إيران.. والقيم الأخلاقية

لا يمكن لمجتمع أن يتم تدينه أو تحضره من غير أن تكون له مجموعة من القيم الأخلاقية التي يؤمن بها، ويطبقها في حياته، ذلك أن الدين في جوهره ليس سوى قيما أخلاقية رفيعة جاء الأنبياء للدعوة إليها، كما نص على ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (إنَّما بُعِثتُ لأُتممَ مكارمَ الأخلاق)([1])، واعتبر أن أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم أخلاقا، فقال: (أكمل المؤمنين إيمانا، أحسنهم خلقا)([2])، وجعل الخلق مقياسا للتحقق بالكمال الإنساني، فقال: (إن أحبكم إليّ وأقربكم مني في الآخرة مجالس محاسنكم أخلاقا، وإن أبغضكم إليّ وأبعدكم مني مساوئكم أخلاقا الثرثارون المتفيهقون المتشدقون)([3])
بناء على هذا نحاول في هذا الفصل بيان مدى تمسك الإيرانيين بالقيم الأخلاقية، ومن خلالها نرى مدى تمسكهم بالدين الصحيح الأصيل، ذلك أن أول علامات التدين المزيف سوء الخلق، وما ينشأ عنه من أمراض نفسية لها آثارها السلبية الكثيرة في الواقع.
وكذلك نرى من خلاله مدى تحضرهم؛ فالحضارة ليست تقدما ماديا فقط، وإنما هي قبل ذلك وبعده قيم أخلاقية، ترفع الإنسان إلى المحل الكريم الذي أكرمه الله به.
ولبيان ذلك حاولنا أن ننظر إلى مدى اهتمام الإيرانين بالقيم الأخلاقية، سواء على مستوى تراثهم العريق، الذي يعبر عن الواقع الاجتماعي التاريخي، أو على مستوى الواقع المعيش الذي نراه الآن من خلال حياتهم الاجتماعية أو مواقفهم السياسية ونحوها.
والنتيجة التي خلصنا إليها، هي أن إيران في الوقت الحالي، تمثل ـ اجتماعيا وسياسيا وتراثيا ـ جميع القيم الأخلاقية النبيلة التي جاء الإسلام بالدعوة إليها، وبذلك هي تمثل نموذج التدين الأصيل، الذي يعتبر الأخلاق ركنا أساسيا لا يمكن الاستغناء عنه.
بل إننا لو تخلينا عن أحقادنا وقرأنا الواقع الإيراني جيدا قراءة منصفة، لعلمنا أن كل ما حصل لإيران من حروب وحصار وظلم في العقود الأخير كان نتيجة لتمسكها بالقيم الأخلاقية التي لم تسمح لها أن تتخلى عن مبادئها لأجل تحقيق مصالحها، فهي دولة مبدئية ـ شعبا ونظاما ـ ولهذا ابتليت بكل أولئك الأعداء.
والذين يقارنونها بغيرها من الدول الإسلامية، وخصوصا تركيا ودول الخليج يخطئون كثيرا، لأنهم ينظرون إلى التقدم المادي، ولا ينظرون إلى التقدم في القيم والأخلاق، وقد كان في إمكان إيران أن تحصل على الكثير على ما يحصل عليه غيرها من التقدم المادي والرخاء الاقتصادي لو أنها تنازلت كما تنازلت تركيا ودول الخليج، لكنها لم تفعل، وهذا ما يبرهن على مدى تغلغل القيم الأخلاقية في المجتمع والسياسة الإيرانية، ذلك أن السياسة لم تكن لتقف تلك المواقف الصلبة لولا وجود حضانة شعبية لمواقفها.
بناء على هذا نحاول في هذا الفصل أن نذكر تجليات القيم الأخلاقية في إيران على الجانبين التاليين:
أولا ـ جانب التراث، ذلك أن التراث الإيراني يزخر بكتابات كثيرة حول الأخلاق، بل لا نبالغ إن ذكرنا بأن أمهات كتب علم الأخلاق، وأصوله الكبرى من تأليف علماء إيرانين.
ثانيا ـ جانب الواقع، وذلك من خلال مطالعة الواقع الاجتماعي والسياسي والتعرف على القيم الأخلاقية التي تحكمه وأسباب ذلك.
أولا ـ القيم الأخلاقية والتراث الإيراني:
مثلما اكتشفنا سابقا الدور الريادي للعلماء الإيرانيين في المجالات العلمية المختلفة، فإننا عند البحث في التراث الأخلاقي نكتشف نفس النتيجة، فأول من كتب في هذا العلم فلاسفة وأدباء ومفكرون وعلماء إيرانيون، ولا تزال إلى الآن إسهاماتهم الكثيرة في هذا الجانب.
وسنحاول هنا أن نذكر نماذج عن ذلك من خلال المنهجين الكبيرين المتبعين في دراسة الأخلاق: المنهج الفلسفي، والمنهج الديني.
يُقسّم علم الأخلاق إلى قسمين: نظري، ويبحث عن (أسس الخير المطلق، وفكرة الفضيلة من حيث هي بغضّ النظر عن المصاديق والأفراد)([4])، ويطلق عليه [فلسفة الأخلاق]، وعملي، ويبحث عن (مصاديق الخير التي تقع تحت الحواس، والفضائل الخارجية كالوفاء بالأمانة والإحسان إلى المعوزين)، وكل ذلك أيضا بطريقة فلسفية، وقد يدمج ببعض النصوص الدينية المؤيد لما يقتضيه العقل.
وعند مراجعة التراث الإسلامي، وما ألف فيه في كلا الجانبين نجد للمساهمات الإيرانية الريادة في ذلك كله، فأول من ألف في علم الأخلاق النظري، باتفاق جميع علماء الأخلاق أبو علي أحمد بن يعقوب، المعروف بابن مسكويه الرازي [325 – 421هـ]، والذي يعدّ أكبر فيلسوف أخلاقي مسلم، وقد ترك الكثير من الكتب الرائدة في مجالها، ومنها: (تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق)، و(ترتيب السعادات)، و(الفوز الأصغر)، (رسالة في العدل)، (الهوامل والشوامل)، وغيرها، والتي كان لها أثرها بعد ذلك في كل ما كتب حول الأخلاق.
وكان يطلق عليه ـ بسبب إسهاماته الفلسفية في هذا المجال ـ لقب ـ [المعلم الثالث]، بل إن محمد إقبال يعتبر فلسفة ما بعد الطبيعة عنده أكثر انتظاما من فلسفة الفارابي، ذلك أنه أسس نظريته في الأخلاق على الإيمان بالله، ولهذا نراه في القسم الأول من الفوز الأصغر يعقد عشرة فصول حول إثبات الصانع، ويعقد في القسم الثاني عشرة فصول مختصرة حول معرفة النفس والمعاد، وفي القسم الثالث من الكتاب يعقد عشرة فصول أيضاً تدور حول النبوة.
ومن الذين كانت لهم مساهماتهم الفلسفية الكبرى في علم الأخلاق، وخاصة التطبيقية منها، بل يعد رائدا فيها، محمد بن الحسن الجهرودي الطوسي، المشهور بـالخواجة نصير الدين الطوسي (597 – 672 هـ)، الذي ألف في المجالات العلمية والفلسفية المختلفة، وكان رائدا فيها جميعا، ومنها كتبه في علم الأخلاق، وخاصة التطبيقة منها، والذي يعد بحق رائدا فيها.
ومن أشهر كتبه فيها الكتاب المعروف [أخلاقُ ناصرِيّ]، الذي يعتبر من أهم الآثار في الحكمة العملية، وهو يتكون من ثلاثة أقسام تشمل الأخلاق التطبيقية بجميع فروعها، وهي: الأخلاق، وتدبير المنزل، وسياسة المدن.
وقد ذكر المؤرخون لعلم الأخلاق أن نصير الدين الطوسي أبدع في كتابه هذا بما لم يسبقه إليه أحد لا في العهد اليوناني، ولا في العصر الإسلامي، ذلك أن فلاسفة العصر الإسلامي من قبله قد ألّفوا في كليات الحكمة النظرية إلاّ أنّ هذا الكتاب يعتبر أوّل أثر في الحكمة العملية، ولهذا السبب أيضاً اتخذه الفلاسفة الذين تلوه نموذجاً يحتذى به في تدوين كليات الحكمة العملية.
ومن الإيرانيين الذين كانت لهم إسهاماتهم الفلسفية في هذا المجال قطب الدين محمود بن مسعود بن مصلح الشيرازي (توفى 710هـ) وهو من علماء الرياضيات والفلك والفيزياء والفلسفة الكبار، بالإضافة إلى ذلك كتب في علم الأخلاق في موسوعته [درّة التاج]
ومنهم جلال الدين الدواني (830 هـ – 918هـ) وهو قاض، وفقيه شافعي، ومتكلم، ومفسر، وفيلسوف، وقد شرح عدداً من الكتب المشهورة في الفلسفة والتصوف، وقد كتب في مجال الأخلاق تحريراً جديداً لأخلاق ناصري تحت عنوان [أخلاق جلالي]، أضاف فيه إلى الموضوعات التي اقتبست من أخلاق ناصري بلغة سلسة فوائد أخرى من الكتاب والسنة ومؤلفات أهل الشريعة مثل أبي الحسن الماوردي وأبي حامد الغزالي وفخر الدين الرازي.
ومنهم أحمد النراقي الكاشاني (1185 ــ 1245 هـ)، الملقب بالفاضل النراقي، وكان أديباً وشاعراً، درس المنطق، والفقه، والأصول، والكلام، والفلسفة وغيرها، وكان له آثاره فيها، وقد قال عنه محسن الأمين: (كان عالماً فاضلاً جامعاً لأكثر العلوم، لاسيما الأصول والفقه والرياضيات، شاعراً بليغاً بالفارسية)([5])
وقال عنه الشيخ أقا بزرك الطهراني: (هو الشيخ المولى أحمد بن المولى محمد مهدي بن أبي ذر النراقي الكاشاني، عالم كبير وفقيه بارع ومصنف جليل، ولامع متبحر ورئيس مطاع، وكان رحمه الله من العلماء الاتقياء والابرار الأخيار عطوفاً على الفقراء، شفيعاً على الضعفاء، ساعياً في قضاء الحوائج، باذلاً جهده في إنجاز مطالب المحتاجين)([6])
وقال عنه الشيخ عباس القمي: (العالم العابد والفاضل الفقيه النبيه والشاعر الاديب، والسراج الوهاج، والبحر العجاج، فحل الفحول)([7])
ومن أهم كتبه في الأخلاق، والتي مزج فيها بين الفلسفة والدين في طرح القضايا الأخلاقية كتابه المشهور [جامع السعادات]، وهو كتابٌ في الأخلاق النظرية والتطبيقية، وميزته الكبرى التي أهلت له كل تلك الشهرة اشتماله على البعدين الفلسفي والعقلي في الحديث عن القضايا الأخلاقية، بالإضافة لاشتماله على الجانبين الديني والتطبيقي.
والكتاب يشتمل على ثلاثة أبواب تجمع أهم وأكثر المسائل الأخلاقية، ففي الباب الأول يتضمن مواضيع كلّية لعلم الأخلاق ومبانيها، من قبيل تجرّد النفس وبقائها، وتأثير المزاج على الأخلاق، وتأثير التربية على الأخلاق، وشرف علم الأخلاق لشرف موضوعه وغايته، والنفس وأسماؤها وقواها الأربع وأنّ غاية السعادة هو التشبّه بمبدأ الخلق.
وتناول في الباب الثاني أقسام الأخلاق، وبحث فيه عن الفضائل الأربع (الحكمة والعدالة والشجاعة والعفّة)، وفي حقيقة العدالة أنّ العقل النظري بنفسه يدرك الفضائل والرذائل، وحدّ الوسط (الاعتدال) وما سواه (الإفراط والتفريط) في الأخلاق.
وتناول في الباب الثالث الأخلاق الحميدة، يشتمل على مقدّمة وأربعة مقامات، وجاء في المقدّمة طريقة حفظ الاعتدال للفضائل الأخلاقية، ويبحث فيها عن معالجة النفس بنحو عام ومعالجتها على وجه خاصّ، ويبحث في المقامات عن القوة العاقلة وما يتعلق بقوة الغضب من أمور وعن رذائل وفضائل قوة الشهوة، ومطالعة الرذائل والفضائل للقوى الثلاث أو ما يتعلق لقوتين منها دون أخرى.
وميزة الكتاب الكبرى ـ كما ذكرنا ـ ذلك المزج بين ما قاله الفلاسفة، وما جاءت به الشريعة، من غير أن يعطي الفلسفة فوق قدرها، بل هو يعتقد أن ما جاء به الفلاسفة لا يمكن مقارنته بما جاءت به الشريعة، وقد قال في مقدمة كتبه يذكر ذلك: (لا ريب في أن التزكية موقوفة على معرفة مهلكات الصفات ومنجياتها، والعلم بأسبابها ومعالجاتها، وهذا هو الحكمة الحقة التي مدح اللّه أهلها، ولم يرخص لأحد جهلها، وهي الموجبة للحياة الحقيقة، والسعادة السرمدية، والتارك لها على شفا جرف الهلكات، وربما أحرقته نيران الشهوات، وقد كان السلف من الحكماء يبالغون في نشرها وتدوينها. وجمعها وتبيينها، على ما أدت إليه قوة أنظارهم، وأدركوه بقرائحهم وأفكارهم، ولما جاءت الشريعة النبوية (على صادعها ألف صلاة وتحية) حثت على تحسين الأخلاق وتهذيبها، وبينت دقائقها وتفصيلها بحيث اضمحل في جنبها ما قرره أساطين الحكمة والعرفان، وغيرهم من أهل الملل والأديان، إلا أنه لما كان ما ورد منها منتشرا في موارد مختلفة، ومتفرقا في مواضع متعددة، تعسّر أن يحيط به الجل فلا بد من ضبطه في موضع واحد ليسهل تناوله للكل، فجمعت في هذا الكتاب خلاصة ما ورد من الشريعة الحقة مع زبدة ما أورده أهل العرفان والحكمة على نهج تقرّ به أعين الطالبين، وتسر به أفئدة الراغبين)([8])
ومن الشخصيات الإيرانية الرائدة في علم الأخلاق، والتي يمكن ذكرها هنا أبو محمد عبد الله بن المقفع([9]) (109 – 145 ه) الكاتب والشاعر والمترجم الكبير، وأصله من فيروز آباد هي مدينة إيرانية لا تزال تسمى بهذا الاسم.
ومن مؤلفاته المهمة المرتبطة بالأخلاق، والتي كان لها تأثيرها الكبير الممتد إلى العصر الحالي كتاب [كليلة ودمنة]، والذي صاغ فيه الكثير من القيم الأخلاقية على شكل قصص تدور بين الحيوانات، وتتضمن عدة مواضيع من أبرزها العلاقة بين الحاكم والمحكوم، بالإضافة إلى الكثير من الحِكم والمواعظ.
ومن كتبه الأدب الكبير، الذي يعني به أدب النفس، وهو يبحث في السلطان وآدابه، وفي الصداقة ومعاملة الأصدقاء وآدابهم، ويعرض بعض الحكم والنصائح لطالب العلم والأدب.
ومنها الأدب الصغير: وسماه بذلك تمييزاً له من (الأدب الكبير) لصغر حجمه، وتحدث فيه عن حاجة العقل إلى الأدب، وتأثير الأدب في إنماء العقول، وحفظ أقوال أهل الرأي والمشورة، والاقتداء بالصالحين، والأخذ عن الحكماء.
ومنها رسالة الصحابة: هي رسالة كتبها ابن المقفع للخليفة المنصور، يذكّره فيها بأحوال رعيته، وما ينبغي أن يوجه نظره إليه بشأن بلاد الخلافة، وبشأن صحابته وأعوانه وجنده، ودراسة أحوالهم وتنظيمها.
هذه نماذج عن بعض الفلاسفة الإيرانيين القدامى الذين كتبوا في الأخلاق، ويمكن أن يضم إليهم الكثير من المعاصرين من أمثال الشيخ تقي مصباح اليزدي (ولد 1934 م) الفيلسوف والعالم الإيراني الكبير الذي كتب في المجالات المعرفية الكثيرة، وخصوصا الفلسفية منها، ومنها فلسفة الأخلاق، وهو مؤسس مؤسسة الإمام الخميني للتعليم والبحث العلمي، وعضو مجلس خبراء القيادة في إيران، وأحد أبرز تلامذة المفسر والفيلسوف الإسلامي محمد حسين الطباطبائي، بالإضافة إلى كونه أشهر فيلسوف إسلامي في الوقت الراهن.
وكل مؤلفات تنظر للأخلاق، وتتناولها من زوايا مختلفة، ومنها: معرفة الله، ومعرفة الكَوْن، ومعرفة الإنسان، ومعرفة السبيل، ومعرفة الدليل، ومعرفة القرآن، والأخلاق في القرآن(ثلاثة أجزاء)، والمجتمع والتاريخ في الرؤية القرآنية، والحقوق والسياسة في القرآن، والحرب والجهاد في القرآن، والإمامة والولاية في القرآن الكريم، والتوحيد في النظام العقائدي وفي النظام القيمي في الإِسلام، ودروس في العقيدة الإِسلامية(ثلاثة أجزاء)، وشرح برهان الشفاء(أربعة أجزاء)، وشرح الهيات الشفاء لابن سينا (جزءان)، وشرح الأسفار الأربعة لصدر الدين الشيرازي، وشرح نهاية الحكمة للعلامة الطباطبائي (جزءان)، وتعليقة علي نهاية الحكمة، والمنهج الجديد في تعليم الفلسفة(جزءان)، وخلاصة عدة بحوث فلسفية، ودروس في الفلسفة، والايديولوجية المقارنة، ونقد موجز لأصول الماركسية، والذود عن حصون الآيديولوجية(ستة أجزاء)، وفي ضياء البارقة، وأصولالمعارف الإنسانية، وحوار مُبين حول الأفكار الأساسية، ولقاءالله، وتجلي القرآن في نهج البلاغة، والسائرون على طريق الحبيب، والدين والحرية، وكلمة حول فلسفة الأخلاق، ودروس في فلسفة الأخلاق، وفلسفة الأخلاق، ونقد ودراسة المذاهب الأخلاقية، ومعرفة الذات لبنائها من جديد ، ونحو بناء الذات، وفي البحث عن العرفان الإسلامي، والمتطلّبات التمهيدية للإدارة الإِسلامية، وتأمّلات في الحكمة والإشراق.. وغيرها كثير.
وقد ذكرنا أسماء هذه المؤلفات لنعرف من خلالها سعة المجالات التي بحث فيها، وخاصة وهو يرأس تلك المؤسسات الإيرانية المهمة، لنعرف من خلالها مدى تغلغل الفلسفة الإسلامية بأنواعها المختلفة في المؤسسات الإيرانية، سواء ما كان منها ذا طابع علمي، أو ما كان ذا طابع سياسي، وهي فلسفة تمتزج بالدين، بل تنطلق منه، وليست فلسفة إلحادية، ولا حداثية، ولا عندها أي نفور من الدين.
نقصد بالتراث الديني ذلك التراث الذي بني انطلاقا من المصادر المقدسة من الكتاب والسنة وغيرهما، وهو لا يعني خلوه من البحث الفلسفي والعقلي، فالعقل أداة تستعمل في كل المجالات.
وعند البحث في هذا النوع من التراث واهتمامه بالأخلاق، نجد أكبر المصادر التي ألفت فيه إيرانية بامتياز، وسأذكر هنا نماذج عن أكبر ما ألف فيه، لنرى مدى مصداقية ذلك.
فمن أوائل الكتب التي ألفت في الأخلاق، وامتزج فيها البحث العقلي الفلسفي بالبحث الديني، مؤلفات الراغب الأصفهاني، والتي استفاد منها أبو حامد الغزالي كثيرا في كتبه([10])، وأهمها كتابه (الذريعة إلى مكارم الشريعة)، وهو من الكتب الرائدة في علم الأخلاق، وتناول فيه: أحوال الإنسان، وقواه، وفضيلته، والعقل، والعلم، والنطق، وما يتعلق بالقوى الشهوية، وما يتعلق بالقوى الغضبية، والعدالة، والظلم.. وغيرها.
وقد ذكر الراغب الأصفهاني في مقدمة كتابه دوافعه لتأليف كتابه؛ فقال: (كنت قد أشرت فيما أمليته من كتاب [تحقيق البيان في تأويل القرآن] إلى الفرق بين أحكام الشريعة ومكارمها، فإن المكارم المطلقة هي اسم لما لا يتحاشى من وصف الباري جل ثناؤه بها أو بأكثرها نحو الحكمة، والجود، والحلم، والعلم، والعفو، وإن كان وصفه تعالى بذلك على حد أشرف مما يوصف به البشر، وإن الأحكام تتناول ذلك وتتناول العبادات، وإنه باكتساب المكرمة يستحق الإنسان أن يوصف بكونه خليفة اللَّه المعني بقوله: { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً } [البقرة: 30]، وأشرت أن خلافة الله عز وجل لا تصح إلا بطهارة النفس، كما أن أشرف العبادات لا تصح إلا بطهارة الجسم، وقد استخرت اللَّه الآن، وعملت في ذلك كتابًا ليكون ذريعة إلى مكارم الشريعة، وبينت كيف يصل الإنسان إلى منزلة العبودية التي جعلها الله تعالى شرفًا للأتقياء، وكيف يترقى عنها إذا وصلها إلى منزلة الخلافة التي جعلها اللَّه تعالى شرفا للصديقين والشهداء، فبالجمع بين أحكام الشرع ومكارمه علمًا، وإبرازهما عملًا يكتسب العلا، ويتم التقوى، ويبلغ إلى جنة المأوى، ورغبني أيها الأخ الفاضل – وفقك اللَّه وأرشدك، وأعاذك من شر نفسك – في تصنيفه ما رأيت من تشوقك أن تزين ما وليه اللَّه من حسن خَلْقك وخُلُقك بما تتولاه من تحسين أدبك، وإكمال مروءتك، فما أجدر رواك الصبيح أن تحصِّل وراءه الرأي الصحيح) ([11])
ومن أهم مزايا الكتاب، والتي تجعله من الكتب الرائدة في علم الأخلاق ذلك المزج بين ما ورد في النصوص المقدسة، وما أورده الفلاسفة والحكماء من المسلمين وغيرهم، وبذلك كان الكتاب مصدرا من المصادر المهمة والرائدة في علم الأخلاق.
ومن كتبه الأخرى في علم الأخلاق كتاب [تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين]، وهو من أهم الكتب المرغبة والمؤسسة للأخلاق، وهو يبحث في حقيقة الإنسان، وماهيته، وغاية وجوده، ومصيره، وكل ذلك بأسلوب استدلالي متين، مع الإكثار من الاستشهاد بالنصوص القرآنية، والآثار، وأقوال العلماء.
ومن الكتب الرائدة في علم الأخلاق كتب أبي حامد الغزالي الكثيرة، ذلك أن معظمها يرتبط بالأخلاق، وخاصة [إحياء علوم الدين]، الذي يعتبر أكبر كتاب في الأخلاق، جمع فيه تراث كل من سبقه بطريقة علمية مبسطة جعلت منه أشهر الكتب وأكثرها تأثيرها على امتداد التاريخ والجغرافية الإسلامية.
وقد قال فيه بعض المعاصرين ردا على السلفيين الذين تعودوا أن يزهدوا فيه، وينفروا منه: ([إحياء علوم الدين] من أفضل الكتب وأعظمها في تزكية النفس وتصفيتها من الشوائب والآفات، وفي معرفة الإنسان خبايا نفسه ودخائلها، وكيف يعالجها، ومعرفة حقيقة العبادة وروحها، والكتاب كلُّه يقوم على قاعدة أساسيَّة، تتلخَّص بكلمتين، تقرأهما في كلِّ باب من أبوابه، أو فصل من فصوله: تصحيح المعاملة مع الله تعالى، ومع عباد الله على أساس من العلم والعمل، مع الاستهداء بفهم السلف وأحوالهم.. وهو اسم على مسمَّى، إذ كان إحياء لما خفت نوره من علوم الدين، وامَّحت آثاره من حياة النَّاس، فنهض هذا الإمام الجليل لإحيائها وتجديدها، ووضعها في مسارها الصحيح، وبؤرة التأثير والتغيير، فأحيا بعمله الأمّة، وجدّد انبعاثها.. وهو كتاب كتب الله له القبول بين النَّاس، وتلقَّته خيار الأُمَّة بالاعتناء والاهتمام، وانتفعت به جيلاً بعد جيل، ومؤلّفه الإمام الغزاليُّ حُجَّة الإسلام شهد له الأئمّة المعتبرون بذلك، وعدُّوه مجدِّد الإسلام في قرنه، وقد وصف الإمام الذهبي مؤلِّفه في السِّيَر: (الغزالي الشيخ الإمام البحر، حُجَّة الإسلام، أعجوبة الزمان)، ويكفي الكتاب ومؤلِّفه شهادة أنَّ كلَّ مَنْ أتى بعده، وكتب فيما كتب نسج على منواله، واقتفى آثاره، واستفاد منه، ودونكم التاريخ يشهد بما أقول، وهو شاهد صدق، وحكم عدل)([12])
ومن الكتب المتأثرة بالإحياء، والتي سعت إلى تهذيبه [المحجة البيضاء] للملا محسن فيض الكاشاني (توفي 1091 هـ)، والذي اشتهر في البيئة الشيعة مثل اشتهار الإحياء في البيئة السنية، وميزة المحجة البيضاء تطهير الإحياء من الأشياء التي انتقد فيها، كسوء فهم بعض الصوفية للتوكل، أو الجوع الشديد ونحو ذلك.
ومن الذين كتبوا في الأخلاق من الإيرانيين أبو علي الحسن بن الحسين السبزواري البيهقي، المعروف بالشيعي([13]) (كان حيا سنة 753)،وهو كما وصفه مترجموه: (عالم فاضل متكلم عارف واعظ)، ومن مؤلفاته في الأخلاق [مصابيح القلوب في المواعظ والنصائح]
بالإضافة إلى ذلك كله نرى في التراث الأخلاقي الإيراني الكثير من الكتب الروائية والتي لا يكاد يخلو منها كتاب من كتب الحديث سواء من المصادر السنية أو الشيعية، وأشهرها في إيران، وأكثرها تداولا كتاب: [مكارم الأخلاق ومعالم الأعلاق، الحاوي لمحاسن الأفعال والآداب، من سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وآدابه وأخلاقه، وأوصافه، وسائر حالاته، وحالات الائمة المعصومين عليهم السلام وما روت في ذلك عنه وعن أهل بيته صلوات الله عليه وعليهم] لأبي نصر الحسن بن الفضل الطبرسي، من أعلام القرن السادس الهجري.
أما المتأخرون والمعاصرون، فلا يمكن عد كتبهم هنا لكثرتها، فأكثر المراجع والعلماء المتأخرين صنفوا في الأخلاق، سواء من خلال القرآن الكريم، أو من خلال الأحاديث والروايات، أو من خلال البحوث الفلسفية والعقلية، من أمثال ناصر مكارم الشيرازي الذي ألف موسوعة حول الأخلاق في القرآن الكريم.
وهكذا نرى القادة الفكريين للثورة الإسلامية الإيرانيين يهتمون بالكتابة في الأخلاق، باعتبارها ركنا أساسيا من أركان الثورة الإسلامية، ومنهم الشيخ مرتضى مطهري الذي رد في كتبه على كل الرؤى والمدارس الفلسفية التي تحاول التنصل من القيم والأخلاق، وقد عرض القيم الأخلاقية بطريقة علمية فلسفية دينية مبسطة، كان لها تأثيرها الكبير في الأجيال التي تبنت الثورة واحتضنتها وتحملت الأعباء الكبيرة في سبيلها، وقد قال عنه الخميني: (أوصي الطبقة المفكّرة والطلّاب الجامعيّين ألّا يَدَعوا قراءة كتب الأستاذ العزيز (الشهيد مرتضى مطهّري)، ولا يجعلوها تُنسى جرّاء الدسائس المبغضة للإسلام، فقد كان عالماً بالإسلام والقرآن الكريم والفنون والمعارف الإسلاميّة المختلفة، فريداً من نوعه.. وإنّ كتاباته وكلماته كلّها بلا أيّ استثناء سهلةٌ ومربِّية)([14])
وقال عنه الخامنئي: (يوجد القلائل من العلماء من أمثال الشهيد مطهري، بهذه القوة الفكرية والروحية، إن كل خطبة من خطبه يمكن أن تكون عنوانا وعملا تخصصيا كاملا. ولهذا لابد من العمل على مبانيه وخطه الفلسفي وبشكل كبير. إن آثار الشهيد مطهري تمثل المباني الفكرية للجمهورية الإسلامية)([15])
ومن كتبه التي يمكن اعتبارها كتبا أخلاقية، وإن كانت كل كتبه تخدم هذا الجانب بنحو من الأنحاء: خليفة الله الإنسان الكامل، وكتاب طهارة الروح، والإنسان الكامل، والإنسان والقدوة، والرؤية الإلهية والرؤية المادية، والحكم والنصائح، وفلسفة الأخلاق، ونظام حقوق المرأة في الإسلام، والنظام الاقتصادي النظري في الإسلام، ونقد الماركسية، وهدف الحياة.
ثانيا ـ القيم الأخلاقية والواقع الإيراني:
من خلال مطالعة الواقع الإيراني سواء على المستويات الاجتماعية التي يمثلها الشعب، أو على المستويات السياسية التي تمثلها المؤسسات الحاكمة نجد أن للقيم الأخلاقية محلا كبيرا، وظهورا واضحا، يتجلى من خلال مقارنة الواقع الإيراني بالكثير من المجتمعات الإسلامية وغير الإسلامية.
ولعل أكبر برهان على ذلك هو تلك التضحيات العظيمة، وذلك السخاء اللامحدود الذي أبرزه الشعب الإيراني وقيادته طيلة أربعة عقود من الحصار والضغوط، ومع ذلك لم يستسلم ولم يخضع، بل بقي محافظا على قيمه ومبادئه وثورته وموقفه من قضايا الأمة، بل إنه يزداد كل يوم قربا من تحقيق مبادئه الكبرى التي نهض من أجلها.
انطلاقا من هذا نحاول في هذا المبحث بيان مدى تمسك الإيرانيين شعبا وحكومة بالقيم الأخلاقية، ودوافعهم لذلك، ليكون ذلك تجربة جديدة لأولئك الذين ينبهرون كل حين بالتجربة اليابانية أو الألمانية أو الماليزية أو التركية، لكنهم يحتقرون التجربة الإيرانية، مع كونها أكثر التجارب قربا من القيم التي جاءت بها الشريعة الإسلامية.
1 ـ القيم الأخلاقية والواقع الاجتماعي:
مع أننا لا نقول بعصمة أي مجتمع من المجتمعات في أي عصر من العصور، حتى العصور التي ازدهت بالأنبياء والأولياء الكبار، لكننا مع ذلك لا نستطيع أن نضع المجتمعات جميعا في محل واحد.
فالمجتمعات كالأفراد منها ما يغلب صلاحه فساده، ومنها ما يغلب فساده صلاحه، ومنها ما يتمحض للفساد، فلا تجد فيه شيئا من الصلاح.. وهكذا نجد منها ما يسير في طريق الصلاح، ومنها ما يسير في طريق الفساد.
وعند تطبيق هذه المعايير على الواقع الاجتماعي الإيراني نجد أنه قد حقق نسبة كبيرة من الصلاح بفعل المؤسسات الكثيرة الدينية والمدنية، التي اعتبرت الإنسان مشروعها الأكبر، فراحت تستثمر فيه، وتوفر له البيئة المناسبة للصلاح، وتبعد عنه كل ما يمكن أن يؤدي إلى الفساد.
فمنذ قامت الثورة الإسلامية الإيرانية اهتمت بالمجتمع، واعتبرته الأساس الذي يتم فيه نجاحها، واعتبرت القيم الأخلاقية هي المعيار الأكبر لمدى نجاح الثورة، ولهذا لم تبال بكل تلك الصيحات التي تتهمها بالتفريط في حقوق الإنسان، أو كونها ليست دولة ليبرالية تعطي الحرية لشعبها ليمارس ما يشاء، بل إن قادتها كانوا يصرحون بمواقفهم ضد الليبرالية الغربية، وأنهم مع الحرية المنضبطة بالضوابط الشرعية.
ولهذا لم تضع في ألقاب الدولة وصف [الديمقراطية]، لا لكونها لا تؤمن بحرية الأفراد في اختيار ممثليهم، وإنما لكونها تؤمن بأن القيم الأخلاقية التي تمثلها الشريعة هي التي تحكم، لا الأهواء التي يمثلها أي كان.
ولهذا نرى الخميني ينتقد الديمقراطية التي تنحرف بالشعوب، ويرى أنها مؤامرة، يقول في ذلك: (الديمقراطية مندرجة في الإسلام، والناس أحرار في الاسلام في بيان عقائدهم أو في أعمالهم ما لم تكن ثمة مؤامرة في الموضوع، ولم يطرحوا مسائل تجر الجيل الإيراني إلى الانحراف)([16])
ولهذا ينصح الشباب ألا يقعوا في المؤامرات التي يحيكها لهم الغرب، والتي يريد من خلالها استعبادهم عبر تلك الحريات المزيفة التي يتيحها لهم، يقول في ذلك: (أدعو الشباب فتياتٍ وفتياناً أن لا يضحّوا بالاستقلال والحرية والقيم الإنسانية حتى ولو تطلب الأمر تحمل المعاناة والصعاب؛ في مقابل الترف الزائد ووسائل اللهو والتحلل الخلقي، والتواجد في مراكز البغاء التي يشيعها الغرب وعملاؤه من باعة الوطن في أوساطهم)([17])
ويرى أن ذلك نوعا من الاستعمار الذي يشيعه الغرب تحت اسم الحرية والليبرالية، فيقول: (هبوا لبناء بلدكم، فالأمر يستحق بذل الجهد وتحمل العناء لعقد أو أكثر لتحقيق الاستقلال لبلادنا وتخليصها من أنياب هذه الذئاب المتوحشة)
ولهذا يرى أن على الدولة أن تقف في وجه كل شيء يمكن أن يؤثر في القيم الأخلاقية التي ينبغي أن تحكم المجتمع، وأولها الفن الذي حظي بتوجيهات كثيرة من طرف الخميني، ومن أقواله فيه([18]): (إنّ الفن الوحيد الّذي يحظى بالقبول القرآني، هو ذلك الفنّ الكاشف عن حقيقة الإسلام المحمديّ الأصيل، إسلام أئمّة الهدى عليهم السلام، إسلام الفقراء والبائسين، إسلام الحفاة، إسلام المضطهدين على طول التاريخ المرير والمخجل)
ويقول: (إنّ الفنّ الجميل النقيّ هو الفنّ الّذي يكون صاعقة مدمّرة للرأسماليّين والشيوعيّين مصّاصي الدماء، وهو الفنّ المحطّم لإسلام الترف والعبث، للإسلام الالتقاطيّ، إسلام المساومة والذلّ والتقاعس، إسلام المترفين غير المبالين بآلام غيرهم، وبكلمة واحدة أنْ يكون مبيداً للإسلام الأمريكيّ)
ويقول: (الفنّ في مدرسة العشق هو الّذي يشخّص ويشير إلى غوامض ومبهمات المشاكل الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والعسكريّة)
ويقول: (إنّ الفنّ في العرفان الإسلاميّ هو صورة واضحة للعدالة والكرامة والقسط، وهو تجسيد مأساة الجياع المغضوب عليهم من قبل القوّة والثروة)
ويقول: (من بين الفنون يجب الاشتغال والاهتمام فقط بالفنّ الّذي يُعلّم طريق مقارعة ومحاربة ناهبي العالم)
ويقول: (بالنسبة لفنّانينا فلا يُمكنهم أنْ يتخلّوا عن مسؤوليّاتهم والأمانة الّتي حملوها على عواتقهم إلّا في حالة واحدة لا غير هي بعد أنْ يتيقّنوا أن جماهيرهم قد وصلت إلى حياتهم الخالدة في ظلّ عقيدتها فقط دون الاعتماد على الغير)
ويقول: (إنّ إخراج مسرحيّة تنسجم مع الأخلاق الإنسانيّة الإسلاميّة تحتاج إلى جهد، وكذلك السينما، فلو أرادت أنْ تكون هكذا فإنّ ذلك يتطلّب منها وقتاً كبيراً)
وهكذا كان موقفه من كل ألوان التسلية التي تعبث بالأخلاق، يقول في ذلك: (أمّا بشأن ما يُسمى بالتسلية فإنّ الإسلام يرفض كلّ ما يؤدْي بالإنسان للشعور بالعبثيّة والتغرّب عن الذات. ومَنع الإسلام السكر والخمر، ومنع كذلك الأفلام الّتي تُبعد الإنسان عن الأخلاق السامية)
ولهذا شرعت القوانين في الجمهورية الإسلامية الإيرانية على أساس هذه التعليمات وغيرها، والتي كان الخميني وكل قادة الثورة حريصين على بثها، وإقناع المجتمع بها، على الرغم من تلك الحملة الكبيرة التي يقودها الإعلام المغرض، والتي تتهم إيران بمصادره حقوق الإنسان.
انطلاقا من هذا نحاول في هذا المطلب أن نذكر دور المؤسسات الإيرانية في نشر القيم الأخلاقية في الواقع الاجتماعي، لتحقيق أكبر نسبة من الصلاح فيه إما عن طريق الإقناع والهداية، أو عن طريق الزجر والحزم، وقد رأينا أنه يمكن اختصارها في نوعين من المؤسسات: المؤسسات الدينية، والمؤسسات المدنية، وإن كان الجميع في إيران خاضعا للمؤسسة الدينية، تحت وصاية ولاية الفقيه.
أ ـ المؤسسات الدينية ودورها في نشر القيم الأخلاقية:
للمؤسسات الدينية سواء كانت مساجد أو حسينيات أو حوزات علمية أو غيرها تأثيرها الكبير في المجتمع الإيراني، فمراجع وعلماء ووعاظ وقراء إيران يحظون بمكانة خاصة في المجتمع، قد لا نجد نظيرا لها في غيرها من المجتمعات الإسلامية، ومع أن ذلك قد يحمل بعض السلبيات، لكنه في نفس الوقت يتيح للمؤسسة الدينية من الأدوار ما يمكنها أن تؤدي من خلاله واجباتها الإصلاحية.
ولهذا نرى كل قادة الثورة الإسلامية يتوجهون بالدعوة لهذه المؤسسات لأن تؤدي أدوارها، وألا تقف موقفا سلبيا من كل من يحاول تمزيق المجتمع أو السير به نحو طريق الانحراف، وأول ذلك إصلاح تلك المؤسسات، وإصلاح رجالها، ذلك أن فاقد الشيء لا يعطيه.
ولهذا نرى الخميني يخاطب طلبة الحوزة العلمية، بألا يكتفوا بالمعارف التي تعلموها، وإنما عليهم أن يضموا إليها القيم الأخلاقية، فيقول: (أنتم الشباب تسيرون نحو الهرم والشيخوخة، ونحن الشيوخ نقترب من الموت، فأنتم على علم بمدى التقدم العلمي الذي أحرزتموه وحجم المعارف التي اكتسبتموها في هذا العام الدراس، ولكن ما الذي فعلتموه بالنسبة لتهذيب الأخلاق وتزكية النفس وتحصيل الآداب الشرعية والمعارف الإلهية؟ أية خطوة إيجابية خطوتم؟ وهل كان لديكم برنامج لذلك؟)([19])
وهو يدعو إلى إصلاح الحوزة العلمية، حتى تؤدي دورها في إخراج العلماء الصالحين، لا العلماء الذين يحفظون العلم، ويتركون العمل، فيقول: (إن الحوزات العلمية بحاجة إلى تعليم وتعلم المسائل الأخلاقية والعلوم المعنوية جنباً إلى جنب مع تدريس الموضوعات العلمية، فالإرشادات الأخلاقية وتربية القوى الروحية والإيمانية ومجالس الوعظ والإرشاد أمر ضروري، ينبغي أن تكون البرامج الأخلاقية والتربوية، ودروس التربية والتهذيب، وتعليم المعارف الإلهية التي مثلت الهدف الأساس من بعثة الأنبياء ـ عليهم السلام ـ رائجة وشائعة في الحوزات العلمية)([20])
ويقول: (من المفيد أن يهتم الفقهاء العظام والمدرسون الأعلام ممن هم محط اهتمام الجامعة ـ الحوزة ـ العلمية، بتربية الأفراد وتهذيبهم خلال تدريسهم وأبحاثهم، وأن يركزوا أكثر على القضايا المعنوية والأخلاقية، كما ينبغي لطلبة العلوم الدينية أن لا يتوانوا في سبيل اكتساب الملكات الفاضلة وتهذيب النفس، وأن يهتموا بالواجبات المهمة والمسؤوليات الخطيرة الملقاة على عاتقهم) ([21])
ويقول ـ مبينا الأدوار العظيمة التي تنتظرهم ـ: (أنتم الذين تدرسون اليوم في هذه المراكز العلمية، وتتطلعون لأن تتسلموا في الغد زمام قيادة المجتمع وهدايته؛ لا تتصوروا أن كل واجبكم أن تحفظوا حفنة من المصطلحات، بل تقع على عاتقكم مسؤوليات أخرى أيضاً. ينبغي لكم أن تبنوا أنفسكم وتربوها في هذه الحوزات بحيث إذا ما ذهبتم إلى مدينة أو قرية وفقتم إلى هداية أهاليها وتهذيبهم. يؤمل منكم عند مغادرتكم الحوزات العلمية أن تكونوا قد هذبتم أنفسكم وبنيتموها بنحو تتمكنون من بناء الإنسان وتربيته وفقاً لأحكام الإسلام وتعاليمه وقيمه الأخلاقية، ولكن إذا ما عجزتم ـ لا سمح الله ـ عن إصلاح أنفسكم خلال مراحل الدراسة، ولم تكتسبوا الكمالات المعنوية والأخلاقية، فإنكم أينما ذهبتم ستضلون الناس ـ والعياذ بالله ـ وتسيئون إلى الإسلام وإلى علماء الدين) ([22])
بل إنه يعتبر كل طالب علم لم يهذب نفسه حتى تتناسب مع المسؤولية العظيمة التي تناط به مشوها للإسلام، وعنصرا فاسدا في المجتمع، يقول لهم: (إذا لم تعملوا بمسؤولياتكم في الحوزات العلمية ولم تفكروا بتهذيب أنفسكم، واقتصر همكم على تعلم عدد من المصطلحات وبعض المسائل الفقهية والأصولية، فإنكم ستكونون في المستقبل عناصر مضرة ـ لا سمح الله ـ للإسلام والمجتمع الإسلامي، ومن الممكن أن تتسببوا ـ والعياذ بالله ـ في إضلال الناس وانحرافهم. فإذا ما انحرف إنسان وضل بسبب سلوككم وسوء عملكم، فإنكم ترتكبون بذلك أعظم الكبائر، ومن الصعب أن تقبل توبتكم. كما لو أن شخصاً اهتدى بكم فإن ذلك خير لكم مما طلعت عليه الشمس، كما ورد في الحديث الشريف) ([23])
ولذلك يرى أن الواجب في حقهم هو التورع حتى عن المباحات التي قد تسيء إليهم، لأن المجتمع ينظر إلى العالم باعتباره نموذجا للاقتداء به، فيقول: (إن مسؤوليتكم جسيمة للغاية.. وواجباتكم غير واجبات عامة الناس. فكم من الأمور مباحة لعامة الناس إلا أنها لا تجوز لكم، وربما تكون محرمة عليكم. فالناس لا تتوقع منكم أداء الكثير من الأمور المباحة، فكيف إذا ما صدرت عنكم ـ لا سمح الله ـ الأعمال القبيحة غير المشروعة، فإنها ستعطي صورة سيئة عن الإسلام وفئة علماء الدين. وهنا يكمن الداء. فإذا شاهد الناس عملاً أو سلوكاً من أحدكم خلافاً لما يتوقع منكم، فإنهم سينحرفون عن الدين ويبتعدون عن علماء الدين، وليس عن ذلك الشخص. وليتهم ابتعدوا عن هذا الشخص وأساءوا الظن به فحسب.. إذا ما رأى الناس تصرفاً منحرفاً أو سلوكاً لا يليق من أحد المعممين، فإنهم لا ينظرون إلى ذلك بأنه من الممكن أن يوجد بين المعممين أشخاص غير صالحين، مثلما يوجد بين الكسبة والموظفين أفراد منحرفون وفاسدون. لذا فإذا ما ارتكب بقال مخالفة، فإنهم يقولون إن البقال الفلاني منحرف.. ولكن إذا ما قام أحد المعممين بعمل لا يليق، فإنهم لا يقولون: إن المعمم الفلاني منحرف، بل يقولون إن المعممين سيئون) ([24])
ويذكر تأثير العلماء الصالحين في المجتمعات، فيقول متحدثا عن نفسه: (كنت أرى في بعض المدن التي كنت أذهب إليها في فصل الصيف، أهالي تلك المدن ملتزمين بآداب الشرع إلى حد كبير، والسبب في ذلك كما اتضح لي، هو أنه كان لديهم عالم صالح ومتق. فإذا كان العالم الورع والصالح يعيش في مجتمع أو مدينة أو إقليم ما، فإن وجوده يبعث على تهذيب أهالي تلك المدينة وهدايتهم، وإن لم يكن يمارس الوعظ والإرشاد لفظاً.. لقد رأينا أشخاصاً كان وجودهم يبعث على الموعظة والعبرة.. إن مجرد النظر إليهم كان يبعث على الاتعاظ والاعتبار. وأنا أعلم الآن إجمالاً أن مناطق طهران تختلف عن بعضها. فالمنطقة التي يقطنها عالم ورع ومتق، يكون أهاليها مؤمنين صالحين. وفي محلة أخرى حيث أصبح أحد المنحرفين الفاسدين معمماً وأصبح إماماً للجماعة وفتح دكاناً له، تراه يخدع الناس ويلوثهم ويحرفهم)
وفي مقابل هؤلاء الصالحين يذكر نماذج عن علماء السوء، وكيف ساهموا في الإساءة إلى المجتمعات، فيقول: (إن غالبية الذين تظاهروا بالتدين وتسببوا في انحراف كثيرين وإضلالهم، كانوا من أهل العلم. فبعض هؤلاء درسوا في المراكز العلمية الدينية ومارسوا الرياضات النفسية، حتى إن مؤسس إحدى الفرق الضالة قد درس في حوزاتنا العلمية هذه، ولكن نظراً لأن دراسته لم تكن مقترنة بتهذيب النفس وتزكيتها، لم يخط على الصراط المستقيم، ولم يتمكن من إبعاد نفسه عن الرذائل، فكانت عاقبته كل تلك الفضائح. فإذا لم يتخلص الإنسان من الخبائث، فإن دراسته وتعلمه لا تجديه نفعاً بل تلحق به أضراراً أيضاً، فالعلم عندما يكون في أرضية غير صالحة، سوف ينبت نبتاً خبيثاً ويصبح شجرة خبيثة. وكلما تكدست هذه المفاهيم في القلب المظلم غير المهذب، ازدادت الحجب أكثر فأكثر.. ومن هنا كان شر العالم الفاسد بالنسبة للإسلام أخطر وأعظم من كل الشرور) ([25])
هذه نماذج عن دعوة الخميني لإصلاح المؤسسة الدينية، والتي يقوم عليها العبء الأكبر في الإصلاح الاجتماعي، ولهذا أولى النظام الإيراني الاهتمام الأكبر بتوجيه هذه المؤسسة وإصلاحها ووضع البرامج الكفيلة لذلك، ومن بينها إضافة المواد المرتبطة بالعرفان العملي والأخلاق لدراسة الطلبة، بالإضافة للرقابة المشددة لهذه المؤسسة حتى لا يتخرج منها إلا من هو أهل لذلك.
بالإضافة إلى ذلك، قام النظام الإيراني بإصلاحات كبيرة في التعامل مع الأطروحات الدينية، وخاصة تلك المرتبطة بأهل البيت، حيث استعمل كل الوسائل لتصحيح تلك الصور الخاطئة عنهم، وعن العلاقة بهم، وكونها كافية في النجاة من دون عمل ولا تقوى ولا صلاح.
ولذلك استعمل كل الوسائل لإشاعة القيم المرتبطة بهم، واعتبار الانتساب إليهم وحده لا يكفي، بل المنتسب الصادق لهم هو الذي يسعى للتحقق بالقيم التي دعوا إليها، وطبقوها في حياتهم، يقول الخميني في ذلك: (يتوهم بعض الناس أن مجرد ادعاء التشيع وحب التشيع وحب أهل بيت الطهارة والعصمة يسوغ له والعياذ بالله اقتراف كل محرم من المحذورات الشرعية ويرفع عنه قلم التكليف، إن هذا السيء الحظ لم ينتبه بأن الشيطان قد ألبس عليه الأمر، فيخشى عليه في نهاية عمره أن تسلب منه هذه المحبة الجوفاء التي لا تجدي ولا تنفع، ويحشر يوم القيامة صفر اليدين، وفي صفوف نواصب أهل البيت.. إن ادعاء المحبة من دون دليل وبينة لا يكون مقبولاً إذ لا يمكن أن أكون صديقك وأضمر لك الحب والإخلاص، ثم أقوم بكل ما هو مناقض لرغباتك وأهدافك.. إن شجرة المحبة تنتج وتثمر في الإنسان المحب والعمل حسب درجة المحبة ومستواها؛ فإذا لم تحمل تلك الشجرة هذه الثمرة فلابد من معرفة أنها لم تكن محبة حقيقية وإنما هي محبة وهمية.. فمحب أهل البيت هو الذي يشاركهم في أهدافهم ويعمل على ضوء أخبارهم وآثارهم.. وإن المؤمن إذا لم يعمل بمتطلبات الإيمان وما تستدعيه محبة الله وأوليائه لما كان مؤمناً ومحباً، وإن هذا الإيمان الشكلي والمحبة الجوفاء من دون جوهر ومضمون ينتفي ويزول أمام حوداث بسيطة وضغوط يسيرة)([26])
وبناء على هذا أصدرت المؤسسات الرسمية البيانات والقوانين الكثيرة التي تنظم الطقوس التي كانت تمارس في البيئة الشيعية، والتي أساء بعضها لأهل البيت، ووضع بدلها الكثير من المراسم الجديدة التي تمثل القيم الأخلاقية لأهل البيت، وتنشرها.
ومن تلك البيانات والفتاوى تلك الأوامر المشددة بتحريم التطبير ومنعه والعقوبة عليه، ومن تعليمات الخامنئي في هذا المجال، قوله: (يؤسفني أن أقول إن أموراً جرت خلال الأعوام الماضية، وأعتقد أن أيادي تقف وراءها، أموراً جرت أثارت الشبهات لدى كل من رآها، منذ القدم كان متعارفاً أن يضرب الناس أيام العزاء أجسادهم بالأقفال ثم تحدث العلماء عن ذلك فزالت تلك العادة، واليوم ظهرت هذه العادة مجدداً، ما هذا العمل الخاطئ الذي يقوم به البعض (التطبير) أيضاً من جملة هذه الأمور، ويعتبر عملاً غير مشروع)([27])
ويخاطب أولئك الذين يدافعون عن مثل هذه السلوكات المبتدعة المشينة؛ فيقول: (اعلم أن البعض سيقول لكم ليس من المناسب أن يتحدث فلان عن التطبير، وما دخله في الأمر، كان حرياً بهم أن يدعهم يضربون الرؤوس بالقامات (السيوف)، كلا لا يصح ذلك، لو كانت مسألة (التطبير) التي بدأوا يروجون لها في السنوات الماضية سائدة أيام حياة إمامنا الراحل رضوان الله عليه لوقف الإمام بوجهها، إنه عمل خاطئ البعض يمسكون بالقامات ويضربون بها رؤوسهم ليغرقوا بدمائهم، علام ذلك؟ وهل يعتبر ذلك عزاء؟.. هل سمعتم أن أحداً راح يضرب رأسه بالسيف لفقده عزيزاً من أعزته؟ هل يعتبر ذلك عزاء؟ كلا، إنه وهم، ولا يمت ذلك إلى الدين بصلة، وما من شك بأن الله لا يرضى ذلك)([28])
ثم أصدر أوامر باعتباره الولي الفقيه، بتحريم ذلك تحريما شديدا، بل منعه والعقوبة عليه؛ فقال: (كلما فكرت في الأمر رأيت أنني لا يمكنني السكوت عن هذا العمل الذي هو بالتأكيد عمل غير مشروع وبدعة، فليكفوا عن هذا العمل، فإنني غير راض عنه، إنني غير راض من كل قلبي عن كل شخص يريد التظاهر بالتطبير، أحياناً كان يجتمع عدد من الأشخاص في ركن ناءٍ ويقومون بهذا العمل بعيداً عن أعين الناس وعن التظاهر بذلك أمامهم، ولم يكن أحد يتدخل في شؤونهم مشروعاً كان عملهم ذاك أم غير مشروع، فقد كان يتم ضمن نطاق محدود، ولكن إذا تقرر أن يخرج عدة آلاف من الناس فجأة في أحد شوارع طهران أو قم أو مدن أذربيجان أو خراسان ويضربوا رؤوسهم بالسيوف، فإننا لن نقبل بذلك، وهذا أمر غير مشروع لن يرضي الإمام الحسين، لا أدري من أين يأتي هذه الأمور لتنتشر في مجتمعاتنا الإسلامية ومجتمعنا الثوري؟!)([29])
وبناء على هذا وضعت العقوبات التي تحمي قيم أهل البيت من أن تصبح لعبة بأيدي المشوهين لها؛ فاندثرت هذه العادة السيئة في إيران، كما اندثر غيرها من العادات، وكان الأحرى بالإسلاميين أن يستقبلوا أمثال هذه التصحيحات والتوجيهات بفرح وسرور، ويشعرا أن التشيع صار أقرب إلى التسنن من أي وقت مضى، لكنهم للأسف لا ينظرون إلى كل تلك التصحيحات، ويكتفون أثناء نقدهم لإيران وللتشيع بنقل صور المطبرين مع أن كل المراجع المعترف بهم ينكرونه، ويرفضونه، ويعتبرونه بدعة، بل إن القوانين الإيرانية تجرمه.
وبدلا لتلك الطقوس المسيئة يقوم النظام باستعمال كل ما من شأنه أن يعيد العلاقة بأهل البيت إلى إطارها الصحيح، ولهذا نراهم يشجعون على الأدعية ومجالس الوعظ التي تنشر قيم أهل البيت.
وبالمناسبة، فإن هناك تراثا أخلاقيا كبيرا موجود في المصادر الحديثية الشيعية، وهو كفيل وحده بنشر القيم الأخلاقية وتعميمها، والجمهورية الإسلامية ـ عبر مؤسساتها المختلفة الدينية والإعلامية والثقافية ـ تسعى لنشره، لتصحيح العلاقة من خلاله بأهل البيت، يقول الخميني في الدعوة إلى دراسته والاستنارة به: (يا أيها العزيز: إن كنت راغباً في دراسة الأخبار والأحاديث، فراجع الكتب الشريفة للأخبار وخاصة كتاب (أصول الكافي) حتى تعرف مدى اهتمام المعصومين عليهم السّلام بالخلق الكريم والمبادئ الفاضلة، وإن كنت من التائقين للبيان العلمي وكلمات العلماء فراجع الكتب الأخلاقية، مثل كتاب(طهارة الأعراق) لابن مُسْكَوَيْه، وكتب المرحوم فيض الكاشاني، وكتب المجلسي، وكتب النراقيين([30]) حتى تستوعب آثار ونتائج مكارم الأخلاق. وإن وجدت نفسك في غنًى عن اقتناء الفضيلة، أو لا تلمس ضرورة في الابتعاد عن الخلق السيئ، فحاول أن تعالج جهلك الذي هو رأس الأمراض)
وهو يورد في مواعظه ودروسه الكثير من تلك الروايات، ومن خلالها يعمق المعاني الأخلاقية في المجتمع، ومن الأمثلة على ذلك عرضه لما ورد في الرواية عن الإمام جعفر الصادق، والتي يقول فيها: (لاَ يَكُونُ المُؤْمِنُ مُؤْمِناً َحَتّى يَكُونَ خَائِفاً رَاجِياً وَلاَ يَكُونَ خَائِفاً رَاجِياً حَتّى يَكُونَ عَامِلاً لِمَا يَخَافُ وَيَرْجُو)([31])
ثم علق عليها بقوله: (إنّ مَثَلَ من لا يعمل وينتظر رحمة ربه ويرجو رضوانه مَثَلُ من يرجو المسبِّب دون أن يُعِدَّ الأسباب، وَمَثَلُ الفلاّح الذي ينتظر الزرع من دون أن يبذر الأرض أو يهتم بها وبإروائها أو يقضي على موانع الزرع. إن مثل هذا الانتظار لا يسمى بالرجاء، بل هو بله وحماقة، وإن مَثَلُ من لم يُصلح أخلاقه أو لم يبتعد عن المعاضي فينهض بأعمال راجياً تزكية نفسه، مَثَلُ من يودع البذر في أراضي سبخة، ومن الواضح أن هذا الزرع لا يثمر النتيجة المتوخاة، فالرجاء المستحسن والمحبوب هو تهيئة كافة الأسباب التي يمتلكها الإنسان كما أمر الله بها واستغلالها حسب القدرة التي زوده بها الحق المتعال بعنايته الكاملة، وحسب هدايته ـ عز وجل ـ إياه إلى طرق الصلاح والفساد، ثم ينتظر ويرجو الحق المتعال أن يتمّ عنايته السابقة تجاه الأسباب التي وفّرها من قبل، ويحقق الأسباب التي لا تدخل تحت إرادته واختياره من بعد، ويزيل الموانع والمفاسد، فإذا نظف العبد قلبه من أشواك الأخلاق الفاسدة وأحجار الموبقات وسباختها، وبذر فيها بذور الأعمال، وسقاها بماء العلم الصافي النافع والإيمان الخالص، وخلصها من المفسدات والموانع مثل العجب والرياء وأمثالها التي تعد بمثابة الأعشاب الضارة العائقة لنمو الزرع، ثم انتظر ربه المتعالي ورجاه أن يثبّته على الحق، ويجعل عاقبة أمره إلى خير، كان هذا الرجاء مستحسناً)([32])
ومن الوسائل التي استعملتها المؤسسة الدينية بالإضافة إلى نشرها لأحاديث أهل البيت والقيم المرتبطة بهم، الأدعية الكثيرة الواردة عنهم، والتي يحوي أكثرها مضامين أخلاقية في غاية الجودة.
ومن الأمثلة على ذلك دعاء مكارم الأخلاق الذي يبث كل حين، وفي كل القنوات الإيرانية، وهو وحدة مدرسة أخلاقية متكاملة، حيث يقول فيه الإمام السجاد في بعض مقاطعه: (للهم صل على محمد وآله، وسددني لأن أعارض من غشني بالنصح، وأجزي من هجرني بالبر، وأثيب من حرمني بالبذل، وأكافي من قطعني بالصلة، وأخالف من اغتابني إلى حسن الذكر، وأن أشكر الحسنة، وأغضي عن السيئة.. وحلني بحلية الصالحين، وألبسني زينة المتقين، في بسط العدل، وكظم الغيظ، وإطفاء النائرة، وضم أهل الفرقة، وإصلاح ذات البين، وإفشاء العارفة، وستر العائبة، ولين العريكة، وخفض الجناح، وحسن السيرة، وسكون الريح، وطيب المخالقة، والسبق إلى الفضيلة، وإيثار التفضل، وترك التعيير، والإفضال على غير المستحق، والقول بالحق وإن عز، واستقلال الخير وإن كثر من قولي وفعلي، واستكثار الشر وإن قل من قولي وفعلي، وأكمل ذلك لي بدوام الطاعة، ولزوم الجماعة، ورفض أهل البدع، ومستعمل الرأي المخترع)
وهكذا نجد في كل الأدعية مضامين أخلاقية عالية، تقوم بأداء دورها الإصلاحي الذي لا يمكن أن تعوضه المواعظ ولا الدروس ولا المحاضرات.
ب ـ المؤسسات المدنية ودورها في نشر القيم الأخلاقية:
كما أن في إيران مؤسسات دينية كبيرة، لها حضورها القوي في المجتمع والسياسة؛ فإن لها كذلك مؤسسات مدنية، مثل سائر الدول، لكن الفرق بينهما هو أن هذه المؤسسات ـ وإن كان المسؤولون الكبار فيها منتخبين من طرف الشعب ـ إلا أنهم محكومون بالقوانين الثابتة التي تجعلهم يتحركون في إطار الشريعة وقيمها، لا يتجاوزونها، وهذا ما تقتضيه ولاية الفقيه، كما سنرى ذلك بتفصيل في الجزء الثاني من هذه السلسلة.
وبناء على ذلك؛ فإن وزارة كوزارة الثقافة مثلا، ليست مهمتها في الجمهورية الإسلامية الإيرانية رعاية الإنتاج الثقافي، والتشجيع عليه، وتسلية الشعب من خلاله فقط، وإنما مهمتها الأكبر هي إرشاد الشعب إلى القيم النبيلة، وحمايته من كل ما يمكن أن يسيء إليه، ولهذا، نرى أنهم يسمونها [وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي]، وهي تحظى بميزانية كبيرة، لتؤهلها لأداء دورها في نشر القيم الروحية والخلقية في المجتمع.
وقد جاء في المنشور الخاص بمبادئ السياسة الثقافية للجمهورية الإسلامية الإيرانية، والذي صادق عليه المجلس الأعلى للثورة الثقافية ([33]) ما يلي: (السياسة الثقافية، إنما هي سياسة الثورة الإسلامية، والثورة الإسلامية تهدف لكي تكون الثقافة الإسلامية مبدأ وأساساً في جميع الشؤون الفردية والاجتماعية للبلاد. ولهذا يجب أن لا يغيب عن الأذهان أن الثورة الإسلامية ثورة ثقافية. ولابدّ أن تــُعبّئ على أحسن وجه أغلب الإمكانات والقدرات والطاقات والجهود – إن لم نقل كلها – من أجل تحقيق التكامل والنضج وصنع حركة ثقافية في جميع الشؤون الفردية والاجتماعية.. والسياسة الثقافية للجمهورية الإسلامية مستلهمة من الرؤية الإسلامية للكون والإنسان وقائمة على أسس ومبادئ من قبيل: هيمنة النظرة التوحيدية على جميع شؤون الحياة الفردية والاجتماعية، والدور الأساس والتأثير الكبير للاعتقاد بأصول الدين وفروعه (كالوحي، النبوة، الإمامة، العدالة، والمعاد، والتبري والتولي) على المجتمع الإسلامي، وخلود الإنسان وكرامته وشرفه الذاتي بصفته خليفة الله في الأرض، ومختاراً ذا إرادة، ويمتلك قوة التعقل والانتخاب خلال مسيرة تقرير المصير، وكذلك دور العقل والتجربة في استمرار حركته التكاملية)
ومن المبادئ التي جاء فيها مما له علاقة بنشر القيم الخلقية، وارتباطها بالإيمان والتوحيد: (قدرة الإيمان على خلق القيم المعنوية والفضائل الأخلاقية، وتكوين روح الاستقلال والحرية والإباء وتوثيق العلاقات الإنسانية في المجتمع.. التأثير التربوي لدى الإنسان وفاعلية استعدداته وطاقاته البنّاءة باتجاه بناء مجتمع موحد، مناشد للعدل، مجد في طلب العلم، مؤمن بالجهاد والاجتهاد، موصوف بالاعتدال والواقعية.. وتسوده روح النقد والتحقيق العلمي، ويستفيد من العبر والتجارب التاريخية.. أصالة القيم المعنوية والفضائل الأخلاقية في المجتمع الإسلامي ودور التقوى والعلم والاجتهاد في تعيين درجة الكرامة والفضيلة لدى الناس.. تأثر الإنسان بالعوامل الإيجابية والسلبية السائدة في البيئة الاجتماعية والثقافية، ومسؤولية النظام الإسلامي حيال حفظ سلامة المجتمع وتحقيق القسط والعدل ومنح حق اشتراك الشعب في جميع الأمور، مع وجوب القضاء على الأسباب والعوامل التي تساعد على ظهور الكفر والنفاق والفقر والفساد السياسي والظلم والاستبداد والتسلط والاستكبار)
والمصادر الفكرية التي تتبناها هذه الوزارة ـ حسبما تحدد مبادئها ـ هي الرجوع إلى تعليمات قادتها الفكريين، وعلى رأسهم الخميني، وقد جاء في المنشور من ضمن المبادئ التي تتبناها وزارة الثقافة: (فالسياسة الثقافية لنظام الجمهورية الإسلامية تسير حسب أفكار وآراء وفتاوى سماحة الإمام الخميني بصفتها أهم مؤثر في الإسلام المحمدي الأصيل، وتميزه عن سائر أنواع الطروحات الاسلامية داخل البلاد وخارجها، فدائرة معاني الكلمات المستخدمة في لائحة السياسة الثقافية ومصاديقها محددة بحدود مستلهمة من المبادئ الإسلامية الموصوفة في خط الإمام الفكري والفقهي ووصاياه الإلهية السياسية القيمة. فلو وجدت بين سلسلة كلمات وعبارات هذا النص، عبارات متشابهة أو مبهمة، فهناك محكمات أيضاً يمكن الرجوع إليها لتفسير تلك المتشابهات، فأفكار الإمام وآراؤه في المضامير العرفانية والثقافية والفنية – مثلما هي في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية – بمنزلة دليل وحلول تهتدي بها السياسة الثقافية والفنية للبلاد. وما قاله الإمام بشأن أنواع الموسيقى والأفلام والمسلسلات التلفزيونية والرياضية وغيرها يعد مصباح هداية ودليل إرشاد في هذا الشأن، فكلام هذا الرجل العظيم على صعيد الفكر والثقافة قد طبع على صحائف القلوب والنفوس)
وبناء على هذا، فإننا إذا رجعنا إلى تعليمات الخميني التي أشار إليها المنشور، نجدها تعطي القيم الأخلاقية أهمية كبيرة على أساسها يتحرك كل منتوج ثقافي مسموح به في إيران.
ومن الأمثلة على ذلك قوله عن السينما: (نحن ضدّ السينما الّتي تؤدّي برامجها إلى إفساد أخلاق شبابنا وتخريب ثقافتنا الإسلاميّة)([34])
بل إنه يعتبرها من مؤسسات الفساد التي يجب تطهيرها من الرذائل، وإحلال الفضائل بدلها، مثلما ينبغي أن يُفعل مع كل المحال التي يريد الأعداء من خلالها إفساد المجتمع لتسهيل السيطرة عليه، يقول في ذلك، وهو يتحدث بأسف عما مورس في عهد الشاه وغيره لتطويع المجتمع الإيراني: (لقد فتحوا أبواب الفساد أمام شبّاننا وزادوا فيها. فنحن نشاهد بلادنا وأعلم بأنّ دولكم كذلك أيضاً. إنّنا نشاهد أنّ مراكز الفساد في بلادنا والّتي تجرّ الشبّان نحو الفساد وتقضي على أصالتهم هي كثيرة… فقد جرّدونا من كلّ شيء وسلبوا من شبّاننا الخاصّيّة الّتي يجب على الشبّان أن يمتلكوها، وأرادوا أن يأخذوا قوّة الشبّان منّا، ثمّ ليقوموا بعد ذلك بنهب ذخائرنا ليصبح شبّاننا لا مبالين)([35])
وبناء على هذا كانت التعليمات الصارمة من جميع الجهات الرسمية في مواجهة كل ما يمكن أن يشجع الرذيلة، أو يفتح أبوابها للمجتمع، في نفس الوقت الذي فتحت فيه كل الأبواب لتشجيع كل نشاط ثقافي يدعو إلى القيم الروحية والأخلاقية، ويبني الإنسان وفق الرؤية الإسلامية.
وقد صنفت أوروبا وأمريكا وغيرها من دول الاستكبار العالمي إيران لهذه الموقف وغيره من ضمن الدول التي تهضم حقوق الإنسان، وذلك كونها لم تسمح للجهات المعادية باستغلال هذه النواحي لإفساد المجتمع، وتسهيل السيطرة عليه.
ولا نستغرب أن تكون هذه الاتهامات من الدول الغربية الممتلئة بالإباحية والرذيلة، والتي أتاحت قوانينها كل ما يهدم القيم الإنسانية، ولكن العجب أن يصدر الإنكار على قوانين إيران المرتبطة بالأخلاق من بعض الدول العربية، وخصوصا من السعودية، حيث يقول بعض كتاب جريدة من جرائدها الرسمية، تحت عنوان: [حجاب النساء في إيران.. بالإكراه!]: (من أغرب سياسات إيران الاجتماعية، منذ ظهور الجمهورية الاسلامية عام 1979 إلى اليوم، الإصرار على فرض الحكومة والسلطات المعنية، (الحجاب الاجباري) على كل النساء في الحياة العامة والدوائر والمدارس وكل مكان، الحجاب يشمل الإناث صغارا وكبارا، الطالبات والموظفات، البنات والأمهات، الشابات.. وثمة ملاحظات أخرى على (الحجاب الاجباري) الذي تتبناه ايران منذ 35 عاما، فهي تكاد تكون الدولة الوحيدة التي تتبنى مثل هذه السياسة بحق النساء في العالم الاسلامي كله، وبخاصة بعد أن تغيرت بعض الشيء هذه السياسة في دولة مثل المملكة العربية السعودية، وربما حتى السودان، وان كان الحال متشابها في مناطق هيمنة طالبان بأفغانستان)([36])
ويتساءل الكاتب منتقدا:(أين حرية اختيار المرأة للباسها، وطاعتها للشريعة عن رضا وقناعة دون إكراه؟.. ولماذا تتحجب المسلمة أو ترفض ارتداء الحجاب في عشرات الدول الإسلامية، ومنها تركيا مثلا وباكستان وأندونيسيا وغيرها، بينما يقوم رجال الدين وقادة الثورة في إيران بفرض الحجاب؟..ما الذي حققته سياسة الإجبار والإكراه والملاحقة ومنع الاختلاط بعد نحو 35 عاما من نجاح الثورة؟.. لماذا يسير المتعصبون الإيرانيون على خطى رضا شاه بهلوي، الذي فرض السفور وأجبر النساء على خلع الحجاب بالاكراه ولم ينجح، بينما يحاول رجال الدين وأنصار الحرس الثوري، فرض الحجاب بالإكراه؟ هل يمكن فرض كل أركان الاسلام على الإيرانيين بالإكراه كذلك، من صلاة وصيام وحج لمن هو قادر وغير ذلك؟.. لماذا تفضل إيران (مدرسة) كوريا الشمالية وصين ماوتس تونغ في تطبيق الحجاب والزي الموحد، ولا تلتفت الى عشرات الدول الاسلامية التي تختار فيها أغلبية الفتيات والنساء الحجاب.. دون إجبار حكومي؟.. ألا تشعر القيادة الايرانية أن الدنيا تغيرت كثيرا منذ عام 1979؟)
وهكذا راحت صحيفة (الشرق الاوسط) تتهكم على فرض الحجاب على غير المسلمات، فقد كتبت تقول: (اللباس الشرعي) يطبق على جميع النساء في الجمهورية الاسلامية من الإيرانيات وغير الإيرانيات وحتى غير المسلمات)!، وأقول: لو كان الإخوان المسلمون أمسكوا برقاب المصريين والمصريات في محاولتهم الفاشلة، لكان هذا مصير الرجال والنساء في مصر، من مسلمين وأقباط!)([37])
وتقول نفس الجريدة في مقال آخر: (لا يقوم البرلمان الإيراني، أو (مجلس الشورى) للأسف، بدور المنقذ لنساء إيران، بل يطالب بعض أعضائه بمزيد من (الدعم المادي والمالي) للقيود والأصفاد. فنرى على سبيل المثال النائب (غلام علي حداد عادل)، ينتقد ما وصفه (بتدهور أوضاع الالتزام بالحجاب في إيران يوماً بعد يوم). وطالب الحكومة بتقديم (دعم مالي للشركات المنتجة للأزياء الإسلامية)، بهدف تشجيع ارتداء (الزي الإسلامي)، يُذكر أن الشرطة تلقي القبض على الأفراد أحياناً بتهمة ما تسميها بـ(عدم الالتزام بالحجاب الإسلامي) في المدن الكبرى أو تكتفي بتوجيه إنذار لهم)([38])
وللأسف، فإن هذه الصحف وغيرها تتصور أن الحجاب مسألة شخصية، ومتعلق بالقناعات الشخصية، ولم تعلم أنه مرتبطة بالمجتمع، فمن روافد الانحراف الاجتماعي التبرج والتحلل الخلقي الذي يبديه أي عضو فيه، لذلك كان على الدولة التي تقدر الإنسان، والقيم التي تحكمه أن تعتبر هذا الجانب، وتوليه أهميتها، ولا يهمها بعد ذلك من يوافقها أو يخالفها، فالقيم الخليقة تدخل ضمن الأمن القومي لأي دولة.
والأمر لا يرتبط باللباس فقط، وإنما بكل شيء، وقد تهكمت الصحف السعودية للأسف بالجرائد الإيرانية التي لم تظهر صورة عالمة رياضيات إيرانية فازت بجائزة عالمية كبرى خارج إيران بسبب عدم ظهورها بالحجاب.
حيث ورد في بعض الصحف ([39]): (البروفيسورة الإيرانية (مريم ميرزا خاني)، أول امرأة في التاريخ تفوز بميدالية (فيلدز) المرموقة التي تشبه من حيث الأهمية جائزة نوبل في العلوم، وقد عبر الإيرانيون والرئيس روحاني عن فرحهم وفخرهم بالانجاز، ولكن الصحافة احتارت كيف تنشر صورة عالمة الرياضيات الإيرانية، إذ كانت لا ترتدي حجاجاً، حيث يلزم القانون الإيراني النساء بالظهور محجبات في العلن، حتى لو كُن خارج البلاد، وقد حُكم على ممثلة إيرانية بالسجن لمدة عام وتسعين جلدة، بسبب ظهورها من دون حجاب في فيلم أسترالي، وصحيفة (القبس) الكويتية، نقلت صورة العالمة الرياضية الإيرانية كما نشرتها الصحف الإيرانية التي احتارت هي نفسها كيف تنشرها، فكانت من دون شعر ولا أذن ولا رقبة.. والصحيفة الرسمية (إيران) عدّلت صورة ميرزخاني بالفوتوشوب، ورسمت على رأسها حجاباً، أما (كيهان) المحافظة فقد تجاهلت الحدث كلياً كي لا تحرجها الصورة، بينما نشرت معظم الصحف الأخرى صورة قديمة لمريم عندما كانت في إيران وترتدي الحجاب)
وللأسف، فإن هؤلاء المحجوبين بأمثال هذه المواضيع يغفلون عن الأدوار الكبيرة المتاحة للمرأة الإيرانية، والمناصب الرفيعة التي تتولاها، والاحترام العظيم الذي تجده، ذلك أنهم يقصرون نظرهم إلى جسد المرأة واستعماله للفتنة دون ملاحظة ما للمرأة من أدوار نافعة يمكن أن تؤديها للمجتمع.
وقد نص قادة الثورة الإسلامية على تلك الأدوار ودعوا إلى تفعيلها الحياة، ومنهم الخميني الذي قال: (إن المرأة في النظام الإسلامي تتمتع بالحقوق ذاتها التي يتمتع بها الرجل، بما في ذلك حق التعليم والعمل والتملك والانتخاب والترشيح، وفي مختلف المجالات التي يمارس الرجل دوره فيها، للمرأة الحق في ممارسة دورها، بيد أن هناك أموراً تعد مزاولتها من قبل الرجل حراماً لأنها تقوده إلى المفاسد، وأخرى يحظر على المرأة مزاولتها لأنها توجد مفسدة، لقد أراد الإسلام للمرأة والرجل أن يحافظا على كيانهما الإنساني، فهو لا يريد للمرأة أن تصبح ألعوبة بيد الرجل، وإن ما يرددونه في الخارج من أن الإسلام يتعامل مع المرأة بخشونة وعنف لا أساس له من الصحة وهو دعاية باطلة يروج لها المغرضون، وإلا فإن الرجل والمرأة كلاهما يتمتع بصلاحيات في الإسلام. وإذا ما وجد تباين فهو لكليهما، وإن ذلك عائد إلى طبيعتهما)([40])
ويذكر الفرق بين النظامين: الإسلامي والغربي في التعامل مع المرأة، حيث كان الغرب يحترم الشاه، ونظامه في تعامله مع المرأة رغم استبداده وفساده الكبير في نفس الوقت الذي يشن فيه حملاته على معاملة النظام الإسلامي للمرأة، يقول في ذلك: (إن الأفلام المغرضة المسمومة، وأحاديث الخطباء الجهلة، حولت المرأة في الخمسين عاماً السوداء من الحكم البهلوي الخبيث، إلى مجرد سلعة، وقد عملوا على جر النساء اللاتي كن على استعداد للتأثر بهذه الأجواء، إلى أماكن يعف القلم عن ذكرها، فليعد من يرغب في الإطلاع على جانب تلك الجرائم، إلى الصحف والمجلات وأشعار الأوباش والأراذل في عهد رضا خان بدءاً بفترة إجبار النساء على السفور والتخلي عن الحجاب الإسلامي فصاعداً… سود الله وجوههم وتحطمت أقلامهم التي تدعي التنوير)([41])
وقد برهن الواقع الإيراني بعد ما يقارب الأربعين سنة من عمر الثورة الإسلامية على صحة كل الأطروحات التي دعا إليها الخميني، بل دعت إليها قبل ذلك الشريعة الإسلامية؛ فالمرأة الإيرانية الآن تحظى باحترام كبير، وتتولى مناصب رفيعة، وتنجح نجاحات باهرة في كل المجالات، وخصوصا المجالات المرتبطة بالعلم والبحث العلمي، كما سنرى ذلك إن شاء الله بتفصيل في محله من الجزء الثاني من هذه السلسلة.
2 ـ القيم الأخلاقية والواقع السياسي:
من خلال مطالعة المبادئ المحركة للسياسة الإيرانية سواء على مستوى الداخل أو الخارج نرى مدى تحكم القيم الأخلاقية فيها؛ فهي سياسة تنبع من المبادئ الأخلاقية قبل أن تنبع من المصالح المؤقتة.
وهذا ما يفسر كل تلك الحروب والضغوطات التي تتعرض لها كل حين، ذلك أنها لو انتهجت منهج المصلحة والبراغماتية، وتخلت عن مبادئها ونصرتها للمستضعفين، لوجدت من أعدائها قبولا كبيرا، ولتعاملوا معها مثلما يتعاملون مع تلك الدول التي لم تعرف في أي لحظة من حياتها أي لون من ألوان الديمقراطية، ولا صناديق الانتخابات، ولا حقوق الإنسان.
وهذه السياسة التي انتهجتها إيران في الداخل والخارج تنبع من تلك التعليمات التي كان الخميني وكل قادة الثورة الإسلامية يوجهون بها مسيرة الثورة منذ انطلاقتها.
وعند مطالعة ما يطلق عليه [الوصية الإلهية السياسية للامام الخميني]، والتي أوصى بها قبل وفاته، وقرئت بعدها، والتي نجد لها تأثيرها الكبير في السياسة الإيرانية نجد مدى اهتمامه بالقيم الأخلاقية في تحريك السياسة الداخلية والخارجية.
فمما ذكره في وصيته([42]) فيما يتعلق بالسياسة الداخلية والأحزاب والانتخابات والمبادئ التي تحكمها قوله في البند السابع من بنود الوصية: (من الأمور الضرورية أيضاً، تديّن نواب مجلس الشورى الاسلامي، فقد رأينا جميعاً أيٌة إضرار محزنة لحقت بالإسلام وبإيران نتيجة عدم صلاحية مجلس الشورى وانحرافه منذ الفترة التي تلت النهضة الدستورية وحتى عهد النظام البهلوي المجرم، والتي كان سواها وأخطرها عهد ذلك النظام الفاسد المفروض. يالها من مصائب وخسائر مدمرة حلت بالبلاد والشعب على أيدي هؤلاء العبيد التافهين المجرمين، لقد أدى وجود أكثرية مصطنعة مقابل أقلية مظلومة خلال الخمسين عاماً الأخيرة ـ من العهد البائد ـ إلى تمكن إنجلترا والاتحاد السوفيتي وأمريكا بعد ذلك من تمرير كل ما أرادوه على أيدي هؤلاء المنحرفين الغافلين عن الله مما جر البلاد الى حافة الدمار والانهيار. فمنذ ما تلا الحركة الدستورية لم يطبق شيء تقريباً من مواد الدستور الأساسية، وقد تم ذلك قبل عهد رضا خان عبر المأمورين للغرب وحفنة من الباشوات والإقطاعيين، وعبر النظام السفاك وحواشي البلاط وأزلامه في عهد النظام البهلوي)([43])
وبناء على هذه التجربة القاسية التي ذكرها الخميني، والتي مرت بها إيران دعا إلى التشدد في اختيار النواب، والاهتمام بالتزامهم الديني والأخلاقي حتى لا يخترقهم العدو، ويمرر مشاريعه التدميرية من خلالهم، يقول في ذلك: (أما الآن، وحيث أصبح مصير البلاد ـ وبلطف الله وعنايته وهمة الشعب العظيم ـ بأيد المواطنين أنفسهم، حيث أصبح النواب منبثقين من سواد الجماهير يتم انتخابهم لمجلس الشورى الإسلامي دون تدخل الحكومة أو الباشوات، فإن المؤمل أن يحول التزامهم بالإسلام وحرصهم على مصالح البلاد دون وقوع أي انحراف، لذا فإني أوصي أبناء الشعب أن يصوتوا في كل دورة انتخابية ـ حاضراً ومستقبلاً ـ لصالح المرشحين الملتزمين بالإسلام والجمهورية الإسلامية انطلاقاً من إرادتهم الصلبة والتزامهم بأحكام الإسلام وحرصهم على مصالح البلاد)([44])
ثم ذكر أن العادة جارية بأن أمثال هؤلاء لا يكونون من الطبقة المترفة المستغرقة في الدنيا، بل يكونون من عامة الناس، وهم لذلك أكثر احتكاكا بهم، وأكثر إحساسا بحاجاتهم، يقول: (ولا شك أن مثل هؤلاء المرشحين يكونوا غالباً من الطبقات الاجتماعية الوسطى ومن بين المحرومين غير المنحرفين عن الصراط المستقيم نحو الغرب أو الشرق، ومن غير الميالين نحو المدارس العقائدية المنحرفة، ومن المتعلمين المطلعين على مجريات الامور المعاصرة والسياسات الإسلامية) ([45])
ولضمان استمرار المبادئ في التحكم في السياسة الإيرانية يدعو العلماء إلى عدم الاعتزال، أو ترك الحرية المطلقة للسياسيين، يقول: (وأوصي العلماء المحترمين ـ لا سيما المراجع العظام ـ أن لا يعتزلوا قضايا المجتمع، خصوصاً عند انتخاب رئيس الجمهورية أو نواب المجلس، وأن لا يكونوا غير مكترثين بهذه الأمور. فكلكم رأيتم ـ والأجيال اللاحقة ستسمع بذلك ـ كيف قام ممتهنو السياسة من عملاء الشرق والغرب بعزل الروحانيين الذين وضعوا الحجر الأساس للملكية الدستورية بعد أن تحملوا المشاق والمعاناة، وكيف أن الروحانيين أيضاً ابتلعوا الطعم الذي ألقاه لهم ممتهنو السياسة فظنوا أن التدخل في أمور البلاد والمسلمين مما لا يليق بمقامهم، فانسحبوا من الميدان تاركين إياه للمأسورين للغرب، الأمر الذي الحق بالحركة الدستورية والدستور والبلاد والإسلام ما يحتاج جبرانه إلى زمن طويل، والآن وبعد أن أزيلت الموانع بحمد الله تعالى، وتوفرت الأجواء الحرة المناسبة لمشاركة جميع الشرائح الاجتماعية لم يبق من عذر، والتساهل بأي أمر من أمور المسلمين من الذنوب الكبيرة التي لا تغتفر) ([46])
وهو لا يكتفي بذلك، بل يحذر الشعب بأطيافه المختلفة كل حين لمراقبة الحكومة وكل أجهزتها، لتبقى دائما في خط المبادئ التي سنتها الشريعة، والقيم التي جاءت بها، يقول في ذلك: (فعلى كل امرءٍ أن يسعى ـ وبمقدار استطاعته وبماله من التأثير في خدمة الإسلام والوطن وأن يحول بجد ـ دون نفوذ عملاء القطبين المستعمرين، والمنبهرين بالغرب أو الشرق والمنحرفين عن نهج الإسلام العظيم، وليعلم الجميع بأن أعداء الإسلام والدول الإسلامية المتمثلين بالقوى الناهبة الدولية الكبرى إنما يتغلغون في بلداننا والبلدان الإسلامية الأخرى بخفة ومهارة ليوقعوا تلك البلدان في شباك الاستعمار مستغلين أبناء شعوب تلك البلدان ذاتها، كونوا يقظين، راقبوا بحذر، وما أن تشعروا بأول خطوة تغلغل هبوا للمواجه ولا تمهلوهم، والله معينكم وهو حافظكم) ([47])
وبناء على هذا نرى في إيران المؤسسات الكثيرة التي لا نجد نظيرا لها في العالم أجمع، وهي مؤسسات تتكون عادة من فقهاء وعلماء دين بالإضافة إلى مختصين في القوانين ونحوها، بالإضافة للمنتخبين من طرف الشعب.. وذلك حتى تضمن بقاء المبادئ الإسلامية كما هي من دون أن تتحكم فيها التقلبات والأهواء.
وقد أشار الخميني في وصيته إلى هذه الجوانب، وكررها كثيرا، ومن ذلك قوله: (أطالب ممثلي مجلس الشورى الإسلامي ـ في هذا العصر والعصور الآتية ـ أن يصرّوا على عدم قبول أوراق اعتماد العناصرالمنحرفة التي تتمكن في وقت ما من فرض تمثيلها على الناس بالدسائس والألاعيب السياسية، وأن يحولوا دون وصول حتى عنصر مخرب عميل واحد إلى المجلس، كما أوصي الأقليات الدينية المعترف بها رسمياً أن يأخذوا العبرة من الدورات الانتخابية التي جرت في عهد النظام البهلوي، وأن يحرصوا على انتخاب ممثليهم الملتزمين بأديانهم وبالجمهورية الإسلامية، غير المرتبطين بالقوى الإستعمارية، وغير الميالة للمدارس الإلحادية المنحرفة والإلتقاطية، وأطلب من جميع النواب أن يتعاملوا فيما بينهم بحسن النية والأخوة، وليسعوا جميعاً إلى أن لا تسن القوانين المنحرفة عن الإسلام ـ لا سمح الله ـ وليكونوا جميعاً أوفياء للاسلام ولأحكامه السماوية، سعياً في نيل سعادة الدنيا والآخرة) ([48])
وهكذا أوصى أعضاء صيانة الدستور بقوله: (أطالب أعضاء صيانة الدستور المحترمين وأوصيهم ـ سواء في هذا الجيل أم الاجيال القادمة ـ أن يحرصوا على أداء واجباتهم الإسلامية والوطنية بكل دقة وحزم، وأن يحاذروا من الوقوع تحت تأثير أية سلطة، وأن يحولوا دون سن القوانين المخالفة للشرع المطهر والدستور، دون الأخذ بنظر الاعتبار أية اعتبارات أخرى، وأن ينتبهوا إلى مصالح البلاد التي يجب أن تتحقق عبر الأحكام الثانوية تارة، أو عبر ولاية الفقيه تارة أخرى) ([49])
وهكذا أوصى الشعب بأن يؤدي دوره في حفظ المبادئ والقيم التي قامت عليها الثورة الإسلامية، وذلك بمشاركته الفاعلة في اختيار ممثليه من الذين يتوسم فيهم النزاهة والصلاح، يقول في ذلك: (وأوصي الشعب المجيد بأن يسجل حضوراً فاعلاً في جميع الانتخابات، سواء انتخابات رئاسة الجمهورية أو انتخابات الخبراء لتعيين شورى القيادة أو القائد، وعليهم أن يحرصوا على إتمام عملية الاقتراع وفق الضوابط المعتبرة. فمثلاً في انتخاب الخبراء لتعيين شورى القيادة أو القائد عليهم أن ينتبهوا جيداً، فإذا تم تجاوز الموازين الشرعية والقانون في انتخاب الخبراء وحصل تساهل ما في ذلك، فمن الممكن أن يتعرض الإسلام والبلاد إلى خسائر لا يمكن جبرانها، وحينها سنكون الجميع مسؤولين أمام الله تعالى، وعلى هذا الأساس، فإن عدم مشاركة الشعب ـ بمراجعه وعلمائه العظام وتجّاره وكسبته وفلاحيه وعماله وموظفيه ـ يحمل الجميع المسؤولية عن مصير البلاد والإسلام، سواءٌ بالنسبة لهذا الجيل أم الأجيال القادمة. وقد يكون التساهل وعدم المشاركة في بعض الظروف ذنباً من أكبر الكبائر) ([50])
ثم يبين لهم المواصفات الشرعية لمن ينتخبونه؛ فيقول: (ليحرص الجميع عند اختيار رئيس الجمهوريّة ونواب المجلس على أن يكونوا ممن لمسوا حرمان المستضعفين والمجتمع ومظلوميتهم، وممن يعتزمون تحقيق الرفاهية لأبناء الشعب، وليجتبنوا أولئك التجار والإقطاعيين من الساعين للوجاهة والشهرة، المرفهين الغارقين في الملذات والشهوات غير القادرين على إدراك مرارة الحرمان ومعاناة الجائعين والحفاة) ([51])
هذه نماذج عن توجيهات الخميني، التي بينت عليها القوانين الإيرانية المختلفة، وهي ترينا بوضوح مدى تغلغل القيم الأخلاقية في تسيير السياسة الداخلية للبلاد بكل أجهزتها، وطبعا ذلك لا يمنع من وقوع الاختراقات، والتمثيل السيء، ولكن ذلك محدود جدا، ويمكن لأجهزة الرقابة المختلفة أن تحد منه، أو تمنع امتداد آثاره.
أما السياسة الخارجية، فهي محكومة بالمبادئ والقيم الأخلاقية مثل السياسة الداخلية، ولهذا كان أول ما فعلته الثورة الإسلامية، وفي أحلك مراحلها وقوفها في وجه الاستكبار العالمي على الرغم من إدراكها للثمن الذي يمكن أن تدفعه في سبيل ذلك.
فقد كان الخميني وكل قادة الثورة الإسلامية وإلى اليوم يصرحون بمواجهتهم لأمريكا، ويسمونها الشيطان الأكبر، ومثلها إسرائيل، ويسمونها الغدة السرطانية، وفي الوقت الذي يدعو فيه العرب إلى صفقة القرن، وإلى تجاهل حقوق الفلسطينيين نرى من المبادئ الكبرى لإيران، إيمانها بفلسطين جميعا، وبجميع حقوق الفلسطينيين، بل إمدادها لقوى المقاومة الفسلطينية بكل ما تحتاجه من دعم.
يقول الخميني في بعض بياناته التي وجهها للعالم الإسلام: (يا مسلمي العالم يا أيها المستضعفون الرازحون تحت نير الظالمين! انهضوا واتحدوا ودافعوا عن إسلامكم ومقدراتكم، ولا تخشوا صخب الأقوياء، فان هذا القرن هو – بإذن الله – قرن انتصار المستضعفين على المستكبرين وانتصار الحق على الباطل)([52])
وقال في بيان آخر: (أمريكا العدو الأول ليعلم المسلمون المتواجدون في المواقف المشرفة، بمختلف مذاهبهم وقومياتهم، جيداً بأن العدو الأصلي للإسلام والقرآن الكريم والرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم هي القوى العظمى، خصوصاً أمريكا ووليدتها الفاسدة إسرائيل، التي تنظر إلى بلدان العالم الإسلامي بعين الطمع، ولا تتورع عن الإقدام على أية جريمة أو مؤامرة من أجل نهب ثرواتها ومواردها الطبيعية. وإن سرّ نجاحهم في هذه المؤامرة الشيطانية يكمن في بثهم الفرقة بين صفوف المسلمين بأي نحو كان، وفي موسم الحج من الممكن أن يقوموا بدفع بعض الملالي المرتبطين بهم لإشاعة أجواء الاختلاف بين الشيعة والسنة، والتشديد على هذه الظاهرة الشيطانية إلى درجة تجعل بعض البسطاء يصدقونها ويمسون سبباً في الفرقة والفساد. على الأخوة والأخوات من الفريقين أن يتنبهوا إلى ذلك، وأن يعلموا بأن هؤلاء عُمي القلوب الضالين إنما ينوون باسم الإسلام والقرآن المجيد وسنة الرسول، إبعاد المسلمين عن الإسلام والقرآن والسنة، أو على الأقل حرفهم عنها. على الأخوة والأخوات أن يعلموا بان أمريكا وإسرائيل تعاديان أسس الإسلام، لأنهما تريان في الإسلام والقرآن والسنة أشواكا في طريقهما، تحول دون أطماعهما ونهبهما، ذلك أن إيران باتباعها لهذا القرآن والسنة، انتفضت بوجههم وثارت وانتصرت)([53])
ويذكر الخميني السبب الذي من أجله عادى الغرب، وبعض الدول الإسلامية إيران، فقال: (الجميع يعلم اليوم أن ذنبنا الحقيقي – من وجهة نظر ناهبي العالم المعتدين – هو الدفاع عن الإسلام، وإرساء دعائم لحكومة الجمهورية الإسلامية لتحل محل النظام الطاغوتي الظالم. إن ذنبنا وجريرتنا هي إحياء سنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والعمل بتعليمات القرآن الكريم، وإعلان وحدة المسلمين من الشيعة والسنة، لمواجهة مؤامرة الكفر العالمي، ودعم الشعوب المحرومة في فلسطين وأفغانستان ولبنان، وإغلاق السفارة الإسرائيلية في إيران، وإعلان الحرب ضد هذه الغدة السرطانية والصهيونية العالمية، ومحاربة التمييز العنصري، والدفاع عن الشعوب الإفريقية المحرومة، وإلغاء معاهدات العبودية التي وقعها النظام البهلوي القذر مع أمريكا الناهبة للعالم)([54])
وحتى نوضح مدى تشبع السياسة الخارجية لإيرانية بالقيم الأخلاقية، ننقل هنا بعض النصوص من قائد من القادة الفكريين للجمهورية الإسلامية الإيرانية، وهو في نفس الوقت تلميذ من تلاميذ الخميني، وهو الشيخ مصباح اليزدي، الذي ألف الكتب والرسائل الكثيرة حول الرؤى الفكرية والفلسفية التي تستمد الجمهورية الإسلامية منها قوانينها المختلفة.
وقد كتب في هذا الموضوع تحت عنوان [القيم الأخلاقية ودورها في العلاقات الدولية]، مبينا المبادئ الشرعية التي تحكم العلاقات الدولية، وقد صنف فيه الدول غير الاسلامية إلى صنفين ([55]):
الصنف الأول: الدول التي تحترم حقوق المسلمين، ويرى أن العلاقة بينهم وبين المسلمين تتحدد طبقاً للمعايير الكلية في القيم الاجتماعية، كأصل (العدالة)، أو أصل (الإحسان)، ويرجع في حالة التزاحم بين هذه الأصول إلى أصول (الأولوية)
أما العدالة، فيرى أن (المجتمعات التي تحترم حقوق المسلمين يقابلها المسلمون بالمثل.. فيجب على المسلمين أن يحترموا اتفاقاتهم مع الكفار ما داموا (أي الكفار) يحترمونها. وحتى في حالة تجاوز الكفار على المسلمين، فيجب أن يكون رد المسلمين بالمقدار نفسه، ولا ينبغي تعدي ذلك)
وأما الإحسان، (فكما أن المجتمع الاسلامي محكوم في داخله لبعض القيم الأخلاقية التي توجب على بعضهم أن يحسنوا إلى المساكين والفقراء والمحرومين، كذلك تطرح القيم نفسها بحدود معينة مع المجتمعات الأخرى، فالمجتمعات التي تحترم حقوق المسلمين وترتبط معهم بمعاهدات معينة، تكون هي كذلك موضع احترام المسلمين ومحل عطفهم فمن المنساب جداً أن يجد هؤلاء المسلمين إلى جانبهم في حالة تعرضهم إلى الكوارث والمصائب كالزلازل والسيول والمجاعات وغيرها. وهذا الأصل تجري مراعاته ضمن قاعدة (الأولوية) أي تقديم حاجة المجتمع الاسلامي على غيره، وتقديم المساعدات في حالة عدم التزاحم إلى المحتاجين من المسلمين ومن الكفار غير المحاربين)
وبناء على هذا يرى إمكانية إقامة علاقات طيبة مع غير المسلمين بشرط (المحافظة على سيادة المسلمين، والمحافظة على سمعة المسلمين والمجتمع الإسلامي)
ولهذا لا يصح ـ كما يذكر ـ (أن تقام علاقات المجتمع الاسلامي مع المجتمعات الأخرى بحيث تكون للكفار اليد العليا في هذه العلاقات، مما قد يخدش سيادة المسلمين واستقلالهم، ويجعل للكافرين عليهم سبيلاً)
ولا يصح كذلك أن يتخلى المسلمون عن (قيمهم التي يعتزون بها، ويوجبها الاسلام إرضاء لعرف كافر وانسجاماً مع قيم اجتماعية باطلة، فقد يستنكر الغربيون حجاب المرأة ويستهجنون حشمتها ونوع لباسها، لكن ذلك لا يسوغ تساهلها في هذا الأمر بحجة مسايرة العرف والانحراف معه وعدم استفزازه)
الصنف الثاني: الدول التي لا تحترم حقوق المسلمين، أو تحاربهم، وهي التي يطلق عليها اصطلاحا اسم (المحاربين)، وهي كذلك لا يصح في المنظور الإسلامي ـ كما يرى الشيخ يزدي ـ أن تعلن عليها المواجهة أو الحرب بعيدا عن القيم والأخلاق الإسلامية.
ولذلك لا يصح في المنظور الإسلامي ـ كما يرى يزدي ـ القيام باستعمار الآخرين واستخدامهم، (وحين يلتقي الفريقان، كان يدعو الاسلام إلى نوع من القيم الأخلاقية الدقيقة. منها مثلاً: احترام المقدسات، سواء كانت هذه المقدسات موضع احترام الكفار أو الكفار والمسلمين.. كذلك يجب احترام الكنائس، وأماكن العبادة التي أقامها المسيحيون أو اليهود لعبادة الله، وليس لأحد أن يتعرض لشيخ أو طفل أو أي شخص محايد لم يشارك في الحرب.. فهذه الأصول وغيرها، أوجب الاسلام الالتزام بها، حتى مع أشد أعداء الاسلام، ولم يتسامح في تطبيقها، إلا إذا بادر العدو إلى خرقها)
ويلخص يزدي أصول أخلاق التعامل مع المحاربين بقوله: (لقد أراد الاسلام للحرب أن تكون حرباً شجاعة شريفة واضحة فلا استغفال للعدو ولا مباغتة له، إذ لا حرب قبل الإعلان وإذا ما وقعت الحرب فلا مجال لعمليات الإبادة أو الحرق، حتى إحراق منازل العدو ومزارعه التي تمده بالغذاء والمال، إلا إذا لجأ العدو إلى ذلك. فالحرب تحسم في ميدان القتال، وبالأسلحة المتعارفة في ذلك العصر، وما بعد الحرب يأتي دور الأسرى الذين وضع الاسلام أصولاً للتعامل معهم، أوضحتها الروايات، وتحدثت عنها كتب الفقه باسهاب، والحرب ليست هدفاً في الاسلام، حتى الحرب الدفاعية ـ كالحرب مع البغاة، فهي محدودة بحدود رفع الظلم ودفع التجاوز على النظام وفرض الأمن الإسلامي)
هذه بصورة عامة القيم الأخلاقية التي تحكم العلاقات الدولية في المنظور الإسلامي بحسب رؤية قادة الثورة الإسلامية الإيرانية، وهي التي تعمل أجهزة الدولة في تنفيذها على أرض الواقع، وبناء عليها تصدر الفتاوى المختلفة من ولاية الفقيه، والتي لها السلطة العليا في قضايا الداخل والخارج.
ومن أحسن النماذج عن تلك الفتاوى الأخلاقية الكبرى، فتوى المرشد الأعلى للثورة الإسلامية في إيران السيد علي الخامنئي بحرمة استخدام أسلحة الدمار الشامل، والتي صدرت عام 2003 م، ثم أعلنتها الحكومة الايرانية في بيان رسمي في اجتماع الوكالة الدولية للطاقة الذرية في فيينا، والتي يقول فيها: (نعتقد إضافةً إلی السلاح النووي، سائر صنوف أسلحة الدمار الشامل كالأسلحة الكيمياوية والميكروبية تمثل خطراً حقيقياً علی البشرية، والشعب الإيراني باعتباره ضحية لاستخدام السلاح الكيمياوي يشعر أكثر من غيره من الشعوب بخطر إنتاج وتخزين هذه الأنواع من الأسلحة، وهو علی استعداد لوضع كافة إمكاناته في سبيل مواجهتها، إننا نعتبر استخدام هذه الأسلحة حراماً، وإنّ السعي لحماية أبناء البشر من هذا البلاء الكبير واجباً علی عاتق الجميع) ([56])
وهو يشير كل حين إليها، ويبين دوافعها الشرعية والأخلاقية، ومن ذلك قوله بعد أربعة أيام من عقد الاتفاقية حول البرنامج النووي عام 2015: (لقدأصدرنا فتوی بحرمة إنتاج السلاح النووي قبل سنوات، وذلك لتعارضها مع الشرع والأخلاق، لكن الأمريكان رغم أنهم يعترفون أحياناً بأهمية هذه الفتوى، يكذبون ويهددون في إعلامهم ويزعمون أن تهديداتهم هي التي حالت دون إنتاج السلاح النووي الإيراني)([57])
وقد عد الكثير من الذين يعرفون إيران، ومبادئها،
ويثقون في مصداقيتهم هذه الفتوى أكبر ضمان لحركة ايران في مسار التكنولوجيا
النووية السلمية، بل اعتبرها أعداء الجمهورية أنفسهم كذلك، بما فيهم باراك أوباما الذي
اعتبر الفتوى آلية جيدة للالتزام بالاتفاق.
([1]) رواه مالك في الموطأ.
([2]) رواه أحمد، وأبو داود، وابن حبان في صحيحه، والحاكم.
([3]) رواه أحمد وابن حبان في صحيحه، والطبراني، والبيهقي، وكذا الترمذي وزاد قالوا: يا رسول الله: ما المتفيهقون؟ قال: (المتكبرون)
([4]) انظر: فلسفة الأخلاق في الإسلام،الشيخ محمد جواد مغنية، ص53ـ56..
([5]) أعيان الشيعة، ج 3، ص 184..
([6]) الطهراني، طبقات أعلام الشيعة، ج 10، ص 116..
([7]) القمي، الفوائد الرضوية، ص 85..
([8]) جامع السعادات، ج1، ص: 35.
([9]) انظر في ترجمته: الذهبي: سير النبلاء 5: 222، القفطي: تاريخ الحكماء 220.
([10])قال في [كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون (1/ 827)]: قيل أن الإمام: حجة الإسلام الغزالي، كان يستصحب كتاب (الذريعة) دائما، ويستحسنه لنفاسته، ومن الأمثلة على ذلك كذلك ما ذكره د. محمد يوسف موسى، في كتابه [تاريخ الأخلاق، ص194] من أن الغزالي أخذ في كتابه [معارج القدس ]، من [تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين] للراغب.
([11]) الذريعة الى مكارم الشريعة (ص: 59)
([12]) انظر مقالا بعنوان: نظرات في كتاب (إحياء علوم الدين) للإمام الغزالي، عمر بن عبد المجيد البيانوني.
([13]) أعيان الشيعة 27: 50 – 60.
([14]) من مقدمة كتاب الإنسان الكامل، مطهري، ص5.
([15]) المرجع السابق، ص6.
([16]) منهجية الثورة الاسلامية، مقتطفات من أفكار وآراء الإمام الخميني، ص359..
([17]) من الوصية السياسية الالهية، بتاريخ 1989/7/5.
([18]) الكلمات القصار، الإمام الخميني قدس سره، إعداد ونشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
([19]) الجهاد الأكبر أو جهاد النفس، الخميني، ص13.
([20]) المرجع السابق، ص13.
([21]) المرجع السابق، ص14.
([22]) المرجع السابق، ص15.
([23]) المرجع السابق، ص16.
([24]) المرجع السابق، ص17.
([25]) المرجع السابق، ص19.
([26]) الأربعون حديثاً، ص632.
([27]) في مدرسة عاشوراء، علي الخامنئي.
([28]) المرجع السابق.
([29]) المرجع السابق.
([30]) يقصد به مهدي بن أبي ذر الكاشاني النراقي صاحب كتاب [جامع السعادات] وولده أحمد بن مهدي صاحب كتاب [معراج السعادة].
([31]) أصول الكافي، 2/ح 5 وح 11.
([32]) الأربعون حديثا، ص263.
([33]) انظر: مبادئ السياسة الثقافية للجمهورية الإسلامية الإيرانية، موقع وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي .
([34]) الكلمات القصار، الإمام الخمينيّ قدس سره، ص 243..
([35]) منهجية الثورة الإسلاميّة، ص 178..
([36]) حجاب النساء في إيران.. بالإكراه!، خليل علي حيدر، 2014/12/16، جريدة الوطن.
([37]) الشرق الاوسط، 2012/2/23.
([38]) الشرق الأوسط، 2014/5/31.
([39]) منها القبس الكويتية، 2014/8/19.
([40]) من لقاء له بتاريخ 7/12/1978، وانظر: المرأة في فكر الإمام الخميني، ص25.
([41]) من كلمة بمناسبة يوم امرأة. بتاريخ 5/5/1980، وانظر: المرأة في فكر الإمام الخميني، ص23.
([42]) هذه النصوص مقتبسة من: الوصية الإلهية السياسية للامام الخميني، وهي موجودة في محال كثيرة منها كتاب: صحيفة الثورة الإسلامية، وموقع الامام الخميني، وغيرها.
([43])صحيفة الثورة الإسلامية، الخميني، ص40..
([44]) المرجع السابق، ص41.
([45]) المرجع السابق، ص42.
([46]) المرجع السابق، ص42.
([47]) المرجع السابق، ص43.
([48]) المرجع السابق، ص43.
([49]) المرجع السابق، ص44.
([50]) المرجع السابق، ص44.
([51]) المرجع السابق، ص45.
([52]) نداء الإمام إلى حجاج بيت الله 6/9/1981 صحيفة النور ، ج 15، ص 125.
([53]) من بيان الإمام الخميني بمناسبة عقد مؤتمر الحج وعيد الأضحى المبارك، بتاريخ 30/8/1984. صحيفة النور، ج 19، ص 46.
([54]) من بيان للإمام بتاريخ 28/7/1978، صحيفة النور، ج 20، ص 116.
([55]) القيم الأخلاقية ودورها في العلاقات الدولية، الشيخ مصباح يزدي.
([56]) انظر: تحريم اسلحة الدمار الشامل، الموقع الرسمي لمكتب خامنئي.
([57]) إقامة صلاة عيد الفطر المبارك بإمامة السيد علي الخامنئي في مصلى طهران، الموقع الرسمي لمكتب آية الله خامنئي، 18/07/2015.