السلمية بين البحرين وسورية

من أبشع المقولات التي يرددها الذين أدمنوا على الإعلام التحريضي المغرض قولهم عن الحراك السوري: (إنه ظل ستة أشهر كاملة حراكا سلميا، ثم اضطر إلى التحول إلى العنف)
وهذه مغالطة كبيرة من وجوه متعددة.. أولها أن من يرفع راية إسقاط النظام يعتبر خائنا لا معارضا، ومحاربا لا مسالما.. وثانيها أن ستة أشهر لا تساوي شيئا في حساب الزمن الذي يتطلبه التغيير، والتحول في هذه الفترة القصيرة من السلم إلى العنف، يدل على طيش في العقول، واستعجال في تحقيق الأهداف الكبرى، والعجلة لا تنتج إلا الخراب.. وثالثها أن النظام السوري دعا المتظاهرين إلى الجلوس إلى طاولة الحوار، لكنهم رفضوا، وأصروا على مطلبهم في إسقاط النظام.. ورابعها أن تلك المعارضة كانت مستندة لجهات خارجية، وهي في جميع القوانين الدولية خيانة عظمى..
وإذا ما قارنا هذا الحراك الطائش المستعجل المستند لجهات خارجية لا تريد الخير لسورية، مع حراك آخر تزامن معه في نفس التوقيت.. وبمطالب أشرف.. وبطرق حضارية سلمية عالية، نجد الفرق الكبير بين الحراكين.
وذلك هو حراك البحرين.. وهو حراك لم يطالب بإسقاط النظام، ولا برحيل الملك، وكل ما طالب به هو التحول إلى ملكية دستورية بدل الملكية المطلقة، مع احتفاظ الملك بمنصبه، وكان المتظاهرون مستعدين للحوار، ومطالبهم كانت في منتهى الشرعية والوضوح، فقد كانوا يتألمون لذلك التطبيع الذي تقوم به مملكتهم مع إسرائيل، وتلك الإتاوات التي تدفعها لأمريكا مقابل حمايتها.
لكن ذلك الحراك السلمي قوبل بكل أنواع العنف والتهميش والاحتقار ابتداء من الحركات الإسلامية نفسها، فقد خرج القرضاوي بوق الفتنة حينها، يندد بذلك الحراك، ويطالب المملكة بإيقافه وقمعه، مع كونه لم يكن سوى حراك سلمي، وبمطالب شرعية، لكن القرضاوي ـ وفي خطب الجمعة ـ راح يصيح بأن أولئك المتظاهرين المطالبين بحقوقهم شيعة، ولذلك لا يحق لهم أن يتكلموا، أو يطالبوا بشيء.. وهو يعلم أن الشيعة هم الأغلبية في البحرين، وأنه لا يمكن أن يتم أي حراك من دونهم، ويعلم أيضا أن الشيعة بشر كسائر البشر، ولهم الحق في أي سلوك يفعله إخوانهم في البشرية.. ويعلم فوق ذلك كله أن المتظاهرين لم يكونوا ينادون بأي شعارات طائفة، بل كان فيهم المنتمون لجميع المذاهب الإسلامية، لكنه لم يرهم لأن الحقد الذي تشربه قلبه جعله أعمى البصيرة.
وقد شاء الله أن يمد في عمره ليرى كيف تضعه البحرين في قائمة الإرهابيين، هو والاتحاد الذي أسسه، وحينها راح يغرد قائلا: (إن الباطل كالرغوة المنتفخة؛ يعلو قليلا ثم يتلاشى ولا يبقى إلا الماء الخالص)، متناسيا أنه كان بوقا لذلك الباطل، وأنه كان يطالب بمواجهة المتظاهرين.
وهكذا كان الأمر مع حكومة الإخوان المسلمين في مصر، والتي كان موقفها سلبيا من ذلك الحراك، بل كانت تدعو إلى قمعه، في نفس الوقت الذي كانت تطالب فيه الجيش المصري والشعوب العربية للتوجه لحرب الدولة السورية.. فابتلاهم الله بالسقوط الحر، وبأن يوضعوا في قائمة الإرهابيين، لا من أولئك الذين حرضوا عليهم، وإنما من أولئك الذين دافعوا عنهم، وأولهم ملك البحرين.
أما غيرهم فقد راح يستعمل كل وسائل العنف مع ذلك الحراك، فاعتقل العلماء، والقادة الاجتماعيين الممتلئين بكل ألوان السلمية والأدب، واستشهد الكثير من الضحايا الأبرياء.. ومع ذلك كله لم يطلق المتظاهرون رصاصة واحدة.. وظلوا على ذلك سنوات طويلة إلى الآن.. وهم صابرون محتسبون مع أن مطالبهم في منتهى الشرعية، وأقرت بها كل القوانين الدولية، فهم لا يطالبون سوى بأن تتاح لهم انتخابات حرة، وتشكل حكومة على أساسها، وأن تترك مملكتهم ذلك التطبيع مع إسرائيل والصهيونية، وأن تتحول إلى دولة ذات سيادة، لا مجرد ملاه ليلية وحدائق خلفية يجتمع فيها الخليجيون المترفون لتحقيق نزواتهم الشاذة.
ومع ذلك كله لا يسمع لهم أحد، بل الكل يتجاهلهم، والكل يتهمهم.. ولا تزال البحرين تتألم، ولا يلتفت لألمها أحد، لأن الأحقاد تعمي وتصم، ويأبى الله إلا أن يذيق الحاقدين من ألوان الهوان، وأنواع المذلة، ما يجعلهم يتألمون أضعاف ما يتألم له أولئك المسالمون الطيبون.. {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 140]