سائر اجتهادات المجتهدين وأقوال العلماء العاملين، ولا شكّ أنّه قضاء مبرم على سائر الأحكام الشرعيّة، المقرّرة من طريق الاجتهاد، والحكم عليها بأنّها ليست من الدين، بدعوى أنّها جاءت بعد كمال الدين وإتمام نعمته على المسلمين المفهومات من صحيح الآية، ولا شكّ أنّ مقالتك هذه تنتج لنا من الاعتقاد ما لا تقول به أية فرقة من فرق الإسلام المنحرفة، فضلا عن أهل السنّة المتبوعة الذين أنت من أفرادهم)([41])

بالإضافة إلى هذايذكر الشيخ ابن عليوة أن ما أحدثه الصوفية من وظائف الأذكار، والتقييدات في الأعداد قليل أمام ما أسسه المجتهدون من الأحكام وقنّنوه من القوانين.. فإن (المجتهدين حلّلوا وحرّموا وأوجبوا وندبوا، الأمر الذي لا يذكر أمامه ما أحدثه القوم من القوانين)([42])

وهكذا الأمر بالنسبة لاجتهادات الصحابة الذين نزلت الآية بين أظهرهم، وهم أدرى بتفسيرها، فإن القول بكمال الدين بعد نزول الآية ينفي جميع ما اجتهدوا فيه، بل يجعلهم مبتدعين بذلك بدع ضلالة، يقول الشيخ ابن عليوة في بيان ذلك: (وزيادة على هذا إنّ الأمر لا يقف عند هذا الحدّ بل يتعدى إلى سائر الأحكام المستفادة من أقوال الصحابة والتابعين، وحتى المنصوص عليها من أعمال الخلفاء الراشدين، على أنّ جميعها جاء بعد نزول الآية الكريمة، فلا تفوتك يا حضرة الشيخ تلك النوازل على صلاة التراويح بالمسجد لم يقرر العمل به إلاّ في خلافة عمر بأمر منه، وكان الحال في عصر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على خلاف ذلك، وأنّ الطلاق الثلاث دفعة واحدة، كان على عهد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وخلافة أبي بكر، وطرف من خلافة عمر يعتبر طلقة واحدة، ثم بدا لهذا الأخير أن يعتبره ثلاثا باتا، فنجد رأيه في ذلك، ووافقه عليه الصحابة رضوان الله عليهم، وها هو الآن يجري عليه العمل!، وأنّ حدّ شارب الخمر، كان في عهد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وخلافة أبي بكر مقيّدا بأربعين جلدة، وزاد فيه عمر إلى الثمانين، وعلى ذلك جرى العمل، وقس على ذلك بقيّة النوازل، والحالة أنّ جميع ذلك بعد نزول الآية الكريمة، فهل يتسنى لكم القول بأنّ ذلك ليس من الدين؟ ! كلا، لا تطاوعك نفسك، ولا نفس أي مؤمن يشبه ذلك القول)([43])

وهكذا الأمر بالنسبة للأحاديث النبوية الشريفة التي وردت بعد نزول الآية الكريمة مع تضمنها لأحكام وتكاليف شرعية، يقول ابن عليوة: (وفي ظنّي أنّك تدرك كون الأمر لا يقف عند هذا الحدّ أيضا، بل يتعدّاه إلى سائر الحكام المستفادة من الأحاديث النبويّة، التي جاءت بعد نزول الآية، أعني بعد كمال الدين وإتمام النعمة، فوجودها مساو لوجود غيرها بالنظر لمقتضى الآية)([44])

بل إنه يستلزم من هذا ما هو أخطر من مجرد رد الأحاديث التي وردت بعد نزول الآية الكريمة، ذلك أنه (مهما اعتبرنا ما جاء من الأحاديث، عقب تلك الآية، لا يصحّ الاحتجاج به لزمنا التوقف في عموم الأحاديث التي نجهل تاريخ وقوعها، وهي ليست بقليلة العدد، نفعل ذلك لئلا ندين لله بغير دينه المختم بقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } [المائدة: 3]، على أنّ رواة الحديث لم يتعرّضوا في الغالب لما يرجع للتاريخ، ولا شكّ أنّ أمرا كهذا يجرّ لنا وللمسلمين من الوبال ما لا يخفى على مثلكم)([45])

وينتهي الأمر بلوازم القول بهذا على حد تعبير الشيخ ابن عليوة إلى ما هو أخطر من ذلك، وهو أنه (يلزم على ذلك المعتقد خروج جملة من الأحكام السماويّة المنصوص عليها بالآيات القرآنيّة، واعتبارها أنّها ليست من الدين)([46])

وقد استدل الشيخ لهذا بما ذكره في السيوطي في كتابه (الإتقان) من قوله: (إنّ من المشكل قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } [المائدة: 3]، فإنّها نزلت بعرفات عام حجّة الوداع، وظاهرها كمال جميع الفرائض والأحكام قبلها، وقد صرّح بذلك جماعة، مع أنّه ورد في آيات الربا والدين والكلالة أنّها نزلت بعد ذلك، وقد استشكل ذلك ابن جرير، فقال (الأولى أن يتأول على انّه أكمل دينهم بإقرارهم بالبلد الحرام، وانجلاء المشركين عنه)([47])

بعد هذه الأدلة التي ألزم بها الشيخ ابن عليوة من ينكر على الصوفية ما أحدثوه من تقييدات وتحديدات ذكر الشيخ ما ينبغي أن تحمل عليه الآية الكريمة، فقال: (وإنّي أرى أحسن ما ينبغي أن تحمل عليه، هو أنّ المراد بكمال الدين، يعني أصوله وقواعده الجوهريّة، وأمّا ما وراء ذلك من الفرعيّات فلا نراه من مدخول الحكم، ولا تراه أنت يا حضرة الشيخ، إلاّ من طريق رجوع الفروع إلى أصولها، لأنّها تعتبر كامنة فيها، ككمون النخلة في حبّة النواة؟، ألهمني الله وإياكم من العلم ما يكون أساسه التقـــــــــــــوى)([48])

بعد هذه الأدلة يعود الشيخ إلى مخاطبة المخالف له مبديا استعداده لمناقشة المسألة ومراجعة ما يراه إن كان لديه ما من الأدلة ما يدله على ذلك يقول الشيخ: (وهذا ما فهمناه نحن من الدين، وما معنى كماله وإتمام النعمة على أهله، فإن كان له موقع عندكم فذاك، وإلاّ فأرشدونا لفهم أعلى من ذلك، وأجركم على الله)([49])

ثم يتوجه بالنصيحة للمخالف قائلا له: (وثق يا حضرة الشيخ، فإنّ فهمك السابق في الآية الكريمة ليس هو من العلم في شيء، ولا ممّا يحسن اعتقاده، ولا أقول لكم أنّكم اعتقدتم ذلك القول بحيث صدر منكم عن تمحيص وإمعان، أو بنيتموه عن حجّة وبرهان إنّما اعتقادي فيكم أنّكم جريتم فيه على قلّة التثبت، وأعانكم على ذلك حسن ثقتكم بأنفسكم من جهة مكانتكم العلميّة.. والحالة أنّنا وأنتم ممّن هو حقيق أن يقال له: علمت شيئا وغابت عنك أشياء، مع أنّ الأجدر أمثالنا قبل كلّ شيء، هو إدراك التقصير من أنفسنا، وهذا فيما نعلم، وأحرى فيما لا علم لنا بـــــــــه.. لا أحرمنا الله، وإيّاكم من سلسبيل معارفهم، وفي الأخير أرجوكم يا سيدي أن لا ترسلوا النصوص في الاستدلال، قبل تأملها فإنّ الأمر ليس بالهين، وهذا ما سبق فيه اختياري لنفسي، اخترته لكم والسلام)([50])

النصوص الدالة على أن كل البدع ضلالة:

ومنها ما رواه جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول في خطبته: (أما بعد فان خير الحديث كتاب الله وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة)([51])، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من دعا الى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص من أجورهم شيئا، ومن دعا الى ضلالة كان عليه من الاثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا)([52])

ووجه الاستدلال بهذين الحديثين – كما يذكر ابن باديس – هو أنه صلى الله عليه وآله وسلم (سمى في الحديث الأول البدعة شرا وضلالا، فعم ولم يخص، وأثبت الاثم لمرتكب الضلالة والداعي اليها والاثم لا يكون الا في الحرام فيكون النظر هكذا كل بدعة ضلالة وكل ضلالة يؤثم صاحبها فكل بدعة يؤثم صاحبها وكل ما يؤثم عليه فهو حرام فكل بدعة حرام) ([53])

وقد رد على هذا المخالفون بما ذكره كثير من شراح الحديث من أن المقصود من المحدثات هنا هي بدع الضلال، لا البدع الحسنة، كما قال الخطابي (ت 388 هــ)في شرح هذه الحديث: (وقوله (كل محدثة بدعة)، فإن هذا خاص في بعض الأمور دون بعض وهي كل شيء أحدث على غير أصل من أصول الدين وعلى غير عياره وقياسه، وأما ما كان منها مبنياً على قواعد الأصول ومردوداً إليها فليس ببدعة ولا ضلالة والله أعلم)([54])

وقال النووي: قوله: (وكل بدعة ضلالة) هذا عام مخصوص والمراد غالب البدع، قال أهل اللغة: هي كل شيء عمل على غير مثال سابق، قال العلماء: البدعة خمسة أقسام ؛ واجبة ومندوبة ومحرمة ومكروهة ومباحة، فمن الواجبة نظم أدلة المتكلمين للرد على الملاحدة والمبتدعين وشبه ذلك، ومن المندوبة تصنيف كتب العلم وبناء المدارس والربط وغير ذلك، ومن المباح التبسط في ألوان الأطعمة وغير ذلك، والحرام والمكروه ظاهران، وقد أوضحت المسألة بأدلتها المبسوطة في (تهذيب الأسماء واللغات) فإذا عرفت ما ذكرته علمت أن الحديث المذكور من العام المخصوص وكذا ما أشبهه من الأحاديث الواردة، ويؤيد ما قلناه قول عمر بن الخطاب في التراويح: نعمت البدعة، ولا يمنع من كون الحديث عاما مخصوصا قوله صلى الله عليه وآله وسلم (كل بدعة) مؤكدا (بكل) بل يدخله التخصيص مع ذلك كقوله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [الأحقاف: 25])([55])

بالإضافة إلى هذا فقد جاء في بعض صيغ الحديث: (من ابتدع بدعة ضلالة، لا ترضي الله ورسوله، كان عليه مثل آثام من عمل بها، لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئاً)([56])، ففي هذا الحديث خصص الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ البدعة المحرمة بأن تكون سيئة لا توافق عليها الشريعة.

النصوص الدالة على حرمة التقرب لله بما لم يشرع:

وقد نقل ابن باديس في هذا الباب الأحاديث التالية:

الحديث الأول: هو ما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رد على من قال أما أنا فأقوم الليل، ولا أنام، وعلى من قال أما أنا فلا أنكح النساء، وعلى من قال أما أنا فأصوم ولا أفطر، رد عليهم بقوله: (من رغب عن سنتي فليس مني)([57])

وقد عقب الشيخ ابن باديس بعد إيراده على هذا الحديث بقوله: (ولم يكن ما التزموه إلا فعل مندوب في أصله أو ترك مندوب، ومع ذلك رد عليهم بتلك العبارة التي هي أشد شيء في الإنكار، فكل من أراد أن يتقرب بما لم يكن قربة فهو مردود عليه بمثل هذه العبارة الشديدة في الإنكار)([58])

الحديث الثاني: ما ثبت في الصحيح عن قيس بن حازم قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على امرأة من قيس يقال لها زينب فرآها لا تتكلم فقال: ما لها، فقال: حجت مصمتة، قال لها: (تكلمي فإن هذا لا يحل، هذا من عمل الجاهلية)، وقد عقب ابن باديس على هذا الحديث بقوله: (فهذه أرادت أن تتقرب بما ليس قربة فجعل عملها من عمل الجاهلية، وقال: أنه لا يحل، فكل مريد للتقرب بما لم يكن قربة، فيقال في فعله ما قيل في فعلها)([59])

ثم بين وجه الاستدلال بهذا الحديث والحديث السابق بقوله: (ووجه الدليل من الحديثين أن التقرب بما ليس قربة أنكر أشد الإنكار وقيل فيه لا يحل، وقيل فيه من عمل الجاهلية فلا يكون بعد هذا كله إلا ضلالا فيدخل- قطعا- في عموم قوله: (وكل بدعة ضلالة)، فيثبت له التحريم بالنظر المتقدم)([60])

الحديث الثالث: ما ورد في في الموطأ من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى رجلا قائما في الشمس فقال: ما بال هذا؟ فقالوا: نذر أن لا يتكلم ولا يستظل من الشمس ولا يجلس ويصوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (مروه فليتكلم، وليستظل وليجلس وليتم صومه)([61])

وقد نقل ابن باديس بعد إيراده لهذا الحديث قول مالك تعقيبا على هذا الحديث: (أمره أن يتم ما كان لله طاعة (وهو الصيام) ويترك ما كان لله معصية)، ثم عقب عليه بقوله: (فقد جعل مالك القيام للشمس وترك الكلام ونذر المشي إلى الأماكن المذكورة معاصي، وفسر لفظ المعصية في الحديث بها، مع أنها في نفسها أشياء مباحات، لكنه لما أجراها مجرى القربة- وليست قربة- حتى نذر التقرب بها وصارت معاصي لله وليس سبب المعصية أنه نذر التقرب بها حتى أنه لو فعلها متقربا دون نذر لكانت مباحة، بل مجرد التقرب بها وليست هي قربة موجب لكونها معصية عند مالك)([62])

وهذا يؤكد ما أشرنا إليه سابقا من كون مدرسة الجمعية في مواقفها من البدعة خصوصا ليست مدينة للمدارس السلفية بتياراتها المختلفة فقط، بل هي مدينة أيضا لانتمائها للمذهب المالكي، وخاصة من مصادره الأولى كالموطأ والمدونة وغيرها، ولهذا نرى ابن باديس يرجع إلى تلك المصادر دون مصادر المتأخرين، والتي لم تلتزم – حسب رؤية الجمعية – بمذهب مالك الحقيقي.

وقد نقل الشيخ ابن باديس في هذا المقام ما حكاه ابن العربي عن الزبير بن بكار قال: سمعت مالكا بن أنس، واتاه رجل فقال: يا أبا عبد الله من أين أحرم؟ قال: من ذي الحليفة من حيث أحرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: إني أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر. قال: لا تفعل فإني أخشى عليك الفتنة. فقال الرجل: وأي فتنة في هذه؟ إنما هي أميال أزيدها، قال مالك: وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك سبقت إلى فضيلة قصر عنها رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- إني سمعت الله يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63])([63])

ثم عقب على ذلك بقوله: (فهذا الرجل لا نذر في كلامه وقد أراد الإحرام- وهو في نفسه عبادة- من موضع فاضل لا بقعة أشرف منه وهو مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وموضع قبره. وأراد أن يزيد أميالا تقرباً لله تعالى بإيقاع الإحرام بذلك الموضع الشريف وزيادة التعب بالأميال. ومع ذلك رده مالك عن ذلك وبيَّن له قبح فعله بما يراه لنفسه من السبق وقرأ عليه الآية مستدلا بها وما كان مثل هذا داخلا في الآية عنده ألا وهو يراه حراما)([64])

ويضاف إلى هذه الأحاديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)([65])

الاحتجاج بترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

من خلالنا استقرائنا للمحاورات الفقهية التي أجرتها الجمعية مع المخالفين لها في موقفها من البدع نرى اعتمادها الكبير على ما يسميه الأصوليون (مسألة الترك)، ولهذا نحاول أن نفصل الكلام عليها هنا، مع ذكر رؤية المخالفين لها، وسنرى من خلال ما سنذكره في الفصول التالية من نماذج الكثير من الأمثلة عن هذا النوع من الأدلة.

وقد عبر ابن باديس على اعتبار هذا النوع من الأدلة بقوله: (الاستدلال بترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصل عظيم في الدين والعمل النبوي دائر بين الفعل والترك، ولهذا تكلم علماء الأصول على تركه كما تكلموا على فعله وقد ذكرنا جملة من كلامهم فيما قدمنا غير أن تقرير هذا الأصل الذي يهدم بدعا كثيرة من فعل ما تركه النبي صلى الله عليه وآله وسلم مما يتأكد مزيد تثبيته وبيانه اذ بالغفلة عنه ارتكبت بدع وزيدت زيادات ليست مما زيدت عليه في شيء)([66])

ومن الأمثلة على اعتماد الشيخ ابن باديس لهذا النوع من الأدلة قوله في معرض رده على شيخه ابن عاشور قوله: (إذا كان ترك القراءة هو السنة، فالقراءة قطعا بدعة إذ ما فعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم من القربات ففعله سنة، وما تركه مما يحسب قرابة مع وجود سببه فتركه هو السنة وفعله قطعا بدعة.. والقراءة في هذه المواطن الثلاثة التي حسب أنها قربة قد وجد سببها في زمنه فمات الناس وشيع جنائزهم وحضر دفنهم، ولم يفعل هذا الذي حسب- اليوم- قربة ومن المستحيل- شرعا- أن يترك قربة مع وجود سببها بين يديه ثم يهتدي إليها من يجيء من بعده ويسبق هو إلى قربة فاتت محمدا صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه والسلف الصالح من أمته. ولا يكون الإقدام على إحداث شيء للتقرب به مع ترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم له مع وجود سببه إلا افتئاتا عليه وتشريعا من بعده وادعاءً – ضمنيا- للتفوق عليه في معرفة ما يتقرب به والحرص عليه، والهداية إليه، فلن يكون فعل ما تركه- والحالة ما ذكر- من المباحات أبدا بل لا يكون إلا من البدع المنكرات)([67])

واعتبار الشيخ ابن باديس والجمعية عموما لهذا الأصل يدل على صلتها الشديدة خصوصا بالتيار السلفي المحافظ، ابتداء بابن تيمية الذي يستدل كثيرا في إنكاره على المخالفين بترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم[68]).

ومثله ابن القيم الذي اعتبر (تركه صلى الله عليه وآله وسلم سنة كما أن فعله سنة , فإذا استحببنا فعل ما تركه كان نظير استحبابنا ترك ما فعله , ولا فرق)([69])

بل يعتبر ابن القيم أن فتح هذا الباب سينسخ الشريعة جميعا، يقول في ذلك: (فإن قيل: من أين لكم أنه لم يفعله , وعدم النقل لا يستلزم نقل العدم؟ فهذا سؤال بعيد جدا عن معرفة هديه وسنته , وما كان عليه , ولو صح هذا السؤال وقبل لاستحب لنا مستحب الأذان للتراويح , وقال: من أين لكم أنه لم ينقل؟ واستحب لنا مستحب آخر الغسل لكل صلاة , وقال: من أين لكم أنه لم ينقل؟ واستحب لنا مستحب آخر النداء بعد الأذان للصلاة يرحمكم الله , ورفع بها صوته , وقال: من أين لكم أنه لم ينقل؟ واستحب لنا آخر لبس السواد والطرحة للخطيب , وخروجه بالشاويش يصيح بين يديه ورفع المؤذنين أصواتهم كلما ذكر اسم الله واسم رسوله جماعة وفرادى , وقال: من أين لكم أن هذا لم ينقل؟ واستحب لنا آخر صلاة ليلة النصف من شعبان أو ليلة أول جمعة من رجب , وقال: من أين لكم أن إحياءهما لم ينقل؟ وانفتح باب البدعة , وقال كل من دعا إلى بدعة: من أين لكم أن هذا لم ينقل؟)([70])

وقد أنكر المخالفون للجمعية وللتيار السلفي سواء كانوا من الصوفية أو من المدرسة المقاصدية اعتبار الترك المجرد عن الأمر والنهي حجة، وقد ألف في ذلك مرجع الصوفية المتأخرة العلاّمة المحدّث المحقّق عبد الله بن الصّديق الغماري رسالة قيمة في هذا الباب سماها (حسن التفهم والدرك لمسألة الترك)، وهي بالإضافة إلى كتابيه (إتقان الصّنعة في تحقيق البدعة) و(الرد المحكم المتين على كتاب القول المبين) من أهم ما كتب في أصول الحوار الفقهي بين السلفية والصوفية.

وقد قدم لرسالته بهذه الأبيات التي يبين فيها عدم حجية الاستدلال بالترك المجرد عن القول([71]):

الترك ليس بحجّة في شرعنا
 
لا يقتضي منعاً ولا إيجاباً
 
فمن ابتغى حظراً بترك نبيّنا
 
ورآه حكماً صادقاً وصوابا
 
قد ضل عن نهج الأدلة كلها
 
بل أخطأ الحكم الصّحيح وخابا
 
لاحظر يمكن إلا إن نهي أتى
 
متوعّداً لمخالفيه عذاباً
 
أو ذم فعل مؤذن بعقوبة
 
أو لفظ تحريم يواكب عاب
 

وقد بدأ رسالته بتحديد معنى الاستدلال بالترك، فقال: (نقصد بالترك الذي ألّفنا هذه الرسالة لبيانه: أن يترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً لم يفعله أو يتركه السّلف الصالح من غير أن يأتي حديث أو أثر بالنّهي عن ذلك الشيء المتروك يقتضي تحريمه أو كراهته)([72])

ثم بين مبالغة المتأخرين – ويقصد بهم التيار السلفي – في الاستدلال به، يقول: (وقد أكثر الاستدلال به كثير من المتأخرين على تحريم أشياء أو ذمّـها ,وأفرط في استعماله بعض المتنطّعين المتزمّـتين ورأيت ابن تيمية استدل به واعتمده في مواضع)([73])

ثم بين أنه ليس كل ترك يحتمل التحريم، بل هناك أنواع كثيرة من الترك تحتمل وجوهاً غير التحريم:

1 ــ منها أن يكون تركه صلى الله عليه وآله وسلم عادة، كما روي أنه قدّم إليه صلى الله عليه وآله وسلم ضب مشوي، فمد يده الشريفة ليأكل منه فقيل:إنّه ضب, فأمسك عنه ,فسئل: أحرام هو؟ فقال: لا ولكنّه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه([74])!

والحديث ـ كما يذكر الغماري ـ يدل على أمرين: (أحدهما:أنّ تركه للشيء ولو بعد الإقبال عليه لا يدل على تحريمه، والآخر:أنّ استقذار الشيء لا يدل على تحريمه أيضاً)([75])

2 ــ ومنها أن يكون تركه نسياناً, كما روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم سها في الصّلاة فترك منها شيئاً، فسئل:هل حدث في الصّلاة شيء؟ فقال: (إنّما أنا بشر أنسى كما تنسون ,فإذا نسيت فذكّـروني)([76])

3 ــ ومنها أن يكون تركه مخافة أن يفرض على أمته,كتركه صلاة التراويح حين اجتمع الصّحابة ليصلّوها معه.

4 ــ ومنها أن يكون تركه لعدم تفكيره فيه,ولم يخطر على باله,كما روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يخطب الجمعة إلى جذع نخلة ولم يفكر في عمل كرسي يقوم عليه ساعة الخطبة, فلمّا اقترح عليه عمل منبر يخطب عليه وافق وأقره لأنّه أبلغ في الإسماع([77])، ومثل ذلك ما وري من اقتراح الصحابة عليه أن يبنوا له دكّة من طين يجلس عليها ليعرفه الوافد الغريب, فوافقهم ولم يفكر فيها من قبل نفسه.

5 ــ ومنها أن يكون تركه لدخوله في عموم آيات أو أحاديث ,كتركه صلاة الضحى وكثيراً من المندوبات لأنّها مشمولة لقول الله تعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [الحج: 77]

6 ــ ومنها أن يكون تركه خشية تغيّر قلوب الصحابة أو بعضهم، كما روي في الحديث أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال لعائشة: (لولا حداثة قومك بالكفر لنقضت البيت ثم لبنيته على أساس إبراهيم عليه السّلام فإنّ قريشاً استقصرت بناءه)([78])، فتركه صلى الله عليه وآله وسلم نقض البيت وإعادة بنائه حفظاً لقلوب أصحابه القريبـي العهد بالإسلام من أهل مكّة.

وانطلاقا من هذا ذكر قاعدة مهمة هي المستند الذي يستند إليه الصوفية في إثبات جواز ما يخترعونه من تقييدات ورسوم وأوضاع، وهذه القاعدة هي أن (الترك وحده إن لم يصحبه نص على أنّ المتروك محظور لا يكون حجّة في ذلك، بل غايته أن يفيد أنّ ترك ذلك الفعل مشروع, وإمّـا أنّ ذلك الفعل المتروك يكون محظوراً فهذا لا يستفاد من الترك وحده, وإنمـا يستفاد من دليل يدل عليه)([79])

وذكر أن هذه القاعدة ليست من وضعه، بل من تتبع استدلالات الفقهاء المعتبرين وجدهم يستعملونها في استدلالاتهم، ومن ذلك ما ذكره عن أبي سعيد بن لب الذي قال ردا على من كره الدعاء عقب الصلاة: (غاية ما يستند إليه منكر الدعاء إدبار الصّلوات أنّ التزامه على ذلك الوجه لم يكن من عمل السّلف,وعلى تقدير صحة هذا النقل, فالترك ليس بموجب لحكم في ذلك المتروك إلا جواز الترك وانتفاء الحرج فيه, وأمّا تحريم أو لصوق كراهية بالمتروك فلا, ولا سيما فيما له أصل جملي متقرر من الشرع كالدعاء)([80])

ومثل ذلك ابن حزم الذي استدل بهذه القاعدة كثيرا، ومن ذلك ما ذكره في المحلى من احتجاج المالكيّة والحنفيّة على كراهية صلاة ركعتين قبل المغرب بقول إبراهيم النخعي: (إنّ أبا بكر وعمر وعثمان كانوا لا يصلونهما) ورد عليهم بقوله: لو صح لما كانت فيه حجة لأنه ليس فيه أنهم نهوا عنهما)([81])

وبعد أن أثبت لجوء الفقهاء إلى استعمال هذه القاعدة في استدلالاتهم بين أدلتها، وهي كما يلي([82]):

1 ــ أن الذي يدل على التحريم ثلاثة أشياء مقررة في علم الأصول، وهي النـهي, ولفظ التحريم، وذم الفعل أو التوعد عليه بالعقاب.. والترك ليس واحداً من هذه الثلاثة, فلذلك لا يقتضي التحريم.

2 ــ أنّ الله تعالى قال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } [الحشر: 7]، ولم يقل: (وماتركه فانتهوا عنه), فالترك لا يفيد التحريم.

3 ــ قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما أمرتكم به فائتوا منه ما استطعتم وما نهيتكم عنه فاجتنبوه)([83])، ولم يقل: (وما تركته فاجتنبوه فكيف دل الترك على التحريم؟)

4 ــ أنّ الأصوليين عرفوا السنّـة بأنها قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفعله وتقريره ولم يقولوا وتركه, لأنه ليس بدليل.

5 ــ أن الحكم خطاب الله, والذي يدل عليه قرآن أو سنة أو إجماع أو قياس, والترك ليس واحداً منها فلا يكون دليلاً.

6 ــ أن الترك يحتمل أنواعاً غير التحريم ,والقاعدة الأصولية أن ما دخله الاحتمال سقط به الاستدلال بل سبق أيضاً أنه لم يرد أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا ترك شيئاً كان حراماً وهذا وحده كاف في بطلان الاستدلال به.

7 ــ أن الترك ظل كأنه عدم فعل, والعدم هو الأصل والفعل طارئ، والأصل لا يدل على شيء لغة ولا شرعاً, فلا يقتضي الترك تحريماً.

وختم رسالته بذكر نماذج من الترك منها الاحتفال بالمولد النبوي، والاحتفال بليلة المعراج، وإحياء ليلة النصف من شعبان، وتشييع الجنازة بالذكر، وقراءة القرآن على الميت في الدار، قراءة القرآن عليه في القبر قبل الدفن وبعده، وصلاة التراويح أكثر من ثماني ركعات، ثم عقب عليها بقوله: (فمن حرّم هذه الأشياء ونحوها بدعوى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يفعلها فاتلُ عليه قول الله تعالى: {آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59]، لا يقال:وإباحة هذه الأشياء ونحوها داخلة في عموم الآية لأنـا نقول: ما لم يرد نهي عنه يفيد تحريمه أو كراهته ,فالأفضل فيه الإباحة لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (وما سكت عنه فهو عفو)([84]) أي مباح)([85])

الاحتجاج بما ورد عن الصحابة والسلف:

ومن أهم ما ورد في ذلك ما ورد عن عبد الله بن مسعود من إنكاره على بعض من قيد العبادة بما لم يرد في النصوص تقييده، فقد روى عمرو بن سلمة بن الحارث قال: كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود قبل صلاة الغداة , فجاءنا أبو موسى الأشعري.. فقال له أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن إني رأيت في المسجد آنفاً أمراً أنكرته , ولم أر والحمد لله إلا خيراً. قال: فما هو؟. قال: رأيت في المسجد قوماً حلقاً جلوساً ينتظرون الصلاة , في كل حلْقة رجل، وفي أيديهم حصى، فيقول كبروا مئة فيكبرون مئة , فيقول هللوا مئة فيهللون مئة، ويقول سبحوا مئة فيسبحوا مئة.. ثم مضى , ومضينا معه، حتى أتى حلْقة من تلك الحلق، فوقف عليهم، فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ !. قالوا: حصى نعدّ به التكبير والتهليل والتسبيح. قال: فعدّوا سيئاتكم، فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء، ويحكم يا أمة محمد، ما أسرع هلكتكم، هؤلاء صحابة نبيكم متوافرون، وهذه ثيابه لم تبل، وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده أنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد صلى الله عليه وآله وسلم؟ !! أَوَمفتَتِحوا باب ضلالة؟ !. قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير. قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه، إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حدثنا أن قوماً يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيَهم، وايم الله لا أدري لعل أكثرهم منكم. ثم تولى عنهم. قال عمرو بن سلمة: رأينا عامّة أولئك الحِلَق يطاعنوننا يوم النهروان مع الخوارج([86]).

ويعتبر هذا النص من أقوى ما يتمسك به المتشددون في معنى البدعة، وقد رد عليه المخالفون بمجموعة ردود منها:

1 ــ التشكيك في سند الرواية، كما قال الشيخ سيف العصري في كتابه (النقول الصحيحة في انقسام البدعة إلى حسنة وقبيحة): (قد أكثر نفاة الذكر الجماعي من الاحتجاج بأثر عبد الله بن مسعود، وهو أثر حكم الأئمة عليه بالضعف، وقبل أن أورد كلام الأئمة أحب أن أقف مع أسانيد هذا الأثر وقفات ليبين للمنصف حال هذا الأثر الذي اعتمد عليه فئات من الناس في الإنكار على الذكر الجماعي والسبحة، وأصبحوا يكررونه في كلِّ نادٍ، ويطيرون به كل مطار، وهم مع ذلك ينكرون على غيرهم التمسك بالضعيف، ولكن إذا كان الضعيف ينصر رأيهم فلا بأس من الاحتجاج به ولو كان هذا الضعيف يعارض طائفة من الأحاديث الصحيحة)([87])

ثم أطال في بيان الأدلة على ضعف الرواية، بما لا طاقة لهذا المحل بذكرها([88]).

2 ــ التوضيح لدلالتها، وهي أن إنكار ابن مسعود لم ينصرف إلى ما فعلوه من أعمال، فكل ذلك مشروع، وإنما انصرف لتصحيح تصورات هؤلاء للدين، فقد بلغه نحو من هذا عن بعض الجفاة الذين يحرصون على كثير من النوافل ويضيعون بعض الأسس والمهمات، ويرون أنهم على فضل وخير لا يبلغه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولذا نراه يقول لبعضهم: أوَإنكم لأهدى من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم؟ !!. ويقول لبعضهم: أئنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد صلى الله عليه وآله وسلم؟ !!. ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حدثنا أن قوماً يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، وايم الله لا أدري لعل أكثرهم منكم. ولقد صدقت فراسة عبد الله بن مسعود، فقد قال الراوي: رأينا عامة أولئك الحلق يطاعنوننا يوم النهروان مع الخوارج.

الاحتجاج بفتاوى العلماء والمالكية خصوصا:

لا يكتفي الشيخ ابن باديس ولا أعضاء الجمعية بالاستدلال بما ورد في النصوص في تحديد البدع وذمها، وإنما يضيفون إلى ذلك فتاوى من يرون أنه ينتصر لما يرونه من آراء من العلماء، وهم يميلون إلى المالكية خصوصا، ولعل ذلك يعود لاعتبارين:

الأول: هو مراعاة المذهب السائد في المنطقة.

الثاني: هو أن المذهب هو من أكثر المذاهب قربا من التيار السلفي في إنكاره للبدع.

ولهذا فإن ابن باديس وغيره من أعضاء الجمعية في مناقشاتهم للمخالفين يستعملون أقوال مالك وأدلته، حتى ما كان منها ظاهرا مخالفا للنصوص الصحيحة، والجمعية بذلك تبتعد عن المنهج السلفي الذي يرى – نظريا – أن النص لا يمكن أن يزاحم بأي اجتهاد.

وكمثال قريب على ذلك موقف ابن باديس من رأي مالك في صيام ستة أيام من شوال، والذي نص عليه ابن باديس بقوله: (والذي يظهر من عبارات مالك أن المكروه هو صوم ستة أيام متوالية بيوم الفطر، كما يفهم من قوله: (في صيام ستة أيام بعد الفطر) ومن قوله (وأن يلحق برمضان ما ليس منه أهل الجهالة والجفاء) وإنما يخشى هذا الإلحاق إذا كانت متوالية ومتصلة بيوم الفطر. فالكراهة إذا عنده منصبة على صومها بهذه الصفة من التوالي والاتصال لا على أصل صومها. وهذا هو التحقيق في مذهبه)([89])

ويرجع ابن باديس هذا الرأي الذي رآه مالك، والذي لا يدل عليه أي نص صحيح إلى أصلين مهمين في فقه مالك واحتياطه، وهما([90]):

1 ــ أن العبادة المقدرة لا يزاد عليها ولا ينقص منها، وهو أصل عام في جميع العبادات، (فبنى مالك- بسعة علمه وبعد نظره- على ذلك حمايتها من الزيادة في آخرها فكره صوم تلك الأيام متوالية متصلة بيوم الفطر مخافة- كما قال-: (أن يلحق برمضان ما ليس منه أهل الجهالة والجفاء) فكان احتياطه في الأخير مطابقا لاحتياط النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الأول، وذلك كله لأجل المحافظة على بقاء العبادة المقدرة على حالها غير مختلطة بغيرها)([91])

ثم علق على هذا الموقف مبديا إعجابه بهذا الرأي الذي لا دليل عليه من النصوص بقوله: (فلله مالك ما أوسع علمه، وما أدق نظره، وما أكثر اتباعه فرحمة الله تعالى عليه وعلى أئمة الهدى أجمعين)([92])

2 ــ أن ما ورد من العبادة مقيداً بقيد يلتزم قيده، وما ورد منها مطلقا يلتزم إطلاقه، فالآتي بالعبادة المقيدة دون قيدها مخالف لأمر الشرع ووضعه. والآتي بالعبادة المطلقة ملتزما فيه ما جعله بالتزامه كالقيد مخالف كذلك لأمر الشرع ووضعه.

ومن هذا الأصل المالكي يرى ابن باديس وأعضاء الجمعية بدعية كل التقييدات التي قيدت بها الطرق أنواع العبادات، وخصوصا الأذكار، يقول ابن باديس: (وهو أصل في جميع العبادات، ومثال ما ورد من العبادة مقيدا، التسبيح والتحميد والتكبير ثلاثا وثلاثين مرة والختم بلا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. فقيدت هذه العبادة المحددة بإيقاعها دبر كل صلاة، فالإتيان بها في غير دبر الصلوات مخالفة للوضع الشرعي، ومثال ما ورد مطلقا (لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)، في يوم مائة مرة وسبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة فيلتزمها في وقت معين من النهار فيخرج عن مقتضى الإطلاق في لفظ يوم من نص الحديث فيكون مخالفا للوضع الشرعي)([93])

ثم يعلق على هذين الأصلين اللذين اتخذهما معيارا للحكم على الأعمال بالسنية والبدعية، فيقول: (هذان الأصلان اللذان قررنا بهما فقه مالك هما اصلاح مجمع عليهما كثيرة في الشريعة المطهرة أدلتهما والفروع التي تنبني عليهما فلنا في مالك وغيره من أئمة الهدى القدوة الحسنة في التمسك بهما. فنحتاط لعبادتنا حتى لا نخلط بين فرضها ونفلها. ونتقبل ما جاء من العبادات مقيدا أو محددا بقيده وحده، ونتقبل ما جاء منها مطلقا على إطلاقه فلا نلتزم فيه ما يخرجه عن الإطلاق. ولنحذر كل الحذر من الأخلاق بقيود الشارع أو التقييد لمطلقاته، ففي ذلك استظهار عليه وقلة أدب معه وتبديل لوضعه واختيار عليه وإنما الخير لله ولرسوله لا لأحد من الناس وأن الغالب على الناس أنهم لا يتعمدون الإخلال بالقيود وإنما يتعمدون التقييد للمطلقات وأنواع الالتزامات مع أنهما في المخالفة سواء فلنحذر من الوقوع في مثل هذا على الخصوص)([94])

ونحب أن نبين هنا أن العلاقة التي تربط الجمعية بالمذهب المالكي لا تتعدى مالك وبعض أصحابه المتقدمين، أما المتأخرون من أصحاب المتون والشروح والحواشي، والذين يكاد يكون أكثرهم من أصحاب الطرق الصوفية، فإن الجمعية تنتقدها، بل وتقدم كتب الحنابلة عليها، يقول الزاهري في العدد الخامس من (الصراط السوي): (وهُنا مسألة جوهريّة لا بأس بالإشارة إليها, وهي أنّ كُتب الحنابلة التي يقرئها الوهّابيّة وغيرهم هي كّتب سّنّة وحديث أكثر ممّا هي كُتب فقهيّة حنبليّة , وهم لا يزالون يُؤلّفونها على طريقة السّلف الصّالح وأئمّة هذا الدّين الحنيف , بخلاف كُتبنا نحن المالكيّة التي يُؤلّفها فُقهاؤنا المتأخّرون في المذهب المالكي مثلا فهي خالية من السّنّة والحديث حتّى إنّك لتقرأ كتابا ذا أجزاء من كُتب المُتأخّرين من أوّله إلى آخره فلا تكاد تعثر فيه على حديث شريف ولا على أثر من آثار الصّحابة وبعبارة أخرى أنّ كُتب الحنابلة المُتأخّرين لا تزال كّتب سنّة وحديث ككتُب المُتقدّمين أمّا كُتب المُتأخّرين من المالكيّة والحنفيّة مثلا فقد خلت كلّها أو جُلّها من السّنّة والحديث , بل يسوق لك مُؤلّفها الأحكام مُجرّدة عن كلّ نظر واستدلال ولا يخفى أنّ كتب السّنة والحديث تجعل قارئها سُنّيا سلفيا شديد الاتّصال بالرّسول صلى الله عليه وآله وسلم وشديد الاتّصال بالسّلف الصّالح وبعيدا كلّ البعد عن التّقليد والجُمود وبعيدا عن البدع ومُحدثات الأمور , ومن هنا جاء الخلاف بين الوهّابيّة من أهل السّنّة الآخرين إن كان هناك خلاف)([95])

وانطلاقا من هذا نرى الجمعية في مناقشاتها مع المخالفين سواء كانوا من المدرسة المقاصدية أو المدرسة الصوفية، تنتقي من فتاوى الفقهاء ما يتناسب مع هذه النظرة، وهي انتقائية – كما نرى – غير موضوعية، لأن التأصيل الحقيقي يستدعي الاطراد، والتعامل مع القضايا من جميع جوانبها.

وكمثال على ذلك أن ابن باديس في مناقشته مع الشيخ محمد الطاهر بن عاشور رجع إلى فتاوى أبي سعيد بن لب الغرناطي([96])، بل ويثني عليه، يقول في ذلك: (ونزيد على ذلك الآن ما قاله فقهاؤنا المتأخرون في بدع الجنائز من القراءة ونحوها: سئل أبو سعيد بن لب كبير فقهاء غرناطة في عصره عما يفعله الناس في جنائزهم حين حملها من جهرهم بالتهليل والتصلية والتبشير والتنذير ونحو ذلك على صوت واحد أمام الجنازة. كيف حكم ذلك في الشرع؟)([97])

ثم نقل فتواه ببدعية ذلك، وأن (السنة في اتباع الجنائز الصمت والتفكر والاعتبار.. واتباعهم سنة ومخالفتهم بدعة: وذكر الله والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عمل صالح مرغب فيه في الجملة لكن للشرع توقيت وتحديد في وظائف الأعمال، وتخصيص يختلف باختلاف الأحوال والصلاة وإن كانت مناجاة الرب، وفي ذلك قرة عين العبد، تدخل في أوقات تحت ترجمة الكراهة والمنع. والله يحكم ما يريد)([98])

وينقل فتوى أخرى له في نفس الموضوع، ذكر فيها أن (ذكر الله والصلاة على رسوله عليه السلام من أفضل الأعمال وجميعه حسن لكن للشرع وظائف وقَّتها وأذكار عيَّنها في أوقات وقتها، فوضع وظيفة موضع أخرى بدعة، وإقرار الوظائف في محلها سنة، وتبقى وظائف الأعمال في حَمل الجنائز إنما هو الصمت والتفكر والاعتبار. وتبديل هذه الوظائف بغيرها تشريع. ومن البدع في الدين) ([99])

ثم عمم ابن باديس فتوى أبي سعيد على كل الأوضاع الحادثة، فقال: (وهذه هي فتوى أبي سعيد بن لب في موضوعنا المنطبقة على كل ما أحدث من الأوضاع بقصد التقرب وليست قربة في هذه المواضع وإن كانت حسنة في أصلها وقد رأيت إنكاره لها، فترك هذا كله فضيلة)([100])

لكنا بالعودة إلى كتاب (تقريب الأمل البعيد في نوازل الأستاذ أبي سعيد) والذي يضم فتاوى الإمام أبي سعيد ابن لـُب الغرناطي (ت:782هـ) نرى أنه في فتاواه ينتهج منهج المدرسة المقاصدية التي ينتمي إليها ابن عاشور، والتي ترى تقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة، وكمثال على ذلك أنه (سئل عن قراءة الحزب في الجماعة على العادة، هل فيه أجر؟ مع ما نقل فيه ابن رشد من الكراهة؟)

فأجاب قائلا: (أما قراءة الحزب في الجماعة على العادة فلم يكرهه أحد إلا مالك على عادته في إيثار الاتباع، وجمهور العلماء على جوازه واستحبابه، وقد تمسكوا في ذلك بالحديث الصحيح: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وحفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده)([101])

بالإضافة إلى هذا النص الصحيح يستند أبو سعيد بن لب إلى المقاصد الشرعية في هذا، فيقول: (ثم إن العمل بذلك قد تضافر عليه أهل هذه الأمصار والأعصار، وفيه مقاصد من يقصدها فلن يخيب من أجرها: منها تعاهد القرآن حسبما جاء فيه من الترغيب في الأحاديث، ومنها تسميع كتاب الله لمن يريد سماعه من عوام المسلمين؛ إذ لا يقدر العامي على تلاوته فيجد بذلك سبيلاً إلى سماعه، ومنها التماس الفضل المذكور في الحديث؛ إذ لم يخصص وقتاً دون وقت)([102])

بل إنه فوق ذلك يرد على من يعتبر الترك دليلا على البدعة، فقال: (ثم إن الترك المروي عن السلف لا يدل على حكمٍ إذا لم ينقل عن أحد منهم أنه كرهه أو منعه في ذينك الوقتين، وشأن نوافل الخير جواز تركها.. فالحق أن فيه الأجر والثواب؛ لأنه داخل في باب الخير المرغب فيه على الجملة، ولا يعتقد فاعل ذلك أنه يقدم على مكروه تقليداً لمالك، يل يعتقد معنى الحديث المتقدم وتقليد من يستحب ذلك ويستحسنه) ([103])

ثم يختم فتواه ببيان تقسيم البدع إلى سيئة ومستحسنة، فيقول: (وثم بدع مستحسنة لا سيما في وقت قلة الخير وأهله، والكسل عن قوله وفعله، لطف الله بنا ومن علينا بصلاح أحوالنا بمنه وفضله)([104])

المبحث الثالث

 موقف الطرق الصوفية من البدعة وأدلتها.

بعد أن تعرفنا على تصور جمعية العلماء المسلمين الجزائريين للبدع وضوابطها، نحاول في هذا المبحث التعرف على تصور الطرق الصوفية لها حتى تتم المقارنة، والتي على أساسها نستطيع أن نفهم جزئيات الخلاف بين الطرفين.

وقد حاولنا في هذا المبحث أن ننتهج نفس ما انتهجناه في المبحث السابق من التعرف على حقيقة البدعة أولا، ثم التعرف على الأدلة التي تدل على تصورهم لها ومناقشتها ثانيا.

المطلب الأول: حقيقة البدعة عند الطرق الصوفية

بناء على ما سبق إثباته من أن الطرق الصوفية انتهجت المنهج الصوفي بمدرستيه السلوكية والعرفانية، فإن كلا المنهجين يفرضان عليها أن تأخذ بالمنهج المتساهل في مفهوم البدعة وضوابطها.

فالتوجه العرفاني يجعل من الصوفي مرتبطا بالمشرع مباشرة، ولهذا قد يأخذ منه من صيغ الأذكار ونحوها ما لا يوجد في كتب الفقهاء، وقد كتب الشيخ أبو طاهر المغربي التيجاني آل أبي القاسم في كتابه (إفحام الخصم الملد بالدفاع عن الشيخ الممد) في رده على محمد تقي الدين الهلالي في مقال نشره في الشهاب يقول: (اعلم أن الأذكار اللازمة لهذه الطريقة هي الوردان والوظيفة في كل يوم، وذكر لا إله إلاّ الله بعد عصر يوم الجمعة، ولكلٍّ وقت معين على ما قرر في كتب الطريقة، وإنما يُجتَمَعُ للوظيفة والهيللة، وقد صرح الشيخ التيجاني بأنه تلقى ذلك كله عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، والذي قرره غير واحد من محققي أهل العلم أن ما يقع للصوفية من الكشف، ومنه ما طريقه رؤيا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والاجتماع به، يؤخذ به إذا شهد له الشرع)([105])

وقد استدل لهذا بما قاله الشاطبي في الباب الرابع من الاعتصام، فقد ذكر أن (الرؤيا من غير الأنبياء لا يحكم بها شرعا على حال إلاّ أن تعرض على ما في أيدينا من الأحكام الشرعية، فإن سوغتْها، عُمِل بمقتضاها، وإلاّ وجب تركها والإعراض عنها، وإنما فائدتها البشارة أو النذارة خاصة، وأما استفادة الأحكام فلا. كما يحكى عن الكتاني رحمه الله قال: رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المنام فقلت: أدع الله أن لا يميت قلبي، فقال: قل في كل يوم أربعين مرة (يا حيّ يا قيّوم، لا إله إلاّ أنت)، فهذا كلام حسن لا إشكال في صحته، وكون الذكر يحيي القلوب صحيح شرعا)([106])

 والتوجه السلوكي فيها يدعوها أحيانا إلى تقييد المطلق من العبادات بالعدد والزمان ونحوه، وهذا مما لا يرتضيه الطرف المتشدد في مفهوم البدعة، وقد عبر الشيخ ابن عليوة في رده على الشيخ عثمان بن مكي صاحب (المرآة لإظهار الضلالات) عن موقف الطرق الصوفية من البدعة، فقال: (وحتى لو قلنا إنّ ما عليه القوم أنّه بدعة إلا يصلح أن يكون من البدع المستحسنة المسمّاة بالسنّة المأخوذة من قوله عليه الصلاة والسلام، فعن ابن جرير عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من سنّ سنّة حسنة فعمل بها كان له أجرها ومثل أجر من عمل بها لا ينقص من أجورهم شيئا، ومن سنّ سنّة سيئة فعمل بها كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده لا ينقص من أوزارهم شيـئا)([107]) رواه ابن ماجة في سننه، فتأمّل كيف سمى البدعة سنّة، ألم يبلغك أنّ الاجتماع على قيام رمضان في المساجد هو ما ابتدعه عمر بن الخطاب فكان سنّة متبعة، وقال فيها فنعمت البدعة..ثمّ إنّك أخذت في تزييف البدع وفي ظنّي أنّك لا تميّز بين البدعة المستحبّة المعروفة بالسنّة، وبين ما هي خلاف ذلك، قال الإمام الشافعي: (إنّ البدعة ما خالفت كتابا أو سنّة أو إجماعا أو أثرا، وما لم يخالف شيئا من ذلك فهي المحمودة)، وفي ظنّي أنّك تسلم أنّ الاجتهاد من خصائص هذه الأمّة، وتعلم أنّ أركان الدين الثلاثة (الإسلام، الإيمان، الإحسان)، فلم تسلم اجتهاد الأئمة الأربعة ونحوهم في مقام الإسلام، وتسلم اجتهاد الأشعري والماتريدي في الاعتقاد الذي هو مقام الإيمان، ولا تسلم اجتهاد الجنيد وعصابته في مقام الإحسان، وهل تعتبر الإحسان ركنا؟، لا، والله ما هكذا ظنّي فيكم إن تغفلوا عن الأهم)([108])

وهذا يدل على أن الصوفية يرون أن ما يخترعونه من سلوك أو من تحديد للعباادت هو من المصالح التي لا حرج فيها، ولا تدخل ضمن مفهوم البدعة، وهو الذي اعتبره خصومها، وخاصة من التيار السلفي من البدع المنكرة.

ولو كان الأمر قاصرا على الصوفية وحدهم لما اعتبرنا هذا من المختلف فيه، ولكنا نجد الكثير من العلماء، وخاصة من أتباع المدارس الفقهية، بل من المحدثين أنفسهم، من يؤيدهم في هذه النظرة، ويعتبر أن مفهوم البدعة لا ينطبق على تلك السلوكات، وليس هذا خاصا بأفراد معدودين من العلماء، بل هو يشمل الكثير من المحدثين والفقهاء وعلماء الكلام وغيرهم ممن قد يشكلون مدرسة كاملة لا يمكن إهمالها.

بل يدخل في هؤلاء جملة من العلماء المعتبرين لدى علماء المدرسة السلفية، إما باعتبارهم من المحدثين الكبار، أو لاعتبارات أخرى تجعلهم يتفقون مع هذه المدرسة، ومع ذلك لا يرون مثل هذه السلوكات بدعة.

ولا يمكننا في هذا المحل أن نستوعب التعريف بهؤلاء لكثرتهم، ولكنا نحب أن نشير إلى علمين بارزين لهما قيمتهما في سلوك هذه المدرسة، وفي موقفهما خصوصا من البدعة، وفي كون الكثير من الطرق الصوفية يرجعون إليهما عند الخلاف مع المدرسة السلفية.

أما أولهما، فهو العالم الذي اتفقت المدارس الإسلامية على قبوله واحترامه لكونه فقيها وأصوليا وعالما كبيرا من علماء المقاصد بالإضافة إلى مواقفه الشديدة مع حكام زمانه إلى درجة تلقيبه بسلطان العلماء، ألا وهو (العز بن عبد السلام)، فقد كان إلى جانب تلك القدرات العلمية مريدا لبعض مشايخ الصوفية، ويمارس طقوسهم، إلى درجة أن بعض الفقهاء يستدلون بفعله على جواز تلك الممارسات([109]).

ونحن لا يهمنا سلوكه الصوفي، ولا أذواقه التي عبر عنها في كتبه الصوفية، ولكن الذي يهمنا هو تأصيله لمفهوم البدعة الذي صار هو المعتبر عند الصوفية، بل هو المعتبر عند أكثر علماء المقاصد، في مقابل مفهوم البدعة الذي طرحه الشاطبي في الاعتصام والذي سانده عليه الاتجاه السلفي، وكانت جمعية العلماء من ضمن من اهتم به وأيده.

وبذلك يمكن أن نعتبر الخلاف بين المدرستين الصوفية والسلفية في الحقيقة خلافا بين مدرستين في مفهوم البدعة مدرسة الشاطبي، ومدرسة العز بن عبد السلام.

وخلاصة موقف العز بن عبد السلام من مفهوم البدعة وحدودها هو أن البدعة ــ باعتبار اشتمالها على المصلحة والمفسدة أو خلوها عنها ــ تنقسم إلى أقسام الحكم الخمسة: الوجوب والندب والحرمة والكراهة والإباحة.

وقد مثَّل لكل قسمٍ منها، وذكر ما يشهد له من قواعد الشريعة، وكلامه في ذلك ــ كما يذكر المحدث الغماري ــ (كلام ناقد بصير أحاط خبراً بالقواعد الفقهية، وعرف المصالح والمفاسد التي اعتبرها الشارع في ترتيب الأحكام على وفقها، ومَنْ مثل سلطان العلماء في معرفة ذلك؟ فجاء تقسيمه للبدعة مؤسَّساً على أساس من الفقه وقواعده متين، ولذا وافقه عليه الإمام النووي والحافظ ابن حجر وجمهور العلماء، وتلقوا كلامه بالقبول ورأوا أن العمل به متعيِّن في النوازل والوقائع التي تحدث مع تطور الزمان وأهله)([110])

وينتقد المحدث الغماري الشاطبي الذي خرج عن هذا المفهوم، فقال معقبا على كلامه السابق: (حتى جاء صاحب (الإعتصام) فخرج عن جمهرة العلماء وشذَّ بإنكار هذا التقسيم، فبرهن بهذا الإنكار على أنه بعيد عن معرفة الفقه بعيد عن فهم قواعده المبنية على المصالح والمفاسد، لا يعرف ما فيه مصلحة فيطلب تحصيلها بفعله، ولا يدري ما فيه من مفسدة فيطلب اجتنابها بتركه، ولا ما خلا عنهما فيجوز فعله وتركه على السواء. وأخيراً برهن على أنه لم يتذوق علم الأصول تذوقاً يمكنه من معرفة وجوه الاستنباط وكيفية استعمالها والتصرف فيها بما يناسب الوقائع)([111])

ويتعجب الغماري من الشاطبي الذي ينكر على العز بن عبد السلام ذلك التقسيم مع أنه بناه (على اعتبار المصالح والمفاسد التي اعتبرها الشارع في ترتيب الأحكام على وفقها؛ ولم ينكر على المالكية القول بالاستصلاح الذي لم يعتبره الشارع ولا قَبِله جمهور العلماء، بل أنكروه وأبوا أن يرتبوا عليه أحكاماً كما فعل المالكية لعدم اعتبار الشارع له؟!)([112])

ويعتبر أن هذا الموقف من الشاطبي المالكي نوعا من التعصب المذهبي الظاهر، لأنه لم ينر على المالكية مع أن قولهم في الاستصلاح أعظم من قول العز في البدعة.

ويرد على التمسك بظاهر قوله قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (كل بدعة ضلالة) بأنَّ (البدعة التي هي ضلالة من غير استثناء هي البدعة الاعتقادية كالمعتقدات التي أحدثها المعتزلة والقدرية والمرجئة ونحوهم، على خلاف ما كان يعتقده السلف الصالح، فهذه هي البدعة التي هي ضلالة، لأنها مفسدة لا مصلحة فيها، أما البدعة العملية بمعنى حدوث عمل له تعلق بالعبادة أو غيرها ولم يكن في الزمن الأول، فهذا لا بد فيه من التقسيم الذي ذكره عز الدين بن عبد السلام، ولا يتأتى فيه القول بأنه ضلالة على الإطلاق، لأنه من باب الوقائع التي تحدث على ممر الأزمان والأجيال، وكل واقعة لا تخلو عن حكم لله تعالى، إما منصوص عليه أو مستنبط بوجه من وجوه الاستنباط، والشريعة إنما صلحت لكل زمان ومكان وكانت خاتمة الشرائع الإلهية وأكملها بما حوته من قواعد عامة وضوابط كلية، مع ما أوتيه علماؤها من قوة الفهم في نصوصها ومعرفة بالقياس والاستصحاب وأنواعها لما غير ذلك مما حضت به شريعتنا الغراء)([113])

بالإضافة إلى هذا يذكر الغماري أنه لو اتبعنا طريقة الشاطبي وحكمنا على كل عمل حدث بعد العصر الأول بأنه بدعة ضلالة من غير أن نعتبر ما فيه من مصلحة أو مفسدة لزم على ذلك إهدار جانب كبير من قواعد الشريعة وقياساتها وتضييق لدائرتها الواسعة وفي ذلك ما لا يخفى([114]).

أما العالم الثاني، والذي يعتبر سندا لهذه المدرسة، بحيث لا تكاد تخلو كتبها من الاستدلال به، وهو يمثل جمهرة من المحدثين وقفت إلى جانب الصوفية، وحاولت أن تستل لرسومها وطقوسها بما ورد في الأحاديث فهو المحدث الكبير جلال الدين السيوطي، فهو لتقدمه، ولكثرة ما كتبه في الباب يكاد يمثل الكثير من المحدثين الذين جمعوا بين الحديث والصوفية، ولعل آخرهم من الذين كانت لهم علاقة بجمعية العلماء الشيخ عبد الحي الكتاني.

ولعل أهم ما قام به جلال الدين السيوطي بالإضافة إلى رسائله المتعلقة بجزئيات السلوك الصوفي، تأييده للطريقة الصوفية، كما نرى في رسالته (تأييد الطريقة الشاذلية)، وقد جاء بعد السيوطي الكثير من المحدثين ممن سار على دربه، وكان منهم الغماري والكتاني والنابلسي والبوصيري وغيرهم.

ولهذا نجد في تراث الطرق الصوفية الجزائرية وحوارها مع جمعية العلماء الرجوع إلى أمثال هؤلاء كثيرا.

المطلب الثاني: أدلة الطرق الصوفية على موقفها من البدعة:

بناء على هذا نحاول في هذا المبحث أن نرى أدلة الطرق الصوفية في اعتمادهم على هذا المفهوم للبدعة، والذي أشار إلي بعضها الشيخ ابن عليوة.

إقرار القرآن لبدعة الرهبانية:

من الآيات التي استدل بها الصوفية في إثبات جواز، بل استحباب ما اخترعوه من أوضاع عبادية لم ترد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } [الحديد: 27]

فقد ذهب عامة المفسرين لهذه الآية إلى أن الله تعالى قد رضي من النصارى هذه البدعة، ولم يذمهم عليها، بل أمرهم بالدوام عليها وعدم تركها، وجعلها في حقهم كالنذر الذي من ألزم نفسه به فعليه القيام به، وعدم تركه والتهاون فيه.

وإلى هذا التفسير ذهب الشيخ محمد الطاهر بن عاشور الذي رأينا ذلك الخلاف الشديد الذي حصل بينه وبين ابن باديس في تحقيق المناط حول بدعية قراءة القرآن الكريم على الموتى، فقد اعتبر الآية الكريمة من الأدلة على حجية انقسام البدعة إلى محمودة ومذمومة، يقول في تفسير للآية: (وفيها حجة لانقسام البدعة إلى محمودة ومذمومة بحسب اندراجها تحت نوع من أنواع المشروعية فتعْتريها الأحكام الخمسة كما حققه الشهاب القرافي وحذاق العلماء. وأما الذين حاولوا حصرها في الذم فلم يجدوا مصرفاً. وقد قال عمر لما جمع الناس على قارىء واحد في قيام رمضان نعمت البدعة هذه)([115])

بل إنه ذكر في تفسيره للآية ما يفيد استحباب ما فعلوه من بدعة، يقول: (وإنما عطفت هذه الجملة – أي قوله تعالى: {إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ } [الحديد: 27] على جملة {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ } [الحديد: 27] لاشتراك مضمون الجملتين في أنه من الفضائل المراد بها رضوان الله، والمعنى: وابتدعوا لأنفسهم رهبانية ما شرعناها لهم، ولكنهم ابتغوا بها رضوان الله، فقبلها الله منهم؛ لأن سياق حكاية ذلك عنهم يقتضي الثناء عليهم)([116])

واستدل بالآية أيضا منظر صوفية المغرب العربي الأكبر العلامة عبد الله بن صديق الغماري في كتابه (إتقان الصنعة)، فقد قال مبنيا وجه الاستدلال بالآية: (استنبط العلماء من هذه الآية مجموعة من الأحكام منها: إحداث النصارى لبدعة الرهبانية من عند أنفسهم.. وعدم اعتراض القرآن على هذا الإحداث، فليس في الآية – كما قال الرازي([117]) والألوسي([118]) – ما يدل على ذم البدعة.. ولوم القرآن لهم بسبب عدم محافظتهم على هذه البدعة الحسنة: فما رعوها حق رعايتها واللوم غير متجه للجميع، على تقدير أن فيهم من رعاها كما قال ابن زيد، وغير متوجه لمحدثي البدعة كما قال الضحاك، بل متوجه إلى خلفهم كما قال عطاء)([119])

واستدل بالآية كذلك القرطبي، فقد قال في تفسير عند هذه الآية: (وهذه الآية دالة على أن كل محدثة بدعة، فينبغي لمن ابتدع خيراً أن يدوم عليه ولا يعدل عنه إلى ضده فيدخل في الآية، وعن أبي أمامة الباهلي -واسمه صدي بن عجلان- قال: (أحدثتم قيام رمضان ولم يكتب عليكم، إنما كتب عليكم الصيام، فدوموا على القيام إذ فعلتموه ولا تتركوه، فإن ناساً من بني إسرائيل ابتدعوا بدعاً لم يكتبها الله عليهم، ابتغوا بها رضوان الله فما رعوها حق رعايتها، فعابهم الله بتركها فقال: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } [الحديد: 27])([120])

بل إن شيخ المفسرين بالمأثور ابن جرير الطبري الذي يستند إليه الاتجاه السلفي كثيرا، حيث أنه رجح من خلال الآية استحباب ما أحدثه النصارى من هذه البدعة، وأن الله رضيها عنهم، وقبلها منهم، ولم يعاتبهم إلا على تقصيرهم في حقها، فقد قال (241/27): (وأولى الأقوال في ذلك بالصحة أن يقال: إن الذين وصفهم الله بأنهم لم يرعوا الرهبانية حق رعايتها، بعض الطوائف التي ابتدعتها، وذلك أن الله جل ثناؤه أخبر أنه آتى الذين آمنوا منهم أجرهم؛ فدل بذلك على أن منهم من قد رعاها حق رعايتها، فلو لم يكن منهم من كان كذلك لم يكن مستحق الأجر الذي قال جل ثناؤه فيه: {فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ} [الحديد: 27] إلا أن الذين لم يرعوها حق رعايتها ممكن أن يكونوا كانوا على عهد الذين ابتدعوها، وممكن أن يكونوا كانوا بعدهم، لأن الذين هم من أبنائهم إذا لم يكونوا رعوها، فجائز في كلام العرب أن يقال: لم يرعها القوم على العموم، والمراد منهم البعض الحاضر، وقد مضى نظير ذلك في مواضع كثيرة من هذا الكتاب)([121])

وفي المقابل نجد الاتجاه المتشدد في الموقف من البدعة لا يرى في الآية هذه الرؤية، فقد ذهب ابن كثير في تفسيره إلى أن في الآية الكريمة ذم (من وجهين: أحدهما: الابتداع في دين الله ما لم يأمر به الله.. والثاني: في عدم قيامهم بما التزموه مما زعموا أنه قربة يقربهم إلى الله عز وجل)([122])

واعترض الشاطبي في (الاعتصام) على الاستدلال بهذه الآية على جواز إحداث البدعة بـمجموعة اعتراضات([123]):

الأول: أن الآية لا يتعلق منها حكم بهذه الأمة، لأن الرهبانية نسخت في الشريعة الإسلامية فلا رهبانية في الإسلام.

الثاني: أن البدعة في الآية ليست بدعة حقيقية وإنما هي بدعة إضافية، لأن ظاهر القرآن دل على أنها لم تكن مذمومة في حقهم بإطلاق، بل لأنهم أخلوا بشرطها، وهو الإيمان بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم.

الثالث: أنه لو كانت البدعة في هذه الآية حقيقية لخالفوا بها شرعهم الذي كانوا عليه، لأن هذه حقيقة البدعة، أي هي الفعل المخالف للشرع.

حديث السنة الحسنة:

وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من سنَّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء)([124])

وقد اعترض ابن باديس على هذا الاستدلال بالحديث بقوله: (من سن سنة حسنة أو سيئة هو من ابتدأ طريقا من الخير في أعمال البر والاحسان وما ينتفع به الناس من شؤون الحياة. ولا يشمل ذلك ما يحدثه المحدثون من البدع في العبادات من الزيادات والاختراعات اذ الزيادة على ما وضعه الشرع من العبادات وحدده افتئات عليه واستنقاص له، وهذه هي البدعة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار)([125])([126])

حديث (إنما الأعمال بالنيات):

هو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو إلى امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه)([127])

وقد اعترض ابن باديس على هذا الاستدلال بقوله عند شرح الحديث: (الأعمال إما طاعات لأنها مأمور بها وجوبا أو استحبابا، وإما مخالفات لأنها منهي عنها تحريما أو كراهة، واما مباحات لأنها غير مأمور بها ولا منهي عنها، فالمخالفات بقسميها لا تقبلها النيات طاعات لأنها في قسمها غير عمل صالح ولأننا علمنا بالنهي عنها ان قصد الشارع هو تركها وعدم وجودها فقصد المكلف مضاد لقصد الشارع فكان ساقطا لا عبرة به ولا أهلية له لقلب الموضع الشرعي… والطاعات بقسميها هي التي تؤثر فيها النية بالقبول والرد بحسب قصد الله بها وقصد غيره أو بتفاوت درجات القبول وبحسب المقصود على ما تقدم وهي المقصودة بالقصد الأول من الحديث، والمباحات مثلها تؤثر فيها النيات فتقبلها طاعة أو معصية لأن الشرع لما أباحها علمنا أنه لا قصد له لا في وجودها ولا في عدمها من حيث ذاتها فكان لقصد المكلف حينئذ سبيل إلى التأثير فيها. وقد غفل عن هذه الحقيقة أقوام- عفا الله عنهم- فتراهم يستدلون على أعمالهم بقوله – صلى الله عليه وآله وسلم-: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرىء ما نوى) قاصدين إلى تبريرها غير ملتفتين إلى كونها من قسم الطاعات أو المخالفات أو المباحات. وكثيرا ما يرتكبون البدع كدعاء المخلوقات وكالحج إلى الأضرحة وإيقاد الشموع عليها والنذور لها وكالرقص وضرب الدف في بيوت الله وغير هذا من أنواع البدع والمنكرات، ويتوكؤون في ذلك كله على (إنما الأعمال بالنيات) كلا، ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب فإن البدع كلها من قسم المخالفات وأن المخالفات لا تنقلب طاعات بالنيات)([128])

إقرار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما فعل في عهده من محدثات:

ومن الأمثلة التي يسوقونها على هذا الأحاديث التالية:

الحديث الأول: ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لبلال عند صلاة الفجر: (يا بلال حدثني بأرجي عمل عملته في الإسلام فإني سمعت دف نعليك في الجنة، قال: ما عملت عملاً أرجى عندي أني لم أتطهر طهوراً في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي)([129])

ومما يدل على صحة الاستدلال بهذا الحديث على ما ذهب إليه المتساهلون في مفهوم البدعة هو ما قاله الحافظ ابن حجر في (الفتح) مع شدته المعروفة مع البدع والمبتدعة: (يستفاد منه جواز الاجتهاد في توقيت العبادة، لأن بلالاً توصل إلى ما ذكره في الاستنباط فصوَّبَه الرسول. ومثل هذا حديث خباب في البخاري وفيه: وهو أول من سن الصلاة لكل مقتول صبراً ركعتين. فهذه الأحاديث صريحة في أن بلالا وخبابا اجتهدا في توقيت العبادة ولم يسبق من الرسول أمر ولا فعل إلا الطلب العام وأن (الصلاة خير موضوع فأقلل منها أو استكثر) كما في الحديث الذي رواه الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة)([130])

الحديث الثاني: ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث رجلا على سرية , وكان يقرأ لأصحابه في صلاته فيختم بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } [الإخلاص: 1]، فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: سلوه لأي شيء يصنع ذلك؟. فسألوه، فقال: لأنها صفة الرحمن، وأنا أحب أن أقرأ بها. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أخبروه أن الله يحبه)([131])

وهذا الحديث ظاهر في أن أمير السـرية كان يختم القراءة في الصلاة بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } [الإخلاص: 1]اجتهاداً منه، لأنه صفة الرحمن جل وعلا، فكان جزاؤه أن يحبه الله تعالى لحبه إياها.

الحديث الثالث: ما روي عن أنس قال: كان رجلٌ من الأنصار يؤمهم في مسجد قباء وكان كلما افتتح سورة يقرأ بها لهم في الصلاة مما تقرأ به افتتح بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } [الإخلاص: 1] حتى يفرغ منها ثم يقرأ سورة أخرى معها، وكان يصنع ذلك في كل ركعة فكلمه أصحابه، فقالوا: إنك تفتتح بهذه الصورة ثم لا ترى أنها تجزئك حتى تقرأ بأخرى، فقال: ما أنا بتاركها، إن أحببتم أن أؤمكم بذلك فعلت وإن كرهتم تركتكم، وكانوا يرون أنه من أفضلهم وكرهوا أن يؤمهم غيره، فلما أتاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبروه الخبر فقال: يا فلان ما يمنعك أن تفعل ما يأمرك به أصحابك وما يحملك على لزوم هذه السورة في كل ركعة فقال: إني أحبها، فقال: (حبُّك إياها أدخلك الجنة)([132])

وهذا الحديث كالسابق في الدلالة على اجتهاد الرجل في قراءة سورتين في كل ركعة، ولزوم قراءة الفاتحة، وهو اجتهاد منه في أمر تعبدي، ولم يدل دليل على تخصيصه به.

الحديث الرابع: ما روي عن ابن عمر قال: بينما نحن نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ قال رجل من القوم: (الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً)، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من القائل كلمة كذا وكذا؟ فقال رجل من القوم: أنا يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (عجبت لها، فتحت لها أبواب السماء)([133])

والظاهر من سياق الرواية أن ذلك الصحابي لم يكن قد سمع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً في جعل هذا الذكر في استفتاح الصلاة، ولو كان ذلك عن أمره وتعليمه لما عجب لذلك، وإنما كان ذلك عن اجتهاد من ذلك الصحابي، ومحل الشاهد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقره على ذلك الاجتهاد، ولو كان من المحظور على المرء المسلم أن يأتي بشيء في العبادة دون دليل خاص لأنكر عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولقال له كيف تفعل في الصلاة شيئاً قبل أن آذن لك فيه؟!

الحديث الخامس: ما روي عن رفاعة بن رافع الزُرَقي أنه قال: كنا يومَ نصلي وراء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لى, فلما رفع رأسه من الركعة قال: سمع الله لمن حمده، قال رجل وراءه: (ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه)، فلمـا انصرف قال: من المتكلم؟. قال: أنا. قال: (رأيت بضعة وثلاثين ملكاً يبتدرونها أيهم يكتبها أول)([134])

وهذا إقرار من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للذي قال هذه الكلمات، وقد يكون قائلها قد سمعها من النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قبل، لكن الظاهر أنها ليست مما علمه أن يقوله في الصلاة، وأنه قالها في ذلك الاعتدال اجتهادا منه بإلهام من الله تبارك وتعالى.

الحديث السادس: ما روي أن خُبَيْبا أحدث صلاةَ ركعتين حين قدّمته قريش للقتل صبراً فأقرها وكانت بعده سنة([135]).

الحديث السابع: ما روي عن أبي سعيد الخدري قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سرية، فنزلنا بقوم، فسألناهم القِرى، فلم يَقْرونا، فلدغ سيدهم، فأتونا، فقالوا: هل فيكم من يرقي من العقرب؟. قلت: نعم، أنا، ولكن لا أرقيه حتى تعطونا غنما. قال: فأنا أعطيكم ثلاثين شاة. فقبلنا فقرأت عليه الحمد لله سبع مرات، فبرأ،… فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذكرت له الذي صنعت، فقال: (وما علمت أنها رقية؟! اقبضوا الغنم واضربوا لي معكم بسهم)([136])

ولم يكن أبو سعيد الخدري يعلم أن الفاتحة رقية، وأنها تُقرأ سبع مرات، ولكن هكذا اجتهد، ولم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اختيار سورة الفاتحة ولا اختيار العدد في الرقية.

خاتمة الفصل

من النتائج المهمة التي يمكننا استخلاصها من هذا الفصل:

1 ــ رأينا أن الموقف من البدعة وضوابطها كان من نقاط الخلاف الجوهرية الكبرى بين الجمعية والطرق الصوفية، بل بين الاتجاه السلفي بمختلف مدارسه والصوفية بمختلف فرقها وطرقها ومذاهبها، ولهذا لا يمكن فهم تفاصيل ما جرى من خلاف بين الجمعية والطرق الصوفية في الكثير من فروع المسائل قبل معرفة هذا الأصل المهم، وهو ضبط معنى البدعة وحدودها لدى كل فريق من الفريقين.

2 ــ بما أن هذه المسألة قديمة، وقد أخذت حظها من كتب الفقه والأصول والمقاصد، والجمعية والطرق الصوفية لم يقوما فيها إلا بتبني بعض الاتجاهات ونصرتها، فقد رأينا أنه من الواجب العودة إلى المسألة في أبوابها الخاصة بها من كتب الفقه والأصول القديمة، والتي كانت المصدر الذي من خلاله تبنت الجمعية ومثلها الطرق الصوفية ما رأته من مواقف.

3 ــ اختلف الفقهاء في حكم البدعة إلى اتجاهين متناقضين، أحدهما متشدد يرى أن كل البدع سيئة مذمومة محرمة، والفريق الثاني متساهل، يرى أنه تنطبق عليها الأحكام الشرعية جميعا من الإباحة والحرمة والكراهة والندب، بل والوجوب.

4 ــ بناء على انتهاج جمعية العلماء المسلمين الجزائريين المنهج السلفي بمدرستيه المحافظة والتنويرية، وبناء على تبنيها لمنهج الإمام مالك في مواجهة جميع المحدثات، فقد اختارت الاتجاه الذي يرى أن كل البدع ضلالة، وأنه لا صحة لتقسيمها لمقبولة ومرفوضة، وهذا الرأي هو الرأي الذي اشتهر به الشاطبي، واشتهر به كتابه (الاعتصام)، والذي كانت توليه الجمعية عناية خاصة، كما كان يوليه الاتجاه السلفي بفرعيه المحافظ والتنويري.

5 ــ كما اهتمت الجمعية بالتشدد مع ما تراه من البدع، اهتمت كذلك ببيان ما تستند إليه من مصادر وأدلة على ذلك، وهي لا تعدو الأدلة التي ذكرها الشاطبي في الاعتصام، فهو الكتاب الذي نال عندها أهمية قصوى.

6 ــ بناء على ما سبق إثباته من أن الطرق الصوفية انتهجت المنهج الصوفي بمدرستيه السلوكية والعرفانية، فإن كلا المنهجين فرضا عليها أن تأخذ بالمنهج المتساهل في مفهوم البدعة وضوابطها، فالتوجه العرفاني يجعل من الصوفي مرتبطا بالمشرع مباشرة، ولهذا قد يأخذ منه من صيغ الأذكار ونحوها ما لا يوجد في كتب الفقهاء، والتوجه السلوكي يدعوها أحيانا إلى تقييد المطلق من العبادات بالعدد والزمان ونحوه، وهذا مما لا يرتضيه الطرف المتشدد في مفهوم البدعة.

7 ــ من أهم ما استدل به الصوفية في إثبات جواز، بل استحباب ما اخترعوه من أوضاع عبادية لم ترد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } [الحديد: 27]، فقد ذهب عامة المفسرين لهذه الآية إلى أن الله تعالى قد رضي من النصارى هذه البدعة، ولم يذمهم عليها، بل أمرهم بالدوام عليها وعدم تركها، وجعلها في حقهم كالنذر الذي من ألزم نفسه به فعليه القيام به، وعدم تركه والتهاون فيه.


([1])  انظر: لسان العرب، لابن منظور 8 : 6 مادة (بدع)  

([2])  ابن رجب الحنبلي، جامع العلوم والحكم، طبع الهند، ص 160.

([3])  ابن حجر العسقلاني، فتح الباري، 17 : 9.

([4])  ابن حجر الهيتمي، التبيين بشرح الاربعين، ص 221.

([5])  أبو إسحاق الشاطبي، الاعتصام، المكتبة التجارية الكبرى – مصر، (1/ 37)

([6])  أبو إسحاق الشاطبي، الاعتصام، (1/ 37)

([7])  أبو إسحاق الشاطبي، الاعتصام، (1/ 37)

([8])  أبو إسحاق الشاطبي، الاعتصام، (1/ 37)

([9])  أبو إسحاق الشاطبي، الاعتصام، (1/ 38)

([10])  أبو إسحاق الشاطبي، الاعتصام، (1/ 40)

([11])  أبو إسحاق الشاطبي، الاعتصام، (1/ 41)

([12])  أبو إسحاق الشاطبي، الاعتصام، (1/ 191)

([13])  التثويب عند الفقهاء: هو أن يقول المؤذن في أذان الصبح بعد قوله: “حي على الفلاح”: “الصلاة خير من النوم” مرتين، وسمي تثويبا، لأن الؤذن دعا إلى الصلاة أولا بقوله: “حَيَّ عَلَى الصَّـلاَةِ حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ”، ثم دعا إلى الفلاح بقوله: “حَيَّ عَلَى الفَلاَحِ، حَيَّ عَلَى الفَلاَحِ”، ثم عاد للدعاء إلى الصلاة: “الصَّلاَةُ خَيرٌ مِن النَّومِ، الصَّلاَةُ خَيرٌ مِن النَّومِ”، ويطلق التثويب أيضا على الإقامة، كما في حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ أَدبَرَ الشَّيطَانُ لَهُ ضُرَاطٌٌ، حَتَّى لاَ يَسمَعَ التَّأذِينَ، فَإِذَا قُضِيَ التَّأذِينُ أَقَبَلَ، حتى إذا ثوّب بالصلاة أدبر حَتَّى إذَا قضي التثويب أقبل، حتى يخطر بين المر ونفسه، يقول له: “اذكر كذا، واذكر كذا”، لما لم يكن من قبل، حتّى يظل الرّجل ما يدري كم صلّى))( البخاري (2/101)، ومسلم (1/291)

([14])  الاعتصام ـ للشاطبى (2/ 69)

([15])  الاعتصام (1/ 49)

([16])  انظر : العلامة القاضي أبو الفضل عياض اليحصبي، الشفا بتعريف حقوق المصطفى – مذيلا بالحاشية المسماة مزيل الخفاء عن ألفاظ الشفاء، دار الفكر الطباعة والنشر والتوزيع، ج 2، ص 88.

([17])  آثار ابن باديس: 2 /238.

([18])  الاقتضاء، (2/87).

([19])  صحيح البخاري (3/ 58)

([20])  ابن أبي شيبة، مصنف ابن أبي شيبة، الدار السلفية الهندية، (2/ 405)

([21])  أبو نعيم، حلية الأولياء، (9/113)

([22])  ابن حزم، الإحكام في أصول الأحكام، دار الآفاق الجديدة، بيروت، (1/ 47)

([23])  إحياء علوم الدين (2/ 3)

([24])  المبارك بن محمد الجزري بن الاثير مجد الدين أبو السعادات، النهاية في غريب الحديث، المكتبة الإسلامية، (1/106)

([25])  أبو محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن الحسن السلمي الدمشقي، قواعد الأحكام في مصالح الأنام، تحقيق: محمود بن التلاميد الشنقيطي، دار المعارف، بيروت – لبنان، (2/ 172)

([26])  قال النووي في (شرح النووي على مسلم (3/ 247): (قال العلماء : البدعة خمسة أقسام : واجبة ومندوبة ومحَرَّمة ومكروهة ومباحة).

([27])  قال في فتح الباري: (التحقيق : أن البدعة إن كانت مما تندرج تحت مستحسن في الشرع فهي حسنة، وإن كانت مما تندرج تحت مستقبح في الشرع هي مستقبحة، وإلا فهي من قسم المباح) (أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني الشافعي، فتح الباري شرح صحيح البخاري، دار المعرفة – بيروت، 1379،  4/253)

([28])  عبد الرحمن بن إسماعيل أبو شامة، الباعث على إنكار البدع والحوادث، دار الهدى – القاهرة، الطبعة الأولى، 1398 – 1978، ص22.

([29])  عبد الله بن الصديق الحسني الغماري، الرد المحكم المتين على كتاب القول المبين، مطبعة العهد الجديد، الطبعة الثانية، سنة 1374 هـ – 1955 م، ص 107.

([30])  آثار ابن باديس، 5/154.

([31])  آثار ابن باديس، 1/224.

([32])  الآثار (87/1.

([33])  الآثار (2/57.

([34])  الآثار: 3/235.

([35])  آثار ابن باديس: 3/248.

([36])  الشهاب”،س4، العدد (164)، 6ربيع الثاني1347هـ -20سبتامبر1928،(ص:6-10)

([37])  في الآثار (3/79).

([38])  محمد بن علي بن محمد الشوكاني، القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد، دار القلم – الكويت، الطبعة الأولى، 1396، ص38.

([39])  الاعتصام ـ للشاطبى موافق للمطبوع (1/ 111)

([40])  ابن عليوة، أعذب المناهل في الأجوبة والمسائل، نقلا عن: صفحات مطوية في التصوف الإسلامي، ص138.

([41])  ابن عليوة، أعذب المناهل في الأجوبة والمسائل، نقلا عن: صفحات مطوية في التصوف الإسلامي، ص138.

([42])  ابن عليوة، أعذب المناهل في الأجوبة والمسائل، نقلا عن: صفحات مطوية في التصوف الإسلامي، ص138.

([43])  ابن عليوة، أعذب المناهل في الأجوبة والمسائل، نقلا عن: صفحات مطوية في التصوف الإسلامي، ص139.

([44])  ابن عليوة، أعذب المناهل في الأجوبة والمسائل، نقلا عن: صفحات مطوية في التصوف الإسلامي، ص139.

([45])  ابن عليوة، أعذب المناهل في الأجوبة والمسائل، نقلا عن: صفحات مطوية في التصوف الإسلامي، ص139.

([46])  ابن عليوة، أعذب المناهل في الأجوبة والمسائل، نقلا عن: صفحات مطوية في التصوف الإسلامي، ص139.

([47])  ابن عليوة، أعذب المناهل في الأجوبة والمسائل، نقلا عن: صفحات مطوية في التصوف الإسلامي، ص140.

([48])  ابن عليوة، أعذب المناهل في الأجوبة والمسائل، نقلا عن: صفحات مطوية في التصوف الإسلامي، ص140.

([49])  ابن عليوة، أعذب المناهل في الأجوبة والمسائل، نقلا عن: صفحات مطوية في التصوف الإسلامي، ص140.

([50])  ابن عليوة، أعذب المناهل في الأجوبة والمسائل، نقلا عن: صفحات مطوية في التصوف الإسلامي، ص141.

([51])  صحيح مسلم (3/ 11)

([52])  صحيح مسلم (8/ 62)

([53])  ابن باديس، الآثار: 3/79.

([54])  أبو سليمان أحمد بن محمد الخطابي البستي، معالم السنن [ وهو شرح سنن أبي داود ]، المطبعة العلمية – حلب، الطبعة الأولى 1351 هـ – 1932 م، (4/ 300)

([55])  أبو زكريا يحيى بن شرف بن مري النووي، المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، دار إحياء التراث العربي – بيروت، الطبعة الثانية، 1392،  6/ 154.

([56])  سنن الترمذي (4/ 342)

([57])  صحيح البخاري (7/ 2)

([58])  آثار ابن باديس (3/ 80)

([59])  صحيح البخاري (5/ 52)

([60])  آثار ابن باديس (3/ 80)

([61])  سنن ابن ماجة (3/ 266)

([62])  آثار ابن باديس (3/ 81)

([63])  انظر: القاضي محمد بن عبد الله أبو بكر بن العربي المعافري الاشبيلي المالكي (المتوفى: 543هـ)، أحكام القرآن، راجع أصوله وخرج أحاديثه وعلَّق عليه: محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة: الثالثة، 1424 هـ – 2003 م، (3/ 432)

([64])  آثار ابن باديس (3/ 82)

([65])  صحيح البخاري (3/ 241)

([66])  آثار ابن باديس (3/ 104)

([67])  آثار ابن باديس (3/ 76)

([68])  قسم ابن تيمية ما تركه النبي a قسمين: الأول: ما تركه مع وجود المقتضي لفعله في عهده a، وهذا الترك يدل على أنه ليس بمصلحة ولا يجوز فعله. ومثل لذلك بالأذان لصلاة العيدين حيث أحدثه بعض الأمراء.

والثاني: ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم لعدم وجود ما يقتضيه، لحدوث المقتضي له بعد موته صلى الله عليه وسلم، ومثل هذا قد يكون مصلحة وقد يكون جائزاً.. ومثل ابن تيمية لهذا النوع بجمع القرآن، فقد كان المانع من جمعه على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم أن الوحي كان لا يزال ينزل فيغير الله ما يشاء ويحكم ما يريد، فلو جمع في مصحف واحد لتعسر أو لتعذر تغييره في كل وقت، فلما استقر القرآن واستقرت الشريعة بموته صلى الله عليه وسلم أمن الناس من زيادة القرآن ونقصه، وأمنوا من زيادة الإيجاب والتحريم (انظر: ابن تيمية، اقتضاء الصراط المستقيم (2/597)

وقد رد الغماري على ما ذكره ابن تيمية بقوله: (هذا كلام ليس بمحرر ولا محقق، فقد اشتبهت عليه هذه المسألة بمسألة السكوت في مقام البيان، صحيح أن الأذان في العيدين بدعة غير مشروعة، لكن لا لأن النبي a تركه، وإنما لأنه a بين في الحديث ما يعمل في العيدين ولم يذكر الأذان، فدل سكوته على أنه غير مشروع، والقاعدة: أن السكوت في مقام البيان يفيد الحصر، وإلى هذه القاعدة تشير الأحاديث التي نهت عن السؤال ساعة البيان) السيد عبد الله بن الصديق الغماري، تحقيق وتعليق: الاستاذ صفوت جوده احمد، مكتبة القاهرة، ص12. 

([69])  ابن القيم، إعلام الموقعين، 2/391

([70])  ابن القيم، إعلام الموقعين، 2/392

([71])  عبد الله بن الصديق الحسني الغماري، حسن التفهم والدرك لمسألة الترك، تحقيق وتعليق: الأستاذ صفوت جوده أحمد، مكتبة القاهرة، ص3.

([72])  الغماري: حسن التفهم والدرك لمسألة الترك، ص9.

([73])  الغماري: حسن التفهم والدرك لمسألة الترك، ص10.

([74])  صحيح مسلم (6/ 68)

([75])  الغماري: حسن التفهم والدرك لمسألة الترك، ص10.

([76])  صحيح مسلم (2/ 84)

([77])  الغماري: حسن التفهم والدرك لمسألة الترك، ص10، وانظر الحديث في: مسند أحمد بن حنبل (1/ 266)

([78])  صحيح البخاري (2/ 180)

([79])  الغماري: حسن التفهم والدرك لمسالة الترك، ص11.

([80])  الغماري: حسن التفهم والدرك لمسالة الترك، ص12.

([81])  أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري، المحلى، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، (2/254)

([82])  الغماري: حسن التفهم والدرك لمسالة الترك، ص12، وما بعدها.

([83])  صحيح مسلم ـ (7/ 91)

([84])  نص الحديث هو:  (ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو فاقبلوا من الله عافيته فإن الله لم يكن لينسى شيئا، ثم تلا هذه الآية : {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64]) (مسند البزار (10/ 26)

([85])  الغماري: حسن التفهم والدرك لمسالة الترك، ص50.

([86])  أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق بن موسى بن مهران الأصبهاني، حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، السعادة – بجوار محافظة مصر، 1394هـ – 1974م (4/ 380- 381)

([87])  سيف العصري، النقول الصحيحة في انقسام البدعة إلى حسنة وقبيحة، دط، دت، ص185.

([88])  سيف العصري، النقول الصحيحة في انقسام البدعة إلى حسنة وقبيحة، ص185-195.

([89])  آثار ابن باديس 2/263.

([90])  آثار ابن باديس (2/ 265)

([91])  آثار ابن باديس (2/265)

([92])  الآثار: (2/265)

([93])  آثار ابن باديس (2/ 266)

([94])  آثار ابن باديس (2/ 267)

([95])  الصراط السوي، العدد 5، ص6.

([96])  هو أبو سعيد فرج بن قاسم بن أحمد بن لب الغرناطي الثعلبي، شيخ الجماعة، وعمدة فقهاء غرناطة، (782/701هـ)، صاحب كتاب . تقريب الأمل البعيد في نوازل الأستاذ أبي سعيد، المشهور بنوازل ابن لب الغرناطي. (انظر: أبو سعيد فرج بن قاسم، تقريب الأمل البعيد في نوازل الأستاذ أبي سعيد، دار الكتب العلمية، بيروت، ص9 )

([97])  آثار ابن باديس (3/ 82)

([98])  آثار ابن باديس (3/ 82)

([99])  آثار ابن باديس (3/ 83)

([100])  آثار ابن باديس: (3/83).

([101])  أبو سعيد بن لب، تقريب الأمل البعيد في نوازل الأستاذ أبي سعيد، ص200-201.

([102])  أبو سعيد بن لب، تقريب الأمل البعيد في نوازل الأستاذ أبي سعيد، ص200-201.

([103])  أبو سعيد بن لب، تقريب الأمل البعيد في نوازل الأستاذ أبي سعيد، ص200-201.

([104])  أبو سعيد بن لب، تقريب الأمل البعيد في نوازل الأستاذ أبي سعيد، ص200-201.

([105])  الشيخ أبو طاهر المغربي التيجاني آل أبي القاسم، إفحام الخصم الملد بالدفاع عن الشيخ الممد، ص3.

([106])  الاعتصام للشاطبى (1/ 260)

([107])  صحيح مسلم (8/ 61)

([108])  ابن عليوة، القول المعروف في الرد على من أنكر التصوف، طبعة مستغانم، ص43

([109])  كان ابن عبدالسلام مفتونا بالرقص والوجد على طريقة الصوفية، وله مصنفات في تأييد التصوف والرقص والسماع، بل قد لبس الخرقة على طريقة المتصوفة على يد الصوفي الكبير السهروردي، قال الذهبي: ( قال قطب الدين : كان مع شدته فيه حسن محاضرة بالنوادر والأشعار. يحضر السماع ويرقص) (العبر (3/299)، وقال السيوطي في ترجمة العز: ( له كرامات كثيرة ولبس خرقة التصوف من الشهاب السهروردي، وكان يحضر عند الشيخ أبي الحسن الشاذلي، ويسمع كلامه في الحقيقة ويعظمه) (حسن المحاضرة (1/273) دار الكتب العلمية)، وقال السبكي: ( وذكر(أي القاضي عز الدين الهكاري) أن الشيخ لبس خرقة التصوف من شهاب الدين السهروردي، وأخذ عنه، وذكر أنه كان يقرأ بين يديه ((رسالة القشيري))فحضره مرة الشيخ أبو العباس المرسي لما قدم من الأسكندرية إلى القاهرة فقال له الشيخ عز الدين: تكلم على هذا الفصل. فأخذ الشيخ المرسي يتكلم والشيخ عز الدين يزحف في الحلقة ويقول: اسمعوا هذا الكلام الذي هو حديث عهد بربه، وقد كانت للشيخ عز الدين اليد الطولى في التصوف وتصانيفه قاضية بذلك) (الطبقات(8/214-215).

أما عن السماع والرقص الذي كان يفعله الشيخ عز الدين، فيقول ابن شاكر الكتبي : (يحضر السماع ويرقص ويتواجد) (فوات الوفيات(2/350-352)

وقد جعل اليافعي رقص وسماع الشيخ عز الدين دليلا على جواز ذلك لأن فعله حجة فهو من كبار العلماء وأطال في ذلك (انظر مرآة الجنان لليافعي(4/154).

([110])  الرد المحكم المتين، ص106.

([111])  الرد المحكم المتين، ص107.

([112])  الرد المحكم المتين، ص107.

([113])  الرد المحكم المتين، ص107.

([114])  الرد المحكم المتين، ص107.

([115])  محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي، التحرير والتنوير،  مؤسسة التاريخ العربي، بيروت – لبنان، الطبعة : الأولى، 1420هـ/2000م (18/ 197)

([116])  التحرير والتنوير، (18/ 197)

([117])  لعله يشير إلى قول الفخر الرازي (التفسير الكبير، 29/245): (لم يعنِ الله بابتدعوها طريقة الذم، بل المراد أنهم أحدثوها من عند أنفسهم ونذروها، ولذلك قال تعالى بعده: ما كتبناها عليهم).

([118])  لعله يشير إلى قول الآلوسي (التفسير، 294/15): (يعلم منه أيضاً سبب ابتداع الرهبانية، وليس في الآية ما يدل على ذم البدعة مطلقاً، والذي تدل عليه ظاهراً ذم عدم رعاية ما التزموه).

([119])  عبد الله بن محمد بن الصديق الغماري، اتقان الصنعة في تحقيق معنى البدعة، عالم الكتب، ص12.

([120])  أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي، الجامع لأحكام القرآن (تفسير القرطبي)، تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، دار الكتب المصرية – القاهرة، الطبعة: الثانية، 1384هـ – 1964 م، (17/ 264)

([121])  محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري، جامع البيان في تأويل القرآن، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ – 2000 م،  (23/ 202)

([122])  تفسير ابن كثير: (6/567- 568)

([123])  الاعتصام للشاطبى (1/ 337)

([124])  صحيح مسلم (3/ 86)

([125])  أحمد بن شعيب أبو عبد الرحمن النسائي، المجتبى من السنن، تحقيق : عبدالفتاح أبو غدة، مكتب المطبوعات الإسلامية – حلب، الطبعة الثانية، 1406 – 1986 (3/ 188)

([126])  آثار ابن باديس (2/ 88)

([127])  صحيح البخاري (1/ 2)

([128])  آثار ابن باديس (2/ 185)

([129])  صحيح البخاري (2/ 67)

([130])  أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني الشافعي، فتح الباري شرح صحيح البخاري، دار المعرفة – بيروت، 1379، (3/ 34)

([131])  صحيح البخاري ـ حسب ترقيم فتح الباري (9/ 141)

([132])  صحيح البخاري، (1/ 197)

([133])  صحيح مسلم (2/ 99)

([134])  صحيح البخاري ـ حسب ترقيم فتح الباري (1/ 202)

([135])  صحيح البخاري (4/ 83)

([136])  صحيح البخاري (7/ 173)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *