إيران.. والعقيدة الإسلامية

إيران.. والعقيدة الإسلامية

من أول الأسس التي يقوم عليها أي دين من الأديان تلك التصورات والحقائق التي يحملها عن الوجود والكون والحياة، أو تلك المعارف التي تتأسس عليها نظرته لعلة الكون ومصيره والحقائق التي ينبني عليها.. أو ما يطلق على ذلك جميعا لقب [العقيدة] و[الإيمان]، فعلى أساسها يصنف الدين أو المذهب أو التوجه الفكري.

ومع أن الحقائق والتصورات التي تنبني عليها عقائد الإيرانيين منذ دخلوا الإسلام في أيامه الأولى إلى اليوم هي نفس عقائد المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وهي نفس العقائد التي نص عليها القرآن الكريم والسنة المطهرة التي بينا مدى التزام الإيرانيين لهما، واهتمامهم بهما، إلا أنا نجد من المغرضين من يذكرون مجوسية إيرانية وضلالها وكفرها، وأنها لم تدخل الإسلام أصلا.

ولست أدري كيف شق هؤلاء على قلوب الإيرانيين، ومن تاريخهم الباكر ليحكموا عليهم بهذا الحكم الخطير؟

وهم يذكرون هذا مع أنهم يقرؤون قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94) } [النساء: 94]

ويرددون معها في خطبهم ودروسهم أنها نزلت في ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذهبوا يتطرقون، فلقوا أناسا من العدو فحملوا عليهم فهزموهم، فشد رجل منهم، فتبعه رجل يريد متاعه، فلما غشيه بالسنان، قال: إني مسلم إني مسلم، فأوجره السنان، فقتله وأخذ متاعه، فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للقاتل: (أقتلته بعد أن قال إني مسلم) قال: يا رسول الله إنما قالها متعوذا، قال: (أفلا شققت عن قلبه) قال: لم يا رسول الله؟ قال: (لتعلم أصادق هو أو كاذب؟)([1]

ونفس الشيء يقال لأولئك الذين يتألون على الله، ويرمون الإيرانيين سلفهم وخلفهم بتلك الطامات الكبرى من التكفير والتبديع والتضليل من غير أن يحققوا، ولا أن يسألوا، ولا أن يبحثوا، ولكن لمجرد الهوى، أو لمجرد بعض المتاع الذي ينالهم إن هم فعلوا ذلك.

وللأسف فإن هذه الهجمة العنيفة على الإيرانيين لم تشتد إلا بعد نجاح الثورة الإسلامية في الواقع الإيراني، أما قبل ذلك، وفي عهد الشاه، خصوصا، فإنه لم يكن هناك اهتمام بإيران، ولا بدينها، ولم يظهر حينها اعتبارهم مجوسا، ولا متآمرين على الإسلام.. مع أن الشاه كان حينها يمارس دور الشرطي عليهم، وبمعونة أمريكية وإسرائيلية.

ولتقريب الصورة لمن لم يعايش الواقع، نذكر أن إيران قبل الثورة الإسلامية كانت أقرب ما تكون في مواقفها السياسية إلى دولة أذربيجان، فهي دولة ذات أغلبية شيعية([2])، وفيها مزارات وأضرحة([3]) وحوزات علمية، ومع ذلك لا نجد من يهتم بها، أو يعتبر الأذريين مجوسا أو كفرة أو متآمرين.

والسبب بسيط، وهو تلك العلاقات الجيدة التي تقيمها دولة أذربيجان مع إسرائيل، بل إن الصحف الإسرائيلية تذكر أن الإسرائيليين يخطوط لضرب إيران من خلال جارتها أذربيجان([4]).

لكن لو أن رجلا مثل الخميني ظهر في أذربيجان([5])، وأبعدها عن ذلك الخنوع للغرب، ومن تلك التبعية للاستكبار العالمي، وحول وجهتها عن إسرائيل ليضعها في يد الفلسطينيين، فإن الحرب حينها ستعلن على أذربيجان لتتحول إلى دولة كافرة مارقة، فالكفر عندهم والمروق ليس كفرا بالله، ولا مروقا عن دينه، وإنما هو الكفر بأمريكا وإسرائيل وكل المحور الاستكباري.

بناء على هذا سنحاول في هذا الفصل بيان تلك العلاقة الشديدة التي تربط إيران منذ تاريخها الباكر بالإيمان والعقيدة الإسلامية، وهو ما يؤكد شهادة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهم بذلك، وذلك عبر مظهرين كبيرين:

الأول ـ بيان علاقة العقائد التي يتبناها الإيرانيون، وخصوصا شيعتهم، بالعقائد التي يتبناها سائر المسلمين، وبيان مدى الاشتراك الذي تشترك فيه العقيدة السنية بالعقيدة الشيعية، وبذلك فإن الذي يكفر المدرسة الشيعية بسبب عقائدها، عليه أن يكفر المدرسة السنية أيضا.

الثاني ـ بيان الدور الذي قام به الإيرانيون لنصرة العقيدة الإسلامية، والدعوة إليها من خلال المتكلمين الذين ظهروا فيها عبر التاريخ، والذي تشكل أبحاثهم وكتبهم أكبر مصدر في التراث الإسلامية للعقيدة والعلوم المرتبطة بها.

وبذلك فإن النتيجة التي سنخلص إليها من خلال هذا الفصل هي أن الإيرانيين ليسوا متمسكين فقط بالعقيدة الإسلامية، وإنما كان لهم دور كبير في نشرها، وصد الشبهات عنها، لا في إيران وحدها، وإنما في العالم الإسلامي أجمع، وفي جميع الفترات التاريخية.

أولا ـ تمسك الإيرانيين بالعقائد الإسلامية

لا نريد بالعقائد الإسلامية هنا تلك العقائد الكثيرة التي ولدها الصراع المذهبي، والذي أدخل الكثير من الفروع الفقهية والتاريخية ضمن العقائد مع أنه لا علاقة لها بها.

وإنما نريد بها تلك العقائد التي قررها القرآن الكريم، والتي نص على مجموعها قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة: 177]

وهي العقائد التي اتفق أكثر العلماء على تقسيمها إلى ثلاثة أقسام:

1. الإلهيات، ويبحثون فيها عن وجود الله والصفات التي يتنزه عنها، والصفات التي تجب له، وما يرتبط بذلك من القضاء والقدر ونحوهما.

2. النبوات، ويبحثون فيها الرسل الكرام وما يجب عليهم، وما يجوز في حقهم، وما يستحيل، كما يبحثون عن براهين نبوتهم، وما يجب في حقهم من الطاعة والأدب ونحوهما.

3. السمعيات أو الغيبيات: ويقصدون بها ما يتوقف الإيمان به على مجرد ورود السمع أو الوحي، وليس للعقل في إثباتها أو نفيها مدخل كالملائكة والقيامة والجنة والنار، ونحوها.

وقد أشار إلى هذه الأقسام، وانحصار العقائد الإسلامية فيها كل المتكلمين من أبناء المدارس الإسلامية المختلفة، وذلك استنادا لما ورد في الحديث المعروف بحديث جبريل، فقد أجابه صلى الله عليه وآله وسلم عندما سأله عن أركان الإيمان بقوله: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره)([6]

ولم يذكر فيه تلك الإضافات الكثيرة التي أضافها السلفيون خصوصا للعقائد الإسلامية، مثل الإيمان بالصحابة، واعتقاد تفاضلهم بحسب الترتيب الذي حددوه، أو الإيمان بالمسح على الخفين، أو كما قال بعضهم:: (من لم يسمح على الخفين فاتهموه على دينكم)([7]

وهكذا فإن الإيمان الذي نريده، والذي يتميز به المسلم عن غيره هو ذلك الإيمان الوارد في القرآن الكريم، وهو نفسه ما أكدته السنة المطهرة، في نصوصها القطعية، والتي حكمت بالإيمان لكل من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، دون أن تلزمه بتلك الإلزامات الكثيرة التي ألزم بها أثناء الصراع المذهبي، حتى وصل الأمر إلى إدخال الإيمان بمعاوية في العقيدة الإسلامية، وألفت الكتب الكثيرة في ذلك ([8]).

ونحب أن نشير هنا إلى أن ما يذكره الشيعة في كتب عقائدهم مما يرتبط بالإمامة لا يقصدون بها ـ كما ينص علماؤهم ومراجعهم ـ [أصول الدين]، وإنما يقصدون بها ما يطلقون عليه [أصول المذهب]، أي أنه لا يمكن أن يكون الشخص شيعيا اثنا عشريا، وهو لا يعرف الأئمة، أو لا يسلم بكونهم أئمة موصى بهم.

وهذا مما لا حرج فيه، فلكل مذهب خصوصياته، وعقائده الخاصة، التي من لم يسلم لها، أو يعتقد بها، يعتبر خارجا من ذلك المذهب، فالأشعري الذي لا يلتزم بالعقائد التي اختص بها الأشاعرة، ويوافق الماتريدية في مقولاتهم، لا يخرج من الإسلام ـ كما ينص الأشاعرة ـ وإنما يخرج من الأشعرية إلى الماتريدية.

وهكذا الصوفي الذي ينتقل من القادرية إلى النقشبندية لا يخرج من الإسلام، وإنما يخرج من طريقة كان يسلم لها، ويعتقد أنها المنهج الأكمل في التربية إلى طريقة أخرى.

ولو أن السلفية التزموا هذا المعنى عند نصهم على تلك الخلافات الفرعية، واعتبروها من أصول المذهب لكان ذلك مقبولا لا حرج فيه، فالأمة كما أتيح لها أن تتفق في الكثير من المشتركات، أتيح لها كذلك أن تختلف في بعضها، ولكن من غير أن يكفر بعضها بعضا.

ولهذا، فإن الشيعة يتفقون مع سائر المسلمين في جميع العقائد، ويضيفون إلى ذلك اعتقادهم في أئمتهم باعتبارهم أئمة هدى، وأنهم الموصى بهم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنهم سفينة النجاة، ونحو ذلك من العقائد، التي نجدها عند الفرق الإسلامية المختلفة عند تعديدها لفضائل أئمتها، واعتبارهم سفينة نجاة، وأن الهدى في كلامهم.

وقد ذكرنا أن السلفية أكثر من يقول بهذا، خصوصا عند ذكرهم للإمام أحمد أو ابن تيمية أو ابن عبد الوهاب، بل إن لقب [السلفية] لم يطلق عليهم إلا لتعظيمهم لسلفهم، وهو لا يختلف عن لقب [الاثنا عشرية] إلا في فارق بسيط، وهو أن [الاثنا عشرية] تقصر السلف والهداية المرتبطة بهم على اثني عشر إماما، بينما [السلفية] تتجاوز ذلك الرقم بكثير، بل تصل به إلى عشرات الآلاف.. لأن كل الصحابة ومن عاصرهم أو من عاصر من عاصرهم يعتبر عندهم إماما يمكن تلقي الدين عنه.

بل إنهم لا يكتفون بذلك، وإنما يضيفون إليهم الكثير من المتأخرين الذين يعتبرونهم سلفا، ويحكمون لهم بحكم السلف رغم تلك الحواجز الزمني، ومن الأمثلة على ذلك قول عماد الدين الواسطي في ابن تيمية: (والله، ثم والله، لم يُرَ تحت أديم السماء مثل شيخكم ابن تيمية، علماً، وعملاً، وحالاً، وخلُقاً، واتِّباعاً، وكرماً، وحلْماً، وقياماً في حق الله تعالى عند انتهاك حرماته، أصدق النَّاس عقداً، وأصحهم علماً وعزماً، وأنفذهم وأعلاهم في انتصار الحق وقيامه همةً، وأسخاهم كفّاً، وأكملهم اتباعاً لسنَّة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ما رأينا في عصرنا هذا مَن تستجلي النبوة المحمدية وسننها من أقواله وأفعاله إلا هذا الرجل يشهد القلب الصحيح أن هذا هو الاتباع حقيقة)([9]

وهذا الوصف الذي ذكره الواسطي، والذي تعتقده السلفية في ابن تيمية، هو نفسه الذي تعتقده الشيعة في أئمتها، ولذلك لا مبرر لكل تلك الشدة عليهم.

بل إن السلفية لا يكتفون بذلك، وإنما يجعلون أئمتهم قسماء للجنة والنار، فمن لم يعتقد فضلهم ولم يسلم لهم أو راح ينتقدهم، فإنه عندهم ضال كافر ليس له مأوى إلا جهنم، كما نص على ذلك الشيخ ابن عثيمين حين ذكر أنه يشهد لابن تيمية بالجنة، ويشهد لأعدائه بالنار، فقال في [شرح رياض الصالحين]: (وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أجمع الناس على الثناء عليه إلا من شذ، والشاذ شذ في النار، يشهد له بالجنة على هذا الرأي)([10])

بناء على هذا نحاول في هذا المبحث أن نذكر بعض القضايا الكبرى التي يكفر من خلالها المغرضون الإيرانيين وخصوصا الشيعة منهم، معتمدين في ذلك على ما ورد في رسالة خطيرة كانت من أول السهام المسمومة المصوبة للجمهورية الإسلامية الإيرانية في بداية اعتمادها لنظام ولاية الفقيه.

وللأسف فإن مؤلف هذه الرسالة رجل من أبناء الحركة الإسلامية، ممن يزعم أنه صاحب مشروع لإقامة الدولة الإسلامية، بينما راح يغدر بالدولة التي تدعو إلى نفس ما يدعو إليه.

وهذا الداعية هو الشيخ سعيد حوى في كتابه (الخميني: شذوذ في العقائد..شذوذ في المواقف)، والذي حمل فيه حملة الشديدة، لا على شخص الخميني فقط، وإنما على كل الشيعة، وذلك رغم أنه ينتمي لمدرسة (الإخوان المسلمين) التي كان مؤسسها، والكثير من أتباعه يتبنون التقارب بين المذاهب الإسلامية.

لكن سعيد حوى ـ رغم ما يدعيه من تصوف ـ تكلم بلسان السلفية، ولا عجب في ذلك، فقد كتب كتابه، وهو في السعودية، في فترة حقدها الشديد على إيران خشية من تصديرها للثورة إليها أو إلى سائر دول الخليج.

وكعادة الحركيين في تبنيهم لنظرية المؤامرة بشكلها المعكوس، فقد راح يتصور أن الثورة الإسلامية في إيران مؤامرة ضد الصحوة الإسلامية، فقد قال في مقدمة رسالته: (وقد تحقق أعداء الإسلام من خطورة هذه الصحوة الإسلامية الرشيدة على مصالحهم، وأنها القاضية الماحقة لغاياتهم التي خططوا لها زماناً، فأعادوا لعبتهم القديمة الجديدة، وتشاور كهنة المجوس وأحبار اليهود يريدون الكيد للإسلام وأهله، وبان لهم بأن تشويه هذه الصحوة الواعية وحرفها عن مقاصدها النبيلة الكريمة أفضل وسيلة وأنجح طريق لضربها وإخراجها من مضمونها الإسلامي السليم تحريفاً لغاياتها وتدميراً لاسسها، فسلطوا عليها من المتظاهرين بالإسلام قوماً، علّهم يحققون لهم ما خططوا له وبيتوا من سوء ليغتالوا الوليد في مهده وأول نشأته ونمائه)([11]

ثم بين الآليات التي تم من خلالها تنفيذ المؤامرة؛ فقال: (وهكذا كان الأمر ؛ جاءت الخمينية المارقة تحذو حذو اسلافها من حركات الغلو والزندقة التي جمعت بين الشعوبية في الرأي والفساد في العقيدة، تتاجر بمشاهر جماهير المثقفين المتعلقين بالإسلام تاريخاً وعقيدة وتراثاً، فتتظاهر بالإسلام قولاً وتبطن جملة الشذوذ العقدي والحركي الذي كان سمة مشتركة وتراثاً جامعاً للهالكين من اسلافها من الأبامسلمية والبابكية والصفوية، فيعيدوا إلى واقع المسلمين كل نزعات الشر والدمار التي جسدتها تلك الحركات المشبوهة الساقطة في شرك الكفر والزندقة والعصيان، وتعيد إلى الأذهان كل مخططات البرامج الباطنية القائمة على التدليس والتلبيس، فتدعي نصرة الإسلام وهي حرب عليه – عقيدة ومنهجاً وسلوكاً – وتتظاهر بالغيرة على وحدة الصف الإسلامي وهي تدق صباح مساء إسفيناً بعد إسفين في أركان الأمة الواحدة، متوسلة إلى ذلك بنظرة مذهبية شاذة، وتزعم نصرة المستضعفين في الأرض وهي تجند الأطفال والصغار وتدفعهم قسراً وإلجاءً إلى محرقة الموت الزؤام، ثم هي لا تكتفي بكل هذا الشر الأسود بل تقيم فلسفتها جملة وتفصيلاً على قراءة منحرفة قوامها التلفيق والتدليس لكل تاريخ المسلمين، فتأتي على رموزه وأكابر مؤسسيه هدماً وتشويهاً وتمويهاً، وتجدد الدعوة بإصرار إلى كل الصفحات السلبية السوداء الماضية في التاريخ، والتي ظن المخلصون أنها بادت فليس من مصلحة المسلمين ولا في صالح الإسلام إعادة قراءتها من جديد، فلقد قاسى الجميع من شرها ما لا يحصره كتاب) ([12])

وهكذا راح بلغة خطابية يتبنى كل الأطروحات التي نشرها السلفية حول الشيعة، مع العلم أن الخميني وجميع المؤسسين للثورة الإسلامية لم يزيدوا شيئا في التشيع، ولم ينقصوا منه، بل كل ما أضافوه هو ذلك الانفتاح على قضايا الأمة، والخوض الجاد في علاج مشكلاتها، وكانت هذه فرصة للحركيين الذين كانوا ينتقدون سلبية التشيع، لكنهم راحوا يرمون إيجابيته، في نفس الوقت الذي راحوا يفضلون عليه السلبيين من الشيعة، الذين لم يقوموا بأي حركة تغييرية في صالح الأمة.

وعندما راح سعيد حوى يذكر المقولات التي تنسب للخميني، والتي على أساسها اتهمه بالكفر والمؤامرة، لم يزد على ما ذكره السلفية.

ولذلك سنحاول الإجابة عما ذكره من أسباب التكفير في هذا المبحث، مع إضافة بعض العقائد التي يركز السلفية من خلالها على تكفير الشيعة عموما، والإيرانيين منهم خصوصا، من غير فهم لمقاصدهم فيها، ولا مطالعة لكتبهم المعتمدة، أو مراجعهم المعتمدين.

1 ـ فرية الغلو في الأئمة:

من أكثر التهم التي يتهم بها المشروع الإسلامي الإيراني، وعلى أساسه يكفر الإيرانيون قادة وشعبا ما يطلق عليه السلفيون والحركيون، ومن تبعهم من المغرر بهم [الغلو في الأئمة]، واعتبارهم مشركين لأجل ذلك، وقد كان يمكن قبول هذه الفرية من السلفية لأنها تكفر الصوفية وكل المسلمين بهذا الاعتبار، لكن العجب أن يورد هذه الفرية من يؤمن بالتصوف، وهو يعرف أقوال الصوفية في مشايخهم ومقاماتهم.

وهم يوردون لهذا تلك الكلمة التي قالها الخميني في كتابه [الحكومة الإسلامية]، والتي اختصروا بها كل مشروعه، وكأنه لم يقل سواها، وهي قوله:: (إن للإمام مقاماً محموداً ودرجة سامية وخلافة تكوينية تخضع لولايتها وسيطرتها جميع ذرات هذا الكون، وإن من ضروريات مذهبنا أن لأئمتنا مقاماً لا يبلغه مَلَك مقرب ولا نبي مرسل، وبموجب ما لدينا من الروايات والأحاديث فإن رسول الله الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم والائمة عليهم السلام كانوا قبل هذا العالم أنواراً فجعلهم الله بعرشه محدقين، وقد ورد عنهم عليهم السلام: (إن لنا مع الله حالات لا يسعها ملك مقرب ولا نبي مرسل)([13]

وقد مهد سعيد حوى لاقتباسه لهذه الفقرة بقوله: (فانظر إلى الخميني وهو يغلو في حق ائمته فيعطيهم العصمة والتدبير والعلم الإلهي ويرفعهم فوق مقام الأنبياء)([14]

وقد نقل هذه العبارة كل من تحدث عن الخميني، وعن مشروعه في الثورة الإسلامية، من غير أن يرجعوا إلى ما ذكره في كتبه وخطاباته الأخرى، والممتلئة بالدعوة للتوحيد، وتفريد الله بالخلق والتدبير، أو ما كتبه عن النبوة ومكانتها السامية، حتى يفهموا كلامه هذا على ضوئه كلامك ذلك.

وكان من الممكن أن نختصر للقارئ هذا، ونأتي له بما ذكره الخميني نفسه في هذا المجال، ولكنا آثرنا أن نناقش العبارة نفسها، وكأنه لم يقل سواها، فهل يستحق حقا من قال تلك العبارة أن يكفر؟.. سنجيب عن هذا من خلال الوجوه التالية:

أولا ـ الخميني قال هذه العبارة من باب المحبة والتعظيم للذين اتفقت الأمة على محبتهم وتعظيمهم، أولئك الذين أوصى بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، واعتبرهم سفينة نجاة، ولذلك هو لم يذكر تلك الكلمات في حق كفرة ولا منحرفين عن الدين، أو في حق ناس مشكوك فيهم، وبناء على ذلك، قد يحمل كلامه على ما يحمل عليه كلام الصوفية في مشايخهم وتعظيمهم لهم، بل ما يحمل عليه كلام السلفية أنفسهم عندما يكتبون الكلام الكثير في فضائل أئمتهم، ويبررون ذلك بأن حبهم هو حب للسنة، والدعوة لهم هي دعوة للسنة.

ولو ذهبنا إلى النصوص التي كتبها السلفية وسلفهم في أئمتهم لوجدنا الأمر لا يختلف كثيرا، بل ربما نجد من الغلو ما لا نجده عند الخميني نفسه، ومع ذلك لم يقل أحد بكفر من قال ذلك..

ثانيا ـ أن ما ورد في كلمته من المقام الرفيع للأئمة، والذي قد يتجاوز في بعض مناحيه الأنبياء أو الملائكة المقربين، مبني على تلك القاعدة المعروفة في التفاضل، وهي أن الفضل مراتب متعددة، وليس مرتبة واحدة، ولذلك قد يفضل الشخص بالنبوة، ولكن يفضل غيره عليه في صفة أخرى، أو موقف آخر..

وهو مما دلت عليه النصوص المقدسة، ففي الحديث المتفق عليه، والمروي في مجامع كثيرة من كتب الحديث عن أبى مالك الأشعرى قال: كنت عند النبى صلى الله عليه وآله وسلم، فنزلت عليه هذه الآية: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } [المائدة: 101]، قال: فنحن نسأله إذ قال: (إن لله عبادا ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم النبيون والشهداء بقربهم ومقعدهم من الله يوم القيامة)، قال: وفى ناحية القوم أعرابى، فجثا على ركبتيه، ورمى بيديه ثم قال حدثنا يارسول الله عنهم من هم؟ قال: فرأيت فى وجه النبى صلى الله عليه وآله وسلم البِشر، فقال النبى صلى الله عليه وآله وسلم: (هم عباد من عباد الله من بلدان شتى، وقبائل شتى من شعوب القبائل لم تكن بينهم أرحام يتواصلون بها، ولادنيا يتابذلون بها، يتحابون بروح الله، يجعل الله وجوههم نورا ويجعل لهم منابر من لؤلؤ قدام الناس، ولا ينزعون، ويخاف الناس ولا يخافون)([15]

فهذا الحديث، والذي ورد بطرق كثيرة جدا في المصادر السنية، يدل على ما ذكرنا من أن الفضل مراتب متعددة، ولذلك ـ كما ورد في الحديث ـ قد ينال بعض الناس فضلا كبيرا، لم يتح لغيره ممن هو أفضل منه.. فالشهادة في سبيل الله مثلا قد تتاح لغير نبي أو لغير ولي، فيكون للشهيد فضل عليه فيها، ولكن فضله مرتبط بها لا بغيرها.

وهذا الأمر ليس خاصا بالفضائل المرتبطة بالبشر، بل هو عامة في كل الفضائل حتى المرتبطة بالأعمال، ومن الأمثلة على ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من صلى الغداة في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة، تامة تامة تامة)([16]

فهذا الحديث يدل على أن هذا العمل يساوي في أجره الحج والعمرة، لكنه لا يدل ـ باتفاق العلماء ـ على أن ذلك العمل مغن عن الحج والعمرة، بل يظل حكمهما خاصا.

وقد سئل الشيخ ابن عثيمين عن الحديث، فأجاب: (.. على تقدير صحته فالثواب لا قياس فيه، قد يثاب الإنسان على عمل قليل ثواب عمل كثير ؛ لأن الثواب فضل من الله عز وجل يؤتيه من يشاء)([17])

وهذا نفسه ما يجاب به على ما ذكره الخميني، ذلك أن الأمة جميعا متفقة على أن هذه الأمة أفضل من غيرها من الأمم، نتيجة تبعيتها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بل هم يذكرون أن الرسل عليهم الصلاة والسلام يتمنون لو كانوا أتباعا له، وبذلك فإن فضل هذه التبعية ليس خاصا بالأئمة فقط، بل هو عام لكل المسلمين، بالإضافة إلى تلك التعبية الشريفة للأئمة لجدهم صلى الله عليه وآله وسلم.

ونحب أن نضيف إلى هذا المعنى ما ذكره الخميني نفسه عند الحديث عن عبودية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لله، وكونها أشرف مراتب الكمال الإنساني، فقد ذكر فيه تلك المسافة الهائية بين النبوة والإمامة، فقال: (لا بدّ من الإشارة إلى أنّ العبوديّة المطلقة هي من أعلى مراتب الكمال ومن أرفع مقامات الإنسانيّة، ولا نصيب لأحد من البشر منها سوى أكمل خلق الله محمّد صلى الله عليه وآله وسلم أصالة وسائر الأولياء الكُمّل عليهم السلام تبعاً له، أمّا من سواهم فقدم عبوديّتهم عوجاء وعبادتهم وعبوديّتهم معلّلة بأسباب أخرى)([18]

فهذا نص صريح في كون المكانة العالية للأئمة، ليست بسبب ذواتهم، وإنما بسبب تبعيتهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فالشرف في التبعية، وبما أن متبوعهم أشرف الرسل، فقد تحقق لهم بسببه بعض ذلك الشرف.

رابعا ـ ما ذكره سعيد وحوى غيره من تكفير الخميني بسبب قوله: (إن للإمام مقاماً محموداً ودرجة سامية وخلافة تكوينية تخضع لولايتها وسيطرتها جميع ذرات هذا الكون) عجيب جدا، ذلك أن هذا المعنى معنى قرآني تمت إليه الإشارة إليه في نصوص كثيرة جدا، بل هو من مقتضيات الخلافة، وكل المسلمين يقولون به، حتى أبناء المدرسة السلفية نفسها.

فلو تأملنا في قوله تعالى عن صاحب سليمان عليه السلام، الذي أخبر الله تعالى عنه، وعن قدراته العجيبة، فقال: {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي} [النمل: 40]، فالآية الكريمة صريحة في أنّ سليمان عليه السلام طلب ممّن خصّهم‏ بالخطاب الإتيان بعرش بلقيس في لحظات، مع علمه عليه السلام بالمسافة الشاسعة بين اليمن الذى هو مكان عرش بلقيس، وبين فلسطين التي كان فيها سليمان عليه السلام، فقام إليه الذى عنده علم من الكتاب، وجاء بذلك العرش بأقلّ من طرفة عين، وقد تحدث عن قدرته على ذلك بثقة عظيمة، لأنه يعلم أن الله تعالى مكنه من ذلك، وجعل العرش تحت تحكمه وسلطته يمكنه أن يحضره في وقت وجيز، وهو طبعا لم يفعل ذلك إلا بعد أن طلب منه.

وهو نفس ما أشار إليه القرآن الكريم عند حديثه عن القدرات التي وهبت للعفريت من الجن، فقال: {قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ } [النمل: 39]، فالآية واضحة في أنّ الله تعالى قد أعطى لذلك العفريت من الجنّ القدرة التكوينية الخارقة، ولكنها أقل من القدرة التي أوتيها صاحب سليمان من الإنس.

وعلى ضوء هاتين الآيتين الكريمتين يمكننا فهم ما ذكره الخميني، بل ما ذكره الكثير من الشيعة في مسألة الولاية التكوينية، فمعناها أن الله تعالى يعطي المقربين من عباده، سواء كانوا رسلا، أو لم يكونوا كذلك قدرات عجيبة، قد يمارسوها في حياتهم، وقد لا يمارسوها، وهي تلك التي تسمى بالكرامة.. وهي مما اتفق عليه جميع المسلمين.

وكيف لا يتفقون عليه، وقد نص عليه القرآن الكريم، ليس في حق الرسل فقط، وإنما في حق غيرهم أيضا، فقد قال الله تعالى عن مريم عليها السلام: { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [آل عمران: 37]

فالآية الكريمة تشير إلى أنه كان في قدرة مريم عليها السلام أن تحضر أي طعام تشاء في وقته وفي غير وقته، وبذلك يمكن أن يقال بأن كل ذرة في ذلك الطعام كانت خاضعة لها، ولطلبها.

ومن خلال هذه المفاهيم القرآنية يفهم قول الخميني، بل من العجيب أن ينكر أحد ذلك، فالمؤمن المرتبط بالله، لا يحمل هم الإجابة، وإنما يحمل هم الدعاء، ذلك أنه موقن أنه بمجرد صدقه في طلب شيء، يحققه الله تعالى له.

وكان في إمكاننا بالإضافة لتلك النصوص القرآنية أن نضيف إليها قوله تعالى: {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [آل عمران: 49]، وهي واضحة في كون المسيح عليه السلام ذكر أنه يخلق من الطين كهيئة الطير، فهل كان المسيح عليه السلام مشركا بذلك؟

لكنا لم نذكر ذلك النص وغيره من النصوص الكثيرة التي ذكرها القرآن الكريم عن سليمان عليه السلام وغيره من الرسل، حتى لا يقال بأن ذلك خاص بالأنبياء دون غيرهم.

خامسا ـ من الأمور التي أنكرها سعيد حوى على الخميني قوله: (إن تعاليم الأئمة كتعاليم القرآن لا تخص جيلاً خاصاً، وإنما هي تعاليم للجميع في كل عصر ومصر إلى يوم القيامة يجب تنفيذها واتباعها)([19]) و(إنه لا يتصور فيهم – أي الأئمة – السهو والغفلة)([20]

ولست أدري ما الضرر في هذا، وهل يمكن لمؤمن أن يكفر مؤمنا بسبب هذا القول.. فالأمة جميعا تعتقد أن الملائكة عليهم السلام لا يغفلون لا يسهون، فهل يعني هذا أنهم آلهة أو أنداد لله؟

وما الضرر في أن يجعل الله في بعض عباده الصالحين من القدرات ما يجعله للملائكة عليهم السلام، أليس ذلك في قدرة الله؟

بل إن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أخبر عن نفسه ببعض ذلك، فقال ـ عند بيانه لعذره في الوصال في الصوم الذي لا يطيق أحد ـ: (إني لست كهيئتكم، إني يطعمني ربي ويسقيني)([21])، وهذا يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع كونه بشرا إلا أنه كان له بسبب تلك المكانة العظيمة من الله من الصفات ما لا يطيق البشر أن يشاركوه فيها، ذلك أن الروح بقدر شفافيتها وطهرها وسموها تكون قدرتها وتأثيرها على الجسد نفسه.

ثم إن ما ذكره الخميني عن تجاوز تعليمات الأئمة لعصرهم لا ضرر فيه، ولا حرج منه، بل الكل يقوله، فالسلفية لا زالوا إلى الآن يأخذون بكلام سلفهم، وهم يعتقدون أن تعاليمهم تتجاوز الزمان والمكان، وهكذا نرى أصحاب المذاهب لا زالوا يلتزمون أقوال أئمتهم على الرغم من طول المسافة بينهم.. ولست أدري لم جاز لأولئك أن يتجاوز الزمان، ولم يجز لأئمة أهل البيت الذين نهلوا من منبع النبوة الصافي هذا التجاوز؟

2 ـ فرية القول بتحريف القرآن الكريم:

وهي الفرية الثانية التي بنى عليها سعيد حوى تكفيره للخميني ولجميع الشيعة، ومثله كل الطائفيين الذين لم يبذلوا أي جهد في التحقق من مدى صحة ذلك، وإنما اكتفوا بذلك البحث الانتقائي المبني على المزاج والرغبة، لا على التحقيق العلمي الصادق، ولذلك يظهرون ما يشاءون ويكتمون ما يشاءون.

ولهذا نجدهم كل حين يذكرون كتاب (فَصلُ الخِطابِ في تَحريفِ كِتابِ رَبِّ الأربابِ) لميرزا حسين بن محمد تقي النوري، ويتركون عشرات الكتب التي ألفت في الرد عليه، من أمثال كتاب (كشف الارتياب في عدم تحريف كتاب رب الأرباب) للطهراني، وكتاب (حفظ الكتاب الشريف على شبهة القول بالتحريف) للسيد هبة الدين الشهرستاني، وكتاب (الحجة على فصل الخطاب في إبطال القول بتحريف الكتاب) لعبد الرحمن الهيدجي، وكتاب (البرهان على عدم تحريف القرآن) للميرزا البروجردي، وكتاب (آلاء الرحمن في الرد على تحريف القرآن) للميرزا عبد الرحيم المدرس الخياباني، وكتاب (بحر الفوائد في شرح الفرائد)، للميرزا الأشتياني، وكتاب (التحقيق في نفي التحريف عن القرآن الشريف) للسيد علي الميلاني، وكتاب (حقائق هامة حول القرآن الكريم) للسيد جعفر مرتضى العاملي، وكتاب (سلامة القرآن من التحريف) لفتح الله المحمدي.. وغيرها كثير،

وهكذا نجدهم يأخذون بعض أقوال الخميني التي يبين فيها التحريف المعنوي الذي وقع للمسلمين أثناء تعاملهم مع القرآن الكريم عبر التاريخ، ويجعلون ذلك من أسباب تكفيره، مع أن ذلك من المتفق عليه بين المسلمين جميعا، فالقرآن الكريم معصوم في تنزيله، ولكن ليس معصوما في فهمه وتفسيره، وإلا أصبح التفسير نفسه منزلا من الله تعالى، ولم يقل بذلك أحد.

وهم في أثناء حملتهم عليه ينسون أنه كان لا يدع مناسبة إلا ويذكر فيها بسلامة القرآن الكريم من التحريف، ومن ذلك قوله: (إن الواقف على عناية المسلمين بجمع القرآن وحفظه وضبطه قراءةً وكتابةً يقف على بطلان تلك المزعومة – التحريف – وما ورد فيها من أخبار – حسبما تمسكوا – إما ضعيف لا يصلح الاستدلال به أو مجعول تلوح عليه أمارات الجعل أو غريب يقضي بالعجب أما الصحيح منها فيرمي إلى مسألة التأويل والتفسير وإن التحريف إنما حصل في ذلك لا في لفظه وعباراته)([22]

بناء على هذا، وبناء على أنه سبق أن تحدثنا عن رد الشيعة على هذه الفرية في الفصل الأول من هذا الكتاب، فسنكتفي هنا بوجهين مهمين مرتبطين بأهل السنة أنفسهم، وهي شهادة كبار أعلامهم على كون القول بتحريف القرآن فرية موجهة من الطائفيين ضد الشيعة، والثاني أن أمثال تلك الروايات التي يرمي من خلالها الطائفيون الشيعة يوجد في كتب المدرسة السنية.

ونرى أن هذين الوجهين وحدهما كافيان في الرد على هذه الفرية، لكن للمؤمن الورع الذي يخاف الله، أما غير الورع، والذي يتجاهل أمثال هذه الردود، فندعوه بأن يذهب إلى إيران، ويفتش لنا عن هذه المصاحف التي يتحدث عنها، ليخرجها للعالم، ويكون بذلك أكبر مكتشف في التاريخ.

أ ـ رد علماء السنة على هذه الفرية:

لم يكتف علماء الشيعة وحدهم بالرد على هذه الفرية، بما فيهم الإمام الخميني نفسه كما ذكرنا ذلك سابقا، وإنما تصدى لها أيضا الكثير من الصادقين من العلماء والباحثين من المدرسة السنية، وخصوصا أولئك الذين تسنى لهم أن يرجعوا إلى مراجع الشيعة، أو يلتقوا بعلمائهم، أو يزوروا بلادهم.

ومنهم الشيخ رحمة الله الهندي في رده على الشبهة التي يبثها المبشرون حول تحريف القرآن الكريم، والتي اعتمدوا فيها للأسف على ما يفتريه السلفية على الشيعة، فقد قال: (القرآن المجيد عند جمهور علماء الشيعة الإمامية الاثني عشرية محفوظ من التغيير والتبديل، ومن قال منهم بوقوع النقصان فيه،فقوله مردود غير مقبول عندهم)([23]

ومنهم الشيخ محمد أبو زهرة الذي قال في كتابه عن الإمام الصادق: (القرآن بإجماع المسلمين هو حجة الإسلام الأولى، وهو مصدر المصادر له، وهو سجل شريعته، وهو الذي يشتمل على كلّها وقد حفظه الله تعالى إلى يوم الدين كما وعد سبحانه إذ قال{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}(الحجر: 9)، وإن إخواننا الإمامية على اختلاف منازعهم يرونه كما يراه كل المؤمنين)([24])، وقال في نفس الكتاب: (إن الشريف المرتضى وأهل النظر الصادق من إخواننا الإثنا عشرية قد اعتبروا القول بنقص القرآن أو تغييره أو تحريفه تشكيكا في معجزة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، واعتبروه إنكارا لأمر علم من الدين بالضرورة) ([25])

ومنهم الشيخ محمد الغزالي الذي رد على هذه الشبهة كثيرا في محاضراته وكتبه، ومن ذلك قوله: (سمعت من هؤلاء يقول في مجلس علم: أن للشيعة قرآنا آخر يزيد وينقص عن قرآننا المعروف ! فقلت: أين هذا القرآن؟ ! ولـماذا لم يطلع الإنس والجن على نسخة منه خلال هذا الدهر الطويل؟ لمـاذا يساق هذا الافتراء؟ … ولمـاذا هذا الكذب على الناس وعلى الوحي)([26]

ومنهم الشيخ محمد علي الزعبي الذي قال: (لقد اتفق المسلمون – ويحز في قلبي الألم حين أصفهم بالسنة والشيعة بعد أن دعاهم الله مسلمين ورضي لهم الإسلام دينا – اتفقوا على عصمة القرآن وحفظه منذ عهد نـزوله حتى الآن، فالسنيون على تعداد مذاهبهم الفقهية المعروفة، والتي أصبحت في ذمة التاريخ، والشيعة، سواء أكانوا إمامية اثني عشرية أو زيدية أو إسماعيلية: بـهرة أم موحّدين أم آغاخانية… جميعهم ينظرون كتاب الله الموجود بين أيدي الناس معصوما محفوظا كما أنزل، ويعتقدون أنه هو نفسه الذي أنزله الله لرسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ووصل الناس دون زيادة أو نقص، نعم هذا ما اتفق عليه مسلمو العالم في جميع عصورهم وهذا ما سجله مؤلفوهم ومحققوهم ومخلصوهم ولو أردنا أن نقول للقارئ راجع كتاب كذا وصفحة كذا لأذهبنا سجلا بأسماء الكتب)([27]) .

ومنهم الشيخ سالم البهنساوي الذي قال: (إن الشيعة الجعفرية الاثني عشرية يرون كفر من حرّف القرآن الذي أجمعت عليه الأمة منذ صدر الإسلام.. وإن المصحف الموجود بين أهل السنة هو نفسه الموجود في مساجد وبيوت الشيعة وأنه لا يوجد منهم في عصرنا من يقول بما جاء في بعض كتبهم القديمة عن مصحف فاطمة بل يقولون إن هذه روايات غير صحيحة مردودة كما أن أئمة الشيعة في عصرنا يؤكدون ذلك)([28]

ومنهم الشيخ الدكتور محمد عبد الله دراز الذي قال: (ومهما يكن من أمر فإن هذا المصحف هو الوحيد المتداول في العالم الإسلامي، بـما فيه فرق الشيعة، ومنذ ثلاثة عشر قرنا من الزمان، ونذكر هنا رأي الشيعة الإمامية، أهم فرق الشيعة)([29])، ثم ذكر كلام الشيخ الصدوق الذي سبق ذكرنا له.

ومنهم الدكتور علي عبد الواحد وافي الذي قال: (يعتقد الشيعة الجعفرية كما يعتقد أهل السنة أن القرآن الكريم هو كلام الله عز وجل المنـزل على رسوله المنقول بالتواتر والمدوّن بين دفتي المصحف بسوره وآياته المرتبة بتوقيف من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه الجامع لأصول الإسلام عقائده وشرائعه وأخلاقه، والخلاف بيننا وبينهم في هذا الصدد يتمثل في أمور شكلية وجانبية لا تمس النص القرآني بزيادة ولا نقص ولا تحريف ولا تبديل ولا تثريب عليهم في اعتقادهم)([30]

وقال: (أما ما ورد في بعض مؤلفاتـهم من آراء تثير شكوكا في النص القرآني وتنسب إلى بعض أئمتهم، فإنـهم لا يقرونـها وتعتقدون بطلان ما تذهب إليه، وبطلان نسبتها إلى أئمتهم ولا نعدها من مذهبهم، مهما كانت مكانة رواتـها عندهم ومكانة الكتب التي وردت فيها.. وقد تصدى كثير من أئمة الشيعة الجعفرية أنفسهم لرد هذه الأخبار الكاذبة وبيان بطلانـها وبطلان نسبتها إلى أئمتهم وأنـها ليست من مذهبهم في شيء) ([31])

ومنهم الدكتور محمد عزة دروَزة الذي قال: (وبحيث يمكن القول بجزم بناء على ذلك إن ما ورد في الروايات التي جلها أو كلها غير وثيق السند مع ذلك من زيادات أو نقص في الكلمات والآيات والسور، ومن مخالفة للترتيب لم يثبت عند الملأ من أصحاب رسول الله وناتج عن وهم وخطأ، ولبس وعدم تثبت فأهمل، ومنه ما يصح القول بقـوة: إنـه مخـترع ومـدسـوس بنيـة سيئـة وقصد مغـرض. وجمهور العلماء والمـؤلفيـن مجمـعون على هذه الحقائـق بدون خـلاف، ومن جملة ذلك علماء ومؤلفو الشيعة الإمامية)([32]

ومنهم الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي الذي قال: (والقرآن الكريم هو الموجود الآن بأيدي الناس من غير زيادة ولا نقصان، وما ورد من أنّ الشيعة الإمامية يقولون بأن القرآن قد اعتراه النقص هذا الادعاء أنكره مجموع علماء الشيعة الأعلام.. فالقرآن الكريم –إذن هو عصب الدولة الإسلامية، تتفق مذاهب أهل السنة مع مذهب الشيعة الإمامية على قداسته ووجوب الأخذ به. وهو نسخة موحدة لا تختلف في حرف ولا رسم لدى السنة والشيعة الإمامية في مختلف ديارهم وأمصارهم)([33]

ومنهم المحدث الكبير، الذي قال في بعض الحصص التلفزيونية([34]): (إنّ الشيعة من يوم أن برزوا إلى وقتنا هذا، لا نعرف لهم بين أيدينا ولا بين أيديهم، لا نعرف لهم مصحفاً آخر، فالموضوع انتهى والقضية منتهية والمعادلة صفرية ولا تحتاج إلى أخذ ورد، ولكن تحتاج إلى شيءٍ من المجهود من خلاله نبيّن للناس أن الحقيقة أنّ الشيعة ليس لهم كتاب آخر ولا مصحف آخر ولا هذه الأشياء)

ثم رد على تلك الفرية التي يتعلق بها السلفيون، والتي يطلقون عليها (مصحف فاطمة)([35])، فقال: (وحتى بعض الشيعة، هذه أمور علمية، ادّعوا بوجود مصحف اسمه مصحف فاطمة، هذا مصحف فاطمة عبارة عن أوراق سُمّيت صحفاً، وهذه الصحف كانت كثيرة، حقيقتها أنها كتبت في بيت فاطمة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، واتّفق علماء الشيعة قاطبة من الأولين والآخرين بالروايات الصحيحة وغير الصحيحة أنه لا يوجد في هذا المصحف، أي في هذه الصحف، آية قرآنية واحدة، ولا يوجد في هذه الصحف ما يتعلق بالتشريعات على الإطلاق، إنما هي وصايا وأسماء بعض الناس.. فمصحف فاطمة كذلك، لا يوجد شيء اسمه مصحف فاطمة إطلاقاً، هذه أكذوبة ليست حقيقية، أنا لا أدري من أين يأتي هؤلاء الناس بهذا الكلام)

ثم تحدث عن مصحف علي بن أبي طالب، فقال: (هو مصحف جمعه الإمام علي كما جمع غيره من الصحابة وليست فيه زيادة ولا نقصان، ولو كان هناك نوع من الزيادة أو النقصان فإن الإمام علي عليه سلام الله له ذرية كبيرة وله أتباعٌ كثيرون، ولم ينقطعوا على الإطلاق، هؤلاء كانوا سيُبرزون هذه الاختلافات بين المسلمين وكانوا سيبيّنون هذه السورة عندكم كذا وهذه السورة عندنا كذا، وهذا لم يحدث على الإطلاق، فالمسلمون جميعاً مجمعون على أن المصحف والذي بين دفّتي هذا الكتاب، من وقت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى وقتنا هذا)

ومنهم د. محمد سليم العوا في كتابه [العلاقة بين السنة والشيعة]([36])، والذي حاول أن يعالج فيه بإنصاف كبير الكثير من المشتركات بين السنة والشيعة، مما صب عليه وابلا من التهم بعد ذلك، بل راح الكثير يغيبه عن الساحة العلمية والبحثية بسبب موقفه ذلك.

وقد توقف طويلا أثناء بحثه ذلك عند هذه الفرية، معللا ذلك بأن (كثيرا من علماء أهل السنة وعامتهم يعتقدون اعتقادا شبه جازم أن الشيعة الإمامية يعتقدون أن القرآن محرف بالنقص منه)

ومن تصريحاته في الكتاب حول تكذيب فرية تحريف القرآن الكريم عند الشيعة قوله: (ما يجمع بيننا وبين إخواننا من الشيعة الإمامية الإيمان بالله تعالى ربا وبمحمد نبيا ورسولا وبكل ما جاء به من عند الله تبارك وتعالى، وكذلك الإيمان بالقرآن كتابا منزلا من عند الله، والالتزام بالأحكام العملية من صلاة وصيام وزكاة وحج)

وهو يستشهد في الكتاب بما نص عليه الشيخ يوسف القرضاوي نفسه في كتابه (مبادئ في الحوار والتقريب بين المذاهب الإسلامية)، والذي قال فيه: (ولا يخالف مسلم سني أو شيعي في أن ما بين الدفتين من سورة الفاتحة إلى سورة الناس هو كلام الله المنزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم، به يستدل الفقهاء والمتكلمون وإليه يرجع الدعاة والمرشدون، ومنه يستمد الموجهون والمربون بلا خلاف بين أحد منهم وآخر على حرف فما فوقه أنه من كلام الله تعالى)

ب ـ روايات التحريف وكتب المدرسة السنية:

وهو وجه خطير جدا، ذلك أنه لو اعتبرنا أمثال تلك الروايات التي يعتمد عليها المفترون في ادعائهم بأن الشيعة يقولون بتحريف القرآن الكريم، فإننا سنجد أمثالها في المدرسة السنية، وبذلك تعطي الذريعة لمن يريد أن يتهم السنة بالقول بتحريف القرآن، وذلك ما حصل للأسف في الواقع الإسلامي، وجعل الكثير من المبشرين والمستشرقين والحداثيين، يشككون في القرآن الكريم.

وقد قال الأستاذ محمد المديني عميد كلية الشريعة بجامعة الأزهر معبرا عن هذه الحقيقة: (وأمّـا أن الإمامية يعتقدون نقص القرآن، فمعاذ الله. إنما هي روايات رويت في كتبهم، كما روي مثلها في كتبنا. وأهل التحقيق من الفريقين قد زيّفوها، وبينوا بطلانـها وليس في الشيعة الإمامية أو الزيدية من يعتقد ذلك كما أنه ليس في السنة من يعتقده)

ثم ذكر مثالا على ذلك، فقال: (وقد ألّف أحد المصريين كتابا اسمه (الفرقان) حشاه بكثير من أمثال هذه الروايات السقيمة المدخولة المرفوضة، ناقلا لها عن الكتب والمصادر عند أهل السنة، وقد طلب الأزهر من الحكومة مصادرة هذا الكتاب بعد أن بين بالدليل والبحث العلمي أوجه البطلان والفساد فيه، فاستجابت الحكومة لهذا الطلب وصادرت الكتاب، فرفع صاحبه دعوى يطلب فيها تعويضا، فحكم القضاء الإداري في مجلس الدولة برفضها)

ثم تساءل بناء على هذا قائلا: (أفيقال أنّ أهل السنة ينكرون قداسة القرآن؟ أو يعتقدون نقص القرآن لرواية رواها فلان؟ أو لكتاب ألفه فلان؟ فكذلك الشيعة الإمامية، إنما هي روايات في بعض كتبهم كالروايات التي في بعض كتبنا)([37]

وما ذكره للأسف صحيح، فقد روى ابن أبي داود بسنده إلى ابن شهاب الزهري، أنه قال: (بلغنا أنه كان أنزل قرآن كثير، فقتل علماؤه يوم اليمامة الذين كانوا قد وعوه ولم يعلم بعدهم ولم يكتب)([38]

وروى عبد الرزاق الصنعاني في المصنف عن سفيان الثوري، وهو من أئمة السلف قوله: (وبلغنا أن أناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانوا يقرؤون القرآن أصيبوا يوم مسيلمة فذهبت حروف من القرآن)([39]

وروى الحافظ ابن عبد البر عن مجاهد قال: (كانت الأحزاب مثل سورة البقرة أو أطول، ولقد ذهب يوم مسيلمة قرآن كثير، ولم يذهب منه حلال ولا حرام)([40])

وروى الذهبي في [تاريخ الإسلام] عن الزهري أنه سئل عن التقديم والتأخير في الحديث، فقال: (هذا يجوز في القرآن فكيف به في الحديث إذا أصيب معنى الحديث فلا بأس)([41]

وروى عبد بن حميد عن محمد بن سيرين أنه سئل كيف تقرأ هذه الآية {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ}(سبأ: 23)، أو (فرغ عن قلوبـهم) قال: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ}، قال: فإن الحسن يقول بـرأيه أشياء أهاب أن أقولـها)([42]

وروى الطبري عن الحسن البصري أنه قال: في قوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا}(البقرة:106) قال: إن نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم أقرئ قرآنا، ثم نسيه فلم يكن شيئا، ومن القرآن ما قد نسخ وأنتم تقرءونه)([43]

وروى ابن الضريس في فضائله عن حماد بن سلمة ـ الذي يعتبره السلفية إماما كبيرا من أئمتهم ـ قال: (قرأنا في مصحف أبي بن كعب (اللهم إنا نستعينك وتستغفرك ونثني عليك الخير ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك)، قال حماد: هذه الآن سـورة، وأحسبه قال: (اللهم إياك نعبد ولك نصلى ونسجد واليك نسعى ونحفد نخشى عذابك ونرجو رحمتك إن عذابك بالكفار ملحق)([44]

وروى الطبري في تفسيره عن الربيع في قوله تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ}(آل عمران:81) يقول: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب)، وكذلك كان يقرؤها الربيع (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب) إنـما هي (أهل الكتاب)، قال: وكذلك كان يقرؤها أبي بن كعب. قال الربيع: ألا ترى أنه يقول {ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ }(آل عمران:81) يقول: لتؤمنن بمحمد ولتنصرنه، قال: هم أهل الكتاب)([45])

وروى أبو عبيد في قوله تعالى:{قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ}(طه: 63) عن أبي عمرو وعيسى ويونس: (إن هذين لساحران) في اللفظ وكُـتب { هَذَانِ } كما يزيدون وينقصون في الكتاب ([46]).

هذه مجرد نماذج عن النصوص الواردة في كتب المدرسة السنية، والتي لو شاء أي أحد أن يواجههم بها لكان له بعض الحجة في ذلك، لذلك كان الأجدر بالمؤمن الورع ألا يحمله حقده على الآخر على تقويض دينه ومصادره المقدسة، وإلا كان من المكتالين بالمكاييل المزدوجة، فهو إما أن يقر بما في كتبه من ورود النقص والزيادة في القرآن الكريم على حسب ما تدل عليه تلك الروايات، أو ينكرها، وعليه حينها أن يتعامل بنفس المعاملة مع ما ورد في كتب المدرسة الشيعية.

وأحب أن أذكر هنا أن الميرزا النوري صاحب ذلك الكتاب الذي يشهره السلفيون، ويبشرون به، ليفتروا من خلاله مثل هذه الفرية الخطيرة على الشيعة، لم يكتف بالروايات من كتب الشيعة، وإنما ذكر الكثير منها من كتب السنة، وبذلك فإن الذي يساهم في إشهار الكتاب والدعوة إليه هو في الحقيقة يرمي كلا المدرستين بهذه الفرية الخطيرة.

3 ـ فرية الموقف من الصحابة:

وهي فرية عجيبة يستند فيها المغرضون والحاقدون على إيران، وخاصة في ثوبها الإسلامي الجديد إلى بينات لا تمت لها بصلة، بل هي بعيدة عنها، ولا علاقة لها بها، بل إنها تدخل ضمن مؤامرات أعدائها، في نفس الوقت الذي يغفلون فيه عن آلاف، بل عشرات آلاف الوثائق التي تبين الموقف الصحيح للإيرانيين، ولقادة الثورة الإسلامية خصوصا من هذه القضية، التي جعلها الأعداء قميص عثمان الذي به يعلنون الحرب عليها.

فالكثير ممن يتحدث عن سب الصحابة، ولعنهم يستند لياسر الحبيب وقنواته التي تبث من لندن، أو للهياري، وقناته التي تبث من واشنطن، وكلاهما ليسا من إيران، وكلاهما يعادي الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وكلاهما يعادي نظام ولاية الفقيه، بل كلاهما يعتبر قادة الجمهورية الإسلامية من النواصب الذين يجب حربهم.

فهل يمكن عقلا أن نستند لمثل هؤلاء في دعاوانا، في نفس الوقت الذي نترك فيه المراجع الكبار لإيران والعراق وغيرهما، والذين يصدرون كل يوم الفتاوى في تحريم أمثال تلك التصرفات البشعة التي تهدد الوحدة الإسلامية، بل يعتبرونها مؤامرة على الإسلام؟

وقبل أن أذكر بعض الوثائق الكبرى للدلالة على المدى الذي يحترم به الإيرانيون الصحابة، قادة وشعبا، أتحدى أي شخص أن يأتيني بشاهد واحد من قناة من القنوات التي تبث من إيران أو العراق، فيه لعن أو سب لأحد من الصحابة، أو لأي مقدس من مقدسات المدرسة السنية.

لن يجد ذلك أبدا، لأن ذلك محرم على كل من يؤمن بولاية الفقيه التي أصدرت فتاواها المشددة في تحريم التعرض للصحابة بما لا يليق مع مكانتهم، وقد تبنى هذه الفتاوى كل قادتها ابتداء من الخميني وانتهاء بالخامنئي، ومعهما كل المراجع الكبار الذين يحظون بملايين الأتباع، لا في إيران وحدها، بل في جميع العالم الإسلامي.

ولذلك فإنه لو أحصينا ذلك الجمهور الذي يستند إليه المغرضون في سب الصحابة، فلن يجدوا إلا فئات محدودة جدا، وهي من الشواذ الذين لا يقاس عليهم.

ولهذا، لا يصح ـ دينا وخلقا ـ أن يحملوا على الجمهورية الإسلامية الإيرانية أوزار أعدائها، كما لا تحمل الجمهورية الإسلامية أوزار أولئك الذين يسيئون إلى السنة في المدرسة السنية، سواء بتلك الأفكار الشاذة التي نسمعها كل حين، أو بذلك العنف الذي تأسست منه الكثير من الجماعات، وهي تدعي نسبتها للمدرسة السنية.

وقبل أن أذكر بعض النماذج من أقوال القادة السياسيين والفكريين للجمهورية الإسلامية الإيرانية حول الصحابة، أحب أن أذكر أن لهم دعاء خاصا للصحابة، يدعون به كل حين، مثلهم مثل جميع الشيعة في العالم، وهو دعاء لا نجد نظيرا له للأسف في المدرسة السنية.

ونص الدعاء هو: (اللهم وأصحاب محمد (صلى الله عليه وآله) خاصة الذين أحسنوا الصحبة، والذين أبلوا البلاء الحسن في نصره، وكانفوه وأسرعوا إلى وفادته، وسابقوا إلى دعوته، واستجابوا له حيث أسمعهم حجة رسالاته، وفارقوا الأزواج والأولاد في إظهار كلمته، وقاتلوا الآباء والأبناء في تثبيت نبوته، وانتصروا به، ومن كانوا منطوين على محبته، يرجون تجارة لن تبور في مودته، والذين هجرتهم العشائر إذ تعلقوا بعروته، وانتفت منهم القرابات إذ سكنوا في ظل قرابته، فلا تنس لهم اللهم ما تركوا لك وفيك، وأرضهم من رضوانك، وبما حاشوا الخلق عليك وكانوا مع رسولك دعاة لك إليك، واشكرهم على هجرهم فيك ديار قومهم، وخروجهم من سعة المعاش إلى ضيقه، ومن كثرت في إعزاز دينك من مظلومهم. اللهم وأوصل إلى التابعين لهم بإحسان الذين يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا)([47]

بل إن المتدينين منهم يخصونهم بالدعاء كل يوم ثلاثاء، فمن أدعية يوم الثلاثاء في المدرسة الشيعية: (اللـهم صل على محمد خاتم النبيين، وتمام عدة المرسلين وعلى آله الطيبين الطاهرين، واصحابه المنتجبين)

بالإضافة إلى ذلك، فهم يرددون في مساجدهم كل حين بأصواتهم الشجية ذلك الثناء العطر الذي قاله الإمام علي عن الصادقين السابقين من الصحابة، والذي يقول فيه: (أين إخواني الذين ركبوا الطريق ومضوا على الحق؟ أين عمار؟ وأين ابن التيهان؟ وأين ذو الشهادتين؟ وأين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا على المنية وأبرد برؤوسهم إلى الفجرة؟ أوه على إخواني الذين تلوا القرآن فأحكموه وتدبروا الفرض فأقاموه. أحيوا السنة وأماتوا البدعة، دعوا للجهاد فأجابوا، ووثقوا بالقائد فاتبعوه)([48]

ويرددون معها قوله يوم صفين، يوم فرض عليه الصلح: (ولقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وأعمامنا، ما يزيدنا ذلك إلا إيمانا وتسليما، ومضيا على اللقم، وصبرا على مضض الألم، وجدا في جهاد العدو، ولقد كان الرجل منا والآخر من عدونا يتصاولان تصاول الفحلين، يتخالسان أنفسهما أيهما يسقي صاحبه كأس المنون، فمرة لنا من عدونا، ومرة لعدونا منا. فلما رأى الله صدقنا أنزل بعدونا الكبت، وأنزل علينا النصر، حتى استقر الإسلام ملقيا جرانه ومتبوئا أوطانه، ولعمري لو كنا نأتي ما أتيتم ما قام للدين عمود، ولا اخضر للإيمان عود)([49]

ويقرؤون معها قوله في تلك الخطبة العصماء، التي لا نجد لها نظيرا في المدرسة السنية في وصف الصحابة، فقد قال عنهم: (لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فما أرى أحداً يشبههم منكم لقد كانوا يصبحون شعثاً غبراً، وقد باتوا سجّداً وقياماً يراوحون بين جباهِهِم وخـدودهم ويقفون على مثل الجمر من ذكر معـادهم، كأن بين أعينهم رُكب المعزي من طول سجودهم، إذا ذكر الله هملت أعينهم حتى تبُلَّ جيوبهم، ومـادوا كمـا يميـد الشجـر يوم الريح العاصف، خـوفاً من العقاب ورجـاءً للثواب)([50]

وهكذا نجد النصوص الكثير في التراث الشيعي، وخصوصا ذلك الذي يتعبدون به، ويقرؤونه في مساجدهم ودورهم وفي كل محل.

ونقطة الخلاف بين السنة والشيعة في المسألة لا تعدو أمرين:

الأول: أن الشيعة لا يرون عصمة الصحابة، ولذلك يجوزون نقدهم، وخصوصا في إعراضهم عن الإمام علي باعتباره عندهم هو وصي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولذلك هم لا ينكرون كون الذين أعرضوا عنه من الصحابة، ولا أن لهم فضل الصحبة، ولكن ينكرون عليهم ذلك الإعراض.

وهكذا هم لا ينكرون كون عائشة زوجة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنها أم المؤمنين، وأن لها الكثير من الفضل بسبب ذلك، ولكن ينكرون عليها خروجها على الإمام علي، وحربها له، ولهذا يروون في مصادرهم المعتبرة أن عليا بعد انتصاره في معركة الجمل لم يسئ إليها ولم يؤذها، بل ردها مكرمة إلى بيتها، بعد أن عاتبها على خروجها الذي سبب فتنة للمسلمين.

وهو ما تتفق معهم فيه المدرسة السنية، فقد قال الذهبي: (روى إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس قال: قالت عائشة وكانت تحدث نفسها أن تدفن في بيتها، فقالت: إني أحدثت بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلمحدثا، ادفنوني مع أزواجه فدفنت بالبقيع)، ثم علق على ذلك بقوله: (تعني بالحدث: مسيرها يوم الجمل؛ فإنها ندمت ندامة كلية وتابت من ذلك، على أنها ما فعلت ذلك إلا متأولة قاصدة للخير، كما اجتهد طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وجماعة من الكبار)([51])

وقال الزيلعي: (وأجمعوا على أن عليا كان مصيبا في قتال أهل الجمل، وهم طلحة، والزبير، وعائشة، ومن معهم، وأهل صفين، وهم معاوية، وعسكره، وقد أظهرت عائشة الندم، كما أخرجه ابن عبد البر في كتاب الاستيعاب عن ابن أبي عتيق، وهو عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، قال: قالت عائشة لابن عمر: يا أبا عبد الرحمن، ما منعك أن تنهاني عن مسيري؟! قال: رأيت رجلا غلب عليك – يعني ابن الزبير- فقالت: أما والله لو نهيتني ما خرجت)([52])

وقال الألباني ـ والذي يزعم السلفية أنهم شيعة له ـ بعد ذكره لحديث الحوأب: (وجملة القول أن الحديث صحيح الإسناد، ولا إشكال في متنه.. فإن غاية ما فيه أن عائشة لما علمت بالحوأب كان عليها أن ترجع، والحديث يدل أنها لم ترجع! وهذا مما لا يليق أن ينسب لأم المؤمنين. وجوابنا على ذلك أنه ليس كل ما يقع من الكمل يكون لائقا بهم، إذ لا عصمة إلا لله وحده. والسني لا ينبغي له أن يغالي فيمن يحترمه حتى يرفعه إلى مصاف الأئمة الشيعة المعصومين! ولا نشك أن خروج أم المؤمنين كان خطأ من أصله، ولذلك همت بالرجوع حين علمت بتحقق نبوءة النبي صلى الله عليه وآله وسلمعند الحوأب، ولكن الزبير أقنعها بترك الرجوع بقوله: (عسى الله أن يصلح بك بين الناس) ولا نشك أنه كان مخطئا في ذلك أيضا. والعقل يقطع بأنه لا مناص من القول بتخطئة إحدى الطائفتين المتقاتلتين اللتين وقع فيهما مئات القتلى. ولا شك أن عائشة المخطئة لأسباب كثيرة، وأدلة واضحة، ومنها ندمها على خروجها، وذلك هو اللائق بفضلها وكمالها، وذلك مما يدل على أن خطأها من الخطأ المغفور بل المأجور)([53])

ولهذا عندما نرجع إلى أعلام الشيعة الكبار ومراجعهم، وعلى مدار التاريخ، نجدهم يحترون عرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بل عرض جميع الأنبياء، بل يرون من عصمة النبي عصمة عرضه، ولذلك لم يسيئوا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عرضه، حتى لو اختلفوا مع بعض أمهات المؤمنين بسبب حربهم للإمام علي.. لأن أمهات المؤمنين وإن عصموا في أعراضهم بسبب ارتباطهم بالمعصوم إلا أنهم ليسوا معصومين فيما عدا ذلك، وقد نص القرآن الكريم على ذلك، بل ذكر أن من نساء الأنبياء من وقع في الكفر ذاته.. وفرق كبير بين الكفر والفاحشة.. فالفاحشة ترتبط بعرض النبي، بخلاف الكفر وغيره، فلا علاقة لذلك بعرض النبي.. بل إن القرآن الكريم ذكر أن أبناء الأنبياء أنفسهم ليسوا معصومين من الكفر، وقد قص علينا من قصة ابن نوح عليه السلام ما يثبت ذلك، وقص علينا من أمر امرأة نوح ولوط ما يدل على ذلك أيضا.

وقد قال العلامة السيد شرف الدين الموسوي، وهو من أعلام الشيعة الكبار في هذا العصر، في أجوبة مسائل جار الله: (من الوجوه التي اعتمد عليها الناصب موسى جار الله في تكفير الشيعة الإمامية أنهم يطولون ألسنتهم على عائشة، ويتكلمون في حقها من أمر الافك والعياذ بالله ما لا يليق بشأنها.. إلى آخر افكه وبهتانه.. والجواب أنها عند الامامية، وفي نفس الأمر والواقع أنقى جيبا، وأطهر ثوبا وأعلى نفسا وأغلى عرضا وامنع صوتا وارفع جنابا وأعز خدرا واسمى مقاما من أن يجوز عليها غير النزاهة أو يمكن في حقها الا العفة والصيانة، وكتب الامامية قديمها وحديثها شاهد عدل بما أقول، على أن أصولهم في عصمة الانبياء تحيل ما بهتها به أهل الافك بتاتا، وقواعدهم تمنع وقوعه عقلا ولذا صرح فقيه الطائفة وثقتها أستاذنا المقدس الشيخ محمد طه النجفي أعلى الله مقامه بما يستقل بحكمه العقل من وجوب نزاهة الأنبياء عن أقل عائبة ولزوم طهارة أعراضهم عن أدنى وصمة، فنحن والله لا نحتاج في براءتها الى دليل، ولا نجوز عليها ولا على غيرها من أزواج الأنبياء والأوصياء كل ما كان من هذا القبيل)

ثم نقل عن الشريف المرتضى علم الهدى ردا على من نسب الخنا الى امرأة نوح ـ كما يقول بذلك ابن تيمية نفسه ـ: (إن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يجب عقلا ان ينـزهوا عن مثل هذه الحال لأنها تعر وتشين وتغض من القدر، وقد جنب الله تعالى أنبياءه عليهم الصلاة والسلام ما هو دون ذلك تعظيما لهم وتوقيرا لكل ما ينفر عن القبول منهم)

ثم نقل الإجماع على ذلك، فقال: (وعلى ذلك اجماع مفسري الشيعة ومتكلميهم وسائر علمائهم)

ثم بين موضع انتقاد الشيعة لها، وهو مما يتفقون فيه مع السنة، فقال: (نعم ننتقد من أفعال أم المؤمنين خروجها من بيتها بعد قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } [الأحزاب: 33] وركوبها الجمل بعد تحذيرها من ذلك ومجيئها الى البصرة تقود جيشا عرمرما تطلب على زعمها بدم عثمان، وهي التي أمالت حربه وألبت عليه وقالت فيه ما قالت، ونلومها على أفعالها في البصرة يوم الجمل الأصغر مع عثمان بن حنيف وحكيم بن جبلة ونستنكر أعمالها يوم الجمل الأكبر مع أمير المؤمنين ويوم البغل حيث ظنت أن بني هاشم يريدون دفن الحسن المجتبى عند جده صلى الله عليه وآله وسلم فكان ما كان منها ومن مروان، بل نعتب عليها في سائر سيرتها مع سائر أهل البيت عليهم السلام)

وهذا الذي قاله شرف الدين الموسوي هو نفسه الذي تنص عليه كل المراجع الشيعية المعتمدة.. أما الروايات الباطلة التي اعتمدها عليها المغرضون فهي مرفوضة من جميع المراجع لمعارضتها العقل والفطرة والقرآن الكريم.

الثاني: هو أن الشيعة يقصرون لقب الصحبة وشرفها على من صحبوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حقيقة، وورد الثناء عليهم في القرآن الكريم، واعتبارهم من المهاجرين والأنصار، وهو خلاف ما تتبناه المدرسة السنية التي تجعل الصحابة كل من رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهي بذلك لا تفرق بين قوم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبين أصحابه، مع أن الصحبة في الأصل لا تكون إلا لعدد محدود.

والمشكلة ليست في مجرد اللقب، وإنما في اعتبار كل من رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهم عشرات الآلاف من الناس، ثقات وعدول، يمكن أن يؤخذ عنهم الدين حتى لو لم يكن حظهم من الصحبة إلا رؤية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

مع أننا لو عدنا للقرآن الكريم، فإننا نجده يصنف قوم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أصناف متعدد، حيث نجد فيه الحديث عن السابقين الأولين، والمبايعين تحت الشجرة، والمهاجرين المهجرين عن ديارهم وأموالهم، وأصحاب الفتح، وهؤلاء جميعا يثني عليهم ويذكر فضلهم.

لكنه في نفس الوقت يذكر أصنافا أخرى، وضعت للأسف بعد ذلك جميعا ضمن الصحابة، كالمنافقين.. أو المنافقين المتسترين الذين لا يعرفهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما قال تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} [التوبة: 101]، أو مرضى القلوب وضعفاء الإيمان الذين ذكروا كثيرا في القرآن الكريم.. أو السماعين لأهل الفتنة، أو الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا.. أو المشرفين على الارتداد عندما دارت عليهم الدوائر.. أو الفساق الذين لا يصدق قولهم ولا فعلهم.. أو المسلمين الذين لم يدخل الإيمان في قلوبهم.. أو المؤلفة قلوبهم الذين يظهرون الإسلام ويتآلفون بدفع سهم من الصدقة إليهم لضعف يقينهم.. أو المولين أمام الكفار.

وبذلك فإن القرآن الكريم يذكر لنا أن المسلمين الذين عاصروا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكونوا صنفا واحدا، بل كانوا مختلفين في قوة الإيمان وضعفه، وفي مدى طاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. لذلك لا يصح عند الشيعة اعتبارهم جميعا عدولا وثقات، أو القول بأنهم جميعا هداة ومهتدين، وأنه يصح الاقتداء بأي منهم، لأن ذلك سيعرض الدين للتحريف والتشويه.

وأحب أن أنبه هنا إلى الخطأ الكبير الذي يذكره الكثير من المغرضين إما جهلا أو عن سوء قصد، وهي اعتبارهم أن الشيعة يقولون بردة جميع الصحابة، وأنه لم يبق منهم إلا عدد محدود جدا، وهذا ناتج عن عدم مراجعة كتبهم، أو عدم التحقيق فيها، بل عن عدم الرجوع لكتب المدرسة السنية نفسها، فقد ورد في الصحيحين قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إني فرطكم على الحوض من مر علي شرب، ومن شرب لم يظمأ أبدا، ليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفوني، ثم يحال بيني وبينهم، فأقول: إنهم مني، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقا، سحقا، لمن غير بعدي)([54]

وفي رواية أخرى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (ليردن علي الحوض رجال ممن صاحبني، حتى إذا رأيتهم ورفعوا إلي اختلجوا دوني، فلأقولن: أي رب أصيحابي أصيحابي، فليقالن لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك)([55]

ولذلك فإن الشيعة ـ في مدرستهم الأصولية ـ لا يقصدون بالردة مفهومها الحقيقي، الذي هو الكفر، وإنما يقصدون بها تضييع وصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومخالفتها، وهم يقولون بأن الكثير من الصحابة تداركوا ذلك بعد ذلك، ولذلك يضعونهم من جملة الصحابة المرضي عنهم، خاصة بعد وقوفهم مع الإمام علي، واستماتتهم في الدفاع عن خلافته الراشدة.

ولو أننا رجعنا إلى كتب الطبقات لديهم، لوجدنا كما كبيرا جدا من الصحابة، كلهم ممن يقبلونه ويترضون عنه، ومن الأمثلة على ذلك كتاب (الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة)، وهو لصدر الدين السيد على خان المدنى الشيرازي الحسيني (توفي 1120 هـ)، وهو علم من أعلام إيران الكبار في علم الرجال، وقد رتب كتابه على اثنتي عشرة طبقة، تبتدئ بالصحابة، وقد ذكر فيه الكثير من كبارهم وأعلامهم.

وحتى أوضح الأمر أكثر أنقل خطابا واجه به الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء بعض الكتاب الذين أشاعوا مثل هذه الفريقة في عصره، حيث قال لهم: (.. ولكنّا نريد أنْ نسأل من ذلك الكاتب: أي طبقات الشِّيعة أراد هدم الإسلام؟ الطبقة الأولى وهم أعيان صحابة النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبرارهم: كسلمان المحمَّدي ـ أو الفارسي ـ وأبي ذر، والمقداد، وعمّار، وخُزيمة ذي الشَّهادتين، وأبي التيهان، وحذيفة بن اليمان، والزُّبير، والفضل بن العبَّاس، وأخيه الحبر عبد الله، وهاشم بن عتبة المرقال، وأبي أيوب الأنصاري، وأبان، وأخيه خالد ابني سعيد العاص الأمويين، وأُبي بن كعب سيِّد ألقرّاء، وأنس بن الحرث بن نبيه..)([56]

ثم قال: (ولو أردتُ أنْ أعدَ عليك الشِّيعة من الصحابة، وإثبات تشيّعهم من نفس كتب السنَّة لأحوجني ذلك إلى إفراد كتاب ضخم، وقد كفاني مؤونة ذلك علماء الشَيعة.. وقد جمعتُ ما وجدتُه في كتب تراجم الصحابة (كالإصابة) و(أُسد الغابة) و(الاستيعاب) ونظائرها من الصحابة الشَيعة زهاء ثلاثمائة رجل من عظماء أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كلّهم من شيعة علي عليه السَّلام، ولعل المتتبع يعثر على أكثر من ذلك)

وهذا العدد الذي ذكره كبير جدا، ذلك أنه محصور في كبار الصحابة، وطبعا هو لا يقصد بهم أولئك الذين حاربوا الإمام علي، لأن ذلك عندهم من الكبائر التي تخرج صاحبها من العدالة، بنص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه، فقد قال مخاطبا الإمام علي: (لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق)([57]

بل إن الإمام أحمد الذي يزعم السلفية أنه إمامهم، بل إمام أهل السنة يقول بذلك، فقد حدث محمد بن منصور الطوسي قال: كنّا عند أحمد بن حنبل فقال له رجل: يا أبا عبد الله، ما تقول في هذا الحديث الذي يروى أنّ علياً قال: (أنا قسيم النار)؟ فقال: وما تنكرون من ذا؟ أليس روينا أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لعلي: (لايحبّك إلاّ مؤمن ولا يبغضك إلاّ منافق)؟ قلنا: بلى. قال: فأين المؤمن؟ قلنا: في الجنة. قال: وأين المنافق؟ قلنا: في النار، قال: فعليٌّ قسيم النار ([58]).

ولذلك لا يرى الشيعة ـ مثل الكثير من أهل السنة ـ حرمة لمعاوية ومن تبعه، ويروون في ذلك الأحاديث الكثيرة المحذرة منه، وهي نفسها موجودة في مصادر السنة([59]).

وأحب أن أنبه هنا كذلك أن هناك من الصحابة الكبار الذين يعتبرهم الشيعة، لكن المدرسة السنية ترفضهم، بل تقول بكفرهم، وعلى رأسهم أبو طالب عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي لم يبذل أحد من الصحابة من الجهد والمال ما بذله، لكن حظه في المدرسة السنية للأسف صار أدنى من حظ أبي سفيان العدو اللدود للإسلام، الذي صاروا يترضون عليه وعلى ابنه في نفس الوقت الذي يحرمون فيه الترضي على أبي طالب، بل يحكمون عليه بكونه من أهل جهنم.

بناء على هذه التوضيحات الضرورية، سأذكر هنا نموذجين من المواقف الإيرانية ضد من يسبون الصحابة، وخصوصا ياسر الحبيب، ومن يقف معه من المتآمرين على وحدة الأمة الإسلامية.. أما النموذج الأول، فيتعلق بالدفاع عن عرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأما النموذج الثاني، فيتعلق بمواجهة الفلم المزمع إنتاجه لإثارة الفتنة بين المسلمين.

النموذج الأول: الموقف من اتهام أم المؤمنين عائشة:

وهذا النموذج يبين مدى المظلومية التي يوجهها من يضعون أنفسهم موضع الناطق الرسمي باسم الأمة، حين يتركون عشرات، بل مئات، بل آلاف العلماء، ومعهم القنوات الفضائية الكثيرة، ليستمعوا لمراهق، ليست له شهادة علمية وغير معترف به، في أمر خطير جدا هو عرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وقد كان أول من تصدى لذلك كل مراجع الشيعة الكبار في إيران والعراق ولبنان والبحرين وباكستان والهند وغيرها.. فكلهم استنكروا ذلك الموقف الشنيع، وأصدروا البيانات في الرد عليه.

ومن أمثلتهم السيد علي الخامنئي الذي يعتبر أكبر مرجع للشيعة في إيران والعالم الإسلامي، بالإضافة إلى كونه الولي الفقيه الذي يعتبر الموالون له طاعته واجبة شرعيا، فقد سئل هذا السؤال: (تمر الأمة الإسلامية بأزمة منهج يؤدي إلى إثارة الفتن بين أبناء المذاهب الإسلامية، وعدم رعاية الأولويات لوحدة صف المسلمين، مما يكون منشأ لفتن داخلية وتشتيت الجهد الإسلامي في المسائل الحساسة والمصيرية، ويؤدي إلى صرف النظر عن الإنجازات التي تحققت على يد أبناء الأمة الإسلامية في فلسطين ولبنان والعراق وتركيا وإيران والدول الإسلامية، ومن إفرازات هذا المنهج المتطرف طرح ما يوجب الإساءة إلى رموز ومقدسات أتباع الطائفة السنية الكريمة بصورة متعمدة ومكررة، فما هو رأي سماحتكم فيما يطرح في بعض وسائل الإعلام من فضائيات وانترنت من قبل بعض المنتسبين إلى العلم من إهانة صريحة وتحقير بكلمات بذيئة ومسيئة لزوج الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أم المؤمنين السيدة عائشة واتهامها بما يخل بالشرف وو الكرامة لأزواج النبي أمهات المؤمنين رضوان الله تعالى عليهن.. لذا نرجو من سماحتكم التكرم ببيان الموقف الشرعي بوضوح لما سببته الإثارات المسيئة من اضطراب وسط المجتمع الإسلامي وخلق حالة من التوتر النفسي بين المسلمين من أتباع مدرسة أهل البيت وسائر المسلمين من المذاهب الإسلامية، علما أن هذه الإساءات استغلت وبصورة منهجية من بعض المغرضين ومثيري الفتن في بعض الفضائيات والإنترنت لتشويش وإرباك الساحة الإسلامية وإثارة الفتنة بين المسلمين)([60]

فأجاب بقوله: (يحرم النيل من رموز إخواننا السنة فضلا عن اتهام زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما يخل بشرفها، بل هذا الأمر ممتنع على نساء الأنبياء، وخصوصا سيدهم الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم)

ولم يكتف بذلك، بل هو يشير في خطبه كل حين إلى حرمة ذلك، وينبه إلى أنه دسائس أجنبية، ويسمي التشيع المرتبط بمثل هذا تشيعا بريطانيا، وليس تشيعا علويا، مثلما يسمى التسنن الداعي إلى الفتنة تسننا أمريكيا لا تسننا نبويا.

ونفس الفتوى التي أصدرها السيد علي الخامنئي أصدرها الكثير من مراجع الشيعة الكبار في إيران وغيرها، ومنهم الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، الذي حمل حملة شديدة على ياسر الحبيب ومن يقف معه وخلفه([61])، حيث قال: (سمعتم مؤخرا أن شخصا جاهلا يرتدي زي علماء الشيعة ويقيم في لندن أساء باسم الشيعة إلى مقدسات بعض المذاهب، واتهم أحدى زوجات النبي صلى الله عليه وآله وسلم تهمة عجيبة باطلة، وتكلم بكلمات بذيئة حول بعضهن)

وأكد على أن مثل هؤلاء الأشخاص لا يمثلون الشيعة، بل هم لا يعدون كونهم عملاء أو سفهاء، فقال: (إن هذا الشخص إما أن يكون عميلا، أو هو سفيها أحمق، لكن الأشد سفاهة وحماقة منه هم بعض علماء الوهابية، حيث استندوا إلى أقواله، وقالوا متبجحين: لقد انكشف ما يضمره الشيعة من عقائد! مع أن عددا كبيرا من علماء الشيعة في إيران ولبنان والدول العربية وأوروبا أدانوا تصريحات هذا المتلبس بزي رجال الدين، وقالوا إنه سفيه)

وأضاف المرجع الشيرازي قائلا: (والدليل على عدم منطقية الوهابيين أنهم تجاهلوا جميع الإدانات التي صدرت عن علماء الشيعة لتصريحات الحبيب، واستندوا إلى كلام هذا الأحمق أو العميل وجعلوه الدليل الوحيد لإصدار حكمهم، ونحن نقول إن هذا الشخص المنحرف هو كاذب وجاهل، إلا أن الوهابيين تمسكوا بكلامه لا غير)

وتحدث عن نفسه مشيرا إلى ذلك الغبن الذي يلقاه، وتلقاه مؤلفاته، في نفس الوقت الذي يلقى فيه ياسر الحبيب كل تلك الأهمية، يقول في ذلك: (لقد ألفت أنا ما يقارب 140 كتابا في العقائد، والتفسير، وسائر العلوم، ولم تشتمل على أي نسبة مشينة لزوجات النبيصلى الله عليه وآله وسلم، إلا أنهم لم يعتمدوا عليها، وذهبوا وراء كلام هذا الإنسان العميل)

وقال ـ مشيرا إلى المؤامرات المعقدة التي يحوكها الاستكبار العالمي ضد الإسلام ـ: (يمكن أن تكون الدوافع وراء هذا الشخص وتصريحاته هي مؤامرة أجنبية، ويكون الوهابيون في الحجاز انساقوا وراء هذه المؤامرة، وبذلك يكونون متواطئين مع هذه المؤامرة من أجل الوقيعة بين المسلمين، وبذلك يخلوا لهم الجو لتحقيق مصالحهم في المنطقة)

ثم أشار إلى تلك الأعذار التي يذكرها بعض أصحاب الدعايات المغرضة قائلا: (ويطرحون هنا شبهة أخرى تقول: إذا كان مراجع الشيعة يدينون هذا السلوك فلما لم صمتوا تجاهه؟! وهذا باطل لأننا أدنا هذا السلوك، وقلنا إننا لا نرتضي توجيه الإساءة إلى زوجات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتكون هذه الإساءة موجهة للنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم نفسه، ونشرنا هذا الكلام في قناة الولاية)

ثم ذكر هؤلاء المغرضين بموقف الإمام الخميني من عرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (هل نسي الوهابيون أن الإمام الخميني حكم على سلمان رشدي بالارتداد لأن قسما كبيرا من كتابه [آيات شيطانية] يوجه فيه الإساءة إلى زوجات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إلا أنهم لم تصدر عنهم أي إدانة لكتابه، والآن نراهم يتجاهلون كل هذه الشواهد ويستندون الى كلام هذا المجنون، وهذا يكشف عن أن هؤلاء لا يمتلكون أي منطق. وطبعا هناك من علماء السنة المنصفين من أشاد بإدانتنا لهذا الشخص)

النموذج الثاني: الموقف من الفيلم المسيء للصحابة

لم يكتف ياسر الحبيب المتآمر على الإسلام والوحدة الإسلامية بتلك السباب واللعنات التي يوجهها للصحابة، وإنما راح بدعم غربي يبشر بإنتاج فيلم يسيء للصحابة، ويسيء بعدها للشيعة في العالم الإسلامي جميعا، ويضعهم في حرب مع إخوانهم من أهل السنة.

ولذلك وقف كل مراجع الشيعة، وخصوصا الإيرانيين منهم في وجه هذا المشروع قبل بروزه، واستعماله وسيلة للفتنة، ولا يمكننا استعراض كل فتاواهم في ذلك، فلذلك نكتفي ببعض كبارهم هنا ([62]).

فمنهم المراجع الكبير ناصر مكارم شيرازي، الذي أكد في معرض إجابته على استفتاء بهذا الخصوص على حرمته، بقوله: (لا شك في أن من يدعم انتاج ونشر ومشاهدة هذا الفلم قد ارتكب معصية كبيرة، لا سيما في الظروف الراهنة حيث أن إثارة أي اختلاف بين المسلمين سيصبّ في خانة أعداء الإسلام والمتربصين به. كما أنه يترتب على هكذا تصرفات مسيئة مسؤولية شرعية ثقيلة، وباحتمال قوي فإن يد أعداء الإسلام (الذين ينتجون الفلم) فيه مبسوطة، وسيتحمّل كل من أسهم بشكل من الأشكال في دعم هذا الفلم، الدماء التي قد تراق جراء ردود الأفعال الغاضبة المحتملة.. يجب عليكم أن تبلّغوا الجميع أن القائمين على إنتاج هكذا برامج تثير الفرقة بين المسلمين، ليسوا منّا، ولا يمتون إلينا بصلة، بل إنهم نفر قليل يستغلون مشاعر طائفة من محبي أهل البيت لا سيما محبي السيدة الطاهرة فاطمة الزهراء؛ لتحقيق مآربهم، وإن رسالة هكذا أفلام هي ليست رسالة الإسلام وشيعة أهل البيت إطلاقاً)

وهكذا أفتى المرجع الكبير الشيخ نوري همداني، على الاستفتاء الخاص بهذا، بقوله: (نحن ضد هذه الأنشطة ولا نعتبرها أبدا لصالح الإسلام، ونرى في أي مساعدة أو إبداء اي اهتمام أو مشاهدة للفيلم، حراما وخلافا للشرع)

ومثلهما أفتى المرجع الكبير الشيخ جعفر سبحاني، فقد قال: (في الظروف التي تعيشها البلدان الإسلامية في الوقت الحاضر والفتنة الكبرى التي أثارها الأجانب والتي أدت الى تقاتل المسلمين وتشريد الملايين من العراقيين والسوريين من منازلهم وأوطانهم ليلجأوا إلى الغرب، فإن إنتاج هكذا فيلم لا يحقق إلا مطالب الأعداء، وهو بعيد كل البعد عن العقل والتقوى وعلى هذا فإن انتاجه حرام وأي مساعدة مالية له، تعاون على الإثم)

وجاء في فتوى الشيخ لطف الله صافي كلبايكاني: (لقد قلنا مرارا وتكرارا إن الشيعة ومحبي أهل البيت يجب أن يكونوا دائما حذرين وأن يحرصوا على نشر المعارف القرآنية والعترة النبوية وأن يتجنبوا القيام بأي عمل قد يؤدي الى الإساءة للإسلام والمذهب ويسبب في قتل أو جرح الشيعة المضطهدين على يد أعداء الإسلام أو ينتهي بتشريد البعض من أوطانهم)

هذه أمثلة عن البيانات والفتوى التي أصدرها كبار مراجع الشيعة في إيران، ومثلها فتاوى كثيرة في العراق ولبنان والهند وباكستان وغيرها، لكن للأسف سنرى أنه في حال إنتاج الفلم، كيف تثار الفتنة من جديد، وكيف يزعم المغرضون أن الشيعة هم الذين جمعوا المال، وهم الذين حرضوا، وأن يد إيران الخفية هي وراء كل ذلك.

4 ـ فرية الموقف من البداء:

من التهم التي يتهم بها الشيعة بناء على عدم فهم مصطلحاتهم ما يمكن تسميته فرية البداء، وهي مع كون الشيعة يقولون بها، بل لهم نصوصهم الكثيرة التي تدل عليها، إلا أننا سميناها فرية، لأن المغرضين الذين يتهمون الشيعة بها، يفهمونها بحسب أهوائهم، لا بحسب ما ينص عليه المفترى عليهم.

وقد أشار الشيخ العلامة ناصر مكارم الشيرازي إلى تلك الفهوم السيئة التي يحملها الكثير من المدرسة السنية حول البداء عند الشيعة ([63])، فقال ـ يحدث عن بعض ما حصل له معهم ـ: (إن من العقائد الثابتة عند الشيعة الإمامية، هو القول بالبداء.. وقد أنكرت عليهم السنة أشد الإنكار خصوصا في مسألة البداء، ولكنهم لو كانوا واقفين على مراد الشيعة من تجويز البداء على الله لتوقفوا عن الاستنكار، ولأعلنوا الوفاق، وأقول عن جد: لو أتيحت الفرصة لعلماء الفريقين للبحث عن النقاط الخلافية بعيدا عن التعصب والتشنج لتجلى الحق بأجلى مظاهره، ولأقروا بصحة مقالة الشيعة، غير أن تلك أمنية لا تتحقق إلا في فترات خاصة، وقد سألني أحد علماء أهل السنة عن حقيقة البداء فأجبته بإجمال ما أفصله في هذا المقام، فتعجب عن إتقان معناه، غير أنه زعم أن ما ذكرته نظرية شخصية لا صلة بها بنظرية الإمامية في البداء، فطلب مني كتابا لقدماء علماء الشيعة، فدفعت إليه أوائل المقالات، وشرح عقائد الصدوق لشيخ الأمة محمد بن النعمان المفيد (336 – 413 ه‍) فقرأهما بدقة، وجاء بالكتاب بعد أيام وقال: لو كان معنى البداء هو الذي يذكره صاحب الكتاب فهو من صميم عقيدة أهل السنة ولا يخالفون الشيعة في هذا المبدأ أبدا)([64]

ثم أجاب على ذلك بوجوه كثيرة نحاول اختصارها وإعادة صياغتها هنا، مع العلم أن كل ما ذكره من المتفق عليه عند الشيعة جميعا، وإنما خصصنا بالذكر والاقتباس باعتباره من كلام المراجع الإيرانيين في العصر الحديث، ولكونه كذلك من القادة الفكريين للمشروع الحضاري الجديد للجمهورية الإسلامية الإيرانية.

وأحب أن أذكر هنا أنني قد تناولت البداء بتفصيل في كتابي [أسرار الأقدار]، من خلال ما ورد حوله من النصوص المقدسة، ذلك أن البداء بالمفهوم الشيعي، يرتبط بما يسميه أهل السنة بمنازعة الأقدار، أو مدافعتها، وكذلك بما يمكن أن يطلق عليه المقادير المؤقتة.

وقد ذكرت فيه أنه([65]) لا يشبه التأكيد الذي وردت به النصوص في الحث على الإيمان بقدر الله وقضائه ومشيئته إلا التأكيد الذي وردت به في الحث على مدافعة ما نتوهمه من أقدار، فالشرع الذي أمرنا بالإيمان بالقدر هو الذي أمرنا بمنازعة القدر.

بل إن الذي ينازع القدر أعرف بالله من الذي يستسلم له وأكثر تواضعا وأعظم أدبا، فالذي يستسلم للقدر الذي يتصوره يجعل من نفسه خبيرا بأقدار الله، فلذلك يستسلم لأي عقبة تحصل له في حياته ويسميها قدر الله، بينما الذي ينازع القدر يدرك أن أي حركة يفعلها أو أي اتجاه اتجه إليه هو قدر الله:{ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } (البقرة: 115)، فلذلك يعرف الحق لأهله، فيتأدب مع عالم الحكمة كما تأدب مع عالم القدرة.

وهو أكثر معرفة لأنه يعرف الله بجميع أسمائه الحسنى وصفاته العليا، بينما المستسلم لا يعرف من أسماء الله إلا ما يبرر تواكله وعجزه.

ولهذا جمع صلى الله عليه وآله وسلم بين حقائق التوحيد في القدر، وبين القوة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا وكذا، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان)([66]

وقد حض صلى الله عليه وآله وسلم على هذه المنازعة ليرد الأوهام عن التطبيقات الخاطئة للإيمان بالقدر لما قيل له:(أرأيت أدوية نتداوى بها ورقى نسترقي بها وتقاة نتقيها هل ترد من قدر الله شيئا؟) فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(هي من قدر الله تعالى)([67]

وفي حديث آخر، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(لا يغنى حذر من قدر، والدعاء ينفع مما نزل ومما ينزل، فإن البلاء ينزل فليقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة)([68]

وإلى هذا المعنى أشار قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(يقول الله يا ابن آدم انما هى أربع واحدة لى وواحدة لك وواحدة بينى وبينك وواحدة بينك وبين خلقى، فأما التى لى فتعبدنى لاتشرك بى شيئا، وأما التى لك فعملك أجزيك به أحوج ما تكون اليه، وأما التى هى بينى وبينك فمنك الدعاء وعلى الإجابة، وأما التى بينك وبين خلقى فأت الى الناس بما تحب أن يأتوه اليك) ([69]

فهذا الحديث نظم علاقات المؤمن حتى لا يطغى بعضها على بعض، ومن أهم ما نظمه علاقة المؤمن بالله.. فالله هو الرب الإله.. والعبد هو المربوب المتوجه لله بالعبودية.. وأول ما يقتضيه هذا التوجه أن لا ينازع العبد ربه في ربوبيته فينفي قدره، وأن لا يتخلى عن وظائف عبوديته، بحجة قدر ربه.

أما ما يقال بأن الكمال في التسليم للأقدار، وأن من نازع الأقدار كان خصما لله، وللنظام الذي أراد الله، فالجواب عليه هو أن الذي أمر الشرع بالتسليم له تسليما مطلقا، وعدم منازعته في شيء، هو القدر الذي ليس للإنسان فيه أي اختيار، لأن منازعته لا دور لها إلا تحطيم قلب صاحبها من غير أن يكون لها أي تأثير عملي.

أما النوع الثاني، وهو ما يدخل من التسليم فيما يرتبط بالجوانب الاختيارية، والتي للإنسان فيها الإرادة المطلقة.. فمرادهم من ذلك المزاوجة والجمع بين الإقبال على العمل بهمة المكتسب الذي يعتقد تأثير العمل في حصول المطلوب، وبين الاعتقاد بقدر الله، وأن كسب الإنسان أقصر من أن يحقق نفعا، أو يدفع ضرا.

فبكلتا النظرتين يستقيم السلوك بجانبيه: السلوك الظاهر بالعمل الصالح، والسلوك الباطن بأدب الباطن.

وسر التعامل مع الأقدار بهذا النوع من التعامل هو أن الأقدار نوعان، منها ما هو ثابت قطعي، ومنها ما هو محتمل مؤقت، أو مرتبط بأوقات معينة محدودة، ولذلك قد يلحق كتبها التغيير والتبديل، وهذه المقادير مما يطلع الله عليه الملائكة الموكلين بالعباد، أو من تقتضي وظيفته التعرف على هذا النوع من المعارف، كالأنبياء والمرسلين والمحدثين والملهمين.

وإلى هذا النوع من المقادير الإشارة بقوله تعالى:{ يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} (الرعد:39)

وإليها الإشارة كذلك بالنصوص الواردة في منازعة الأقدار كقوله صلى الله عليه وآله وسلم:(لا يغنى حذر من قدر، والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، وإن البلاء لينزل فيلقاه الدعاء، فيعتلجان الى يوم القيامة)([70])، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:(لا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر الا البر، وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه) ([71])

وقد ذكر ابن عباس في تفسير الآية السابقة:(من أحد الكتابين هما كتابان يمحو الله ما يشاء من أحدهما ويثبت { وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } أي جملة الكتاب)([72])

ومن النصوص المقدسة التي تشير إلى هذا قوله تعالى:{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ } (المائدة:65)، فهذه الآية الكريمة تذكر تأثير الأعمال في جانب علاقة هؤلاء العباد بربهم تعالى.

ومثلها قوله تعالى:{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (لأعراف:96) أي أن أرزاق الله مفتوحة على العباد، ولكن العباد هم الواقفون دون نزولها.

ومثال هذا مثل من تفرض له جهة ما مبلغا محددا أو جائزة معينة، وتشترط عليه الحضور لتسلمها، ولكنه يظل راضيا بفقره شاكيا منه غافلا عما قدر له.

لذلك، فإن النصوص المقدسة تدل على أن المقادير المشتملة على مصالح العباد متوقفة على أعمال العباد، ومن الأمثلة على ذلك أنه مع كون الأعمار بآجالها إلا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبرنا بما يزاد فيه العمر المقدر، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(من سره أن يعظم الله رزقه، وأن يمد في أجله، فليصل رحمه)([73])

وقد أشار ابن عباس إلى هذا المعنى عندما قيل له:(كيف يزاد في العمر والأجل؟)، فقال:(قال الله تعالى:{ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} (الأنعام:2)، فالأجل الأول أجل العبد من حين ولادته إلى حين موته، والأجل الثاني ـ يعني المسمى عنده ـ من حين وفاته إلى يوم يلقاه في البرزخ لا يعلمه إلا الله؛ فإذا اتقى العبد ربه ووصل رحمه زاده الله في أجل عمره الأول من أجل البرزخ ما شاء، وإذا عصى وقطع رحمه نقصه الله من أجل عمره في الدنيا ما شاء، فيزيده في البرزخ)، فهذه الزيادة في نفس العمر وذات الأجل كما هو ظاهر اللفظ.

بناء على هذا تفسر كل النصوص الواردة في البداء عن أئمة الشيعة، والتي جعلتهم يهتمون كثيرا به باعتباره من العقائد الكبرى التي لها تأثيرها السلوكي الكبير.

وأحب أن أسوق هنا باختصار بعض ما ذكره العلامة ناصر مكارم الشيرازي في الرد على هذه الشبهة من وجوه ([74]).

أولا ـ اتفاق الشيعة على أنه سبحانه عالم بالحوادث كلها غابرها وحاضرها، ومستقبلها، لا يخفى عليه شئ في الأرض ولا في السماء، فلا يتصور فيه الظهور بعد الخفاء، ولا العلم بعد الجهل، بل الأشياء دقيقها وجليلها، حاضرة لديه، وهذا وحده كاف في الرد على الشبهة من جذورها ذلك أن المغرضين يتصورون أن البداء يعني عدم علم الله بالأحداث قبل وقوعها، وهذا لم يقل به الشيعة، ولا نص عليه أئمتهم، فقد قال الإمام علي: (من زعم أن الله عز وجل يبدو له من شئ لم يعلمه أمس، فابرأوا منه)([75]

وبناء على هذا وردت النصوص الكثيرة عن أئمة أهل البيت في بيان علم الله تعالى المطلق بالأشياء، فعن الإمام علي قال: (كل سر عندك علانية، وكل غيب عندك شهادة)، وقال: (لا يعزب عنه عدد قطر الماء، ولا نجوم السماء، ولا سوافي الريح في الهواء، ولا دبيب النمل على الصفا، ولا مقيل الذر في الليلة الظلماء، يعلم مساقط الأوراق، وخفي طرف الأحداق)

وقال الإمام موسى الكاظم: (لم يزل الله عالما بالأشياء قبل أن يخلق الأشياء، كعلمه بالأشياء بعد ما خلق الأشياء)

وقال الإمام الصادق في تفسير قوله: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39]: (فكل أمر يريده الله، فهو في علمه قبل أن يصنعه، ليس شئ يبدو له إلا وقد كان في علمه، إن الله لا يبدو له من جهل)، وغيرها من الروايات التي تدل على إحاطة علمه بكل شئ قبل خلقه وحينه وبعده، وأنه لا يخفى عليه شئ أبدا.

 ثانيا ـ أن النصوص المقدسة تدل على أن مصير العباد يتغير، بسبب حسن أفعالهم أو سوئها، ومن ذلك قوله تعالى حاكيا عن نوح عليه السلام: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا } [نوح: 10-12]، فقد اعتبر نوح عليه السلام الاستغفار علة مؤثرة في نزول المطر، وكثرة الأموال والبنين، وجريان الأنهار.

وهكذا أخبر القرآن الكريم على أن للأعمال السيئة تأثيرها في المقادير، ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ } [النحل: 112]، وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 53]

ومن هذا الباب يفسر قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ } [الرعد: 11]، وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [الأنفال: 53]، وقوله: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [الأعراف: 96]، وغيرها من الآيات الكريمة التي تربط الجزاء بالعمل.

ومن هذا الباب ما ورد في الروايات الكثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة أهل البيت، والتي توضع في كتب الشيعة في باب البداء، ومنها ما روى الصدوق في الخصال عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أكثر من صدقة السر، فإنها تطفئ غضب الرب جل جلاله)

ومنها ما روى في عيون الأخبار عن الرضا عن آبائه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (باكروا بالصدقة، فمن باكر بها لم يتخطاها البلاء)

وروى الشيخ الطوسي في أماليه عن الباقر قال: قال أمير المؤمنين: (أفضل ما توسل به المتوسلون الإيمان بالله، وصدقة السر، فإنها تذهب الخطيئة، وتطفئ غضب الرب، وصنائع المعروف، فإنها تدفع ميتة السوء، وتقي مصارع الهوان)، وغيرها من الروايات الكثيرة التي يتفقون فيها مع المدرسة السنية.

ثالثا ـ أن للاعتقاد في البداء تأثيرا تربويا وسلوكيا كبيرا، كما نص على ذلك ناصر مكارم الشيرازي بقوله: (الاعتقاد بالمحو والإثبات، وأن العبد قادر على تغيير مصيره بأفعاله وأعماله، لا بد من أن يبعث الرجاء في قلب من يريد أن يتطهر، وينمي نواة الخير الكامنة في نفسه، فتشريع البداء، مثل تشريع قبول التوبة، والشفاعة، وتكفير الصغائر بالاجتناب عن الكبائر، كلها لأجل بعث الرجاء وإيقاد نوره في قلوب العصاة والعتاة، حتى لا ييأسوا من روح الله، ولا يتولوا بتصور أنهم من الأشقياء وأهل النار قدرا، وأنه لا فائدة من السعي والعمل، فلعلم الإنسان أنه سبحانه لم يجف قلمه في لوح المحو والإثبات، وله أن يمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء، يسعد من يشاء، ويشقي من يشاء، وليست مشيئته جزافية غير تابعة لضابطة عقلية، لأن العبد لو تاب، وعمل بالفرائض، وتمسك بالعروة الوثقى، فإنه يخرج من سلك الأشقياء، ويدخل في صنف السعداء، وبالعكس.. وهكذا فإن كل ما قدر في حقه من الموت والمرض والفقر والشقاء يمكن تغييره بالدعاء، والصدقة، وصلة الرحم، وإكرام الوالدين، وغير ذلك، فجميع هذا من باب الرحمة الإلهية لأجل بث الأمل في قلب الإنسان، وعلى هذا فالاعتقاد بذلك من ضروريات الكتاب وصريح آياته)([76]

ثم ساق الروايات التي تبين مدى اهتمام أئمة أهل البيت ببثت العقيدة في نفوس المؤمنين حتى لا يضعفوا أو يكلوا، ومن ذلك ما روي عن الباقر والصادق أنهما قال: (ما عبد الله عز وجل بشئ مثل البداء)([77]

وروى عن الصادق أنه قال: (لو يعلم الناس ما في القول بالبداء من الأجر ما فتروا من الكلام فيه)([78]

وروى عن أبي عبد الله قال: (ما عظم الله عز وجل بمثل البداء)([79])، ثم علق عليه بقوله: (إذ لولا الإقرار بالبداء بهذا المعنى ما عرف الله حق المعرفة، بل ويبدو سبحانه في نظر العبد (بناء على عقيدة بطلان البداء) أنه مكتوف الأيدي، لا يقدر على تغيير ما قدره، ولا محو ما أثبته) ([80])، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى عن اليهود: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة: 64]

5 ـ فرية التقية وعلاقتها بالنفاق:

لا نكاد نجد مصدرا من المصادر التي تحدثت عن الشيعة أو إيران إلا وتحدثت معهما عن التقية، واعتبرتها من النفاق([81])، واعتبرت على أساسها كل الإيرانيين قادة وشعبا من المنافقين، حتى أنهم يعتبرون كل تضحياتهم في مواجهة الاستكبار العالمي، أو في خدمة القضية الفلسطينية مجرد تقية ونفاق لا علاقة لها بالحقيقة والواقع.

بل إن الأمر بلغ بهم إلى حد اعتبار جهود إيران في خدمة الوحدة الإسلامية أو في التقريب بين المذاهب الإسلامية مجرد تقية تريد منها التمدد والسيطرة، ولا تريد منها أن تؤدي ما كلف به كل مؤمن من السعي إلى إصلاح ذات البين وتوحيد صف المسلمين، وهم يقولون ذلك مع علمهم بالأضرار الشديدة والتضحيات العظيمة التي قدمها الشعب الإيراني جراء تلك المواقف.

وهكذا لا نجد موقفا من المواقف الطيبة إلا ويؤول تأويلا خبيثا، والمرجع في ذلك التأويل هو التقية.. حيث نجد المخالف المتمدد على أريكته، يتثاءب بكسل، ثم يقول: ما ترونه أو تسمعونه مجرد تقية.. ألم يقل إمامهم: (التقية ديني ودين آبائي)؟

ولهذا لا نجد عند هؤلاء المغرضين الطائفيين سوى الاستنكار والنقد الممتلئ بالحقد، فهم إذا ما رأوا سيئة أضافوا إليها ما شاءت لهم أهواؤهم من الكذب والبهتان، وإن رأوا حسنة غمطوا أصحابها، وزعموا أن دافعهم إليها مجرد تقية.

وللأسف فإن هؤلاء الذين يطلقون مثل هذه الافتراءات لم يكلفوا أنفسهم أن يطالعوا ما كتبه أعلام الشيعية في القديم والحديث، ولم يكلفوا أنفسهم أن يسألوا أعلامهم أو مراجعهم ليفهموا منهم حقيقة التقية، وحظها من الشرعية، بل لم يكلفوا أنفسهم ليقرؤوا تراثهم الذي يؤمنون به ليروا ما ورد فيها من النصوص المقدسة، ومن شروح العلماء لها.

وبناء على ذلك، سنحاول هنا ـ باختصار شديد ـ أن نذكر أهداف التقية، ونبين مدى شرعيتها، وقد رأينا من خلال استقراء النصوص المقدسة، أن لها غرضان شرعيان ممتلئان بالقيم الأخلاقية، أولهما حفظ الوحدة الإسلامية، وثانيهما حفظ القائمين على الإسلام والدعاة إليه.

أ ـ حفظ الوحدة الإسلامية:

ويشير إلى هذا المقصد من التقية قوله تعالى على لسان هارون عليه السلام في حواره مع أخيه موسى عليه السلام: { لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي } [طه: 94]

وذلك جوابا عن ذلك العتاب الذي تلقاه من أخيه بسبب عدم شدته مع السامري وأصحابه، وقال له في ذلك: { يَاهَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه: 92، 93]

وقد قبل موسى عليه السلام العلة التي ذكرها هارون، لكونها علة شرعية، فالفتنة الناتجة من التفرقة والصراع كانت أكبر من تلك الوثنية التي وقع فيها السامري وأصحابه.

وهكذا نجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمارس هذا النوع من التقية حرصا على وحدة الأمة الإسلامية في بداية نشأتها، ومن الأمثلة على ذلك ما ورد في الحديث عن عائشة قالت: سألت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم عن الحِجرِ، فقال: هو من البيت، قلت: ما منعهم أن يدخلوه فيه؟ قال: عجزت بهم النفقة، قلت: فما شأن بابه مرتفعاً، لا يُصعد إليه إلا بسلّم؟ قال: (ذلك فعل قومك، ليدخلوه من شاءوا ويمنعوه من شاءوا، ولولا أنّ قومك حديثو عهد بكفر مخافة أن تنفر قلوبهم، لنظرت هل أغيّره فأدخل فيه ما انتقص منه، وجعلت بابه بالأرض)([82]

ومثله ما ورد في مداراة بعض الناس خشية من شرهم، فعن عروة بن الزبير أنّ عائشة أخبرته أنّ رجلاً استأذن في الدخول إلى منزل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (ائذنوا له فبئس ابن العشيرة، أو بئس أخو العشيرة)؛ فلمّا دخل ألآن له الكلام. فقلت له: يا رسول اللّه قلت ما قلت ثمّ ألنت له في القول؟ فقال: (أي عائشة، إنّ شرّ الناس منزلة عند اللّه من تركه ـ أو ودَعَهُ الناس ـ اتّقاء فُحشه)([83])، فقد صرح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث بأنه ترك مصارحة ذلك الشخص، اتقاء لفحشه، مع أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يخف على نفسه منه، وإنما حرص على الوحدة وتآلف القلوب، ولو في الظاهر.

ويدخل في هذا الباب كل الأحاديث الواردة في الدعوة للمداراة والصبر والتحمل، كما في الحديث المعروف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (المؤمن الذي يخالط الناس، ويصبر على أذاهم أعظم أجراً من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم)([84])، ولا يمكن للمؤمن أو غيره أن يصبر على الناس دون أن يداريهم أو يتعامل معهم بما يشتهون من المعاملة، وإن لم يكن راضيا عن ذلك.

ومثله ما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: (كيف أنتم في قوم مرجت عهودهم وأماناتهم وصاروا حثالة؟ وشبّك بين أصابعه. قالوا: كيف نصنع؟ قال: (اصبروا وخالقوا الناس بأخلاقهم، وخالفوهم بأعمالهم)([85])، وهو حديث صريح في الدعوة للتقية في مخالطة الناس، ومخالقتهم بأخلاقهم.

وقد ورد في النصوص ذم أمثال هؤلاء الناس الذين يحتاج المؤمن إلى ممارسة التقية عند صحبته لهم، ففي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (بئس القوم قوم يمشي المؤمن فيهم بالتقية والكتمان)([86]

وبناء على هذه النصوص وغيرها، نجد أئمة الشيعة يجيزون أن يترك الموالي لهم ما يراه من أحكام شرعية حتى لو كانت مبطلة لعمله حرصا على عدم صدع وحدة الأمة.. فالتقية بمفهومها عندهم لا تعني الحرص على النفس فقط حتى لا تؤذى، بل تعني كذلك الحرص على حفظ وحدة صف الأمة، وعدم التسبب في وقوع الشقاق بينها.

فمن الروايات في ذلك ما رواه جابر الجعفي، قال: سألت أبا جعفر الباقر: (إن لي جيراناً، بعضهم يعرف هذا الأمر ـ أي ولاية أهل البيت k ـ وبعضهم لا يعرف، قد سألوني أن أؤذّن لهم، وأصلي بهم، فخفت أن لا يكون ذلك موسَّعاً لي؟ فقال: (أذّن لهم، وصلِّ بهم، وتحرَّ الأوقات)([87])

وروي عن الصادق أنه قال: (من صلى معهم في الصف الأول كان كمَنْ صلى خلف رسول الله k في الصف الأول)([88])، وقال: (إذا صلَّيت معهم غفر لك بعدد مَنْ خالفك)([89])

وعن أبي علي قال: قلت لأبي عبدالله الصادق: إن لنا إماماً مخالفاً، وهو يبغض أصحابنا كلهم؟ فقال: (ما عليك من قوله، والله لئن كنت صادقاً لأنت أحق بالمسجد منه، فكُنْ أول داخل وآخر خارج، وأحسن خلقك مع الناس، وقُلْ خيراً)([90])

وعن إسحاق بن عمار، قال: قال لي أبو عبدالله الصادق: (يا إسحاق، أتصلي معهم في المسجد؟ قلت: نعم، قال: (صلِّ معهم؛ فإن المصلي معهم في الصف الأول كالشاهر سيفه في سبيل الله)([91])

وعن عبدالله بن سنان قال: سمعت أبا عبدالله يقول: (أوصيكم بتقوى الله عز وجل، ولا تحملوا الناس على أكتافكم فتذلّوا، إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً}، ثم قال: عودوا مرضاهم، واشهدوا جنائزهم، واشهدوا لهم وعليهم، وصلّوا معهم في مساجدهم) ([92])

وعن زيد الشحّام، عن جعفر بن محمد، أنه قال له: (يا زيد، خالقوا الناس بأخلاقهم، صلّوا في مساجدهم، وعودوا مرضاهم، واشهدوا جنائزهم، وإن استطعتم أن تكونوا الأئمة والمؤذِّنين فافعلوا، فإنكم إذا فعلتم ذلك قالوا: هؤلاء الجعفرية، رحم الله جعفراً ما كان أحسن ما يؤدِّب أصحابه. وإذا تركتم ذلك قالوا: هؤلاء الجعفرية، فعل الله بجعفر ما كان أسوأ ما يؤدِّب أصحابه)([93])

وهكذا يفتي كبار علماء الشيعة ومراجعهم في القديم والحديث، فمن المتقدمين قال الشهيد الأول محمد بن مكي العاملي: (ويستحبّ حضور جماعة العامة، كالخاصة، بل أفضل، فقد روي: من صلى معهم في الصف الأول كان كمَنْ صلى خلف رسول الله‘ فيه. ويتأكد مع المجاورة. ويقرأ في الجهرية سرّاً، ولو مثل حديث النفس، وتسقط لو فجأه ركوعهم، فيتمّ فيه إن أمكن، وإلا سقط)([94])

ومن المتأخرين قال السيد شرف الدين الموسوي: (حاشا أمير المؤمنين ـ علياً ـ أن يصلّي إلا تقرُّباً لله وأداءً لما أمره الله به، وصلاته خلفهم ـ أي الخلفاء ـ ما كانت إلا خالصة لوجهه الكريم، وقد اقتدينا به ع، فتقرّبنا إلى الله عزّ وجلّ بالصلاة خلف كثير من أئمّة جماعة أهل السنّة، مخلصين في تلك الصلوات لله تعالى. وهذا جائز في مذهب أهل البيت. ويُثاب المصلّي منّا خلف الإمام السني كما يُثاب بالصلاة خلف الشيعي. والخبير بمذهبنا يعلم أنّا نشترط العدالة في إمام الجماعة إذا كان شيعيّاً، فلا يجوز الائتمام بالفاسق من الشيعة، ولا بمجهول الحال، أمّا السنّي فقد يجوز الائتمام به مطلقاً)([95])

ونفس الموقف نجده عند الكثير من أئمة المدرسة السنية، فقد روي عن الشافعي أنه صلى الصبح في مسجد أبي حنيفة، وكان الشافعي يرى القنوت في صلاة الصبح، ويرى الجهر بالبسملة، لكنه لم يقنت ولم يجهر ببسم الله تأدباً مع أبي حنيفة واحتراما لأصحابه([96])..

وقد ذكر القرطبي أن ذلك كان شأن أئمة المذاهب الفقهية، فقال: (كان أبو حنيفة وأصحابه والشافعي وغيرهم يصلون خلف أئمة أهل المدينة من المالكية وإن كانوا لا يقرؤون البسملة لا سراً ولا جهراً.. وصلى أبو يوسف خلف الرشيد وقد احتجم وأفتاه مالك بأنه لا يتوضأ فصلَّى خلفه أبو يوسف ولم يُعد، رغم أنه يرى أن خروج الدم بحجامة أو غيرها ينقض الوضوء)([97])

ب ـ حفظ الدعاة إلى الإسلام:

وقد اخترنا أن نعبر بهذا التعبير للتفرقة بين سعي الإنسان لحفظ نفسه من أجل نفسه، والذي قد يكون مذموما إن لم يصادف محله المناسب، وبين التقية التي يقصد صاحبها الحفاظ على نفسه، حتى يستطيع أن يؤدي دوره الدعوي في أكمل صوره.

وقد ذكر القرآن الكريم مثالا لذلك بمؤمن آل فرعون، الذي أخبر أنه كان يكتم إيمانه، واستطاع بسبب ذلك أن يثني فرعون عمّا عزم عليه من جرم عظيم.

ومن هذا الباب ورد في النصوص المقدسة إجازة التقية للمؤمنين الذين يتعرضون للبلاء حرصا عليهم، لأنه لا يمكن أن تستمر الدعوة الإسلامية من دونهم، قال تعالى: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً } [آل عمران: 28]

ولهذا مارس الصحابة المستضعفون التقية في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد روي في كتب السيرة في شأن تعذيب المشركين للمستضعفين من المسلمين: (.. فأخذهم المشركون وألبسوهم أدراع الحديد وصهروهم في الشمس، فما منهم أحد إلا وقد وآتاهم على ما أرادوا إلا بلالاً)([98]

وفي حديث آخر: (أخذ المشركون عمّار بن ياسر فعذّبوه حتّى باراهم في بعض ما أرادوا، فشكا ذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئنّاً بالإيمان، قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: (فإن عادوا فعد)([99]

وفي رواية أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن عمّار: يا رسول اللّه إنّ عماراً كفر، فقال: (كلا، إنّ عمّاراً مليء إيماناً من فرقه إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه)، فأتى عمّار رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وهو يبكي، فجعل رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يمسح عينيه ويقول: ما لك؟ إن عادوا لك، فعد لهم بما قلت)([100]

وهكذا استمرت ممارستهم لها في كل المراحل حتى بعد مرور مرحلة الاستضعاف؛ فقد روى الحسن البصري أنّ عيوناً لمسيلمة الكذّاب أخذوا رجلين من المسلمين فأتوه بهما، فقال لأحدهما: أتشهد أنّ محمّداً رسول اللّه؟ قال: نعم. قال: أتشهد انّي رسول اللّه، فأبى ولم يشهد، فقتلهُ. وقال مثل ذلك للثاني فشهد لمسيلمة الكذّاب بما أراد، فأطلقه، فأتى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وأخبره بما جرى، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (أمّا صاحبك فمضى على إيمانه، وأمّا أنت فأخذت بالرخصة)([101]

وقد استمر الصحابة في ممارسة هذا النوع من التقية بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد روي عن أبي الدرداء أنّه كان يقول: (إنّا لنكشّر في وجوه أقوام، وإن قلوبنا لتلعنهم)([102])

وروي عن أبي هريرة قال: (حفظت من رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وعاءين: فأمّا أحدهما فبثثته، وأمّا الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم)([103]

وقد ذكر ابن حجر العسقلاني (توفي 852ه‍) أن التقية هي التي حملت أبا هريرة على فعل ذلك، فقد قال: (وحمل العلماء الوعاء الذي لم يبثه على الأحاديث التي فيها تبيين أسامي اُمراء السوء، وأحوالهم، وزمنهم. وقد كان أبو هريرة يكني عن بعضه ولا يصرح به خوفاً على نفسه منهم، كقوله: (أعوذ باللّه من رأس الستين، وإمارة الصبيان). يشير إلى خلافة يزيد بن معاوية، لانّها كانت سنة ستين من الهجرة)، ثم نقل عن ابن المنير قوله: (وانما أراد أبو هريرة بقوله: (قُطع) أي: قَطع أهل الجور رأسه، إذا سمعوا عيبه لفعلهم، وتضليله لسعيهم)([104]

وحكى السرخسي ممارسة حذيفة بن اليمان للتقية، فقال: (وقد كان حذيفة رضي اللّه عنه ممن يستعمل التقية على ما روي أنّه يداري رجلاً، فقيل له: إنّك منافق!! فقال: لا، ولكني أشتري ديني بعضه ببعض مخافة أن يذهب كلّه)([105]

وهكذا وردت في الروايات ممارسة الكثير من الصحابة وغيرهم التقية في عهد معاوية ومن بعده من الأمراء الظلمة، فعن سعيد بن جبير قال: (كنت مع ابن عباس بعرفات، فقال ما لي لا اسمع الناس يلبون؟ قلت: يخافون من معاوية، فخرج ابن عباس من فسطاطه، فقال: لبيك اللهم لبيك، لبيك فإنهم تركوا السنة من بغض علي)([106]

وهكذا استمر القول بالتقية والعمل بها عند التابعين ومن بعدهم، وبناء على ذلك أجازها الفقهاء من جميع المذاهب الإسلامية.

وكنموذج على ذلك من المذهب الحنفي ما ذكره السرخسي (توفي 490ه‍)، وهو من كبار فقهاء الحنفية، فقد ذكر تقيّة عمّار بن ياسر وأصحابه، ثم علق عليها بقوله: (هذا النوع من التقية يجوز لغير الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام)([107])، وعلّق على كلام الحسن البصري: (إنّ التقيّة جائزة إلى يوم القيامة)، بقوله: (وبه نأخذ، والتقية أن يقي نفسه من العقوبة بما يظهره وإن كان يضمر خلافه. وقد كان بعض الناس يأبى ذلك، ويقول إنّه من النفاق، والصحيح انّ ذلك جائز، لقوله تعالى: { لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً } [آل عمران: 28]، وإجراء كلمة الشرك على اللسان مكرهاً مع طمأنينة القلب بالإيمان، من باب التقيّة) ([108]

ومثله ذهب أبو حامد الغزالي (توفي 505ه‍)، وهو من كبار فقهاء الشافعية، حيث قال في إحيائه عند (بيان ما رخّص فيه من الكذب): (إعلم إنّ الكذب ليس حراماً لعينه، بل لما فيه من الضرر على المخاطب أو على غيره، فإنّ أقلّ درجاته أن يعتقد المخبر الشيء على خلاف ما هو عليه فيكون جاهلاً، وقد يتعلّق به ضرر غيره. ورُبَّ جهل فيه منفعة ومصلحة، فالكذب محصّل لذلك الجهل، فيكون مأذوناً فيه، وربّما كان واجباً.. والكلام وسيلة إلى المقاصد، فكلّ مقصود محمود يمكن التوصّل إليه بالصدق والكذب جميعاً، فالكذب فيه حرام، وإِن أمكن التوصّل إليه بالكذب دون الصدق، فالكذب فيه مباح، إن كان تحصيل ذلك القصد مباحاً، وواجب إن كان المقصود واجباً، كما انّ عصمة دم المسلم واجبة. فمهما كان في الصدق سفك دم امرئ مسلم قد اختفى من ظالم، فالكذب فيه واجب)([109]

وبيّن الغزالي الأحكام المرتبطة بذلك، وهي نفس الأحكام التي يذكرها الشيعة عند حديثهم عن التقية، فقال: (فلو صدق الإنسان في مواضع الضرر تولّد من صدقه محذور، فكان عليه أن يقابل أحدهما بالآخر، ويزن بالميزان القسط، فإذا علم انّ المحذور الذي يحصل بالصدق أشدّ وقعاً في الشرع من الكذب فله أن يكذب، وإن كان المقصود أهون من مقصود الصدق، فيجب الصدق. وقد يتقابل الأمران بحيث يتردّد فيهما، وعند ذلك، الميل إلى الصدق أولى، لأنّ الكذب يباح لضرورة، أو حاجة مهمّة) ([110])

ومثلهما نجد أعلام المذهب الحنبلي يذكرون التقية، ويجيزونها في محالها المناسبة لها، فقد نص ابن قدامة الحنبلي (توفي 620ه‍) على عدم جواز الصلاة خلف المبتدع والفاسق إلا إذا (خاف ممّا يلحقه من ضرر إن ترك الصلاة خلفه، ففي هذه الحالة يمكنه أن يصلّي خلفه تقية ثمّ يعيد الصلاة)، واحتج عليه بما روي عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري أنه قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على منبره يقول: (لا تؤمّنّ امرأة رجلاً، ولا يؤمّ أعرابي مهاجراً، ولا يؤمّ فاجر مؤمناً إلا أن يقهره بسلطان، أو يخاف سوطه، أو سيفه)([111]

ومثلهم جميعا أعلام المدرسة المالكية الذين اتفقوا على جواز التقية في محالها، فقد ذكر الإمام مالك (توفي 279ه‍) في المدوّنة الكبرى عدم وقوع طلاق المكره على نحو التقية، محتجّاً بذلك بقول ابن مسعود: (ما من كلام يدرأ عنّي سوطين من سلطان إلا كنت متكلّماً به)([112]

وهكذا نرى كل المذاهب الفقهية تقول بالتقية، وتجيزها للضرورة بناء على ما ورد في ذلك من النصوص المقدسة، بل قد حكي الإجماع في ذلك، فقد قال جمال الدين القاسمي: (ومن هذه الآية: { إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً } استنبط الأئمة مشروعية التقية عند الخوف، وقد نقل الإجماع على جوازها عند ذلك الإمام مرتضى اليماني في كتابه [إيثار الحق على الخلق])([113]

وهو يشير بذلك إلى قوله: (وزاد الحق غموضاً وخفاءً أمران: أحدهما: خوف العارفين ـ مع قلتهم ـ من علماء السوء وسلاطين الجور وشياطين الخلق مع جواز التقية عند ذلك بنص القرآن، واجماع أهل الإسلام، وما زال الخوف مانعاً من إظهار الحق، ولا برح المحق عدوّاً لأكثر الخلق، وقد صحّ عن أبي هريرة أنّه قال في ذلك العصر الأوّل: حفظت من رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وعاءين، أمّا أحدهما فبثثته في الناس وأمّا الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم)([114]

ولم يخرج الشيعة عن إجماع العلماء في ذلك، ولذلك أفتوا بما أفتى به سائر الأئمة، وربما يكون سبب شهرة التقية عنهم ما تعرضوا له من البلاء طيلة التاريخ الإسلامي، مما لم تتعرض له سائر المذاهب، ذلك أنهم كانوا يعتبرون من المعارضة، ولهذا اضطروا إلى حفظ أنفسهم ودعوتهم من ظلم الظلمة.

وقد أشار إلى هذه الضرورة العلامة المرجع الشيخ جعفر السبحاني في كتابه عن التقية، فقال: (الذي دفع بالشيعة إلى التقية بين اخوانهم وأبناء دينهم إنّما هو الخوف من السلطات الغاشمة فلو لم يكن هناك في غابر القرون ـ من عصر الأمويين ثمّ العباسيين والعثمانيين ـ أي ضغط على الشيعة، ولم تكن بلادهم وعقر دارهم مخضّبة بدمائهم والتاريخ خير شاهد على ذلك، كان من المعقول أن تنسى الشيعة كلمة التقية وأن تحذفها من ديوان حياتها، ولكن ياللأسف إنّ كثيراً من إخوانهم كانوا أداة طيّعة بيد الأمويين والعباسيين الذين كانوا يرون في مذهب الشيعة خطراً على مناصبهم، فكانوا يؤلِّبون العامة من أهل السنّة على الشيعة يقتلونهم ويضطهدونهم وينكلون بهم، ولذا ونتيجة لتلك الظروف الصعبة لم يكن للشيعة، بل لكل من يملك شيئاً من العقل وسيلة إلاّ اللجوء إلى التقية أو رفع اليد عن المبادئ المقدسة التي هي أغلى عنده من نفسه وماله)([115]

ثم ذكر الشواهد التاريخية الكثيرة الدالة على ذلك، وعلق عليها بقوله: (ونتيجة لذلك شهدت أوساط الشيعة مجازر بشعة على يد السلطات الغاشمة، فقتل الآلاف منهم، وأمّا من بقي منهم على قيد الحياة فقد تعرض إلى شتى صنوف التنكيل والارهاب والتخويف، والحق يقال إنّ من الأُمور العجيبة أن يبقي لهذه الطائفة باقية رغم كل ذلك الظلم الكبير والقتل الذريع) ([116])

 ثم خاطب السنيين الذين ينكرون على الشيعة ممارسة التقية، فقال: (فلو كان الأخ السنّي يرى التقية أمراً محرّماً فليعمل على رفع الضغط عن أخيه الشيعي، وأن لا يضيق عليه في الحرية التي سمح بها الإسلام لأبنائه، وليعذره في عقيدته وعمله كما هو عذر أُناساً كثيراً خالفوا الكتاب والسنّة وأراقوا الدماء ونهبوا الدور فكيف بطائفة تدين بدينه وتتفق معه في كثير من معتقداته، وإذا كان معاوية وأبناء بيته والعباسيون كلّهم عنده مجتهدين في بطشهم وإراقة دماء مخالفيهم فماذا يمنعه عن إعذار الشيعة باعتبارهم مجتهدين؟)([117])

ورد على تلك الافتراءات التي تصور التقية باعتبارها تنظيمات سرية، بقوله: (إنّ أكثر من يَعيبُ التقية على مستعملها، يتصور أو يصوِّر أن الغاية منها هو تشكيل جماعات سرية هدفها الهدم والتخريب، كما هو المعروف من الباطنيين والأحزاب الإلحادية السرية، وهو تصور خاطئ ذهب إليه أُولئك جهلا أو عمداً دون أن يركّزوا في رأيهم هذا على دليل ما أو حجة مقنعة، فأين ما ذكرناه من هذا الذي يذكره، ولو لم تُلجئ الظروف القاهرة والأحكام المتعسفة هذا الجموع المستضعفة من المؤمنين لما كانوا عمدوا إلى التقية، ولما تحمّلوا عبء اخفاء معتقداتهم ولدعوا الناس إليها علناً ودون تردّد، إلاّ أنّ السيف والنطع سلاح لا تتردد كل الحكومات الفاسدة من التلويح بها أمام من يخالفها في معتقداتها وعقائدها) ([118])

هكذا عرض الشيخ جعفر السبحاني التقية بمفهومها الإسلامي الأصيل، والذي دلت عليه النصوص المقدسة، ودلت عليه قبل ذلك الفطرة الإنسانية السليمة، والذي يعارضه للأسف يكيل بالمكاييل المزدوجة، لأنه يجوز لنفسه، ولطائفته ما لا يجوزه لغيرها، وهو الظلم بعينه.

ثانيا ـ نصرة الإيرانيين للعقيدة الإسلامية

لا يمكن لمن يؤرخ للجهود التي قام بها علماء المسلمين في التعريف بالعقيدة الإسلامية ونصرتها ورد الشبه المختلفة عنها أن يلغي ذلك التراث الكبير الذي تركه كبار العلماء الإيرانيين من مختلف المدارس الإسلامية، ولا أن ينكره، ذلك أنه جزء مهم جدا لا يمكن الاستغناء عنه.

فأكبر الكتب في التوحيد وأصول الدين ألفت في مدن إيرانية تنعت اليوم للأسف بكونها أرضا للمجوس، وكون أهلها لم يسلموا طواعية ورغبة، وإنما أسلموا لينفذوا مؤامرتهم على الأمة، ولست أدري هل يمكن اعتبار تلك الكتب التي لم يؤلف مثلها في نصرة العقيدة الإسلامية من أدوات تلك المؤامرة المزعومة، أم لا؟

قد يستغرب القارئ الكريم هذا، ولكن هذا هو الواقع، ويمكن لمن شاء التأكد أن يبحث عن علماء التوحيد وأصول الدين في كتب الطبقات والرجال، وليس عليه سوى أن يكتب النسبة إلى المدن الإيرانية التي لا تزال إلى الآن تسمى بأسمائها القديمة، وسيجد العجب العجاب.

ومثلما فعلنا في الفصول السابقة، فسنكتفي هنا بذكر نماذج عن كبار علماء التوحيد الإيرانيين الذين أثروا الساحة العقدية الإسلامية بمنتجاتهم العلمية، والتي لا تزال تدرس إلى الآن، والتي يمكن الاستغناء عن كثير من غيرها، ولا يمكن الاستغناء عنها، وقد اخترنا تقسيمها بحسب المدارس العقدية الكبرى إلى الطائفتين الكبيرتين الكريمتين في الإسلام: السنة والشيعة.

1 ـ علماء العقيدة من المدرسة السنية:

من أهم المزايا التي نجدها في التراث العقدي المؤلف في إيران ذلك التنوع الكبير في المدارس التي ينتمي إليها أصحاب ذلك التراث، وهو ما يدل على أن الروح العلمية كانت سائدة في المدن الإيرانية ومدارسها المختلفة، وهي ميزة لا نزال نجدها إلى الآن، فالمكتبات الإيرانية تحوي جميع أصناف الكتب، ومن جميع المدارس الإسلامية، والمجامع العلمية الإيرانية تدرس جميع المذاهب، ولا تضيق بواحد منها.

ومن الأمثلة على ذلك أننا نجد علماء التوحيد من مدرسة أهل الحديث يعيشون في بلاد واحدة مع الذي يختلفون معهم اختلافا شديدا من علماء الكلام، فابن خزيمة مثلا، والذي يعتبره السلفية وأهل الحديث إمام أئمتهم كان يعيش في نيسابور تلك البلدة التي خرج منها كبار المتكلمين في الإسلام من أمثال أبي القاسم القشيري وأبي سعد النيسابوري وغيرهم كثير.

بناء على هذا سنذكر هنا نماذج مختصرة لكبار المتكلمين المناصرين للعقيدة الإسلامية، مع التعريف بأهم آثارهم التي تركوها في المجال العقدي، وذلك من خلال نسبتهم إلى المدن الإيرانية، كما فعلنا ذلك سابقا.

المتكلمون من طهران:

ونبدأ بطهران التي كانت في ذلك الحين قرية صغيرة من قرى الري، حيث نجد الكثير من الرازيين ممن اشتهروا بالبحث في العقيدة الإسلامية، ونصرتها، وعلى رأسهم أكبر متكلم في الإسلام، ممن كتب في العقيدة وناظر فيها، وترك فيها المؤلفات الكثيرة، وهو فخر الدين الرازي (توفي 606 هـ)

وميزته التي أتاحت له أن ينتصر للعقيدة الإسلامية ورد الشبه عنها هو امتلاكه للكثير من الأدوات التي تخول له ذلك، فهو متكلم أصولي ومفسـر ومؤرخ وعالم لغة وطبيب وفيلسوف([119]).

ولد الفخر الرازي في مدينة الري قرب طهران، في أسرة اشتهرت بالعلم والفضل؛ فقد كان أبوه أحد علماء الشافعية في مدينة الري، وكان هو الآخر أحد أئمة الإسلام ومقدما فِي علم الكلام، حيث درسه على ابن القاسم الأنصاري تلميذ إمام الحرمين الجويني.

وقد ترك لنا الكثير من المصادر العقدية الكبرى بالإضافة إلى تفسيره الكبير الذي يعتبر نموذجا مثاليا عن التفاسير العقدية، ومنها الأربعين في أصول الدين، وأساس التقديس، ومحصل أفكار المتقدمين والمتأخرين من الحكماء والمتكلمين في علم الكلام، وشرح عيون الحكمة لابن سينا، واعتقادات فرق المسلمين والمشركين، ونهاية العقول في دراية الأصول، وكتاب القضاء والقدر، وعصمة الأنبياء، ورسالة الحدوث، والمباحث المشرقية في العلم الإلهي، والمطالب العالية في الكلام، والملخص في المنطق والحكمة.

وهذه كلها مراجع كبرى لا يمكن للباحثين في العقيدة الإسلامية أن يستغنوا عنها، ولهذا أثنى الكثير من العلماء عليه، وعلى جهوده في جميع المجالات، وخصوصا في نصرة العقيدة الإسلامية.

فقد وصفه الصفدي بقوله ([120]):

عَلامَة الْعلمَاء وَالْبَحْر الَّذِي

   لَا يَنْتَهِي وَلكُل بحرٍ سَاحل

مَا دَار فِي الحنك اللِّسَان وقلبت

   قَلما بِأَحْسَن من ثناه أنامل

وقال عنه: (كان شديد الحرص جدا في العلوم الشرعية والحكمة، اجتمع له خمسة أشياء ما جمعها الله لغيره فيما علمته من أمثاله، وهي سعة العبارة في القدرة على الكلام، وصحة الذهن، والاطلاع الذي ما عليه مزيد، والحافظة المستوعبة، والذاكرة التي تعينه على ما يريده في تقرير الأدلة والبراهين، وكان فيه قوة جدلية، ونظره دقيق، وكان عارفا بالأدب له شعر بالعربي ليس في الطبقة العليا ولا السفلى، وشعر بالفارسي لعله يكون فيه مجيدا) ([121])

وهكذا نجد الكثير من المتكلمين في الري، والذين يغني عنهم جميعا الفخر الرازي.

المتكلمون من نيسابور:

وهم كثيرون جدا، ومن مدارس مختلفة، وعلى رأسهم إمام الحرمين أبي المعالي الجويني (419هـ – 478هـ)، الذي ولد ـ مثل الفخر الرازي ـ في أسرة علمية، فقد كان فأبوه واحدا من علماء وفقهاء نيسابور المعروفين، وله مؤلفات كثيرة في التفسير والفقه والكلام.

ويعتبر من علماء الكلام الكبار، وقد قال عنه د. محمد الزحيلي في كتابه الذي ألفه عنه: (كان الدافع لدراسة أصول الدين أولا، وتأكيده بدراسة الفلسفات المتنوعة، هو الحرص على الإسلام والدعوة إليه، ورد شبهات الأعداء عنه، وتفنيد حجج الطاعنين به من الكفار والمشركين خارج الدعوة الإسلامية، والملحدين الذين انضووا تحت لواء المسلمين، وتستروا بالباطنية وغيرها من الفرق الضالة، للدس على الإسلام، والتشكيك فيه، وإثارة الشبه بين المسلمين.. فصار دراسة أصول الدين وعلم الكلام وتدريسه والتأليف فيه السبيل القويم أمام المسلمين، فانكب العلماء على دراسته وتدريسه والتصنيف فيه، وهو ما سلكه إمام الحرمين الجويني)([122])

وقال عنه الحافظ أبو محمد الجرجاني: (هو إمام عصره، ونسيج وحده، ونادرة دهره، عديم المثل في حفظه، وبيانه ولسانه)([123])

وقال عنه تلميذه عبد الغافر الفارسي: (إمام الحرمين، فخر الإسلام، إمام الأئمة على الإطلاق، حبر الشريعة، المجمع على إمامته شرقا وغربا، المقر بفضله السراة والحداة، عجما وعربا، لم ترى العيون مثله قبله، ولا ترى بعده، رباه حجر الإمامة وحرك ساعده السعادة مهده، وأرضعه ثدي العلم والورع، إلى أن ترعرع فيه وينع، أخذ من العربية وما يتعلق بها أوفر حظ ونصيب، فزاد فيها على كل أديب، ورزق من التوسع في العبارة وعلوها ما لم يعهده من غيره)([124])

وقد ألف الكتب الكثيرة في الفقه والأصول وعلم الكلام والسياسة الشرعية والجدال وغيرها، ومما كتبه في نصرة العقيدة الإسلامية: الشامل في أصول الدين، والإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد، ولمع الأدلة في قواعد عقائد أهل السنة والجماعة، والعقيدة النظامية في الأركان الإسلامية، وشفاء العليل في بيان ما وقع في التوراة والإنجيل من التبديل، وقصيدة على غرار قصيدة ابن سينا في النفس، وغيرها.

ومنهم أبو القاسم الأنصاري النيسابوري([125]) (توفي 511 هـ) الملقب بالأستاذ الإمام، ناصر السنة، إمام المتكلمين، سيف النظر ([126])، وقد كان من كبار علماء الكلام الأشاعرة بالإضافة إلى اهتمامه بعلم التفسير، وعلم الحديث والتصوف.

ومن مؤلفاته في علم الكلام [شرح الإرشاد]، وهو من أشهر كتبه، وقد نهج فيه على طريقة الأشاعرة، وخصوصا على طريقة شيخه أبي المعالي الجويني؛ الذي لا يذكره إلا بأجل الألقاب المشعرة بتوقيره واحترامه والاعتراف له للإمامة والفضل([127]).

وقد قال بعض الباحثين عن مدى تأثيره في الثقافة الإسلامية: (حاز أبو القاسم الأنصاري على السبق في الإمامة في الدين والعلم والزهد والورع؛ وفي علم الأصول، والسلوك، والتفسير. ففي الأخلاق والسلوك: هو الصوفي، الإمام، الورع، فريد عصره في الفقه، بيته بيت الصلاح والتصوف الزهد.. وفي أصول الدين: صنف تصانيف حسنة، وأخذ في الإفادة، وكان حسن الطريقة، دقيق النظر، واقفاً على مسالك الأئمة وطرقهم في علم الكلام، بصيراً بمواضع الإشكال.. وفي أصول الحديث: فقد كان العالم المؤصل للمسائل ذا منهج قويم، وقد ظهر تأثير هذه الثقافة التأصيلية في كتابه الغنية؛ فنجده يناقش قضايا في منهجية الحديث؛ مثل: مراتب نقل الأخبار، وإفادة خبر الواحد العلم، والاستدلال بالخبر فرع ثبوته، وغيرها. والأنصاري كذلك صاحب رواية؛ له روايات حكى بعضها ابن عساكر. كما أن عناية الأنصاري بالحديث في كتابه الغنية دراية أمر راسخ في استدلالاته.. وفي التفسير: هو الإمام المقدم؛ الذي يعتمد المفسرون ما أثر عنه من أقوال في التفسير، مطمئنين مستأنسين بما رجحه، كما ذكر عنه أنه صنف في التفسير)([128])

ولعل أحسن صفة فيه بالإضافة إلى كل ما ذكر سابقا هو ذلك البعد المتسامح في شخصه، والذي جعله ينأى عن التعصب والتكفير، فقد روي أنه سُئل عن تكفير المعتزلة، فقال لا؛ لأنهم نزهوه، ثم سئل عن أهل الحديث، فقال لا؛ لأنهم عظموه([129]).. فقد اعتذر لكلا الفريقين مع البعد الشديد بينهما.

ومنهم أبو عثمان الصابوني النيسابوري ([130]) (373 هـ -449 هـ)، وهو من كبار علماء العقيدة في المدرسة السلفية، وصاحب أشهر كتبها [عقيدة السلف أصحاب الحديث]

وصفه عبد الغافر الفارسي في كتابه [السياق لتاريخ نيسابور] بأنه (الإمام شيخ الإسلام الخطيب المفسّر المحدث الواعظ، أوحد وقته في طريقته، وعظ المسلمين في مجالس التذكير سبعين سنة، وخطب وصلى في الجامع -يعني: بنيسابور- نحواً من عشرين سنة)

وقال: (كان أكثر أهل العصر من المشايخ سماعاً وحفظاً ونشراً لمسموعاته وتصنيفاته، وجمعاً وتحريضاً على السماع، وإقامة لمجالس الحديث، سمع الحديث بنيسابور وبسرخس وبهراة وبالشام وبالحجاز وبالجبال، وحدث بكثير من البلاد، وأكثر الناس في السماع منه)

قال: (أقعد بمجلس الوعظ مقام أبيه، وحضر أئمة الوقت مجالسه، وأخذ الإمام أبو الطيب سهل بن محمد الصعلوكي في تربيته وتهيئة أسبابه، وكان يحضر مجالسه ويثني عليه، وكذلك سائر الأئمة كالأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني والأستاذ الإمام أبي بكر بن فورك، وسائر الأئمة كانوا يحضرون مجلس تفسيره، ويتعجبون من كمال ذكائه وعقله وحسن إيراده الكلام عربيه وفارسيه، وحفظه للأحاديث، حتى كبر وبلغ مبلغ الرجال ولم يزل يرتفع شأنه حتى صار إلى ما صار إليه، وهو في جميع أوقاته مشتغل بكثرة العبادات ووظائف الطاعات، بالغ في العفاف والسداد وصيانة النفس، معروف بحسن الصلاة وطول القنوت واستشعار الهيبة حتى كان يُضرب به المثل)

ومنهم أحمد بن الحسين بن علي بن عبد الله بن موسى البيهقي النيسابوري([131]) [384 ـ 458هـ]، الذي وصف بأنه (الإمام، العلامة، الحافظ)، وقد ولد في ولد في خسروجرد، وهي قرية من قرى بيهق بنيسابور، ونشأ في بيهق التي كانت تموج حينها بالحركة العلمية الواسعة، ولذلك تسنى له أن يلتقي بالكثير من علماء عصـره، في سن مبكرة، ويكتب عنهم الحديث.

وقد قال متحدثا عن نفسه، وعن مرحلة طلبه للعلم: (كتبت الحديث من سنة تسع وتسعين وثلاثمائة، وأدركت بعض أصحاب الشرقيين، وابن الأعرابي، والصفار والرزاز والأصم وابن الأخرم.. وإني منذ نشأت، وابتدأت في طلب العلم أكتب أخبار سيدنا المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وأجمع آثار الصحابة الذين كانوا أعلام الدين، وأسمعها ممن حملها، وأتعرف أحوال روايتها من حفظها، وأجتهد في تمييز صحيحها من سقيمها، ومرفوعها من موقوفها، وموصولها من مرسلها، ثم أنظر في كتب هؤلاء الأئمة الذين قاموا بعلم الشريعة، وبنى كل واحد منهم مذهبه على مبلغ علمه من الكتاب والسنة، فأرى كل واحد منه رضي الله عنهم جميعهم قصد الحق فيما تكلف واجتهد في أداء ما كلف)

من أشهر مؤلفاته في العقائد: إثبات عذاب القبر، والأسماء والصفات، والاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد على مذهب السلف وأصحاب الحديث، والبعث والنشور، وشعب الإيمان، وحياة الأنبياء في قبورهم بعد وفاتهم، والقضاء والقدر، والإيمان (مختصر شعب الإيمان)، وأحكام القرآن، ودلائل النبوة.

ومنهم أبو سهل محمد بن سليمان الصعلوكي النيسابوري (296هـ-369هـ)، وهو فقيه شافعي ومتكلم ونحوي ومفسر ولغوي وصوفي.

وقد وصفه الحاكم بقوله: (هو حبر زمانه، وبقية أقرانه.. وناظر وبرع، ثم استدعي إلى أصبهان.. أفتى ودرس بنيسابور نيفاً وثلاثين سنة)، وقال الفقيه أبو بكر الصيرفي: (لم يَرَ أهل خراسان مثل أبي سهل)، وقال الصاحب بن عباد: (ما رأينا مثل أبي سهل، ولا رأى مثل نفسه)، وقال أبو عبد الله الحاكم: (أبو سهل مفتي البلدة وفقيهها، وأجدل من رأينا من الشافعية بخراسان، وهو مع ذلك أديب شاعر نحوي كاتب عروضي، صحب الفقراء)([132])

المتكلمون من أصفهان:

باعتبار أصفهان كانت مركزا من مراكز الحضارة الإسلامية، فقد ظهر فيها الكثير من أعلام العقيدة، ومن المدارس المختلفة، ولعل أشهرهم أبو بكر بن فُورَك الأصفهاني([133])، العالم في المجالات المختلفة، فهو متكلم ومفسر وفقيه وأصولي ونحوي وأديب، له ما يقرب من المائة كتاب في أصول الدين وأصول الفقه ومعاني القرآن وعلم الحديث.

وهو من كبار من ردوا على السلفية المجسمة، وكان قد رأى أن السبب في وقوعهم في التشبيه ما ورد في النصوص المقدسة من المتشابه الذي لم يفهموه حق فهمه، لذلك راح يشتغل برد المحكم إلى المتشابه في أكثر كتبه، والتي يمكن اعتبارها مصادر في هذا الباب، وقد أعانه عليه كونه نحويا وأديبا وله ذوق كبير في اللغة العربية.

وقد ذكر سبب ذلك الاهتمام برد المتشابه إلى المحكم، فقال: (كان سبب اشتغالي بعلم الكلام أني كنت بأصفهان أختلف إلى فقيه، فسمعت أن (الحجر يمين الله في الأرض)([134])، والمعنى أنه وضع في الأرض للتقبيل والاستلام تشريفًا له كما شرفت اليمين وأكرمت بوضعها للتقبيل دون اليسار في العادة، فاستعير لفظ اليمين للحجر لذلك، وأضيف الحجر إلى الله إضافة تشريف وإكرام، فسألت ذلك الفقيه عن معناه فلم يُجب بجواب شاف، فأُرشدت إلى فلان من المتكلمين فسألته فأجاب بجواب شاف، فقلت لابد لي من معرفة هذا العلم فاشتغلت به)

وقد جعله ذلك يتعرض لكثير من المحن من طرف المجسمة الذين كانت تمثلهم في ذلك الحين فرقة الكرامية، فقد وشوا به إلى السلطان محمود بن سبكتكين مدعين أنه أنكر رسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد موته([135])، فعظم الأمر عند السلطان فأمر بإحضاره، ولما حضر بين يديه ظهر كذب المفترين عليه، فأمر السلطان بإعزازه وإكرامه وإرجاعه إلى وطنه.. لكن الكرامية لما أيست منه، وعلمت أن الوشاية به لم تتم، وأن مكايدها وحيلها لن تؤت نتيجة، سعت إلى قتله فدفعت إليه من دس له السم فمات على أثره([136]).

وقد قال يحدث عن نفسه وعن بعض المحن التي مر بها منطرف المجسمة: (حملت مقيدا إلى شيراز لفتنة في الدين، فوافينا باب البلد مصبحا، وكنت مهموما، فلما أسفر النهار وقع بصري علي محراب في مسجد على باب البلد، مكتوب عليه {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36]، فحصل لي تعريف باطني أني أكفى عن قريب، فكان كذلك، وصرفوني بالعز)

ومن مؤلفاته في العقيدة: مجرد مقالات الشيخ أبي الحسن الأشعري، وشرح أوائل الأدلة للكسبي في الأصول، والحدود في الأصول، والنظامي في أصول الدين، ومُشْكِل الحديث وغريبه. وهو كتاب يتناول فيه عددًا من الأحاديث المتشابهة فيؤولها ويبين معانيها، ومشكل الآثار، ودقائق الأسرار، وطبقات المتكلمين.

وقد أثنى عليه الكثير من العلماء، وخصوصا من الأشاعرة، فقد قال عنه الحاكم النيسابوري: (أحيا الله به بلدنا أنواعًا من العلوم لما استوطنها، وظهرت بركته على جماعة من المتفقهة وتخرجوا به)

وقال ابن عساكر: (أخبرنا الشيخ أبو الحسن عبد الغافر بن إسماعيل في كتابه إليَّ من نيسابور قال: سمعت الشيخ أبا صالح أحمد بن عبد الله المؤذن يقول: كان الأستاذ أوحد وقته أبو علي الحسن بن علي الدقاق يعقد المجلس ويدعو للحاضرين والغائبين من أعيان البلد وأئمتهم فقيل له: قد نسيت ابن فورك ولن تدع له، فقال أبو علي: كيف أدعو له وكنت أقسم على الله البارحة بإيمانه أن يشفي علتي. وكان به وجع البطن تلك الليلة)([137])

وقال ابن خلكان في الوفيات: (هو الأستاذ أبو بكر المتكلم الأصولي الأديب النحوي الواعظ الأصبهاني، درس بالعراق مدة، ثم توجه إلى الري، فسمعت به المبتدعة، فراسله أهل نيسابور، فورد عليهم، وينوا له بها مدرسة، ودارا، وظهرت بركته على المتفقهة، وبلغت مصنفاته قريبا من مائة مصنف، ودعي إلى مدينة غزنة، وجرت له بها مناظرات، وكان شديد الرد على ابن كرام، ثم عاد إلى نيسابور، فَسُمَّ في الطريق، فمات بقرب بست، ونقل إلى نيسابور، ومشهده بالحيرة ظاهر يزار، ويستجاب الدعاء عنده)

وقال التاج السبكي: (ابن فورك الأستاذ أبو بكر الأنصاري الأصبهاني الإمام الجليل، والحبر الذي لا يجاري فقها، وأصولا، وكلاما، ووعظا، ونحوا مع مهابة، وجلالة، وورع بالغ، رفض الدنيا وراء ظهره، وعامل الله في سره وجهره، وصمم على دينه)([138])

المتكلمون من شيراز:

حظيت شيراز بالكثير من علماء العقيدة الكبار، ومنهم ناصر الدين البيضاوي الشيرازي([139]) الشافعي (توفي 685 هـ)، وقد وصف بأنه (أحد علماء أهل السنة والجماعة، وهو فقيه وأصولي شافعي، ومتكلم ومحدث ومفسر ونحوي)([140])

ولد في أسرة علمية، فأبوه أبو القاسم عمر بن محمد بن أبي الحسن علي البيضاوي كان عالما تقلّد القضاء بشيراز سنين عديدة ودرسّ وأسمع وحدثّ، وقد ذكر البيضاوي أنه أخذ الفقه عن والده فقال: (اعلم أني أخذت الفقه عن والدي مولى الموالي الصدر العالي ولي الله الوالي قدوة الخلف وبقية السلف إمام الملة والدين أبو القاسم عمر قدسّ الله روحه وهو عن والده قاضي القضاة السعيد فخر الدين: محمد بن الإمام الماضي صدر الدين: أبي الحسن علي البيضاوي قدس الله أرواحهم)([141])

ومن مؤلفاته في العقيدة الإسلامية [طوالع الأنوار من مطالع الأنظار]، والذي اعتبره السبكي في طبقات الشافعية الكبرى (أجل مختصر في علم الكلام)، وذكر أن العلماء اعتنوا به كثيرا وشرحوه شروحا عديدة، وقد وضع لهذا الكتاب مختصرا سماه [مصباح الأرواح]

ومن مؤلفاته كذلك: مختصر الكشاف، والمنهاج في الأصول، وشرحه أيضا، وشرح مختصر ابن الحاجب في الأصول، وشرح المنتخب في الأصول للإمام فخر الدين، وشرح المطالع في المنطق، والإيضاح في أصول الدين.

ومنهم جلال الدين الدَّوَّاني (830هـ – 918هـ) وهو قاض، وفقيه شافعي، ومتكلم، ومفسر، وفيلسوف، وقد شرح عدداً من الكتب المشهورة في الفلسفة والتصوف.

ومن مؤلفاته: شرح العقائد العضدية، وشرح هياكل النور للسهروردي، وحاشية على شرح آداب الفاضل للشرواني، وحاشية على شرح القوشجي لتجريد الكلام، وحاشية على تحرير القواعد المنطقية للقطب الرازي، و(رسالة في إثبات الواجب) تحتوي على مسائل من كل علم([142]).

ومنهم القاضي عضد الدين أبو الفضل عبد الرحمن بن ركن الدين الشيرازي([143]) (680 ـ)، وهو قاضٍ ومتكلم وفقيه ولغوي، ومن كبار علماء الأشاعرة، وقد وصف بأنه كان (إماماً في المعقولات، محقّقاً، مدقّقاً، قائماً بالأصول والمعاني والعربية، مشاركاً في الفقه وغيره من الفنون، وأنجب تلاميذ عظاماً اشتهروا في الآفاق)

ومن أشهر مؤلفاته في العقيدة الإسلامية: كتاب المواقف في علم الكلام، والذي اعتنى به العلماء عناية بالغة، بل ظل عمدة في تدريس علم الكلام بالأزهر وغيره من معاهد العلم فترات طويلة، وما زال كذلك إلى يومنا هذا وعليه شروح كثيرة.

ومنها: جواهر الكلام، وهو مختصر لكتابه المواقف، ومنها الكواشف في شرح المواقف، ومنها العقائد العضدية، وهي مشهورة لاختصارها، ومنها عيون الجواهر، ومنها بهجة التوحيد، ومنها تحقيق التفسير في تكثير التنوير في تفسير القرآن، ومنها الرسالة العضدية في الوضع ضمن مجموع من مهمات المتون، ومنها شرح المقالة المفردة في صفة الكلام.

قال عنه تاج الدين السبكي في طبقات الشافعية الكبرى: (قاضي القضاة عضد الدين الشيرازي كان إماما في المعقولات، عارفا بالأصلين، والمعاني، والبيان، والنحو، مشاركا في الفقه، له في علم الكلام كتاب (المواقف) وغيره. وفي أصول الفقه (شرح المختصر) وفي المعاني والبيان (الفوائد الغياثية). وكانت له سعادة مفرطة، ومال جزيل، وإنعام على طلبة العلم، وكلمة نافذة)([144])

المتكلمون من شهرستان:

وهي مدينة من المدن الواقعة في إقليم فارس في إيران، وإليها ينسب الكثير من الأعلام وخصوصا من الشيعة، وإليها ينتسب كذلك أبو الفتح الشهرستاني (479هـ – 548هـ) الذي يعتبر من كبار المؤرخين للأديان والمذاهب الإسلامية.

وقد ألف في التفسير والفقه وعلم الكلام والفلسفة والتاريخ الفرق، وقد بلغ عدد مؤلفاته ما يزيد على عشرين مؤلفاً، ومنها الملل والنحل وهو أشهر كتبه، ونهاية الإقدام في علم الكلام، ومصارعة الفلاسفة، ومجلس في الخلق والأمر، وبحث في الجوهر الفرد، ومفاتيح الأسرار ومصابيح الأبرار، ورسالة في المبدأ والمعاد، والمناهج في علم الكلام، ودقائق الأوهام، وشبهات أرسطو وبرقلس وابن سينا ونقضها.

المتكلمون من طوس:

وهي ـ كما ذكرنا سابقا ـ من المدن التاريخية الأثرية بإيران، وتسمى اليوم (مشهد الرضا)، وقد ظهر فيها الكثير من أعلام المتكلمين من المدارس الإسلامية المختلفة، وأشهرهم على الإطلاق أبو حامد محمد الغزّالي الطوسي النيسابوري الصوفي الشافعي (450 هـ – 505 هـ)، والذي اشتهر في الفنون العلمية المختلفة.

وبالإضافة إليها، فقد كتب في نصرة العقيدة الإسلامية مجموعة كتب لا تزال تدرس إلى الآن منها [الاقتصاد في الاعتقاد]، وهو كتاب في عقيدة أهل السنة على طريقة الأشاعرة، وهو آخر كتاب ألفه الغزالي قبل تخليه عن التدريس في المدرسة النظامية ودخول العزلة، وقد شرح من قبل كثير من العلماء، ومن شروحه كتاب الاقتصاد في كفاية الاعتقاد، لمؤلفه شهاب الدين أحمد بن عماد الأقفهسي.

ومن كتبه المهمة والرائدة في العقيدة (المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى)، وهو كتاب فريد في بابه تكلم فيه كلام الذائق المشاهد الذي عاش الإيمان، واستولى على قلبه، لا كلام من غلبت عليه صناعة المتكلمين وتدقيقاتهم.

ومنها (إلجام العوام عن علم الكلام)، وقد رد فيه على غلو المجسمة كـ (الكرامية)([145])و(المشبهة)([146]) وغيرهم، ولذلك فإن الغزالي ناصر، بالنسبة للعامة، في هذا الكتاب منهج التفويض، بعد أن ناصر في كتبه الأخرى منهج التأويل ([147]).

ولعل أهم كتبه في هذا المجال كتابه الذي واجه به ظاهرة التكفير التي استشرت في زمانه، وأعطى قوانين مهمة لذلك، وهو كتابه المعروف [فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة]، والذي يقول في مقدمته: (إني رأيتك أيها الأخ المشفق منقسم الفكر لما قرع سمعك من طعن طائفة من الحسدة على بعض كتبنا المصنفة في أسرار معاملات الدين، وزعمهم أن فيها ما يخالف مذاهب الأصحاب المتقدمين والمشايخ المتكلمين، وأن العدول عن مذهب الأشعري ولو في قيد شبر كفر، ومباينته ولو في شيء نزر ضلال وخسر)([148])

ثم يسأل هؤلاء المتعصبين عن الميزان الذي رأوا به أن الحق قاصر على الأشعري أو غيره مع أن الباقلاني نفسه، وهو من أتباع الأشعري، يخالفه في صفة البقاء لله تعالى، وأنه ليس وصفا زائدا على الذات، (لم صار الباقلاني أولى بالكفر بمخالفته الأشعري من الأشعري بمخالفته الباقلاني؟ ولم صار الحق وقفا على أحدهما دون الثاني؟ أكان ذلك لأجل السبق في الزمان، فقد سبق الأشعري غيره من المعتزلة، فليكن الحق للسابق عليه، أم لأجل التفاوت في الفضل والعلم؟ فبأي ميزان ومكيال قدر درجات الفضل؟)([149])

ثم يعقب على ذلك بقوله:(فإن رخص للباقلاني في مخالفته فلم حجر على غيره؟)([150])

وهو يبين أن سبب هذه الظاهرة، والتي لم يخلو منها عصر من العصور الإسلامية، غلبة الجهل، أو ما يسمى بالجهل المركب، وخاصة ممن بضاعتهم الفقه المجرد، يقول في ذلك:(فإذا رأيت الفقيه الذي بضاعته مجرد الفقه يخوض في التكفير والتضليل، فأعرض عنه، ولا تشغل به قلبك ولسانك، فإن التحدي بالعلوم غريزة في الطبع لا يصبر عنه الجهل، ولأجله كثر الخلاف بين الناس)([151])

ويمثل لهؤلاء ببعض المتكلمين في العقائد الذين كفروا عوام المسلمين، و(ضيقوا رحمة الله الواسعة على عباده، وجعلوا الجنة وقفا على شرذمة يسيرة من المتكلمين)([152])

ولذلك يتشدد الغزالي في شروط من له حق التكفير والتضليل حتى لا يبقى مشاعا بين العامة، أو من هو في حكمهم، يقول الغزالي:(ولا ينكشف هذا إلا لقلوب طهرت عن وسخ أوضار الدنيا أولا، ثم صقلت بالرياضة الكاملة ثانيا، ثم نورت بالذكر الصافي ثالثا، ثم غذيت بالفكر الصائب رابعا، ثم زينت بملازمة حدود الشرع خامسا حتى فاض عليها النور من مشكاة النبوة)([153])

وبناء على ذلك وضع قوانين مهمة جدا يمكنها لو طبقت في عصرنا الحاضر أن تقي المجتمعات الإسلامية من ظاهرة التكفير بصورها المختلفة.

وبذلك يمكن اعتبار الغزالي رائدا في نواح كثيرة، مثله مثل الفخر الرازي وابن فورك والكثير من الأعلام الذين أنجبتهم إيران طيلة تاريخها.

2 ـ علماء العقيدة من المدرسة الشيعية:

يتصور الكثير من الناس بسبب الهجمة الإعلامية الشرسة على إيران والشيعة عموما، أن العقائد الشيعية مختلفة تماما عن العقائد السنية، وأن المسافة بينهما هائلة جدا، وهذا خطأ كبير، وهو ناتج من عدم المطالعة والبحث، وإلا فإن الباحث المنصف يجد أن المسافة التي تربط مدرسة كبيرة كالأشعرية مثلا مع الشيعة أكبر بكثير من المسافة التي تربط بينها وبين المدرسة السلفية، وخاصة في أمهات العقائد، ولا يعدو الخلاف بينهما مسألة الإمامة، ومن هم الأئمة، كما ذكرنا ذلك في المبحث الأول.

وحتى لا يقال: إن هذه المسافة القريبة ناشئة عن التقية، وأنها من فعل المعاصرين، فسأسوق نصوصا من المتون العقدية الشيعية التي يتبناها في العالم الإسلامي جميعا، مثلما تتبنى المدرسة السنية العقيدة الطحاوية أو الخريدة أو الجوهرة أو الواسطية، وغيرها.

وأول تلك المتون العقدية ما كتبه الإمام الرضا، وهو الإمام الثامن من أئمة الشيعة، والذي كان له تأثيره الكبير في نشر التشيع خاصة بعد رحلته إلى طوس، وقد كتب في رسالته في العقيدة التي لا يزال يحفظها الشيعة، ويشرحونها، يقول: (إن محض الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلها واحدا، أحدا، فردا، صمدا، قيوما، سميعا، بصيرا، قديرا، قديما، قائما، باقيا، عالما لا يجهل، قادرا لا يعجز، غنيا لا يحتاج، عدلا لا يجور، وأنه خالق كل شئ، ليس كمثله شئ، لا شبه له، ولا ضد له، ولا ند له، ولا كفو له، وأنه المقصود بالعبادة والدعاء والرغبة والرهبة، وأن محمدا عبده ورسوله وأمينه وصفيه وصفوته من خلقه، وسيد المرسلين وخاتم النبيين وأفضل العالمين، لا نبي بعده ولا تبديل لملته ولا تغيير لشريعته، وأن جميع ما جاء به محمد بن عبد الله هو الحق المبين، والتصديق به وبجميع من مضى قبله من رسل الله، وأنبيائه، وحججه، والتصديق بكتابه الصادق العزيز الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42]، وأنه المهيمن على الكتب كلها، وأنه حق من فاتحته إلى خاتمته، نؤمن بمحكمه ومتشابهه، وخاصه وعامه، ووعده ووعيده، وناسخه ومنسوخه، وقصصه وأخباره، لا يقدر أحد من المخلوقين أن يأتي بمثله)([154])

وهذا النص وحده كاف في تقرير جميع المسائل العقدية التي يتفق فيها المسلمون مع الشيعة، ذلك أن مبنى العقائد هو الإيمان بالله وبرسوله وبالقرآن الكريم، أما سائر العقائد كالإيمان بالملائكة واليوم الآخر وغيرها فهي موجودة في القرآن الكريم، ولا يمكن لمن يؤمن بالقرآن الكريم ألا يؤمن بها.

ثم ذكر لهم ما اختص به الشيعة من العقائد المرتبطة بالولاية، وهي كما ذكرنا موجودة عند كل طائفة، ولو لم ينصوا عليها، ذلك أنه لا يمكن لأحد أن يتبنى أي مذهب دون أن يثق في الأئمة المؤسسين له.

ومن المتون العقدية التي لا يزال الشيعة يتداولونها ما نص عليه السيد عبد العظيم الحسنى([155]) عند عرضه لعقيدته على الإمام الهادي، فقد روي عنه أنه قال: دخلت على سيدي علي بن محمد، فلما بصر بي، قال لي: مرحبا بك يا أبا القاسم أنت ولينا حقا، فقلت له: يا بن رسول الله إني أريد أن أعرض عليك ديني، فإن كان مرضيا أثبت عليه حتى ألقى الله عز وجل. فقال: هاتها أبا القاسم، فقلت: إني أقول: إن الله تبارك وتعالى واحد ليس كمثله شئ، خارج من الحدين، حد الإبطال، وحد التشبيه، وأنه ليس بجسم ولا صورة ولا عرض ولا جوهر، بل هو مجسم الأجسام ومصور الصور، وخالق الأعراض والجواهر، ورب كل شئ ومالكه وجاعله ومحدثه، وإن محمدا عبده ورسوله، خاتم النبيين فلا نبي بعده إلى يوم القيامة)([156])

وفي هذا النص رد على تلك الشبهة التي يثيرها الكثير من المغرضين ويصورون فيها أن الشيعة يقولون بالتجسيم، وهذا ما ترفضه جميع مصادرهم، والنصوص الثابتة عن أئمتهم.

ومن المتون العقدية التي لا يزال يتبناها الشيعة رسالة موجزة ألفها الشيخ الصدوق (306 – 381 ه‍) جاء فيها: (اعلم أن اعتقادنا في التوحيد: أن الله تعالى واحد أحد، ليس كمثله شئ، قديم، لم يزل، ولا يزال سميعا بصيرا، عليما، حكيما، حيا، قيوما، عزيزا، قدوسا، عالما، قادرا، غنيا، لا يوصف بجوهر ولا جسم ولا صورة ولا عرض.. وأنه تعالى متعال عن جميع صفات خلقه، خارج عن الحدين: حد الإبطال، وحد التشبيه، وأنه تعالى شئ لا كالأشياء، أحد صمد لم يلد فيورث، ولم يولد فيشارك، ولم يكن له كفوا أحد، ولا ند ولا ضد، ولا شبه ولا صاحبة، ولا مثل ولا نظير، ولا شريك له، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ولا الأوهام، وهو يدركها، لا تأخذه سنة ولا نوم، وهو اللطيف الخبير، خالق كل شئ لا إله إلا هو، له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين، ومن قال بالتشبيه فهو مشرك، ومن نسب إلى الإمامية غير ما وصف في التوحيد فهو كاذب، وكل خبر يخالف ما ذكرت في التوحيد فهو موضوع مخترع، وكل حديث لا يوافق كتاب الله فهو باطل، وإن وجد في كتب علمائنا فهو مدلس.. واعتقادنا أن القرآن الذي أنزله الله تعالى على نبيه محمد هو ما بين الدفتين، وهو ما في أيدي الناس ليس بأكثر من ذلك.. ومن نسب إلينا أنا نقول إنه أكثر من ذلك فهو كاذب)([157])

بعد هذا العرض الموجز للعقيدة الإسلامية التي يتبناها الشيعة، نحب أن نلخص هنا بعض ما ذكره الشيخ جعفر السبحاني ـ وهو من كبار علماء العقائد المعاصرين في إيران، بل في العالم الإسلامي أجمع ـ من مواضع الاتفاق والاختلاف بين الشيعة وغيرهم من المدارس الإسلامية، فقد عقد مطلبا بعنوان [الفرق بين الشيعة الإمامية والمعتزلة] في كتابه [أضواء على عقائد الشيعة الإمامية وتاريخهم]، ومن مواضع الاتفاق والاختلاف التي ذكرها ([158]):

الشفاعة: أجمع المسلمون كافة على ثبوت أصل الشفاعة، وأنها تقبل من الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، إلا أنهم اختلفوا في تعيين المشفع، فقالت الإمامية والأشاعرة: إن النبي يشفع لأهل الكبائر بإسقاط العقاب عنهم أو بإخراجهم من النار، وقالت المعتزلة: لا يشفع إلا للمطيعين المستحقين للثواب، وتكون نتيجة الشفاعة ترفيع الدرجة.

حكم مرتكب الكبيرة: هو عند الإمامية والأشاعرة مؤمن فاسق، وقالت المعتزلة: بل منزلته بين المنزلتين، أي بين الكفر والإيمان.

الجنة والنار: قالت الإمامية والأشاعرة: إنهما مخلوقتان الآن بدلالة الشرع على ذلك، وأكثر المعتزلة يذهب إلى أنهما غير موجودتين.

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: اتفق المسلمون على وجوبهما، فقالت الإمامية والأشاعرة: يجبان سمعا، ولولا النص لم يكن دليل على الوجوب، خلافا للمعتزلة الذين قالوا: بوجوبهما عقلا.

الإحباط: اتفقت الإمامية والأشاعرة على بطلان الإحباط، وقالوا: لكل عمل حسابه الخاص، ولا ترتبط الطاعات بالمعاصي ولا المعاصي بالطاعات، والإحباط يختص بذنوب خاصة كالشرك وما يتلوه، بخلاف المعتزلة حيث قالوا: إن المعصية المتأخرة تسقط الثواب المتقدم، فمن عبد الله طول عمره ثم كذب فهو كمن لم يعبد الله أبدا.

الشرع والعقل: تشددت المعتزلة في تمسكهم بالعقل، وتشدد أهل الظاهر في تمسكهم بظاهر النص، وخالفهما الإمامية والأشاعرة، فأعطوا للعقل سهما فيما له مجال القضاء، نعم أعطت الإمامية للعقل مجالا أوسع مما أعطته الأشاعرة.

قبول التوبة: اتفقت الإمامية والأشاعرة على أن قبول التوبة بفضل من الله ولا يجب عقلا إسقاطها للعقاب، وقالت المعتزلة: إن التوبة مسقطة للعقاب على وجه الوجوب.

التفاضل بين الأنبياء والملائكة: اتفقت الإمامية على أن الأنبياء أفضل من الملائكة، وأجمعت المعتزلة على خلاف ذلك.

الجبر والتخيير: اتفقت الإمامية على أن الإنسان غير مسير ولا مفوض إليه، بل هو في ذلك المجال بين أمرين، بين الجبر والتفويض، وأجمعت المعتزلة على التفويض.

حاجة التكليف لرسول: اتفقت الإمامية والأشاعرة على أنه لا بد في أول التكليف وابتدائه من رسول، وخالفت المعتزلة وزعموا أن العقول تعمل بمجردها عن السمع.

هذه جملة الأصول التي خالفت الإمامية فيها المعتزلة ووافقت فيها الأشاعرة، أما الأصول التي وافقت فيها الإمامية المعتزلة وخالفت الأشاعرة، فمنها:

اتحاد الصفات الذاتية مع الذات: إن لله سبحانه صفات ذاتية كالعلم والقدرة، فهي عند الأشاعرة صفات قديمة مغايرة للذات زائدة عليها، وهي عند الإمامية والمعتزلة متحدة مع الذات.

أفعال العباد: هي عند الإمامية صادرة من نفس العباد، صدورا حقيقيا بلا مجاز أو توسع، فالإنسان هو الضارب، هو الآكل، هو القاتل، هو المصلي، واستعمال كلمة [الخلق] في أفعال الإنسان استعمال غير صحيح، فلا يقال: خلقت الأكل والضرب والصوم والصلاة، وإنما يقال: فعلتها، وأما الأشاعرة فذهبوا إلى أن أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه، فليس للإنسان فيها صنع ولا دور، وليس لقدرته أي تأثير في تحقق الفعل، وتحاشيا من الجبر قالوا بنظرية الكسب، أي: إن الله هو الخالق والإنسان.

الاستطاعة: نص الشيعة على أن الاستطاعة في الإنسان على فعل من الأفعال تقارنه تارة، وتتقدم عليه أخرى، فلو أريد من القدرة العلة التامة فهي مقارنة، ولو أريد العلة الناقصة فهي متقدمة، خلافا للأشاعرة فقد قالوا بالتقارن مطلقا.

رؤية الله بالأبصار في الآخرة: مستحيلة عند الإمامية والمعتزلة، ممكنة عند الأشاعرة..

الكلام: كلامه سبحانه عند الإمامية هو فعله، فهو حادث لا قديم، وهذا خلافا للأشاعرة: فكلامه عبارة عن الكلام النفسي القائم بذاته، فهو قديم كقدم الذات.

التحسين والتقبيح: ذهبت الإمامية إلى أن العقل يدرك حسن بعض الأفعال أو قبحها، خلافا للأشاعرة، فقد عزلوا العقل عن إدراك الحسن والقبيح، وبذلك خالفوا الإمامية والمعتزلة في الفروع المترتبة عليه.

بناء على هذا التمهيد الذي لابد منه، سنذكر هنا ـ باختصار ـ كبار أعلام المدرسة الشيعية من الإيرانيين، وإن كان من الصعب تصنيفهم بهذا الاعتبار لأن لأكثر علماء الشيعة مساهماتهم في العقائد بالإضافة إلى مساهماتهم في سائر العلوم، ولهذا يمكن اعتبار جميعهم ـ فقهاء كانوا أو محدثين أو مفسرين ـ من علماء الكلام، لأنهم عادة ما يحتاجون إلى الحوار مع الآخر ومناظرته، وهو ما يستدعي إلمامهم بعلم الكلام.

ومن الأمثلة على ذلك العلامة الكبير محمد بن الحسن الجهرودي الطوسي، المشهور بـالخواجة نصير الدين الطوسي (597 – 672 هـ)، الذي يعتبر أحد أبرز الشخصيات في تاريخ الفكر الإسلامي.

فله بالإضافة لما كتبه في علوم الأخلاق، والمنطق، والفلسفة، والرياضيّات والنجوم، مشاركات مهمة جدا في نصرة العقيدة الإسلامية، منها كتابه [تجريد الاعتقاد]، وهو كتاب في تحرير عقائد الإمامية، ويتصف بالعمق والإحكام مع الاختصار، فهو من أخصر النصوص الكلامية الشيعية، ومن هنا اشتهر ومنذ الأيام الأولى لتأليفه بين أعلام المسلمين بشتّى مذاهبهم، وحظي باهتمام كبير من قبلهم شرحا وتعليقا وباللغتين العربية والفارسية.

وسبب ذلك هو أنه يمكن اعتباره نقلة مهمة في تاريخ علم الكلام، حيث تمكن الطوسي من التلفيق بين الفلسفة المشائية والكلام الشيعي مما أدى إلى التقارب بين الفلسفة والكلام في الوسط الفكري الشيعي([159]).

وقد أشار إلى هذا المعنى الشيخ مرتضى مطهري، فقال: (تمكن الفيلسوف والحكيم المتبحر الخواجة نصير الدين من تصنيف كتاب كلامي يعد من أعمق الكتب الكلامية وأتقنها، وقد حظي الكتاب باهتمام المتكلمين من الفريقين وتمكن -الى حد ما- من نقل الكلام من أسلوب الحكمة الجدلية، والاقتراب به من أسلوب الحكمة البرهانية)([160])

وقد كان لهذا المنهج الذي اتبعه الطوسي أثره في بعض الكتابات الكلامية السنية، وخاصة فيما كتبه القاضي عضد الدين الايجي (المتوفى 756 ه) في كتابه المواقف، والتفتازاني (المتوفى 792ه) في كتابه المقاصد.

وقد حظي الكتاب باهتمام كبير من لدن جميع المسلمين سنتهم وشيعتهم، ولذلك شرح شروحا كثيرة منها شرح العلامة الحلي والمعروف بـ [كشف المراد في شرح تجريد الإعتقاد]، ومنها [تعريد الاعتماد في شرح تجريد الإعتقاد]، للشيخ شمس الدين محمد الأسفراييني البيهقي (المتوفي 746)، ومنها [تسديد أو تشييد القواعد في شرح تجريد العقائد]، المعروف بالشرح القديم، لشمس الدين محمود بن عبد الرحمان بن أحمد العامي الأصفهاني، ومنها شرح الفاضل القوشجي (المتوفي 879) الموسوم بالشرح الجديد، وغيرها من الشروح.

وأحب أن أذكر هنا بأن ابن تيمية، وفي أثناء هجمته على الشيعة لم يكتف بإنكار الأحاديث الصحيحة وتضعيفها وتأويلها، وإنما راح إلى أعلام المتكلمين الشيعة يرميهم بالإلحاد مثلما فعل مع الصوفية والأشاعرة وغيرهم.

ومن تلك الشخصيات التي نالتها سهام ابن تيمية التكفيرية نصير الدين الطوسي، والذي رماه بالإلحاد والخيانة والكثير من التهم التي صارت في عصرنا، وكأنها حقائق مع أنها مجرد مفتريات لا تختلف عن مفترياته على سائر علماء وفرق المسلمين.

ونحن لا نريد أن نرد عليه انطلاقا مما كتبه الشيعة، بل نرد عليه من خلال علم كبير من أعلام الحديث في المدرسة السنية، وهو بالشيخ جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ)، وهو من علماء الحديث والتفسير، ولا يمكن للسلفية أن يزايدوا عليه في ذلك، فقد قال: (لا عبرة برمي شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وأمثالهما رحمهم الله بالإلحاد مثل النصير الطوسي وابن عربي وبعض الأشاعرة المتأولين لآيات الصفات وآثارها فإن ذلك منه ومن أمثاله حمية مذهبية وغيرة على نصرة ما قوي لديه. وقد عهد في العالم الغيور الذي لا يتسع صدره لخلاف الخصم أن يحمل عليه أمثال هذا وأعظم. وإلا فالنصير قد علم أن له مؤلفات في فن الكلام خدمت وشرحت، وكلها مما يبرئه عن الإلحاد والزندقة. وعقيدته ومشربه وترجمته المحفوظة تبرئه من مثل ذلك. وابن عربي حق الباحث معه المنكر عليه أن ينكر عليه موضعا لا يحتمل التأويل، ويقول ظاهره إلحاد. إلا أن الرجل له عقيدة نشرها أولا، ومذهب في الفقه حسن. فمثله لا يسوغ رميه بالإلحاد)([161])

وقد كان هذا الموقف سببا في رمي السلفية له وطعنهم فيه ([162]) مع إقرارهم بكونه عالما في التفسير والحديث وغيرهما من العلوم الشرعية، وأنه ينهل من نفس المنابع التي ينهلون منها، لكنه تميز عنهم بكونه لا يعتقد بعصمة ابن تيمية، ولا يخضع له خضوعا مطلقا مثلما يفعلون.

ومثلما فعل القاسمي، فعل باحث سعودي متحرر هو أ. د. سعد بن حذيفة الغامدي أستاذ التاريخ الإسلامي ودراساته الشرقية في كلية الآداب قسم التاريخ جامعة الملك سعود الذي رد على الكثير من الأوهام التي يتعلق بها السلفية هذا الجانب، وذلك في كتابه (سقوط الدولة العباسية ودور الشيعة بين الحقيقة والإتهام)، والذي نال بسببه حظه من النقد والطرد والحرمان السلفي الذي لا يفرق في الطرد بين المسائل العقدية والتاريخية.

ومن أمثلة ذلك ما كبته سليمان بن صالح الخراشي في منتدى صيد الفوائد وردا على كتاب الدكتور الغامدي فقد كتب مقالا بعنوان: (دكتور في جامعة الملك سعود يردد أكذوبة شيعية)، ومما جاء فيه: (سقوط الدولة العباسية ودور الشيعة بين الحقيقة والإتهام) كتابٌ للأستاذ الدكتور سعد بن حذيفة الغامدي أحد منسوبي جامعة الملك سعود قسم التاريخ، صدر قريبًا وكتب على طرته (دراسة جديدة لفترة حاسمة من تاريخ أمتنا)وهذا ما أغراني لاقتنائه منتظرًا ماسيجود به قلم الدكتور من جديد في هذه القضية، إلا أنني تفاجأت عندما رأيته يردد ما ردده الشيعة الرافضة من تكذيب لأي خيانة لأسلافهم، وهو ما تتابع عليه ثقات المؤرخين، فهذا الجديد عنده، يقول الدكتور محاولاً دفع تهمة الخيانة عن الرافضة: (ومع هذا فإن سؤالاً يتبادر إلى الذهن وهذا السؤال هو: هل كان هولاكو محتاجاً إلى مساعدة المسلمين الشيعة ضد المسلمين السنة حتى نقبل أنهم كانوا أحد العوامل التي أدت إلى سقوط بغداد؟ في الحقيقة لم يكن هولاكو محتاجاً إلى مساعدة من أي فرد شيعياً كان أم سنياً، لذلك فإننا نجد كما يظهر لنا أنه من غير المحتمل إن لم يكن من المستحيل أن يكون لهذه الطائفة من المسلمين أي دور فعال، سواء من داخل أو من خارج بغداد في هجوم المغول ضد العاصمة العباسية بغداد وخلافتها السنية)

بالإضافة إلى الكم الكبير من المتكلمين في التاريخ الإسلامي، والذين نجد أسماءهم في كتب الطبقات والرجال، فقد اهتمت إيران الحديثة، وخاصة في مشروعها الحضاري الجديد بالعقيدة الإسلامية، وتيسيرها، وعرضها بثوب يتناسب مع حاجات العصر وتساؤلاته.

ومن المتكلمين المعاصرين الكبار الشيخ مرتضي المطهري (1919م ـ 1979م) الفيلسوف والمتكلم الذي استطاع أن يصيغ العقائد الإسلامية بلغة علمية بسيطة سهلة متناسبة مع العصر، بالإضافة إلى مساهمته في نجاح الثورة الإسلامية الإيرانية التي عرفت كيف تختار قادتها ورجالها في الفكر والسياسة.

وقد كان من أبرز تلامذة العلامة الكبير محمد حسين الطباطبائي وروح الله الخميني، وحسين البروجردي، ومحمّد تقي الخونساري، ومحمد صدوقي، والسيد شهاب الدين المرعشي النجفي، وهاشم الحداد، ومحمد الحسين الحسيني الطهراني، وغيرهم من أعلام الفلسفة والعرفان وعلم الكلام.

وكل مؤلفاته ـ حتى الفلسفية منها ـ يمكن اعتبارها من الكتب المناصرة للعقيدة، ذلك أنه يطرح كل المسائل وفق رؤية إسلامية أصيلة.

ومن أهم مؤلفاته: وعلم الكلام والحكمة العملية، وأصول الفلسفة والمذهب الواقعي (5 أجزاء)، ونقد الماركسية، والحركة والزمان، ومسألة المعرفة، والعدل الإلهي، والإنسان والمصير، والدوافع نحو المادية، ومقدمة حول الرؤية الكونية الإسلامية، ويشمل: (الإنسان والإيمان، والمفهوم التوحيدي للعالم، والنبوة والوحي، والإنسان في القرآن، والمجتمع والتاريخ، والحياة الخالدة، والإمامة والقيادة، والخاتمية، والفطرة، والمعاد، وفي السيرة والتاريخ)، وغيرها من الكتب.

وقد كان الشيخ مطهري من المقربين جدا من الخميني، وقد أشاد به كثيرا في مؤلفاته التي يمكن اعتبارها جميعا شرحا لفكر الخميني، وأسسا نظرية لنظام ولاية الفقيه، وقد قال عنه في كتابه (حول الثورة الإسلامية): (إنني درست اثنتي عشرة سنة تقريباً عند هذا الرجل العظيم (الخميني)، لكن ذهبت إلى لقائه في سفري الأخير إلى باريس، فكشفت أموراً في معنوياته لم تزد في حيرتي فحسب، بل ازداد إيماني به أيضاً. وعندما رجعت سألني الزملاء: ماذا رأيت؟ فقلت: رأيت فيه أربعاَ: آمن بهدفه، فلو تكالبت عليه الدنيا، لم تصرفه عن هدفه.. وآمن بسبيله، فلا يمكن صرفه عنه، وهو أشبه بإيمان الرسول بهدفه وسبيله.. وآمن بقومه، فمن بين من أعرفهم، لم أجد أحداً يؤمن بمعنويات الشعب الإيراني مثله، فينصحونه أن تمهّل قليلاً، فالناس قد تعبوا وفتروا، فيقول: كلاّ، ليس الناس كما تقولون، إنني أعرف الشعب أفضل منكم. ونرى صحة كلامه تتجلى يوماً بعد يوم.. وأخيراً، والأسمى منها جميعاً، آمن بربّه)

وهكذا نجد الخميني يشيد كثيرا بتلميذه الوفي، ومن ذلك ما ذكره عنه بعد استشهاده: (إنني أعزي وأهنئ الإسلام والأولياء الكرام والأمة الإسلامية وخاصة الشعب الإيراني المجاهد، بمصابهم المؤسف بالشهيد الجليل والمفكر الفيلسوف والفقيه الكبير المرحوم الحاج الشيخ مرتضى مطهري قدس سره؛ أما العزاء فباستشهاد ذلك الرجل الفذّ الذي قضى حياته الكريمة الغالية في سبيل تحقيق الأهداف الإسلامية المقدسة والكفاح المتواصل مع كل الأفكار الملتوية المنحرفة. ذلك الرجل الذي عزّ له مثيل في معرفة الدين الإسلامي والمعارف الإسلامية المختلفة وتفسير القرآن الكريم. أما أنا فقد فقدتُ ولداً عزيزاً، وقد فُجعت بوفاته فكان من الشخصيات التي أعدّها ثمرة حياتي، وقد ثلم في الإسلام باستشهاد هذا الولد البار والمفكر الخالد ثلمة لا يسدّها شيء.. وأما التهنئة فلأننا نحظى بوجود أمثال هؤلاء الرجال الذين يضحّون بأنفسهم ويشعون بالنور في حياتهم وبعد وفاتهم. إنني أهنّئ الإسلام العظيم مربّي الأجيال واهنّئ الأمة الإسلامية بتربية رجال يفيضون بالحياة على القلوب الميّتة وبالنور على الظلمات. وإني وان خسرت ابناً عزيزاً كان كبضعة مني، ولكني أفتخر؛ بأنه كان وسيكون في الإسلام وسيكون مثله)

وهكذا قال عنه السيد علي الخامنئي مبينا آثاره الفكرية على نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية: (يوجد القلائل من العلماء من أمثال الشهيد مطهري، بهذه القوة الفكرية والروحية، إن كل خطبة من خطبه يمكن أن تكون عنوانا وعملا تخصصيا كاملا، ولهذا لابد من العمل على مبانيه وخطه الفلسفي وبشكل كبير، إن آثار الشهيد مطهري تمثل المباني الفكرية للجمهورية الإسلامية)

ومنهم العلامة الكبير جعفر السبحاني التبريزي الذي له مشاركات في العلوم الكثيرة، وقد سبق ذكره عند الحديث عن مساهماته المميزة في تفسير القرآن الكريم، وله بالإضافة لها كتب كثيرة في العقائد الإسلامية.

لكن العمل الأهم الذي قام به هو تأسيسه لمؤسسة الإمام الصادق، وهي مؤسسة إسلامية ثقافية تربوية يتركز نشاطها في مجال التأليف والتحقيق، وتربية الكوادر المتخصّصة في الرد على الشبهات المثارة، من أجل نشر الإسلام المحمدي الأصيل والتصدّي للأفكار المنحرفة والشبهات، بأُسلوب علمي، وبلغة هادئة بعيدة عن التشنج والتطرّف.

ومن أهم المراكز التابعة لهذه المؤسسة المعهد المتخصص في الدراسات الكلامية، الذي أسسه الشيخ جعفر السبحاني عام 1412 هـ، لتخريج كوادر علمية متخصّصة في علم الكلام.

ومن أهداف المؤسسة ـ حسبما ذكر في موقعها الرسمي ـ: (إعداد كوادر متخصّصة في علم الكلام، وإحياء التراث الإسلامي الّذي تركه القدماء من علمائنا، الإجابة عن الاستفسارات الكلامية والشبهات الّتي يثيرها الغرب)([163])

ومن نشاطات هذه المؤسسة في هذا المجال إصدار مجلة الكلام الإسلامي، وهي مجلة كلامية فصلية، وقد استمرت بالصدور منذ عام 1413 هـ، إلى يومنا هذا.


([1])  رواه ابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل، انظر: الدر المنثور في التفسير بالمأثور (2/ 635)

([2])  يعتبر المذهب الامامي هو الثقل الاكبر في هذا البلد حيث تبلغ نسبة الشيعة اكثر من 70 % أي ما يقارب من 6 ملايين شخص بالنسبة للعدد العام، وبنسبة 80% للمسلمين خاصة.

([3])  توجد للشيعة مزارات مهمة في هذا البلد حيث يتردد عليها الناس بشكل كبير وملحوظ ويشد لها الرحال من كل انحاء البلاد ومن اهمها مزار اخوات الامام الرضا الواقع في مدينة نارداران، ومزار بي بي هيبت الواقع في اطراف باكو، وكذلك يوجد مزار لهم في مدينة گنجة، وايضاً يوجد مزار واقع في مدينة بيلغان يقال انه لنبي الله جارجيس.

([4])  انظر مقالا بعنوان [صحيفة إسرائيلية: الحرب مع إيران ستنطلق من أذربيجان، عربي21- يحيى عياش، السبت، 07 أبريل 2018]، وقد ورد فيه: (وأشارت صحيفة معاريف الإسرائيلية في تقرير ترجمته [عربي21]، إلى أن الولايات المتحدة وإسرائيل وقعتا سلسلة من الاتفاقيات العسكرية مع بعض جيران إيران من ضمنها أذربيجان، لافتا إلى أن الإيرانيين يعتقدون أن باكو ستسمح للقوات الجوية لإسرائيل والولايات المتحدة بالإقلاع من قواعدها، لقربها من طهران)

([5])  ولهذا نرى الاستكبار العالمي يستعمل كل وسائله الطائفية ليحول السكان الأذريين من التشيع إلى التسنن خشية تأثرهم بإيران، وقد ورد في بعض الصحف هذا الخبر: (انتشر في الآونة الأخير حديث، بين الأوساط الأذربيجانية، بشأن احتمالية تحويل سكان البلاد من غالبية شيعية إلى أغلبية سنية، لافتين إلى أن باكو ترغب بحدوث هذا التحول حتى تصطف مع تركيا وكازاخستان، وليس مع إيران، وفي هذا السياق، يشير المحلل الأذري، علي عباسوف، إلى أن مثل هذا التحول يحدث، بسبب التوترات بين الدول الإسلامية السنية وإيران الشيعية ورغبة باكو في تفضيل تركيا وكازاخستان على إيران)[ أذربيجان تخطط للتحول الطائفي من دولة شيعية إلى سنية للابتعاد عن محور إيران، المصدر: حنين الوعري – إرم نيوز]

([6])  رواه البخاري (٤٧٧٧) ومسلم (٩)

([7])  أخرجه أبو نعيم في الحلية 7/32..

([8])  من الأمثلة على إدخال معاوية في كتب العقائد ما قاله الآجري في (الشريعة)، وهو من الكتب التي يعتمد عليها السلفية في تقرير العقائد: (معاوية رحمه الله كاتب رسول الله a على وحي الله عز وجل وهو القرآن بأمر الله عز وجل وصاحب رسول الله a ومن دعا له النبي a أن يقيه العذاب ودعا له أن يعلمه الله الكتاب ويمكن له في البلاد وأن يجعله هادياً مهدياً.. وهو ممن قال الله عز وجل ﴿ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ﴾ (التحريم: 8) فقد ضمن الله الكريم له أن لا يخزيه لأنه ممن آمن برسول الله a)( الشريعة [ 3 / 496)

وقال ابن بطة في (الإبانة الصغرى): (تترحم على أبي عبد الرحمن معاوية بن أبي سفيان أخي أم حبيبة زوج النبي a خال المؤمنين أجمعين وكاتب الوحي وتذكر فضائله)( الإبانة الصغرى [ ص: 299 ])

([9])  العقود الدرية، ( ص 311 ).

([10]) شرح رياض الصالحين 4/ 570 – 573.

([11])  الخميني: شذوذ في العقائد ..شذوذ في المواقف، سعيد حوى، ص3.

([12])  الخميني: شذوذ في العقائد ..شذوذ في المواقف، سعيد حوى، ص4.

([13])  الحكومة الإسلامية : ص 52.

([14])  الخميني: شذوذ في العقائد ..شذوذ في المواقف، سعيد حوى، ص7.

([15])  رواه أحمد (5/341،343) والبغوى فى شرح السنة (13/51) والحاكم فى المستدرك (4/170،171) وصححه وأقره الذهبى وآخر من حديث أبى هريرة عند ابن حبان فى صحيحه (2508)

([16])  رواه الترمذي (586).

([17])  اللقاء الشهري، (74/22).

([18])  سرّ الصلاة، الإمام الخمينيّ، ص 89 ـ 90..

([19])  الحكومة الإسلامية : 112.

([20])  المصدر نفسه : 91.

([21])  البخاري، (3/ 37)، برقم: (1964)، ومسلم (2/ 774)، برقم: (1102)..

([22])  تهذيب الأصول ج 2 ص 165 تقريرات درس الإمام الخميني.

([23])  إظهار الحق، ص 431 ..

([24])  الإمام الصادق ص296.

([25])  الإمام الصادق ص329.

([26])  دفاع عن العقيدة و الشريعة، ص220.

([27])  لا سنة ولا شيعة ص 239 .

([28])  السنة المفترى عليها ص60.

([29])  مدخل إلى القرآن الكريم ص 39- 40.

([30])  بين الشيعة وأهل السنة ص35.

([31])  بين الشيعة وأهل السنة ص37.

([32])  القرآن والملحدون ص 322.

([33])  ) إسلامنا ص 75.

([34])  أكذوبة مصحف الشيعة، قناة الميادين، حصة ألف لام ميم بتاريخ، 5/10/2017.

([35])  الشيعة الإمامية يعتقدون أن لفاطمة كتابا يسمى [مصحف فاطمة]، وأنه لا يوجد به شيء من القرآن، وإنما فيه أخبار من يملك والحوادث الآتية على الناس، وليس بقرآن للشيعة كما يذكر السلفية، والمصحف في اللغة يعني ما جمع في الصحف سواء كانت صحفا كتب فيها قرآن أم غيره..

([36])  أصل الكتاب محاضرة ألقيت في مقر نقابة الصحفيين بالقاهرة مساء الأربعاء 6 سبتمبر/أيلول 2006 بدعوة من لجنة المتابعة في النقابة وأذاعتها قناة الجزيرة، وهو من منشورات دار الزمن، الرباط، الطبعة: الأولى 2007..

([37])  مجلة رسالة الإسلام العدد الرابع من السنة الحادية عشرة ص 382 و 383.

([38])  المصاحف لأبي بكر بن أبي داود ص31، وفي طبعة قطر المحققة من محب الدين واعظ في المجلد1ص216ح81 نص على صحة الأثر عن الزهري.

([39])  المصنف للصنعاني ج7ص330.

([40])  التمهيد في شرح الموطأ ج 4ص275 شرح حديث رقم 21.

([41])  تاريخ الإسلام حوادث (121-140ه‍ ) ص241 ..

([42])  الدر المنثور ج5ص237.

([43])  جامع البيان للطبري ج1ص665ح1448.

([44])  الدر المنثور ج6 ص420.

([45])  تفسير الطبري ج3ص331.

([46])  مجاز القرآن ج2ص21 لأبي عبيدة المتوفى 210ه‍ ..

([47])  الصحيفة السجادية، الدعاء 4..

([48])  نهج البلاغة، الخطبة 182..

([49])  نهج البلاغة، الخطبة 56..

([50])  نهج البلاغة للشريف الرضى شرح محمد عبده ص 225..

([51]) سير أعلام النبلاء: 3/ 462.

([52]) نصب الراية (4/ 69)

([53]) نصب الراية (4 / 69 – 70)

([54])  رواه البخاري ( 6212 ) ومسلم ( 2290 ).

([55])  رواه البخاري ( 6211 ) ومسلم ( 2304 ).

([56])  أصل الشيعة وأصولها، الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء، ص161.

([57])  رواه أحمد في فضائل الصحابة 2 / 650، وغيره.

([58]) طبقات الحنابلة:1/320.

([59])  أوردنا الكثير منها في كتاب معاوية بن أبي سفيان في الميزان.

([60])  الاستفتاء جاء بتوقيع: جمع من علماء ومثقفي الأحساء، بتاريخ 4 شوال 1434 هـ.

([61])  انظر مقالا بعنوان: الشيخ مكارم الشيرازي- ياسر الحبيب سفيه، والوهابيون أشد سفاهة منه.

([62])  انظر مقالا بعنوان: مراجع الدين في قم يفتون بحرمة اي تبرع لهذا العمل المشبوه، ما هو مشروع ياسر الحبيب الفتنوي الجديد ؟ قناة العالم، الجمعة ٠٨ يوليو ٢٠١٦ ..

([63])  للأسف فإن هذه الشبهة مع وفرة الردود عليها من متكلمي الشيعة الأوائل إلا أننا نجد الكثير يذكرها، ينقلها بعضهم عن بعض، ومن الأمثلة على ذلك ما قاله الرازي في تفسيره: (قالت الرافضة : البداء جائز على الله تعالى ، وهو أن يعتقد شيئا ثم يظهر له أن الأمر بخلاف ما اعتقده ، وتمسكوا فيه بقوله : { يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ } ، ثم قال : إن هذا باطل ، لأن علم الله من لوازم ذاته المخصوصة ، وما كان كذلك كان دخول التغير والتبدل فيه باطلا) [تفسير الرازي 4 : 216]،مع كونه كان يعيش في ذلك الحين في مدينة الري، وكان فيها الكثير من أعلام الشيعة الذين ينكرون هذا، ومنهم الشيخ محمود بن علي بن الحسن سديد الدين الحمصي الرازي صاحب كتاب [المنقذ من التقليد والمرشد إلى التوحيد]، وقد سبقه إلى هذا البلخي ( 319 ه‍ )، ونقله الأشعري ( 260 – 324 هـ ) ونقله أبو الحسن النوبختي في فرق الشيعة عن بعض فرق الزيدية.

([64])  أضواء على عقائد الشيعة الإمامية وتاريخهم، ص 428..

([65])  النص المقتبس هنا بطوله من كتابي: أسرار الأقدار، ص74.

([66]) رواه أحمد ومسلم وابن ماجة.

([67]) رواه ابن حبان وغيره.

([68]) رواه ابن عدي والحاكم وتعقب والخطيب.

([69]) رواه الطبرانى.

([70]) رواه ابن عدي والحاكم وتعقب والخطيب.

([71]) رواه النسائي وابن ماجه وأحمد وأبي يعلى وابن منيع والطبراني.

([72]) رواه ابن جرير ومحمد بن نصر وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه.

([73]) رواه أحمد وأبو داود والنسائي.

([74])  أضواء على عقائد الشيعة الإمامية وتاريخهم، ص 425 فما بعدها.

([75])  انظر الروايات الواردة في حول علمه تعالى في بحار الأنوار:  4 : 121 ..

([76])  أضواء على عقائد الشيعة الإمامية وتاريخهم، ص 447..

([77])  البحار 4 : 107.

([78])  الكافي 1 : 115 ، التوحيد للصدوق ، باب البداء ، الحديث 7 ..

([79])  التوحيد للصدوق ، باب البداء ، الحديث 2 ..

([80])  أضواء على عقائد الشيعة الإمامية وتاريخهم، ص 448..

([81])  من الأمثلة على ذلك: الشيعة والتشيع ، إحسان إلهي ظهير : 79 و84، وتبديد الظلام ، إبراهيم سليمان الجبهان : 483 و483، والشيعة وتحريف القرآن ، محمّد مال اللّه : 35 و36، والتشيّع بين مفهوم الأئمّة والمفهوم الفارسي ، الدكتور محمّد البنداري : 235، ورجال الشيعة في الميزان ، عبد الرحمن الزرعي : 6 و17 و18 و50 و51 و126 و148 و173، والثورة الايرانية في ميزان الإسلام ، الشيخ محمّد منظور نعماني : 122 و180 و182 و183 و184 و185 و186 و187 و222، والصراع بين الإسلام والوثنية ، القصيمي : 458 و459، والشيعة في التصوّر الإسلامي ، علي عمر فريج : 150 و151 و152 و154 و165 و183، والخطوطة العريضة ، محبّ الدين الخطيب : 9 و10، والشيعة معتقداً ومذهباً ، الدكتور صابر عبد الرحمن طعيمة : 5 و88 و118، وبطلان عقائد الشيعة ، محمّد عبد الستار التونسي : و72 و73 و78 و79، والوشيعة ، موسى جار اللّه : 104.

([82])  صحيح البخاري 2 : 179 ، سنن ابن ماجة 2 : 985 / 2955.

([83])  صحيح البخاري 8 : 38 ، سنن أبي داود 4 : 251 / 4791 و4792 و4793، ورواه محدّثو الشيعة باختلاف يسير كما في اُصول الكافي:  2 : 245 / 1..

([84])  سنن ابن ماجة 2 : 1338 / 4032، والسنن الكبرى / البيهقي 10 : 89.

([85])  كشف الأستار، الهيثمي 4 : 113 / 2324..

([86])  رواه الديلمي في مسند الفردوس، نقلا عن الجامع الصغير للسيوطي 1 : 491..

([87])   جامع أحاديث الشيعة، حديث رقم 10996.

([88])   وسائل الشيعة، حديث رقم10717.

([89])   المرجع السابق ، حديث رقم 10718.

([90])   المرجع السابق ، حديث رقم 10721.

([91])   المرجع السابق ، حديث رقم 10723.

([92])   المرجع السابق ، حديث رقم 10724.

([93])   جامع أحاديث الشيعة، حديث رقم 10995.

([94])   محمد بن مكي العاملي، الدروس الشرعية، ضمن سلسلة الينابيع الفقهية، الصلاة 10: 651.

([95])   أجوبة مسائل موسى جار الله 4: 73.

([96])   طبقات الحنفية (1/433)

([97])   الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي (23/375)

([98])  سنن ابن ماجة 1 : 53.

([99])  جامع البيان، الطبري 14 : 122.

([100])  سنن ابن ماجة 1 : 53.

([101])  تفسير القرطبي (10/ 189)

([102])  رواه البخاري 8 : 37.

([103])  رواه البخاري 1 : 41.

([104])  فتح الباري، 1 : 175.

([105])  المبسوط ، السرخسي 24 : 46..

([106])  سنن النسائي 5 : 253.

([107])  المبسوط ، السرخسي 24 : 25.

([108])  المرجع السابق : 24 : 45.

([109])  إحياء علوم الدين، الغزالي 3 : 137.

([110])  المرجع السابق: 3 : 138.

([111])  المغني، ابن قدامة 2 : 186 و192..

([112])  المدونة الكبرى:  3 : 29.

([113])  جمال الدين القاسمي، محاسن التأويل 4 : 82..

([114])  المرجع السابق : 4 / 82..

([115])  التقية (مفهومها، غايتها، دليلها، حدها في ضوء الكتاب والسنة)، جعفر السبحاني، ص17.

([116])  المرجع السابق، ص18.

([117])  المرجع السابق، ص18.

([118])  المرجع السابق، ص3.

([119]) انظر في ترجمة الرازي: وفيات الأعيان، لابن خلكان 248-249/4، تاريخ الإسلام للذهبي، 137/13، البداية والنهاية لابن كثير،13 65/، شذارات الذهب لابن عماد الحنبلي، 40/ 7، الإمام الفخر الرازي حياته وآثاره للعماري،11-16.

([120]) الوافي بالوفيات (4/ 175)

([121]) الوافي بالوفيات (4/ 176)

([122]) الجويني لمحمد الزحيلي، ص: 94-96.

([123]) طبقات الشافعية الكبرى: 5/173..

([124]) طبقات الشافعية الكبرى: 5/174..

([125]) انظر في ترجمته: طبقات الشافعية الكبرى للتاج السبكي 96/7-99.

([126]) الغنية في الكلام، أبو قاسم الأنصاري، المقدمة التعريفية بالمؤلف: مصطفى حسنين عبد الهادي، ج1، ص: 27.

([127]) المرجع السابق، ص49.

([128]) المرجع السابق، ص27.

([129]) انظر: فخر الدين الرازي، تفسير مفاتيح الغيب 323/1..

([130]) قال في شرح عقيدة السلف للصابوني، ناصر العقل (1/ 2): وأما لفظ (الصابوني) فقد ذكر السمعاني في كتاب (الأنساب) أنه نسبة إلى عمل الصابون، وقال: هو بيت كبير بنيسابور الصابونية.

([131]) انظر في ترجمته: ابن خلكان وفيات الأعيان1/75، طبقات الشافعية للسبكي 1/124، الوافي بالوفيات للصفدي 2/316..

([132]) انظر في ترجمته: سير أعلام النبلاء، الذهبي، الطبقة العشرون، الصعلوكي.

([133]) انظر في ترجمته: الجوهر الثمين في بعض من اشتهر ذكره بين المسلمين، أبو بكر بن فورَك رأس الأشاعرة وشيخ المتكلمين، ص: 346-351، المجددون في الإسلام: من القرن الأول إلى الرابع عشر، تأليف الشيخ/ عبد المتعال الصعيدي، طبعة مكتبة الآداب، ص: 11.

([134]) يشير إلى ما ورد في الحديث: (الحجر الأسود يمين الله في أرضه).

([135]) ذكر تاج الدين السبكي وغيره من الأشاعرة أن هذه التهمة من التهم التي اتهم بها الأشاعرة، فقال: (والمسئلة المشار إليها وهي انقطاع الرسالة بعد الموت مكذوبة قديمًا على الإمام أبي الحسن الأشعري نفسه. وقد مضى الكلام عليها في ترجمته. إذا عرفت هذا فاعلم أن أبا محمد بن حزم الظاهري ذكر في النصائح أن ابن سبكتكين قتل ابن فورك بقوله لهذه المسئلة ثم زعم ابن حزم أنها قول جميع الأشعرية، قلت وابن حزم لا يدري مذهب الأشعرية ولا يفرق بينهم وبين الجهمية لجهله بما يعتقدون، وقد حكى ابن الصلاح ما ذكره ابن حزم ثم قال: ليس الأمر كما زعم بل هو تشنيع على الأشعرية أثارته الكرامية فيما حكاه القشيري)

([136]) أبو بكر بن فورَك رأس الأشاعرة وشيخ المتكلمين، ص: 349-350..

([137]) تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري.

([138]) طبقات الشافعية الكبرى للتاج السبكي، ترجمة: محمد بن الحسن بن فورك..

([139]) لقب بالشيرازي نسبة إلى مدينة شيراز التي نشأ بها وتولى فيها منصب قاضي القضاة، ولقب بالتبريزي نسبة إلى تبريز حيث توفي بها، وبالبيضاوي نسبة إلى مدينة البيضاء بفارس قرب شيراز.

([140]) انظر: بغية الوعاة للسيوطي (2/ 50)كشف الظنون حاجي خليفة (1/ 186) شذرات الذهب لابن العماد (5/393-392) طبقات المفسرين للداودي (1/ 242) طبقات المفسرين للأدنهوي (255- 254) طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي (5/59).

([141]) مقدمة الغاية القصوى.(1/ 184).

([142]) انظر:: لوائح الأنوار السنية ولواقح الأفكار السنية، محمد بن أحمد بن سالم السفاريني الحنبلي، 2/ 221.

([143]) انظر في ترجمته: الدرر الكامنة 2/ 196، البدر الطالع 1/ 227، شذرات الذهب 6/ 174، طبقات الشافعية للأسنوي 2/ 109، بغية الوعاة: 296.

([144]) طبقات الشافعية الكبرى للسبكي.

([145]) أتباع محمد بن كرام ـ ت 869 م ـ وهي من الفرق المجسمة القائلة بأن الله تعالى محل للحوادث، انظر: عبد القاهر البغدادي، الفرق بين الفرق، ص202، 214.

([146]) وهو طوائف شتى اجتمعت على القول بتشبيه ذات الله تعالى صفاته بغيرها، انظر: عبد القاهر البغدادي، الفرق بين الفرق، ص214.

([147]) دعا في كتابه هذا إلى معاملة المتشابهات بسبع وظائف هي:

التقديس: وهو تنزيه الله تعالى عن الجسمية وتوابعها من صفات الحوادث.

التصديق: وهو الإيمان بأن ما ورد من النصوص حق، وأنه أريد بها معنى يليق بجلال الله وعظمته.

الاعتراف بالعجز عن معرفة حقيقتها.

السكوت عن السؤال عن معناه، لأن كل ذلك بدعة، كما نص عليه الإمام مالك.

الإمساك عن التصرف في ألفاظها بالتصريف والتبديل للغة أخرى والزيادة فيها والنقصان منها والجمع والتفريق…بل لا ينطق إلا بذلك اللفظ وعلى ذلك الوجه من الإيراد والإعراب والصيغة.

كف الباطن عن البحث عنها والتفكير فيها.

التسليم لأهلها ممن يعلمون ما تشابه منه من الأنبياء والراسخين في العلمانظر تفصيل ذلك في: الغزالي، إلجام العوام عن علم الكلام، ص:54 ـ 85.

([148]) الغزالي، فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة، ص147.

([149]) المرجع السابق، ص47.

([150]) المرجع السابق، ص171.

([151]) المرجع السابق، ص171.

([152]) المرجع السابق، ص145.

([153]) المرجع السابق، ص176.

([154]) عيون أخبار الرضا 2: 121 – 122.

([155]) هو عبد العظيم بن عبد الله بن علي، من أصحاب الإمام الهادي، قال النجاشي: له كتاب خطب أمير المؤمنين، ورد الري هاربا من السلطان وسكن سربا (حفيرا تحت الأرض) في دار رجل من الشيعة في سكة الموالي فكان يعبد الله في ذلك السرب ويصوم نهاره ويقوم ليله، وكان يخرج مستترا، فيزور القبر المقابل قبره وبينهما الطريق، ويقول: هو قبر رجل من ولد موسى بن جعفر (عليه السلام). فلم يزل يأوي إلى ذلك السرب ويقع خبره إلى الواحد بعد الواحد من شيعة آل محمد (عليهم السلام) حتى عرفه أكثرهم. رجال النجاشي (2: 65 – 66)، ومات عبد العظيم بالري.

([156]) التوحيد: باب التوحيد والتشبيه: 81 / 37..

([157]) رسالة الصدوق في الإعتقادات.

([158]) أضواء على عقائد الشيعة الإمامية وتاريخهم، ص378.

([159]) أحمد احمدي،نظرة إجمالية على مسيرة الفلسفة بعد ابن رشد، ص224.

([160]) دراسة تعريفية بالعلوم الإسلامية، مطهري، ج 2، ص 68..

([161])  نقلا عن: كتاب جمال الدين القاسمي وعصره ص ٢٧٤.

([162])  انظر أقوال الشيخ ربيع بن هادي في جمال الدين القاسمي في [بيان مافي نصيحة إبراهيم الرحيلي من الخلل والإخلال] ص (١٤-١٥)]

([163]) موقع الشيخ السبحاني..

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *