الفصل الأول: الحقوق الدينية للزوجة

الفصل الأول

الحقوق الدينية للزوجة

ونقصد بهذا النوع من الحقوق حق الزوجة في حرية التدين والاعتقاد وفق الضوابط الشرعية، دون تدخل من الزوج، ونقصد به كذلك المسؤولية المناطة بالرجل في توفير ما يلزم لتحقيق هذه الحقوق الدينية.

وقد نص ابن الحاج على هذا الحق، وعاتب على عدم الاهتمام به مقابل الاهتمام الشديد بالحقوق المالية، فقال:(هذا القسم أعني طلب النساء حقوقهن في أمر الدين الذي لم يخلقن إلا لأجله قال الله تعالى في كتابه العزيز:{ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِي} (الذاريات:56) قد أهمل اليوم وصار متروكا قد دثر مناره، حتى كأنه لم يعرف لعدم الكلام فيه من الزوج، والزوجة في الغالب([1]).

ثم ذكر نوع المطالب التي يهتم لها الزوج والزوجة والقضاء في عصره، وهو نفس الحال في عصرنا، وفي جميع عصور الضعف، فقال:(لأن مطالبة الزوجة زوجها في غالب الحال في هذا الزمان إنما هو في النفقة، والكسوة وفيما كان من الأمور الدنيوية، وأما ما كان من أمور الدين فلا يهمهم شأنه غالبا ولا يكترثون به، بل لا يخطر لبعضهم ببال كأنهم لم يدخلوا في الخطاب، فظاهر حالهم كحال من اصطلحوا على تركه فلو طلبت المرأة حقها في أمر دينها من زوجها ورفعته إلى الحاكم وطالبته بالتعليم لأمر دينها، لأن ذلك لها إما بنفسه، أو بواسطة إذنه لها في الخروج إلى ذلك لوجب على الحاكم جبره على ذلك كما يجبره على حقوقها الدنيوية، إذ أن حقوق الدين آكد وأولى، وإنما سكت الحاكم عما ذكر، لأن الحاكم لا يحكم إلا بعد طلب صاحب الحق حقه وسواء كان الحاكم قاضيا، أو محتسبا، أو غيرهما ممن ينفذ أمره)([2])

بناء على أهمية هذا النوع من الحق، فقد قسمنا الكلام فيه بحسب دين الزوجة إلى مبحثين، خصصنا أحدهما للحقوق الدينية للزوجة غير المسلمة، وخصصنا الثاني لحقوق الزوجة المسلمة.

أولا ـ الحقوق الدينية للزوجة غير المسلمة

كنا قد تحدثنا في الكتاب السابق عن حكم الزواج بالمخالفة في الدين، وأنواع الأديان في ذلك، وبناء عليه سيكون حديثنا في هذا المطلب:

1 ـ حكم إلزامها أحكام الإسلام:

لقد نص القرآن الكريم في أحكامه القطعية على حرية الاعتقاد والتعبد، فلكل ذي دين دينه ومذهبه، لا يُجبر على تركه إلى غيره، ولا يُضغط عليه ليتحول منه إلى الإسلام، ولم تذكر هذه الأحكام من باب التوجيه فقط، بل ورد في النصوص ما يحيلها أمرا عمليا سواء من الناحية النفسية أو من الناحية التشريعية.

فالإكراه لا يجوز مطلقا بأي صفة كانت، بالتأديب أو التقصير في النفقة ونحوها، فلا يجوز له أن يكره زوجته مثلا بالتضييق في الإنفاق عليها طمعا في أن يؤثر ذلك في إسلامها، وقد نص على هذا العلماء في قوله تعالى:{ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } (البقرة:272)

فقد وردت هذه الآية في سياق ذكر الصدقات ونحوها من أنواع النفقات والصلات، وقد روي في سبب نزول هذه الآية أن ناسا من الأنصار كانت لهم قرابات من بني قريظة والنضير، وكانوا لا يتصدقون عليهم رغبة منهم في أن يسلموا إذا احتاجوا، فنزلت الآية بسبب أولئك([3])، فدل هذا السبب على عدم جواز استخدام التقصير في النفقة أو الشح بها وسيلة للدعوة للإسلام.

وبما أن مثل هذا الأمر لا تكفي فيه التشريعات الدينية، بقدر ما تؤسسه القناعة الإيمانية والتوجيه التربوي، وردت النصوص القرآنية الكثيرة لتخبر أن الإيمان نعمة من الله يهبها لمن شاء من عباده، وأن الإكراه لا ينتج المؤمنين، بل قد ينتج المنافقين.

وسنذكر هنا بعض التصورات العقدية التي ربى بها القرآن الكريم هذه الناحية في نفوس المسلمين، لأن منشأ السماحة الإسلامية ليس مجرد التشريعات القانونية التي قد تجد طريقها للتفلت، والاحتيال، وإنما هي سماحة تنطلق من العقيدة والتربية، قبل التشريع والتقنين، فمن تلك التصورات:

  1. أن إكراه الناس على الإيمان تدخل في المشيئة الإلهية التي شاءت هذا الاختلاف، قال تعالى: { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } (يونس:99)، قال ابن عباس: (كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم حريصا على إيمان جميع الناس،فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إلا من سبقت له السعادة في الذكر الأول، ولا يضل إلا من سبقت له الشقاوة في الذكر الأول)([4])
  2. أن تبين الحق والضلال والرشد والغي كاف وحده للدلالة على الإيمان، فلا حاجة لوسيلة أخرى، قال تعالى: { لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ }(البقرة: 256) وكأن هذه الآية تحث المؤمن على أن يكون نموذجا للرشد، فذلك وحده كاف للهداية إلى الحق.
  3. أن الهداية نعمة إلهية يهبها لمن يشاء من عباده، فهو الذي يشرح لها الصدور، قال تعالى { لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ }(النساء:272)، وقال تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}(الكهف:56)، وقال تعالى:{ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ}(يونس:100)
  4. أن الهداية مصلحة شخصية، والضلال مضرة شخصية، ودور المؤمن هو الدعوة للمصلحة والتنفير من المضرة، لا الإلزام بذلك، قال تعالى:{قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيل}(يونس:108)وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنْ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ}(الزمر:41)
  5. أن دور المؤمن هو الدعوة لا السيطرة على من يدعوه أو إكراهه، قال تعالى: { فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ} (عبس:21)
  6. أن الإيمان والكفر حرية شخصية تتبع مشيئة صاحبها لا الإلزام الخارجي، قال تعالى: { وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا}(الكهف:29)

2 ـ حكم التدخل في حرية الزوجة الدينية:

يمكن تقسيم ما يتعلق بالحرية الدينية للزوجة الكتابية إلى ثلاثة أقسام:

التصرفات الدينية المحضة:

وهي التصرفات التي لا علاقة لها بالحياة العادية، وتشمل الشعائر التعبدية والطقوس المختلفة، والعقائد ونحوها، فهذا مما لا خلاف في عدم جواز منعها منه، وقد نص الفقهاء في هذا المجال ـ من باب التمثيل لا من باب الحصر ـ على أنه لا يمنعها من أن تدخل منزله الصليب، وليس له منعها من صيامها الذي تعتقد وجوبه وإن فوت عليه الاستمتاع في وقته ولا من صلاتها في بيته، قال أحمد في الرجل تكون له المرأة أو الأمة النصرانية يشتري لها زنارا؟ قال: لا، بل تخرج هي تشتري لنفسها، فقيل له: جاريته تعمل الزنانير؟ قال: لا([5]).

وإن كانوا يعتقدون حرمة شيء تدينا، فلا يصح إلزامهم به، فليس له مثلا إلزام اليهودية إذا حاضت بمضاجعته والاستمتاع بما دون الفرج، وليس له حملها على كسر السبت ونحوه مما هو واجب في دينهم، وقد أقررناهم عليه وليس له حملها على أكل الشحوم واللحوم المحرمة عليهم، وليس له منعها من الخلوة بابنها وأبيها وأخيها إذا كانوا مأمونين عليها، وليس له منعها من قراءة كتابها إذا لم ترفع صوتها به.

أما إن مارست عبادة إسلامية مع كونها كتابية كصوم رمضان مثلا، فقد اختلف الفقهاء في حقه في منعها من صومها معه على قولين:

القول الأول: أن له ذلك، لأنه لا يجب عليها، وله منعها منه كما له منع المسلمة من صوم التطوع ترفيها لها.

القول الثاني: ليس له ذلك لأنه لا حق له في الاستمتاع بها في نهار رمضان، وإذا لم يكن له منعها من الصوم المنسوخ الباطل فأن لا يمنعها من صوم رمضان أولى.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة لا مجرد إجازة صومها معه، بل ترغيبها في ذلك وتحبيبه إليها، لأن من مقاصد الزواج الكبرى بأهل الكتاب دعوتهم إلى الإسلام، والدعوة قد تتحقق بالحوار والجدال بالتي هي أحسن والموعظة وغيرها من الوسائل النظرية، وقد تتحقق بالتطبيق والممارسة، فتعلمها صلاة المسلمين مثلا أو قراءتها القرآن الكريم، أو صيامها، وغير ذلك من الممارسات، قد يحيلها مع الزمن مسلمة، فيدخل الإيمان قلبها بعد أن كست به جوارحها، بل نرى من باب المصلحة أن يدخل بها المسجد، أو تذهب للمسجد لتسمع دروس العلم والوعظ، فقد تجد فيها ما لم يستطع زوجها إقناعها به.

ولعل أصرح دليل على ذلك إدخال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفد نصارى نجران إلى مسجده بل تمكينهم من الصلاة فيه، كما روى ابن إسحق أنه لما قدم وفد نجران على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخلوا عليه مسجده بعد العصر، فحانت صلاتهم فقاموا يصلون في مسجده، فأراد الناس منعهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (دعوهم)، فاستقبلوا المشرق فصلوا صلاتهم وكانوا ستين راكبا([6]).

التصرفات المشتبه فيها:

وهي التصرفات التي لها علاقة بالدين من ناحية، وقد يكون لها تأثيرها في عرضه من ناحية أخرى، أي أن لها صلة بدينه وصلة محتملة بعرضه، ومن أمثلتها خروجها للكنيسة ونحوها من دور العبادة، وقد نص الفقهاء في هذا على أنه يحق للزوج المسلم أن يمنع زوجته غير مسلمة من الذهاب إلى الكنيسة ونحوها، وليس له منعها من التعبد.

وفي هذا الحكم حيثيات كثيرة تجعل له قيمة معتبرة، وإن كان البعض قد يأسف لذلك، ويعتبرها متناقضة مع الحرية العقدية، لأن الكثير من الكنائس، وخاصة في عصرنا تقام فيها الحفلات التي يختلط فيها الرجال بالنساء، في جو أقرب إلى المجون منه إلى العبادة، بل إن بعضها خاصة في الكنائس الغربية تعلن عن إقامة الحفلات في مناسبات مختلفة، وكثيرا ما نسمع الفضائح التي تحصل في تلك الدور، والتي قد يتولى كبرها رجال الدين أنفسهم([7]).

ونفس الحكم نص عليه الفقهاء في الأعياد، فقد قال أحمد في حق المرأة النصرانية في الخروج في أعيادهم: لا يأذن لها أن تخرج إلى عيد أو تذهب إلى بيعة وله أن يمنعها ذلك([8])، وهو رأي وجيه خاصة إذا علمنا ما يحدث في أعيادهم من هتك للأعراض وعدم مبالاة بالفواحش.

التصرفات العادية المحضة:

وهي التصرفات التي لا علاقة لها بالدين، أو أن تكون من مباحات الدين لا من واجباته أو محرماته، ومنها الأطعمة والأشربة واللباس، ونحو ذلك.

وقد نص الفقهاء هنا على أن للزوج الحق في منع زوجته من السكر وإن كانت غير مسلمة، لأنه يحول بينها وبين حقه في الاستمتاع بها، فإنه يزيل عقلها، ولا يأمن أن تجني عليه، أما إن أرادت شرب المحرم الذي لا يسكرها، فليس له منعها منه، لعدم تكليفها بفروع الشريعة، فهي تعتقد إباحته في دينها، وله إجبارها على غسل فمها منه ومن سائر النجاسات ليتمكن من الاستمتاع بفيها، وله الحق في منع المسلمة، لأنهما يعتقدان تحريمه إلا إذا تزوج مسلمة تعتقد إباحة يسير النبيذ فليس له الحق في منعها([9])، ونفس الحكم في لحم الخنزير ففيه وجهان، ونرى أنها ما دامت عنده، فإنه يكفيها من الأشربة واللحوم من الحلال ما يغنيها عن الحرام أو المشتبه فيه.

وله كذلك إلزامها اللباس المحتشم، لأن له حق القوامة عليها من هذه الناحية، وقد اشترط القرآن الكريم لإباحة الزواج من أهل الكتاب أن يكن محصنات عفيفات، والعفاف لا ينقض بالزنا وحدهن، بل إن التبرج من الزنا غير المباشر، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم في المرأة تخرج من بيتها متعطرة:(أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا من ريحها فهي زانية)([10])

ومثل هذا المنع لا علاقة له بحرية العبادة، لأن زينة المرأة الخارجية من حق الزوج، بل إن في حثها على الاحتشام والتعفف وترك المسكر ونحوه دعوة لها بما يلزمه إياها دينها، وإنما أجاز الإسلام زواجها لاعتقادهم ذلك، فإذا ما انحرف ذلك الاعتقاد وقالوا بحرية ممارسة الفاحشة، فإنه لا يجوز الزواج منهم كما ذكرنا ذلك في حكم الزواج من أهل الكتاب في الجزء الأول.

ثانيا ـ الحقوق الدينية للزوجة المسلمة

يختلف حكم حق الزوجة في التصرفات الدينية بحسب نوع الحكم الشرعي المرتبط بهذه التصرفات، كما يلي:

1 ـ الأحكام الواجبة:

اتفق الفقهاء على أنه لا يجوز للزوج منع زوجته من أي حكم من الأحكام الواجبة، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا طاعة لمخلوق في معصية الله عز وجل)([11])

بل إنه يجب على الزوج إذا كانت الزوجة هي المقصرة أن يلزمها أداء هذه الواجبات، فقد نصت الأوامر القرآنية والنبوية على وجوب أمر الأهل بأدائها، وخاصة الصلاة وعبادة الله تعالى، ويلحق عليها فعل سائر الواجبات، قال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا }(طه:132)، بل جاء الأمر مطلقا في قوله تعالى:{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا }(التحريم:6)، وهو يدل على أن للزوج أن يلزم زوجته طاعة الله تعالى فيما يتعلق بهذه الناحية، قال ابن الحاج:(ويتعين عليه أن يعلم عبده وأمته الصلاة والقراءة وما يحتاجان إليه من أمور دينهما، كما يجب ذلك عليه في زوجته وولده إذ لا فرق، لأنهم من رعيته) ([12])، وسنعرض للمسألة بتفاصيلها وأدلتها في الفصل القادم إن شاء الله، لعلاقتها بقوامة الرجل.

ولم نر حكما من الأحكام الواجبة وقع الخلاف في حق الزوج في المنع منه غير الحج لعلاقته بحق الزوج في منع الزوجة من الخروج من ناحية، ولكونه على التراخي من ناحية أخرى، وقد اختلف الفقهاء في ثبوت هذا الحق للزوج في الحج الواجب، أو العمرة الواجبة، وهي حجة الإسلام وعمرته، أو المنذور منهما إذا أحرمت به بغير إذنه على ثلاثة أقوال([13]):

القول الأول: أن له منعها، وهو قول للشافعية([14])، قال الشافعي:(إذا بلغت المرأة قادرة بنفسها ومالها على الحج فأراد وليها منعها من الحج أو أراده زوجها، منعها منه ما لم تهل بالحج، لأنه فرض بغير وقت إلا في العمر كله، فإن أهلت بالحج بإذنه لم يكن له منعها، وإن أهلت بغير إذنه ففيها قولان([15])ومع ذلك فقد عقب على أن المستحب لزوجها أن لا يمنعها، قال:(وأحب لزوجها أن لا يمنعها، فإن كان واجبا عليه أن لا يمنعها كان قد أدى ما عليه وأن له تركه إياها أداء الواجب، وإن كان تطوعا أجر عليه إن شاء الله تعالى)

وقد نصوا على أنه ينبغي للمرأة أن لا تحرم بغير إذن زوجها، وأنه يستحب له أن يحج بها، فإن أرادت حج إسلام أو تطوع فأذن الزوج وأحرمت به لزمه تمكينها من إتمامه بلا خلاف، سواء كان فرضاً أو نفلاً، وكما لا يجوز له تحليلها لا يجوز لها التحلل، فإن تحللت لم يصح تحللها، ولم تخرج من الحج، كما لو نوى غيرها الخروج من الحج بلا إحصار فإنه لا يخرج منه بلا خلاف، ومن الأدلة على ذلك:

القول الثاني: ليس لزوجها منعها، ولا تحليلها، وهو قول جمهور العلماء، ومنهم أحمد والنخعي، وإسحاق، وأصحاب الرأي، والشافعي في أصح القولين له، وهو قول الإمامية، ومن الأدلة على ذلك:

  1. ([16])
  2. ([17])، فهو محمول على حج التطوع جمعا بين الحديثين.

القول الثالث: إنه يفرض على الزوج أن يحج معها، فإن لم يفعل فهو عاص لله تعالى وتحج هي دونه، وهو قول الظاهرية، ومن الأدلة على ذلك:

1 ـ حديث ابن عباس السابق، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم للرجل:(انطلق فاحجج مع امرأتك) ([18])،وقد ذكر ابن حزم وجوها للاستدلال بالحديث منها:

الوجه الأول: أن نهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن أن تسافر امرأة إلا مع ذي محرم وقع، ثم سأله الرجل عن امرأته التي خرجت حاجة لا مع ذي محرم، ولا مع زوج فأمره صلى الله عليه وآله وسلم بأن ينطلق فيحج معها، ولم يأمر بردها ولا عاب سفرها إلى الحج دونه ودون ذي محرم.

الوجه الثاني: أن في أمره صلى الله عليه وآله وسلم بأن ينطلق فيحج معها بيان صحيح ونص صريح على أنها كانت ممكنا إدراكها بلا شك، فأقر صلى الله عليه وآله وسلم سفرها كما خرجت فيه، وأثبته ولم ينكره، فصار الفرض على الزوج، فإن حج معها فقد أدى ما عليه من صحبتها، وإن لم يفعل فهو عاص لله تعالى وعليها التمادي في حجها والخروج إليه دونه أو معه أو دون ذي محرم أو معه كما أقرها عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم ينكره عليها.

2 ـ قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(ولا تمنعوا إماء الله مساجد الله) ([19])،وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:(إذا استأذنكم نساؤكم إلى المساجد فأذنوا لهن) ([20])، فأمر صلى الله عليه وآله وسلم الأزواج وغيرهم أن لا يمنعوا النساء من المساجد، والمسجد الحرام أجل المساجد قدرا.

3 ـ قوله تعالى:{ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا }(آل عمران:97) لا يتنافى مع النصوص الناهية عن سفر المرأة بغير محرم، لأن الأسفار تنقسم قسمين سفرا واجبا، وسفرا غير واجب، والحج من السفر الواجب، فلم يجز أخذ بعض الآثار دون بعض، ووجبت الطاعة لجميعها ولزم استعمالها كلها، ولا سبيل إلى استعمال جميعها إلا بأن يستثنى الأخص منها من الأعم، فكان نهي المرأة عن السفر إلا مع زوج، أو ذي محرم عاما لكل سفر، فوجب استثناء ما جاء به النص من إيجاب بعض الأسفار عليها من جملة النهي، والحج سفر واجب فوجب استثناؤه من جملة النهي.

4 ـ الأحاديث الدالة على أن الطاعة في المعروف، وترك الحج معصية، ولا فرق بين طاعة الزوج في ترك الحج وبين طاعته في ترك الصلاة أو في ترك الزكاة أو في ترك صيام شهر رمضان.

5 ـ أن القول بأن الحج على التراخي يستدعي معرفة وقت التراخي، فإن حدوا في ذلك سنة أو سنتين أو أكثر كانوا متحكمين في الدين بالباطل وشارعين ما لم يأذن به الله تعالى، ولا يقول أحد بطاعتهم في ترك الحج أبدا جملة.

6 ـ أن الزعم بأن إيجاب الحج على النساء عموم، فيخص بحديث النهي عن السفر إلا مع زوج أو ذي محرم خطأ، لأن تلك الأخبار إنما جاءت بالنهي عن كل سفر جملة لا عن الحج خاصة، وإنما يمكن أن يعارضوا بهذا بما لو جاءت في النهي عن أن تحج المرأة إلا مع زوج، أو ذي محرم، فحينئذ يكون اعتراضا صحيحا وتخصيصا لأقل الحكمين من أعمهما.

7 ـ أن علة منعها من حج التطوع أن طاعته فرض عليها فيما لا معصية لله تعالى فيه، وليس في ترك الحج التطوع معصية.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة النظر في السبب الذي جعل الزوج يمنع زوجته من أداء هذه الفريضة، فإن كان سببا مشروعا، تتحقق فيه مصلحة كلا الزوجين، فإن الأصلح في هذه الحالة الأخذ بالقول الأول، لأن الحج على التراخي، والأولى للمرأة، وهي تريد أن تؤدي عبادة تتعلق بالعمر جميعا أن تؤديها بحالة نفسية طيبة تسمح لها بنيل ثمراتها على التمام.

ولا نرى في الحالة العادية إذا ما ذهبت المرأة، وهي تشعر بغضب زوجها عليها لمخالفته، أنها تتمكن من أداء العبادة بنفسية تسمح لها بالخشوع فيها كما يجب، وليس في هذا الرأي مخالفة للحديث الذي استدل به الجمهور، لأن الرجل ـ كما ورد في الحديث ـ لم يخبر عن نفسه أنه منع زوجته، بل النص يدل على إذنه لها، وأنه رجل صالح، بدليل عزمه على الجهاد، فطلب منه صلى الله عليه وآله وسلم أن يؤجل الجهاد ويحج مع زوجته.

أما إن كان قصد الزوج من منعها مجرد الإضرار، أو كان فاسقا لا يهمه أكان الحج واجبا أم غير واجب، أو كان رجلا متجبرا ظالما يعتقد أن له على زوجته السلطة المطلقة، فإن للزوجة في هذه الحالة أن تحج بغير إذنه إلا إذا ترتب على ذلك مفسدة ما، فالأولى تأخير الحج درءا للمفسدة، فالحج وإن كان واجبا إلا أنه محاط بقيد الاستطاعة، وهو على التراخي.

هذا بالنسبة للمرأة، أما الرجل فلا يجوز له أن يمنع زوجته من أداء هذه العبادة العظيمة، بل يجب عليه إن استطاع أن يرافقها كما قال ابن حزم، وتجب عليه نفقتها إذا ما حجت ولو بغير إذنه.

ولكن مع ذلك ـ إذا ما كان هناك ظرف خاص ـ فإن له أن يمنعها من ذلك على سبل التأقيت لا الدوام، ومن الظروف مثلا، أن تكون حاجة الزوجة للمال مثلا في أمر ما أهم من حاجتها إليه في الحج، ولا يمكن حصر الأحوال في ذلك، فمن الخطر الكبير أن يقال قول واحد لكل الأحوال.

وبهذا نرى أن لكل قول من الأقوال الثلاثة في المسألة وجهه الخاص المتعلق بالمصالح المعتبرة شرعا، وقد قال ابن حزم في محل آخر قريبا من هذا، ونص قوله ببعض تصرف:(إن أحرمت من الميقات أو من مكان يجوز الإحرام منه بغير إذن زوجها، فإن كان حج تطوع – كل ذلك – فله منعها وإحلالها، وإن كان حج الفرض نظر فإن كان لا غنى به عنها أو عنه – لمرض أو لضيعته دونه أو دونها أو ضيعة ماله – فله إحلالها، وإن كان لا حاجة به إليها لم يكن له منعها أصلا فإن منعها فهو عاص لله عز وجل وهي في حكم المحصر (، وقد استدل لذلك بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه)([21])

والخلاصة أن كل الواجبات الشرعية لا يجوز للزوج أن يمنع زوجته منها إلا لسبب لا يعود لذلك الواجب، وإنما يرجع لاعتبارات أخرى وفق سلم الأولويات الشرعي.

2 ـ الأحكام المستحبة:

خلافا لما ذكر الفقهاء في الأحكام الواجبة، والتي اتفقوا على عدم استحقاق الزواج حق منعها منها، بل يلزمه إلزامها بها، اختلفوا في الأحكام المستحبة، هل يحق له التدخل فيها أم لا في حال تعارضها مع بعض حقوق الزوج، ومن المسائل المختلف فيها:

خروج المسلمة للمسجد:

وهي من المسائل المهمة، والتي لها تأثيرها الاجتماعي الكبير، فإن الاعتقاد الغالب عند الناس الآن أن المساجد للرجال، وأن صلاة النساء في المساجد محصورة في أوقات محدودة أو في مناسبات خاصة، وأن الأفضل صلاتهن في بيوتهن، وهذه النظرة لعلاقة النساء بالمساجد لها أسسها الفقهية، والتي سنرى مدى صحتها هنا، فقد اختلف الفقهاء في حق الزوج في منع زوجته من الذهاب إلى المسجد، وفي الأولوية بين صلاتها في بيتها أوفي المسجد على الأقوال التالية:

القول الأول: أن له منعها من الخروج إلى المساجد، وهو مذهب الشافعي ورواية عن أحمد وقول الإمامية مع كراهة فعل الزوج لذلك، وخلاصة آراء الشافعية في المسألة كما ذكرها النووي هي:

  1. أن جماعة النساء في البيوت أفضل من حضورهن المساجد، استدلالا بأدلة القول الثاني.
  2. إن أرادت المرأة حضور المسجد للصلاة، فإن كانت شابة أو كبيرة تشتهى كره لها وكره لزوجها ووليها تمكينها منه، وإن كانت عجوزا لا تشتهى لم يكره، وهو وجه جمعهم بين أحاديث الباب، قال النووي:(وقد جاءت أحاديث صحيحة تقتضي هذا التفصيل)([22])
  3. يستحب للزوج أن يأذن لها إذا استأذنته إلى المسجد للصلاة إذا كانت عجوزا لا تشتهى وأمن المفسدة عليها وعلى غيرها للأحاديث المذكورة، فإن منعها لم يحرم عليه، قال النووي:(هذا مذهبنا، ونقل عن البيهقي قوله: وبه قال عامة العلماء)([23])

ومن الأدلة على ذلك([24]):

  1. عن ابن عمر قال: رأيت امرأة أتت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقالت: يا رسول الله ما حق الزوج على زوجته؟ قال: حقه عليها ألا تخرج من بيتها إلا بإذنه، فإن فعلت لعنها الله وملائكة الرحمة وملائكة الغضب حتى تبوب أو ترجع، قالت: يا رسول الله وإن كان لها ظالما قال: وإن كان لها ظالما([25]).
  2. أن النهي عن منع النساء من المساجد فيه منع خروج المرأة إلا بإذن الزوج لتوجه الأمر إلى الزوج بالإذن، أو أنه نهي تنزيه لأن حق الزوج في ملازمة المسكن واجب فلا تتركه للفضيلة([26]).
  3. عن عائشة، قالت:(لو رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما أحدث النساء بعده لمنعهن المسجد كما منعت نساء بنى إسرائيل)([27])
  4. أن حق الزوج واجب فلا يجوز تركه بما ليس بواجب.

القول الثاني: أنه ليس للزوج منع زوجته من الذهاب إلى المساجد، مع كون صلاتهن في بيوتهن أفضل، وهو قول أبي حنيفة ومالك، وغيرهم، وقد نقل ابن البر أقوال الفقهاء الذين كرهوا صلاتها خارج بيتها، وهي كما يلي ([28]):

  1. قال مالك: لا يمنع النساء الخروج إلى المساجد، فإذا جاء الاستسقاء والعيد، فلا أرى بأسا أن تخرج كل امرأة متجالة هذه رواية ابن القاسم عنه.
  2. وروى عنه أشهب قال: تخرج المرأة المتجالة إلى المسجد، ولا تكثر التردد وتخرج الشابة مرة بعد مرة، وكذلك في الجنائز يختلف في ذلك أمر العجوز والشابة في جنائز أهلها وأقاربها.
  3. قال الثوري: ليس للمرأة خير من بيتها وإن كانت عجوزا،أكره اليوم للنساء الخروج إلى العيدين.
  4. قال عبد الله: المرأة عورة وأقرب ما تكون إلى الله في قعر بيتها، فإذا خرجت استشرفها الشيطان.
  5. قال ابن المبارك: أكره اليوم الخروج للنساء في العيدين، فإن أبت المرأة إلا أن تخرج فليأذن لها زوجها أن تخرج في أطهارها، ولا تتزين، فإن أبت أن تخرج كذلك فللزوج أن يمنعها من ذلك.
  6. ذكر محمد بن الحسن عن أبي يوسف عن أبي حنيفة قال: كان النساء يرخص لهن في الخروج إلى العيد، فأما اليوم فإني أكرهه قال: وأكره لهن شهود الجمعة والصلاة المكتوبة في الجماعة وأرخص للعجوز الكبيرة أن تشهد العشاء والفجر ذلك فلا.
  7. روى بشر بن الوليد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه قال: خروج النساء في العيدين حسن ولم يكن يرى خروجهن في شيء من الصلوات ما خلا العيدين.
  8. قال أبو يوسف: لا بأس أن تخرج العجوز في الصلوات كلها وأكره ذلك للشابة.

ومن الأدلة التي استدلوا بها لذلك زيادة على ما ذكر في الدليل الأول:

  1. عن عبد الله بن سويد الأنصاري عن عمته امرأة أبي حميد الساعدي أنها جاءت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت: يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إني أحب الصلاة معك فقال قد علمت انك تحبين الصلاة معي، وصلاتك في بيتك خير من صلاتك في حجرتك وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجدي(فأمرت فبني لها مسجد في أقصى شيء من بيتها وأظلمه فكانت تصلي فيه حتى لقيت الله عز وجل([29]).
  2. عن ابن مسعود عنه صلى الله عليه وآله وسلم قال:(صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها وصلاتها في مخدعها([30]) أفضل من صلاتها في بيتها([31])

القول الثالث: إنه لا يجوز له منعها من صلاة الجماعة، وأن صلاتها في الجماعة أفضل من صلاتها منفردة، وهو قول ابن حزم، قال:(ولا يحل لولي المرأة، ولا لسيد الأمة منعهما من حضور الصلاة في جماعة في المسجد، إذا عرف أنهن يردن الصلاة ولا يحل لهن أن يخرجن متطيبات، ولا في ثياب حسان، فإن فعلت فليمنعها، وصلاتهن في الجماعة أفضل من صلاتهن منفردات ([32])، ويمكن حصر أدلة هذا القول كما نص عليها ابن حزم في الدليلين التاليين:

الدليل الأول: الإجابة على ما أورده المخالفون: لعل أصح دليل استدل به المخالفون في حق الزوج في منع زوجته من الخروج إلى المسجد هو قول عائشة، السابق ذكره، وقد أجاب عنه ابن حزم بالوجوه التالية:

الوجه الأول: أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يدرك ما أحدثن، فلم يمنعهن، فإذ لم يمنعهن فمنعهن بدعة وخطأ وهو كما قال تعالى: { يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا}(الأحزاب:30) فما أتين قط بفاحشة ولا ضوعف لهن العذاب، وكقوله تعالى: { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون}(الأعراف:96) فلم يؤمنوا، فلم يفتح عليهم، ولا يصح بالاحتجاج بقول قائل: لو كان كذا: لكان كذا على إيجاب ما لم يكن.

الوجه الثاني: أن الله تعالى قد علم ما يحدث النساء، ومع ذلك لم يوح إلى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بمنعهن من أجل ما استحدثنه، ولا أوحى تعالى إليه: أخبر الناس إذا أحدث النساء فامنعوهن من المساجد.

الوجه الثالث: هو أننا ما ندري ما أحدث النساء، مما لم يحدثن في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا شيء أعظم في إحداثهن من الزنى، فقد كان ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورجم فيه وجلد، فما منع النساء من أجل ذلك قط، وتحريم الزنى على الرجال كتحريمه على النساء ولا فرق، فما الذي جعل الزنى سببا يمنعهن من المساجد؟ ولم يجعله سببا إلى منع الرجال من المساجد؟

الوجه الرابع: أن الإحداث إنما هو لبعض النساء بلا شك دون بعض، ومن المحال منع الخير عمن لم يحدث من أجل من أحدث، إلا أن يأتي بذلك نص من الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم فيسمع له ويطاع، وقد قال تعالى: { وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى }(الأنعام:164)

الوجه الخامس: هو أنه إن كان الإحداث سببا لمنعهن من المسجد، فالأولى أن يكون سببا لمنعهن من السوق، ومن كل طريق بلا شك، فلم خص هؤلاء القوم منعهن من المسجد من أجل إحداثهن، دون منعهن من سائر الطرق؟ بل قد أباح لها أبو حنيفة السفر وحدها، والمسير في الفيافي والفلوات مسافة يومين ونصف، ولم يكره لها ذلك.

الوجه السادس: أن عائشةلم تر منعهن من أجل ذلك، ولا قالت: امنعوهن لما أحدثن، بل أخبرت أنه صلى الله عليه وآله وسلم لو عاش لمنعهن، ونحن نقول: لو منعهن صلى الله عليه وآله وسلم لمنعناهن، فإذ لم يمنعهن فلا نمنعهن.

الدليل الثاني: الأدلة المثبتة: وهي كثيرة جدا سواء من الأدلة النقلية أو العقلية، نذكر منها هنا ما يلي:

  1. الإجماع على أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يمنع النساء قط من الصلاة معه في مسجده إلى أن مات صلى الله عليه وآله وسلم، ولو كانت صلاتهن في بيوتهن أفضل لما تركهن صلى الله عليه وآله وسلم يتكلفن الذهاب إلى المساجد بلا منفعة، بل بمضرة، وذلك يخالف نصحه صلى الله عليه وآله وسلم بل هو أنصح الخلق لأمته، ولو كان ذلك لما افترض صلى الله عليه وآله وسلم أن لا يمنعهن، ولما أمرهن بالخروج تفلات، وأقل هذا أن يكون أمر ندب وحض.
  2. عن سالم بن عبد الله بن عمر أن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنكم إليها)، فقال له بلال ابنه:والله لنمنعهن، فأقبل عليه عبد الله بن عمر فسبه سبا سيئا ما سمعته سبه مثله قط، قال: أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتقول: والله لنمنعهن؟)([33])
  3. عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تمنعوا النساء من الخروج بالليل إلى المساجد)
  4. عن عائشة، قالت: (إن كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليصلي الصبح فينصرف النساء متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس) ([34])
  5. عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:(صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مسجدها أفضل من صلاتها في بيتها ([35])، قال ابن حزم:يريد بلا شك مسجد محلتها، لا يجوز غير ذلك، لأنه لو أراد صلى الله عليه وآله وسلم مسجد بيتها لكان قائلا: صلاتها في بيتها أفضل من صلاتها في بيتها، وحاشا له صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول المحال.
  6. أنه لو قلنا: إن خروجهن إلى المسجد والمصلى عمل زائد على الصلاة لم يخل ضرورة من أحد وجهين لا ثالث لهما: إما أن تكون صلاتها في المسجد والمصلى مساوية لصلاتها في بيتها، فيكون سعيها كله لغوا وباطلا، وتكلفا وعناء، ولا يمكن غير ذلك أصلا، وهم لا يقولون بهذا، أو تكون صلاتها في المساجد والمصلى منحطة الفضل عن صلاتها في بيتها كما يقول المخالفون، فيكون العمل المذكور كله إثما حاطا من الفضل، ولا بد، إذ لا يحط من الفضل في صلاة ما عن تلك الصلاة بعينها عمل زائد إلا، وهو محرم، ولا يمكن غير هذا.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة، والأوفق بمقاصد الشريعة، الجمع بين هذه الأقوال جميعا، فلكل قول منها حاله الخاص، لأن الضرر قد يحدث بالتزام قول واحد منها.

فالاقتصار مثلا على القولين الأولين، ومنع المرأة من الذهاب إلى المسجد بالإلزام أو بالقول بكراهة خروجها، يلزم عنه ما نحن فيه من تقصير كثير من النساء في أمور الدين نتيجة بعدهن عن البيئة الصحيحة التي تربي وتنشئ المعاني الدينية في نفس المسلمة، ثم إن منعهن من المساجد فرصة لأرباب المنتديات المختلفة لجذبهن إليها مع ما تبثه تلك المنتديات من أفكار قد تكون شديدة البعد عن الأحكام الشرعية، ثم إن فيها مخالفة صريحة لنهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن منع النساء من الخروج للمساجد، وقد جمع الشوكاني الأحاديث الواردة في المسألة وقال:(وقد حصل من الأحاديث المذكورة في هذا الباب أن الإذن للنساء من الرجال إلى المساجد إذا لم يكن في خروجهن ما يدعو إلى الفتنة من طيب أو حلي أو أي زينة واجب على الرجال([36])

والاقتصار على قول ابن حزم، أو تطبيقه تطبيقا سيئا، فتخرج المرأة كل صلاة من الصلوات الخمس، قد ينتج عنه تقصير في البيوت وكثرة اختلاط في الشوارع، وهو ما قد يتسبب في فتن لم يقصدها الشرع.

فلذلك كان الوسط هو الجمع بين هذه الأقوال، وهو أن لا تمنع المرأة منعا كليا، وأن لا تترك للخروج متى شاءت تركا كليا، والأولى في خروجها للمسجد أن لا يكون للصلاة وحدها ترجيحا لما ورد في فضل صلاتها في بيتها، وإنما تجمع معها الاستماع لدروس العلم.

ولذلك يستحب إحياء للسنة أن يخصص يوم أو أكثر في الأسبوع لتدريس النساء في المساجد، فيحضرن لشهود الصلاة ولاستماع العلم، سواء كان من الإمام، أو من امرأة منهن، فعن أبي سعيد الخدري قال: قالت النساء للنبي صلى الله عليه وآله وسلم:(غلبنا عليك الرجال فاجعل لنا يوما من نفسك فوعدهن يوما لقيهن فيه فوعظهن وأمرهن، فكان فيما قال لهن:(ما منكن امرأة تقدم ثلاثة من ولدها إلا كان لها حجابا من النار) فقالت امرأة واثنتين فقال: واثنتين) ([37])

أما التفريق بين المتجالة والشابة وغيرها، سدا لأبواب الفتن، فإن الضوابط التي سنذكرها تسد الفتن دون الحاجة للتفريق بينهن في ذلك، ثم إن الحاجة التربوية للمسجد تدعو إلى الاهتمام بكل منهما، بل بالشابة خصوصا، لأن أرباب الفتن يسرعون إليها، فأيهما أولى: أن تربى في أحضان المسجد، أو أن يتولى تربيتها من لا يعرفون المساجد.

قال الشوكاني:(وفرق كثير من الفقهاء المالكية وغيرهم بين الشابة وغيرها وفيه نظر لأنها إذا عرت مما ذكر وكانت متسترة حصل الأمن عليها ولا سيما إذا كان ذلك بالليل)([38])، ثم إن مثل هذه الأقوال نشأ عنها ما هو أخطر من الفتن التي أرادوا سدها، فقد ساد الاعتقاد الآن بأن الدين خاص بالشيوخ والعجائز، وأن المرأة ما دامت شابة صغيرة لا ينبغي أن تدفن نفسها في أي مظهر من مظاهر التدين.

ضوابط خروج المرأة للمسجد:

اتفق الفقهاء على أن خروج المرأة للمسجد ينبغي أن يكون مضبوطا بالضوابط الشرعية التي تسد باب الفتنة،ومن هذه الضوابط:

اجتناب الطيب: وهذا الشرط مذكور في الحديث، ففي بعض الروايات (وليخرجن تفلات)([39]) وفي بعضها (إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيبا) ([40]) وفي بعضها (إذا شهدت إحداكن العشاء فلا تطيب تلك الليلة) ([41]) ويلحق بالطيب ما في معناه، لأن الطيب إنما منع منه لما فيه من تحريك داعية الرجال وشهوتهم، وربما يكون سببا لتحريك شهوة المرأة أيضا، فما أوجب هذا المعنى التحق به([42]).

عدم مزاحمة الرجال: ولهذا يستحب أن يكون لهن بابهن الخاص فعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لو تركنا هذا الباب للنساء؟ فلم يدخل منه ابن عمر حتى مات([43])، قال صاحب عون المعبود: فيه دليل أن النساء لا يختلطن في المساجد مع الرجال، بل يعتزلن في جانب المسجد ويصلين هناك بالاقتداء مع إمام، فكان عبد الله بن عمر أشد اتباعا للسنة، فلم يدخل من الباب الذي جعل للنساء حتى مات([44]).

توفر الأمن: فإن خشيت على نفسها، فإنه لا يجوز خروجها، ويجب منعها، ولذلك نرى في كثير من المجتمعات المسلمة الآن وجوب منعهن من صلاة الصبح خصوصا لعدم الأمن.

وقد جمع النووي هذه الشروط بقوله:(لا تمنع من المسجد لكن بشروط ذكرها العلماء مأخوذة من الأحاديث وهي أن لا تكون متطيبة ولا متزينة ذات خلاخل يسمع صوتها ولا ثيابا فاخرة ولا مختلطة بالرجال ولا شابة ونحوها ممن يفتتن بها وأن لا يكون بالطريق ما يخاف به مفسدة ونحوها)([45])

ويستحب في حال عدم توفر الضوابط صلاة النساء جماعة في البيوت، ولذلك صورتان:

صلاة الرجل بأهل بيته:

وسنرى النصوص الدالة على هذا ودورها في إشاعة المودة في البيت المسلم بين الزوج وزوجه عند الحديث عن حق المرأة في العشرة الحسنة.

صلاة النساء فيما بينهن:

وقد اختلف الفقهاء فيها على قولين([46]):

القول الأول: يسن لهن الجماعة منفردات عن الرجال، سواء أمهن رجل أم امرأة، وهو قول الإمامية والشافعية والحنابلة، قال أبو حامد:كل صلاة استحب للرجال الجماعة فيها استحب الجماعة فيها للنساء فريضة كانت أو نافلة، وحكاه ابن المنذر عن عائشة وأم سلمة وعطاء والثوري والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور.

وروى الإمامية في هذا عن أبي عبدالله ع: إنه سئل عن المرأة تؤم النساء؟ قال: (نعم تقوم وسطا بينهن ولاتتقدمهن)([47])

القول الثاني: لا تؤم المرأة أحدا في فرض، ولا نفل، لأن من شروط الإمام أن يكون ذكرا فلا تصح إمامة المرأة لرجال، ولا لنساء مثلها، وهو قول سليمان بن يسار والحسن البصري ومالك،وقال أصحاب الرأي: يكره ويجزيهن، وقال الشعبي والنخعي وقتادة: تؤمهن في النفل دون الفرض([48]).

الترجح:

ليس هذا موضع مناقشة هذه المسألة، ولكن المصلحة الشرعية للبيت المسلم تقتضي الأخذ بقول الإمامية والشافعية والحنابلة، فمن أهم المصالح المحافظة على الصلوات، وإشاعة الألفة في البيت، وهي من المقاصد الشرعية الكبرى، ثم إن النصوص الصحيحة وغيرها تدل على صحة هذا القول، فعن أم ورقة بنت عبد الله بن الحارث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يزورها في بيتها، وجعل لها مؤذنا كان يؤذن لها، وأمرها أن تؤم أهل دارها([49])، وعن ريطة الحنفية قالت:(أمتنا عائشة فقامت بينهن في الصلاة المكتوبة)([50]) وعن حجيرة قالت: (أمتنا أم سلمة في صلاة العصر فقامت بيننا)([51])، ثم إن النصوص العامة الدالة على فضل صلاة الجماعة، وهي لا تخص ذكرا دون أنثى، تدل على ذلك.

ولهذا اعتبر ابن القيم هذا من رد السنة الصحيحة المحكمة في استحباب صلاة النساء جماعة لا منفردات بأخبار لا علاقة لها بهذا، قال ابن القيم:(فردت هذه السنن بالمتشابه من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) ([52]) وهذا إنما ورد في الولاية والإمامة العظمى والقضاء، وأما الرواية والشهادة والفتيا والإمامة فلا تدخل في هذا، ومن العجب أن من خالف هذه السنة جوز للمرأة أن تكون قاضية تلي أمور المسلمين، فكيف أفلحوا وهي حاكمة عليهم ولم يفلح أخواتها من النساء إذا أمتهن ([53]

الحج تطوعا:

اتفق الفقهاء على أن للزوج منع زوجته من الخروج إلى حج التطوع والإحرام به، وقد نقل ابن المنذر الإجماع على ذلك، قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ قوله من أهل العلم، على أن للرجل منع زوجته من الخروج إلى حج التطوع([54])، ومن الأدلة على ذلك أنه تطوع يفوت حق زوجها، فكان لزوجها منعها منه، كالاعتكاف.

أما إن أذن لها فيه، فله الرجوع ما لم تتلبس بإحرامه، فإن تلبست بالإحرام، أو أذن لها، لم يكن له الرجوع فيه، ولا تحليلها منه، لأنه يلزم بالشروع، فصار كالواجب الأصلي. فإن رجع قبل إحرامها، ثم أحرمت به، فهو كمن لم يأذن.

وقد اختلف الفقهاء في حق الزوج في منع زوجته إن أحرمت بتطوع بدون إذنه على قولين:

القول الأول: أن له تحليلها ومنعها منه، وهو قول الجمهور والإمامية، ومن الأدلة على ذلك:

  1. أنه تطوع يفوت حق غيرها منها، أحرمت به بغير إذنه، فملك تحليلها منه، كالمدينة تحرم بغير إذن غريمها على وجه يمنعه إيفاء دينه الحال عليها.
  2. أن العدة تمنع المضي في الإحرام لحق الله تعالى، فحق الآدمي أولى، لأن حقه أضيق، لشحه وحاجته، وكرم الله تعالى وغناه.

القول الثاني: ليس له تحليلها، وهو قول القاضي، وحكي عن أحمد، في امرأة تحلف بالصوم أو بالحج، ولها زوج: لها أن تصوم بغير إذن زوجها، ما تصنع، قد ابتليت وابتلي زوجها، واستدلوا على ذلك بأن الحج يلزم بالشروع فيه، فلا يملك الزوج تحليلها، كالحج المنذور.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة النظر إلى السبب الداعي للتحليل، فإن كان سببا شرعيا كافيا، فله منعها وتحليلها، أما إن كان فورة غضب لمخالفته، فالأرجح عدم حقه في المنع، لأن إباحة مثل هذا التصرف للزوج مع التكاليف والمشقة الحاصلة للزوجة بعد الإحرام، تؤثر تأثيرا كبيرا في العشرة الزوجية، فكيف ترجع المرأة لزوجها بعد أن أنفقت مالها، وقد يكون مالا كثيرا لأجل سواد عيون غضب زوجها.

أما الزوجة، فلا يحل لها أن تتصرف مثل هذا التصرف دون إذن زوجها إلا إن كان غائبا غيبة لا يمكن تبليغه، أو كان هناك مانع شرعي يمنعها من إبلاغه.

صوم التطوع:

اتفق الفقهاء على أنه ليس للزوجة أن تصوم تطوعا إلا بإذن زوجها، وللزوج أن يفطرها إذا صامت بغير إذنه، وذلك لأن له حق الاستمتاع بها ولا يمكنه ذلك في حال الصوم، أما إن كان صيامها لا يضره بأن كان صائما أو مريضا لا يقدر على الجماع فليس له أن يمنعها([55])، قال مالك في المرأة تصوم من غير أن تستأذن زوجها:(ذلك يختلف من الرجال من يحتاج إلى أهله، وتعلم المرأة أن ذلك شأنه فلا أحب لها أن تصوم إلا أن تستأذنه، ومنهن من تعلم أنه لا حاجة له فيها فلا بأس بأن تصوم) ([56])، ومن الأدلة على ذلك:

  1. قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(لا تصوم المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه) ([57])
  2. عن أبي سعيد أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونحن عنده فقالت: يا رسول الله إن زوجي صفوان بن المعطل يضربني إذا صليت، ويفطرني إذا صمت، ولا يصلي صلاة الفجر حتى تطلع الشمس، قال وصفوان عنده،فسأله عما قالت، فقال: يا رسول الله، أما قولها يضربني إذا صليت فإنها تقرأ بسورتين وقد نهيتها، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: لو كانت سورة واحدة لكفت الناس، وأما قولها يفطرني، فإنها تنطلق فتصوم وأنا رجل شاب فلا أصبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يومئذ لا تصوم امرأة إلا بإذن زوجها، قال صفوان: وأما قولها إني لا أصلي حتى تطلع الشمس فإنا أهل بيت قد عرف لنا ذاك لا نكاد نستيقظ حتى تطلع الشمس، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:فإذا استيقظت فصل([58]).
  3. قال صلى الله عليه وآله وسلم:(لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه ولا تأذن في بيته إلا بإذنه، وما أنفقت من نفقة عن غير أمره فإنه يؤدى إليه شطره) ([59])

صوم الواجب غير المعين:

اتفق الفقهاء كما ذكرنا سابقا على أنه لا يجوز للزوج أن يمنع زوجته صوم رمضان، ومثله ما لو فات الأداء بعذر وضاق وقت القضاء بأن لم يبق من شعبان إلا قدر القضاء فهو كأداء رمضان، ونصوا على أنها لو نذرت المرأة صوم الدهر فللزوج منعها فإن منعها، فلا قضاء ولا فدية، لأنها معذورة، وإن أذن لها أو مات لزمها الصوم، فإن أفطرت بلا عذر أثمت ولزمتها الفدية، واختلفوا في منعها من تعجيل القضاء إن كان الوقت واسعا عل قولين([60]):

القول الأول: إن له منعها من المبادرة إليه كصوم التطوع، وهو قول الجمهور، وفي جواز إلزامها الإفطار إذا شرعت فيه وجهان مخرجان من القولين في التحليل من الحج، وفي سقوط النفقة وجهان أحدها تسقط كالحج والثاني لا لقصر الزمان وقدرته على الاستمتاع ليلا، ومن الأدلة على ذلك أن الحقين لله تعالى ولآدمي، فقدم المضيق، ولهذا ليس للزوج منع زوجته من أداء صوم رمضان ومن قضائه، إذا ضاق الوقت، بخلاف ما إذا اتسع الوقت([61]).

القول الثاني: ليس له منعها منه، لأنه ليس تطوعا.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الثاني إلا إذا كانت له حاجة تدعوه إلى عدم الإذن لها بالتعجيل، وقد قال ابن شد فيما جبر الزوج لزوجته على تأخير القضاء إلى شعبان: (الظاهر عندي أنه ليس له ذلك إلا باختيارها، لأن لها حقا في إبراء ذمتها من الفرض الذي لزمها وأما التنفل فإن له منعها لحاجته إليها) ([62])


([1])   المدخل:1/276.

([2])   المدخل:1/276.

([3])   انظر أسباب نزول الآية في: القرطبي:3/337، فتح القدير:1/293.

([4])   القرطبي:3/337.

([5])   المغني:7/225، 9/291، كشاف القناع:5/191.

([6])   انظر: زاد المعاد:3/629، هداية الحيارى:27.

([7])   أوردت وكالات الأنباء خبرا تحت عنوان « الفاتيكان يعترف باغتصاب راهبات من قبل قساوسة »، ونص الخبر على أن بابا الفاتيكان يوحنا بولص الثاني اعترف بصحة تقارير صحفية تحدثت عن انتهاكات أخلاقية في صفوف الكنيسة، وقالت إن قساوسة ورجال دين كبارا أرغموا راهبات على ممارسة الجنس معهم، وتعرضت بعض الراهبات للاغتصاب وأجبرت أخريات على الإجهاض.

وقال الفاتيكان في بيان له إن القضية محدودة ومتعلقة بمنطقة جغرافية محددة، لكنه لم يشر إلى هذه المنطقة الجغرافية، وكانت التقارير أكدت أن هذه الانتهاكات موجودة في 23 بلدا من بينها الولايات المتحدة الأميركية والبرازيل والفلبين والهند وإيرلندا وإيطاليا نفسها.

وأكد البيان أن الكرسي البابوي يتعامل مع القضية بالتعاون مع الأساقفة، والمؤسسات الدينية الكاثولكية الأخرى لمعالجة الموضوع.

وأدانت وكالة الأنباء التبشيرية ميسنا ما أسمته مفاسد المبشرين لكنها في الوقت نفسه دعت إلى تذكر أن هؤلاء القساوسة ورجال الدين يظلون بشرا. لكن المتحدث الرسمي باسم المؤتمر الأميركي للأساقفة الكاثوليك قال إن “أقل ما يمكن قوله عن هذا التقرير هو أنه مروع ومزعج”. لكنه أوضح أنه لا علم له بمثل هذه الانتهاكات في الولايات المتحدة.

وقال تقرير نقلته صحيفة لا ريببليكا الإيطالية إن بعض الراهبات أجبرن على أخذ حبوب منع الحمل. وأشار إلى أن معظم حالات الاعتداء الجنسي على الراهبات حدثت في أفريقيا حيث “تعرف الراهبات على أنهن آمنات من الإصابة بفيروس الإيدز” المنتشر في القارة السمراء.

وكانت الاتهامات قد ظهرت للمرة الأولى في التقرير الكاثوليكي القومي الأسبوعي في مدينة كانساس في 16 مارس/ آذار ونقلته وكالة أنباء أديستا -وهي وكالة إيطالية دينية صغيرة- مما أدى إلى وصوله لأجهزة الإعلام العامة.

وقد أعدت التقرير الذي تحدث عن حالات محددة بالأسماء وحالات تورط أصحابها راهبة وطبيبة تدعى ماورا أودونوهو، وقدمت الراهبة تقريرها إلى رئيس مجمع الفاتيكان للأوامر الدينية الكاردينال مارتينز سومالو في فبراير/ شباط عام 1995.

وقد أمر الكاردينال آنذاك بإنشاء فريق عمل من المجمع لدراسة المشكلة مع أودونوهو والتي كانت تعمل منسقة الإيدز في منظمة (كافود) وهي منظمة دينية تابعة لطائفة الروم الكاثوليك تتخذ من لندن مقرا لها.

وأشارت أودونوهو إلى أدلة واضحة على اتهاماتها، وقالت إنه في إحدى الحالات أجبر قسيس راهبة على الإجهاض مما أدى إلى موتها، ثم قام بنفسه بعمل قداس لها.

وبشأن أفريقيا قال تقريرها إن الراهبات لا يستطعن هناك رفض أوامر القساوسة بهذا الشأن، وأكدت أن عددا من القساوسة هناك مارسوا الجنس مع الراهبات خوفا من إصابتهم بالإيدز إذا “مارسوه مع العاهرات”، وترغم الراهبات على تناول حبوب لمنع الحمل، لكنها قالت إن مؤسسة دينية اكتشفت وجود 20 حالة حمل دفعة واحدة بين راهباتها العاملات هناك.

وأشار التقرير إلى أن الأسقف المحلي لإحدى المناطق طرد رئيسة دير عندما اشتكت له من أن 29 راهبة من راهبات الدير حبالى بعد أن أرغمن على ممارسة الجنس مع القساوسة.

المصدر: رويترز – أسوشيتد برس، الأربعاء 26/12/1421هـ الموافق 21/3/2001م، (توقيت النشر) الساعة: 5:38(مكة المكرمة)،2:38(غرينيتش).

([8])   المغني:9/291.

([9])   في المسألة قولان عند الشافعية وروايتان عند الحنابلة.

([10])   صحيح ابن خزيمة: 3/91، ابن حبان: 10/270، الحاكم: 2/430، الدارمي: 2/362، البيهقي: 3/246، النسائي: 5/430، أحمد: 4/413.

([11])   الترمذي: 4/209، مجمع الزوائد: 9/177، مصنف ابن أبي شيبة: 6/545، مسند البزار: 5/357، أحمد: 1/131، المعجم الكبير: 18/165.

([12])   المدخل :1/211.

([13])   تبيين الحقائق:2/305، المنهج القويم:619، روضة الطالبين:9/63، مغني المحتاج:468، فتح الباري:4/76، فما بعدها، المغني:3/99.

([14])   والقول الثاني أنه لا يملك، لأنه فرض فلا يملك تحليلها منه كالصوم والصلاة، وقد نصوا على أن القول المذكور هو الأرجح، قال القاضي أبو الطيب في «تعليقه» المنصوص في باب الحج المرأة والعبد من المناسك الكبير: أن للزوج منعها، ونص الشافعي في باب خروج النساء إلى المساجد ن اختلاف الحديث على أنه ليس له منعها، وقال البندنيجي: نص الشافعي في عامة كتبه أن له منعها، واتفقوا على أن الصحيح من هذين القولين أن له منعها، وبه قطع الشيخ أبو حامد والمحاملي وآخرون، قال القاضي أبو الطيب في كتابه «المجرد» والروياتي وغيرهما: هذا القول هو الصحيح المشهور، انظر: المجموع: 8/239.

([15])   نص القولين كما ذكر الشافعي:» ومن قال هذا القول لزمه عندي أن يقول: لو تطوعت فأهلت بالحج أن عليه تخليتها من قبل أن من دخل في الحج ممن قدر عليه لم يكن له الخروج منه ولزمه ، غير أنها إذا تنفلت بصوم لم يكن له منعها ولزمه عندي في قوله أن يقول ذلك في الاعتكاف والصلاة. والقول الثاني: أن تكون كمن أحصر فتذبح وتقصر وتحل ويكون ذلك لزوجها «، الأم:2/128.

([16])   البخاري:5/2005، مسلم: 2/978، البيهقي: 5/226.

([17])   قال ابن حجر: رواه الدارقطني والطبراني في الصغير والبيهقي كلهم من طريق العباس بن محمد بن مجاشع عن محمد بن أبي يعقوب الكرماني عن حسان بن إبراهيم عن إبراهيم الصائغ عن نافع عن بن عمر قال الطبراني لم يروه عن إبراهيم إلا حسان وقال البيهقي تفرد به حسان وأعله عبد الحق بجهل حال محمد قال ابن القطان: تبع في ذلك أبا حاتم نصا، تلخيص الحبير:2/289، وقال ابن الملقن: رواه الدارقطني والطبراني والبيهقي من رواية ابن عمر وفي إسناده مجهول وهو العباس بن محمد بن شافع، خلاصة البدر المنير:2/46، وانظر: مجمع الزوائد: 3/215، البيهقي: 5/223، الدارقطني:2/223، المعجم الصغير:1/349.

([18])   سبق تخريجه.

([19])   مسلم :1/327، البخاري: 1/305، المنتقى لابن الجارود: 1/91، ابن خزيمة:3/90، ابن حبان: 5/387، الدارمي: 1/330.

([20])   البخاري: 1/295، مسلم: 1/327، البيهقي: 3/132، أحمد: 2/57، أبو يعلى:9/333.

([21])   البخاري:2/862، مسلم: 4/1996، الترمذي:4/34، ابن حبان: 2/291، البيهقي: 6/201، أحمد: 2/91، المعجم الكبير: 12/287.

([22])   المجموع:4/94.

([23])   المجموع:4/94.

([24])   المهذب:2/66، الوسيط:2/66، المجموع:4/94.

([25])   استدل به الشيرازي في المهذب:2/66، وقد رواه البزار، وفيه حسين بن قيس المعروف بحنش وهو ضعيف وقد وثقه حصين بن نمير وبقية رجاله ثقات، انظرك مجمع الزوائد:4/307.

([26])   ذكره النووي [ المجموع:4/94]، ونازعه ابن دقيق العيد بأنه إذا أخذ من المفهوم فهو مفهوم لقب، وهو ضعيف وقواه المناوي بأن منع الرجال نساءهم أمر مقرر معروف، انظر: فيض القدير:1/71.

([27])   البخاري:1/296، مسلم: 1/329، الترمذي: 2/420، أحمد: 6/235، مسند إسحق بن راهويه: 2/426.

([28])   التمهيد: 23/402، وانظر:مواهب الجليل:4/186.

([29])   ابن حبان: 5/595، ابن خزيمة: 3/95، أحمد: 6/371، مسند الروياني:2/233.

([30])   مخدعها بضم الميم وتفتح وتكسر مع فتح الدال في الكل، وهو البيت الصغير الذي يكون داخل البيت الكبير يحفظ فيه الأمتعة النفيسة، من الخدع وهو إخفاء الشيء أي في خزانتها، عون المعبود:2/195.

([31])   ابن خزيمة: 3/95، الحاكم:1/328، البيهقي: 3/131، ابو داود:1/156.

([32])   المحلى:2/170.

([33])   مسلم:1/327.

([34])   البخاري: 1/296،مسلم: 1/446، ابن حبان: 4/365، الترمذي:1/288، البيهقي:1/454، مسند الشافعي: 1/29، أبو داود: 1/115، النسائي:1/478، أحمد: 6/178.

([35])   ذكره ابن حزم في المحلى:3/137.

([36])   نيل الأوطار:3/162.

([37])   البخاري:1/50.

([38])   نيل الأوطار:3/161.

([39])   سبق تخريجها، قال المجلسي: (وهذا الخبر وإن كان عاميا لكن ورد المنع من تطيبهن وتزينهن عند الخروج مطلقا)، وقد روى الإمامية في هذا قوله صلى الله عليه وآله وسلم:  : (أيما رجل تتزين امرأته وتخرج من باب دارها فهو ديوث ولا يأثم من يسميه ديوثا ، والمرأة إذا خرجت من باب دارها متزينة متعطرة والزوج بذلك راض يبنى لزوجها بكل قدم بيت في النار ) (بحار الأنوار: ج 100 ص 249 )

([40])   مسلم:1/328، النسائي:8/155، ابن خزيمة:3/91.

([41])   مسلم:1/328.

([42])   إحكام الأحكام:1/197.

([43])   أبو داود: 1/126.

([44])   عون المعبود:2/92.

([45])   شرح النووي على مسلم:4/161، وانظر: الفتاوى الفقهية الكبرى:1/200.

([46])   وقد ذهب أبو ثور والطبري إلى جواز إمامتها على الإطلاق للرجال والنساء، وقد رد على ذلك ابن رشد مبينا علة الجمهور بقوله: » وإنما اتفق الجمهور على منعها أن تؤم الرجال، لأنه لو كان جائزا لنقل ذلك عن الصدر الأول، ولأنه أيضا لما كانت سنتهن في الصلاة التأخير عن الرجال علم أنه ليس يجوز لهن التقدم عليهم، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:»أخروهن حيث أخرهن الله «ولذلك أجاز بعضهم إمامتها النساء إذ كن متساويات في المرتبة في الصلاة مع أنه أيضا نقل ذلك عن بعض الصدر الأول، انظر: بداية المجتهد:1/105.

([47])     مدارك الاحكام (4/ 326)

([48])   انظر: المجموع:4/94.

([49])   أبو داود:1/161.

([50])   قال الزيلعي: رواه الدارقطني والبيهقي في سننهما، قال النووي:سنده صحيح، انظر: نصب الراية:2/31، الدارقطني:1/404.

([51])   رواه الدارقطني في سننه قال النووي سنده صحيح، نصب الراية:2/31، تلخيص الحبير:2/42، الدارقطني:1/405.

([52])   البخاري:4/1610، الحاكم: 3/128، الترمذي:4/527، البيهقي:3/90، النسائي: 3/465.

([53])   إعلام الموقعين:2/271.

([54])   المغني:3/283.

([55])   حمل بعض الشافعية النهي على الكراهة، قال النووي: «ولو صامت بغير إذن زوجها صح باتفاق أصحابنا ، وإن كان الصوم حراما ; لأن تحريمه لمعنى آخر لا لمعنى يعود إلى نفس الصوم ، فهو كالصلاة في دار مغصوبة »المجموع: 6/445.

([56])   المدونة: 1/279.

([57])   البخاري:5/1993، ابن حبان:8/339/ البيهقي:4/192، أبو داود:2/330.

([58])   ابن حبان: 4/354، الحاكم: 1/602، البيهقي: 4/303، ابو داود: 2/330، أحمد: 3/80، أبو يعلى: 2/398.

([59])   البخاري:5/1994، النسائي: 2/175.

([60])   روضة الطالبين: 9/62.

([61])   القواعد لابن رجب:1/343.

([62])   نقلا عن: المنتقى: 2/72.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *