الاستبداد.. وهيبة الدولة

من المفاهيم الخاطئة التي أشاعها الإعلام المغرض والأيادي الخبيثة المحركة للفتنة تلك المفاهيم المرتبطة بالاستبداد.. فالدولة المستبدة عندهم، وبحسب الطرح الذي يطرحونه: هي تلك الدولة التي تمسك بزمام أمرها في الداخل والخارج، وتفرض هيبتها وسيادتها على رعيتها، كما تفرضها قبل ذلك وبعده على أي جهة تسول لها نفسها التدخل في شؤونها.
وقد نشأ عن هذه المفهوم مفاهيم فرعية كثيرة لا يؤدي تطبيقها على أرض الواقع إلا إلى الفوضى، والخراب للدولة عاجلا أو آجلا.
ولا يمكننا هنا أن نناقش تلك المفاهيم الفرعية، لأنها كثيرة، ومتشعبة، ويتولد بعضها من بعض.. ولذلك نكتفي بالتحقيق في مفهوم الاستبداد.. وهل ما نراه من بسط الدولة لسلطتها وهيبتها على رعيتها استبداد أم نظام؟.. وهل الدولة غير المستبدة هي تلك اللينة المطواعة التي تتماهى قوانينها مع مزاج شعبها ورغباته؟.. أم أنها تلك التي تخطط لنفسها، ويخطط لها حكماؤها تخطيطا استراتيجيها بعيد المدى يحقق لها التطور والسيادة، ولو على حساب تلك الأمزجة الآنية المحدودة التي يريد عوام الناس فرضها.
والإجابة على هذا السؤال بحسب ما يدل عليه العقل والواقع بل حتى النصوص المقدسة هو أن فرض الدولة لهيبتها ليس استبدادا، بل هو واجب شرعي، لا يمكن للدولة أن تقوم من دونه، بل هي إن غفلت عن ذلك، فستعيش الفوضى في الداخل، ويطمع أعداؤها فيها في الخارج.
أما دلالة العقل على هذا؛ فيمكن التعرف عليها بتأمل بسيط، فالدولة كيان مثل الإنسان الذي لديه عقل وعواطف وغرائز.. ولديه نفس لوامة وأخرى أمارة وأخرى مطمئنة.. ورأس الدولة في كل هذه اللطائف والطاقات هو العقل.. فإن استسلم العقل للعواطف الباردة، والغرائز الناشزة، والأهواء المتقلبة لم يعد عقلا، بل صار مجرد أداة للشهوات، وليس أداة تعقل صاحبها عن كل سلوك مشين، أو خطر قادم.
وهكذا الدولة إن خضع حكماؤها وأهل الرأي فيها لما يطلبه غلمانها وعوامها ودهماؤها، تتحول إلى دولة فاشلة، لا نظام يحكمها، ولا عدل يستتب فيها.
وأما دلالة الواقع على هذا؛ فيمكن التعرف عليها من خلال ذلك النموذج الذي يحرص الإسلاميون دائما على تبنيه والدفاع عنه، فأردوغان قام بحملات اعتقال واسعة عقب الانقلاب الفاشل الذي حصل له، وشملت تلك الاعتقالات عشرات الآلاف من الأساتذة والإعلاميين والشرطة والجيش، ومورست معهم كل ألوان الإهابة، ومع ذلك لم نجد الجزيرة، ولا الإخوان يعترضون عليها، وهم الذين تقوم قائمتهم عند اعتقال أي معارض في أي دولة لا يتفقون معها، بل إنهم يكفرون الرئيس المصري الحالي بسبب اعتقاله للمتمردين الذي رفضوا القبول به حاكما.. بينما يقبلون من أردوغان أن يعتقل بل يحكم بالمؤبد على من يتهمهم بعدم قبول شرعيته.
أما دلالة النصوص المقدسة على هذا؛ فقد فرق القرآن الكريم بين طغيان فرعون المستكبر المستعلي الذي كان يقتل الرجال، ويستحيي النساء والأطفال، وبين الحكام العادلين الذين قص علينا قصصهم.
ومن الخصال التي نراها فيهم بوضوح تلك القوة والهيبة التي تدل على أنه لا يمكن أن تقوم الدولة بدونهما، فالله تعالى حكى عن سليمان عليه السلام أنه كان يتفقد رعيته، وكان يحزم معها في حال تخلفها عن أداء واجباتها، قال تعالى: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ } [النمل: 20، 21]
وحكى عن موسى عليه السلام شدته مع أخيه هارون بسبب عدم فرضه لسلطته على قومه بعد غيابه عنهم، قال تعالى: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأعراف: 150]
وحكى عن ذي القرنين قوله: { أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا } [الكهف: 87، 88]
وهكذا لو تتبعنا الأحكام الشرعية، فإننا سنجد فيها الكثير من الأدلة المثبتة لذلك، فهي كلها تحض على النظام والحزم، ولذلك اعتبرت الحديث في الوقت الذي يخطب فيه الإمام مؤثرا في صحة الجمعة، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة: أنصت، والإمام يخطب فقد لغوت)([1])
بل ورد في رواية أخرى ما هو أشد من ذلك، فقد اعتبر صلى الله عليه وآله وسلم مجرد العبث وقت الخطبة بالحصى وغيره مؤثرا في صحة الجمعة، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من مس الحصى فقد لغا)([2])
وبناء على هذا وغيره، فإن الطرح الذي يتبناه بعض الإسلاميين من تمريغ هيبة الدولة في التراب، ونقد كل شيء، ومعارضة كل ما يخالف أمزجتهم، لا علاقه له بدين، ولا بعقل، ولا بواقع، بل هي دعاوى خبيثة شيطانية ليس لها من دور سوى إشاعة الخراب والفتنة في الأمة.
والأخطر من ذلك كله تهيئتها للحرب الناعمة.. لأنها لا تبحث إلا عن تلك الأصوات التي تملأ القلوب أحقادا لتستثمرها في زراعة الفتن.
ولهذا فإن مواجهة الدولة السورية لمن
يتظاهرون تحت راية إسقاط النظام مواجهة شرعية، فهؤلاء خونة، ولا علاقة لهم بالسلم،
فالمسالم يطالب بالحوار، لا بإسقاط النظام، والمسالم هو ذلك الذي يحافظ على علم
بلده، باعتباره رمز الوحدة والسيادة، وليس الذي يغير علمه كما يشاء، وكما يُملى
عليه.
([1]) رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن.
([2]) رواه مسلم.