التقي الورع

التقي الورع

سيدي أمير المؤمنين.. وحبيب الله ورسوله..

ألقابك كثيرة.. وأحبها إلى نفسي ذلك اللقب الذي عرفت به.. والذي آثره الكاتب الكبير عبد الرحمن الشرقاوي.. حين سمى كتابه عنك [علي إمام المتقين].. فأنت ـ سيدي ـ حقيقة لا زورا إمام المتقين ظاهرا باطنا..

لقد نلت هذه الخصلة العظيمة من صحبتك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتلمذتك الطويلة على يديه.. ومن البيئة الطاهرة التي ولدت فيها.. ومن الجبلة الطيبة التي جبلت عليها.. ومن حبك للقرآن الكريم، وفنائك في حقائقه القدسية.. ولذلك صرت معبرا عن معانيه.. بل صرت قرآنا ناطقا تنطق حركاتك وسكناتك بأخلاقه وآدابه وقيمه.

ولذلك كنت تدعو كل حين إلى التقوى.. فلا تخلو خطبة من خطبك من التعريف بها، وبأهميتها، وكيفية التحقق بها، وبمصير أهلها.. فلا تزال في أذني يتردد صدى قولك: (أوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه، فإنّها الزّمام والقوام، فتمسّكوا بوثائقها، واعتصموا بحقائقها، تؤل بكم إلى أكنان الدّعة، وأوطان السّعة، ومعاقل الحرز، ومنازل العزّ، في يوم تشخص فيه الأبصار، وتظلم له الأقطار، وتعطّل فيه صروم العشار، وينفخ في الصّور، فتزهق كلّ مهجة، وتبكم كلّ لهجة، وتذلّ الشّمّ الشّوامخ، والصّمّ الرّواسخ، فيصير صلدها سرابا رقرقا، ومعهدها قاعا سملقا، فلا شفيع يشفع، ولا حميم ينفع، ولا معذرة تدفع)([1])

ولا يزال يتردد في أذني صدى قولك: (إنّ تقوى اللّه مفتاح سداد، وذخيرة معاد، وعتق من كلّ ملكة، ونجاة من كلّ هلكة، بها ينجح الطّالب، وينجو الهارب، وتنال الرّغائب، فاعملوا والعمل يرفع، والتّوبة تنفع، والدّعاء يسمع، والحال هادئة، والأقلام جارية.. وبادروا بالأعمال عمرا ناكسا، أو مرضا حابسا، أو موتا خالسا، فإنّ الموت هادم لذّاتكم، ومكدّر شهواتكم، ومباعد طيّاتكم، زائر غير محبوب، وقرن غير مغلوب، وواتر غير مطلوب. قد أعلقتكم حبائله، وتكنّفتكم غوائله، وأقصدتكم معابله، وعظمت فيكم سطوته، وتتابعت عليكم عدوته، وقلّت عنكم نبوته، فيوشك أن تغشاكم دواجي ظلله، واحتدام علله، وحنادس غمراته، وغواشي سكراته، وأليم إرهاقه، ودجوّ أطباقه، وجشوبة مذاقه. فكأن قد أتاكم بغتة، فأسكت نجيّكم، وفرّق نديّكم، وعفّى آثاركم، وعطّل دياركم، وبعث ورّاثكم يقتسمون تراثكم، بين حميم خاصّ لم ينفع، وقريب محزون لم يمنع، وآخر شامت لم يجزع) ([2])

ومع كل تلك الخطب الكثيرة الممتلئة بالمعاني، لا أزال أتذكر ما حييت ذلك اليوم الذي وقف فيه صاحبك المخلص الصادق همام بن عبادة([3])، وطلب منك أن تحدثه عن صفات المتقين بعد أن رآك تكثر الحديث عنهم.. وقال لك: (يا أمير المؤمنين، صف لي المتّقين حتّى كأنّي أنظر إليهم؟)‏([4])

لقد كان سؤالا مهما جدا في ذلك الواقع.. وفي كل الواقع.. ذلك أن المتقين هم الصفوة الخالصة التي أرادها الله من عباده.. وقد تعرضوا لتشويه كبير.. فالكل صار يدعيها لنفسه ولمذهبه وطائفته.. فلذلك احتاجت إلى تحديد دقيق ليتميز الصافي من المزيف، والحقيقي من الوهمي.

لقد كنت تعرف صاحبك هماما.. وتعرف مدى تقواه وصلاحه وصدقه.. وتعرف فوق ذلك كله همته العلية.. وتعرف فوق ذلك كله حساسيته الشديدة عند سماع المواعظ المؤثرة.. فاكتفيت بأن قلت له: (يا همّام، اتّق اللّه وأحسن فـ {إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُون} [النحل:128])

لكن هماما لم تقنعه هذه الإجابة.. فراح يلح عليك أن تصفهم له وصفا دقيقا يحيط بهم من كل الجوانب، وينفي كل التحريفات والتلبيسات التي أصابت التقوى وأهلها.

حينها أخذت ـ بما آتاك الله من بلاغة وبيان ـ تريه مشاهد المتقين حية متحركة، ولم تكن تصف في الحقيقة إلا نفسك.. فلم تكن تلك المشاهد إلا تعبيرا حيا عنك، وعن شخصيتك الفذة، ونفسك الطاهرة، وروحك السامية.

عبودية المتقين:

لقد بدأت خطبتك سيدي بالحقائق العرفانية الممتلئة بالعبودية.. فأول صفة في المتقين هي عبوديتهم الخالصة لله، وافتقارهم التام إليه، ومعرفتهم بأن الله أغنى الأغنياء.. فلا تنفعه طاعة من أطاعه، ولا تضره معصية من عصاه..

لقد قلت له: (إنّ اللّه سبحانه وتعالى خلق الخلق- حين خلقهم- غنيّا عن طاعتهم، آمنا من معصيتهم، لأنّه لا تضرّه معصية من عصاه، ولا تنفعه طاعة من أطاعه، فقسم بينهم معايشهم، ووضعهم من الدّنيا مواضعهم) ([5])

ثم رحت سيدي تحلل صفاتهم وشخصيتهم من خلال تربية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لك، ومن خلال تدبرك للقرآن الكريم.. فقلت له ـ بعبارات جامعة ـ: (فالمتّقون فيها هم أهل الفضائل: منطقهم الصّواب، وملبسهم الاقتصاد، ومشيهم التّواضع، غضّوا أبصارهم عمّا حرّم اللّه عليهم، ووقفوا أسماعهم على العلم النّافع لهم، نزّلت أنفسهم منهم في البلاء كالّتي نزّلت في الرّخاء، ولو لا الأجل الّذي كتب اللّه عليهم، لم تستقرّ أرواحهم في أجسادهم طرفة عين، شوقا إلى الثّواب، وخوفا من العقاب) ([6])

هذه أول صفات المتقين.. وهي سعيهم وراء الفضائل.. ومسارعتهم لتحصيلها كما قال تعالى: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين} [آل عمران:133]، ولذلك فإنهم يعمرون كل جارحة من جوارحهم بطاعة الله تعالى.. فكلامهم ذكر.. وصمتهم فكر.. ولباسهم لباس المقتصدين، لا المترفين.. ومشيهم مشي المتواضعين، لا المختالين.. وآذانهم لا تسمع غيبة ولا نميمة.. وإنما أوقفوها على طلب العالم النافع.. وهممهم تطير بهم إلى العالم الآخر.. لا رغبة لها في الدنيا، ولا تثاقل منها إليها.

ثم ذكرت المحرك لكل تلك الكمالات.. فقلت: (عظم الخالق في أنفسهم، فصغر ما دونه في أعينهم،، فهم والجنّة كمن قد رآها، فهم فيها منعّمون، وهم والنّار كمن قد رآها، فهم فيها معذّبون)([7])

هذه هي الدوافع الكبرى التي حركت فيهم كل تلك الكمالات.. وأولها تعظيم الله، والذي تنشأ عنه كل المعارف والمواجيد الإيمانية التي تجعل المتقي لا يرمي من كل عمل يعمله إلا الله، والتقرب إليه.. وهو لذلك يعيش في صحبته، مكتفيا به، راضيا عنه، مطمئنا إليه، متيقنا بما عنده.

لقد ذكرت سيدي هذا الدافع العظيم كثيرا، واعتبرته الأصل، بل اعتبرت صاحبه حرا من كل غرض، فذكرت عند تصنيفك لأنواع العباد: (أن قوماً عبدوا الله رغبةً، فتلك عبادة التجار، وأن قوماً عبدوا الله رهبة، فتلك عبادة العبيد، وأن قوماً عبدوا الله شكراً، فتلك عبادة الأحرار)([8])

وفي دعائك المشهور الذي لا يزال محبوك يرددونه كل حين قلت: (يا إلهي وربّي، وسيّدي ومولاي، لأيّ الأمور إليك أشكو، ولم منها أضجّ وأبكي؟ لأليم العذاب وشدّته، أم لطول البلاء ومدّته؟ فلئن صيّرتني للعقوبات مع أعدائك، وجمعت بيني وبين أهل بلائك، وفرّقت بيني وبين أحبّائك وأوليائك، فهبني يا إلهي وسيّدي، ومولاي وربّي، صبرت على عذابك، فكيف أصبر على فراقك؟ وهبني يا إلهي صبرت على حرّ نارك، فكيف أصبر عن النظر إلى كرامتك؟ أم كيف أسكن في النار ورجائي عفوك؟ فبعزتك يا سيدي ومولاي أقسم صادقا، لئن تركتني ناطقا، لأضجّنّ إليك بين أهلها ضجيج الآملين، ولأصرخنّ إليك صراخ المستصرخين، ولأبكينّ إليك بكاء الفاقدين، ولأنادينّك أين كنت يا وليّ المؤمنين، يا غاية آمال العارفين، يا غياث المستغيثين، يا حبيب قلوب الصادقين، ويا إله العالمين؟)([9])

ولكن ذلك لا يعني تجاهل المتقين لما رغبهم الله فيه من الجنة، ولا لما رهبهم منه من النار.. ولذلك لا تراهم يأبهون للدنيا، لأنهم يعيشون الآخرة، فهم كمن دخل الجنة ورأى نعيمها، فهم ساعون جهدهم لتحصيله.. وهم كمن دخل النار، ورأى عذابها، فهم يفرون منها بفرارهم من معاصي الله.

لقد كنت تردد ذلك مرارا، لتملأ القلوب وجلا وهيبة ورغبة ورهبة.. وتملأ الجوارح بعدها حركة وتأثرا وتفاعلا..

ومن كلماتك التي وصلتنا، والتي لا نزال نسمعها ونتأدب بآدابها، قولك: (أيّها النّاس، اتّقوا اللّه الّذي إن قلتم سمع، وإن أضمرتم علم، وبادروا الموت الّذي إن هربتم منه أدرككم، وإن أقمتم أخذكم، وإن نسيتموه ذكركم)([10])

ومنها قولك في خطبتك في أول خلافتك: (الفرائض، الفرائض! أدّوها إلى اللّه تؤدّكم إلى الجنّة، إنّ اللّه حرّم حراما غير مجهول، وأحلّ حلالا غير مدخول، وفضّل حرمة المسلم على الحرم كلّها، وشدّ بالإخلاص والتّوحيد حقوق المسلمين في معاقدها، فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده إلّا بالحقّ، ولا يحلّ أذى المسلم إلّا بما يجب.. بادروا أمر العامّة وخاصّة أحدكم وهو الموت، فإنّ النّاس أمامكم، وإنّ السّاعة تحدوكم من خلفكم، تخفّفوا تلحقوا، فإنّما ينتظر بأوّلكم آخركم) ([11])

ومنها قولك في هذه الخطبة البليغة: (عباد اللّه، أوصيكم بتقوى اللّه، فإنّها حقّ اللّه عليكم، والموجبة على اللّه حقّكم، وأن تستعينوا عليها باللّه، وتستعينوا بها على اللّه، فإنّ التّقوى في اليوم الحرز والجنّة، وفي غد الطّريق إلى الجنّة، مسلكها واضح، وسالكها رابح، ومستودعها حافظ، لم تبرح عارضة نفسها على الأمم الماضين منكم، والغابرين‏ لحاجتهم إليها غدا، إذا أعاد اللّه ما أبدى، وأخذ ما أعطى، وسأل عمّا أسدى، فما أقلّ من قبلها، وحملها حقّ حملها، أولئك الأقلّون عددا، وهم أهل صفة اللّه سبحانه، إذ يقول: {وقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ}[سبأ: 13]

فأهطعوا بأسماعكم إليها، وألظّوا بجدّكم عليها، واعتاضوها من كلّ سلف خلفا، ومن كلّ مخالف موافقا، أيقظوا بها نومكم، واقطعوا بها يومكم، وأشعروها قلوبكم، وارحضوا بها ذنوبكم، وداووا بها الأسقام، وبادروا بها الحمام، واعتبروا بمن أضاعها، ولا يعتبرنّ بكم من أطاعها..ألا فصونوها وتصوّنوا بها، وكونوا عن الدّنيا نزّاها، وإلى الآخرة ولّاها، ولا تضعوا من رفعته التّقوى، ولا ترفعوا من رفعته الدّنيا، ولا تشيموا بارقها، ولا تسمعوا ناطقها، ولا تجيبوا ناعقها، ولا تستضيؤوا بإشراقها، ولا تفتنوا بأعلاقها، فإنّ برقها خالب، ونطقها كاذب، وأموالها محروبة، وأعلاقها مسلوبة.. ألا وهي المتصدّية العنون، والجامحة الحرون، والمائنة الخؤون، والجحود الكنود، والعنود الصّدود، والحيود الميود، حالها انتقال، ووطأتها زلزال، وعزّها ذلّ، وجدّها هزل، وعلوها سفل)‏([12])

عبادة المتقين:

ثم ذكرت علامات هؤلاء المتقين، فقلت: (قلوبهم محزونة، وشرورهم مأمونة، وأجسادهم نحيفة، وحاجاتهم خفيفة، وأنفسهم عفيفة، صبروا أيّاما قصيرة، أعقبتهم راحة طويلة، تجارة مربحة يسّرها لهم ربّهم، أرادتهم الدّنيا فلم يريدوها، وأسرتهم ففدوا أنفسهم منها)([13])

وهذا وصف طبيعي لمن امتلأ قلبه بتعظيم الله، وعظم شوقه للجنة، وما فيها من نعيم، وعظمت رهبته من النار، وما فيها من العذاب والحجاب.. فلا يمكن لقلب وعى تلك الحقائق، وعاشها، وشاهدها رأي العين، أن يستقر قلبه أو يتثاقل لأي متاع من متاع الدنيا.. بل قلبه دائما في حركة وشوق وألم وحزن، تتجاذبه جميعا لتملأه بالمكارم.

وبما أن الجسد تبع للقلب.. فإن جسد المتقين جسد نحيف.. لأنه لا يأكل من الدنيا إلا ما اضطر إليه.. فحاجاته فيها خفيفة، ونفسه عفيفة..

لقد ذكرت ذلك عن نفسك ـ سيدي ـ عندما لاحظوا عليك ذلك الزهد الشديد في متاع الدنيا، وأنت أمير المؤمنين، وبين يديك خزائن الأموال، فقلت لهم: (أأقنع من نفسي بأن يقال: هذا أمير المؤمنين، ولا أشاركهم في مكاره الدّهر؟ أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش، فما خلقت ليشغلني أكل الطّيّبات، كالبهيمة المربوطة همّها علفها، أو المرسلة شغلها تقمّمها، تكترش من أعلافها وتلهو عمّا يراد بها، أو أترك سدى أو أهمل عابثا، أو أجرّ حبل الضّلالة، أو أعتسف طريق المتاهة.. وكأنّي بقائلكم يقول: إذا كان هذا قوت ابن أبي طالب، فقد قعد به الضّعف عن قتال الأقران، ومنازلة الشّجعان؟! ألا وإنّ الشّجرة البرّيّة أصلب عودا، والرّواتع الخضرة أرقّ جلودا، والنّابتات العذية أقوى وقودا، وأبطأ خمودا!)([14])

ثم أخذت ـ سيدي ـ تصف ليل المتقين، وكيف يعمرونه بطاعة الله، فقلت: (أمّا اللّيل فصافّون أقدامهم، تالين لأجزاء القرآن، يرتّلونها ترتيلا، يحزنون به أنفسهم، ويستثيرون به دواء دائهم، فإذا مرّوا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعا، وتطلّعت نفوسهم إليها شوقا، وظنّوا أنّها نصب أعينهم، وإذا مرّوا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم، وظنّوا أنّ زفير جهنّم وشهيقها في أصول آذانهم، فهم حانون على أوساطهم، مفترشون لجباههم وأكفّهم، وركبهم وأطراف أقدامهم، يطلبون إلى اللّه تعالى في فكاك رقابهم)([15])

وهذا الوصف في الحقيقة لم يكن وصفا إلا لليك وليل الصادقين من أصحاب رسول الله الممتلئ بالعبادة.. والذين وصفتهم وصفا بليغا في خطبة من خطبك، فقلت: (لقد رأيت أصحاب محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، فما أرى أحدا يشبههم منكم! لقد كانوا يصبحون شعثا غبرا، وقد باتوا سجّدا وقياما، يراوحون بين جباههم وخدودهم، ويقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم! كأنّ بين أعينهم ركب المعزى من طول سجودهم! إذا ذكر اللّه هملت أعينهم حتّى تبلّ جيوبهم، ومادوا كما يميد الشّجر يوم الرّيح العاصف، خوفا من العقاب، ورجاء للثّواب)([16])

وقد وصف أبو الدرداء بعض ما رأى من عبادتك، فقال: (شهدت علي بن أبي طالب بشويحطات النجار، وقد اعتزل عن مواليه، واختفى ممن يليه، واستتر بمغيلات النخل، فافتقدته، وبعد عن مكانه، فقلت الحق بمنزله فإذا أنا بصوت حزين ونغم شجي، وهو يقول: (إلهي كم من موبقة حملت عن مقابلتها بنقمتك، وكم من جريرة تكرمت عن كشفها بكرمك.. إلهي إن طال في عصيانك عمري، وعظم في الصحف ذنبي، فما أنا مؤمل غير غفرانك، ولا أنا براج غير رضوانك).. فشغلني الصوت، واقتفيت الأثر، فإذا هو علي بن أبي طالب بعينه، فاستترت له وأخملت الحركة، فركع ركعات في جوف الليل الغامر، ثم فرغ إلى الدعاء والبكاء، والبث والشكوى، فكان مما ناجى به الله تعالى أن قال: (إلهي أفكر في عفوك، فتهون علي خطيئتي، ثم أذكر العظيم من أخذك، فتعظم علي بليتي)، ثم قال (آه إن أنا قرأت في الصحف سيئة أنا ناسيها، وأنت محصيها، فتقول: خذوه، فيا له من مأخوذ لاتنجيه عشيرته، ولا تنفعه قبيلته ولا يرحمه الملأ إذا أذن فيه بالنداء)، ثم قال (آه من نار تنضج الأكباد والكلى، آه من نار نزاعة للشوى، آه من لهبات لظى)، ثم أمعن في البكاء([17]).

وحدث صاحبك نوف البكالى قال: (بت ليلة عند أمير المؤمنين، فكان يصلي الليل كله، ويخرج ساعة بعد ساعة، فينظر إلى السماء، ويتلو القرآن، فمر بي بعد هدوء من الليل فقال: يا نوف أراقد أنت أم رامق؟ قلت: بل رامق أرمقك ببصري يا أمير المؤمنين.. قال: يا نوف طوبى للزاهدين في الدنيا، الراغبين في الآخرة، أولئك الذين اتخذوا الأرض بساطاً، وترابها فراشاً، وماءها طيباً، والقرآن دثاراً، والدعاء شعاراً، وقرضوا من الدنيا تقريضاً على منهاج عيسى بن مريم..)([18])

أما قيام الليل، فقد حدثت عن نفسك قلت: (ما تركت صلاة الليل منذ سمعت قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (صلاة الليل نور)، فقال ابن الكواء: ولا ليلة الهرير!؟ فقلت: (ولا ليلة الهرير)([19])

ثم رحت ـ سيدي ـ تصف نهار المتقين، وهو نهار ممتلئ بالحياة والإيجابية والتأثير، فقلت: (وأمّا النّهار فحلماء علماء، أبرار أتقياء، قد براهم الخوف بري القداح، ينظر إليهم النّاظر فيحسبهم مرضى، وما بالقوم من مرض، ويقول: لقد خولطوا، ولقد خالطهم أمر عظيم. لا يرضون من أعمالهم القليل، ولا يستكثرون الكثير، فهم لأنفسهم متّهمون، ومن أعمالهم مشفقون، إذا زكّي أحد منهم، خاف ممّا يقال له، فيقول: أنا أعلم بنفسي من غيري، وربّي أعلم بي منّي بنفسي، اللّهمّ لا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني أفضل ممّا يظنّون، واغفر لي ما لا يعلمون) ([20])

لا يمكنني ـ سيدي ـ أن أعبر عن مقاصد كل كلمة من هذه الكلمات، فكل كلمة منها بحر من بحار العلم.. وفيض من فيوضات الحكمة.. بل هي ترجمة لما ورد في القرآن الكريم من أوصف عباد الله الممتلئين بالتواضع، كما قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65)} [الفرقان:63-65]

قوة المتقين:

ثم رحت ـ سيدي ـ تصحح تلك المفاهيم الخاطئة التي تصور المتقين بصورة الضعفاء الذين لا أثر لهم في الحياة ولا تأثير.. فقلت: (فمن علامة أحدهم: أنّك ترى له قوّة في دين، وحزما في لين، وإيمانا في يقين، وحرصا في علم، وعلما في حلم، وقصدا في غنى، وخشوعا في عبادة، وتجمّلا في فاقة، وصبرا في شدّة، وطلبا في حلال، ونشاطا في هدى، وتحرّجا عن طمع) ([21])

الله.. الله.. ما كل هذه الحكمة.. وهل يطيق أي لسان أن يشرحها، ويعبر عن الحقائق العظيمة التي تختزنها؟

إنها كتاب كامل في السلوك والتوازن والتربية.. فالشخصية المسلمة تجمع القوة بجميع معانيها.. قوة الدين.. وقوة الإيمان.. وقوة العلم.. وقوة الأخلاق.. وقوة التأثير.

إن حديثك هذا هو أحسن شرح وبيان لقوله تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ } [الأنفال:60]، فالقوة في الآية الكريمة لا تعني قوة الجسد فقط.. بل تعني قوة الروح والعقل والنفس وكل الملكات التي وهبها الله الإنسان.

وحديثك هذا شرح وتفسير وتطبيق لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احْرِصْ على ما يَنْفَعُكَ واسْتَعِنْ بِالله ولا تَعْجِزْ، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قَدَّرَ الله وما شاء فَعَلَ، فإنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشيطان)([22])

وقد كنت ـ سيدي ـ رمزا ومثالا لهذه القوة العجيبة التي اجتمع لها كل أنواع القوى.. فقد كنت عالما حكيما حليما زاهدا.. صاحب تؤدة وأناة.. وكنت في نفس الوقت شجاعا بطلا يهابك الفرسان، ولا يقدرون على مواجهتك..

ثم رحت سيدي تفصل نواحي القوة في الشخصية المسلمة، فذكرت أن صاحبها (يعمل الأعمال الصّالحة، وهو على وجل، يمسي وهمّه الشّكر، ويصبح وهمّه الذّكر، يبيت حذرا، ويصبح فرحا، حذرا لما حذّر من الغفلة، وفرحا بما أصاب من الفضل والرّحمة، إن استصعبت عليه نفسه فيما تكره، لم يعطها سؤلها فيما تحبّ، قرّة عينه فيما لا يزول، وزهادته فيما لا يبقى) ([23])

وهذا نفسه وصف الله تعالى للمتقين، فقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُون} [المؤمنون:60]

وقد كان هذا هو قلبك ـ سيدي ـ فمع كل أعمالك الصالحة التي تنوء بها الجبال، كنت تردد: (اللّهمّ إنّي أسألك سؤال خاضع متذلّل خاشع، أن تسامحني وترحمني، وتجعلني بقسمك راضيا قانعا، وفي جميع الأحوال متواضعا.. اللّهمّ وأسألك سؤال من اشتدّت فاقته، وأنزل بك عند الشدائد حاجته، وعظم فيما عندك رغبته.. اللّهمّ عظم سلطانك، وعلا مكانك، وخفي مكرك، وظهر أمرك، وغلب قهرك، وجرت قدرتك، ولا يمكن الفرار من حكومتك.. اللّهمّ لا أجد لذنوبي غافرا، ولا لقبائحي ساترا، ولا لشي‏ء من عملي القبيح بالحسن مبدّلا غيرك، لا إله إلّا أنت، سبحانك وبحمدك، ظلمت نفسي، وتجرّأت بجهلي، وسكنت إلى قديم ذكرك لي، ومنّك عليّ.. اللّهمّ مولاي، كم من قبيح سترته، وكم من فادح من البلاء أقلته، وكم من عثار وقيته، وكم من مكروه دفعته، وكم من ثناء جميل لست أهلا له نشرته.. اللّهمّ عظم بلائي، وأفرط بي سوء حالي، وقصرت بي أعمالي، وقعدت بي أغلالي، وحبسني عن نفعي بعد آمالي، وخدعتني الدنيا بغرورها، ونفسي بجنايتها، ومطالي يا سيدي، فأسألك بعزتك ألّا يحجب عنك دعائي سوء عملي وفعالي، ولا تفضحني بخفيّ ما اطّلعت عليه من سرّي، ولا تعاجلني بالعقوبة على ما عملته في خلواتي، من سوء فعلي وإساءتي، ودوام تفريطي وجهالتي، وكثرة شهواتي وغفلتي، وكن اللّهمّ بعزتك لي في كلّ الأحوال رءوفا، وعليّ في جميع الأمور عطوفا)([24])

سلوك المتقين:

ثم رحت ـ سيدي ـ تبين من علامات المتقين ذلك السلوك الرفيع الذي يسلكونه مع نفوسهم أو مع الناس.. وهو سلوك في قمة قمم الأدب والروحانية والتسامي.. فالمتقي ـ كما تصوره ـ هو من (يمزج الحلم بالعلم، والقول بالعمل، تراه قريبا أمله، قليلا زلـلـه، خاشعا قلبه، قانعة نفسه، منزورا أكله، سهلا أمره، حريزا دينه، ميّتة شهوته، مكظوما غيظه، الخير منه مأمول، والشّرّ منه مأمون، إن كان في الغافلين كتب في الذّاكرين، وإن كان في الذّاكرين لم يكتب من الغافلين) ([25])

وهو في سلوكه الاجتماعي مع الناس (يعفو عمّن ظلمه، ويعطي من حرمه، ويصل من قطعه، بعيدا فحشه، ليّنا قوله، غائبا منكره، حاضرا معروفه، مقبلا خيره، مدبرا شرّه، في الزّلازل وقور، وفي المكاره صبور، وفي الرّخاء شكور، لا يحيف على‏ من يبغض، ولا يأثم فيمن يحبّ، يعترف بالحقّ قبل أن يشهد عليه) ([26])

وهو بعيد عن كل تلك الرذائل التي يقع فيها غيره، فهو (لا يضيع ما استحفظ، ولا ينسى ما ذكّر، ولا ينابز بالألقاب، ولا يضارّ بالجار، ولا يشمت بالمصائب، ولا يدخل في الباطل، ولا يخرج من الحقّ، إن صمت لم يغمّه صمته، وإن ضحك لم يعل صوته، وإن بغي عليه صبر حتّى يكون اللّه هو الّذي ينتقم له) ([27])

أما نفسه فهي (منه في عناء، والنّاس منه في راحة، أتعب نفسه لآخرته، وأراح النّاس من نفسه، بعده عمّن تباعد عنه زهد ونزاهة، ودنوّه ممّن دنا منه لين ورحمة، ليس تباعده بكبر وعظمة، ولا دنوّه بمكر وخديعة) ([28])

وهكذا كان سلوكك سيدي.. فأنت لم تكن تصف سوى شخصيتك النبيلة الممتلئة بالمكارم.. لقد حدثنا المؤرخون أنك كنت بعد أن تصلي الفجر تظل تذكر الله إلى أن تطلع الشمس، فإذا طلعت اجتمع إليك الفقراء والمساكين وغيرهم من الناس، فتعلّمهم الفقه والقرآن..

وذات يوم مر على مجلسك رجل، فرماك بما تعود النواصب أن يرموك به من كلمات شديدة، هي بنات ضغائن قلوبهم.. لكنك سيدي.. وأنت أمير المؤمنين.. لم تتأثر، وإنما قمت، وقلت: (أيّها الناس إنّه ليس شي‏ء أحبّ إلى الله ولا أعمّ نفعا من حلم إمام وفقهه، ولا شي‏ء أبغض إلى الله ولا أعمّ ضررا من جهل إمام وخرقه، ألا وإنّه من لم يكن له من نفسه واعظ لم يكن له من الله حافظ. ألا وإنّه من أنصف من نفسه لم يزده الله إلّا عزّا. ألا وإنّ الذلّ في طاعة الله أقرب إلى الله من التعزّز في معصيته)([29])

وهكذا كان حلمك مع أعدائك الذين يحاربونك، وينازعونك الأمر، فقد ذكر المؤرخون أنه في معركة صفين غلب معاوية على ماء الفرات، ومنع جيشك من الماء، لكنك بعد أن ان انتصرت عليه، وصار الماء في يدك، وكان في إمكانك أن تمنعه عنهم، لم تفعل، وإنما خاطبت جيشك قائلا: (خذوا من الماء حاجتكم وخلوا عنهم فإنَّ الله نصركم ببغيهم وظلمهم)([30])

وهكذا كان حلمك مع الجماعة التي دبرت لقتلك.. فأنت لم تحكم عليهم جميعا بالقتل، وإنما رحت، وأنت في غمرات الموت تحذر من أن يقتل بك غير قاتلك.. لقد قلت لهم: (يا بني عبد المطّلب، لا ألفينّكم تخوضون دماء المسلمين خوضا، تقولون: قتل أمير المؤمنين، ألا لا تقتلنّ بي إلّا قاتلي.. انظروا إذا أنا متّ من ضربته هذه، فاضربوه ضربة بضربة، ولا تمثّلوا بالرّجل؛ فإنّي سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إيّاكم والمثلة! ولو بالكلب العقور)‏([31])

وكما كنت حليما لا يضيق صدرك، فقد كنت كريما لا يضيق جيبك بأي سائل، ففي الوقت الذي اغتنى فيه الكثير، وصارت أموالهم لا تعد ولا تحصى، بل صار ذهبهم يقسم بالفؤوس كنت أنت لا تزال على حالك القديم الذي تركك عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..

لأنك سيدي كنت لا تمسك شيئا من مال يأتيك.. وقد حدث سالم الجحدري قال: (شهدت عليّ بن أبي طالب أتي بمال عند المساء، فقال: اقتسموا هذا المال، فقالوا: قد أمسينا يا أمير المؤمنين فأخّره إلى غد. فقال لهم: تقبلون لي أن أعيش إلى غد؟ قالوا: ما ذا بأيدينا؟ فقال: لا تؤخّروه حتّى تقسّموه)([32])

بل إنك تجاوزت الكرم بمراحل عديدة.. فأنت صاحب الإيثار الذي يحرم نفسه ليطعم المحتاجين.. وقد نزل فيك وفي أهل بيتك ([33]) قوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُورًا} [الإنسان:8-9]


([1]) نهج البلاغة: الخطبة رقم(195)

([2]) نهج البلاغة: الخطبة رقم(230)

([3]) هو همام بن عبادة بن خيثم، وهو من الصادقين المشهورين بحبهم وموالتهم للإمام علي، وقد توفي في عهده بين عام 37 هجرية الى عام 40.

([4]) نهج البلاغة: الخطبة رقم(193)

([5]) نهج البلاغة: الخطبة رقم(193)

([6]) نهج البلاغة: الخطبة رقم(193)

([7]) نهج البلاغة: الخطبة رقم(193)

([8]) تذكرة الخواص لبسط ابن الجوزي ص144..

([9]) وهو جزء من دعاء له معروف بدعاء (كميل)، انظر: مستدرك نهج البلاغة للمحمودي: ج 6 ص 148- 161 .

([10]) نهج البلاغة: الحكمة(203)

([11]) نهج البلاغة: الخطبة رقم(167)

([12]) نهج البلاغة: الخطبة رقم(191).

([13]) نهج البلاغة: الخطبة رقم(193)

([14]) نهج البلاغة: الكتاب رقم(45)

([15]) نهج البلاغة: الخطبة رقم(193)

([16]) نهج البلاغة: الخطبة رقم(97)

([17]) مناقب آل أبي طالب ج1 ص389..

([18]) نهج البلاغة باب الحكم رقم 104.

([19]) البحار ج41 ص17.

([20]) نهج البلاغة: الخطبة رقم(193)

([21]) نهج البلاغة: الخطبة رقم(193)

([22]) رواه مسلم (2664).

([23]) نهج البلاغة: الخطبة رقم(193)

([24]) وهو جزء من دعاء له معروف بدعاء (كميل)، انظر: مستدرك نهج البلاغة للمحمودي: ج 6 ص 148- 161 .

([25]) نهج البلاغة: الخطبة رقم(193)

([26]) نهج البلاغة: الخطبة رقم(193)

([27]) نهج البلاغة: الخطبة رقم(193)

([28]) نهج البلاغة: الخطبة رقم(193)

([29]) بحار الأنوار: ج41 ص132.

([30]) تاريخ ابن الأثير: 3/167.

([31]) نهج البلاغة: الكتاب رقم(47)

([32]) بحار الأنوار: ج 40، ص 321.

([33]) أسد الغابة: 5/530..

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *