التمهيد: مفهوم فقه النوازل وأهميته

التمهيد

مفهوم فقه النوازل وأهميته

أولا ـ مفهوم فقه النوازل:

لغة: النوازل على وزن فواعــل من: نزل ينزل نزولا فهي نازلة، جاء في لسان العرب: نزل: النزول: الحلول، وقد نزلهم، ونزل عليهم، ونزل بهم، ينزل نزولاً ومَنْزَلاً ومَنْزِلاً، والنازلة: الشديدة تنزل بالقوم، وجمعها النوازل([1]).

اصطلاحا: بما أن فقه النوازل لم يكن بابا من أبواب الفقه المعتمدة، وإنما كان ضمن المباحث الفقهية المختلفة، ولهذا لا نجد له في تراثنا الفقهي تعريفا خاصا دقيقا مثلما نجد ذلك في سائر المسائل والأبواب، ولهذا نذكر هنا بعض ما ذكره العلماء مما يمكن أن يستنتج من خلاله تصورهم له:

فقد عرفه معجم لغة الفقهاء بأنه: (الحادثة التي تحتاج إلى حكم شرعي)([2]).

وعرفه الشيخ بكر أبو زيد بأنه (الوقائع والمسائل المستجدة، والحادثة المشهورة بلسان العصر باسم النظريات والظواهر)([3])

ولعل إطلاق النازلة على المسألة الواقعة يرجع إما لملاحظة معنى الشدة لما يعانيه الفقيه في استخراج حكم هذه النازلة، ولذا كان السلف يتحرجون من الفتوى ويسألون هل نزلت؟

أو أنها سميت نازلة لملاحظة معنى الحلول، فهي مسألة نازلة يجهل حكمها تحل بالفرد أو الجماعة(([4]).

ثانيا ـ مصطلحات أخرى:

من المصطلحات التي تطلق على هذا النوع من الأحكام الفقهية:

الفتاوى:

وهي أشهر المصطلحات وأقدمها وأفضلها، فقد ذكر في القرآن الكريم في مواضع مختلفة منها قوله تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ}([5])

وقد عرفه الحطاب من المالكية بقـوله: (هي الإخبار بحكم شـرعي لا على وجه الإلـزام)([6])

وعرّفه القرافي عند بيانه الفـرق بين الفتوى وبين الحكم فقال: (فأما الفتـوى فهـي إخبـار عـن الله تعالى وبيان ذلك أن المفتي مع الله كالمترجم مع القاضي)([7])

والعلاقة بينها وبين فقه النوازل علاقة عموم وخصوص، فالفتوى أعم من فقه النوازل، ذلك أن المفتي يتعرض لكل المسائل سواء ما كان منها حادثا أو ما لم يكن، ولهذا نجد من أهم مصادر فقه النوازل الكتب المختصة بالفتاوى كفتاوى ابن تيمية، والفتاوى الهندية، وفتاوى ابن حجر الهيثمي، وفتاوى الشيخ عليش، وغيرها كثير.

المسائل، أو الأسئلة:

وهي مثل الفتاوى، وقد ذكرت في القرآن الكريم كذلك كثيرا كقوله تعالى: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}([8])

وسميت بذلك لأنها أسئلة يطرحها المستفتون على المفتين، ومن المؤلفات في هذا: مسائل القاضي أبي الوليد بن رشد.

وقد سميت كذلك في مراجع أخرى بالأجوبة، أو الجوابات، وهي تسمية لبعض علماء الأندلس لأنها مسائل أجاب عنها العلماء بطلب من الناس.

ثالثا ـ أهمية فقه النوازل:

لاشك في اعتبار فقه النوازل من أهم الفروع الفقهية وأشدها صعوبة، ذلك أنها محاولة لتطبيق الشريعة الإسلامية في حياة الناس، والإجابة على الإشكالات التي تعرض لهم، بل هو فوق ذلك محاولة للبحث عن البدائل المناسبة لتيسير ممارسة الحياة وفق الشريعة الإسلامية.

وقد ذكر الباحثون في هذا الباب الكثير من الفوائد المبينة لأهمية هذا الجانب، نذكر منها([9]):

1 – البحث فيها يبرهن على صدق الإسلام وخلوده وصلاحيته للقيادة والريادة في هذه الحياة.

2 – بيان ما يمتاز به الفقه الإسلامي عن غيره من التشريعات البشرية بثروته الهائلة، وتنوعه الشامل، وقواعده المحكمة وعطائه المتواصل مما يستوجب الاهتمام به علما وعملا، دراسة وتطبيقا.

3 – بحثها يعطي إمكانية الاطلاع على الجهود الفقهية العظيمة في كل عصر من العصور الإسلامية والتي واجهت كل طارئ وجديد، وكيف أن الفقه الإسلامي نجح في مواجهة تلك الإشكالات الواقعية، الميدانية، في حياة الناس اليومية، وأنه لم يقف يوما جامدا عاجزاً عن مواجهة تطورات الحياة ومشاكلها.

4 – أن لفقه النوازل أهمية كبرى تتصل بصفة النوازل الواقعية التي تعرض لنا صورا من المجتمع الذي وقعت فيه تلك النوازل من الناحية الفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتاريخية والأدبية([10]):

فمن الناحية الفكرية: يعرفنا فقه النوازل بالعلاقة بين المذاهب الفقهية، ويظهر ذلك من خلال المناظرات والمناقشات العلمية التي كانت تدور بين علماء المذاهب في أثناء التعرض لنازلة من النوازل.

ومن الناحية الاجتماعية: تقدم النوازل الكثير من الإشارات إلى أحوال المجتمع الإسلامي في منطقة النازلة، الأمر الذي يجعل منها مصدرا وثيقا لعالم الاجتماع مثلما هو للفقيه والعالم.

لذا نجد كثيرا من المؤرخين قد انصرف إلى مصنفات النوازل والفتاوى لدراستها واستنباط ظواهر اجتماعية منها واستنتاج إفادات تاريخية، ومن هؤلاء المستشرق الفرنسي جاك بارك الذي اعتنى بنوازل المازوني- الذي استفاد كثيرا من كتب فقه النوازل لإبراز جوانب اجتماعية للمغرب في عصر هذه النوازل.

ومن الناحية الأدبية: فإن لفقه النوازل فوائد عظيمة، فقد تحتوي الأسئلة والأجوبة عن تلك النوازل على قطع أدبية بليغة أو شعر نادر استشهد به، كما أنها تحافظ لنا على لغة الفقه والفقهاء الأدبية الرائعة.

ومن الناحية السياسية: تنقل هذه النوازل صورة واقعية لحوادث تاريخية تمس ذلك المجتمع الذي وقعت فيه النازلة في السلم والحرب مما قد يفيد السياسي في دراسته ومما يعينه في فهم كثير من أحداث الزمان.

ومن الناحية الاقتصادية: تقدم النوازل جملة من الصور عن الحالة الاقتصادية التي تمر بها البلاد الإسلامية، وعن الملكية والتجارة والبنوك وهذا كله يمكن معرفته من خلال تلك النوازل والمسائل المتعلقة بالمواضيع الاقتصادية، كطغيان البنوك الربوية على واقع المسلمين اليوم وكثرة الأسئلة التي يطرحها المسلمون ويطرحها الواقع المر الذي يتخبط فيه الجانب الاقتصادي في المجتمعات المسلمة، ومشكلة الديون التي تتعب كاهل الدول الإسلامية وغيرها من المواضيع الاقتصادية التي تحتاج إلى فقه واجتهاد في نوازلها وواقعاتها المريرة.

ومن الناحية التاريخية: تقدم النوازل أحداثا تاريخية وقعت للأمة الإسلامية ونزلت بها وتم الجواب عنها، وتقدم أحيانا أحداثا أغفلها المؤرخون الذين ينصب اهتمامهم غالبا بالشؤون السياسية وما يتصل بالحكام والأمراء ومثال عن ذلك ما يحدث اليوم في أفغانستان من تقاتل بين الفصائل الأفغانية، أو مثل الحرب العراقية الإيرانية التي وقعت في الثمانينيات أو اجتياح العراق للكويت وما ترتب عليه من استعانة بالكفار، وما حدث ويحدث لإخواننا المسلمين في يوغسلافيا من اضطهاد واغتصاب وما يستلزم ذلك من فقه واجتهاد يجيب عن تلك الشدائد والنوازل التي تنزل بالأمة الإسلامية في عصورها المتتالية.

5 – ومن فوائد فقه النوازل ذلك الأثر العلمي الذي تخلفه هذه الإجابات لأنها تحفظ لنا مسائل واجتهادات العلماء بنصها لتكون سجلا للفتوى والقضاء ومرجعا مهما للمهتمين بها من أهل الاختصاص لا يمكن الاستغناء عنها بحال.

6 – كما أن فقه النوازل يعرفنا بأسماء لامعة من العلماء المجتهدين المفتيين، الذين تصدوا لهذه النوازل، وكيف أنهم بذلوا الجهد والوسع للوصول إلى الحكم الشرعي وذلك باتباع أصول الاجتهاد دون تعصب أو هوى.


([1]) لسان العرب، ابن منظور، دار صادر – بيروت، ج11، ص658.

([2]) معجم لغة الفقهاء، محمد رواس قلعجي وحامد صادق قنيبي، دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع، ط2، 1408 هـ، ص471.

([3]) بكر أبو زيد، فقه النوازل، بيروت: مؤسسة الرسالة، ص8.

([4]) سبل الاستفادة من النوازل والعمل الفقهي في التطبيقات المعاصرة، الدكتور عبد الله الشيخ المحفوظ بن بيه، مجلة مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بجدة، ع11 ج2 ص533.

([5]) سورة النساء: 127.

([6]) مواهب الجليل، الحطاب، دار الفكر، ط3، 1992، ج 1، ص32.

([7]) الفروق، القرافي، بيروت، عالم الكتب، ج 4، ص89.

([8]) سورة البقرة: 189.

([9]) انظر: الضوابط الشرعية لبحث القضايا المعاصرة في الرسائل العلمية، مجموعة من الباحثين، بحث مقدم لمؤتمر (الدراسات العليا ودورها في خدمة المجتمع)، والمنعقد بتاريخ 19/4/2011 في الجامعة الإسلامية – غزة، دت، دط، ص7، فما بعدها.

([10]) انظر هذه الفوائد وغيرها في: د.عبد الحق بن أحمد حميش، مدخل إلى فقه النوازل، دت، دط، ص15، فما بعدها.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *