إيران.. والقيم الروحية

ربما يكون الاهتمام بالجوانب الروحية هو السمة البارزة في إيران منذ بداية الإسلام إلى اليوم، ذلك أن أكبر مشايخ السلوك، وأكثر التراث الروحي، ما كان منه من المدرسة السنية أو المدرسة الشيعية كانت له علاقة بإيران، ومدنها.
فالجنيد وأبو يزيد البسطامي والسرّاج الطوسي وأبو علي الدقاق النيسابوري وأبو القاسم القشيري والغزالي والكاشاني وصدر المتألهين وحيدر الآملي وفريد الدين العطار وابن تركة وغيرهم كثير هم من أبناء إيران.
وهكذا فإن أكثر التراث الصوفي، وخاصة المصادر الأولى منه، نجدها ألفت في إيران، ومن أمثلتها إحياء علوم الدين للغزالي، والمحجة البيضاء للكاشاني، واللمع للطوسي، والرسالة للقشيري، وتمهيد القواعد لابن تركة، والأسفار لصدر المتألهين.. وغيرها من الكتب التي تشكل المصادر الكبرى للعرفان والتصوف والحياة الروحية في الإسلام.
ولا نبالغ إن قلنا بأن هذا الجانب في حياة الإيرانيين هو الذي أتاح لهم الانتصار على ذلك الاستبداد الذي عاشوه في ظلال الشاه، وغيره من الطواغيت، ذلك أن الخميني كان يمتلك جميع المواصفات الروحية التي يخضع لمثلها الإيرانيون.. فقد جمع مع تلك المواصفات الروحية الأبعاد السياسية والثورية التي قلما نجدها تجتمع في شخص واحد.
ولهذا، فإننا عندما نطالع تراث الخميني، أو نستمع إلى خطبه ودروسه المسجلة، نجده يهتم بالجوانب الروحية، أكثر من اهتمامه بأي جانب آخر، حتى في أحلك الأزمات السياسية، كان يوجه خطابه الروحي لشعبه، مفعما بالحياة، والرقة والجمال.
ومن الأمثلة على ذلك قوله في مخاطبة مريده: (أيها العزيز… اجتهد لتصبح ذا عزم وإرادة، فإنك إذا رحلت من هذه الدنيا دون أن يتحقق فيك العزم، فأنت إنسان صوري، بلا لب، ولن تحشر في ذلك العالم على هيئة إنسان، لأن ذلك العالم هو محل كشف الباطن وظهور السريرة، وإن التجرؤ على المعاصي يفقد الإنسان تدريجيا، العزم ويختطف منه هذا الجوهر الشريف.. تجنب المعاصي، واعزم على الهجرة إلى الحق تعالى، وأجعل ظاهرك ظاهرا إنسانيا، وادخل في سلك أرباب الشرائع، واطلب من الله تعالى في الخلوات العون على بلوغ هذا الهدف واستشفع برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام حتى يوفقك الله على ذلك، ويعصمك من المزالق التي تعترضك، لأن هناك مزالق كثيرة تعترض الإنسان أيام حياته، ومن الممكن أنه في لحظة واحدة يسقط في مزلق مهلك، يعجز من السعي لإنقاذ نفسه، بل قد لا يهتم بإنقاذ نفسه، بل ربما لا تشمله حتى شفاعة الشافعين. نعوذ بالله منها)([1])
ويقول له: (أيها العزيز؛ كن ذاكرا لعظمة ربك، وتذكر نعمه وألطافه، وتذكر أنك في حضرته، وهو شاهد عليك، فدع التمرد عليه، وفي هذه المعركة الكبرى تغلب على جنود الشيطان، واجعل من مملكتك مملكه رحمانية وحقانية، وأحلل فيها عسكر الحق تعالى محل جنود الشيطان، كي يوفقك الله تبارك وتعالى في مقام مجاهدة أخرى، وفي ميدان معركة أكبر تنتظرنا وهي الجهاد مع النفس في العالم الباطن، وفي المقام الثاني للنفس.. ولا تعلق على نفسك الآمال، لأنه لا ينهض أحد يعمل غير الله تعالى، فاطلب من الحق تعالى نفسه بتضرع وخشوع، كي يعينك في هذه المجاهة لعلك تنتصر) ([2])
وهكذا نجد خطاباته ودروسه وكتبه مشحونة بأمثال هذه العظات، التي يخاطب فيها النفوس والعقول والأرواح لتعود لربها، وتعيش في صحبته.
ولم يكن ذلك مجرد خطابات يخاطب بها مريديه وشعبه، وإنما كانت معاني يعيشها، كما يذكرها عنه كل من عاشره أو عاش معه، وقد ذكر كل المقربين منه حرصه على قيام الليل، وجميع النوافل، وكثرة قراءته للقرآن، ورعه الشديد من كل الشبهات، ومن الأمثلة على ذلك ما قاله بعضهم يصف بعض ذلك: (النقطة التي ينبغي الالتفات اليها هنا تكمن في ذلك التضرع وفي تلك المناجاة التي كان يعيشها الإمام في صلاة الليل، نحن قد سمحت لنا الظروف أن نرى تضرعاته وبكاءه أمام المحضر الإلهي في الليالي الحالكة حيث كنا دائما إلى جانبه، وحتى في تلك الليلة التي نقل فيها إلى المستشفى، وكان مقررا أن تجرى له عملية جراحية في اليوم التالي، استيقظ من نومه كعادته وقام الى الصلاة، وقد عرضت هذه المشاهد على مرأى الجميع في التلفزيون حيث تم التقاطها بواسطة كاميرا خفية، ولكن مقطعا من الفيلم لم يعرض لمصلحة ما، وهو لحظات مناجاة الإمام وبكائه في محضر حضرة ذي الجلال، ولو أني كنت أتمنى أن يعرض هذا المقطع أمام الجميع، حتى يعلموا أنه في الوقت الذي لم يكن للخوف مكان في حياة الإمام حيث كان يقف وحيدا فريدا لا يخاف أحدا ولا يخشى أحدا، كان في الجانب الآخر يقف أمام بارئه يبكي ويرتجف وتنهمر دموعه بشكل لا مثيل له)([3])
وقال آخر، يذكر ورعه: (في [نوفل لوشاتو] يعتبر ذبح الحيوانات خارج المسلخ ممنوع حسب القوانين، وفي أحد الأيام ذبح خروف في مكان إقامة الامام، فقال: (أنا لا آكل من هذا اللحم، لأنه مخالف لقانون هذه الدولة).. وخرجت ذات يوم واشتريت 2 كيلو من البرتقال، وعندما رأني تساءل: لماذا كل هذا البرتقال؟، فقلت: إنه رخيص الثمن، ويكفينا لعدة أيام، فقال الإمام: (لقد ارتكبت اثمين، الأول أنك اشتريت البرتقال بهذه الكمية ونحن لا نحتاجها، والثاني أنه ربما يوجد في الحي من لم يشتر البرتقال لحد الآن بسبب الغلاء، ويمكنه آن يشتريه بهذا السعر الزهيد)،ثم أمر بإعطائه الفقراء)([4])
وهكذا نجد الأمثلة الكثيرة التي يتناقلها محبوه، والتي وضعت فيها الكتب، والتي كان لها الدور الكبير لا في توفير القابلية له بين شعبه فقط، وإنما في إحياء ونشر الكثير من القيم الروحية والأخلاقية التي بنيت على أساسها الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
وانطلاقا من هذا نحاول في هذا الفصل أن نذكر أهم تجليات اهتمام إيرانيين بالقيم الروحية، وقد رأينا أنها ثلاثة تجليات كبرى:
أولها الاهتمام بالشعائر التعبدية، والتركيز على الجوانب الروحية العميقة فيها، بدل الجوانب الشكلية.
وثانيها الاهتمام بالمجاهدات السلوكية التي وردت في النصوص المقدسة، وذكرها أئمة أهل البيت، واستفادها منهم الصوفية والعرفاء.
وثالثها الاهتمام بالأذواق والمعارف الروحية، وفق ما ورد في النصوص المقدسة وفي الروايات الشارحة لها.
وهذه التجليات الثلاث كافية للدلالة على أن مفهوم التدين في إيران ـ وخاصة في ظل نظامها الإسلامي الجديد ـ ليس محصورا في تلك الظواهر والشعارات، وإنما يمتد إلى أعمق أعماق النفس الإنسانية، وهو ما يميز التجربة الإيرانية عن تجارب الحركات الإسلامية التي احتقرت التصوف والسلوك الباطني، واحتقرت معها الطرق الصوفية، واعتبرتها خرافة وضلالة، ولهذا لم تستطع أن تنجح في أي مشروع من مشاريعها.
وقد اعتمدنا للدلالة على هذه التجليات على ما ورد في التراث الروحي الإيراني، وخصوصا ما سجله قادة ثورتها الإسلامية، باعتبارهم يمثلون امتدادا طبيعيا للطبيعة الإيرانية، ونوع التدين الذي يحكمها.
أولا ـ اهتمام الإيرانيين بالشعائر التعبدية:
تعتبر الشعائر التعبدية من صلاة وقراءة قرآن وذكر ودعاء وغيرها هي الوسائل التي اعتبرتها الشريعة بنصوصها المقدسة معارج لرقي الروح، وتواصلها مع ربها سبحانه وتعالى، ولذلك اهتم بها كل علماء السلوك ومشايخ التربية، وشنعوا على من قصر في الشريعة، أو اتخذ غيرها وسائل للوصول، كما روي عن الجنيد قوله في جماعة زعموا أنهم يصلون إلى حالة يسقط عنهم التكليف: (وصلوا، ولكن إلى سقر)، وروي أنه لم يترك أوراده في حال نزاعه، فقيل له في ذلك، فقال: (ومن أولى مني بذلك، وهذه صحائفي تطوي)([5])
وهكذا شدد أئمة أهل البيت ـ الذين اعتبرهم الإيرانيون مشايخهم الروحيين ـ في التنفير من كل سلوك غير السلوك الذي جاءت به الشريعة للسير التحققي، ذلك أن كل سلوك مبتدع إنما يبعد عن الله، أكثر مما يقرب منه.
ولهذا وردت عباراتهم في النهي عن صحبة أدعياء التصوف من المبتدعة، لا الصوفية الملتزمين بالشريعة، ومن الأمثلة على ذلك قول الامام الصادق عندما سئل عن ذلك النوع من الصوفية: (إنهم أعداؤنا، فمن مال إليهم فهو منهم ويحشر معهم، وسيكون أقوام، يدّعون حبنا ويميلون إليهم ويتشبهون بهم، ويلقبون أنفسهم بلقبهم، ويقولون أقوالهم، ألا فمن مال إليهم فليس منا، وإنّا منه براء، ومن أنكرهم ورد عليهم، كان كمن جاهد الكفار بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)([6])
ولهذا نرى اهتمام القادة الروحيين للمشروع الحضاري الإيراني الجديد بالشعائر التعبدية، وإشاعتها، والدعوة إليها عبر الوسائل المختلفة، وتوفير كل الإمكانات المتاحة لأدائها والتشجيع عليها، لتكون مرقاة للأرواح للتحقق بالقرب الإلهي.
وسنذكر هنا نماذج عن ذلك من خلال الشعائر التعبدية الكبرى، التي لا يمكن أن تتحقق القيم الروحية من دون التزامها.
1 ـ الاهتمام بالصلاة وأبعادها الروحية:
عند مطالعة كل التراث الروحي الذي ألفه الإيرانيون في عصورهم السابقة نجد ذلك الاهتمام الشديد بالصلاة، والقيم الروحية التي تحملها، وهم في ذلك يتأسون بما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأئمتهم الذين اعتبروا اتباعهم واجبا شرعيا لا مناص لهم منه.
وكيف لا يفعلون ذلك، وهم يرددون كل حين، وبشغف وشوق كبيرين تلك الوصايا العظيمة التي كان يوصي بها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الذي اتخذوه إمامهم وقائدهم وشيخهم الروحي؛ فقد كان من وصاياه الكبرى التي تردد في كل المساجد الإيرانية ـ كلما قرئ نهج البلاغة ـ: (تعاهدوا أمر الصّلاة، وحافظوا عليها، واستكثروا منها، وتقرّبوا بها، فإنّها {كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً}.. ألا تسمعون إلى جواب أهل النّار حين سئلوا: {ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ}.. وإنّها لتحتّ الذّنوب حتّ الورق، وتطلقها إطلاق الرّبق، وشبّهها رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم بالحمّة تكون على باب الرّجل، فهو يغتسل منها في اليوم واللّيلة خمس مرّات، فما عسى أن يبقى عليه من الدّرن.. وقد عرف حقّها رجال من المؤمنين، الّذين لا تشغلهم عنها زينة متاع، ولا قرّة عين من ولد ولا مال، يقول اللّه سبحانه: {رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ ولا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وإِقامِ الصَّلاةِ وإِيتاءِ الزَّكاةِ} [طه: 132].. وكان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم نصبا بالصّلاة بعد التّبشير له بالجنّة، لقول اللّه سبحانه: {وأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ واصْطَبِرْ عَلَيْها}، فكان يأمر بها أهله ويصبر عليها نفسه) ([7])
وفي خطبة أخرى، يقول: (طوبى لنفس أدت إلى ربها فرضها، وعركت بجنبها بؤسها، وهجرت في الليل غمضها، حتى إذا غلب الكرى عليها افترشت أرضها، وتوسدت كفها، في معشر أسهر عيونهم خوف معادهم، وتجافت عن مضاجعهم جنوبهم، وهمهمت بذكر ربهم شفاههم، وتقشعت بطول استغفارهم ذنوبهم، {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [المجادلة: 22])([8])
وهكذا كانت هذه الوصايا وغيرها كثير تفعل فعلها في نفوس الإيرانيين منذ سالف العصور، ولهذا لا نعجب من ذلك الاهتمام الشديد الذي أولاه القادة الروحيون لإيران الحديثة بالصلاة، حتى أن لكلا القائدين: الخميني والخامنئي كتبا حولها وحول أسرارها وأعماقها، على الرغم من كل تلك الأعباء الكبيرة التي كانوا يؤدونها في فترة الثورة والمواجهة مع الشاه وأزلامه، أو في في فترة الانتصار والمواجهة مع قوى الاستكبار العالمي.
ويسرنا أن نذكر بعض رؤاهم هنا، لا باعتبارها تمثل أشخاصهم فقط، وإنما باعتبارها تمثل نوع اهتمامهم بالصلاة، لنكتشف الفرق بين رؤيتهم ورؤية الطائفيين الذين لا ينظرون إلى الصلاة إلا باعتبارها مجموعة طقوس وحركات يصنفون من خلالها المسلمين إلى سنة ومبتدعة، ناسين أن أعظم سنة في الصلاة هي الخشوع وحضور القلب والترقي بها إلى الله.
ونذكرها كذلك لتكون تجربة لأولئك الحركيين الذين يريدون إعادة الإسلام للحياة، ولكن وفق الرؤية العلمانية، لا الرؤية الدينية، ولذلك نراهم في فترة انشغالهم بالمعارضة السياسية يغفلون عن الاهتمام بمثل هذه القضايا، وكأنها ليست لب الدين وعماده وعمقه.
بخلاف ذلك نرى الخميني ـ وهو قائد أكبر ثورة ناجحة في القرن العشرين ـ يتحدث عن الصلاة بأشواق روحية عالية؛ فهو يقول في الدعاء الذي قدم به لكتابه [سر الصلاة، أو صلاة العارفين]: (اللهم اهدنا الصراط المستقيم الإنساني، وأبرئنا من جهالة العجب وضلالة الكبر، واسمح لنا بالدخول إلى محفل الأنس لأرباب العروج الروحاني، ومقام القدس لأصحاب القلوب العرفانية، وارفع عن بصائرنا حجب الأنانية الظلمانية، والانية النورانية حتى نصل إلى المعراج الحقيقي الصلاتي للمصلين المتضرعين، ونكبر التكبيرات الأربع إلى الجهات الأربع للملك والملكوت، وافتح لنا أبواب الأسرار الغيبية، واكشف عن ضمائرنا أستار الأحدية لننال مناجاة أهل الولاية ونفوز بحلاوة ذكر أرباب الهداية، واصرف التعلقات القلبية لنا عن الغير، واجعلها مصروفة إليك، وأغمض عيوننا عن الأغيار الذين هم شياطين طريق السلوك، ونورها بجمالك الجميل، إنك ولي الهداية والتوفيق)([9])
وهو يركز في كتابه على المعاني الروحية في الصلاة، وكونها المعراج الذي يعرج به المؤمن إلى الله، سواء في مرحلة السلوك أو الوصول، فيقول: (قد تبين واتضح عند أرباب المعارف الإلهية أن الإنسان السالك ما دام في السير إلى الله والسلوك إلى جانب الله، فصلاته وكذلك سائر مناسكه تفترق عن تلك التي للولي الكامل الذي أنهى سيره ووصل إلى الغاية القصوى للعروج الكمالي والمعراج الروحي المعنوي، ووضع قدمه في محفل أنس (قاب قوسين) لأن السالك ما دام في السلوك والسير إلى الله فصلاته براق العروج ورفرف الوصول، وبعد الوصول تكون صلاته خارطة التجليات، وصورة مشاهدات جمال المحبوب من دون إعمال روية في تركيبها، بل تكون من قبيل سراية حكم الغيب إلى الشهادة، وظهور آثار الباطن في الظاهر)([10])
وهو يرى أن هذا النوع من الصلاة لا يمكن أن يؤتي ثماره إلا بحضور القلب، والخشوع التام، الذي يجعل صاحب الصلاة منشغلا بها عمن سواها، يقول في ذلك: (بعدما علمت مراتب حضور القلب، فالأفضل والأهم أن يكون الإنسان بصدد معالجة النفس، وإذا كانت يده قاصرة عن الوصول إلى ذيل جميع مراتبه فلا أقل من أن يصرف همته في تحصيل بعض مراتبه الذي تسقط العبادة بأقل منه عن درجة الاعتبار، ولا تكون موردا للقبول في جنابه المقدس)([11])
ويبين كيفية تحصيل حضور القلب في الصلاة، فيقول: (فليعلم أن منشأ حضور القلب في أي عمل من الأعمال وسبب إقبال النفس عليه وتوجهها إليه أن يتلقى القلب ذلك العمل بالعظمة، ويعده من المهمات) ([12])
ثم يضرب على ذلك مثالا يبسط به هذا المعنى، فيقول: (إذا أجاز لك السلطان حضورك في محفل أنسه العظيم، وجعلك موردا للتوجه والتلطف بحضرة الجميع، فحيث أن هذا المقام عظيم في قلبك، ويتلقاه القلب بالعظمة والأهمية، فلهذا يحضر قلبك بتمامه في ذلك المحضر، ويحافظ على جميع خصوصيات المجلس، ومخاطبات السلطان وحركاته وسكناته. ويكون قلبك حاضرا في المحضر في جميع الأحوال، ولا يغفل عنه ولو للحظة، وعلى خلاف ذلك إذا كان المخاطب غير مهم، ويراه القلب تافها فلا يحصل لك حضور القلب في المكالمة معه وتكون غافلا عن حالاته وأقواله) ([13])
ومن خلال هذا المثال يبين سبب الغفلة التي تجعل المصلي غافلا في صلاته، غير مستفيد من ثمارها العظيمة في ترقية روحه، والعروج بها إلى الله، فيقول: (ومن هنا يعلم السبب في عدم حضور قلوبنا في العبادات وغفلتها عنها. فنحن لو أهمتنا المناجاة للحق تعالى ومناجاة ولي نعمنا بمقدار ما تهمنا المكالمة مع مخلوق عادي ضعيف لما حصل لنا هذا القدر من النسيان والغفلة والسهو، ومن المعلوم جدا أن هذا التساهل والتسامح ناشئ من ضعف الإيمان بالله تعالى وبالرسول وبأخبار أهل بيت العصمة، بل هذه المساهلة ناشئة من التساهل بالمحضر الربوبي ومقام القدس للحق تعالى.. إن ولي النعم هو الذي دعانا إلى مناجاته وحضرته بلسان الأنبياء والأولياء بل بقرآنه المقدس، وفتح لنا أبواب المكالمة والمناجاة معه) ([14])
وهكذا نرى الخميني لا يذكر أبدا تلك المعاني التي يذكرها الطائفيون من الاهتمام بشكل الصلاة وحركاتها مع الغفلة عن حقيقتها، وإنما يولي كل اهتمامه لكيفية تحصيل حضور القلب، والخشوع، وذكر الله الذي هو المقصد الأعلى من الصلاة.
لهذا لا نراه في كتابه ذلك يناقش أي مذهب، أو يجادل أي فقيه، أو يسخر من أي صلاة، وإنما يشن نقده على تلك الصلاة الفارغة من محتواها، أو كما عبر عن ذلك بقوله: (.. كلما شرعنا في الصلاة التي هي باب من أبواب محضره الربوبي وحضور جنابه فكأنها فرصة لنا لنشتغل بالأفكار المتشتتة، والخواطر الشيطانية، فكأن الصلاة مفتاح الدكان أو آلة المحاسبة أو أوراق الكتاب، فلا يحتسب هذا إلا من وهن الإيمان وضعف اليقين دون غيرهما) ([15])
ولهذا، فإن الحل الذي يراه لإعادة الحياة للصلاة، ليس هو البحث في كتب الفقهاء والمحدثين للترجيح بين الهيئات المختلفة، وإنما هو في تعظيم الله، فلا يمكن للمصلي أن يعظم الصلاة، وهو لا يعظم من يتوجه إليه بها، يقول في ذلك ـ مخاطبا مريده ـ: (يا أيها العزيز تفكر قليلا في حالاتك، وراجع أخبار أهل بيت العصمة، وشمر ذيل الهمة عن ساقيك، وفهم النفس بالتفكر والتدبر أن هذه المناسك وخصوصا الصلاة وبالأخص الفرائض منها سبب للسعادة والحياة في عالم الآخرة، ومنبع الكمالات ورأس مال الحياة في تلك النشأة، وبحسب الروايات الكثيرة في الأبواب المتفرقة وضرب من البرهان ومشاهدة أصحاب الكشف والعيان، إن لكل من العبادات المقبولة صورا غيبية بهية وتمثالا ملكوتيا أخرويا يصاحب الإنسان ويرافقه في جميع النشآت الغيبية ويساعده في جميع الشدائد، بل الجنة الجسمانية في الحقيقة هي الصور الغيبية الملكوتية للأعمال ومسألة تجسم الأعمال من الأمور التي لا بد أن تعد من الواضحات. والعقل والنقل يتوافقان فيها. وتلك الصور الغيبية تابعة لحضور القلب وإقباله والعبادة التي لا يؤتى بها بتوجه من القلب وإقباله ساقطة عن درجة الاعتبار، وغير مقبولة لجناب الحق) ([16])
وهو يورد في ذلك الروايات الكثيرة عن أئمة أهل البيت وتعظيمهم للصلاة، ودعوتهم للخشوع فيها، ويذكر نماذج عن ذلك الخشوع، ومنها ما رواه عن أبي جعفر قال: (كان علي بن الحسين إذا قام إلى الصلاة تغير لونه، فإذا سجد لم يرفع رأسه حتى يرفض عرقا، وكان إذا قام في الصلاة كأنه ساق شجرة لا يتحرك منه إلا ما حركت الريح منه) ([17])
وروى عن أبي حمزة الثمالي قال: (رأيت علي بن الحسين يصلي، فسقط رداؤه عن منكبه، فلم يسوه حتى فرغ من صلاته، قال: فسألته عن ذلك فقال: ويحك أتدري بين يدي من كنت، إن العبد لا تقبل منه صلاة إلا ما أقبل منها، فقلت: جعلت فداك هلكنا، فقال: (كلا إن الله متمم ذلك للمؤمنين بالنوافل) ([18])
وهنا نرى الفارق الكبير بين تلك الروايات التي يستند إليها الطائفيون في تفضيل صلاتهم على صلاة غيرهم من المؤمنين، مع أنها لا تهتم إلا بفروع وهيئات وقع فيها الخلاف بين المسلمين، وبين تلك الروايات التي أوردها الخميني والتي تجعل الفوارق بين صلوات المسلمين مهما اختلفت مذاهبهم هي في مدى حضور قلوبهم فيها، لا في حركاتهم وسكناتهم وهيئاتهم، التي لا يؤاخذون عليها ما داموا يتبعون فيها من يثقون في اجتهاده وفقهه.
ولا يكتفي الخميني بإيراد تلك الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت وتحليلها، وإنما ينقل أيضا تجارب العارفين ممن سلك على أيديهم؛ فيقول: (كان الشيخ العارف الكامل شاه آبادي روحي فداه يقول: (إن الإنسان في حال الذكر لا بد أن يكون كمن يمرن الطفل على التكلم، ويلقنه ليتكلم، فكذلك على الإنسان أن يلقن القلب الذكر، وما دام الإنسان ذاكرا باللسان ومشغولا بتعليم القلب فالظاهر يساعد الباطن، فإذا انفتح لسان القلب فيساعد الباطن الظاهر، كما أن تلقين الطفل أيضا كذلك، فما دام الإنسان يلقنه الكلام فهو يساعده وإذا أجرى الطفل ذلك الكلام على لسانه فيدب في الإنسان نشاط يذهب بالتعب السابق. ففي البداية يساعده المعلم وفي النهاية يأخذ المعلم العون والمساعدة منه. وإذا واظب الإنسان في الصلاة والأذكار والأدعية على هذا الترتيب مدة فإن النفس تعتاده وتكون الأعمال العبادية كالأعمال العادية لا يحتاج لحضور القلب فيها إلى أعمال الروية بل تكون مثل الأمور الطبيعية المعتادة) ([19])
ولا يكتفي الخميني بتلك الوصايا والنصائح العامة، وإنما نراه يضع الحلول والآليات التنفيذية لكل قضية يطرحها، مثلما هو شأنه في جميع المسائل، فهو في كتابه عن أعماق الصلاة، يتناول الصلاة ركنا ركنا، بل يتناول شروطها ومستحباتها، ويبين المعاني المرتبطة بها.
ومن ذلك مثلا قوله عند حديثه عن [أسرار القيام]: (هو عند الخاصة إقامة الصلب في الحضرة المقدسة للحق، وتشمير الذيل لإطاعة الأمر، والخروج من التدثار، والقيام بالإنذار {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 1 – 4] والاستقامة في الأخلاق، والعدل في الملكات، وعدم الميل إلى الإفراط والتفريط.. ومن أعلى مراتب الإيمان الوقوف بين يدي الله على نحو لا يغلب الخوف على الرجاء، ولا الرجاء على الخوف، ولا يصل الصبر إلى مقام التجلد، فإنه في مذهب الأحبة من أشد المنكرات.. ولا يكون الجزع إلى حد الإفراط المنافي للرضا، ويكون الاطمئنان على نحو يرى معه يوم الجزاء والوعد والوعيد قائما)([20])
ومن ذلك قوله عند حديثه عن [أسرار النية]: (النية عند العامة العزم على الطاعة خوفا أو طمعا.. وعند أهل المعرفة العزم على الطاعة هيبة وتعظيما (فاعبد ربك كأنك تراه، وإن لم تكن تراه فإنه يراك)، وعند أهل الجذبة والمحبة العزم على الطاعة شوقا وحبا.. وعند الأولياء العزم على الطاعة تبعا وغيرا بعد مشاهدة جمال المحبوب استقلالا وذاتا والفناء في الجناب الربوبي ذاتا وصفة وفعلا) ([21])
ومن ذلك قوله عند الحديث عن [أسرار الركوع]: (هو عند الخاصة عبارة عن الخروج من منزل القيام بالأمر والاستقامة في الخدمة المستلزم للدعوى عند أهل المعرفة وللخيانة والجناية عند أهل المحبة، والدخول في منزل الذل والافتقار والاستكانة والتضرع منزل المتوسطين، وعند أصحاب القلوب عبارة عن الخروج عن مقام القيام لله إلى مقام القيام بالله، وعن مشاهدة القيومية إلى مشاهدة أنوار العظمة، وعن مقام توحيد الأفعال إلى مقام توحيد الأسماء، وعن مقام التدلي إلى مقام قاب قوسين، كما أن السجود هو مقام (أو أدنى) ([22])
وهكذا نجده يتناول الصلاة جزءا جزءا، ويبين مراتب السالكين والعارفين في التعامل معها، وهو يستند في ذلك كله لما ورد في القرآن الكريم، أو أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو الروايات الواردة عن أهل بيت النبوة، أو التجارب الروحية التي استفادها من شيوخه.
ومثله، نرى الخامنئي في كتابه عن الصلاة، والذي سماه [من أعماق الصلاة] يتحدث عن الصلاة باعتبارها أكبر محرك روحي للإنسان، وأنها لا تؤدي أغراضها الشرعية إلا إذا أقامها صاحبها بحسب ما وصفته الشريعة، لا في شكلها وحركاتها فقط، وإنما في معانيها وأعماقها، يقول في ذلك: (الإسلام في صميم الأمّة يحث الجسم والفكر والروح الإنسانية على العمل، ويستخدم هذه الثلاثة بأجمعها لإسعادها، والصلاة أيضاً تصنع هذا الشيء نفسه مع الفرد، إذ إنّه عند الصلاة يكون كلّ من جسمه وروحه وفكره في حال العمل والفعالية: الجسم: بحركات اليدين والرجلين واللسان والركوع والجلوس والسجود.. والفكر: بالتفكر في مضامين ألفاظ الصلاة التي تشير عموماً إلى الأهداف والوسائل واجتياز دورة من التأمل والرؤية الإسلامية بشكل مجمل.. والروح: بذكر الله والتحليق في جوّ من المعنويات الروحية، ومنع القلب من الركون إلى التفاهات والفراغ، وغرس بذرة الخشوع وخشية الله في الروح)([23])
ولذلك فإن الصلاة ـ بحسب رؤية الخامنئي ـ هي خلاصة الدين، ففيها (الجمع بين الروح والجسم، وبين المادة والمعنى، وبين الدنيا والآخرة، سواء في اللّفظ أو في المحتوى أو في الحركات)([24])
والمسلم المؤدي للصلاة بذلك الشكل (يعمل جميع طاقاته في طريق تعاليه، يعني أنّه يستعمل في آن واحد جميع مكانياتها الجسمية والفكرية والروحية في هذا الأمر) ([25])
ومثلما فعل الخميني في شرحه لأعماق الحركات التي تؤدى في الصلاة، نرى الخامنئي يفعل نفس الشيئ، ولكن بتبسيط أكبر، مراعاة لنوع المخاطبين، فهو يقول في أسرار التكبير: (يبدأ المصلي مناجاته بهذه الجملة [الله أكبر]، ولأجل الدخول في عمل عظيم يوضع مدخل مفعم بالعظمة [الله أكبر] من أن يوصف، أكبر من أن يقاس بالأرباب المتخذة على مرّ العصور، أكبر من جميع القدرات والقوى التي يمكن أن يخشاها الإنسان أو يطمع فيها، وأكبر من أن يتمكن شخص من نقض قوانينه) ([26])
ثم يذكر تأثير هذه الكلمة في نفس المقيم للصلاة المتذوق لمعاني التكبير؛ فيقول: (إذا أدرك العبد هذه السنن، وانتخب في ضوئها طريق سعيه وجدّه، فأيّ قوة عجيبة يحتويها عند استذكاره أنّ الله أكبر، وأيّ أمل مفعم يعيشه، إنّه يشعر بشكل كامل بأن جهوده كانت موفقة، وأنّ عاقبة عمله خير، وينظر إلى مستقبله وطريقه بسعادة وأمل) ([27])
ويتحدث عن أسرار قراءة البسملة التي لها أهميتها الخاصة في الصلاة وغيرها في الفقه الشيعي؛ فيقول: (هذه الجملة، (البسملة)، هي مقدّمة جميع السور، مقدّمة الصلاة، مقدّمة جميع أعمال الإنسان المسلم وحركاته، أي إنّ بداية جميع الأعمال تتمّ باسم الله فقط.كلّ ما للإنسان، وجميع مظاهر عيشه وحياته هي باسم الله. يفتتح المسلمون أيّامهم باسم الله، وباسمه يختتمون أعمالهم في النهار، وبذكره يأوون إلى فراشهم، وبعونه يرفعون رؤوسهم منه ليباشروا أعمالهم اليوميّة من جديد. وفي نهاية المطاف يودّع المسلم الحياة باسمه وذكره، ويمضي إلى الدار الخالدة)([28])
وقد تمنيت لو أن مثل هذه الكلمات وصلت إلى أولئك المغرضين الطائفيين الذين يرمون الإيرانيين وقادتهم بالشرك، وهل يمكن أن يكون مشركا من تكون حياته كلها بسم الله، ومشاعره كلها متوجهة بصدق إلى الله؟
ويتحدث الخامنئي عن أسرار الفاتحة التي لا تصح الصلاة من دونها، فيقول: (كلّ حمد وثناء يختصّ بالله، لأنّ كلّ عظمة وجلال منه، وكلّ رحمة تصدر عن جانبه، وهو مَجمَع كلّ الخصال الحميدة، ومن فيضِ وجوده تصدُرُ كلّ الخيرات والحسنات وكلُّ جميل وإحسان، فيكون حمده، إذاً، حمداً للإحسان والمعروف، وموجّهاً لجمع الجهود التي تبذل في طريق الإحسان) ([29])
ويخاطب المغرورين الذين يشعرون بأن كل شيء عندهم من حولهم وقوتهم، فيقول: (على كل من يرى في نفسه خصلة من الخصال المحمودة أن يعدّها من فيض الله ورحمته وعطفه ولطفه، إذ إنّ الله هو الذي أودع فطرة الإنسان بذور الإحسان، وجعل من سجاياه تقبّل الاحسان والفضيلة، ومنحه القدرة على التصميم، وهو وسيلة أخرى في طريق الطيبة والإحسان، إنّ هذه الرؤية تغلق بوجه الإنسان أبواب العجب والغرور، وتحول دون تعطيل الخصال الحميدة، والقدرات الخيّرة فيه) ([30])
ثم يتحدث عن أسرار قوله تعالى: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] فيقول: (وفي جملة (ربّ العالمين) نستشعر وجود العالم والعوالم الأخرى وترابطها؛ فيحس المصلي أنّ وراء هذا العالم ووراء رؤيته الضيقة، وخلف هذا الطوق الذي افترضه لحياته، توجد عوالم وأفلاك ومجرّات أخرى، وأنّ ربّه ربّ جميع هذه الكائنات، إنّ هذا الشعور يميت فيه النظرة الضيّقة، القصيرة المدى، ويمنحه الجرأة وروح التنقيب والبحث، والإحساس بالفرح لعبوديته لله تعالى، وتبدو له عظمة عبادة الله وجلالها العجيب، ومن جهة أخرى يرى جميع الكائنات؛ البشر والحيوانات والنباتات والجمادات والسماوات، وعوالم الوجود التي لا تحصى، كّلها مخلوقات لله، وأنّه هو مديرها ومدبّرها، ويفهم انّ ربّه ليس فقط رب لعرقه أو شعبه أو للإنسانية بأجمعها، بل هو أيضاً رب تلك النملة الصغيرة وتلك النبتة الضعيفة، ربّ السموات والمجرات والكواكب. وبإدراكه لهذه الحقيقة يشعر بأنّه ليس وحيداً، ويعلم أنّه متصل بجميع ذرّات العوالم، وجميع الكائنات الدقيقة والكبيرة، وبجميع الناس، وإنّ الناس إخوته والمسافرون معه، وإنّ هذه القافلة العظيمة متجهة بأجمعها نحو هدف واحد) ([31])
ويذكر هذه المعرفة، فيقول: (إن هذا الارتباط والاتصال يجعله يرى نفسه مكلّفاً وملتزماً بالنسبة لجميع الكائنات، مكلّفاً بهداية الناس ومعونتهم، وبمعرفة بقية الموجودات واستخدامها في الطريق الصحيح والمناسب للهدف من خلقها) ([32])
وهكذا يتحدث عن كل كلمة أو حركة من حركات الصلاة، يبين المشاعر التي يشعر بها المؤمن، وتأثيرها في سلوكه، ولا يمكننا ذكر كل ذلك هنا، على الرغم من جمال المعاني والأسرار التي ذكرها، والتي لا نرى في خطابه فيها تمييزا بين أي مدرسة من المدارس الإسلامية.
وأحب أن أذكر هنا قوله في المشاعر المرتبطة بقراءة المؤمن لقوله تعالى:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5]، باعتبارها رسالة لكلا الجناحين اللذين يتوجهان لإيران وقادتها بكل أنواع التكفير، أولهما للسلفيين الذين يصورون إيران وقادتها بكونهم مشركين، وثانيهما لأولئك الحركيين الذين تصوروا أنهم وحدهم من يفهم القرآن وأعماقه الحركية.
يقول الخامنئي في المشاعر المرتبطة بقراءتها: (إنّ المصلي بتلفظه هذه الجملة يفكَّ قيود عبودية غير الله عن يديه ورجليه ورقبته، ويجيب داعي الله، ويرفض مدّعي الألوهية الذين كانوا على مرّ التاريخ السبب في جعل شريحة كبرى من البشر مقيدين بأغلال العبودية والاستضعاف والأسر، ويقرب نفسه وجميع المؤمنين بالله أكثر إلى طاعة الله والانصياع لأوامره. والخلاصة أنّه بقبوله العبودية لله يتحرر من جميع العبوديات الأخرى وبذلك يسلك نفسه في سلك الموحدين الحقيقيين) ([33])
ثم يفصل آثار ذلك على الحياة جميعا، فيقول: (إنّ الاعتراف بأنّ العبودية منحصرة بالله فقط هو واحد من أهم الأصول الفكرية والعملية في الإسلام وجميع الأديان السماوية، والذي يعبّر عنه (انحصار الألوهية بالله)، أي أنّ الله فقط هو الذي ينبغي أن يكون معبوداً، وأن لا يعبد أحد سوى الله، لقد كان هناك دوماً من لا يفهمون هذه الحقيقة بشكل صحيح، فكانوا يستنتجون منها أموراً خاطئة ومحدودة، ولذا وقعوا غافلين في عبوديّة غير الله؛ إنّهم ظنّوا أنّ عبادة الله تكون فقط بتقديسه ومناجاته، وبما أنّ هؤلاء كانوا يصلّون لله ويناجونه فقط، فكانوا على يقين كامل من أنهم لم يعبدوا سوى الله) ([34])
ثم يبين شمولية العبودية لله كل مناحي الحياة، فيقول: (إنّ العبادة في اصطلاح القرآن والحديث عبارة عن (الطاعة والتسليم والانقياد المطلق) للأمر والقانون والنظام الذي يوجَّه للإنسان في أيّ مقام أو قدرة، سواء كان هذا الانقياد وهذه الطاعة مع التقديس والمناجاة أم من دونهما، وعلى هذا فكلّ الذين ينصاعون للنظم والقوانين والأوامر الصادرة من أية قدرة غير الله تعالى، هم عباد تلك الأنظمة والموجدون لها، ولو أنّه ترك بعضاً من شريعة الله، وعمل ببعض آخر. وأما من لا يعمل البتة بقانون الله سبحانه، فإنّه سيكون كافراً متجاهلاً الحقيقة الواضحة والساطعة لوجود الله، منكراً إياها اعتقاداً أو عملاً) ([35])
وبهذا فإن الصلاة عند القادة الروحيين للجمهورية الإسلامية الإيرانية ليست مجرد شعيرة تؤدى، وإنما هي منهج حياة، يحمل كل التصورات التي يقوم عليها الإسلام، بجوانبه الروحية والاجتماعية والسياسية والأخلاقية وغيرها.
2 ـ الاهتمام بقراءة القرآن الكريم وتدبره:
سبق وأن ذكرنا في الفصل الأول من هذا الكتاب مدى اهتمام الإيرانيين بالقرآن الكريم قراءة وتفسيرا، وكيف أن معظم الثروة التفسيرية بأنواعها المختلفة تدين لها، ولعلمائها في القديم والحديث.
وذكرنا تفاهة تلك الشبهات التي يرميها المغرضون، والتي تجعل للإيرانيين قرآنا غير قرآن المسلمين، ومصاحف غير مصاحفهم، وقلنا: إن كل ذلك زور وبهتان، لا يدل عليه الواقع، ولا التاريخ.
وسنذكر هنا ـ باختصار شديد ـ مدى سمو التعامل الذي يبديه المشروع الحضاري الجديد لإيران للقرآن الكريم، ولا نبالغ إن قلنا: إن هذا المشروع هو مشروع قرآني بالدرجة الأولى، ذلك أنه يستمد فلسفته النظرية وتطبيقاته العملية من القرآن الكريم، وهو يعتبر الأحاديث النبوية الشريفة، والروايات الواردة عن الأئمة تفسيرا وبيانا وتأكيدا للمعاني القرآنية، ولا يعارضه بها، مثلما تفعل بعض المدارس السنية والشيعية الإخبارية التي تؤخر القرآن الكريم، وترمي بمعانيه الكثيرة بسبب تقديمها لبعض الأحاديث أو الروايات.
ولهذا نجد القادة الفكريين للثورة الإسلامية مثل الخميني والخامنئي ومطهري ومصباح يزدي وجوادي آملي والسبحاني ومكارم الشيرازي وغيرهم كثير، يذكرون في مجالسهم، وعند كل قضية يطرحونها آيات من القرآن الكريم ينطلقون منها، ليؤسسوا عليها بعد ذلك مباحثهم، بل إنهم يخصون القرآن الكريم بجوامع في التفسير، تدل على عمق تعاملهم معه.
وبناء على ذلك، نرى اهتمامهم بالدعوة لقراءة القرآن الكريم للتحقق بالطهارة النفسية، والسمو الروحي، ذلك أن القرآن الكريم حسبما يرد في تعابيرهم هو المعراج الموصل إلى الله.
وقد ذكر بعض المقربين من الخميني مدى عشقه للقرآن الكريم، فقال: (كان يقرأ القرآن بعد صلاة الفجر، وقبل صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وقلما اتفق أن زرناه في هذه الأوقات دون أن نراه مستغرقا بتلاوة القرآن الكريم، كان يقرأ يوميا عشرة أجزاء من القرآن، وهذا يعني أنه كان يختم القرآن كل ثلاثة أيام)([36])
وهكذا نجده في كل الآثار التي نقلت عنه، أو كتبها بنفسه تلك الشفافية الروحية التي يتحدث بها عن القرآن الكريم، باعتباره الحبل الممدود من الله لإنقاذ عباده وتخليصهم والعروج بهم.
ومن أحاديثه الجميلة التي يرغب فيها شعبه في قراءة القرآن الكريم، والتعمق في معانيه، قوله: (القرآن الكريم هو آيات إلهية، والغرض من البعثة هو المجيء بهذا الكتاب العظيم، وتلاوة هذا الكتاب العظيم والآية الإلهية العظيمة، ورغم أن جميع العالم هو آيات الحق تعالى، لكن القرآن الكريم هو عصارة الخليقة، وعصارة الأشياء التي يجب أن تتم في البعثة، فالقرآن الكريم عبارة عن مائدة أعدها الباري تبارك وتعالى للبشر بواسطة نبيه الأكرم، ليستفيد كل إنسان بمقدار استعداده)([37])
وفي هذه الكلمات أبلغ رد على أولئك الإخباريين من الشيعة الذين يحقرون القرآن الكريم، ويعتبرونه في المرتبة الثانية، والثقل الأصغر، وفيه رد كذلك على أولئك الطائفيين الذين يصورون للعامة بأن الإيرانيين لا علاقة لهم بالقرآن، ولا اهتمام لهم به.
والخميني يستعمل كل الوسائل لترغيب كل شعبه بطبقاتهم جميعا ـ المثقفين منهم والعوام ـ في الاستفادة من القرآن الكريم باعتباره كتابا للجميع، ويعطي كل شخص بحسب قابليته، فيقول: (هذا الكتاب وهذه المائدة الممتدة في الشرق والغرب، ومنذ زمان الوحي وحتى يوم القيامة، هو كتاب يستفيد منه كل الناس الجاهل والعالم والفيلسوف والعارف والفقيه، والكل يستفيدون منه)([38])
ثم يفصل ـ بتحليل عرفاني جميل ـ كيفية حصول ذلك؛ فيقول: (أي أنه في الوقت الذي هو كتاب نازل من مرتبة الغيب إلى مرتبة الشهود، ومنبسط عندنا نحن الموجودون في عالم الطبيعة، في نفس الوقت الذي هو فيه منزل من ذلك المقام، ووصل إلى الموضع الذي يمكننا الاستفادة منه، وإنه في الوقت الذي يحتوي على مسائل يستفيد منها جميع الناس الجاهل والعارف والعالم وغير العالم، فإنه يحتوي على مسائل تختص بالعلماء الكبار والفلاسفة العظام، والعرفاء الكبار، والأنبياء والأولياء، إذ أن بعض مسائله لا يتمكن من دركها سوى أولياء الله تبارك وتعالى، إلا من خلال التفسير الوارد عنهم ويستفيد منه الناس بمقدار استعداداتهم، وثمة مسائل يستفيد منها الفلاسفة والحكماء الإسلاميين ومسائل يستفيد منها الفقهاء الكبار، وهذه المائدة عامة للجميع، وكما أن هذه الطوائف تستفيد منه فإن فيه أيضا المسائل السياسية والاجتماعية والثقافية والعسكرية وغير العسكرية، إذ أن جميعا موجودة في هذا الكتاب المقدس)([39])
وهو يكرر هذا المعنى كل حين، ليرد على أولئك الإخباريين الذين يتصورون أن القرآن الكريم لا يمكن تناوله إلا من خلال العترة، ومثله أولئك السلفيين من المدرسة السنية الذين يحجرون فهم القرآن أو تفسيره إلا للسلف، ولذلك يذكر أن (الغرض من نزول هذا الكتاب المقدس، ومن بعثة النبي الأكرم هو لكي يصبح هذا الكتاب في متناول أيدي الجميع، حتى يستفيدون منه بمقدار سعتهم الوجودية والفكرية)([40])
وهو يتألم لتقصير الأمة في القرآن الكريم، أو تحريفها لمعانيها، فيقول: (ومع الأسف فلم نتمكن نحن ولا البشرية، ولا علماء الإسلام الاستفادة من هذا الكتاب المقدس بالمقدار الذي ينبغي الاستفادة منه)([41])
ويكرر دعوته للجميع بأن يحيوا المعاني القرآنية بالتدبر والاعتبار ليستنبطوا منها كل شؤو ن الحياة، فيقول: (يجب على الجميع استخدام أفكارهم، وتسخير عقولهم نحو هذا الكتاب العظيم حتى نتمكن من الاستفادة منه بمقدار استعدادنا وكما هو عليه، فالقرآن جاء لتستفيد منه جميع الطبقات كل بمقدار استعداده، وطبعا فإن بعض الآيات لا يمكن أن يفهمها إلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمتعلم بتعليمه ويجب علينا فهممها بواسطتهم، وإن الكثير من الآيات الأخرى هي في متناول أيدي الجميع، حيث يجب عليهم استخدام أفكارهم وعقولهم ليستفيدوا منها مسائل للحياة، سواء في هذه الدنيا أو الحياة الأخرى)([42])
وهو يذكر أن الهدف من قراءة القرآن الكريم ليس فقط استنباط شؤون الحياة، وإنما قبل ذلك وبعده تزكية النفس وتطهيرها، وهو يستنبط هذا من قوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [آل عمران: 164]، ويعلق عليها بقوله: (فقد تكون هذه هي الغاية من التلاوة، فالتلاوة تكون لأجل التزكية والتعليم، وتعليم الجميع.. تعليمهم الحكمة التي هي من هذا الكتاب أيضا، إذن فهدف البعثة هو نزول الوحي ونزول القرآن، وهدف تلاوة القرآن على البشر هو ليزكوا أنفسهم وينقذوا نفوسهم من هذه الظلمات، حتى تتمكن أرواحهم وأذهانهم بعد ذلك أن تفهم الكتاب والحكمة، فالهدف هو التزكية لأجل فهم الكتاب والحكمة فلا يستطيع أي إنسان وأي نفس أن تدرك هذا النور المتجلي من الغيب المتنزل إلى مرتبة الشهادة)([43])
وهو بهذا يرد على أولئك الحداثيين الذين ظهروا في عصره، وفي عصرنا، والذين راحوا يستعملون أهواءهم ومناهجهم البشرية في فهم القرآن الكريم، باعتباره نصا عاديا كسائر النصوص، وهو ما حرمهم من فهم القرآن، ذلك أنه لا يفهمه إلا من عرف مصدره، وعظمته.
ولهذا، فإن الخميني يرى أن كل التفاسير لا تمثل القرآن، أو لا يمكنها أن تحيط به، ذلك أنه كلام الله الذي يستحيل الإحاطة به، يقول في ذلك: (إن تفسير القرآن ليس من المهام التي يستطيع أمثالنا أداء حقها، بل إن علماء الطراز الأول ـ من العامة والخاصة ـ ألفوا على طوال التاريخ الإسلامي كتبا كثيرة في هذا الباب، ومساعيهم مشكورة بلا شك، ولكن كل واحد منهم لم يقم بأكثر من تفسير احد وجوه القرآن الكريم وفقا لتخصصه والوقت الذي كان لديه وحتى هذا فليس من المعلوم انه كان بشكل كامل)([44])
ثم راح يستعرض نماذج عن ذلك من التفاسير المختلفة التي ألفها العلماء من المدرستين السنية والشيعية، مبينا أنها جميعا مجرد فهوم محدودة، وأن عطاء القرآن الكريم دائم التنزل، لا ينفذ أبدا، وأنه لا يحتاج سوى الوعاء الطاهر الذي يتقبل معانيه، ويتحمل تنزلاته.
وهو يرد على أولئك الذين لم تكتمل لديهم أدوات التفسير، وإنما راحوا يتطفلون على القرآن، ويحملونه ما لا يحتمل، فيقول: (وقد ظهر في الآونة الأخيرة أشخاص ليسوا من أهل التفسير أصلا أرادوا تحميل ما لديهم من أفكار على القرآن والسنة، حتى إن فئة من اليساريين والشيوعيين عمدت إلى التمسك بالقرآن أيضا لنفس أهدافهم التي لهم، وهؤلاء لا علاقة لهم أصلا بالتفسير ولا بالقرآن، فما يريدونه هو خداع شبابنا بما يقدمونه لهم على أنه هو الإسلام)([45])
وبناء على ذلك يفرق بين التدبر الشخصي للقرآن الكريم، وبين تفسيره، والذي لا يحق لأحد أن يتجرأ عليه ما لم تكتمل لديه أدواته، فيقول: (لا ينبغي للذين لم يصلوا بعد إلى المستويات العالية من النضوج العلمي أن يدخلوا مضمار التفسير، فلا ينبغي للشباب، غير المطلع على هذه المسائل، وعلى المعارف الإسلامية، والذين لا إطلاع لهم على الإسلام ـ اقتحام ميدان تفسير القرآن، وإذا حدث أن تطفل أمثال هؤلاء لغايات وأهداف معينة، فلا ينبغي لشبابنا أن يولوا أهمية، أو يقيموا وزنا لمثل هذه التفاسير، فمن الأمور الممنوعة في الإسلام التفسير بالرأي كان يعمد أيا كان إلى فرض آرائه على القرآن، فليطبق المادي أفكاره على بعض الآيات القرآنية، ويفسر القرآن ويؤوله وفق رأيه، أو أن يعتمد أحد أصحاب الآراء المعنوية والروحية إلى تأويل كل ما في القرآن الكريم، ويفسره بما يعتقده هو، لذا يجب علينا أن نحترز من كليهما من جميع هذه الجهات)([46])
والخميني مع اهتمامه الشديدة بالجوانب الروحية، والمعاني العميقة في القرآن الكريم، والتي لا يصل إليها إلا من سار في طريق التزكية، ينتقد بشدة أولئك الذين يقصرون القرآن الكريم على تلك المعاني، ويعزلونه عن التأثير في الحياة، فيقول: (بعد مضي مدة من نزول الإسلام، اهتمت مجموعات مختلفة من أهل العلم بمعنويات الإسلام، وركزوا أنظارهم على تلك الآيات والروايات المرتبطة بالمعنويات وتهذيب النفس وما وراء الطبيعة.. استمر الوضع لفترة طويلة على هذه الشاكلة حيث كان الاهتمام معدوما أو ضعيفا بتلك الأحكام الاجتماعية والسياسية وقضايا الساعة، وهؤلاء وقعوا من هذا الطرف أي اقتصرت اهتماماتهم على هذه المسائل الاجتماعية والأحكام السياسية وقضايا الحكم فقط. أولئك كانوا ينظرون إلى ذلك الجانب من الورق لفترات سابقة كالفلاسفة والعرفاء والمتصوفة وأمثالهم، وكان كلامهم يدور حول بيان هذه المعنويات، ويدعون الناس إلى هذه الجهات المعنوية الإسلامية، حتى إن بعضهم حاول إرجاع الآيات أو الروايات الواردة بشأن الأمور الطبيعية والمتحدثة عن قضايا الاجتماع والسياسة إلى تلك الأمور المعنوية، ويعتبرون أن الجميع مرتبط بذلك الجانب، فهم كانوا ينظرون إلى الجانب الباطني للقرآن والإسلام… ينظرون إلى المعنويات فقط، ويغضون أبصارهم عن المواضيع والروايات الواردة بشأن الحكم الإسلامي، والسياسة الإسلامية، والقضايا الاجتماعية، وإعمار هذا العالم، وهذه هي الغفلة) [47]
وهو لا يعتبرها غفلة فقط، وإنما يعتبرها غفلة عن الإسلام نفسه، ويعلل ذلك، بأنهم (ينظرون إلى الإسلام من زاوية واحدة فقط، أما الجانب الآخر وعالم طبيعته فإنهم لم يهتموا به، ولم يعلموا أن الإسلام يهتم بعالم الطبيعة أيضا، ويهتم بجميع تلك الأمور التي يحتاجها الإنسان، لذا فإن إحدى الابتلاءات التي ابتلى بها الإسلام هي أن هؤلاء الأشخاص أمثال المتكلمين، والأكثر منهم الفلاسفة، والأكثر منهم العرفاء والصوفية، أرادوا تفسير جميع الآيات الواردة في القرآن الكريم تفسيرا معنويا.. اهتموا بالباطن وغفلوا عن الظاهر)([48])
وفي كلماته هذه رد بليغ على أولئك الذين يصورون الخميني بصورة ذلك الغارق في متاهات العرفان والتصوف، ويرمونه بالغنوصية، وهو ناتج عن عدم قراءتهم لكل آثاره؛ فهم يبنون على بعض ما يقرؤون تصوراتهم، ويلزمونه بفهومهم، لا بواقع الحال، وإلا فإنه كما يقبل ما صح من المعاني العميقة للقرآن الكريم، والتي يذكرها الفلاسفة والعرفاء، لا يقتصر عليها، بل يرى من التقصير والغفلة الاكتفاء بها.
وهو كذلك يرد على الطرف المقابل الذي لا يتعمق في المعاني القرآنية، ويتصور أن معانيها هي تلك المعاني الظاهرة المادية المحدودة، فيقول: (إن ابتلاء الإسلام أخذ منحنى آخر وهو أن شبابنا ومثقفينا وعلماءنا الذين تعلموا العلوم المادية، يحاولون تفسير جميع آيات القرآن والروايات الخاصة بالأمور المعنوية تفسيرا طبيعيا عاديا، وهؤلاء مهتمون بالإسلام أيضا، لكنهم غافلون أيضا، لأنهم ينظرون للإسلام من جانب واحد، وهاتان الطائفتان لم تفهمان الإسلام بمعناه الحقيقي، فالإسلام لا يدعوا إلى المعنويات فقط، ولا يدعوا إلى الماديات فقط، إنه يدعوا إلى كليهما، فقد جاء الإسلام والقرآن الكريم من أجل بناء الإنسان وتربيته في جميع أبعاده)([49])
ومن المعاني التي نرى اهتمام الخميني بها ما يطلق عليه [المقاصد الكبرى للقرآن الكريم]، وهو يلخص هذه المقاصد في قوله: (اعلم أن هذا الكتاب الشريف ـ كما صرح هو به ـ كتاب الهداية، وهادي سلوك الإنسانية ومربي النفوس وشافي الأمراض القلبية، ومنير طريق الإسلام إلى الله.. وبالجملة: فإن الله تبارك وتعالى ـ لسعة رحمته على عباده ـ أنزل هذا الكتاب الشريف من مقام قربه وقدسه لاستخلاص المسجونين في سجن الدنيا المظلم، وخلاص المغلولين بأغلال الآمال والأماني، وإيصالهم من حضيض النقص والضعف والحيوانية إلى أوج الكمال والقوة الإنسانية، ومن مجاورة الشيطان إلى مرافقة الملكوتيين، بل الوصول إلى مقام القرب وحصول مرتبة لقاء الله التي هي أعظم مقاصد أهل الله ومطالبهم، فمن هذه الجهة هذا الكتاب هو كتاب الدعوة إلى الحق والسعادة، وبيان كيفية الوصول إلى هذا المقام، ومحتوياته إجمالا هي ما له دخل في هذا السير والسلوك الإلهي، أو يعين السالك والمسافر إلى الله)([50])
ويذكر أن من مقاصد القرآن الكريم الكبرى بناء على ذلك المقصد تهذيب النفوس، وتطهير البواطن من أرجاس الطبيعة، وتحصيل السعادة، ولذلك يدعو إلى قراءة القرآن الكريم من هذه الزاوية لا من غيرها من الزوايا، والتي قد تنحرف عن مقاصده.
ويضرب المثل على ذلك بالقصص القرآني، فهو ليس قصصا للتسلية أو للتاريخ، وإنما هو للتربية والتهذيب، يقول في ذلك: (ولأجل هذه النكتة كررت القصص القرآنية كقصة آدم وموسى وإبراهيم وسائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فليس هذا الكتاب كتاب قصة وتاريخ، بل هو كتاب السير والسلوك إلى الله، وكتاب التوحيد والمعارف والمواعظ والحكم، والمطلوب في هذه الأمور هو التكرار لكي يؤثر في القلوب القاسية، وتأخذ منها الموعظة، وبعبارة أخرى إن من يريد أن يربي ويعلم وينذر ويبشر فلا بد له أن يرزق مقصده بالعبارات المختلفة والبيانات المتشتتة، فتارة في ضمن قصة وحكاية وأخرى في ضمن تاريخ ونقل، حينا بصراحة اللهجة وحينا بالكناية والأمثال والرموز حتى تتمكن كل من النفوس المختلفة والقلوب المتشتتة الاستفادة منها، وحيث أن هذا الكتاب الشريف لأجل سعادة جميع الطبقات وسلسلة البشر قاطبة، ويختلف هذا النوع الإنساني في حالات القلوب والعادات والأخلاق والأزمنة والأمكنة، ولا يمكن أن تكون دعوته على نحو واحد، فرب نفوس لا تكون حاضرة لأخذ التعاليم بصراحة اللهجة وإلقاء اصل المطلب بنحو عادي، ولا تتأثر بهذا النحو، فلا بد أن تكون دعوة هؤلاء وفق كيفية تفكيرهم، فيفهم إياهم المقصد، ورب نفوس لا شغل لها بالقصص والحكايات والتواريخ، وإنما علاقتها بلب المطالب، ولباب المقاصد، فلا يوزن هؤلاء مع الطائفة الأولى بميزان واحد، ورب قلوب تتناسب مع التخويف والإنذار، وقلوب لها الألفة مع الوعد والتبشير، فلهذه الجهة دعا الناس هذا الكتاب الشريف بالأقسام المختلفة، والفنون المتعددة، والطرق المتشتتة والتكرار لمثل هذا الكتاب لازم وحتمي، والدعوة والموعظة من دون تكرار وتفنن خارجة عن حد البلاغة، وما يتوقع منها وهو التأثير في النفوس لا يحصل من دون تكرار)([51])
هذه مجرد نماذج عن دعوات الخميني لاستعمال القرآن الكريم للتهذيب والتربية وكل شؤون الحياة، وهو ما يؤكد ما ذكرنا من الطابع القرآني للثورة الإسلامية الإيرانية، وهو ما أتاح لها النجاح، لأنها ابتعدت عن كثير من الأطروحات الإخبارية التي تتعارض مع القرآن الكريم، وتجعلها أقرب إلى الأسطورة منها إلى الواقع.
3 ـ الاهتمام بالدعاء والذكر:
مما تتميز به المدرسة الشيعية عن المدرسة السنية كثرة الأدعية والمناجيات، والتي يرويها الشيعة عن أئمتهم، وهي تقرأ إما في مناسبات مخصوصة، كالأدعية المرتبطة بالأيام والأحوال المختلفة، أو عامة تقرأ كل حين، ومنها كذلك ما يرتقي سنده إلى الأئمة إلى التواتر، ومنها ما ينزل إلى ما دون ذلك بكثير.
وهم ـ باعتبارها ـ من الأعمال المستحبة ـ لا يبالغون في البحث عن أسانيدها، ما دامت مضامينها لا تتناقض مع القرآن الكريم والسنة القطعية.
وقد حرص القادة الفكريين للجمهورية الإسلامية الإيرانية على الاهتمام بهذه الأدعية ونشرها في المساجد والقنوات الفضائية وغيرها، باعتبارها من أحسن وسائل التربية والرقي الروحي.
فمضامين تلك الأدعية تغني عن أكثر كتب العقائد والسلوك، ذلك أنها تعلم التضرع إلى الله، وكيفية مخاطبته، بالإضافة إلى كونها تحمل الكثير من المضامين الأخلاقية الرفيعة.
ولهذا نرى الخميني في كل حين يهتم بهذه الأدعية، ويرد على من يزهد فيها، بل يؤلف الكتب في شرحها، وقد قال في كتابه عن البسملة ينتقد أولئك الذين يزهدون فيها، ويرغبون عنها: (الذين يبعدون الناس الأدعية ـ كما فعل كسروي حيث دعا إلى يوم لحرق كتب العرفان وكتب الأدعية ـ هؤلاء لا يعرفون ما الدعاء، وما هي طبيعة تأثيره في النفوس، لا يفقهون أن جميع هذه الخيرات والبركات هي من قراء نفس هذه الأدعية، حتى الذين يقرؤونها ـ بكيفية ضعيفة ـ ويرددون ذكر الله، ولو بصورة ببغاوية فإنهم يتأثرون بها، وهم خير من تاركيها)([52])
ويضرب المثل لذلك بالمصلين الذين لم يرتقوا إلى إقامة الصلاة أو إعطاءها حقها، ولكنهم مع ذلك أحسن حالا من الذين لا يصلون أصلا، يقول في ذلك: (المصلي ـ ولو وفق أدني مراتب إقامة الصلاة ـ هو خير من تاركها وأكثر تهذيبا.. راجعوا ملفات الجرائم، ولاحظوا نسبة مرتكبيها من طلبة العلوم الدينية ونسبة غيرهم من مرتكبي جرائم السرقة وشراب الخمر وغيرها، هناك في هذه الطائفة ـ المعممين ـ من تسلل إليهم ولا شك لكن هؤلاء ليسوا لا من هل الصلاة ولاغيرها تستروا بهذه الظاهر لاستغلاله فقط، أما أهل الدعاء والعاملون بشعائر الإسلام، فليست لهم ملفات جنائية مقارنة بالآخرين وإن كان هناك من شيء فهو قليل جدا)([53])
ويبين أثر الدعاء الذي غاب عن أذهان أولئك الذين دعوا إلى حرق كتب الأدعية، أو زهدوا فيها، قال: (للدعاء وأمثاله دخل وتأثير في نظم هذا العالم، فلا ينبغي أن يختفي الدعاء من أوساط المجتمع، لا ينبغي لشبابنا أن يعزفوا عن الدعاء، وليس من الصحيح الدعوة للعزوف عن الدعاء تحت شعار الدعوة لعودة القرآن، فهذا يعني تضييع الطريق إلى القرآن، هذه من الوساوس الشيطانية، فالشيطان يدعو إلى ترك الدعاء والحديث لفسح المجال للقرآن، يقول يجب أخذ القرآن والإعراض عن الحديث، وأمثال هؤلاء لا يستطيعون الأخذ بالقرآن، فهذه من وساوس الشيطان التي تخدع الإنسان) ([54])
ويدعو هؤلاء إلى النظر إلى الواقع، ومن هو أكثر تأثيرا في المجتمع هل أولئك المتكاسلين الذين زعموا الاكتفاء بالقرآن الكريم، أم الذين أخذوا الدين من جميع مصادره المقدسة، فيقول: (على هؤلاء الشباب أن يلاحظوا هل أن الذين كانوا من أهل الحديث والذكر والدعاء خدموا المجتمع أكثر، أم الذين لم يكونوا من أهل ذلك، وكانوا يزعمون (نحن أهل القرآن)، جميع هذه الخيرات والمبررات التي ترونها وجميع هذه الأوقاف المخصصة لمطلق الأمور الخيرية ولإعانة التي ترونها، وجميع هذه الأوقاف المخصصة لمطلق الأمور الخيرية ولإعانة الضعفاء هي من عمل هؤلاء المؤمنين من أهل الذكر والدعاء والصلاة لا من غيرهم، حتى الأعيان الأثرياء الذين بنوا ـ فيما مضى ـ المدارس والمصحات وأمثال ذلك إنما كانوا من أهل الصلاة، وهذا الأمر لا ينبغي أن يغيب عن أذهان الناس، بل على العكس يجب ترسيخه يجب جعل الناس متوجهين لله تعالى) ([55])
وهو يذكر كل حين بأن نشر الأدعية والدعوة إليها هي أفضل السبل لتربية المجتمع وتهذيبه وتأهيله للوصول إلى الرقي الحضاري، يقول في ذلك: (إذا تجاوزنا كل هذه الأمور فإن الأدعية تعين الإنسان على الوصول إلى الكمال المطلق، وهي تعين على إدارة وتسيير أمور البلاد.. بهذه الأدعية وبهذه الأمور الواردة عن الله ورسوله تتم تربية المجتمع)([56])
وهو يخاطب هؤلاء الذين يزهدون الناس في الأدعية، والعودة إلى القرآن الكريم بما ورد في القرآن نفسه من الحض على الأدعية، ويقول: (إن كنتم تقرؤون القرآن فهو يمدح الدعاء ويدعو الناس له: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} [الفرقان: 77]، إذن فالذين يدعون إلى ترك الدعاء والأخذ بالقرآن يرفضون القرآن أيضا)([57])
وبناء على هذا نرى الاهتمام الكبير من الجمهورية الإسلامية الإيرانية بالأدعية والمناجيات الكثيرة، ونشرها في المساجد وعبر وسائل الإعلام المختلفة، وتيسير الحصول على كتبها، بل توزيعها كهدايا مجانية، حتى أن الصحف تذكر أنه لا يكاد يوجد بيت في إيران ليس فيه أمثال هذه الكتب، وخصوصا [مفاتيح الجنان] الذي استوعب جميع كتب الأدعية.
وقد كان الخميني شديد الاهتمام به حتى أنه كان يدعو لتسليمه لكل مجاهد يلتحق بالجبهة، وقد أشاع الإعلام المغرض حينها، أي بين (1980-1988) بأن الخميني يوزع مفاتيح بلاستيكية للجنة على الشباب المتطوعين في الجيش الإيراني، بسبب العنوان الذي يحمله الكتاب.
وأحب أن أشير هنا إلى أن هذا الاهتمام بالدعاء بين الإيرانيين ليس وليد القادة الفكريين الحاليين فقط، وإنما كان قبل ذلك، بدليل أن أكثر الكتب التي ألفت في هذا المجال ألفها إيرانيون، وكانت من أكثر الكتب انتشارا.
ولعل أهمها كتاب [مفاتيح الجنان]، وهو أشمل كتاب للأدعية والزيارات، ألّفه الشيخ عبّاس القمي، ويشتمل على مجموعة كبيرة من الأدعية، والمناجيات، والزيارات، والأعمال الخاصّة بالأيام والشهور فضلاً عن الآداب والسّنن الدينية، وقد أرفق الشيخ عباس القمي كتابه الآخر [الباقيات الصالحات[بهامش كتابه مفاتيح الجنان، وطُبع الكتابان معاً.
وأحب أن أشير هنا ـ كذلك إلى ـ كتاب مهم في الأدعية تمنيت لو أن المدرسة السنية تبنته، وهو كتاب [الصحيفة السجادية] للإمام السجاد، وهو كتاب يشمتل على 54 دعاء ومناجاة، وهو مدرسة كاملة في العقائد والعرفان والسلوك، وقد كتب بلغة قوية جميلة مستمدة من اللغة القرآنية.
ولهذا الكتاب شأن كبير عند الشيعة، فهو يوضع في المرتبة التالية بعد القرآن الكريم ونهج البلاغة، ويسمى عندهم [زبور آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم] و[إنجيل أهل البيت]
وقد حوى الكتاب الكثير من المعارف العليا، كمعرفة الله، وعالم الغيب، والملائكة، ورسالة الأنبياء، ومكانة الأنبياء، والفضائل الأخلاقية، والأمور الاجتماعية والاقتصادية، ونعم الله، وآداب الدعاء، وتلاوة القرآن، والصلاة.
ولمكانته الكبيرة شرح شروحا كثيرة، ذكر الآغا بزرك الطهراني في الذريعة ما يقارب 50 شرحاً للصحيفة، من أشهرها: رياض السالكين لـابن معصوم المدني.
وقد رويت هذه الصحيفة بالأسانيد الكثيرة جدا، والتي بلغت حد التواتر: وقد قال الشيخ أغا بزرك الطهراني عنها: (هي الصحيفة الاولى التي يرجع سندها الى الامام زين العابدين.. والتي خصها الأصحاب بالذكر في إجازاتهم واهتموا براويتها منذ القديم وتوارث ذلك الخلف عن السلف وطبقة عن طبقة، وتنتهي روايتها الى الإمام الباقر وزيد الشهيد ابني الإمام زين العابدين)([58])
وذكر الشيخ محمد تقي المجلسي أن أسانيدها تزيد على ألف ألف سند (ما يساوي المليون) في نقل الصحيفة وروايتها([59])
وقال: (والذي رأيت من أسانيد الصحيفة بغير هذه الأسانيد فهي أكثر من أن تحصى ولا شك في أنها من كلام سيد الساجدين أما من جهة الإسناد فإنها متواترة من طرق الزيدية أيضا)
بالإضافة إلى ذلك، فقد رويت مقاطع منها في المصادر السنية، مثل سبط ابن الجوزي في خصائص الأئمة، والحافظ سليمان بن إبراهيم القندوزي في ينابيع المودة ([60]).
ومع كل هذا نجد إهمالا كبيرا لهذه الصحيفة من المدرسة السنية، في نفس الوقت الذي نجدهم يرددون بعض الأدعية الصوفية ذات المضامين الغريبة، واللغة الركيكة.
والسبب في ذلك كله هو تلك القطيعة بين المدرستين، وكأنهما دينان منفصلان، وقد ذكر بعضهم أن السيد المرعشي النجفي أرسل نسخة من الصحيفة مع رسالة إلى العلامة الشيخ الطنطاوي جوهري (توفي 1358 هـ) صاحب التفسير المعروف، فكتب في جواب رسالته: (ومن الشقاوة إنّا إلى الآن لم نقف على هذا الأثر القيّم الخالد في مواريث النبوة، وأهل البيت، وإنّي كلّما تأملتها رأيتها فوق كلام المخلوق، ودون كلام الخالق)([61])
وقد أثنى عليها من أهل السنة سبط ابن الجوزي في كتابه [خصائص الأئمة]، فقال: (إن لعلي بن الحسين زين العابدين حق التعليم على المسلمين في الإملاء والإنشاء وكيفية التكلم والخطاب وطلب الحاجة من الباري تعالى؛ فلولاه لم يكن ليعرف المسلمون آداب التحدث وطلب الحوائج من الله تعالى؛ إن هذا الإمام علّم البشر كيف يستغفرون الله وكيف يستسقون ويطلبون الغيث منه تعالى وكيف يستعيذون به عند الخوف من الأعداء لدفع شرورهم)([62])
ومن نماذج الأدعية البليغة الواردة في الصحيفة السجادية، والتي لا نجد لها نظيرا في كل التراث السني للأسف، ما يسمى بالمناجيات([63]) الخمسة عشر، وهي مناجيات تشمل معاني مختلفة مصنفة إلى خمسة عشر صنفا([64])..
فمنها مناجاة التائبين.. وهي مناجاة تبدأ بهذا المقطع الجميل الذي يملأ النفس بجميع معاني العبودية والخضوع لله، وكأنها تعلم التائب كيف يقف بين يدي ربه متضرعا معترفا منبيا: (إلهي ألبستني الخطايا ثوب مذلتي وجللني التباعد منك لباس مسكنتي وأمات قلبي عظيم جنايتي فأحيه بتوبة منك يا أملي وبغيتي وياسؤلي ومنيتي، فوعزتك ماأجد لذنوبي سواك غافرا ولا أرى لكسري غيرك جابرا وقد خضعت بالإنابة إليك وعنوت بالاستكانة لديك، فإن طردتني من بابك فبمن ألوذ وإن رددتني عن جنابك فبمن أعوذ، فوا أسفاه من خجلتي وافتضاحي ووالهفاه من سوء عملي واجتراحي)([65])
وثانيها مناجاة الشاكين، وهي مناجاة يتوجه فيها العبد إلى الله تعالى شاكيا إليه أعداءه الذين يحولون بينه وبين التوجه إليه، وأولهم النفس الأمارة بالسوء، يقول السجاد في مناجاته: (إلهي إليك أشكو نفسا بالسوء أمارة وإلى الخطيئة مبادرة وبمعاصيك مولعة ولسخطك متعرضة، تسلك بي مسالك المهالك وتجعلني عندك أهون هالك كثيرة العلل طويلة الامل إن مسها الشر تجزع وإن مسها الخير تمنع ميالة إلى اللعب والله ومملوة بالغفلة والسهو تسرع بي إلى الحوبة وتسوفني بالتوبة)([66]).. إلى آخر المناجاة التي تزرع في نفس تاليها تلك المعاني التي أكد عليها القرآن الكريم، والتي تختصر العداوة في النفس والشيطان والقلب القاسي الغليظ.
وثالثها مناجاة الخائفين، وهي مناجاة تختصر لتاليها كل المعاني التي تملأ قلبه بالخوف، بل ترفعه إلى مقامه الرفيع، وما يثمره من سلوك تحققي وتخلقي.. يقول السجاد في بداية هذه المناجاة: (إلهي أتراك بعد الايمان بك تعذبني أم بعد حبي إياك تبعدني أم مع رجائي لرحمتك وصفحك تحرمني أم مع استجارتي بعفوك تسلمني؟ حاشا لوجهك الكريم أن تخيبني! ليت شعري أللشقاء ولدتني أمي أم للعناء ربتني؟ فليتها لم تلدني ولم تربني وليتني علمت أمن أهل السعادة جعلتني وبقربك وجوارك خصصتني، فتقر بذلك عيني وتطمئن له نفسي. إلهي هل تسود وجوها خرت ساجدة لعظمتك، أو تخرس ألسنة نطقت بالثناء على مجدك وجلالتك..)([67])
ورابعها مناجاة الراجين، وهي مناجاة تملأ القلب بمعاني الرجاء في الله وفي فضله العظيم، لتضع المداوم عليها في هذا المقام الرفيع، وما يثمره من قيم سلوكية وعرفانية.. يقول السجاد في مقدمة هذه المناجاة: (يا من إذا سأله عبد أعطاه وإذا أمل ماعنده بلغه مناه وإذا أقبل عليه قربه وأدناه وإذا جاهره بالعصيان ستر على ذنبه وغطاه وإذا توكل عليه أحسبه وكفاه، إلهي من الذي نزل بك ملتمسا قراك فما قريته ومن الذي أناخ ببابك مرتجيا نداك فما أوليته؟ أيحسن أن أرجع عن بابك بالخيبة مصروفا ولست أعرف سواك مولى بالاحسان موصوفا؟ كيف أرجو غيرك والخير كله بيدك وكيف أؤمل سواك والخلق والأمر لك أأقطع رجائي منك وقد أوليتني مالم أسأله من فضلك، أم تفقرني إلى مثلي وأنا أعتصم بحبلك؟!)([68])
وخامسها مناجاة الراغبين، وهي مناجاة تملأ القلب بالرغبة في الله والتعرف عليه والسير إليه، يقول السجاد في مقدمتها: (إلهي إن كان قل زادي في المسير إليك فلقد حسن ظني بالتوكل عليك وإن كان جرمي قد أخافني من عقوبتك فإن رجائي قد أشعرني بالأمن من نقمتك، وإن كان ذنبي قد عرضني لعقابك فقد آذنني حسن ثقتي بثوابك، وإن أنامتني الغفلة عن الاستعداد للقائك فقد نبهتني المعرفة بكرمك وآلآئك)([69])
وسادسها مناجاة الشاكرين، وهي مناجاة ترفع القائل لها، والمداوم عليها إلى مقام الشكر، وتعرفه بحقيقته ومنازله، وفيها يقول السجاد: (إلهي أذهلني عن إقامة شكرك تتابع طولك وأعجزني عن إحصاء ثنائك فيض فضلك وشغلني عن ذكر محامدك ترادف عوائدك وأعياني عن نشر عوارفك توالي أياديك، وهذا مقام من اعترف بسبوغ النعماء وقابلها بالتقصير، وشهد على نفسه بالآمال والتضييع وأنت الرؤوف الرحيم البر الكريم الذي لا يخيب قاصديه ولا يطرد عن فنائه آمليه بساحتك تحط رحال الراجين وبعرصتك تقف آمال المسترفدين فلا تقابل آمالنا بالتخييب والاياس ولا تلبسنا سربال القنوط والابلاس)([70])
وسابعها مناجاة المطيعين لله، وهي مناجاة تحث على طاعة، وتعلم المناجي بها كيف يجعل الله مقصده الأعلى والأهم والأولى من كل شيء.. يقول السجاد فيها: (اللهم احملنا في سفن نجاتك ومتعنا بلذيذ مناجاتك وأوردنا حياض حبك وأذقنا حلاوة ودك وقربك واجعل جهادنا فيك وهمنا في طاعتك وأخلص نياتنا في معاملتك، فإنا بك ولك ولا وسيلة لنا إليك إلا أن)([71])
وثامنها مناجاة المريدين، وهي مناجاة التوجه الصادق لله، والإرادة الخالصة له، والتي عبر عنها قوله تعالى في وصف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصادقين: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف: 28]، وقد عبر السجاد في هذه المناجاة عن معنى هذه الإرادة وحدودها ووجهتها، فقال ـ مخاطبا الله تعالى ـ: (فأنت لا غيرك مرادي ولك لا لسواك سهري وسهادي ولقاؤك قرة عيني ووصلك منى نفسي وإليك شوقي وفي محبتك ولهي، وإلى هواك صبابتي ورضاك بغيتي ورؤيتك حاجتي وجوارك طلبي وقربك غاية سؤلي، وفي مناجاتك روحي وراحتي وعندك دواء علتي وشفاء غلتي وبرد لوعتي وكشف كربتي، فكن أنيسي في وحشتى ومقيل عثرتي وغافر زلتي وقابل توبتي ومجيب دعوتي وولي عصمتي ومغني فاقتي، ولا تقطعني عنك ولا تبعدني منك يا نعيمي وجنتي ويادنياي وآخرتي يا أرحم الراحمين)([72])
وتاسعها مناجاة المحبين، وهي مناجاة ممتلئة بمعاني المحبة لله، والشوق إليه والأنس به، وهي تضع صاحبها المدمن عليها في تلك المقامات العالية التي هي غاية آمال العارفين المحققين، والتي عبر عنها الله تعالى بقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [المائدة: 54].. يقول السجاد في هذه المناجاة: (إلهي من ذا الذي ذاق حلاوة محبتك فرام منك بدلا ومن ذا الذي أنس بقربك فابتغى عنك حولا، إلهي فاجعلنا ممن اصطفيته لقربك وولايتك وأخلصته لودك ومحبتك وشوقته إلى لقائك ورضيته بقضائك ومنحته بالنظر إلى وجهك وحبوته برضاك، وأعذته من هجرك وقلاك وبوأته مقعد الصدق في جوارك وخصصته بمعرفتك وأهلته لعبادتك، وهيمت قلبه لإرادتك واجتبيته لمشاهدتك واخليت وجهه لك وفرغت فؤاده لحبك ورغبته فيما عندك وألهمته ذكرك وأوزعته شكرك وشغلته بطاعتك)([73])
وعاشرها مناجاة المتوسلين، وهي مناجاة يتوسل فيها الإمام زين العابدين لله تعالى بفضله وعطفه ورأفته وأسمائه الحسنى، ويستشفع فيها بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم.. يقول فيها: (إلهي ليس لي وسيلة إليك إلا عواطف رأفتك ولا لي ذريعة إليك إلا عوارف رحمتك وشفاعة نبيك نبي الرحمة ومنقذ الامة من الغمة، فاجعلهما لي سببا إلى نيل غفرانك وصيرهما لي وصلة إلى الفوز برضوانك، وقد حل رجائي بحرم كرمك وحط طمعي بفناء جودك فحقق فيك أملي واختم بالخير عملي واجعلني من صفوتك الذين أحللتهم بحبوحة جنتك وبوأتهم دار كرامتك وأقررت أعينهم بالنظر إليك يوم لقائك وأورثتهم منازل الصدق في جوارك)([74])
والحادية عشرة منها مناجاة المفتقرين، والتي يعبر فيها الإمام السجاد عن معنى الافتقار الخالص لله، والذي هو ذروة مقام المعرفة والتحقيق، وهو أساس كل القيم والأخلاق الرفيعة، يقول فيها السجاد: (إلهي كسري لايجبره إلا لطفك وحنانك وفقري لايغنيه إلا عطفك وإحسانك وروعتي لايسكنها إلا أمانك وذلتي لايعزها إلا سلطانك وأمنيتي لايبلغنيها إلا فضلك وخلتي لايسدها إلا طولك وحاجتي لايقضيها غيرك وكربي لايفرجه سوى رحمتك وضري لايكشفه غير رأفتك وغلتي لايبردها إلا وصلك ولوعتي لايطفيها إلا لقاؤك وشوقي إليك لايبله إلا النظر إلى وجهك وقراري لايقر دون دنوي منك ولهفتي لايردها إلا روحك وسقمي لايشفيه إلا طبك وغمي لايزيله إلا قربك وجرحي لايبرئه إلا صفحك ورين قلبي لايجلوه إلا عفوك ووسواس صدري لايزيحه إلا أمرك..)([75])
والثانية عشرة منها مناجاة العارفين، وهي مناجاة تدل على المنهج الحقيقي للتعرف على الله، وهو التوجه الخالص إليه، فلا يعرف بالله إلا الله، ولا يضع بذور الإيمان والمحبة في القلب غيره، كما قال تعالى: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ } [المجادلة: 22].. يقول السجاد في هذه المناجاة: (إلهي قصرت الالسن عن بلوغ ثنائك كما يليق بجلالك وعجزت العقول عن إدراك كنه جمالك وانحسرت الابصار دون النظر إلى سبحات وجهك ولم تجعل للخلق طريقا إلى معرفتك إلا بالعجز عن معرفتك، إلهي فاجعلنا من الذين ترسخت أشجار الشوق إليك في حدائق صدورهم وأخذت لوعة محبتك بمجامع قلوبهم، فهم إلى أوكار الافكار يأوون وفي رياض القرب والمكاشفة يرتعون ومن حياض المحبة بكأس الملاطفة يكرعون وشرايع المصافات يردون، قد كشف الغطاء عن أبصارهم وانجلت ظلمة الريب عن عقائدهم وضمائرهم وانتفت مخالجة الشك عن قلوبهم وسرائرهم وانشرحت بتحقيق المعرفة صدورهم..)([76])
والثالثة عشرة منها مناجاة الذاكرين، وهي مناجاة تعلم الذاكر لله آداب الذكر والحضورمع الله، وتبين قيمته وأهميته ودوره في التحقق بمعرفة الله، يقول فيها السجاد: (إلهي لولا الواجب من قبول أمرك لنزهتك عن ذكري إياك على أن ذكري لك بقدري لابقدرك وما عسى أن يبلغ مقداري حتى أجعل محلا لتقديسك ومن أعظم النعم علينا جريان ذكرك على ألسنتنا وإذنك لنا بدعائك وتنزيهك وتسبيحك، إلهي فألهمنا ذكرك في الخلاء والملاء والليل والنهار والاعلان والاسرار وفي السراء والضراء وآنسنا بالذكر الخفي واستعملنا بالعمل الزكي والسعي المرضي وجازنا بالميزان الوفي، إلهي بك هامت القلوب الوالهة وعلى معرفتك جمعت العقول المتباينة فلا تطمئن القلوب إلا بذكرك ولا تسكن النفوس إلا عند رؤياك، أنت المسبح في كل مكان والمعبود في كل زمان والموجود في كل أوان والمدعو بكل لسان والمعظم في كل جنان، وأستغفرك من كل لذة بغير ذكرك ومن كل راحة بغير أنسك ومن كل سرور بغير قربك ومن كل شغل بغير طاعتك..)([77])
والرابعة عشرة منها مناجاة المعتصمين، وهي ترجمة لكل ما ورد في القرآن الكريم من الدعوة إلى اللجوء إلى الله، والفرار إليه، والاستعاذة به، والتحصن في حصونه.. يقول فيها السجاد: (اللهم يا ملاذ اللآئذين ويامعاذ العائذين ويامنجي الهالكين ويا عاصم البائسين وياراحم المساكين ويا مجيب المضطرين ويا كنز المفتقرين وياجابر المنكسرين ويامأوى المنقطعين وياناصر المستضعفين ويامجير الخائفين ويامغيث المكروبين وياحصن اللا جئين، إن لم أعذ بعزتك فبمن أعوذ وإن لم ألذ بقدرتك فبمن ألوذ؟ وقد ألجأتني الذنوب إلى التشبث بأذيال عفوك وأحوجتني الخطايا إلى استفتاح أبواب صفحك ودعتني الاسأة إلى الاناخة بفناء عزك وحملتني المخافة من نقمتك على التمسك بعروة عطفك، وما حق من اعتصم بحبلك أن يخذل ولا يليق بمن استجار بعزك أن يسلم أو يهمل؟..)([78])
والخامسة عشرة منها مناجاة الزاهدين، وهي مناجاة يستعيذ فيها السجاد من الدنيا وإغرائها وتلاعبها بأهلها، وهي تعلم المدمن عليها التالي لها قيمة الزهد وأهميته ودوره في السير التحققي والتخلقي، يقول فيها السجاد: (إلهي أسكنتنا دارا حفرت لنا حفر مكرها وعلقتنا بأيدي المنايا في حبائل غدرها فإليك نلتجي من مكائد خدعها وبك نعتصم من الاغترار بزخارف زينتها فإنها المهلكة طلابها المتلفة حلالها المحشوة بالآفات المشحونة بالنكبات، إلهي فزهدنا فيها وسلمنا منها بتوفيقك وعصمتك وانزع عنا جلابيب مخالفتك وتول أمورنا بحسن كفايتك وأوفر مزيدنا من سعة رحمتك وأجمل صلاتنا من فيض مواهبك..)([79])
هذه مجرد نماذج ومقتطفات قليلة جدا بجنب ذلك التراث الكبير الذي تركه لنا السجاد، وتركته لنا العترة الطاهرة من أدعية وأذكار ومناجاة.. كلها تمتلئ بالمعاني السامية الرفيعة..
وهي جميعا تخلو من كل تلك الأكاذيب التي يروجها المتطرفون من أنها تتعرض للصحابة أو لغيرهم بالطعن والإساءة.. بل إنها على العكس من ذلك، فمن الأدعية الواردة في الصحيفة السجادية، والتي لا يزال يرددها الشيعة اقتداء بإمامهم السجاد ذلك الدعاء المخصص للصحابة.. لا لصحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقط، بل لصحابة جميع الأنبياء عليهم السلام، وهو الدعاء المسمى [الصلاة على أتباع الرسل ومصدقيهم]، والذي سبق لنا ذكره في الفصل السابق.
وهكذا نجد فيها الدعاء للتابعين لهم بإحسان، يقول السجاد: (اللهم وأوصل إلى التابعين لهم بإحسان الذين يقولون: ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان خير جزائك، الذين قصدوا سمتهم، وتحروا وجهتهم، ومضوا على شاكلتهم، لم يثنهم ريب في بصيرتهم، ولم يختلجهم شك في قفو آثارهم والائتمام بهداية منارهم، مكانفين وموازرين لهم، يدينون بدينهم، ويهتدون بهديهم، يتفقون عليهم، ولا يتهمونهم فيما أدوا إليهم. أللهم وصل على التابعين من يومنا هذا إلى يوم الدين، وعلى أزواجهم، وعلى ذرياتهم، وعلى من أطاعك منهم صلاة تعصمهم بهامن معصيتك، وتفسح لهم في رياض جنتك، وتمنعهم بها من كيد الشيطان، وتعينهم بها على ما استعانوك عليه من بر، وتقيهم طوارق الليل والنهار إلا طارقا يطرق بخير، وتبعثهم بها على اعتقاد حسن الرجـاء لك، والطمع فيما عندك، وترك النهمة فيما تحويه أيدي العباد لتردهم إلى الرغبة إليك والرهبة منك، وتزهدهم في سعة العاجل وتحبب إليهم العمل للاجل، والاستعداد لما بعد الموت وتهون عليهم كل كرب يحل بهم يوم خـروج الانفس من أبدانها، وتعافيهم مما تقع به الفتنة من محذوراتها، وكبة النار وطول الخلود فيها، وتصيرهم إلى أمن من مقيل المتقين) ([80])
لكن التكفيريين للأسف لا ينظروف لمئات الأدعية الممتلئة بمثل هذه المعاني السامية، ويذهبون إلى بعض الأدعية التي ورد الخلاف في شأنها، وهي لا تشكل إلا جزءا ضئيلا جدا من ذلك التراث العظيم من المعاني التحققية والتخلقية..
وحتى تلك التي يشيرون إليها ليس فيها أي تصريح بأي اسم من الأسماء، بل هي تشير إلى وجود من سعى إلى تغيير الدين وتبديله وتحريفه وتشويهه.. وكل ذلك صحيح وإن وقع الخلاف في المصاديق.
لكن التكفيريين لا ينظرون إلى كل ذلك، ولا يهتمون به، لأن هدفهم ليس التحقق ولا التخلق، وإنما هدفهم تفريق الأمة وتشتيتها، ولو بحرمانها من ذلك التراث العظيم الذي أوصى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأصحابه، ودعا إلى التمسك بهم، والاهتداء بهديهم.
4 ـ الاهتمام بالحج والزيارات وأبعادها الروحية:
من وسائل التربية الروحية التي اهتم بها الإيرانيون قديما، ولا يزالون يهتمون بها حديثا الحج وما يرتبط به وبغيره من زيارات، فلكليهما هدف واحد هو تذكر أحداث تاريخية مرتبطة بالأنبياء وورثتهم، وفي نفس الوقت فرصة لتلاقي المؤمنين، وممارسة كثير من العبادات الجماعية التي توحد قلوبهم، وتطهر نفوسهم، وتسمو بأرواحهم.
وقد أشار إلى هذه المعاني وغيرها الخميني في رسائله وخطبه للحجاج، والتي جمعت في كتاب [أبعاد الحج في كلام الإمام الخميني]، والتي دعا فيها إلى تفعيل مقاصد الحج، وعدم تعطيها؛ فالحج أكبر مناسبة لبث الوعي بين المسلمين، وتوحيد صفوفهم، ووضع الخطط لمواجهة أعدائهم.
ومن أقواله في ذلك ـ وهو يشير إلى المعاني التي على الحجاج أن يلاحظوها أثناء حجهم ـ: (من النقاط المهمة التي ينبغي على الحجاج الكرام الالتفات إليها، أن مكة المكرمة والمشاهد المشرفة مرآة للأحداث الكبيرة لنهضة الأنبياء والإسلام ورسالة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وهي مكان نزل فيه الأنبياء وجبريل الأمين، وهذا المكان الذي يذكرنا بالمصائب والصعوبات التي تحملها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في سبيل الإسلام والبشرية لعدد من السنين.. وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار الشروط الصعبة لبعثة النبي، عرفنا أكثر مسؤولية الحفاظ على إنجازات هذه النهضة وهذه الرسالة الإلهية، وكم عانى النبي الأكرم وأئمة الهدى (عليهم السلام) من الغربة لأجل دين الحق وإزهاق الباطل. لقد استقاموا ووقفوا ولم يهابوا أو يجزعوا من التهم والإهانات وجراحات ألسنة أمثال أبي لهب وأبي جهل وأبي سفيان، وفي نفس الوقت استمروا وأكملوا طريقهم رغم الحصار الاقتصادي في شعب أبي طالب، ولم يستسلموا ولم يهنوا، ومن بعدها تحملوا الهجرات والمرارات في سبيل دعوة الحق، وتبليغ رسالة الله، وتواجدوا في الحروب المتتالية وغير المتكافئة وهم رغم الآلاف من المؤامرات ورغم كثرة المنافقين، قاموا بهداية وإرشاد الناس بهمة عالية وصلبة حيث تشهد صخور وحصى مكة والمدينة وصحاريها وجبالها وأزقتها وأسواقها على آثار تبليغ رسالتهم)([81])
ومن المعاني المتربتة على هذا، والتي يدعو الخميني في خطبه الحجاج إلى الالتفات إليها البراءة من الطواغيت والمجرمين الذي يعتبر توليهم أكبر مظهر من مظاهر الشرك، ذلك أنهم يمثلون الأعداء الحقيقيين للنبوة والأديان، ولا يكتمل التدين إلا بالبراءة منهم، ومن أقواله في ذلك: (إن الكعبة المعظمة هي المركز الأوحد لتحطيم الأصنام، لقد رفع نداء التوحيد من الكعبة إبراهيم الخليل في أول الزمان، وسيرفعه حبيب الله ولده المهدي العزيز الموعود روحي فداه في آخر الزمان، وسيبقى مرتفعا)([82])
وفي هذا النص أبلغ رد على أولئك الذين يتوهمون أن الشيعة، وخصوصا القادة الفكريين والسياسيين للجمهورية الإسلامية الإيرانية يكرهون مكة أو الكعبة، ويفضلون عليهما المشاهد والمزارات المرتبطة بالأئمة، وهذا من البهتان العظيم.
فالمصادر الشيعية جميعا، وأولها الآثار المنقولة عن أئمتهم تعظم الكعبة، وكل المحال التي كان فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهم يعتبرون الحج واجبا شرعيا على المستطيع، كما نص على ذلك القرآن الكريم، بينما لا يعتبرون الزيارات إلا من المستحبات والأعمال الصالحة التي لا ترقى إلى الوجوب، فكيف تغني عن الحج؟
أما ما ورد عنهم من نصوص في ذلك، فهو لا يختلف عن تلك النصوص التي وردت في الأحاديث الشريفة التي نجدها في المصادر السنية من أمثال قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من سبح مائة بالغداة، ومائة بالعشي: كان كمن حج مائة حجة، ومن حمد مائة مرة بالغداة، ومائة بالعشي: كان كمن حمل على مائة فرس في سبيل الله، ومن هلل مائة بالغداة ومائة بالعشي: كان كمن أعتق مائة رقبة من ولد إسماعيل، ومن كبر الله مائة بالغداة ومائة بالعشي: لم يأت في ذلك اليوم أحد بأفضل مما جاء به، إلا من قال مثل ما قال، أو زاد على ما قال)([83])
ومثله قوله صلى الله عليه وآله وسلم في أجر من ذهب إلى المسجد لحضور درس علم أو ليعلـم علما، ففي الحديث: (من غدا إلى المسجد لا يريد إلا أن يتعلم خيرا أو يعلمه، كان له كأجر حاج تاما حجته)([84])
ومثلهما قوله صلى الله عليه وآله وسلم في أجر من ذهب إلى المسجد على وضوء؛ ليصلي فيه المكتوبة، ففي الحديث: (من خرج من بيته متطهرا إلى صلاة مكتوبة فأجره كأجر الحاج المحرم ومن خرج إلى تسبيح الضحى لا ينصبه إلا إياه فأجره كأجر المعتمر)([85])
ومثلهم قوله صلى الله عليه وآله وسلم في أجر من يصلي صلاة الصبح في جماعة، ويمكث في المسجد يذكر الله تعالى حتى تطلع الشمس، ثم يصلي ركعتين: (من صلى الغداة في جماعة، ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة)([86])، وفي رواية: (من صلى الصبح ثم جلس في مجلسه حتى تمكنه الصلاة كان بمنزلة عمرة وحجة متقبلتين)([87])
فلم يقل أحد من الناس أن هذه الأعمال تغني عن الحج، أو أن لها الأفضلية المطلقة على الحج، وهكذا يفسر ما ورد عن الأئمة في فضل تجشم المشاق لزيارة الإمام الحسين أو غيره من الأئمة، لما في تلك الزيارة من فوائد دينية كثيرة لا يمكن أن يعوضها عمل آخر.
وقد أشار الشيخ الشيخ ابن عثيمين ـ والذي يتبناه السلفية، ويعتقدون إمامته ـ إلى هذا المعنى، عندما سئل عن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من جلس في مصلاه بعد صلاة الفجر إلى طلوع الشمس كان كحجة وعمرة تامة تامة)، وهل أن من فعل هذا فله مثل أجر الحج والعمرة؟
فأجاب بقوله: (.. الثواب لا قياس فيه، فقد يثاب الإنسان على عمل قليل ثواب عمل كثير ؛ لأن الثواب فضل من الله عز وجل يؤتيه من يشاء)([88])
وبذلك لا معنى لتلك الحملة الشديدة التي تشن على الشيعة بسبب تعظيمهم لمقامات أئمتهم، وزيارتهم لهم، فهم يزورونهم وفي نفس الوقت يقومون بالحج الذي يعتقدون وجوبه، ولا يرون أن أحدهما مغن عن الآخر.
مع العلم أن الكثير من مقاصد الحجج تتحقق في تلك الزيارات، حيث يجتمع المؤمنون من كل مكان، وفي تلك الأماكن يجدون الكثير من أهل العلم والصلاح، وقد يكون ذلك سببا في تغير حياتهم جميعا.
وهذه الزيارات لم تكن خاصة بالشيعة، بل إن جميع المدارس السنية ما عدا المدرسة السلفية يؤمنون بزيارة الأولياء والصالحين وتأثيرها في حياتهم، بل إن الكثير منهم يقدمون أمثال تلك الزيارات على الحج، حتى إذا ما ذهبوا إلى الحج ذهبوا، وهم يعرفون قيمته ومقاصده.
ومثل ذلك مثل الذي يقال له: لا ينبغي أن تحج قبل أن تزور إمام المسجد، وتجلس إليه، وتتعلم منه، حتى إذا ما ذهبت إلى الحج كان ذلك مؤثرا فيك، مفيدا لك، ولم تبق في أي شيء ربما يبطل عليك حجك.
وقد ذكر الشيخ محمد حسين الزين في كتابه [الشيعة في التاريخ] بعض مشاهداته مع أبناء المدرسة السنية، وتعظيمهم لمقامات أوليائهم من أمثال الشيخ عبد القادر الجيلاني وغيره؛ فقال: (مقامات الأولياء كثيرة في بلاد الإسلام، ويزورها المسلمون، ويتبركون بها إلا ما شذ منهم، بل قد يتبركون بمن زارها ويحترمونه أكبر احترام، وخصوصا أهل مصر وحلب)
ثم ذكر قصة حدثت له، فقال: (وإليك قصة شاهدتها بنفسي، بل على الأصح جرت معي في 15 جمادى الأولى سنة 1342 هـ حيث سافرت يومئذ من بغداد إلى حلب، ومنها إلى بيروت، واجتمعت في محطة القطار الحلبية بثلاثة نفر من الحلبيين عليهم أبهة الجلالة وسيماء التقوى حتى أن أحدهم قد أسدل على وجهه منديلا وسد أنفه بإصبعيه من فوق المنديل لما رأى بعض اللبنانيين يشربون الخمر في القطار، ومجمل القصة أنني سألتهم ابتداء عن محل قطع التذاكر للركاب، فأجابوا: ذلك هو، وأشاروا إلى جهة من جهات المحطة، وقبل أن أذهب إلى تلك الجهة قالوا: وين رايح؟ فقلت: رايح إلى بيروت وكنت في بغداد، فقالوا: أصحيح في بغداد؟، قلت: نعم، صحيح، قالوا: أرأيت مقام سيدنا عبد القادر الجيلاني؟ قلت: رأيته طبعا.. فأقبلوا فورا على جبهتي يقبلونها قبلات حارة، ثم ذهبوا معي بأجمعهم وقطعوا لي تذكرة السفر وحملوا أسبابي إلى القطار، وجلسوا حولي يتحدثون عن مناقب عبد القادر وكراماته حتى بلغوا بها إلى أعلى مراتب الغلو، ورحت أحدثهم عن مقامه الفخم، وبنائه البديع، إلى أن جاء وقت (الترويقة)، فقمت وأتيت بما كان باقيا لدي من الزاد الذي صحبته معي من بغداد وقدمته إليهم ودعوتهم إليه (وكان فيه فتيت كعك وبعض تميرات) فاختاروهما على غيرها، وابتدأوا بقسمة الفتيت؛ فالتهم كل سهمه بلهفة مدهشة، ثم تقاسموا التميرات ولف كل سهمه بورقة، وقالوا – معتذرين: نبقيها للبركة، ثم قاموا وجاءوا بزادهم الفاخر، فأكلنا جميعا. ولا تسل عن خدمتهم لي طول الطريق حتى وصلنا بيروت وافترقنا قسرا)([89])
ثم علق على ذلك بقوله: (فهل يسوغ لي أو لأي مسلم أن يبهت هؤلاء النفر أو يرميهم بقول: (إنهم يحترمون كلمة قادري أو بغدادي عن كلمة حجي) أو بأن (من زار عبد القادر أكثر احتراما وطهارة عندهم ممن زار مكة)؟ اللهم لا؛ لأن ذلك بهتان عظيم، وفتق بين المسلمين كبير، خليق بكل مسلم غيور رتقه وصد فاتقيه، لئلا يتسع، فيسهل على المستعمر الدخول منه)([90])
وما ذكره الشيخ محمد حسين الزين من تعلق عامة المسلمين من المدرسة السنية بالأولياء والصالحين، وزيارتهم لمقاماتهم وتبركهم بهم، ليس خاصا بالعامة فقط، بل نرى في كتب التاريخ والرجال الكثير من الأعلام الذين يشدون الرحال لزيارة المقامات، وخصوصا مقامات أهل البيت([91])، وخصوصا مقام الإمام الرضا في مشهد، والذي تحول إلى مركز من مراكز الحضارة بسبب ذلك الاهتمام الكبير، والجموع الكبيرة التي كانت تجتمع حوله.
وقد ذكر الحافظ ابن حبان في كتابه [الثقات] ذلك مقررا له، فقال: (وقبره ـ أي قبر الإمام علي الرضا ـ بسنا باذ خارج النوقان مشهور يزار بجنب قبر الرشيد قد زرته مرارا كثيرة، وما حلت بي شدة في وقت مقامي بطوس فزرت قبر على بن موسى الرضا صلوات الله على جده وعليه ودعوت الله إزالتها عنى إلا أستجيب لي وزالت عنى تلك الشدة، وهذا شئ جربته مرارا، فوجدته كذلك أماتنا الله على محبة المصطفى وأهل بيته صلوات الله عليه وعليهم أجمعين)([92])
بل إن من الأسباب الكبرى لتكفير الشيخ محمد بن عبد الوهاب وغيره من السلفية لعلماء الأمة وعامتها هو بسبب تلك المقامات والزيارات، التي كانت قاسما مشتركا بين المسلمين جميعا، ولم يشذ عنهم فيها إلا التيار السلفي.
ومثلما يحصل الآن من تكفير إيران بسبب تلك المقامات وزيارتها، حصل قبله تكفير مماثل لا يقل عنه للدولة العثمانية، فقد سئل الشيخ عبدالله بن عبداللطيف (توفي 1339هـ) عن من لم يكفر الدولة العثمانية واختار ولايتهم، فأجاب بقوله: (من لم يعرف كفر الدولة العثمانية، ولم يفرق بينهم وبين البغاة من المسلمين لم يعرف معنى لا إله إلا الله، فإن اعتقد مع ذلك أن الدولة العثمانية مسلمون فهو أشد وأعظم، وهذا هو الشك في كفر من كفر بالله وأِرك به، ومن جرهم وأعانهم على المسلمين بأي إعانة فهي ردة صريحة)([93])
ثانيا ـ اهتمام الإيرانيين بالسلوك التحققي:
وهو ما يعبر عنه عندهم، وعند جميع الشيعة بالعرفان العملي، ويقصدون به كل الوسائل التي تستعمل للسير إلى الله والتقرب منه، ويمكن اعتبار أكثر ما كتب في هذا المجال، كتب في إيران، وخصوصا على يدي كبار صوفيتها من أمثال أبي حامد الغزالي الطوسي الذي ترك كتبا كثيرة في هذا المجال، وأهمها كتابه [إحياء علوم الدين] الذي يعتبر موسوعة كاملة في السير التحققي والتخلقي.
ومنها كتابه الذي ينسب إليه [منهاج العابدين]([94])، والذي ذكر فيه الخطوات العملية للتزكية مشبهاً لها بالطريق الذي يسلكه الشخص للوصول إلى مقصوده، ومن العقبات التي تعترض السالك، وبين الغزالي كيف تجاوزها: عقبة العلم.. ثم عقبة التوبة.. ثم عقبة العوائق..ثم عقبة العوارض.. ثم عقبة البواعث.. ثم عقبة القوادح.. ثم عقبة الحمد والشكر)
ومن الذين كتبوا في هذا المجال من الإيرانيين أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري النيسابوري، وخاصة في كتابه المشهور المتداول بين الصوفية إلى اليوم، والمعنون بـ [الرسالة القشيرية]
ومنهم أبو نصر عبد الله السراج الطوسي (توفي 378 هـ) الملقب بطاووس الفقراء، وصاحب كتاب [اللمع في التصوف] والذي ذكر فيه المنهج الصوفي في السلوك، كما ذكر فيه طبقات الصوفية وعلومهم ومصطلحاتهم وأقوالهم وأحوالهم.
ومنهم الملا محسن فيض الكاشاني([95])، (توفي 1091 هـ) صاحب كتاب [المحجة البيضاء، في تهذيب الإحياء]، والذي أراد من خلاله تهذيب بعض ما رآه من مخالفات في الإحياء، لا علاقة لها بالسلوك، بالإضافة إلى ذكر الروايات عن أهل البيت مما لم يذكره الغزالي، وقد ذكر في مقدمة كتابه سبب تأليفه، فقال: (.. فرأيت أن أهذبه تهذيباً يزيل عنه ما فيه من الوصمة والعيب، وأبني مطالبه كلّها على أصول أصيلة مُحكمة لا يتطرق إليها شك ولا ريب، وأضيف إليها في بعض الأبواب ما ورد عن أهل البيت من الأسرار المختصة بهم، وأختصر بعض مباحثه بنظم فرائده، وحذف زوائده، لكي يزيد فيه رغبة متناوليه، وأفصّل أبوابه الطويلة بفصول قصيرة)([96])
ومنهم أبو حفص شهاب الدين السهروردي([97]) (539 ـ 632 هـ)، مؤسس الطريقة السهروردية الصوفية، وصاحب كتاب [عوارف المعارف] في السلوك الصوفي وآدابه، وقد وصفه الذهبي بأنه (الشيخ الإمام العالم القدوة الزاهد العارف المحدث شيخ الإسلام أوحد الصوفية)، وقال عنه ابن النجار: (كان شهاب الدين شيخ وقته في علم الحقيقة، وانتهت إليه الرياسة في تربية المريدين، ودعاء الخلق إلى الله، والتسليك)
وأكثر مؤلفاته في السلوك الصوفي وآدابه، ومنها: عوارف المعارف، ونغبة البيان في تفسير القرآن، وجذب القلوب إلى مواصلة المحبوب، والسير والطير، ورشف النصائح الإيمانية وكشف الفضائح اليونانية.
ومن المتأخرين نجد الكتب الكثيرة في هذا المجال، وخاصة تلك الكتب التي تشرح [منازل السائرين]، وغيرها من كتب السلوك.
وقد أولى القادة الروحيون للجمهورية الإسلامية الإيرانية هذا الجانب اهتماما كبيرا، باعتبار الكثير منهم ينتمون إلى المدرسة العرفانية في التشيع، وهي مدرسة تتبنى الكثير من المعاني الصوفية الواردة في المدرسة السنية، ولكنها تختلف معها في المصاديق أو في بعض المضامين، مثلما ذكرنا ذلك عن موقف الكاشاني من إحياء علوم الدين، والذي هذبه حتى يتناسب مع المدرسة الشيعية.
وتناسبه مع المدرسة الشيعية لا يعني ـ كما يذكر المغرضون ـ تحوله إلى دين باطني غنوصي لا علاقة له بالشرائع والشعائر الإسلامية، وإنما نعني به ما عرفت هذه المدرسة من تقديم النص على الاجتهاد، ومراعاة الرجوع في كل التفاصيل لأئمة أهل البيت، وهو ما يعني الحفاظ على الشريعة بكل معانيها الظاهرة والباطنة، كما عبر عن ذلك الخميني بقوله: (واعلم أن طي أي طريق في المعارف الإلهية، لا يمكن إلا بالبدء بظاهر الشريعة، وما لم يتأدب الإنسان بآداب الشريعة الحقة، لا يحصل له شيء من حقيقة الأخلاق الحسنة، كما لا يمكن أن يتجلى في قلبه نور المعرفة وتتكشف له العلوم الباطنية وأسرار الشريعة. وبعد انكشاف الحقيقة، وظهور أنوار المعارف في قلبه لا بد من الاستمرار في التأدب بالآداب اشرعية الظاهرية أيضا) ([98])
ثم رد على من يخالف ذلك من أدعياء التصوف؛ فقال: (ومن هنا نعرف بطلان دعوى من يقول: (إن الوصول إلى العلم الباطن يكون بترك العلم الظاهر)، أو (لا حاجة إلى الآداب الظاهرية بعد الوصول إلى العلم الباطن)، وأن هذه الدعوى ترجع إلى جهل من يقول بها، وجهله بمقامات العبادة ودرجات الإنسانية)([99])
ولهذا نراه في كتبه العرفانية جميعا يحرص على الدعوة إلى مراعاة أدق التفاصيل في الأحكام الشرعية، فهو يخاطب مريده محذرا له من دقائق الرياء، قائلا: (أيها العزيز، كن دقيقا في أعمالك، وحاسب نفسك في كل عمل، واستنطقها عن الدافع في الأعمال الخيرة، والأمور الشريفة، فما الذي يدفعها إلى السؤال عن مسائل صلاة الليل أو على ترديد الأذكار؟ هل تريد تتفهّم أحكام صلاة الليل وتُعلمها قربة إلى الله، أو تريد أن توحي إلى الناس بأنها من أهل صلاة الليل؟.. لماذا لا ترضى أن لا يطلع أحد على الصدقات التي تعطيها في الخفاء، وتحاول أن تتحدث عنها ليطّلع عليها الناس؟ إذا كان ذلك لله، وتريد أن يتأسىّ به الناس باعتبار أن [الدال على الخير كفاعله] فإن إظهار حسن، وأشكر الله على هذا الضمير النقي والقلب الطاهر، ولكن ليكن الإنسان حذرا في المناظرة والجدال مع النفس، وأن لا ينخدع بمكرها وإظهارها له العمل المرائي بصورة عمل مقدس. فإن لم يكن لله، فتركه أولى، لأن هذا من طلب السمعة وهو من شجرة الرياء الملعونة. ولن يقبل الله المنان عمله، بل يأمر بإلقائه في سجّين، ويجب علينا أن نستعيذ بالله تعالى من شرِّ مكائد النفس، فإن مكائدها خفية جداً)([100])
وهو في كل كتبه يختلف تماما مع أولئك الذين يدّعون المعرفة بالله، بينما يمارسون كل أنواع الإرجاء، والتساهل مع الأحكام الشرعية، بحجة رحمة الله الواسعة، ومن الأمثلة على ذلك قوله ـ في معرض حديثه عن الرياء وخطورته ـ: (ويل لأهل الطاعة والعبادة والعلم والديانة الذين عندما يفتحون أبصارهم ويقيم سلطان الآخرة قدرته، يرون أنفسهم من أهل كبائر المعاصي، بل وأسوأ من أهل الكفر والشرك، بحيث أن صحفية أعمالهم تكون أشد سوادا من صحائف الكفار والمشركين، الويل لمن يدخل بصلاته وطاعته جهنم، الويل لمن تكون صورة صدقته وزكاته وصلاته أبشع مما يمكن تصوره.. أيها المسكين المرائي، أنت مشرك، وأما العاصي فموحد، إن الله يرحم بفضله العاصي إن شاء، لكنه يقول إنه لن يرحم المشرك إذا رحل من الدنيا بدون توبة)([101])
وهكذا نراه يستعمل الترغيب والترهيب، وبلغة واضحة ليس فيها تلك الشطحات التي نراها عادة في كتب الذين خلطوا العرفان بالغنوصيات الشرقية والغربية، فهو يقول لمريده: (يا أيها العزيز؛ فكّر لتجد سبيلا لنجاتك، واعلم أن الشهرة ين هؤلاء الناس وَهمٌ باطل، إنها ليست بشيء. إن قلوب هؤلاء التي لو أكلها عصفورا لما شبع، إن هي إلا قلوب ضعيفة تافهة، ولا طاقة لها على شيء وإن هذا المخلوق الضعيف لا حول له ولا قوة. القوة هي قوة الله المقدسة، فهو الفاعل المطلق ومسبب الأسباب. ولو اجتمع الناس جميعا وكان بعضهم لبعض ظهيرا، لما استطاعوا أن يخلقوا ذبابة، وإذا سلبت منهم الذبابة شيئا لما استطاعوا استرجاعه منها، كما جاء في الآية الكريمة) ([102])
ولهذا نرى ذلك الورع الذي يدعو من خلاله إلى التزام أدق آداب الشريعة، بل إنه يدعو إلى مراعاة الاحتياط حتى في الأمور التي نص فيها الفقهاء على الجواز، ومن الأمثلة على ذلك ما عقب به على ما ذكره الفقهاء من المحال التي تجوز فيها الغيبة، حيث قال: (اعلم بأن العلماء والفقهاء ـ رضوان الله عليهم ـ استثنوا موارداً من حرمة الغيبة تبلغ في كلمات بعضهم العشرة، ولسنا بصدد عرضها وتعدادها، حتى لا تكون هذه الصفحات ساحة لبيان الأبحاث الفقهية)([103])
وبعد أن أقر بما قاله الفقهاء، راح يذكر موقفه الذي يدعو فيه إلى الاحتياط، فيقول: (والذي يجب أن نذكره هنا هو أن على الإنسان أن لا يعيش حالة الاطمئنان أبداً من مكائد النفس، بل يجب أن يتحرك في منتهى الحذر والاحتياط، ولا يكون في صدد التبرير ـ لغيبته ـ بالأعذار بأن يقول أن هذا المورد هو من الموارد المستثناة فيسمح لنفسه بالبحث عن عيوب الناس وإشاعتها في المجتمع، إن مكائد النفس بالغة الدقة، فيمكن أن تَخدع الإنسان عن طريق الشرع، وتزِجّه في مهلكة) ([104])
وضرب مثالا على ذلك بما يذكره الفقهاء من جواز غيبة المتجاهر بالفسق، بعد أن يردع وينصح، فقال معقبا على ذلك: (ولكن يجب أن يتأمل الإنسان بأن الدافع النفسي لغيبته هو الداعي الشرعي الإلهي ـ النهي عن المنكر ـ أو أن الباعث، أهواء شيطانية، ورغبة نفسانية ـ العداوة والتشفي.. فإن كان الهدف الدافع الإلهي ـ النهي عن المنكر ـ كان عمله من العبادات، بل كانت غيبته هذه بنيّة إصلاح المتجاهر بالفسق والإساءة إليه، من أوضح مصاديق الإحسان والإنعام إليه وإن لم يشعر المغتاب بذلك، ولكن إذا كان قصده مشوباً بالفساد والميول النفسانية، فلا بد من تخليص النية ـ من غير الدافع الإلهي ـ والصفح عن أعراض الناس وحرماتهم عند عدم وجود هدف صحيح) ([105])
وهو يدعو إلى ترك المتشابهات، حرصا على عدم الوقوع في الحرام؛ فيقول: (بل إن تعويد النفس على الغيبة في الأحوال الجائزة، يضرّ بحالها أيضاً، لأن النفس تميل نحو الشرور والقبائح، فمن المحتمل أن ينجرّ رويداً رويداً من الموارد الجائزة إلى مرحلة أخرى وهي الموارد المحرمة، كما أن الدخول في الشبهات غير محمود، رغم جوازه، لأنها حمى المحرمات ومن الممكن أن الاقتحام في الحمى يفضي إلى الدخول في المحرمات. يجب على الإنسان مهما أمكن أن يبعد النفس عن الغيبة في الأحوال المسموحة، ويحترز عن الأمور التي يحتمل أن يكون فيها طغيان للنفس) ([106])
وهكذا نرى كتابه [شرح الأربعين حديثا] مملوءا بمثل هذه المعاني الراقية التي تجنب فيها ما وقع فيه بعض الصوفية من الطامات والشطحات والتساهل مع الشريعة.
ويمكن اعتبار هذا الكتاب من أحسن ما كتب في هذا الباب، ويهتم به الخطباء والوعاظ الإيرانيون كثيرا، باعتباره مادة تربوية علمية وعظية، لها دورها التربوري الكبير، فقد استطاع فيه الخميني أن يعبر عن مراحل السلوك وكيفيته بطريقة سهلة بسيطة جذابة، وفوق ذلك جعل تلك المعاني منطلقة من النصوص المقدسة، وشروحا لها.
وللأسف لا نجد اهتماما كبيرا به في المدرسة السنية، مع أهميته البالغة، وكونه ـ كالسلوك الروحي جميعا ـ لا فرق فيه بين المدارس الإسلامية.
وأحب أن أذكر هنا بعض أقواله في التزكية والتي تبين مدى التقارب الموجود بين المدارس الإسلامية في هذا الباب، ذلك أن كل ما ذكره لا يختلف عما يذكره سائر علماء السلوك من معان، وهو رد بليغ على من يصور السلوك الروحي عند الشيعة، بأوهام لا علاقة لها بالواقع.
فقد بدأ كتابه بأول حديث، رواه بسنده إلى جعفر الصادق عن آبائه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنه بعث سرية، فلما رجعوا، قال: (مرحبا بقوم قضوا الجهاد الأصغر، وبقى عليهم الجهاد الأكبر)، فقيل: يا رسول الله وما الجهاد الأكبر؟ قال: (جهاد النفس)([107])
ثم علق عليه بقوله ـ مبينا ضرورة السلوك للتحقق بحقيقة الإنسان ـ: (اعلم أن الإنسان كائن عجيب، له نشأتان وعالمان: نشأة ظاهرية ملكية دنيوية هي بدنه، ونشأة باطنية غيبية ملكوتية تكون من عالم آخر، إن لروح الإنسان التي هي من عالم الغيب والملكوت مقامات ودرجات، قسَّمها علماء السلوك بصورة عامة إلى سبعة أقسام حيناً، وإلى أربعة أقسام حيناً ثانياً، وإلى ثلاثة أقسام حيناً ثالثاً، وإلى قسمين حيناً رابعاً.. ولكل من المقامات والدرجات جنود رحمانية وعقلانية تجذب النفس نحو الملكوت الأعلى وتدعوها السعادة، وجنود شيطانية وجهلانية تجذب النفس نحو الملكوت السفلي وتدعوها للشقاء، وهناك دائماً جدال ونزاع بين هذين المعسكرين، والإنسان هو ساحة حربهما، فإذا تغلبت جنود الرحمن كان الإنسان من أهل السعادة والرحمة وانخرط في سلك الملائكة وحُشِرَ في زمرة الأنبياء والأولياء والصالحين، وأما إذا تغلب جند الشيطان ومعسكر الجهل، كان الإنسان من أهل الشقاء والغضب، وحُشِرَ في زمرة الشياطين والكفار والمحرومين)([108])
وانطلاقا من هذا المعنى راح يتحدث ـ مثلما يتحدث صوفية المدرسة السنية ـ عن مقامات النفس وأوجه سعادتها وتعاستها وكيفية مجاهدتها.
ولا يمكن ذكر ذلك جميعا هنا، ولكن نشير إلى بعض ما ذكره من باب الرد على الذين يصورون أن للشيعة دينا آخر مختلفا تماما عن الإسلام، ذلك أن القيم النبيلة التي طرحها الخميني في كتابه عن كيفية مجاهد النفس، لا تخطر حتى على بال أولئك الذين يجلسون على الأرائك يتثاءبون، ثم يطلقون أحكامهم التكفيرية من غير بحث ولا دراسة ولا اطلاع، وإنما هو الهوى المجرد.
فأول ما تبدأ به المجاهدات النفسية ـ كما يذكر الخميني ـ [التفكر]، فهو البداية التي يبدأ بها السير إلى الله.. ويبين الخميني كيفيته؛ فيقول: (التفكر في هذا المقام هو أن يفكر الإنسان بعض الوقت في أن مولاه الذي خلقه في هذه الدنيا، ووفّر له كل أسباب الدعة والراحة، ووهبه جسماً سليماً وقوي سالمة ذات منافع تحيِّر ألباب الجميع، والذي رعاه وهيَّأ له كل هذه السعة وأسباب النعمة والرحمة من جهة وأرسل جميع هؤلاء الأنبياء، وأنزل كلّ هذه الكتب، وأرشد ودعا إلى الهدى.. هذا المولى ماذا يستحق منا؟ وما هو واجبنا تجاه مالك الملوك؟. هل أن وجود جميع هذه النعم، هو فقط لأجل هذه الحياة الحيوانية وإشباع الشهوات التي نشترك فيها مع الحيوانات أو أن هناك هدفاً وغاية أخرى؟.. وهل للأنبياء الكرام، والأولياء العظام، والحكماء الكبار، وعلماء كل أمة الذين يدعون الناس إلى حكم العقل والشرع ويحذرونهم من الشهوات الحيوانية ومن هذه الدنيا البالية، عداءً ضد الناس أم أنهم كانوا مثلنا لا يعلمون طريق صلاحنا نحن المساكين المنغمسين في الشهوات؟!)([109])
ثم يذكر الإجابة المنسجمة مع العقل على هذه التساؤلات التي يطرحها المتفكر؛ فيقول: (إن الإنسان إذا فكَّر لحظة واحدة، عرف أن الهدف من هذه النعم هو شيء آخر، وأن الغاية من هذا الخلق أسمى وأعظم، وأن هذه الحياة الحيوانية ليست هي الغاية بحدَّ ذاتها، وأن على الإنسان العاقل أن يفكر بنفسه، وأن يترحم على حاله ونفسه المسكينة، ويخاطبها قائلاً: أيتها النفس الشقية التي قضيت سني عمرك الطويلة في الشهوات، ولم يكن نصيبك سوى الحسرة والندامة، ابحثي عن الرحمة، وأستحي من مالك الملوك، وسيرى قليلاً في طريق الهدف الأساسي المؤدي إلى حياة الخلد والسعادة السرمدية، ولا تبيعي تلك السعادة بشهوات أيام قليلة فانية، التي لا تتحصل حتى مع الصعوبات المضنية الشاقة. فكّري قليلا في أحوال أهل الدنيا، من السابقين واللاحقين وتأملي متاعبهم وآلامهم كم هي أكبر وأكثر بالنسبة إلى هنائهم، في نفس الوقت الذي لا يوجد فيه هناء وراحة لأي شخص) ([110])
وبعد أن يجيب على الشبهات المختلفة التي قد يوسوس بها الشيطان على بال المريد في أول سلوكه، يذكر المرحلة الثانية من مراحل السلوك التحققي، وهي [العزم]، والذي بين أهميته من خلال ما ذكره عن بعض مشايحه الذي قال: (إنَّ العزم هو جوهر الإنسانية، ومعيار ميزة الإنسان، وإن اختلاف درجات الإنسان باختلاف درجات عزمه) ([111])
ثم بين كيفية التحقق به؛ فقال: (العزم الذي يتناسب وهذا المقام، هو أن يوطن الإنسان نفسه على ترك المعاصي وأداء الواجبات، ويتخذ قراراً بذلك، ويتدارك ما فاته في أيام حياته، وبالتالي يسعى على أن يجعل من ظاهره إنساناً عاقلاً وشرعياً، بحيث يحكم الشرع والعقل حسب الظاهر بأن هذا الشخص إنسان. والإنسان الشرعي هو الذي ينظم سلوكه وفق ما يتطلبه الشرع، يكون ظاهره كظاهر الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، يقتدي بالنبي العظيم صلى الله عليه وآله وسلم ويتأسى به في جميع حركاته وسكناته، وفي جميع ما يفعل وما يترك، وهذا أمر ممكن، لأن جعل الظاهر مثل هذا القائد أمر مقدور لأيّ فرد من عباد الله)([112])
ولست أدري ما هو موقف الذين يتصورون أنهم يحتكرون السنة من هذا النص الذي قاله الخميني، والذي يدعو فيه إلى التزام السنة بكل مفرداتها، ومن دون التفريط في أي جزئية من جزئياتها.. أليس لهذا الرجل الحق أيضا في أن يطلق عليه لقب السني؟ وهو الذي لم يترك سنة من السنن إلا وطبقها، ابتداء من شخصه، وانتهاء بالدولة التي أقامها، وحرص على أن ينتهج فيها نهج النبوة في كل تشريع من تشريعاتها.
ثم يذكر الخميني المرحلة الثالثة التي يصل إليها السالك بعد العزم، وهي [المشارطة والمراقبة والمحاسبة]، وهي نفس المعاني التي ذكرها الغزالي وابن القيم وكل من كتبوا في السلوك.
وقد شرح كيفية تنفيذ المشارطة بقوله: (المشارط هو الذي يشارط نفسه في أول يومه على أن لا يرتكب اليوم أي عمل يخالف أوامر الله، ويتخذ قرارا بذلك ويعزم عليه. وواضح أن ترك ما يألف أوامر الله، ليوم واحد، أمر يسير للغاية، ويمكن للإنسان بكل سهولة أن يلتزم به. فاعزم وشارط وجرب، وأنظر كيف أن الأمر سهل يسير، ومن الممكن أن يصور لك إبليس اللعين وجنده أن الأمر صعب وعسير، فادرك أن هذه هي من تلبيسات هذا اللعين، فالعنة قلباً وواقعاً، وأخرج الأوهام الباطلة من قلبك، وجرب ليوم واحد، فعند ذلك ستصدق هذا الأمر)([113])
وشرح كيفية تنفيذ المراقبة بقوله: (وكيفيتها أن تنتبه طوال مدة المشارطة إلى عملك وفقها، فتعتبر نفسك ملزماً بالعمل وفق ما شارطت. وإذا حصل ـ لا سمح الله ـ حديث لنفسك بأن ترتكب عملاً مخالفاً لأمر الله، فاعلم أن ذلك من عمل الشيطان وجنده، فهم يريدونك أن تتراجع عمًّا اشترطته على نفسك، فالعنهم واستعذ بالله من شرهم، واخرج تلك الوساوس الباطلة من قلبك، وقل للشيطان: (إني اشترطت على نفسي أن لا أقوم في هذا اليوم ـ وهو يوم واحد ـ بأ ي عمل يخالف أمر الله تعالى، وهو ولي نعمتي طول عمري، فقد أنعم وتلطّف عليًّ بالصحة والسلامة والأمن وألطاف أخرى، ولو أني بقيت في خدمته إلى الأبد لما أديت حق واحدة منها، وعليه فليس من اللائق أن لا أفي بشرط بسيط كهذا، وآمل ـ إن شاء الله ـ أن ينصرف الشيطان، ويبتعد عنك، وينتصر جنود الرحمن)([114])
وشرح كيفية تنفيذ المحاسبة بقوله: (وأما المحاسبة، فهي أن تحاسب نفسك لترى هل أدّيت ما اشترطت على نفسك مع الله، ولم تخن ولي نعمتك في هذه المعاملة الجزئية؟ إذا كنت قد وفيت حقاً فاشكر الله على هذا التوفيق، وإن شاء الله ييسر لك سبحانه التقدم في أمور دنياك وآخرتك، وسيكون عمل الغد أيسر عليك من سابقه، فواظب على هذا العمل فترة، والمأمول أن يتحول إلى ملكة فيك بحيث يصبح هذا العمل بالنسبة إليك سهلا ويسيراً للغاية، وستحسُّ عندها باللذة والأنس في طاعة الله تعالى وترك معاصيه، وفي هذا العالم بالذات، في حين أن هذا العالم ليس هو عالم الجزاء لكن الجزاء الإلهي يؤثر ويجعلك مستمتعاً وملتذاً ـ بطاعتك لله وابتعادك عن المعصية ـ وأعلم أن الله لم يكلفك ما يشق عليك به، ولم يفرض عليك ما لا طاقة لك به ولا قدرة لك عليه، لكن الشيطان وجنده يصورون لك الأمر وكأنه شاق وصعب)([115])
هذه مجرد نماذج عن بعض المراحل الابتدائية للسير التحققي كما يشرحه الخميني، وقد رأينا من خلالها مدى انسجامه مع الشريعة، ومدى قرب المسافة التي يتحدث من خلالها مع سائر المدارس الإسلامية، بل نراه فوق ذلك يتجنب الكثير من الطامات التي وقع فيها من تحدث في هذا الباب.
ولهذا لا نجد في التراث العرفاني الذي تركه إلا الدعوة لالتزام الشريعة ظاهرا وباطنا، لأنه لا يمكن أن يتحقق السالك بأي حقائق عرفانية من دونها.
ولذلك ننصح أولئك الذين يرمون هذا الرجل الممتلئ بالورع والتقوى والحرص على الشريعة بكل ألوان البهتان والزور أن يراجعوا أنفسهم، وأن يطالعوا كتبه كما كتبها لا كما حرفها الدجالون، ولا ينسوا أن يقرؤوا معها قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث القدسي: (إن الله تعالى قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب)([116])
وإن وجدوا أي هفوة في حديث من أحاديثه، فهو بشر، وليس معصوما؛ فعليهم أن يتعاملوا معه كما يتعاملون مع من يقدسونهم من العلماء والصالحين، حتى لا يرموا غيرهم بالقذاة، وينسون الجذع في أعينهم.
ثالثا ـ اهتمام الإيرانيين بالأذواق والمعارف الروحية:
لا يقتصر اهتمام الإيرانيين على ما ذكرنا من أنواع السلوك الروحي سواء ما ارتبط منه بالشعائر التعبدية، أو ما ارتبط بالرياضات والمجاهدات الروحية، فكل ذلك ليس سوى وسيلة لتحقيق الغاية العظمى من السلوك، وهي التقرب إلى الله، والتعرف عليه، والتحقق بالوصال معه.
وكل هذه المعاني نجدها في التراث الروحي الإيراني، والذي انتشر منه لسائر بلاد العالم الإسلامي؛ فأكثر الشخصيات من المتقدمين والمتأخرين الذين اهتموا بالعرفان النظري، نجدهم من نيسابور أو أصفهان أو طوس أو شيراز أو غيرها من عواصم الحضارة الإيرانية.
ولنثبت هذا نحاول أن نذكر هنا بعض النماذج عن المتقدمين المؤسسين للعرفان النظري، ونماذج عن المتأخرين منهم، ونحتم بنماذج عن قادة الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ومؤسسيها.
1 ـ نماذج عن اهتمام سلف الإيرانيين بالعرفان:
عند مطالعة أي كتاب من كتب طبقات الصوفية، سواء تلك التي ألفها إيرانيون أمثال: اللمع للطوسي، أو الرسالة للقشيري، أو تذكرة الأولياء للعطار، أو تلك التي ألفها غيرهم، نجد أن أكبر المؤسسين للعرفان، والذين نقلت مقولاتهم، وأسس على أساسها التصوف الإسلامي، إيرانيون، سواء عاشوا في إيران، وبثوا معارفهم في مدنها، أو انتقلوا منها إلى غيرها.
وسأذكر هنا باختصار شديد من مصدر من مصادر تراجم الصوفية المعتبرين، بعض النماذج عن أمثال هذه الشخصيات، وبعض مقولاتها في العرفان، ومدى تأثيرها، لنعرف من خلالها أن مساهمة الإيرانيين في خدمة العرفان لا تقل عن مساهماتهم في خدمة سائر العلوم الإسلامية.
وقد تعمدت أن أختار هنا مرجعا معتبرا كتبه مصري، وليس إيرانيا، وهو كتاب (الكواكب الدرية فى تراجم السادة الصوفية) للشيخ محمد عبد الرؤوف بن تاج العارفين المناوي (952 – 1031 هـ)، والذي يعتبر من أشهر ما كتب في هذا الباب من كتب المتأخرين.
وميزته أنه ليس كتاب تاريخ فقط، وإنما نراه يعرض التراجم مشفوعة بذكر أقوال أصحابها، وأطروحاتهم، وأعمالهم، وحكمهم.. وغير ذلك.
ولعل أهم شخصية يمكننا أن نبدأ بها هي شخصية الجنيد، ذلك الذي أجمع الصوفية على أنه سيدهم، فهم يلقبونه [سيد الطائفة]، والذي كان أصله من نهاوند، وهي مدينة من المدن الإيرانية القديمة([117]).
وهو أبو القاسم الجنيد بن محمد([118]) (توفي 297 هـ)، وقد وصفه المناوي بقوله: (هو المزيّن بفنون العلم، المتوشّح بجلابيب التّقوى والحلم، المنوّر بخالص الإيقان، المؤيّد بثابت الإيمان، العالم بمودوع الكتاب، العامل بمحكم الخطاب، الموفّق فيه للبيان والصّواب، كان كلامه بالنصوص مربوطا، وبيانه بالأدلّة منوطا مبسوطا، وهو نهاونديّ الأصل، بغداديّ المنشأ، القواريريّ الزجّاج نسبة لحرفة أبيه، سيّد الطّائفة، ومقدّم الجماعة، وإمام أهل الخرقة، وشيخ طريق التصوّف، بهلوان العارفين، مرجع أهل السّلوك في زمنه فمن بعده، رزق من القبول وصواب القول ما لم يقع لغيره)([119])
ومنهم طاووس بن كيسان ([120]) (توفي 106 هـ)، وقد وصفه المناوي بقوله: (كان من فضلاء الصّالحين، وعلماء العابدين، وعظ وتكلّم على المنابر، وحضر مجلسه الأعيان والأكابر، أصله من الفرس، وأمّه حميريّة.. وأدرك خمسين صحابيّا، صلّى الصّبح بوضوء العشاء أربعين سنة، وحجّ أربعين حجّة)([121])
قال الغزالي: (و كان عظيم الورع، جدّا، ففعل ابن له كتابا على لسانه إلى عمر بن عبد العزيز، فأعطاه ثلاث مئة دينار، فباع طاووس ضيعة له، فبعث بها إلى عمر، هذا مع أنّ السّلطان مثل عمر، فهذه هي الدّرجة العليا في الورع)([122])
بالإضافة إلى هذين العلمين الكبيرين نجد الكثير من أعلام السلوك والعرفان في كتب الرجال والطبقات، وخصوصا من أهل مدينة نيسابور، التي خرج منها الكثير من الصوفية، وأسست فيها الكثير من الثكايا، ومن الشخصيات النيسابورية التي ترجم لها المناوي: حمدون القصّار النّيسابوريّ([123])، وقد وصفه المناوي بقوله: (حمدون القصّار، أحد الأئمّة الكبار، مواعظه سديدة، وكلماته مفيدة، وديانته وافية وافرة، وشمس مناقبه وكراماته باهية باهرة سافرة، وهو شيخ الملامتية. صحب النّخشبيّ وغيره)([124])
ومنهم عمرو بن سلمة الحدّاد([125])، وقد وصفه بقوله: (الإمام أبو حفص النّيسابوري، شيخ خراسان، كان عظيم الشان، عالي المقام، واضح البرهان، مباركا على صوفيّة الإسلام، وتربيته عائدة عليهم بصلات المعارف التي لا تحصرها الأقلام، مشكور السّيرة في السّرّ والجهر، من نوادر العصر، وأفراد الدّهر، له الفتوّة الكاملة، والمروءة الشّاملة، صحب الأبيوردي، وتتلمذ للحيري وغيرهما)([126])
وذكر ابتداء أمره، فقال: (كان حدّادا، فبينما غلامه ينفخ، غاب فكره في ذكر محبوبه، فغاب عن الحسّ البشريّ الظّاهر، ونسي أن يخرج الحديد من الكير بالآلة وأخرجه بيده، فصاح الغلام: الحديد في يدك بلا كلبتين، فرماه به، وخرج سائحا في البرّيّة وهو يقول: شرط المحبّة التّستّر والكتمان لا الافتضاح والإعلان)
وروى عنه أنه دخل على مريض يعوده، فقال: آه، فقال: ممّن؟ فسكت، فقال: مع من؟ فقال: كيف أكون؟ قال: (لا يكون أنينك شكوى ولا سكوتك تجلّدا)
وروى عنه أنه لمّا قدم بغداد لقيه الجنيد، فرأى أصحابه من الأدب معه كأنّما على رؤوسهم الطّير، فقال له: أدّبتهم بآداب الملوك. فقال: لأنّ حسن الأدب في الظّاهر عنوان لأدب الباطن، فقد قال عليه السّلام: (لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه).
ومنهم فاطمة النّيسابوريّة([127])، والتي وصفها بقوله: (كانت من المصطفيات العابدات العارفات، وهي أستاذة ذي النّون المصري، وزارها أبو يزيد البسطامي، وقال: ما رأيت في عمري إلّا رجلا وامرأة، والمرأة فاطمة النّيسابورية، وما أحدّثها عن مقام من المقامات إلّا وكان الخبر لها عيانا، وقال ذو النّون: ما رأيت أجلّ منها)([128])
ومنهم عبد اللّه بن محمد المرتعش النّيسابوري([129])، وقد وصفه بقوله: (له اللّسان النّاطق، والخاطر الفائق، وكان للحقّ قوّالا، وعلى الولاة صوّالا، كبيرا قدره، مثيرا ذكره، منيرا بدره.. وكان يقال: عجائب الدّنيا في التّصوّف ثلاثة: الشّبليّ في الإشارات، والمرتعش في النّكت، وجعفر الخلدي في الحكايات)([130])
ومنهم محمد بن إبراهيم الزّجّاجيّ النّيسابوريّ([131])، وقد وصفه المناوي بقوله: (كان شيخ عصره، وفخر مصره، خير حبر تقتبس الفوائد من نوره، وتغترف من بحره وجوده، كم جاور بين زمزم والمقام! وألقى عصا سفره لمّا رحل الحجيج وأقام، وكم طاب له القرار بطيبة! وطهّر بها من أراد السّلوك وأزال عيبه، وكم استروح بظلّ نخلها والسّمرات! وتملّى بمشاهدة الحجرة الشّريفة وغيره يسحّ على قرب تربها العبرات، وكم كتب له بالوصول وصول! فلم يكن بينه وبين الرّسول رسول) ([132])
ومنهم محمد بن أحمد بن جعفر النّيسابوريّ([133])، وقد وصفه المناوي بقوله: (من أعظم مشايخ نيسابور في وقته، إمام علا في أفق التّوفيق مجده، وأنار في دياجي المشكلات والمعضلات زنده، وزكا في روض اللّطائف فرعه وأصله، ونفذ في غرض المعارف رمحه ونصله) ([134])
ومنهم الحسن بن علي الدّقاق([135])، وقد وصفه المناوي بقوله: (الحسن بن علي، الأستاذ أبو علي الدّقّاق النّيسابوريّ، الشافعيّ، لسان وقته، وإمام عصره. كان فارها في العلم، مبسوطا في الحلم، محمود السّيرة، مجهود السّريرة، جنيديّ الطريقة، سريّ الحقيقة.. وهو أستاذ القشيريّ صاحب (الرّسالة)، وقال الغزالي عنه: كان زاهد زمانه، وعالم أوانه) ([136])
ومنها مدينة الري التي دخلت منذ فترة طويلة ضمن جغرافية مدينة طهران، والتي ظهر فيها الكثير من أعلام المتكلمين في العرفان النظري والعملي، ومنهم يحيى بن معاذ الرازي([137])، (توفي 258 هـ)، وقد وصفه المناوي بقوله: (المادح الشكّار، القانع الصّبّار، كان آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، له سطوة تكفّ الأيدي عن الجور، ومهابة تزعزع كلّ جبّار متعدّي الطور، لزم الحداد توقّيا من المعاد، واستلذّ السّهاد تحرّيا للوداد، واحتمل الشّداد توصّلا إلى العتاد)([138])
ومنهم عبد اللّه بن محمد الرّازيّ([139])، وقد وصفه المناوي بقوله: (كان عن حظّه حائدا، ولمشهوده عابدا مشاهدا، ذا رتبة في التّصوّف ركنها منيع، ومنزلة عالية طودها شامخ رفيع) ([140])
ومنهم عبد اللّه بن محمد الرّازيّ الشّعراني ([141]) (توفي 353 هـ)، وقد وصفه المناوي بقوله: (كان له من الرّياضة ما تعجز عنه الأسماع، وفي المجاهدة والملازمة ما لا يستطاع، انتفع الصّوفيّة به وبتعليمه، وصاروا نبلاء من توقيفه وتفهيمه، وكان يدري الطّريق وعللها، وتفاصيل أحوالها وجملها) ([142])
ومنهم محمد بن يوسف الرّازي([143])، وقد وصفه المناوي بقوله: (المتخلّي عن النّاس، المتحلّي بالإخلاص، تارك التّزيّن والتّصنّع، مفارق التلوّن والتّمتّع) ([144])
وغيرهم كثير، ومنها مدينة أصفهان التي اشتهرت بكثرة أوليائها وصالحيها، ومنهم سهل بن عبد اللّه بن الفرّخان الأصفهانيّ ([145]) (توفي 276 هـ)، وقد وصفه المناوي بقوله: (صوفيّ، دينه متين، ولسانه بدوام الذّكر غير ضنين، وعلمه مقرون بالإخلاص، ونفسه مجتهدة في تحصيل الزّاد ليوم الإشخاص، وكان مجاب الدّعوة)([146])
ومنهم علي بن سهل الأصفهاني ([147]) (توفي 276 هـ)، وقد وصفه المناوي بقوله: (من قدماء مشايخ أصفهان، وأقران الجنيد، صحب النّخشبيّ، وابن معدان وغيرهما، وجاب القفار والبلاد، وما هاب الوحش والجلّاد، وقطع المفاوز بحظّ هابط، وعزم صاعد، وسام كلّ باذل، وانتجع كلّ راعد، إلى أن أقمر ليله الحالك، بعد ما تطوّر في أطوار واقتحم المهالك) ([148])
ومنهم محمد بن يوسف الأصفهاني ([149])، وقد وصفه المناوي بقوله: (عابد زاهد، اشتهرت فضائله، وعامل عارف ظهرت براهين خيره ودلائله، وكان يلقّب عروس الزّهاد، لكثرة الجدّ والاجتهاد، والتّشمير والارتياد، في التّبادر والتّسابق إلى المعاد، وكان إذا أصبح كأنّ وجهه وجه عروس، لكثرة مناجاته وكان يقول لنفسه: هب أنّك عالم أو قاض أو صالح ماذا يكون وراء ذلك؟ وكان لا ينام اللّيل أبدا، بل يضطجع بعد الفجر ساعة، ثم يقوم) ([150])
وغيرهم كثير، وإنما ذكرناهم هنا، لعل أولئك الذين امتلأت قلوبهم حقدا على إيران والإيرانيين أن يتراجعوا ويتفكروا في هؤلاء جميعا، وخدماتهم للسلوك الروحي، وهل يمكن أن يفعل ذلك مجوسي أو متآمر على الإسلام.
2 ـ نماذج عن اهتمام المتأخرين من الإيرانيين بالعرفان:
بناء على تلك المعارف الكثيرة التي أسس بها المتقدمون من الصوفية للعرفان النظري والعملي ظهرت في فترة لاحقة التحقيقات والتأصيلات المرتبطة بها، وكان من أوائل من اهتم بذلك الكثير من الأعلام الإيرانيين، والذين لا يمكن الإحاطة بهم هنا لكثرتهم، فلذلك نقتصر على نماذج منهم، فمنهم أبو عبد الرّحمن السّلمي النّيسابوريّ([151])(412 هـ)، والذي وصفه المناوي بقوله: (إمام يقتدى بمقالاته، وزاهد يهتدى بأنوار أحواله ومقاماته، سمع من أهل الرّواية، وأخذ عن أرباب الدّراية، ورحل إلى الأقطار، وبلغ المقاصد والأوطار، ثم كرّ راجعا إلى خراسان، وصار عالمها وصوفيّها ومحدّثها المشار إليه ببديع البيان، ورؤوس البنان.. وكان شيخ الطّريق في وقته، الموفّق في جميع علوم الحقائق، ومعرفة طريقة التّصوّف، وافر الجلالة، عظيم الشّأن، أخذ [التصوف] عن أبيه وجده، وجمع من الكتب ما لم يسبق إلى ترتيبه، وبلغت تصانيفه نحو المئة)([152])
ومن مؤلفاته: (حقائق التفسير)، وهو تفسير إشاري على طريقة أهل التصوف، و(طبقات الصوفية) و(مقدمة في التصوف)، و(مناهج العارفين) و(رسالة في غلطات الصوفية) و(رسالة الملامتية) و(آداب الفقر وشرائطه) و(بيان زلل الفقراء ومناقب آدابهم) و(الفتوة) و(آداب الصحبة) و(السؤالات) و(سلوك العارفين) و(عيوب النفس ومداواتها) و(الفرق بين الشريعة والحقيقة) و(آداب الصوفية) و(كتاب الاربعين في الحديث) و(درجات المعاملات)
ومنهم عبد الكريم بن هوازن النّيسابوري([153])(465 هـ)، وقد وصفه المناوي بقوله: (الأستاذ أبو القاسم القشيريّ، الملقّب زين الإسلام، الإمام مطلقا وصاحب [الرسالة] التي سارت مغربا ومشرقا، والأصالة التي تجاوز بها فوق الفرقد ورقى إمام الأئمة، ومجلّي ظلمات الضّلال المدلهمّة، شيخ المشايخ أستاذ الجماعة، مقدّم الطائفة، الجامع للطّريقين.. وكان فقيها من رفعاء الشافعية، أصوليا متحققا، متكلّما سنّيا محدّثا، حافظا مفسرا مفتيا، نحويا لغويّا أديبا، كاتبا شاعرا، مليح الخطّ جدا، شجاعا بطلا، أجمع أهل عصره على أنّه سيّد زمانه، وقدوة وقته وأوانه، لم ير مثل نفسه، ولا رأى الرّاؤون مثله في كلامه وبراعته، جمع بين الشّريعة والحقيقة، وأمّا المجالس في التّذكير والقعود بين المريدين، وأجوبة أسئلتهم عن الوقائع فأجمعوا على أنّه عديم النّظير فيه، وتصانيفه في ذلك مشهورة)([154])
ومن مؤلفاته التي كان لها تأثيرها الكبير في التصوف والسلوك: (التفسير الكبير) و(الرسالة) المشهورة التي أجمعت عليها جميع الطرق الصوفية، و(التّحبير في التّذكير) و(آداب الصوفية) و(لطائف الإشارات) وكتاب (الجواهر) و(عيون الأجوبة في أصول الأسئلة) وكتاب (المناجاة) وكتاب (نحو القلوب الكبير) و(الصغير) وكتاب (أحكام السّماع) و(الأربعين) وغيرها.
ومنهم عبد الرزاق جمال الدين بن أحمد الكاشاني (توفي 730 هـ)، صاحب المؤلفات الكثيرة في التصوف، ومنها (كشف الوجوه الغر)، و(اصطلاحات الصوفية)، و(شرح منازل السائرين)، و(تأويلات القرآن)
ومنهم فريد الدين العطّار النيسابوري (545 ـ 627)، الشاعر الصوفي المشهور، والذي اشتهرت أشعاره التي ناهزت مائتي ألف بيت، ومن كتبه: منطق الطير، وإلهي نامه، وأسرار نامه، وتذكرة الأولياء، وجواهر الذات، وحيدر نامه، وشرح القلب، وغيرها.
لكن أشهرها منظومته المعروفة ب [منطق الطير]([155])، تلك المنظومة المميزة التي حاول أن يعبر فيها عن كلا العرفانين النظري والعملي بطريقة رمزية مميزة، والتي صور فيها الطيور، وهي تقوم برحلة صوب الطائر الأكمل والأجمل والسلطان المطلق والمسمى [السيمرغ]، واختارت الطيور الهدهد ليكون رئيسا لهم ومرشدا، فطفقت الطيور تقدم التبريرات المختلفة حتى لا تتكبد مشاق الرحلة، وبعضها راحت تسأل عن الطريق شتى الأسئلة، والهدهد يجيب عن كل هذا، ويفند كل الأوهام ويحثهم للتخلى عن كل العلائق والمضى نحو عشق الأكمل من خلال المواعظ والقصص المختلفة، ويخبرهم عن الأودية التى سيمرون بها: وادى الطلب، ثم العشق، ثم المعرفة، ثم الاستغناء، ثم التوحيد، ثم الحيرة، وأخيرا الفناء والبقاء، وهكذا انطلقوا جميعا وتكبدوا المشاق على أنواعها، ومات من مات حتى وصل ثلاثون طائرا إلى الحضرة ليرفع الحجاب.
وهكذا عبر الإيرانيون عن العرفان النظري والعملي بالطرق المختلفة، والتي امتزجت فيها المواعظ بالفلسفة بالشعر، وبكل ألوان الكتابة، والتي تجتمع جميعا في كونها تتوجه إلى الله، وتعرف به، وتملأ القلوب شوقا إليه.
وكلها بلا استثناء ـ مهما اختلفت مشاربها وطرائقها ـ تعظم الشريعة الإسلامية، وتتبنى المعارف القرآنية، وتخضع لها، وإن كانت تختلف في فهمها، أو في تأويلها، ولكنها جميعا تعتقد أنها مشربها ومنهلها العذب، وفي ذلك كله رد بليغ على الطائفيين الذين لم يعرفوا إيران، ولا أعلامها، ولا تاريخها، وفي نفس الوقت يتألون على الله، ويحكمون عليها، وعلى أوليائها وعلمائها بما لم يحيطوا بعلمه.
3 ـ نماذج عن اهتمام قادة الجمهورية الإسلامية الإيرانية بالعرفان:
لعل من الأسباب الكبرى لنجاح الثورة الإسلامية الإيرانية ذلك البعد الروحي الذي اتسم به قادتها؛ سواء من تولوا منهم المناصب الرفيعة، أو من ظل منهم في مجالس العلم والبحث والدراسة.
ذلك أن الشعب الإيراني، رأى في أولئك القادة من طهارة النفوس، وسمو الأرواح، ما كان يسمعه عن أئمته من قيم الإيمان والروحانية والطهارة والعفاف وغيرها من القيم الكريمة.. ولهذا نرى الإيرانيين لا يزالون يتبركون بآثار الخميني، لأنهم لم ينظروا إليه باعتبار أكبر شخصية سياسية في البلد، وإنما نظروا إليه قبل ذلك وبعده باعتباره وليا من أولياء الله الصالحين.
ومن طالع تراث الخميني، لا يستبعد منهم هذا الموقف، فالرجل ترك تراثا جليلا في كل مجال من مجالات العرفان، حتى الشعر الصوفي، نجده يجيده ويتقنه، وكأنه فريد الدين العطار، أو جلال الدين الرومي.
فمن قصائده الروحية التي تدل على تلك الآفاق السامية من العرفان التي تحلق فيها روحه قوله في بعض رباعياته، التي ينتهج فيها منهج الرمز الصوفي بجماله وجلاله:
أنا فراشة شمعِ صبوح وجهك
أنا المفتون بممشوق بان قامتك
أنا المهيج المضطرب يا سيد الحسن من فراقك
ألا فارفع الحجاب عني، ارفعه، فأنا مفتضح بك
وقال في رباعية أخرى:
ماذا أفعل إن لم أكن على طريق دارك؟
ماذا أفعل إن لم أكن سرابا لوجهك؟
إن العالم – الروحي – أسير وترٍ من شعرك !
فما أفعل أنا إن لم أكن رهين كل شعرك؟!
وقال في رباعية أخرى:
حين أنظر أيها الأحباء جيدا بتفكر
أخرج من قيد وجودي كله
و مكبرا، مكبرا أوجه وجهي نحو المحبوب
و أنزع عني خرقتي، وأنقلب درويشا
وقال في رباعية أخرى:
أيها الحبيب، نحن جميعا مبتلون بحبك !!
كلنا محترقون بتذكر صورة وجهك !
إن تبعدنا وإن تقبلنا عندك
فنحن مقيمون ثابتون في درب آلام فراقك
وقال في رباعية أخرى:
ليس في أي من القلوب شوق إلى سواك
ليس لنا إلاك متقدٌ ومجير !
ما من أحد لا يحمل حبك..أنت في قلبه
ألا فَلْتُلَبِّ صرخة قلبنا
وقال في رباعية أخرى:
القلب الذي لا يذكرك ليس بقلب،
و القلب الذي لا يخفق بحبك ليس سوى طين
و من ليس له طريقٌ على محلَّتك
ليس له خيرٌ من حياته المجردة من أي ثمر
وقال في رباعية أخرى:
ألا إن حاجبك هو قبلة صلاتي
و ذكرك هو ما يحلّ عقدة سري
و إنني لأشيح بوجه حاجتي عن العالمين جميعا
إن يكن طرف لحاظك ملبّياً حاجتي
وغيرها من رباعياته وقصائده الكثيرة التي تدل على روح في منتهى الشفافية، ولذلك، فإن من لم يعرف هذا الجانب منه، لا يمكن أن يعرفه أبدا، ذلك أن كل مواقفه وحركاته وسكناته كانت مرتبطة بما يمليه عليها هذا الجانب من شخصه.
ولم تقتصر كتابات الخميني العرفانية على ذلك الشعر الجميل، وإنما كتب في كل معانيه، وبلغة يجتمع فيها العلم الدقيق والذوق الرفيع.
وهو ـ خلافا لما يتوهم الكثير ـ لم يكن مقلدا في العرفان، ولا كان خاضعا لكل ما كتب فيه، بل كان يمحص، ويميز الطيب من الخبيث، ويتكلم عن تجربة وذوق، ولهذا كان يحذر من يقرأ كتب العرفان من الاغترار، فالعرفان سلوك قبل أن يكون علوما.
ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره الخميني في وصاياه العرفانية لأهله وغيرهم، ومنها وصيته لزوجة ابنه فاطمة ([156]) التي طلبت منه بعض الوصايا: (ابنتي.. الإنشغال بالعلوم حتى العرفان والتوحيد إذا كان لاكتناز الاصطلاحات هو حاصل أو لأجل نفس تلك العلوم، فإنه لا يقرب السالك من الهدف بل يبعده عنه (العلم هو الحجاب الأكبر)، وإذا كان البحث عن الحق وعشقه هو الهدف، وهو نادرٌ جداً، فذلك مصباح الطريق ونور الهداية، (العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء من عباده)([157])، وللوصول إلى يسير منه يلزم التهذيب والتطهير والتزكية؛ تهذيب النفس وتطهير القلب من غيره فضلاً عن التهذيب من الأخلاق الذميمة التي يحتاج الخلاص منها إلى كثيرٍ من المجاهدة وفضلا عن تهذيب العمل مما هو خلاف رضاه جل وعلا، والمواظبة على الأعمال الصالحة، من قبيل الواجبات التي هي في الطليعة، والمستحبات بقدر الميسور وبالقدر الذي لا يوقع الإنسان في العجب والأنانية) ([158])
ويقول لها: (ابنتي: العجب والغرور نتيجتان لغاية الجهل بحقارة النفس وعظمة الخالق، إذا فكر الإنسان قليلاً في عظمة الخلقة بالمقدار الذي وصل البشر، رغم كل هذا التقدم العلمي، إلى شيء يسير منه، يدرك حقارة وضآلة نفسه وكل المنظومات الشمسية والمجرات، ويفهم قليلا من عظمة خالقها ويخجل من عُجبه وأنانيته وغروره ويشعر بالجهل)([159])
ويقول لها: (ما دام الشباب في يدك فجدي في العمل وفي تهذيب القلب وكسر الأقفال ورفع الحجب، فإن آلاف الشباب الذين هم أقرب إلى أفق الملكوت يوفقون لذلك ولا يوفق هرم واحد.. القيود والأغلال والأقفال الشيطانية إذا غُفل عنها في (مرحلة) الشباب تضرب جذورها في كل يوم يمضي من العمر وتصبح أقوى.. من مكائد الشيطان الكبرى والنفس الأخطر منه أنهما يعدان الإنسان بالإصلاح في آخر العمر وزمان الشيخوخة، ويؤخران التهذيب والتوبة إلى الله إلى الزمان الذي تصبح فيه شجرة الفساد وشجرة الزقوم قوية والإرادة والقدرة على التهذيب ضعيفتين بل ميتتين) ([160])
وهكذا نرى الخميني يمزج دائما بين العرفان النظري والعرفان العملي، حتى يقي السالك من كل ألوان الغرور التي قد تجعله يدعي ما لم يصل إليه من المعارف، ولهذا نراه يكثر من التحذير من العجب والغرور والتعالي والتعالم، ويدعو بدلها إلى العبودية والتواضع.
ولهذا لم يقع ـ رغم تراثه العرفاني الكبير ـ في ذلك الدخن الكبير الذي امتلأت به كتب ابن عربي أو الجيلي أو القونوني أو غيرهم، مع كونه تعامل معهم، ودرس كتبهم، واستفاد منها، ولكنه استطاع أن يميز بين ما يقبل منها، وما يرفض.
وربما يكون السبب في عدم وقوعه في ذلك الخلط الذي وقع فيه الكثيرون بين حقائق العرفان وأوهامه، هو ارتباطه الشديد بأهل البيت، ولهذا لم يوص في العرفان إلا بالالتزام بأدعية أهل البيت ومناجياتهم، فهي التي تمثل خط العرفان السليم من كل وهم، ولهذا كان يهتم بدعاء السحر، وشرحه في كتاب عرفاني في منتهى الجمال والعلمية والتبسيط.
ومن الأدعية التي كان يهتم بها كثيرا، هو وسائر قادة الجمهورية الإسلامية الإيرانية، المناجاة الشعبانية([161])، والتي هي بمثابة تدريب للمؤمن على كيفية خطاب ربه، وقد قال عنها الخميني: (أنا لم أر في الأدعية، أي دعاء قيل بأن جميع الأئمة كانوا يقرؤونه إلّا دعاء المناجاة الشعبانية، ولم أر بأنّ الأئمة كانوا يدعون بدعاء آخر غير المناجاة الشعبانية، لأن المناجاة الشعبانية هي لإعدادكم، لإعداد الجميع لضيافة الله عزوجل)([162])
ويقول عنها الخامنئي: (إنَّ المناجاة الشعبانيّة المأثورة والتي رُوِي أنَّ أهل البيت كانوا يداومون عليها هي أحد الأدعية التي لا يُمكن إيجاد نَظير لمعانيها العرفانيّة، ولسانها البليغ، ولمضامينها العالية جداً، المليئة بالمعارف الرَّفيعة، على الألْسنة الجارية وفي المحاورات العاديّة، بل ليس مُمكناً أصلاً أن تُنشأ بِمِثل تلك الألْسنة.. إنَّ هذه المناجاة، هي النَّموذَج الكامِل مِن تضرُّع أكثر عباد الله الصالحين قُرْباً واصْطِفاءً، بين يدَي معبوده ومَحبوبه، الذّات الرّبوبيّة المقدَّسة. إنّها مِن جهة درسٌ من المعارف، وهي أيضاً أُسوةٌ في كيفيَّة إظهار الحاجة وطلب الإنسان المؤمِن من الله)([163])
والتأمل في هذه المناجاة، والمعاني السامية التي تحملها، يدل على سر اهتمام هؤلاء القادة الكبار بها، وترغيب شعبهم فيها، فمن المقاطع الواردة فيها: (إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك، وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك، حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور، فتصل إلى معدن العظمة، وتصير أرواحنا معلقة بعزِّ قدسك، إلهي واجعلنى ممن ناديته فأجابك، ولاحظته فصعق لجلالك)([164])
وقد علق على هذا المقطع الخميني بقوله: (كمال الإنقطاع هذا هو الخروج من منزل الأنا والإنية ومن كل شيء وكل شخص، والالتحاق به والانقطاع عن الغير. وهو هبةٌ إلهية إلى الأولياء الخلّص بعد الصعق الحاصل من الجلال الذي يقع إثر اللحظ.. وما لم تُنوّر أبصار القلوب بضياء نظرته لا تُخرق حجب النور، ومادامت هذه الحجب باقية فلا سبيل إلى معدن العظمة، ولا تحصل الأرواح على التعلّق بعزّ القدس ولا تحصل مرتبة التدلي {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} [النجم: 8]، وأدنى من ذلك الفناء المطلق والوصول المطلق)([165])
ومثل ذلك نراه في وصاياه العرفانية يكثر من الحث على الأدعية باعتبارها مصادر العرفان النظري والعملي، ولهذا استطاع أن يحفظ العرفان الشيعي من كل ذلك الدخن الذي أصاب العرفان السني.
ومن أمثلة حثه على الالتزام بالأدعية والتأمل فيها ودورها في بناء الإنسان وتقريبه من خالقه قوله: (هذه الأدعية هي مصدر أمثال هذه النهضات، وهذه الأدعية هي التي توجه الإنسان للمبدأ الغيبي لو أحسن قراءتها، ونفس هذا التوجه يؤدي إلى تقليل تعلق وحب الإنسان لنفسه، وهذا لا يمنع الإنسان عن الحركة والنشاط، كلا، بل على العكس هو يولد حركة ونشاطا أيضا لدي الإنسان ولكن ليس من أجل نفسه، يل إنه يدرك أنه يجب أن يتحرك وينشط من أجل خدمة عباد الله، فهي خدمة لله)
ثم يوجه لومه الشديد لمن ينتقدون هذا، قائلا: (أولئك المنتقدون لكتب الأدعية إنما يفعلون ذلك لكونهم جهلة مساكين لا يعرفون كيف أن كتب الأدعية هذه تصنع الإنسان، فأي إنسان – عظيم – تصنعه الأدعية الأدعية الواردة عن أئمتنا، كالمناجاة الشعبانية ودعاء كميل، ودعاء الإمام سيد الشهداء يوم عرفه، دعاء السمات.. إن الذي يقرأ المناجاة الشعبانية هو نفسه الذي يشهر السيف أيضا هذه المناجاة كان يقرأها جميع الأئمة، ولم أر فيما يتعلق بسائر الأدعية الأخرى مثل هذا الوصف – قراءة جميع الأئمة لها – والذي يقرأها يشهر السيف ويجاهد الكفار.. هذه الأدعية تخرج الإنسان من هذه الظلمات وعندما يخرج منهما يصبح عاملا في سبيل الله، مقاتلا في سبيل الله، قائما لله.. الأدعية لا تحجز الإنسان عن الحركة والعمل كما يدعي أولئك الذين قصروا آمالهم على هذه الدنيا معتبرين كل ما وراءها من الذهنيات لكنهم سيصلون إلى حيث يرون أن هذه الذهنيات هي العينيات وما كانوا يرونه عينيا هو الذهنيات.. هذه الأدعية والخطب ونهج البلاغة ومفاتيح الجنان وسائر كتب الأدعية، هي التي تعين الإنسان ليصبح إنساناً)([166])
هذه نماذج عن موقف الخميني من العرفان النظري، وهي
تبين مدى ارتباطه بالقيم التي ذكرها أهل البيت، وهي ترد كذلك على أولئك المرجفين،
والذين يتصورون أنه قد وقع في المتاهات التي وقع فيها الذين خلطوا التصوف النقي
بالكثير من الخرافات التي استوردوها من المشرق والمغرب.
([1]) الأربعون حديثا، الخميني، ص8.
([2]) الأربعون حديثا، الخميني، ص12.
([3]) قبسات من حياة الامام (ص: 36)
([4]) قبسات من حياة الامام (ص: 45)
([5]) انظر: إيقاظ الهمم فى شرح الحكم، ص: 265.
([6]) سفينة البحار للمحدث القمي ج2 ص57)
([7]) نهج البلاغة: الخطبة رقم(199)
([8]) نهج البلاغة: خطب 217.
([9]) سر الصلاة، أو صلاة العارفين، الخميني، ص3.
([10]) المرجع السابق، ص10.
([11]) المرجع السابق، ص15.
([12]) المرجع السابق، ص24.
([13]) المرجع السابق، ص24.
([14]) المرجع السابق، ص24.
([15]) المرجع السابق، ص25.
([16]) المرجع السابق، ص25.
([17]) المرجع السابق، ص27، والرواية من كتاب [أسرار الصلاة] للشهيد الثاني.
([18]) المرجع السابق، ص27، والرواية من كتاب [أسرار الصلاة] للشهيد الثاني.
([19]) المرجع السابق، ص29.
([20]) المرجع السابق، ص72.
([21]) المرجع السابق، ص73.
([22]) المرجع السابق، ص94.
([23]) من أعماق الصلاة، الخامنئي، ص14.
([24]) المرجع السابق، ص14.
([25]) المرجع السابق، ص14.
([26]) المرجع السابق، ص17.
([27]) المرجع السابق، ص14.
([28]) المرجع السابق، ص22.
([29]) المرجع السابق، ص22.
([30]) المرجع السابق، ص14.
([31]) المرجع السابق، ص23.
([32]) المرجع السابق، ص23.
([33]) المرجع السابق، ص26.
([34]) المرجع السابق، ص27.
([35]) المرجع السابق، ص28.
([36]) الإمام قدوة، ص83..
([37]) منهجية الثورة الإسلامية ص91..
([38]) المرجع السابق.
([39]) المرجع السابق.
([40]) المرجع السابق.
([41]) المرجع السابق.
([42]) المرجع السابق.
([43]) المرجع السابق.
([44]) المرجع السابق.
([45]) المرجع السابق.
([46]) المرجع السابق.
[47] منهجية الثورة الإسلامية ص79.
([48]) المرجع السابق.
([49]) المرجع السابق.
([50]) الآداب المعنوية للصلاة ـ ص223..
([51]) المرجع السابق.
([52]) تفسير البسملة (محاضرات معرفية) ص، 74، 75، 76، ط، 1، 1412 هـ – 1992م..
([53]) المرجع السابق.
([54]) المرجع السابق.
([55]) المرجع السابق.
([56]) المرجع السابق.
([57]) المرجع السابق.
([58]) آقا بزرك الطهراني، الذريعة، ج 15، ص 18.
([59]) المرعشي النجفي، الصحيفة السجادية، البلاغي، ص 11 المقدمة..
([60]) القندوزي، ينابيع المودة، ج 1 – 2، ص 599..
([61]) مقدمة المرعشي النجفي للصحيفة السجادية، ص 37.
([62]) نقلاً: عن مقدمة المرعشي على الصحيفة، ص 43- 45.
([63]) جمع مُنَاجَاة : مُنَاجَيَات، بقلب الألف إلى أصلها الياء، وذلك مثل: [مباراة ومباريات]
([64]) ربما يكون الذي قام بذلك المؤلفون والمصنفون لا الإمام السجاد نفسه.
([65]) بحار الأنوار: 94 / 142.
([66]) بحار الأنوار: 94 / 143.
([67]) بحار الأنوار: 94 / 143.
([68]) بحار الأنوار: 94 / 144..
([69]) بحار الأنوار: 94 / 145..
([70]) بحار الأنوار: 94 / 146..
([71]) بحار الأنوار: 94 / 147..
([72]) بحار الأنوار: 94 / 147.
([73]) بحار الأنوار: 94 / 148.
([74]) بحار الأنوار: 94 / 149..
([75]) بحار الأنوار: 94 / 149.
([76]) بحار الأنوار: 94 / 150.
([77]) بحار الأنوار: 94 / 151..
([78]) بحار الأنوار: 94 / 152..
([79]) بحار الأنوار: 94 / 152..
([80]) الصحيفة السجادية (ص: 40)
([81]) أبعاد الحج في كلام الإمام الخميني، ص10.
([82]) المرجع السابق، ص11.
([83]) رواه الترمذي.
([84]) رواه الطبراني في الكبير، وصححه الألباني.
([85]) رواه أبو داود، وحسنه الألباني.
([86]) رواه الترمذي، وحسنه الألباني.
([87]) رواه الطبراني في الأوسط، وصححه الألباني.
([88]) اللقاء الشهري (74/22).
([89]) الشيعة في التاريخ، محمد حسين الزين، ص204.
([90]) المرجع السابق، ص205.
([91]) ذكرنا في كتاب [كلكم كفرة] الأمثلة الكثيرة عن ذلك، ومنها ومنهم المحدث أبو على الخلال الذي ذكر عنه الخطيب البغدادي هذه الرواية، قال: (أخبرنا أحمد بن جعفر بن حمدان القطيعي، قال: سمعت الحسن بن إبراهيم أبا علي الخلال، يقول: ما همني أمر فقصدت قبر موسى بن جعفر، فتوسلت به إلا سهل الله تعالى لي ما أحب)[ تاريخ بغداد (1/ 442)]
([92]) الثقات (8 / 457)
([93]) الدرر السنية، 8/242.
([94]) هو كتاب يُنسب إلى أبي حامد الغزالي، غير أن هناك خلافا في ذلك.
([95]) هو محمد محسن بن الشاه مرتضى بن الشاه محمود، المدعو بالمولى محسن الكاشاني، أحد أعلام القرن الحادي عشر للهجرة، ولد ونشأ في بلدة قم، ثم انتقل إلى كاشان، ثمّ ارتحل إلى شيراز بعد سماعه بورود العلامة ماجد البحراني هناك، فأخذ العلم منه ومن صدرالدين الشيرازي المعروف بالملا صدرا، وتزوج ابنتة في شيراز، وغادرها إلى كاشان، وبقي فيها حتى توفي. وقد كتب في التفسير والحديث والفقه والأخلاق وسائر أصناف المعارف، وقد بلغت كتبه قرابة مائتي كتاب، من أهمها: تفسير الصافي، والوافي، والمحجة البيضاء، وبعد انشغاله بالتدريس والتأليف أصبح بعد ذلك إمام الجمعة في مدينة كاشان، ومن العلماء المشهورين فيها. [انظر: المحجة البيضاء، علي اكبر غفاري، مقدمة المحقق، ج 1، ص، 30.]
([96]) المحجة البيضاء، ج 1، ص، 44 ..
([97]) انظر ترجمته في: وفيات الأعيان 1: 380، والبداية والنهاية 13: 138 و 143 وطبقات الشافعية 5: 143.
([98]) شرح الأربعين حديثا، الخميني، ص29.
([99]) المرجع السابق، ص29.
([100]) المرجع السابق، ص72.
([101]) المرجع السابق، ص74.
([102]) المرجع السابق، ص74.
([103]) المرجع السابق، ص346.
([104]) المرجع السابق، ص346.
([105]) المرجع السابق، ص346.
([106]) المرجع السابق، ص346.
([107]) فروع الكافي، ج 5، ص 3، ورواه البيهقي بلفظ: (قالوا : وما الجهاد الأكبر؟ قال : جهاد القلب) ، ورواه الخطيب البغدادي بلفظ : (رجعنا من الجهاد الأصغر إلي الجهاد الأكبر ، قالوا : وما الجهاد الأكبر ؟ قال : مجاهدة العبد هواه)
([108]) الأربعون حديثا، الخميني، ص26.
([109]) المرجع السابق، ص27.
([110]) المرجع السابق، ص28.
([111]) المرجع السابق، ص29.
([112]) المرجع السابق، ص29.
([113]) المرجع السابق، ص29.
([114]) المرجع السابق، ص31.
([115]) المرجع السابق، ص31.
([116]) رواه البخاري.
([117]) تقع في منطقة جبلية إلى الجنوب من جبال زاغروس.
([118]) طبقات الصوفية 155، حلية الأولياء 10/ 255.
([119]) الكواكب الدرية فى تراجم السادة الصوفية، ج1، ص: 571
([120]) الزهد لأحمد بن حنبل 375، طبقات ابن سعد 5/ 537، حلية الأولياء 4/ 3.
([121]) الكواكب الدرية فى تراجم السادة الصوفية، ج1، ص: 336.
([122]) إحياء علوم الدين (2/ 138)
([123]) طبقات الصوفية 123، حلية الأولياء 10/ 231، الرسالة القشيرية 1/ 114، صفة الصفوة 4/ 122.
([124]) الكواكب الدرية فى تراجم السادة الصوفية، ج1، ص: 592.
([125]) طبقات الصوفية 115، حلية الأولياء 10/ 229، الرسالة القشيرية 1/ 106.
([126]) الكواكب الدرية فى تراجم السادة الصوفية، ج1، ص: 686.
([127]) صفة الصفوة 4/ 123، طبقات الشعراني 1/ 66، أعلام النساء 4/ 147.
([128]) الكواكب الدرية فى تراجم السادة الصوفية، ج1، ص: 694.
([129]) طبقات الصوفية 349، حلية الأولياء 10/ 355، تاريخ بغداد 7/ 221، الرسالة القشيرية 1/ 161.
([130]) الكواكب الدرية فى تراجم السادة الصوفية، ج2، ص: 110.
([131]) طبقات الصوفية 431، حلية الأولياء 10/ 376، الرسالة القشيرية 1/ 177.
([132]) الكواكب الدرية فى تراجم السادة الصوفية، ج2، ص: 125.
([133]) طبقات الصوفية 505، طبقات الأولياء 243، طبقات الشعراني 1/ 125.
([134]) الكواكب الدرية فى تراجم السادة الصوفية، ج2، ص: 111.
([135]) تبيين كذب المفتري 226، الكامل في التاريخ 9/ 326، العبر 3/ 93، تذكرة الحفاظ 3/ 1064.
([136]) الكواكب الدرية فى تراجم السادة الصوفية، ج2، ص: 180
([137]) طبقات الصوفية 107، حلية الأولياء 10/ 51، الرسالة القشيرية 1/ 101.
([138]) الكواكب الدرية فى تراجم السادة الصوفية، ج1، ص: 727.
([139]) طبقات الصوفية 288، حلية الأولياء 10/ 345، الرسالة القشيرية 1/ 148.
([140]) الكواكب الدرية فى تراجم السادة الصوفية، ج1، ص: 679.
([141]) طبقات الصوفية 451، الرسالة القشيرية 1/ 181.
([142]) الكواكب الدرية فى تراجم السادة الصوفية، ج2، ص: 164.
([143]) طبقات الصوفية 185، حلية الأولياء 10/ 238.
([144]) الكواكب الدرية فى تراجم السادة الصوفية، ج2، ص: 165
([145]) حلية الأولياء 10/ 212، ذكر أخبار أصبهان 2/ 339.
([146]) الكواكب الدرية فى تراجم السادة الصوفية، ج1، ص: 648.
([147]) طبقات الصوفية 233، حلية الأولياء 10/ 404، ذكر أخبار أصبهان 2/ 14.
([148]) الكواكب الدرية فى تراجم السادة الصوفية، ج1، ص: 683.
([149]) طبقات المحدثين بأصبهان 2/ 21، حلية الأولياء 8/ 225.
([150]) الكواكب الدرية فى تراجم السادة الصوفية، ج1، ص: 443.
([151]) طبقات الأولياء 313، النجوم الزاهرة 4/ 256، لسان الميزان 5/ 140.
([152]) الكواكب الدرية فى تراجم السادة الصوفية، ج2، ص: 200.
([153]) تبيين كذب المفتري 271، المنتظم 8/ 280، الكامل 10/ 88.
([154]) الكواكب الدرية فى تراجم السادة الصوفية، ج2، ص: 187.
([155]) منطق الطير. العطّار، فريد الدين. (2002). (بديع محمّد جمعة، ترجمة ودراسة). بيروت: دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع.
([156]) السيدة فاطمة طباطبائي، وهي ابنة السيد محمد باقر سلطان طباطبائي وزوجة ابن الخميني، وقد طلبت منه وصايا عرفانية، فأجابها برسالة موجودة ضمن وصاياه العرفانية..
([157]) المحجة البيضاء /5/45.
([158]) وصايا عرفانية، الخميني، ص109.
([159]) المرجع السابق، ص111.
([160]) المرجع السابق، ص113.
([161]) المناجاة الشعبانية هي مناجاة يرويها الشيعة عن الإمام علي، وتحتوي على نماذج من التضرع ووصف حال الأولياء في علاقتهم مع الله، وغالباً ما يقرأ الشيعة هذه المناجاة فيى شهر شعبان، يقول عنها آية الله الملكي التبريزي: (ومناجاته الشعبانية معروفة، وهي مناجاة عزيزة على أهلها، يحبونها ويستأنسون بشعبان من أجلها، بل ينتظرون مجيئ شعبان ويشتاقون إليه من أجلها وفي هذه المناجاة علوم جمّة في كيفية تعامل العبد مع الله جل جلاله، وبيان وجوه الأدب التي ينبغي أن نلتزمها ونتأدّب بها عندما نسأل الله تعالى حوائجنا، وندعوه سبحانه ونستغفره) [الملكي التبريزي، المراقبات، الفصل الثامن في اعمال الشعبان المعظم]
([162]) صحيفة نور، ج. 13، ص. 31.
([163]) من خطاب له 25 شعبان 1422هـ ـ كاشان.
([164]) بحار الأنوار 91/97.
([165]) وصايا عرفانية، الخميني، ص109.
([166]) سر الصلاة أو صلاة العارفين، الخميني، ص76.