الإسلاميون.. والشرعية المقدسة

المشكلة الأكبر لدى الإسلاميين حركييهم وسلفييهم، والتي تنبع منها جميع المشاكل والأخطاء التي يقعون فيها هي اعتبار أنفسهم جماعة المسلمين، لا جماعة من المسلمين، ولذلك يتصورون أن لهم شرعية إلهية مقدسة، كتلك الشرعية التي كانت للأنبياء والمرسلين، وهم يشعرون ـ لأجل ذلك ـ أنهم أصحاب الحق المطلق، الذين يجب على الغير اتباعهم، ولا يجب عليهم اتباع أحد.
وبناء على هذا يصفون كل مخالف لهم بكونه مخالفا للإسلام، سواء كان طريقة صوفية، أو مؤسسة علمية، أو جمعية خيرية، أو فرقة من فرق المسلمين.. فبوصلة الضلال عندهم هي مخالفتهم، وبوصلة الحقيقة لديهم هي موافقتهم.. ولذلك يذكرون من حيث لا يشعرون بأنهم قسماء للجنة والنار.. فمن أحبهم دخل الجنة، ومن أبغضهم أو نقدهم أو خالفهم دخل النار.
ولهذا نراهم لا يحترمون أي طيف من أطياف المجتمع المسلم، فالأزهر عندهم مع كثرة علمائه وباحثيه وطلبته مدان، بسبب بسيط، وهو أن شيخه جلس مع من أخرجهم من الحكم، والمفتي الذي ينتسب إليه، أفتى بمواجهتهم، وضرب المتمردين منهم بالمليان.. ولو أنه سار على خطهم، وتحدث بمقولاتهم، ورفع صور زعمائهم لتحول بين عشية وضحاها إلى ولي من أولياء الله، وسادن من سدنة المعبد.
وهكذا هو موقفهم من الطرق الصوفية الكثيرة، والتي تنتشر في كل المجتمعات الإسلامية، وهي من الكثرة بحيث لا تساوي معها الجماعات الإسلامية شيئا.. لكن هؤلاء الإسلاميين ينظرون إليها بتقزز؛ فلا يتقربون منها، ولا يحاورونها، ولا يعتبرونها أخا في الدين، ولا شريكا في الوطن.. بل يستعلون عليها، ويسخرون منها، ويتصورون أنها دائما على الباطل المجرد، كما أنهم على الحق المجرد، بل يتصورون أنها مؤامرة من الحكام عليهم لإسقاطهم، وإسقاط مشروعيتهم ومشاريعهم.
ونفس الموقف يقفونه مع عوام الناس، أو خاصتهم الذين لم يقتنعوا بممارساتهم، فلم ينظموا إلى تنظيماتهم، ولم يتربوا في أسرهم، ولم يتعلموا من مراجعهم، ولم يبايعوا قادتهم.. فإن هؤلاء عندهم مبتدعة منحرفون لا يفهمون الإسلام، فالفهم الصحيح للإسلام بحسب ما يتصورون مرتبط بمن جلس إليهم، وشهدوا له بذلك.
ولذلك نرى قامات كبيرة في العلم والدين محتقرة لديهم، ولا يستفيدون منها، بل لا يعرف أكثرهم أسماءها لسبب بسيط وهو أنها لم تقر لهم بتلك الشرعية المقدسة، بل اعتبرتهم مجرد جماعة من المسلمين، لا جماعة المسلمين.
وهكذا الأمر مع طوائف المسلمين من الشيعة والإباضية وغيرهما، حيث لا نجد لهم عند هذه الجماعات إلا التبديع والتضليل والتكفير والاحتقار واعتبارهم دخلاء على الإسلام، لسبب بسيط أيضا، وهو أنهم هم وحدهم الأصلاء، وغيرهم ماركات مزورة لا قيمة لها.
وما نقوله ليس رأيا أو تحليلا، بل هو الحقيقة التي ينطقون بها كل حين، بل يصيحون بها في وجوه المخالفين لهم بعنف وتهديد بالحرمان في الآخرة من الجنة التي لم تُعد إلا لهم ولأتباعهم، وللذين يغلقون عقولهم حين يستمعون إليهم.
وقد عبر عن هذه الحقيقة الكثير من أعلامهم، ومنهم سعيد حوى الذي كان من أكبر الدعاة إلى ما حصل في فتنة حماه في سورية، وقد قال في كتابه [المدخل إلى دعوة الإخوان المسلمين] معبرا عن هذا المعنى: (إن هذه المعاني تكاد تكون من لباب دعوة الإخوان المسلمين ولذلك فإننا في هذا المدخل استقرأنا النصوص لنصل إلى مواصفات جماعة المسلمين وبرهنا على أنها موجودة في دعوة الاستاذ البنا)([1])
وقال: (ولأن الإنسان إذا عرف هذه الجماعات وعرف الإخوان وطبق على الجميع الميزان الذي ذكرناه هنا فإنه سيصل إلى أن حركة الإخوان المسلمين هي الجماعة التي ينبغي على المسلم ان يضع يده في يدها)([2])
بل وصف المخالفين لهم بكونهم أصحاب أفكار مريضة، لأنها لم تتداو بترياق الإخوان، فقال: (ثم إنه قد نبتت هنا وهناك أفكار مريضة تريد أن تتخلص من دعوة حسن البنا ومن أفكاره فكان لا بد أن يعرف هؤلاء وغيرهم أن الانطلاقة على غير فكر الاستاذ البنا في عصرنا قاصرة أو مستحيلة أو عمياء، إذا ما أردنا عملاً كاملاً متكاملاً في خدمة الإسلام والمسلمين)([3])
وقال: (ونعتقد أنه لا جماعة كاملة للمسلمين إلا بفكر الأستاذ البنا ونظرياته وتوجيهاته)([4])
بل إنه راح يطبق عليها الآيات الواردة في الإمامة والتمكين، فقال: (إن الجماعة بعد سيرها الطويل وتحملها الكثير أصبحت تاريخيا هي وحدها صاحبة الحق في الإمامة، ولا نزكي على الله أحداً، قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24])([5])
وبناء على ذلك كله راح يحرم الخروج عليها، أو عدم الانتساب إليها، فقال: (وإذا كانت هذه الجماعة هذه شأنها فلا يجوز الخروج عليها، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه)([6])([7])
وبناء على هذا لا نتعجب من القرضاوي حين يتحدث، وكأنه نبي من الأنبياء، بل كأنه خاتم الأنبياء، وقد سمعناه جميعا كيف يستغل موسم الحج في أكتوبر 2012 ليطلب في خطبة له من المسلمين ـ الذين يشعر أنهم أتباعه ـ الدعاء على إيران باعتبارها من أعداء الأمَة، ولحيلولتها دون التدخل العسكري الخارجي في سورية، أو التدخل التكفير الإرهابي فيها.
ولا نعجب كذلك من موقفهم من جميع المؤسسات المصرية ابتداء من نظامها إلى جيشها إلى أزهرها إلى شركاتها.. فكلها عندهم بلطجية وفلول، لسبب بسيط، وهو أنها لم تساندهم في مواقفهم.. فهم يعتبرون أنفسهم المعيار الذي توزن بها الحقائق والمواقف، ومنه يحدد الإيمان والكفر.
ونفس الأمر نجده عند الطوائف السلفية بمختلف أشكالها، فكلها تدعي الحقيقة المطلقة، وكلها تنظر إلى المخالفين لها باعتبار مخالفين لله نفسه، ولهذا نجدهم في نصائحهم للمخالفين يذكرونهم بالموت، وبمسألة الله لهم، متناسين أنهم أيضا سيموتون ويحاسبون ويسألون.. لكنهم ولفرط أنانيتهم يشعرون أنهم في القيامة سيكون أساتذة يَمتحنون، لا طلابا يُمتحنون.
وقد عبر عن هذا المعنى شعارهم الذي استفادوه من شيخهم الأكبر ابن بطة (المتوفى: 387هـ)، والذي قال: (من لم يكن معنا فهو علينا)([8])
ولهذا فإن هذا الاتجاه وضع منظومة محددة اعتبر كل من خرج عليها مبتدعا ضالا أو كافرا مرتدا، أو كما عبر عن ذلك أبو محمد الحسن البربهاري (المتوفى: 329هـ)، وهو من كبار المؤسسين لهذا الاتجاه، حيث ألف رسالة في (شرح السنة)، قال في خاتمتها: (فمن أقر بما في هذا الكتاب وآمن به واتخذه إماما، ولم يشك في حرف منه، ولم يجحد حرفا واحدا، فهو صاحب سنة وجماعة، كامل، قد كملت فيه السنة، ومن جحد حرفا مما في هذا الكتاب، أو شك في حرف منه أو شك فيه أو وقف فهو صاحب هوى. ومن جحد أو شك في حرف من القرآن، أو في شيء جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لقي الله تعالى مكذبا، فاتق الله واحذر وتعاهد إيمانك)([9])
وقال في موضع آخر من الكتاب: (وجميع ما وصفت لك في هذا
الكتاب، فهو عن الله، وعن رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم، وعن أصحابه وعن
التابعين، والقرن الثالث إلى القرن الرابع، فاتق الله يا عبد الله، وعليك بالتصديق
والتسليم والتفويض والرضى لما في هذا الكتاب، ولا تكتم هذا الكتاب أحدا من أهل
القبلة، فعسى يرد الله به حيرانا عن حيرته، أو صاحب بدعة من بدعته، أو ضالا عن
ضلالته، فينجو به.. فاتق الله، وعليك بالأمر الأول العتيق، وهو ما وصفت لك في هذا الكتاب،
فرحم الله عبدا، ورحم والديه قرأ هذا الكتاب، وبثه وعمل به ودعا إليه، واحتج به،
فإنه دين الله ودين رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم، فإنه من انتحل
شيئا خلاف ما في هذا الكتاب، فإنه ليس يدين لله بدين، وقد رده كله، كما لو أن عبدا
آمن بجميع ما قال الله تبارك وتعالى، إلا أنه شك في حرف فقد رد جميع ما قال الله
تعالى، وهو كافر، كما أن شهادة أن لا إله إلا الله لا تقبل من صاحبها إلا بصدق
النية وخالص اليقين، كذلك لا يقبل الله شيئا)([10])
([1]) المدخل إلى دعوة الإخوان المسلمين، سعيد حوى، مكتبة وهبة، القاهرة، ص: 16.
([2]) المرجع السابق، ص: 26.
([3]) في آفاق التعاليم، سعيد حوى، دار عمار للنشر، ص7.
([4]) جولات في الفقهين الكبير والأكبر، سعيد حوى، دار السلام، القاهرة، ص79.
([5]) المدخل إلى دعوة الإخوان المسلمين، ص: 294 .
([6]) مسند أحمد، ج28، ص406.
([7]) من أجل خطوة إلى الأمام، سعيد حوى، مكتبة طبعة وهبة للنشر، ط1، ص40.
([8]) الإبانة الكبرى، ج2، ص 474.
([9]) شرح السنة، ص: 132.
([10]) المرجع السابق، ص: 103.