إيران.. والسنة النبوية

إيران.. والسنة النبوية

من المغالطات التي يستعملها المغرضون، ليشوهوا بها تلك القطعة الكريمة من بلاد المسلمين تصويرهم لها بأنها بلد البدعة والضلالة، وأنه لا علاقة لها بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما لا علاقة لها بالقرآن الكريم..

وهم يستعملون في ذلك ما شاع تاريخيا من اعتبار السنة حكرا على تلك الطائفة الكريمة من طوائف المسلمين، والمتمثلة في أصحاب المذاهب الأربعة، وهذا خطأ كبير، وهو إن صلح التعبير به سياسيا وتاريخيا، فإنه لا يصلح التعبير به دينيا، فسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعظم من أن يحتكرها أحد من الناس، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي أرسله الله رحمة للعالمين أعظم من أن يكتفي باتباعه طائفة من الطوائف.

فكل المسلمين مهما اختلفت طوائفهم يعرفون السنة، ويحترمونها، ويتبعونها، وإن كانت مصادرهم لها مختلفة، ورواياتهم لها متباينة.. فلكل قوام رواتهم ومحدثوهم ورجالهم، ولا يصح أن تفرض طائفة من الطوائف ثقاتها ورواتها ورجالها على غيرها من الطوائف، لتستبعدها عن نبيها، وهديه.

وبناء على هذا المفهوم للسنة النبوية، والذي ينسجم مع عدالة الإسلام وشموليته وعالميته، نحاول في هذا الفصل أن نذكر بعض تجليات اهتمام الإيرانيين بالسنة النبوية، والتي رأينا انحصارها في ثلاثة مظاهر كبرى:

المظهر الأول: ذلك التعلق الشديد برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، باعتباره خاتم الرسل، وخير خلق الله كلهم، وأنه يمثل الهداية الإلهية بأسمى صورها، وأنه القرآن الناطق، والأسوة الحسنة، التي ينهل منها جميع الورثة، كما ينهل منها جميع الأمة.

وهذا متفق عليه عند الإيرانيين بمختلف مذاهبهم وطوائفهم، فهم لا يكتفون بأداء السنن، وإنما ينطلقون فيها من ذلك التعلق بصاحبها صلى الله عليه وآله وسلم، فالتعلق به ومحبته هي الأساس الذي تبنى عليه كل الممارسات التي دعانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى فعلها والاقتداء به فيها.

لكن المغرضين يوهمون عوام الناس وبسطاءهم أن الإيرانيين الشيعة لا علاقة لهم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأن علاقتهم محصورة بأئمتهم، وهم واهمون في ذلك، فأساس تعلق الشيعة بأئمتهم هو ارتباطهم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولولا ذلك الارتباط، وتلك الوصية لما تعلقوا بهم.

فهم إنما تعلقوا بالإمام الحسين لقوله صلى الله عليه وآله وسلم فيه::(حسين مني، وأنا من حسين)([1])، ولذلك يرون أن اتباع الحسين، ومحبته وتعظيمه هو نفس تعظيم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وهكذا سائر الأئمة الذين اتفق على صلاحهم وعلمهم وتقواهم وانتسابهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جميع السنة والشيعة.

أما ما يدعيه المغرضون من أن الشيعة يفضلون الإمام عليا أو غيره من الأئمة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فوهم كبير، وهو ناتج من ذلك التعالي عن سؤال أهل العلم منهم، أو مطالعة تراثهم المحقق، والذي يجدون فيه أمثال هذه الرواية التي سئل فيها الإمام علي بن أبي طالب من بعض الأحبار ـ بعد أن سمع كلامه العجب ـ: (يا أمير المؤمنين أفنبي أنت؟)، فقال له الإمام علي: (ويلك، إنما أنا عبد من عبيد محمد صلى الله عليه وآله وسلم)([2])

المظهر الثاني: اهتمام الإيرانيين سنتهم وشيعتهم بجمع السنة النبوية والتحقيق فيها، والتعامل معها رواية ودراية، ولذلك ظهر فيهم محدثون كثيرون، وظهرت معهم أسفار حديثية كثيرة لا يمكن إلغاؤها، أو التهوين منها، ذلك أنها ركن أصيل في كلا المدرستين.

وفي هذا أكبر رد على أولئك المغرضين الذين يذكرون عن الإيرانيين أنهم لم يدخلوا الإسلام اقتناعا ومحبة، وإنما دخلوه ليشوهوه؛ فإن كان الأمر كذلك، فإن الثقة ترفع عن كل تلك الكتب التي جمعت فيها الأحاديث، والتي تعتبر مراجع أساسية لكلا المدرستين، ومنها صحاح وسنن ومسانيد ومستخرجات ومعاجم.. ولو ألغيناها لألغينا معها ثروة حديثية كبيرة، وسننا نبوية عظيمة.

المظهر الثالث: اهتمام الإيرانيين بمختلف مذاهبهم بتطبيق السنة النبوية المطهرة في جميع مناحي الحياة؛ فلم يظهر فيهم أولئك المتكبرون عليها، الذين يتوهمون أنهم يمكنهم الاكتفاء بالقرآن الكريم بدلها، وإن ظهر فيهم أمثالهم فهم محدودون جدا، ولا يهتم بهم الإعلام، ولا الشعب الإيراني، ذلك أنهم يصطدمون مع تعلقهم بأهل بيت النبوة الذين اعتبرهم الإيرانيون سفينة نجاتهم التي يتخلصون بها من الأهواء والبدع والضلالات.

ونحب أن نشير هنا إلى ما ذكرناه في مناسبات كثيرة من أن تطبيق السنة النبوية ليس محصورا في تلك المظاهر البسيطة المحترمة، بل هو يشمل مناحي الحياة جميعا، فتطبيق السنة في السياسة هي تحقيق السيادة، والوقوف مع المستضعفين وجميع قضايا الأمة، والحرص على الوحدة الإسلامية.. وللسياسة الإيرانية الحظ الكبير من هذه السنة.

والسنن الاجتماعية تنطلق من الحرص على التآلف والمودة والتناصر والتكافل بين المسلمين جميعا بغض النظر عن مذاهبهم وطوائفهم، بل حتى مع غير المسلمين الذين أمرنا أن نؤلف قلوبهم، ونحترم مقدساتهم.. وهذه سنة عظيمة، وللمجتمع الإيراني حظه الكبير منها.

وهكذا نجد السنن النبوية تتغلغل في جميع مناحي الحياة لتمتد حتى لطريقة أكلنا ونومنا ولباسنا وكل حركاتنا لتضبطها بآداب النبوة.. وكل ذلك موجود في المجامع الحديثية السنية والشيعية، والتي لا تختلف المسافات بينها كثيرا في هذا المجال.. وإن كان هناك اختلاف فهو اختلاف مبرر باختلاف المواقف من الرواة، لا بسبب رفض السنة نفسها، فهي أعظم من أن يرفضها مسلم.

بناء على هذا سنحاول في هذا الفصل البرهنة على هذه التجليات الثلاثة لتعلق الإيرانيين بالسنة النبوية، وكون ما يشاع عنهم إشاعة ظالمة، تنطلق من الحقد الأعمى، لا من البحث العلمي الموضوعي الرصين.

أولا ـ تعظيم الإيرانيين لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

وهذا مظهر لا يمكن أن يجادل فيه إلا مغرض، فمن زار إيران، أو رأى مسلسلاتها وأفلامها، فسيشاهد الناس جميعا يصلون على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبأصوات عالية جماعية لمناسبة ولغير مناسبة، بل يكفي أن يصيح أحد في الشارع، ليقول لهم: طلبا لشفائي، صلوا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا بكل من سمعه يردد بصوت عال: اللهم صل على محمد وآل محمد.. وهكذا تبدأ سلسلة الصلوات، حيث يذكر كل أحد طلبه، ويشفعه بطلب الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وهذا شاهد واحد من عشرات الشواهد على ذلك التعظيم الذي يوليه الإيرانيون لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكيف لا يولونه له، وهم يدينون له بالإسلام والتبعية، ويدينون لأهل بيته بالولاء والنصرة، وهل يمكن أن يوالي شخص أبناء رجل، ثم لا يوالي والدهم؟

ومن مشاهد تلك المحبة بالإضافة للصلوات، إحياؤهم للمناسبات المختلفة المرتبطة بميلاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبعثته والإسراء به.. وغيرها من المناسبات الكثيرة، وهي احتفالات رسمية تمتلئ بها إيران جميعا بالمحاضرات والمسابقات الخاصة بالتعريف برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وقد شاء الإمام الخميني، حتى يرفع الخلاف بين السنة والشيعة في تحديد موعد الاحتفال بالمولد النبوي الشريف أن يجعله أسبوعا كاملا، وهو نفسه أسبوع الوحدة الإسلامية، حيث أن المدرسة السنية ترى أن الميلاد كان في 12 ربيع الأول، بينما ترى المدرسة الشيعية أنه كان في 17 من نفس الشهر.. ولم يشأ الإمام الخميني أن يميل لأحد الجانبين؛ فجعل جميع المدة بينهما احتفالا، وسماه (أسبوع الوحدة الإسلامية)([3])

ومن مشاهد تلك المحبة بالإضافة إلى ذلك كله ما يحرص عليه الإيرانيون كثيرا، ويسمونه بالزيارات، وهي زيارات يؤدونها من بيوتهم ومحالهم المختلفة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته، وهي تتوزع على الأيام والمناسبات، لتبقى ذكراهم دائما عطرة في قلوبهم.

وعند التأمل في تلك الزيارات التي أوردها العلم الكبير الشيخ عباس القمي في كتابه (مفاتيح الجنان)، الممتلئ بالأدعية والصلوات، نجد أنه لا تكاد تخلو زيارة ولا دعاء من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والثناء عليه.

ومن تلك الزيارات المهمة والجميلة في ألفاظها ومعانيها الزيارة الخاصة بيوم السبت، والتي تردد في المساجد والبيوت الإيرانية كل سبت، وباللغة العربية، وهي تحوي معاني سامية في التعريف برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وسنذكر نصها هنا لأولئك الذين يتصورون الإيرانيين أعداء لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو لأمته ودينه، وأسألهم: هل يفعلون مثلها، أو ما هو دونها، حتى يرموا غيرهم بما يرمونه به من تهم؟

وكيفية تلك الزيارة التي تعتبر لوحدها وثيقة كافية في الدلالة على مبلغ التعلق والتعظيم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، هي أن يستشعر المؤمن ـ كما يذكرون ـ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكأنه بين يديه، ثم يقول له: أشهد أن لا إلـه إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنك رسوله، وأنك محمد بن عبد الله، وأشهد أنك قد بلغت رسالات ربك، ونصحت لأمتك، وجاهدت في سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وأديت الذى عليك من الحق، وأنك قد رؤفت بالمؤمنين، وغلظت على الكافرين، وعبدت الله مخلصا حتى أتاك اليقين، فبلغ الله بك أشرف محل المكرمين، الحمد لله الذي استنقذنا بك من الشرك والضلال، اللـهم صل على محمد وآله، واجعل صلواتك وصلوات ملائكتك المقربين وأنبيائك المـرسلين وعبادك الصالحين وأهل السماوات والأرضين ومن سبح لك يا رب العالمين من الأولين والآخرين على محمد عبدك ورسولك ونبيك وأمينك ونجيبك وحبيبك وصفيك وصفوتك وخاصتك وخالصتك وخيرتك من خلقك، وأعطه الفضل والفضيلة والوسيلة والدرجة الرفيعة، وابعثه مقاما محمودا يغبطه به الأولون والآخرون)

ثم يطأطئ رأسه تواضعا أمام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ليسأل حاجته، ويتوسل به إلى الله قائلا: (اللـهم إنك قلت {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا } (النساء: 64)، إلهي فقد أتيت نبيك مستغفرا تائبا من ذنوبي، فصل على محمد وآله واغفرها لي، يا سيدنا أتوجه بك وبأهل بيتك الى الله تعالى ربك وربي ليغفر لي)

ثم يتذكر فقده، ويتألم لذلك، ويقول مخاطبا له ثلاثا: (إنا لله وإنا اليه راجعون)، ثم يقول: (أصبنا بك يا حبيب قلوبنا، فما أعظم المصيبة بك حيث انقطع عنا الوحي، وحيث فقدناك فإنا لله وإنا اليه راجعون، يا سيدنا يا رسول الله صلوات الله عليك وعلى آل بيتك الطاهرين، هذا يوم السبت، وهو يومك، وأنا فيه ضيفك وجارك، فأضفني وأجرني فإنك كريم تحب الضيافة ومأمور بالإجارة، فأضفني وأحسن ضيافتي وأجرنا وأحسن إجارتنا بمنزلة الله عندك وعند آل بيتك وبمنزلتهم عنده وبما استودعكم من علمه فإنه أكرم الأكرمين)

وهكذا يروون أن أسلافهم سألوا الإمام الرضا، إمامهم الثامن، الذي يعتبرونه ملكهم والحاكم الحقيقي عليهم، قائلين: كيف يصلى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويسلم عليه بعد الصلاة؟ فأجاب: (السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، السلام عليك يا محمد بن عبد الله، السلام عليك يا خيرة الله، السلام عليك يا حبيب الله، السلام عليك يا صفوة الله، السلام عليك يا أمين الله، أشهد أنك رسول الله، وأشهد أنك محمد بن عبد الله، وأشهد أنك قد نصحت لأمتك، وجاهدت في سبيل ربك وعبدته حتى أتاك اليقين، فجزاك الله يا رسول الله أفضل ما جزى نبيا عن أمته، اللـهم صل على محمد وآل محمد أفضل ما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد)

وهكذا نجد الكثير من الصلوات في الصحيفة السجادية، وهي الصحيفة المنسوبة للإمام زين العابدين السجاد، ابن الإمام الحسين، وهي مملوءة بالأدعية والمناجيات، وفي كل مقطع منها نرى الصلوات على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبالصيغ المختلفة.

ومن تلك الصلوات الواردة فيها، والخاصة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والحاوية للمعارف الكثيرة المرتبطة به صلى الله عليه وآله وسلم، لتملأ القلوب محبة له وشوقا إليه: (الحمد الله الذي من علينا بمحمد نبيه صلى الله عليه وآله دون الأمم الماضية والقرون السالفة، بقدرته التي لا تعجز عن شئ وإن عظم، ولا يفوتها شئ وإن لطف، فختم بنا على جميع من ذرأ، وجعلنا شهداء على من جحد، وكثرنا بمنه على من قل. اللهم فصل على محمد أمينك على وحيك، ونجيبك من خلقك، وصفيك من عبادك، إمام الرحمة، وقائد الخير، ومفتاح البركة، كما نصب لأمرك نفسه، وعرض فيك للمكروه بدنه وكاشف في الدعاء إليك حامته، وحارب في رضاك أسرته، وقطع في إحياء دينك رحمه، وأقصى الأدنين على جحودهم، وقرب الأقصين على استجابتهم لك، ووالى فيك الأبعدين، وعادى فيك الأقربين. وأدأب نفسه في تبليغ رسالتك، وأتعبها بالدعاء إلى ملتك وشغلها بالنصح لأهل دعوتك، وهاجر إلى بلاد الغربة، ومحل النأي..)([4])

إلى آخر الصلاة التي يحرص الإيرانيون على أدائها في المناسبات المختلفة.. وهي مجرد نموذج ومثال عن صلوات كثيرة، يرددونها، وكلها ـ وبحسب اطلاعي الدقيق عليها ـ تحوي من المعارف والأشواق ما لم أره في أي دواوين أخرى من دواوين الزيارات أو الصلوات على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المتداولة لدى الصوفية في المدرسة السنية، بالإضافة إلى لغتها الجميلة الممتلئة بالبلاغة، وكيف لا تكون كذلك، وكلها من صياغة أبناء الإمام علي، وأحفاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وقد كان لذلك كله أثره البالغ في التحقق بالسنة النبوية المطهرة، ذلك أن السنة تنبني على المحبة، فلا يمكن أن نتبع من لا نحب، ولا يمكن أن نحب من لا نعرف.

ولهذا نجد في التراث الذي تركه علماء السلوك الإيرانيين الكثير من الكتب التي تعرف برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتجعل ذلك مقدمة للدعوة للاستنان بسنته.

ولعل من أقرب أمثلتها، وأكثرها انتشارا في العالم الإسلام كله، ذلك الكتاب الذي ألفه الغزالي الطوسي الإيراني، وجعله من جملة كتب إحياء علوم الدين، وسماه (آداب المعيشة وأخلاق النبوة)، وهو نفسه المتداول في المدرسة الشيعية ضمن كتب (المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء)، فقد حوى هذا الكتاب باختصار شديد تعريفا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ودستورا للتحقق بسنته.

وقد بدأه الغزالي بهذه الديباجة المعبرة: (الحمد للَّه الذي خلق كل شي‏ء فأحسن خلقه وترتيبه وأدّب نبيه محمّدا صلى الله عليه وآله وسلم فأحسن تأديبه، وزكى أوصافه وأخلاقه ثم اتخذه صفيه وحبيبه، ووفق للاقتداء به من أراد تهذيبه، وحرم عن التخلق بأخلاقه من أراد تخييبه)([5])

ثم ذكر غرضه من الكتاب بقوله: (رأيت أن أقتصر في هذا الكتاب على ذكر آداب رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، وأخلاقه المأثورة عنه بالإسناد فأسردها مجموعة فصلا فصلا، محذوفة الأسانيد، ليجتمع فيه مع جميع الآداب تجديد الإيمان وتأكيده بمشاهدة أخلاقه الكريمة التي شهد آحادها على القطع بأنه أكرم خلق اللّه تعالى وأعلاهم رتبة، وأجلهم قدرا، فكيف مجموعها، ثم أضيف إلى ذكر أخلاقه ذكر خلقته، ثم ذكر معجزاته التي صحت بها الأخبار ليكون ذلك معربا عن مكارم الأخلاق والشيم، ومنتزعا عن آذان الجاحدين لنبوته صمام الصمم، واللّه تعالى ولى التوفيق، للاقتداء بسيد المرسلين في الأخلاق، والأحوال وسائر معالم الدين، فإنه دليل المتحيرين، ومجيب دعوة المضطرين)‏ ([6])

ويمكن اعتبار هذا الكتاب مع صغر حجمه متنا في التعريف برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومن مزاياه الكبرى كونه يجمع بين المدرستين، فهو يردد في المحافل السنية، كما يردد في المحافل الشيعية، ولا يتوقف عن ترديده إلا أعداء المدرستين الذين يكفرون الشيعة، بسبب تشيعهم، ويكفرون الغزالي بسبب تصوفه، وأشعريته.

وهكذا كان المشروع الحضاري القديم لإيران ممتلئا بالمعرفة والمحبة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومنطلقا منها، وهو ما يزيف تلك المقولات التي تتهم الشيعة بالولاء لزرادشت بدل الولاء لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع أننا لا نجد قصيدة واحدة في مدح زرادشت، ولا ديانته في نفس الوقت الذي نجد فيه الدواوين الكثيرة التي ألفها إيرانيون في مدح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ولعل من أشهرها ما كتبه أكبر وأشهر شاعر إيراني يعرفه العامة والخاصة، ويرددون أشعاره، وينشدونها كل حين، وهو الشاعر المعروف سعدي الشيرازي([7]) الذي نظم الشعر بالفارسية والعربية، ومن قصائده المترجمة في مدح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والتي لا يزال الإيرانيون يرددونها، ويغنونها:

كريم السجايا، جميل الشِّيم

   نبيّ البرايا، شفيع الأمم

هو إمام الرسل، هادي السبيل

   وأمين الله، مهبط جبريل

إنه اليتيم، الذي لم يعرف القراءة

   لكنه نسخ كتباً كثيرة

وحين سلَّ عزمهُ سيف الرهبة

   انشق القمر نصفين إعجازاً لهُ

وحين تردد اسمه في أفواه الدنيا

   تصدع ديوان كسرى

إنهُ حطم اللات، بكلمة لا

   ومحا الدين العزيز مكانة العُزى

لم يحطم اللات والعُزى، فحسب

   بل نسخ التوراة والإنجيل والكتب

ركب ليلة القدر، فجاوز الفَلَك

   ومضى بالتمكين، والجاه، من المَلَك

وجدَّ في تيه القُربى، من الله

   حتى تخلف عنه جبريل في سدرة المنتهى

أثنى عليك الله، ومنحك التبجيل

   وقبل الأرض تقديراً لك جبريل

خجلت أمام قدرتك، السماء العلى

   أنت مخلوق، وآدم لا يزال طيناً، وماء

إلى آخر القصيدة الجميلة التي ذكرناها لأجل معانيها، لا لأجل ألفاظها، فهي مترجمة، وليست موزونة، ولا مقفاة، كما في لغتها الأصلية.

وقد كان كل ذلك أرضية صالحة للمشروع الحضاري الجديد الذي تبناه الشعب الإيراني لتوافقه مع طبيعته الروحانية، ولهذا نجد كل القادة الفكريين والسياسيين يذكرون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كل حين، ويشيدون بمكانته عند الله، وبكون الإنسان الكامل الذي لا يمكن التحقق بالإنسانية من دون التواصل معه، والاستنان بسنته.

والأمثلة على ذلك من خطاباتهم وكتاباتهم كثيرة جدا، لكنا سنقتصر هنا على بعض النماذج منها، وخاصة من تلك الشخصيات التي أساء إليها المغرضون والطائفيون دون أن يكلفوا أنفسهم بالتعرف عليها، ولا بقراءة كتاباتها.

ومنهم الشيخ مرتضى مطهري، الذي ألقى محاضرة مهمة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأسلوبه العقلاني الجميل، في تلك الفترة التي كان يحضر فيها للمشروع الحضاري الجديد، وقد نشرت تحت عنوان (الإنسان الكامل)، حدد فيها بعض مناحي الكمال في شخصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والتي جعلته محل عناية إلهية خاصة، كما جعلته سراجا منيرا للبشرية جميعا.

ومما جاء فيها قوله: (إنّ معرفة الإنسان الكامل، أو الإنسان النموذجيّ أو الأسمى واجبة علينا كمسلمين، لأنّه بحكم المثال والقدوة الّتي ينبغي أن يُقتدى بها، وليس بحثنا هذا مجرّد بحث علمّي بحت وإنّما له فائدة عمليّة كبيرة، إذ من خلاله نستطيع أن نشخّص الطريق الّذي أراد الإسلامُ من الإنسان والأمّة أن يسلُكاه للوصول إلى الإنسان الكامل الّذي يريده الإسلام)([8])

وانطلاقا من هذا المعنى المتفق عليه راح يعرض كيفية التعرف على الإنسان الكامل، وهو كما يذكر طريقان:

أولهما ـ كما يذكر مطهري ـ هو (الرجوع إلى القرآن الكريم والسنّة النبويّة، لِنرى الأوصاف الّتي ذكرها للإنسان الكامل، ولو بتعبير المسلم أو المؤمن الكامل، إذ المراد منهما هو الإنسان الّذي يصل إلى الكمال على ضوء تعاليم الإسلام. وفي المقام يوجد الكثير من النّصوص الّتي يمكن الاستفادة منها،)

وثانيهما ـ كما يذكر ـ هو الرجوع للنماذج الذي تمثل فيها الكمال الإنساني في أرقى درجاته، ولم يتمثل ذلك إلا في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفي ورثته الذين ورثوا أخلاقه، كما ورثوا سنته.

ثم يحدد الكيفية التي نتعرف بها على شخصيّة الإنسان الكامل، والتي يمكنها أن تؤثر في حياتنا، فيذكر أنها (لا تعني دراسة هويّته فقط، كمعرفة نسبه وتاريخ ولادته، وإنّما تعني ما هو أعمق من ذلك بكثير، تعني التعرّف على حقيقة شخصيّته لنستطيع من خلال ذلك تشخيص القدوة، ونكون بالتالي قادرين على الاقتداء بها.. وبهذا الاقتداء نكون مستحقّين للاتصاف بأنّنا أتباع محمّد صلى الله عليه وآله وسلم)

وهكذا راح يتدرج بالمستمعين والقراء بطريقته المنهجية التي تختلط فيها الفلسفة بالروحانية إلى الدرجة التي يقتنع فيها القارئ والمستمع أنه لا مناص له من اتباع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا لينال أجور الآخرة فقط، وإنما ليتحقق بإنسانيته أيضا.

وهكذا نجد نفس الخطاب الممتزج بالعقلانية والروحانية يردد لدى جميع القادة الروحيين والسياسيين في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ومن بينهم الإمام الخميني الذي كتب الكثير عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد جمعت بعض خطاباته في هذا المجال في كتاب بعنوان (الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في فكر الإمام الخميني)

ومن ذلك قوله عند الحديث عن عبودية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لله، وكونها أشرف مراتب الكمال الإنساني: (لا بدّ من الإشارة إلى أنّ العبوديّة المطلقة هي من أعلى مراتب الكمال ومن أرفع مقامات الإنسانيّة، ولا نصيب لأحد من البشر منها سوى أكمل خلق الله محمّد صلى الله عليه وآله وسلم أصالة وسائر الأولياء الكُمّل عليهم السلام تبعاً له، أمّا من سواهم فقدم عبوديّتهم عوجاء وعبادتهم وعبوديّتهم معلّلة بأسباب أخرى)([9])

ومن خلال هذا المعنى يفسر المعراج الذي حصل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيقول: (ولمّا كان من غير الممكن الوصول إلى المعراج الحقيقيّ المطلق إلّا بقدم العبوديّة، نرى أنّ قدم العبوديّة وجذبة الربوبيّة هي الّتي أسْرَت بتلك الذات المقدّسة إلى معراج القرب والوصول، لذا قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ…}، ولهذا أيضاً كان تأكيد العبوديّة قبل الرسالة في تشهّد الصلاة الّذي يمثّل الرجوع من الفناء المطلق المتحقّق في السجدة. ولعلّ في ذلك أيضاً إشارة إلى أنّ مقام الرسالة بالنتيجة هو ثمرة لجوهرة العبوديّة)([10])

وهكذا يتحدث الإمام الخميني عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مبينا مدى صلته بالله، من خلال تلك القابليات التي لم يطقها غيره، وهو يذكر أن تلك القابليات أصيلة في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بينما هي تبعية في غيره بمقدار صلته برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وهذه المقولة، أو هذا التعريف أكبر رد على تلك الفرية التي ينسبها المغرضون للإمام الخميني، والتي تمتلئ بها المواقع والكتب، وكأنها الكفر البواح، وهي قوله ـ في خطاب له عن الإمام المهدي ـ:(لقد جاء الأنبياء جميعا من أجل إرساء قواعد العدالة في العالم، لكنهم لم ينجحوا، حتى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاتم الأنبياء الذي جاء لإصلاح البشرية وتنفيذ العدالة لم ينجح في ذلك)([11])، وهم يتصورون أنه بقوله هذا فضل الإمام المهدي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، مع أن الأمر ليس كذلك.

فالنصوص المقدسة كلها تدل على ما ذكره؛ فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلغ الدين كاملا، وأدى الرسالة، لكن الواقع لم يكن يسمح بانتشار الدين ولا العدالة في عهده في الأرض جميعا، مثلما سيحصل زمن الإمام المهدي، وذلك بسبب عدم توفر القابلية في تلك المجتمعات، لا في تقصير الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

وقد أشار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى هذا المعنى في الحديث المعروف، الوارد في الصحاح، والذي شكا فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأم المؤمنين عائشة قومه، وأنه كان ينوي إجراء بعض التعديلات في الكعبة، لكن خشيته منهم ومن ارتدادهم، جعله يتركها، حيث قال لها صلى الله عليه وآله وسلم: (يا عائشة لولا أن قومك حديث عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهدم، فأدخلت فيه ما أخرج منه وألزقته بالأرض، وجعلت له بابين بابا شرقيا وبابا غربيا فبلغت به أساس إبراهيم)([12])

وقد علق ابن حجر على هذا الحديث بقوله: (خشي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يظنوا لأجل قرب عهدهم بالإسلام أنه غير بناءها لينفرد بالفخر عليهم في ذلك، فيستفاد منه ترك المصلحة لأمن الوقوع في المفسدة، وترك إنكار المنكر خشية الوقوع في أنكر منه)([13])

ولذلك نرى أن القابلية لو توفرت كاملة في ذلك الجيل الذي عاش فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لألغى الرق، وألغى معه الكثير من المظاهر السلبية التي جاء الإسلام للتنفير منها، لكن لم يتسن تنفيذها في ذلك الحين، بسبب عدم توفر القابلية الكافية.

وبناء على هذا، فإن كلام الإمام الخميني ينصب في هذا الاتجاه، ويفسر على هذا المحمل، بل قد أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين تحدث عن الأنبياء، فقال: (عرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهيط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد)([14])

وقد علق بعض أولئك الذين يتهمون الإمام الخميني بسبب ذلك الخطاب على هذا الحديث بقوله: (فتصور هذا النبي يأتي ومعه رهيط، تصغير لقلة عددهم، فهذا النبي لا ينقصه إخلاص، ولا ينقصه علم، ولا ينقصه تأييد من الله تبارك وتعالى، ولا ينقصه معرفة بوسائل الدعوة، وطرق التأثير في الناس، فهذه الأمور الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، هم أكمل الناس فيها، ومع ذلك يأتي ومعه الرهيط، ومن هذا نأخذ فائدة مهمة، وهي: أن الهداية بيد الله عز وجل، وأن القلوب بيده، فالأنبياء يأتون إلى أقوامهم فما تفتح تلك القلوب، ليس نقصاً في ذلك النبي، ولا في أسلوبه، وإنما هؤلاء أعماهم الله عز وجل وأذلهم وأخزاهم، فحجبهم عن هذا النور، وعن هذا الهدى)([15])

ولو أنه وغيره طبق هذا الخطاب على تلك المقولة التي قالها الإمام الخميني لأجاب نفسه بنفسه، ولكن المشكلة ليست في العقول التي لا تعي، وإنما في النفوس الممتلئة بالدنس الذي يعميها عن تبصر الحقائق، أو الاعتراف بها.

ثانيا ـ اهتمام الإيرانيين بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

من أهم تجليات اهتمام الإيرانيين بالسنة النبوية المطهرة رواية ودراية وشرحا تلك المصنفات الكثيرة التي ألفها رجال ينتسبون لكل مدينة من مدن إيران.. ولو أننا طبقنا تلك المقولة التي يرددها المغرضون عن موقف الإيرانيين من الإسلام ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لفقدنا ثروة حديثية كبيرة لا يمكن تعويضها.

ذلك أن عصر الاهتمام بالحديث من لدن الإيرانيين ابتدأ منذ العهد الأول، أي من عهد الرواية، ثم نشط في عهد التدوين، وبقي نشيطا طيلة العهود الإسلامية المختلفة إلى العصر الحاضر.

ونحب أن نذكر هنا إلى أن علم الحديث نفسه ـ كعلم مستقل ـ أسس في إيران، ومن طرف اثنين من علمائها الكبار، أما أولهما، فهو الإمام الحافظ أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن بن خلاد الرامهرمزي([16]) (265هـ ـ 360 هـ)، وذلك في كتابه الذي يعد أول كتاب ظهر في هذا العلم الجليل كتاب (المحدث الفاصل بين الراوي والواعي)

وقد نوه العلماء كثيراً بكتابه (المحدث الفاضل)، وصرحوا بانه أول كتاب جامع في أصول الحديث، وباحتوائه على كثير من مسائل الفن صار أساسا لما صنف بعده من الكتب في أصول الحديث، قال الذهبي عنه: (كان الإمام الرامهرمزي من أئمة هذا الشأن (يقصد به علوم الحديث) ومن تأمل كتابه في علوم الحديث لاح له ذلك. وذكره الثعالبي في يتيمة الدهر: وتبين لنا من آثار ابن خلاد العلمية ومن اقوال العلماء وأصحاب التراجم في وصفه ووصف مصنفاته، وقد جمع بين العلم والأدب ونبغ في الحديث والشعر وبرع في الرواية والتأليف)([17])

وقد ذكر في مقدمة الكتاب، فضل علم الحديث ورجاله، ومنزلتهم الرفيعة، ثم ابتدأ الكتاب باب فضل الناقل لسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم باب فضل الطالب لسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والراغب فيها والمستن بها، ثم باب النية في طلب الحديث، ثم بباب أوصاف الطالب وآدابه، وختمه بباب المصنفون من رواة الفقه في الأمصار.

أما الكتاب الثاني، فهو بعنوان [معرفة علوم الحديث]، وهو للحاكم النيسابوري، (321 – 405هـ)، وهو أوسع من كتاب الرامهرمزي بالنسبة لعدد الأنواع.

ولم يكتف الإيرانيون بذلك التأصيل لعلم الحديث، وإنما دخلوا باب الرواية والدراية من بابها الواسع، وما على من يريد أن يتحقق من ذلك، ويتثبت منه سوى الذهاب إلى كتب الطبقات والرجال، ليرى بنفسه ذلك الكم الكبير من المحدثين والحفاظ الذين ولدوا في إيران، وانتسبوا إلى مدنها، ليرى ماذا سيبقى لو أزيلت أسماؤهم وكتبهم من دواوين أهل الحديث.

وحتى نريح القارئ من عناء ذلك البحث، أو من المنهج المتبع فيه، فسنذكر هنا باختصار نماذج محدودة جدا عن رجال من كبار المحدثين الإيرانيين بحسب المدن التي ينتسبون إليها، ومن شاء المزيد من ذلك، فما عليه سوى أن يكتب اسم المدينة الإيرانية، ثم يبحث في كتب الطبقات والتاريخ، ليرى بعينه حقيقة ذلك الاهتمام الذي يفند جميع شبهات المغرضين، الذين يصورون الإيرانيين بصورة المتآمرين، لا بصورة الذين بذلوا كل ما لديهم لخدمة الإسلام.

1 ـ المحدثون بنيسابور:

تعتبر نيسابور من مراكز الحضارة الإسلامية الكبرى لا في إيران وحدها، بل في العالم الإسلامي أجمع، وهي مشهورة بكثرة محدثيها، واهتمامهم خصوصا بجمع الأحاديث الصحيحة، ولذلك اجتمع فيها كبار المحدثين الذين جمعوا الصحيح كمسلم وابن حبان وابن خزيمة والحاكم وغيرهم.

وقد اهتم أهلها بجمع الحديث من العصور الأولى للإسلام، ولذلك أُفرد رجالها وتاريخها بالتأليف، كما سنرى في الفصل المخصص لمراكز الحضارة الإسلامية في إيران، وقد عبر بعضهم عن ذلك بقوله: (وقد نبغ فيها جماعة من العلماء في كل فن ما لا يحصی عددهم في القرون الأولی الإسلامية، لا سيما في فن الحديث والفقه، حتی فاقت نظاميةُ نيسابور نظاميةَ بغداد. فقد قيل بلغ عدد محدثيها ورجالها العلمية في القرون الأربعة الأولی إلی 3000 عالماً)([18])

وممن أفرد تاريخها ورجالها بالتأليف، مما يرتبط بالحديث وعلومه ما كتبه الإمام الحافظ الحاكم (321 – 405هـ)، صاحب كتاب المستدرك على الصحيحين، وقد ذكر البيهقي في (تاريخ بيهق) أنه يتألّف من (12) جزءا مرتبا على حروف المعجم، ويضم تراجمَ للشخصيات البارزة في نيسابور إلى سنة 380هـ، وله تكملة فيها ذكر للشيوخ الذين ماتوا بعد سنة 388هـ.

ومن المحدثين الكبار في نيسابور، والذين لا يمكن الاستغناء عن أحاديثهم في المدرسة السنية مسلم بن الحجاج النيسابوري (206 هـ – 261 هـ)، صاحب كتاب (الصحيح)، أو (الجامع الصحيح)([19]) الذي يعتبر أحد أهم كتب جوامع الحديث النبوي عند المسلمين في المدرسة السنية، بل إنهم يعتبرونه ثالث أصحّ الكتب على الإطلاق بعد القرآن الكريم، وصحيح البخاري.

بل إن هناك، وخصوصا من المغاربة، من يفضله على صحيح البخاري، وذلك بسبب المنهجية التي اتبعها في تصنيفه، فهو يسرد الاحاديث بأكملها دون تقطيع، لا كما صنع البخارى، ومنها سرده أسانيد الحديث قبل ذكره لها، ومنها الاهتمام بدقة الألفاظ، وخصوصا تلك التي وقع فيها الخلاف.

وقد ذكر ابن حجر العسقلاني سبب ذلك التفضيل، فقال: (حصل لمسلم في كتابه حظ عظيم مفرط لم يحصل لأحدٍ مثله بحيث أن بعض الناس كان يفضله على صحيح محمد بن إسماعيل، وذلك لما اختص به من جميع الطرق وجودة السياق والمحافظة على أداء الألفاظ كما هي من غير تقطيع ولا رواية بمعنى، وقد نسج على منواله خلق عن النيسابوريين فلم يبلغوا شأوه وحفظت منهم أكثر من عشرين إماما ممن صنف المستخرج على مسلم فسبحان المعطي الوهّاب)([20])

ولذلك أجمع العلماء على فضله، فقد قال فيه أبو علي النيسابوري: (ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مسلم بن الحجاج في علم الحديث)، وقال مسلمة بن القاسم القرطبي: (مسلم بن الحجاج النيسابوري جليل القدر ثقة من أئمة المحدثين له كتاب في الصحيح، لم يضع أحد مثله)، وقال الذهبي: (كتاب نفيس كامل في معناه، فلما رآه الحفاظ أعجبوا به)، وقال النووي: (ومن حقق نظره في صحيح مسلم رحمه الله واطلع على ما أودعه في أسانيده وترتيبه وحسن سياقته وبديع طريقته من نفائس التحقيق وجواهر التدقيق وانواع الورع والاحتياط والتحري في الرواية وتلخيص الطرق واختصارها وضبط متفرقها وانتشارها وكثرة اطلاعه واتساع روايته وغير ذلك ما فيه من المحاسن والأعجوبات واللطائف الظاهرات والخفيات عَلِمَ أنه إمامٌ لا يلحقه من بعد عصره وقل من يساويه بل يدانيه من أهل وقته ودهره وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء)([21])

ومن المحدثين الكبار بنيسابور الحافظ محمد بن اسحاق بن خزيمة النيسابوري (223-311 هـ) الملقب بشيخ الإسلام، وإمام الأئمة، وصاحب كتاب صحيح ابن خزيمة، والذي قال فيه أبو حاتم بن حبان: (ما رأيت علی وجه الأرض من يحسن صناعة السنن ويحفظ ألفاظها الصحاح وزياداتها حتی كان السنن كلها بين عينيه إلا ابن خزيمة)([22])

وقال السبكي عنه في ترجمته: (المجتهد المطلق، البحر العجاج جمع أشتات العلوم، وهو إمام الأئمة)([23])

وقال عنه ابن كثير: (هو من المجتهدين في دين الإسلام)([24])

وقال عنه الذهبي: (الحافظ الكبير، انتهت إليه الإمامة والحفظ في عصره بخراسان)([25])

وغيرها من المقولات التي يتبناها السلفيون خصوصا، فابن تيمية يشيد كثيرا بابن خزيمة، ولست أدري كيف يوفقون بين ذلك، وبين اتهامهم للإيرانيين بكونهم مؤامرة على الإسلام، وأنهم ما دخلوا الإسلام إلا ليشوهوه؟

ومن كبار المحدثين بنيسابور: محمد بن عبد الله المشهور بـ (الحاكم النيسابوري) (321 – 405هـ)، الذي يلقب بـ (الإمام، الحافظ، الناقد، العلامة، شيخ المحدثين، صاحب التصانيف)، وقيل فيه: (أدرك الأسانيد العالية بخراسان، والعراق، وما وراء النهر، وسمع من نحو ألفي شيخ. صنّف وخرَّج ورجَّح وصحَّح وعدَّل، وكان من بحور العلم. كان إمام عصره في الحديث، العارف به حق معرفته، صالحاً ثقة)([26])

وهو صاحب (المستدرك على الصحيحين)، و(تاريخ نيسابور)، و(علوم الحديث)، وكتبه لا تزال تعتمد في الرواية والدراية، ولا يمكن لمن يدرس علوم الحديث أن يستغنى عن كتبه فيها، ذلك أنها كانت من أوائل ما كتب في الموضوع.

وقد قال الشيخ أحمد شاكر عن كتابه المستدرك: (صحيح ابن خزيمة وصحيح ابن حبان والمستدرك علی الصحيحن للحاكم، هذه الكتب الثلاثة هي أهم الكتب التي ألفت في الصحيح المجرد بعد الصحيحين للبخاري ومسلم)([27])، ومن العجيب أن هؤلاء الثلاثة الذين ذكرهم كلهم من نيسابور، بالإضافة لمسلم، وإن شئنا أضفنا البخاري، فقد كان كثير التردد على نيسابور، في حال تلمذته، وحال أستاذيته ([28]).

ومن كبار المحدثين بنيسابور: الإمام ابن حبان (270هـ — 354هـ)، صاحب الصحيح، وهو الذي وصف بأنه (الإمام العلامة الحافظ، المحدّث، المؤرخ، القاضي، شيخ خراسان، من كبار أئمة علم الحديث والجرح والتعديل)([29])

وهو الذي قال فيه قال أبو سعد عبد الرحمن بن أحمد الإدريسي: (أبو حاتم كان من فقهاء الناس، وحفّاظ الآثار، المشهورين في الأمصار والأقطار، عالما بالطب والنجوم وفنون العلوم، ألّف المسند الصحيح، والتاريخ، والضعفاء، والكتب المشهورة في كل فنّ)

وقال ياقوت الحموي في معجم البلدان: (كان ابن حبان مكثرا من الحديث والرّحلة والشيوخ، عالما بالمتون والأسانيد، أخرج من علوم الحديث ما عجز عنه غيره، ومن تأمّل تصانيفه تأمّل منصف، علم أن الرجل كان بحرا في العلوم)

وقال عنه ابن حجر العسقلاني: (كان من أئمة زمان، وطلب الحديث على رأس سنة ثلاث مئة.. وكان عارفا بالطب والنجوم والكلام والفقه، رأسا في معرفة الحديث، صاحب فنون، وذكاء مفرط، وحفظ واسع إلى الغاية)

ومن كبار المحدثين بنيسابور: الحافظ أحمد بن حسين البيهقي([30]) (384-458)، والذي وصف بأنه (الحافظ الكبير الفقيه الأصولي الناقد)، وهو صاحب مراجع كبرى في الحديث وعلومه لا يمكن الاستغناء عنها، منها (السنن الكبری)، و(المدخل إلی السنن الكبری)، و(معرفة السنن والآثار)، والذي قال عنه السبكي: (هذا كتاب لا يستغني عنه فقيه شافعي)([31])

ومن أهم كتبه في نظري كتابين تميز بهما، الأول (دلائل النبوة)، وهو من أجمع وأفضل ما كتب في براهين النبوة، وقد قال عنه ابن كثير: (دلائل النبوة لأبي بكر البيهقي من عيون ما صنّف في السيرة والشمائل)

والثاني (الأسماء والصفات)، والذي قال عنه السبكي: (لا أعرف له نظيراً)

وقد أشاد بالبيهقي كل من ترجموا له، قال الذهبي عنه: (كان البيهقي أوحد زمانه وفرد أقرانه وحافظ أوانه)، وقال عنه: (لو شاء الذهبي أن يعمل لنفسه مذهبا يجتهد فيه لكان قادرا على ذلك لسعة علومه، ومعرفته بالاختلاف)([32])

وقال عنه إمام الحرمين الجويني: (ما من شافعي إلا وللشافعي في عنقه منة إلا البيهقي فإن له علی الشافعي منة لتصانيفه ونصرته لمذهبه وأقاويله)([33])

وقال عنه ابن خلكان: (الفقيه الشافعي الحافظ الكبير المشهور، واحد زمانه، وفرد أقرانه في الفنون، من كبار أصحاب الحاكم أبي عبد الله البيع في الحديث، ثم الزائد عليه في أنواع العلوم)([34])

وقال ابن كثير: (كان أوحد زمانه في الإتقان، والحديث، والفقه، والتصنيف، وكان فقيها محدثا، أصوليا.. وجمع أشياء كثيرة نافعة، لم يسبق إلى مثلها، ولا يدرك فيها، وكان فاضلا من أهل الحديث، مرضي الطريقة) ([35])

بالإضافة إلى هؤلاء نجد الكثير من الرواة المتقدمين الذين اعتمد على رواياتهم أهل الحديث، وخصوصا أصحاب الصحاح منهم، ومنهم يحيی بن يحيی أبوبكر بن عبد الرحمن أبو زكريا النيسابوري الحافظ (142 هـ ـ). الذي تتلمذ على يديه البخاري ومسلم والدارمي وبن بشار والذهلي والبيهقي والآخرون.. وقد قال عنه إسحاق بن راهويه: (ما رأيت مثل يحيی بن يحيی، ولا أحسب أنه رأی مثل نفسه)، وقال: (أصبح يحيی بن يحيی إمام أهل الشرق والغرب)، وقال: (مات يحيى بن يحيى يوم مات وهو إمام لأهل الدنيا)، وقال عنه عبد الله بن أحمد بن حنبل: (سمعت أبي يذكر يحيی بن يحيی فأثنی علیه خيراً وقال: ما أخرجت خراسان بعد ابن مبارك مثله)([36])

هذه مجرد نماذج عن كبار المحدثين من أهل نيسابور، والذين لا يمكن بحال من الأحوال أن نستغني عن جهودهم في خدمة السنة النبوية، ونحن نطلب من أولئك الذين يشككون في إيران، وإسلام أهلها، أن يتركوا العودة لهذه المصادر، لأنه لا يستقيم أن يأخذوا أحاديثهم من الفرس المتآمرين على الإسلام، أو من المجوس الذين لا حظ لهم في الإسلام.

2 ـ المحدثون بأصفهان:

تعتبر أصفهان من مراكز الحضارة الإسلامية الكبرى، وقد كانت مقصد الكثير من العلماء وطلبة العلم، وخاصة علم الحديث ابتداء من العصور الأولى للإسلام، ولذلك أتيح لها أن تنجب كبار المحدثين بالإضافة لكبار الأدباء والفقهاء والمؤرخين وغيرهم، والذين سنذكر بعضهم في الفصول التالية من هذا الكتاب.

ومن المحدثين الكبار الذين أنجبتهم أصفهان أبو نعيم الأصفهاني (336 هـ – 430 هـ) المؤرخ الرحالة، وصاحب المؤلفات المهمة جدا في الحديث وغيره، ومنها: حلية الأولياء، والمسـتخرج على البخاري، ودلائل النبـوّة، وتاريخ أصفهان، ومعجم الصحابة.

ويعد كتابه (حلية الأولياء) من أجمع ما كتب في بابه، حتى أن الكثير من الكتب التي أتت بعده كانت عيالا عليه، فقد جمع فيه أسامي جماعة كبيرة من العلماء والمحدثين والنساك وغيرهم ابتداء من قرن الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن بعدهم، وقد اشتمل على زهاء 800 ترجمة، وقد قال عنه الحافظ الذهبي:(لم يصنف مثل حلية الأولياء)

ومن المحدثين الكبار الذين أنجبتهم أصفهان إسماعيل بن محمد الأصفهاني، الملقب بقوام السنة (457 – 535 هـ)، وكان من أعلام الحفاظ، ومن كتبه (الجامع) في التفسير، ثلاثون مجلدة، و(الإيضاح) في التفسير، أربع مجلدات، وتفسيران آخران، وتفسير بالفارسية، عدة مجلدات، و(دلائل النبوة) و(التذكرة) نحو 30 جزءا، و(سير السلف) في تراجم الصحابة والتابعين، و(الترغيب والترهيب) و(شرح الصحيحين) و(الحجة في بيان المحجة) و(إعراب القرآن) و(المبعث والمغازي)([37])

وقد قال عنه تلميذه أبو سعد السمعاني: (كان إمامًا في فنون العلم في التفسير والحديث واللغة والأدب حافظًا متقنًا، كبير الشأن، جليل القدر، عارفًا بالمتون والأسانيد، سمع الكثير بنفسه ونسخ، ووهب أكثر أصوله في آخر عمره، وأملى بجامع أصفهان قريبًا من ثلاثة آلاف مجلس، وكان يحضر مجلسه جماعة من الشيوخ والشبان ويكتبون، ووقت مقامي ما فاتني من أماليه شيء، وكان يملي عليّ في كل أسبوع يومًا مجلسًا خاصًا في داره وأقرأ عليه في كل أسبوع يومين… كتبت عنه الكثير واستفدت منه، وهو من شيوخ والدي رحمه الله)([38])

وقال: (كان والدي يقول: ما رأيت بالعراق من يعرف الحديث ويفهمه غير اثنين: إسماعيل الجوزي بأصفهان، والمؤتمن بن أحمد ببغداد)([39])

وقال أبو موسى المديني في معجمه:(أبو القاسم الحافظ إمام أئمة وقته، وأستاذ علماء عصره، وقدوة أهل السنة في زمانه، حدثنا عنه غير واحدٍ من مشايخنا في حال حياته بمكة، وبغداد، وأصفهان… ولا أعلم أحدًا عاب عليه قولا ولا فعلا، ولا عانده أحد إلا ونصره الله، وكان نزه النفس عن المطامع، ولا يدخل على السلاطين ولا على المتصلين بهم، قد أخلى دارًا من ملكه لأهل العلم مع خفة ذات يده، ولو أعطاه الرجل الدنيا بأسرها لم يرتفع عنده، أملى ثلاثة آلاف وخمسمائة مجلس، وكان يُملي على البديهة)

وقال: (وقد قرأ عدة ختمات بقراءات على جماعة، وأما علم التفسير، والمعني، والإعراب، فقد صنف فيه كتابًا بالعربية والفارسية، وأما علم الفقه فقد شهرت فتاويه في البلد والرساتيق، بحيث لم ينكر أحدٌ شيئا من فتاويه في المذهب، وأصول الدين، والسنة)([40])

وقال عنه ابن كثير: (الإمام الحافظ الفقيه الكبير، أبو القاسم التميمي الطلحي الأصفهاني الجوزي الملقب بقوام السنة، أحد أئمة الشافعية وجهابذة الحديث ونقادهم)([41])

ومن المحدثين الكبار الذين أنجبتهم أصفهان أبو الشيخ الأصفهاني (274 – 369 هـ)، الذي وصفه الذهبي في (السير) بأنه (الإمام، الحافظ، الصادق، محدث أصفهان)، وقال: (سمع في سنة أربع وثمانين وهلم جرا، وكتب العالي والنازل، ولقي الكبار)، وقال: (قد كان أبو الشيخ من العلماء العاملين صاحب سنة واتباع لولا ما يملأ تصانيفه بالواهيات)، وقال: (ويروي عنه أنه قال: ما عملت فيه حديثا إلا بعد أن استعملته)، وقال: (عن بعض الطلبة قال: ما دخلت على أبي القاسم الطبراني إلا وهو يمزح أو يضحك، وما دخلت على أبي الشيخ إلا وهو يصلي)

ومن مصنفاته التي لا تزال منتشرة ومشتهرة: (السنة)، و(العظمة)، و(السنن)، و(التفسير)، و(ثواب الأعمال)، و(أخلاق النبي)، و(التوبيخ والتنبيه)، و(الفوائد)، و(التاريخ)، و(طبقات المحدثين بأصفهان)

بالإضافة إلى هؤلاء نجد الكثير من المحدثين من غير أهل أصفهان الذين أقاموا بها مدة طويلة، وتخرج على أيديهم الكثير من طلبة العلم، ومنهم أبو سعيد الرازي الذي أقام باصفهان 45 سنة ثم رحل إلی العراق، ثم راجع منها إلی أصفهان واستوطنها، وهو صاحب المسند وغيره من كتب الحديث.

ومنهم الحافظ أبوبكر عبد الله بن أبي داود السجستاني صاحب السنن، الذي قدم أصفهان، فقال: (حدثت من حفظي بإصفهان ستة وثلاثين ألفاً ألزموني الوهم فيها في سبعة أحاديث، فلما انصرفت وجدت في كتابي خمسة منها علی ما كنت حدثتهم به)([42])، وهذا يدل على مبلغ اهتمام الاصفهانيين بالسنة النبوية الشريفة.

هذا من المدرسة السنية، أما المدرسة الشيعية، فقد كان في أصفهان الكثير من المحدثين، لعل من أشهرهم، وأكثرهم جمعا للحديث محمد باقر المجلسي (1037 هـ ـ 1111)، صاحب المؤلفات الروائية الكثيرة، ومنها (مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول) في شرح كتاب الكافي لمحمد بن يعقوب الكليني في 26 مجلَّداً.

ومنها (ملاذ الأخيار في فهم تهذيب الأخبار) شرح على كتاب (تهذيب الأحكام) لمحمد بن الحسن الطوسي، يقع في 16 مجلَّداً بطبعته الجديدة.

ومن أشهرها (بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار)، والذي يعد بحق من أكبر الموسوعات الحديثيَّة عند الشيعة، بل عند المسلمين جميعا، إذ تتجاوز عدد مجلَّداته 100 مجلد، وترجمت كثير من مجلَّداته إلى الفارسيَّة والأردويَّة والإنگليزيَّة، ونحب أن ننبه هنا إلى أن غرضه من كتابه هذا هوجمع أكبر قدر من الأحاديث والروايات من المصادر المختلفة حرصا على الحفظ عليها، ولذلك لا يعني أن كل ما فيه صحيح، على عكس ما يفعل السلفيون والطائفيون حين يعمدون إلى الروايات الواردة فيها ويرمون بها الشيعة من غير نظر في موقفهم منها.

وأحب أن أشيد هنا بالدور التصحيحي الذي تقوم به الجمهورية الإسلامية الإيرانية في تنقيح التراث الشيعي، ومن بينها هذه الموسوعة التي يستثمرها الطائفيون في التفريق بين المسلمين.

وقد ذكرت وكالة (تسنيم للأنباء) أن العلامة ناصر مكارم شيرازي، طلب من رئيس وخبراء مركز الأبحاث الإسلامية في مدينة قم، ضرورة تجميع المصادر الشيعية وصيانتها، وقال إنهم قد بدأوا مشروعاً مهماً لغربلة كتاب (بحار الأنوار) واستخلاصه، وأكد أنهم في حوزة قم يعملون بشكل جاد على تدوين (طبعة جديدة) من كتاب (بحار الأنوار) خالية من التحريف والأحاديث الموضوعة.

وأوضح أنهم ومن خلال هذا المشروع الكبير يحاولون غربلة الأحاديث والروايات الضعيفة والزائفة، وأنهم انتهوا من طباعة 6 مجلدات من أصل 110 مجلدات من هذا الكتاب العملاق.

ولفت العلامة الشيرازي إلى أن (الطبعة الجديدة) لكتاب (بحار الأنوار) ستحل العديد من المشاكل الحالية، كما شدد على ضرورة تعديل العديد من مصادر الفقه الشيعي والكتب الأخرى في هذا المجال وفق متطلبات العصر الحاضر.

وما ذكرته الوكالة دليل على أن الجهود الكبيرة التي تقوم بها الجمهورية الإسلامية الإيرانية في مشروعها الحضاري الجديد لا تقتصر على تلك الجوانب السياسية، بل تتعداها إلى التصحيح الديني نفسه، بتنقيته من التحريف والتبديل والتغيير الذي اعتراه عبر العصور المختلفة.

3 ـ المحدثون بطهران:

قد يتصور البعض أنه لا يوجد علماء ولا حضارة قديمة في طهران بسبب قلة وجود النسبة إليها في معاجم الرجال، مثلما توجد النسبة للنيسابوري والأصفهاني والطوسي وغيرها.

وسبب ذلك هو أن طهران الحالية لم تكن قديما سوى قرية صغيرة من قرى مدينة الري، ولذلك فإن من شاء أن يبحث في حضارة طهران، فعليه أن يبحث في حضارة الري، ومن شاء أن يعرف علماءها ورجالها الكبار، فعليه أن يبحث في النسبة المعروفة بـ [الرازي]، وهي نسبة مشهورة جدا في كتب التاريخ والرجال، وتدل على مبلغ الحضارة التي بلغتها.

وقد اهتمت الري، أو طهران الحالية، بعلم الحديث اهتماما بالغا، أشار إليه السمعاني بقوله: (أقمت بها قريباً من أربعين يوماً في انصرافي من العراق، وكتبت بها عن جماعة من الرازية تقرب من الثلاثين نفساً)([43])، وهو عدد هائل مقارنة بمدة إقامته.

ومن كبار المحدثين فيها أبو حاتم الرازي (195 – 277 هـ)، الذي وصف بأنه (حافظ للحديث، من أقران البخاري ومسلم)، ومن كتبه (طبقات التابعين) وكتاب (الزينة) و(تفسير القرآن العظيم) و(أعلام النبوة)

ومنهم أبوزرعة عبيدالله بن عبدالكريم الرازي (200 – 264 هـ)، وقد وصف بأنه (كان اماماً ربانياً متقناً حافظاً مكثراً صادقاً، قدم بغداد غير مرة، وجالس أحمد بن حنبل وذاكره وكثرت الفوائد في مجلسها)([44])

ومن مؤلفاته التي كانت مصادر للمحدثين منذ تأليفها إلى اليوم: فوائد الرازيين، الفوائد، الفضائل، أعلام النبوة، أو دلائل النبوة، كتاب السير، كتاب المختصر، كتاب الزهد، كتاب الأطعمة، كتاب الفرائض، كتاب الصوم، كتاب الآداب، كتاب الوضوء، كتاب الشفعة، كتاب الأفراد، كتاب العلل، كتاب الجرح والتعديل، كتاب بيان خطأ البخاري في تاريخه، التفسير، أجوبته على أسئلة البرذعي في الضعفاء، أجوبته على أسئلة البرذعي في الثقات، كتاب أسماء الضعفاء، كتاب الصحابة، كتاب المسند.

وقد اتفق جميع المحدثين على حفظه وإتقانه([45])، فقد روى محمد بن جعفر قال: سئل أبو زرعة عن رجل حلف بالطلاق: أن أبا زرعة يحفظ مائتي ألف حديث، هل حنث؟ فقال: لا. ثم قال أبو زرعة: أحفظ مائتي ألف حديث كما يحفظ الإنسان { قل هو الله أحد }، وفي المذاكرة ثلاثمائة ألف حديث.

وقال صالح بن محمد: سمعت أبا زرعة يقول: كتبت عن رجلين مائتي ألف حديث، كتبت عن إبراهيم الفراء مائة ألف حديث، وعن ابن أبي شيبة: عبد الله مائة ألف حديث.

ولهذا قال ابن راهويه: (كل حديث لا يعرفه أبو زرعة فليس له أصل)، وقال عبد الله بن أحمد: (لما قدم أبو زرعة نزل عند أبي، فكان كثير المذاكرة له، فسمعت أبي يوماً يقول: ما صليت غير الفرض؛ استأثرت بمذاكرة أبي زرعة على نوافلي)

وقال أبو يعلى الموصلي: (ما سمعنا بذكر أحد في الحفظ إلا كان اسمه أكبر من رؤيته، إلا أبا زرعة الرازي؛ فإن مشاهدته كانت أعظم من اسمه، وكان قد جمع حفظ الأبواب والشيوخ والتفسير، كتبنا بانتخابه بواسط ستة آلاف حديث)

وقال يونس بن عبد الأعلى: (إن أبا زرعة أشهر في الدنيا من الدنيا)

وقال الذهبي: (يعجبني كثيراً كلام أبي زرعة في الجرح والتعديل؛ يبين عليه الورع والمخبرة، بخلاف رفيقه أبي حاتم؛ فإنه جراح)

 ومن كبار المحدثين في الري محمد بن حميد الرازي [160 – 248 هـ]، وكان من الرواة الكبار أصحاب الأسانيد العالية، وقد قال عنه أبو زرعة: (من فاته محمد بن حميد، يحتاج أن ينزل في عشرة آلاف حديث)، قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: (سمعت أبي يقول لا يزال بالري علم ما دام محمد بن حميد حيا)، وقال أبو قريش الحافظ: (قلت لمحمد بن يحيى ما تقول في محمد بن حميد فقال ألا تراني أحدث عنه)([46])

ومنهم أبو عبدالله جرير الرازي (توفي 188 هـ)، وقد روى عنه كبار المحدثين من أمثال عبدالله بن المبارك، وأبوداود الطيالسي، وأحمد بن حنبل ويحيي بن معين وعلي ابن المديني وغيرهم من مشاهير الأئمة والأعلام([47]).

ومنهم إسماعيل بن علي بن حسين الرازي المعروف بالسمّان الحافظ، كان من المكثرين من الحديث، سمع من نحو 4000 شيخ، روي عنه الخطيب ومحمد بن عبدالله بن جعفر بن عبدالله بن الجنيد ابو الحسين الرازي، ووصف بأنه (كان حافظاً ثقة مكثراً)، قال الكنائي عنه: (توفي شيخنا وأستاذنا تمام الرازي وكان ثقة مأموناً حافظاً لم أر أحفظ منه حديث الشاميين)

وقال أبوبكر الحداد:(مالقينا مثله في الحفظ والخبر)، وال أبو الأهوازي: (كان عالماً بالحديث ومعرفة الرجال وما رأيت مثله في معناه)([48])

هذه بعض النماذج عن المحدثين المنتسبين للري أو طهران الحالي من المدرسة السنية، أما المحدثون من الشيعة، فهم لا يقلون عنهم، ومن أشهرهم الشيخ محمد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي (255 ـ 329 هـ)، وهو ـ باتفاق المؤرخين ـ من كبار فقهاء ومحدثي الشيعة، وهو صاحب كتاب الكافي الذي يعدّ من أهم المصادر الحديثية الأربعة عند الشيعة، وهو أوّل من لقّب بـ (ثقة الإسلا)،م وكان الناس يرجعون إليه في مسائلهم الإجتماعية والفقهية لفضله وعلمه وتقواه([49]).

قال فيه ابن الأثير: (أبو جعفر محمد بن يعقوب الرازي، الفقيه، الإمام على مذهب أهل البيت عليهم السلام، عالم في مذهبه، كبير، فاضل عندهم، مشهور)، وقال الذهبي: (عالم الإمامية وصاحب المؤلفات المعروفة)

وقد اتفق جميع علماء الشيعة على الثناء عليه، فقد قال الشيخ الطوسي: (محمد بن يعقوب الكليني، يكنّى أبا جعفر، ثقة، عارف بالأخبار)، وقال في رجاله: (يكنى أبا جعفر الأعور، جليل القدر، عالم بالأخبار، وله مصنفات منها كتاب الكافي)([50])، وقال النجاشي: (أبو جعفر الكلينيشيخ أصحابنا في وقته بالري ووجههم، وكان أوثق الناس في الحديث وأثبتهم صنّف الكتاب الكبير المعروف بالكافي، في عشرين سنة)([51])

ويعتبر كتابه (الكافي)، من مصادر الحديث لدى المدرسة الشيعية، وأكثر الكتب الأربعة اعتبارا بأقسامه الثلاثة أصول الكافي، وفروع الكافي، وروضة الكافي.

وقد قال عنه الشيخ المفيد: (إن كتاب الكافي من أجل كتب الشيعة وأكثرها فائدة)([52])، وقال الشهيد الأول: (كتاب الكافي في الحديث، الذي لم يعمل للإمامية مثله)([53])

وأحب أن أنبه هنا كما نبهت سابقا إلى أن ثناء العلماء عليه، لا يعني صحته صحة مطلقة، أو أنهم لا ينتقدون أحاديثه، فليس عند الشيعة ما يطلقون عليه الصحيح المجرد، حتى لا يضاهون ما يكتبه البشر بكتاب الله تعالى.

وقد قال بعضهم في ذلك: (أما تضعيف العلماء المتأخرين لجملة من مروياته فلا يقدح في مكانته أو التقليل من شأنه، إذ ينبغي الملاحظة أن للتضعيف والتصحيح معنيان عند الإمامية ـ أحدهما عند المتقدمين ـ ويمثلهم الشيخ الكليني ومن في طبقته، والثاني عند المتأخرين ـ ويمثلهم العلامة الحلي ومن في طبقته ـ ومعنى الصحيح عند المتقدمين هو القبول بالحديث والعمل به لاحتفائه بقرائن تدل على صحة صدوره، وهذا عندهم بغض النظر عن وثاقة رواة السند.. أما المتأخرون فهم لا يرون الحديث صحيحاً إلا إذا ثبت عندهم وثاقة رواته بالخصوص.. والسر في ذلك هو الابتعاد زمناً عن عصر صدور النص، إضافة إلى غياب القرائن التي يمكن لها أن تفيد الاطمئنان بالصدور في قبول الحديث وعدمه، لذا فإن ما سمعتموه من التضعيف لاحاديث الكافي إنما كان باصطلاح المتأخرين دون المتقدمين، الذين كتب الشيخ الكليني كتابه على منوالهم وصرّح في بداية كتابه بأنه ذكر فيه الآثار الصحيحة عن الصادقين (عليهم السلام) ليعمل بها)

وردا على الشبهة المقابلة لهذه، والتي يوردها بعض السلفية خصوصا في رمي الشيعة بأنه ليس عندهم كتاب في الصحيح المجرد، قال: (ودعوى المحاور السني أن الشيعة ليس عندهم كتاب صحيح لا تعد قدحاً، وإنما هي ميزة علمية عالية امتاز بها اتباع أهل البيت في أخذهم للعقيدة والفقه الصحيح المبرئ للذمة أمام الله عز وجل، فلم يرضوا لأنفسهم الاعتماد على رأي شخص واحد غير معصوم كالكليني أو الصدوق مثلاً أو حتى عالم من علماء الرجال بالحكم بصحة كتابه والأخذ به مطلقا، كما هو الحال عند إخواننا أهل السنة في أخذهم للحديث من كتابي البخاري ومسلم، فهذا من التقليد غير المبرئ للذمة، ولو نظرنا إلى المسألة نظرة علمية منصفة، فالشيعة لا يقرون بتواتر كتاب وصحته من الغلاف إلى الغلاف سوى كتاب الله عز وجل)([54])

وما ذكره هذا الباحث الفاضل لا ينطبق على المدرسة السنية جميعا؛ بل لا ينطبق حتى على المدرسة السلفية نفسها، ذلك أن الكثير من المحدثين نقد بعض أحاديث الصحيحين، سواء كانوا من المتقدمين أو المتأخرين، وقد قال الشيخ الألباني مبررا نقده لبعض أحاديث الصحيحين: (إن انتقاد أحاديث الصحيحين لم يغلق بابه، فكما أنه جاز للدارقطني أن ينتقد، وكذلك يجوز لمن تأهل بعده أن ينتقد)([55])

وقال المحدث الكبير جمال الدين القاسمي في تبرير لرد حديث السحر الوارد في الصحاح: (ولا غرابة في أن لا يقبل هذا الخبر لما برهن عليه، وإن كان مخرَّجاً في الصحاح ؛ وذلك لأنه ليس كل مخرج فيها سالماً من النقد، سنداً أو معنى، كما يعرفوه الراسخون. على أن المناقشة في خبر الآحاد معروفة من عهد الصحابة)([56])

4 ـ المحدثون بقزوين:

تعتبر قزوين([57]) بسبب موقعها الاستراتيجي، ومناخها الطيب، وتضاريسها الجميلة، مركزا من مراكز الحضارة والعلم في إيران منذ بداية الإسلام إلى اليوم.

وقد ظهر فيها الكثير من المحدثين.. ومن أشهرهم الحافظ الكبير محمد بن يزيد بن ماجة القزويني (209 هـ ـ 273 هـ)، صاحب كتاب السنن، المعروف بـ (سنن ابن ماجة)، وهو سادس الكتب الستة التي هي أصول السنة النبوية في المدرسة السنية.

ومنهم عمرو بن رافع البجلي القزويني (توفي 237 هـ) وهو من الطبقة العاشرة من كبارالآخذين عن تبع الأتباع، قال عنه أبو حاتم ـ أحد أئمة الجرح والتعديل ـ: (سمعت ابراهيم بن موسى يقول: ما بقي أحد ممن كان يطلب معنا العلم غير عمرو بن رافع). وقال أيضا: (قل من كتبنا عنه أصدق لهجة وأصح حديثا منه)،

ومنهم محمد بن سعيد أبو سعيد الرازي ثم القزويني، (توفي 216 هـ)، وهو أيضا من الطبقة العاشرة من كبار الآخذين عن تبع الأتباع، وقد وصف بأنه (المحدث الراوي الثبت الثقة)، روى عن عمرو بن ابي قيس وابي جعفر الرازي ويعقوب بن عبد الله القمي، وروى عنه أبو زرعة ومحمد بن مسلم بن وارة ويحيى بن عبدك وكثير بن شهاب وأبو داود والنسائي، وغيرهم.

ومنهم هارون بن موسى بن حيان القزويني (توفي 248 هـ)، وهو من الطبقة الحادية عشرة من أوساط الآخذين عن تبع الأتباع، روى عنه الكثير من المحدثين منهم ابن ماجة وابنه موسى بن هارون القزويني وسعيد بن عمرو البردعي ومحمد ابن مسعود الأسدي وأبو زرعة، وغيرهم.

ومنهم الخليل بن عبد الله أبو يَعلى القزويني (توفي 405 هـ)وقد وصف بأنه (حافظ جليل، كان يحدث كثيراً من حفظه، سمع أصحاب البغوي وغيره)، ومما قيل فيه: (كان فهماً حافظاً ذكيا فريد عصره في الفَهْم والذكاءِ)

ومنهم أبو الخير أحمد بن إسماعيل الملقب برضي الدين (توفي 590 هـ)، وقد وصف بأنه (الشيخ الإمام، العلامة، الواعظ، ذو الفنون، الفقيه الشافعي، له تصانيف في الحديث وغيره)

وغيرهم كثير، بالإضافة إلى أعلامها في المجالات العلمية الأخرى، والذين سنعرض لهم في الفصول الخاصة بهم في هذا الكتاب.

5 ـ المحدثون بطوس:

وهي من المدن التاريخية الأثرية بإيران، وتسمى اليوم (مشهد الرضا)، وقد كانت عاصمة من عواصم الحضارة الإسلامية، بسبب كثرة علمائها في جميع المجالات.

أما المحدّثون منهم، فكثيرون، منهم تميم بن محمد أبو عبد الرحمن الطوسي (توفي 255 هـ) صاحب المسند الكبير، قال عنه الحاكم: (تميم بن محمد بن طمغاج أبو عبد الرحمن الطوسي محدث ثقة كثير الحديث والرحلة والتصنيف جمع (المسند الكبير) ورأيتُه عند جماعة من مشايخنا)([58])

وقال الذهبي: (طوف، وسمع من:شيبان بن فروخ، وهدبة بن خالد، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وعلي بن حجر، وإبراهيم بن الحجاج السامي، ومحمد بن رمح، وحرملة، وعيسى بن حماد، وأبي الربيع الرشديني، والحارث بن مسكين، وسليمان بن سلمة الخبائري، وطبقتهم بخراسان والحجاز ومصر والشام والعراق، وحدث عنه:الحسن بن سفيان رفيقه، وعلي بن حمشاذ، وأبو عبد الله بن الأخرم، نعم سهوت، وإنما حدث الحسن بن سفيان عن ولده أبي بكر بن الحسن، عن تميم)([59])

ومنهم زياد بن أيوب بن زياد الطوسى البغدادى (166 هـ ـ 252 هـ)، وقد وصف بأنه (أحد الحفاظ الثقاة وهو من طبقة كبار الأخذين عن تبع الأتباع روى له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي)

ومنهم أبو النضر محمد بن محمد بن يوسف الطوسي الشافعي، (250 ـ 344 هـ)والذي وصف بأنه (الإمام الحافظ الفقيه العلامة القدوة شيخ الإسلام شيخ المذهب بخراسان) ([60])

ومن أهم مصنفاته في الحديث (المستخرج على صحيح مسلم]، قال الحاكم: (رحلت إليه إلى طوس مرتين، وسألته متى تتفرغ للتصنيف مع هذه الفتاوى الكثيرة، فقال: جزأت الليل أثلاثا؛ فثلث أصنف، وثلث أنام، وثلث أقرأ القرآن)

وقال: (وكان إماما عابدا بارع الأدب، ما رأيت في مشايخي أحسن صلاة منه، وكان يصوم الدهر، ويقوم ويتصدق بما فضل من قوته، وكان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.. سمعت أحمد بن منصور الحافظ يقول: أبو النضر يفتي الناس من سبعين سنة أو نحوها، ما أخذ عليه في فتوى قط)

ثم قال الحاكم: (دخلت طوس وأبو أحمد الحافظ على قضائها، فقال لي: ما رأيت قط في بلد من بلاد الإسلام مثل أبي النضر)

ومنهم عبد الله بن هاشم الطوسى الراذكانى(توفي 159 هـ) وهو من الطبقة العاشرة من كبارالآخذين عن تبع الأتباع، وقد روى عنه ابن عيينة ويحيى القطان وابن مهدي ووكيع وغيرهم من مشاهیر علم الحدیث، كما روى عنه مسلم وابن خزيمة في صحيحه وصالح بن محمد الأسدي وأحمد بن سلمة وابن صاعد وحاجب بن اركين الفرغاني وغيرهم.

ومنهم على بن مسلم بن سعيد الطوسى (160 ـ 253 هـ) الملقب بالعابد لكثرة عبادته، روى عن يوسف بن يعقوب بن الماجشون وهشيم وابن المبارك وعباد بن العوام وعباد بن عباد وابن نمير ويحيى بن زكريا بن أبي زائدة وعبد الصمد بن عبد الوارث وأبي داود الطيالسي وغيرهم، كما روى عنه البخاري وأبو داود والنسائي ويحيى بن معين وغيرهم.

بالإضافة إلى هؤلاء ازدهت طوس بالكثير من أعلام الحديث من المدرسة الشيعية، ومن أشهرهم أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي بن الحسن الطوسي (385 -460هـ)، الملقب بشيخ الطائفة، وهو مؤلف كتابين من الكتب الأربعة المعتمدة لدى الشيعة، كما أنه يعتبر من كبار المتكلمين والمحدثين والمفسرين والفقهاء الشيعة.

قدم الطوسي العراق سنة 408 هـ في سن الثالثة والعشرين وتتلمذ على يد الشيخ المفيد (المتوفي 413 هـ) مدّة خمس سنوات وعلى يد ابن الغضائري (المتوفي 411 هـ) ثلاث سنوات وعند ابن الحاشر البزاز، وابن أبي جيد، وابن الصلت والذي توفي بعد سنة 408 هـ. وشارك النجاشي (372 ــ 450 هـ) في بعض مشايخه. أدرك السيد المرتضي (المتوفي 436 هـ)، وقد أسند إليه الخليفة العباسي القائم بأمرالله كرسي علم كلام بغداد، وبذلك اجتمع حوله العلماء وتوجه إليه الطلاب وكان من بين تلامذته 300 من العلماء وظلّ محتفظا بمنصبه إلى أن سقطت بغداد بيد الأتراك السلاجقة.

وقد اتفق الجميع على الثناء عليه، منهم الشيخ آقا بزرك الطهراني، الذي قال عنه: (كتب الشيخ الطوسيّ في كافة العلوم، من: الفقه وأصوله، والكلام والتفسير والحديث والرجال، والأدعية والعبادات.. وغيرها. وكانت ـ ولم تزل ـ مؤلّفاته في كلّ علمٍ من العلوم مآخذَ علوم الدين، بأنوارها يستضيئون، ومنها يقتبسون، وعليها يعتمدون.. ولم يدع الشيخُ الطوسيّ باباً إلا طرقه، ولا طريقاً إلاّ سلكها، وقد ترك لنا نتاجاً طيّباً متنوّعاً غذّى به عقولَ فطاحل عدّة قرونٍ وأجيال)

وقال العلامة الحلي: (شيخ الإمامية ووجههم، ورئيس الطائفة، جليل القدر، عظیم المتزلة، ثقة عين صدوق، عارف بالأخبار والرجال، والفقه والأصول، والكلام والأدب، وجميع الفضائل تنسب إليه، صف في كل فنون الإسلام)([61])

وقال السيد بحر العلوم في الفوائد الرجالية: (أبو جعفر شيخ الطائفة ورافع أعلام الشريعة الحقة، إمام الفرقة بعد الأئمة المعصومين، وعماد الشيعة الإمامية في كل ما يتعلق بالمذهب والدين، ومحقق الأصول والفروع)

وهو من المكثرين من التأليف، وتعتبر كتبه من أهم المصادر في المدرسة الشيعية، وقد قال بعضهم عنها: (كان الشيخ مخلصاً في تآليفه، لم يطلب شهرةً أو رئاسة، ولم يكن منه مراء أو مباهاة، فكُتب له التوفيق حتّى جاءت كتبه متميّزةً عن السابقين، إذ أصبحت مصدراً لمعظم مؤلّفي القرون الوسطى، تُستقى منها مادّتُهم؛ لأنّها حوت خلاصة الكتب الأصول بأسلوب جديد وبراهين وافرة. إضافة إلى عدد كبير من كتبه ورسائله ومسائله في القرآن والكلام والعبادات والفقه والدعاء والرواية)

وأحب أن أنبه هنا إلى أن الكثير من المدرسة السنية يعتبرونه من الذين تحولوا من المذهب الشافعي إلى الشيعة، مثلما نص على ذلك تقي الدين السبكي في (طبقات الشافعية الكبرى)، فقال: (محمد بن الحسن بن علي أبو جعفر الطوسي، فقيه الشيعة ومصنفهم كان ينتمي إلى مذهب الشافعي، له تفسير القرآن وأملى أحاديث وحكايات تشتمل على مجلدين، قدِم بغداد وتفقه على مذهب الشافعي، وقرأ الأصول والكلام على أبي المفيد، فقيه الامامية، وحدّث عن هلال الحفار، روى عنه ابنه أبو علي الحسن، وقد أحرقت كتبه عدة مرات بمحضر من الناس)([62])

وقد رأيت بعض الشيعة يرد على ذلك، وينفي كونه كان شافعيا، وإنما (تفقه على مذهب الشافعي، وبقية المذاهب الأخرى كالحنفية، والمالكية، والحنابلة، والظاهرية وغيرها، وتضلّع بها وكتب عنها الكثير، لكن ذلك لا يعني انه قد انتمى إلى أحد تلك المذاهب، علماً بأن التاريخ لم يذكر بأن الطوسي كان شافعياً، أو انه قد انتحل إحدى المذاهب الأخرى)

والمسألة بسيطة جدا، وهي لا تحتاج أي انفعال من أي طرف من الأطراف، بل إنها تثبت ذلك التواصل والحرية التي كانت بين المدارس الإسلامية، بحيث يتاح للعلماء التنقل بينها كيف شاءوا.

وهي تدل كذلك على أن ما يسمى بـ (التمدد الشيعي)، لا علاقة له بالنظام الحالي للجمهورية الإسلامية الإيرانية، ولا بالدولة الصفوية، وإنما هي اختيارات شخصية مبنية على قناعات علمية، ولا علاقة لها بالسياسة، ولا بأي دولة من الدول.

6 ـ المحدثون بشيراز:

تعتبر مدينة شيراز([63]) الإيرانية من أهم مراكز الحضارة في العالم الإسلامي، ولقرون طويلة، وفي جوانبها المختلفة، وهي التمثل التنوع الحضاري الجميل الدال على سماحة الإسلام.

وقد ازدهر فيها علم الحديث رواية ودراية كما ازدهر في سائر المدن الإيرانية، ومن كبار المحدثين الذين أنجبتهم أبو العباس أحمد بن منصور بن ثابت الشيرازي (توفي 382 هـ)، وكان ذا رحلة واسعة في طلب الحديث، قال الحاكم النيسابوري: (كان أحد الرحالة في طلب الحديث، المكثرين من السماع والجمع، ورد نيسابور سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة وأقام بها سنين ثم خرج الى هراة وانحدر منها الى مرو الروذ، ودخل مرو وجمع من الحديث ما لم يجمعه غيره، ودخل العراق والشام، ثم انصرف الى شيراز، وصار في القبول عندهم بحيث يضرب به المثل)، وروي أنه كتب عن الطبراني ثلاثمائة ألف حديث([64]).

ومنهم الحسن بن عثمان أبو حسان الزيادي الشيرازي، (توفي 272هـ)، وهو من كبار المحدثين، وقد وصف بأنه (كان فاضلاَ بارعاَ ثقة، سمع منه محمد بن إدريس الشافعي، وإسماعيل بن علية، ووكيع بن الجراح)

ومنهم أحمد بن عبد الرحمن الحافظ الشيرازي (توفي 405 هـ)، وهو من كبار حفاظ الحديث، قال عنه الذهبي: (الإمام الحافظ الفقيه أبو علي الحسن بن أحمد بن محمد بن الليث الكشي ثم الشيرازي، من كبار الأئمة ببلاد فارس: ارتحل وسمع من إسماعيل الصفار وأبي جعفر بن البختري وعبد الله بن درستويه وجماعة ببغداد، ومن أبي العباس الأصم وأبي عبد الله محمد بن يعقوب بن الأخرم بنيسابور، ومن الحسن بن عبد الرحمن الرامهرمزي الحافظ بفارس.. ذكره أبو عبد الله الحاكم فأثنى عليه وقال: هو متقدم في معرفة القراءات حافظ للحديث رحال، قدم علينا أيام الأصم ثم قدم علينا سنة 353 هـ وسمعت منه. وذكره أبو عمرو بن الصلاح في طبقات الشافعية مختصرًا وقال: هو والد الليث وأبي بكر. وذكره أبو عبد الله الصفار في طبقات أهل شيراز وأثنى عليه كثيرًا ثم قال: ومن أصحابه زيد بن محمد بن خلف الحافظ ومحمد بن موسى الحافظ وأحمد بن عبد الرحمن المقرئ الحافظ)([65])

ثالثا ـ عمل الإيرانيين بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

اتفق الإيرانيون سنتهم وشيعتهم، ومنذ فجر الإسلام إلى اليوم على أن السنة النبوية المطهرة مصدر من مصادر التشريع، بل مصدر من المصادر الأساسية التي يستلهم المؤمن منها قيمه وعقائده وشعائره وشرائعه وحياته ومواقفه، وأنه لا يمكن أن يستغني عنها أبدا.

ويتجلى ذلك واقعيا من خلال الكثير من الممارسات التي لا نجد لها دليلا إلا في السنة التي سطرها علماء الحديث الذين سبق ذكر بعضهم في المبحث السابق، والذين يكادون يتفقون في أكثر أصول السنن، وإن كانوا يختلفون في بعض فروعها البسيطة، بناء على المواقف من الرواة، أو من شروط صحة الحديث.

فالمدرسة السنية مثلا تعتبر من أسباب ضعف الحديث عدم اتصال السند، أو وجود علة قادحة في راو من رواته.. وتتفق معها المدرسة الشيعية في الكثير من ذلك، وتضيف إليها عدم معارضة الحديث للقرآن الكريم، أو لما ثبت في السنة النبوية الأكثر قطعية، أو مخالفته للعقل، أو يكون إِخباراً عن أمر هام تتوافر الدواعي لنقله، ومع ذلك لم ينقله إلا واحد، أو يكون الراوي مناصراً للحاكم الجائر، مع العلم أن بعض هذه الفروع فيه خلاف بين المدرسة السنية نفسها.

وقد اتفق أكثرهم كذلك على أنه يجوز العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال([66])، والتي لا تتعارض مع أصول الشريعة، وقواعدها العامة، وقدموا ذلك على الرأي.

ومن هذا الباب نجد الكثير من السنن عند الفريقين لم تثبت بأسانيد قوية، ومع ذلك يعملون بها بناء على انسجامها مع الشريعة، وكونها مزيد تأكيد وبيان لمعانيها، بالإضافة إلى أن ضعف الحديث لا يعني طرحه كليا.

ولهذا نجد الوعاظ من المدرستين يعتمدون الكثير من الأحاديث الضعيفة، ويقبلون العمل بها، ومن أشهر أمثلتهم في المدرسة السنية من الإيرانيين أبو حامد الغزالي.. ومن أشهر أمثلتهم في المدرسة الشيعية الفيض الكاشاني، وعباس القمي وغيرهما من الذين اهتموا بجمع الأدعية وفضائل الأعمال ونحوها.

وبناء على هذا يمكن أن نجد قواسم مشتركة كثيرة بين كلا مدرستي الأمة في العمل بالسنة المطهرة، وكون المؤمن المحب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يفعل ذلك بداهة، لأنه لا يمكن أن يحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم يرغب عن اتباعه.

وأحب أن أرد هنا على تلك المقولات التي يذكرها المغرضون، والتي يتصورون أن السنة حكر على من يسمون أنفسهم أهل السنة، فهذا موقف غير صحيح، وغير أخلاقي، لأنه يستعمل العصبية التي نهينا عنها في الحكم على الأشياء.

والواقع يدل على أن للشيعة اهتماما كبيرا بالسنن، لا يقل عن اهتمام إخوانهم من المدرسة السنية، بل إن تشيعهم ـ كما يرون ـ لا يكمل من دون الالتزام بالسنن، فهم يرون أئمتهم ممثلين للسنة، ناطقين بها، داعين إليها، ولذلك فإن كل ما يصدر منهم سنة نبوية صرحوا بذلك أو لم يصرحوا.

وهم يفسرون بذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة)([67])

وليس في ذلك أي غلو، ففي المدرسة السنية كذلك نجد من يعتبر مالكا ممثلا للسنة بأقواله وأفعاله، ونجد من الصوفية من يعتبرون مشايخهم ممثلين للسنة، بل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه.. بل نجد من السلفية أنفسهم من يعتبر ابن تيمية أو الإمام أحمد ممثلا للسنة، ومعبرا عنها، وكل ما يصدر عنه سنة، حيث نجد في مصادرهم المعتبرة أن الإمام أحمد به يعرف المسلم من الزنديق، وأن نظرة من أحمد خير من عبادة سنة، وأن الله عز وجل يزوره في قبره كل عام، وأن الله يباهي به الملائكة، وأن أحد الحنابلة رأى الله في المنام فقال له الله: من خالف أحمد بن حنبل عذب، وأن الله أمر أهل السموات وجميع الشهداء أن يحضروا جنازة أحمد، وأن أهل السموات من السماء السابعة إلى السماء الدنيا اشتغلوا بعقد الألوية لاستقبال أحمد بن حنبل([68]).

ولهذا نجدهم عند ذكرهم للأقوال في أي مسألة يذكرون رسول الله k مع السلف، وكأنه واحد من القائلين، ومن الأمثلة على ذلك قول البربهاري: (التكبير على الجنائز أربع، وهو قول مالك بن أنس وسفيان الثوري والحسن بن صالح وأحمد بن حنبل والفقهاء وهكذا قال رسول الله k!)([69])

وإن كان هؤلاء معذورون في مواقفهم بسبب اعتقادهم لرسوخ أئمتهم في المعرفة بالحديث وكيفية استنباط الأحكام منه، فالشيعة أيضا معذورون، فهم أيضا يعتبرون أئمتهم تلاميذ لإمامهم علي الذي كان مصاحبا دائما لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،، ابتداء من صغره الباكر إلى وفاته، وأنه أخذ عنه كل شيء يرتبط بأصول الدين وفروعه، ثم نقله لأولاده وأحفاده.

ولهذا نجد الشيعة كثيرا ما يقرنون بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والإمام علي، لا باعتبار أن الإمام علي صنو لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهم لا يقولون بذلك، وإنما مرادهم منه أنه التلميذ الأكبر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه لذلك يمثل السنة أحسن تمثيل، وذلك لا يختلف كثيرا عن موقف السلفية من ابن تيمية أو الإمام أحمد حين يعتبرونهما ممثلا للسنة والشريعة.

ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره الشهيد مطهري في كتابه عن الإنسان الكامل، فقد راح ينقل عن الإمام علي الكثير من السنن المغيبة، والتي تمثل جوهر الدين أكثر من تلك السنن الفرعية البسيطة التي ترتبط ببعض هيئات الأعمال.

ومن ذلك تلك السنة التي سماها [الألم العرفانيّ]، واستنبطها مما ورد في حوار الإمام عليّ مع كميل بن زياد، وقوله له: (اللّهمّ بلى! لا تخلو الأرض من قائمٍ لله بحجَّة، إمّا ظاهراً مشهوراً، وإمّا خائفاً مغموراً… أولئك والله الأقلّون عدداً، والأعظمون عند الله قدراً، يحفظ الله بهم حججه وبيّناته، حتّى يودعوها نظراءهم، ويزرعوها في قلوب أشباههم. هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة، وباشروا روح اليقين، واستلانوا ما استوعره المترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، وصحبوا الدنيا بأبدانٍ أرواحها معلّقة بالمحلّ الأعلى، أولئك خلفاء الله في أرضه، والدعاة إلى دينه. آهٍ آهٍ شوقاً إلى رؤيتهم!)([70])

ثم علق على ذلك بقوله: (فهؤلاء كما يصفهم الأمير يتألّمون بسبب البعد عن الله والشوق إليه، فما لم يصل الإنسان إلى الله فلن تفارقه حالة الاضطراب، ولذا فإن الذكّر يكون له دواءً {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28])

ولذلك فإن السنة الحقيقية في الصلاة ـ كما يصف مطهري ـ هي أن يحصل لنا مثلما كان يحصل للإمام علي الذي كان يمثل السنة أحسن تمثيل، فقد كان ـ كما يعبر مطهري ـ (يغيب عن كلّ ما حوله إذا دخل في الصلاة، مندمجاً بكلِّه في معشوقه حتّى أنّهم إذا أرادوا اقتلاع السهم من جسمه، كانوا يستخرجونه حال الصلاة. إنّ هكذا ألماً هو خير من ملك الدنيا)

والالتفات لتحقيق هذه السنة في الواقع وتطبيقها هو ما يقي المسلمين من ذلك الصراع الذي تحدثه تلك الخلافات الهامشية حول فروع بسيطة كالقبض والسدل أو السجود على التربة وغيرها.. والتي نجد لكل مذهب فيها أدلته، وكان يمكن تجاوزها والاهتمام بالسنة الحقيقية التي هي الاستغراق في المقصود من الصلاة الذي هو التواصل مع الله.

وهو نفس ما يشير إليه الخميني كثيرا، باعتباره الهدف الحقيقي من الصلاة، وقد قال عن الصلاة وآدابها وأسرارها وسننها الخفية: (… فإذا تحقّق للسائل مقام الاسميّة، رأى نفسه مستغرقاً في مقام الألوهيّة، ورأى نفسه اسم الله، وعلامة الله، وفانياً في الله، ورأى سائر الموجودات على هذه الحالة.. وإذا أصبح الوليّ كاملاً أصبح متحقّقاً بالاسم المطلق ووصل إلى التحقّق بالعبوديّة المطلقة، فصار عبداً حقيقيّاً لله) ([71])

وعندما نقارن بين السنن التي اهتم بها الإمام الخميني في كتابه عن الصلاة وأسرارها مع تلك السنن التي اهتم بها الألباني والاتجاه السلفي نجد البون بينهما كبير جدا.

فالسنن التي ذكرها الخميني تنبع من مقاصد الدين من الصلاة، وتحويلها إلى معراج للمؤمن يعرج بها إلى الله، لأن نفسه لا يمكن أن تهذب من دون تلك السنن المغيبة، بخلاف السنن التي ذكرها الألباني، وتصور أن من خالفها مبتدع، لأنها لم تفعل سوى أن زادت الفرقة بين الأمة.

وقد ذكر الألباني بصراحة دوافعه من تأليف كتابه [صفة صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من التكبير إلى التسليم كأنك تراها]، والذي أثار فتنة كبيرة بين المسلمين، فقال: (ولما كنت لم أقف على كتاب جامع في هذا الموضوع فقد رأيت من الواجب علي أن أضع لأخواني المسلمين ممن همهم الاقتداء في عبادتهم بهدي نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم كتابا مستوعبا ما أمكن لجميع ما يتعلق بصفة صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من التكبير إلى التسليم بحيث يسهل على من وقف عليه من المحبين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم حبا صادقا القيام بتحقيق أمره في الحديث: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، ولهذا فإني شمرت عن ساعد الجد وتتبعت الأحاديث المتعلقة بما إليه قصدت من مختلف كتب الحديث فكان من ذلك هذا الكتاب الذي بين يديك)([72])

وبعد عشر سنوات من الفتنة بسبب ذلك الكتاب، لم يتراجع عما فيه، ولم يتواضع، ليعتبر ما رآه من سنن مجرد اجتهاد، وإنما راح يقول في طبعة جديدة من الكتاب: (ذلك ما كنت كتبته منذ عشر سنوات في مقدمة هذا الكتاب وقد ظهر لنا في هذه البرهة أن له تأثير طيب في صفوف الشباب المؤمن لإرشادهم إلى وجوب العودة في دينهم وعبادتهم إلى المنبع الصافي من الإسلام: الكتاب والسنة فقد ازداد فيهم – والحمد لله – العاملون بالسنة والمتعبدون بها حتى صاروا معروفين بذلك) ([73])

وهذه الطائفية بعينها.. فالصلاة رمز لوحدة المسلمين، لكنها تحولت عندهم إلى أداة للتفرقة والطائفية لا بينهم وبين المدرسة الشيعية فقط، بل بينهم وبين سائر المذاهب المنتمية للمدرسة السنية.

وبناء على هذا نرى تركيز المشروع الحضاري الجديد للجمهورية الإسلامية الإيرانية على إحياء تلك السنن الخفية المرتبطة بالخشوع والتقوى وتحقيق مقاصد العبادات، دون المبالغة في الهيئات التي وقع فيها الخلاف.

ومن السنن التي اهتم بها المشروع الحضاري الجديد ـ أيضا ـ تلك السنن المغيبة المرتبطة بالحياة بجميع جوانبها، ولهذا نرى الإمام الخمينيّ في جميع أقواله ورسائله وخطاباته وكتبه، يتعرّض لسيرة النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، ويشير إلى مسيرته الدعوية، وكيفية تطبيقها في الحياة، لإعادة إحياء الإسلام من جديد.

ومن الأمثلة على ذلك قوله: (إنّ أوّل آية – حسبما ينقل لنا التاريخ والروايات – نزلت على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم هي آية {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1]، حيث تلاها جبرائيل عليه السلام على الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، ودعا فيها إلى القراءة والتعلّم.. وجاء في نفس هذه السورة: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى } [العلق: 6، 7]، هذه السورة هي أوّل ما نزل من الوحي على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وفي أوّل ما نزل منها الآيتان اللتان نتعلّم منهما أنّ وجود الطغيان والطاغوت من الأشياء الّتي تحتلّ قائمة الأمور، فمن أجل سحق الطاغوت يجب تعليم الكتاب والحكمة وتعلّم الكتاب والحكمة والتزكية. فالإنسان ما دام إنساناً مجرّد أن يستغني فإنّه يطغى، فلو استغنى ماليّاً يطغى بهذا المقدار، ولو استغنى علميّاً يطغى بهذا المقدار، ولو حصل على مقام يطغى بهذا المقدار) ([74])

ثم يبين خطور الطغيان، وكونه البدعة الأعظم التي تحطم كل السنن النبوية، والذي قد يقع فيه نفس المدعين أنهم على السنة؛ فيقول: (ففرعون يُسمّيه الله تبارك وتعالى طاغية لأنّه حصل على المقام، ولم يكن في حصوله غاية إلهيّة، فأوصله هذا المقام إلى الطغيان. فالأشخاص الّذين يحصلون على متاع الدنيا بدون تزكية النفس، فمهما حصلوا فإنّ طغيانهم سوف يزداد. وإنّ وبال هذا المال وهذا المنال وهذا المقام وهذا الجاه وهذا المنصب، من الأشياء الّتي تُعرّض الإنسان للمتاعب والصعوبات في الحياة الدنيا، وهي في الآخرة أكثر. إنّ هدف البعثة هو أن تخلّصنا من هذا الطغيان بأن نزكّي أنفسنا ونصفّيها ونخلّصها من هذه الظلمات. فلو حصل هذا التوفيق للجميع، ستضحى الدنيا نوراً واحداً كنور القرآن، وتجلّياً لنور الحقّ. كلّ الخلافات الموجودة بين البشر، كلّ الخلافات الموجودة بين السلاطين، كلّ الخلافات الموجودة بين الأقوياء هي بسبب الطغيان الموجود في النفوس، ومردّ هذا إلى أنّ الإنسان يرى لنفسه مقاماً ومنصباً، لذلك يطغى، وحيث إنّه يطغى، يكون الطغيان سببَ تجاوزه. وعندما يحصل التجاوز يحصل الخلاف، ولا فرق في ذلك بين مرتبة طغيان دنيا أو مرتبة طغيان عليا؛ ففي المرتبة الصغيرة كأن يحصل الخلاف في قرية مّا بين أفرادها بسبب الطغيان، وفي مرتبة أعلى إذا حصل الخلاف سيكون الطغيان أكثر)

ثم يحدث تلاميذه ومريديه من الأمة جميعا داعيا لهم إلى التواضع قائلا: (إنّ هذه النزعة التجاوزية موجودة عند الجميع لا في فرعون وحده، فلو اعتلى إنسان ما وارتفع فوق رؤوس البشر فسوف يقول: أنا ربّكم الأعلى. غاية البعثة هي السيطرة على نفوس العاصين ونفوس الطغاة والمتمرّدين والواغلين في العصيان والطغيان والتمرّد، ودفع هذه النفوس إلى التزكية)

ثم يبين أن هذه هي السنة الحقيقية، بل هي هدف الرسالة النبوية بأكملها، فيقول: (إنّ سبب كلّ الخلافات الموجودة بين بني الإنسان عدم تزكية النفوس، وهدف البعثة هو دعوتهم إلى التزكية، فبواسطتها يتعلّمون الحكمة ويتعلّمون القرآن والكتاب أيضاً. وإذا زكت النفوس سينتفي الطغيان)([75])

وهكذا نرى الإمام الخميني في كل خطاباته يدعو إلى فهم السنة فهما صحيحا، بعيدا عن تلك الجزئيات التي ركز عليها الطائفيون ليفرقوا صف الأمة، ويخالفوا بذلك السنن الداعية إلى وحدتها وتآلف قلوبها.

وهو يدعو كل حين إلى التعالي على كل الخلافات الفرعية، ومن الأمثلة على ذلك قوله في بعض خطبه: (يريد نبيّ الإسلام أن يوحّد الكلمة في جميع أصقاع العالَم. يريد أن تنضوي جميع مسالك الدنيا تحت كلمة التوحيد. يريد أن تعمّ كلمة التوحيد جميع أرجاء العالَم المأهول)([76])

ومن السنن المغيبة التي يحرص الخميني على الدعوة إليها مواجهة الظلم والنضال من أجل ذلك، لا كما يفعل أولئك الذين يدعون السنة في نفس الوقت الذي يؤيدون فيه أئمة الظلم والجور، ومن خطبه في ذلك قوله: (إنّ بعثة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كانت من أجل رفع الظلم عن الناس، من أجل أن يستطيع الناس أن يواجهوا القوى الكبرى، كانت البعثة من أجل نجاة أخلاق الناس ونفوسهم وأرواحهم وأجسادهم من الظلمات، ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، يخرجهم إلى نور العلم، يخرجهم من ظلمة الجهل إلى نور العدالة ويدلهم على الطريق، ليقول لهم إنّ جميع المسلمين إخوة يجب عليهم أن يتّحدوا جميعاً ولا يتفرّقوا)([77])

ومن السنن التابعة لهذه السنة، والمنجرة عنها هي تحمل الألم والعناء في سبيل تحقيق العدالة كما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يقول الخميني: (لاحظوا أنتم جيّداً كيف أنّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قد تحمّل أكثر من الجميع من أجل تربية الناس، من أجل أن ينقذ هؤلاء المظلومين من أيدي الظالمين)([78])

 ومن السنن التي يحرص الخميني على التنبيه لها، خاصة لأولئك الذين يتبوؤون المناصب، ويتحملون المسؤوليات التواضع، فيقول: (ورد في الحديث أنّ جبرائيل عليه السلام قد هبط من قبل الله تعالى بمفاتيح خزائن الأرض لخاتم النبيّين صلى الله عليه وآله وسلم، فتواضع صلى الله عليه وآله وسلم ورفض قبولها، وافتخر بفقره ([79]).. النبيّ الكريم صلى الله عليه وآله وسلم الّذي كان علمه من الوحي الإلهيّ، وكانت روحه من العظمة بحيث إنّها بمفردها غلبت نفسيّات كلّ البشر، إنّ هذا النبيّ قد وضع جميع العادات الجاهليّة والأديان الباطلة تحت قدميه، ونسخ جميع الكتب، واختتم حلقة النبوّة بشخصه الكريم. وكان هو سلطان الدنيا والآخرة والمتصرّف في جميع العوالم بإذن الله، ومع ذلك كان تواضعه مع عباد الله أكثر من أيّ شخص آخر. كان يكره أن يقوم له أصحابه احتراماً، وإذا دخل مجلساً لم يتصدّره، ويتناول الطعام جالساً على الأرض، قائلاً: إنّني عبدٌ، آكل مثل العبيد وأجلس مجلس العبيد)([80])

ثم نقل عن الإمام الصادق قوله: (إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يحبّ أن يركب الحمار من دون سرج، ويتناول الطعام مع العبيد على الأرض، وكان يعطي الفقراء بكلتا يديه)، ثم علق عليه بقوله: (كان ذلك الإنسان العظيم يركب الحمار مع غلامه أو غيره، ويجلس على الأرض مع العبيد. وفي سيرته أنّه كان يشترك في أعمال المنزل، ويحتلب الأغنام ويرقّع ثيابه ويخصف نعله بيده، ويطحن مع خادمه ويعجن، ويحمل متاعه بنفسه، ويجالس الفقراء والمساكين ويأكل معهم4 هذه وأمثالها، نماذج من سيرة ذلك الإنسان العظيم وتواضعه، مع أنّه فضلاً عن مقامه المعنويّ كان في أكمل حالات الرئاسة الظاهريّة) ([81])

وهكذا نراه في خطاباته للمسؤولين بمختلف مراتبهم يذكرهم بأمثال هذه السنن، فيقول: (لقد كانت سيرة الأنبياء عليهم السلام وتعاليمهم هي الوقوف بحزم في وجه الطواغيت، والتواضع للضعفاء والفقراء والمستضعفين. فقد ورد أنّ العرب كانوا إذا وفدوا على مسجد الرسول يسألون الناس: (أيكم محمّد؟) في الوقت الّذي كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على رأس الحكومة الّتي تمّ تشكيلها في المدينة، هكذا كانت الأمور في المدينة. في المقابل ما كان ليخضع لأيّ قدرة بلغت ما بلغت لأنّه كان يرى الله تعالى ويستمدّ منه القدرة والقوّة، لأنّه صاحب القدرة والغنى الحقيقيّين بالأصالة لذا ما كان النبيّ ليخضع لأيّ مقتدرٍ بالتبع)([82])

ومن السنن العظيمة التي يحرص الخمينيّ على التنبيه لها، وخاصة في لقائه مع المسؤولين سنن العفاف والزهد، فيقول: (يعتقد بعض الناس أنّ الرفاه المادّيّ وحيازة الأموال والأراضي والحدائق، وحسابات البنوك قد تجلب السعادة للإنسان. لكنّ هذا خطأ يرتكبه الإنسان، فيتوهّم أنّ السعادة هي بامتلاك الحدائق والأراضي وجمع الثروة والإتجار. عندما ندرس حالة الفقراء والمساكين الّذين يسكنون بيوت متواضعة نجدهم قد نالوا حظّاً من السعادة يفوق الّذين يسكنون القصور، بل قد لا نجدها في القصور. لقد كان هناك بيت متواضع في صدر الإسلام يتكوّن من أربعة أفراد، إنّه بيت فاطمة الزهراء عليها السلام، بيت أبسط من هذه البيوت، لكنّ هذا البيت كان يحمل سرّاً ملأت بركاته كلّ أرجاء العالم بالنور. إنّ الإنسان يحتاج إلى جهد كبير ليقطع هذا الطريق الطويل ويصل إلى بركات ساكني هذا الكوخ المتواضع، المتواضع ماديّاً، لكن روحيّة هذا البيت بلغت أقصى المدى فلا تصل إليها حتّى الملائكة. لقد كانت نوراً شعّ على جميع بلاد المسلمين ومثالاً تربويّاً ملأت بركاته جميع الأرجاء وخاصّة بلادنا)

ويضيف قائلا ـ بتأثر شديد لا يستطيع كتمانه ـ: (الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الّذي كان يرأس كلّ شيء كان يعيش في بيت لا يمكن أن نساويه بغرفة واحدة متوسّطة الحال مشابهة في مجتمعنا. كان في هذا البيت حجرات متعدّدة الوظائف ومتواضعة. هذا الإنسان المتعالي في مقامه كان نوره يشعّ من هذه الحجرة المتواضعة ليصل إلى عالَم الملك والملكوت، ولتتّسع آثار هذه الحجرة التربوية إلى جميع أرجاء العالَم. صحيح أنّه لحدّ الآن ما أراده الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من التربية لم يتحقّق بعد ولم تصل إليه البشريّة، لأنّ النموذج الّذي رسمه سيتحقّق بشكل كبير على يد الخلف الصالح المهديّ الموعود عجل الله تعالى فرجه الشريف عندما يأتي، ويحقّق بيديه المباركتين ذلك)([83])

ويقول في محل آخر: (كان الوضع المعيشيّ للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في غاية البساطة، فلم يستفد أبداً من مقامه ومنصبه لنفع مادّي شخصيّ، فلم يترك إرثاً ماديّاً خلفه، لم يترك إلّا العلم الّذي هو أشرف الأمور، خاصّة العلم الإلهيّ الّذي هو من عند الله تعالى)([84])

ومن السنن التي حرص الإمام الخميني على الدعوة إلى تفعيلها في الحياة سنة المساواة، ولذلك كان يحذر كل حين من بدع الاستكبار والتفاخر والتمييز العنصريّ، ومن خطاباته في ذلك قوله: (اذهبوا وطالعوا سيرة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم الّذي كان المؤسّس الأوّل للكيان الإسلاميّ والجهاديّ الأوّل. هل كان طالب سلطة وحكم؟ انظروا إلى أصحابه وأتباعه ستجدون الأسود والأبيض، الجميع كان يجلس حول الجميع لا يوجد من يجلس في الأعلى أو في الأسفل أو هنا أو هناك.. إنّ تعامل وسلوك النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم مع أصحابه وكافّة الناس كان على أساس المساواة في جميع شؤون الحياة، حتّى على مستوى المجالسة والحديث والنظر، فهو لم يكن لينظر إلى فرد ويستثني آخر، بل كان يحادث ويخاطب الجميع، يقول الإمام الصادق: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يَقسِمُ لحظاته بين أصحابه، فينظر إلى ذا وينظر إلى ذا بالسويّة)([85])

ويقول في خطاب له بحضور جمع من الشباب الفرنسيّين ـ: (إنّ الحاكم الإسلاميّ ليس كرؤساء الجمهوريّات والسلاطين الآخرين. إنّ الحاكم الإسلاميّ هو الّذي يقصد المسجد الصغير في محلّته ويستمع إلى حديث الناس ولا يميّز بين فقير وغنيّ فكلّهم سواسية. فالأغنياء كانوا كبقيّة الناس يجتمعون في المسجد، والشخص الغريب إذا دخل عليهم لا يعرف من هو الرئيس ومن هو المرؤوس منهم، من هو صاحب المقام ومن هو من عامّة الشعب. كان لباسهم مثل لباس الناس وسلوكهم مثل بقيّة الناس، وفي إجراء العدالة، إذا ادّعى أحد أفراد المجتمع على حاكم المسلمين، كان القاضي يُحضر حاكم المسلمين إلى جانب المدّعي)([86])

ويقول في موضع آخر: (النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم الّذي وقف في وجه قريش كان من قريش أيضاً، لكنّه كان يعدّ نفسه من طبقات الناس العاديّة رغم أنّه كان من الأشراف وصاحب عشيرة لم يكن يملك شيئاً. والّذين اجتمعوا حوله كانوا من الدرجة الثالثة وكانوا فقراء لا يملكون شيئاً، حتّى أنّ الرسول نفسه لم يكن يملك منزلاً، كان يملك غرفة مصنوعة من ألياف النخل، حتّى مسجده كان كذلك)([87])

هذه مجرد نماذج عن السنن المغيبة التي دعا إليها الإمام الخميني، والتي تمثل في حقيقتها غايات هذا الدين وقيمه العليا، ويمكننا مقارنتها إذا شئنا بتلك الجزئيات من السنن التي يحرص عليها الطائفيون، وفي سبيل يخربون الوحدة الإسلامية، وكل القيم التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وعلى نفس هذا المنهج نجد السيد علي الخامنئي يدعو إلى الاقتداء الكامل برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في كل جزئيات الحياة وتفاصيلها، لا في تلك السنن المحدودة المرتبطة بالشعائر التعبدية ونحوها، فيقول: (نحن المسلمين واجبنا أن نقتدي بهذا العظيم، يقول الله سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، يجب أن نقتدي ونهتدي ونتأسّى بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فلا يكفي أن نقتدي بصلاة ركعات عدّة، وإنّما الواجب أن نقتدي بسلوكنا وأقوالنا، بعلاقتنا فيما بيننا، وبتعاملنا مع الآخر، ولا يتيسّر كلّ هذا إلّا من خلال معرفة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم)([88])

وقد حدد في الكثير من خطاباته الأسس الكبرى التي تدور حولها السنة النبوية، وهي سبعة، نختصرها فيما يلي([89]):

1. نفخ روح الإيمان وتقويته وترسيخه وتغذية أبناء الأمّة بالمعتقد والفكر السليمين، وهذا ما باشره النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في مكّة ورفع رايته في المدينة بكلّ اقتدار.

2. العدل والقسط، فمنطلق العمل كان يقوم على أساس العدل والقسط وإعطاء كلّ ذي حقّ حقّه دون أدنى مداهنة.

3. العلم والمعرفة، فأساس كلّ شيء في النظام النبويّ هو العلم والمعرفة والوعي واليقظة، فهو لا يحرّك أحداً في اتّجاهٍ معيّن حركةً عمياء، بل يحوّل الأمّة عن طريق الوعي والمعرفة والقدرة على التشخيص، إلى قوّة فعّالة لا منفعلة.

4. الصفاء والأخوّة، فالنظام النبويّ ينبذ الصراعات الّتي تغذّيها الدوافع الخُرافية والشخصية والمصلحية والنفعية ويحاربها. فالأجواء هي أجواء تتّسم بالصدق والأخوّة والتآلف والحميميّة.

5. الصلاح الأخلاقيّ والسلوكيّ، فهو يزكّي الناس ويطهّرهم من رذائل الأخلاق وأدرانها، ويصنع إنساناً خلوقاً ومزكّىً { وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [آل عمران: 164]، فالتزكية هي أحد المرتكزات الأساس الّتي كان يستند إليها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في عمله التربويّ مع أبناء الأمّة فرداً فرداً لبناء الإنسان.

6. الاقتدار والعزّة: فالمجتمع والنظام النبويّ لا يتميّز بالتبعيّة والتسوّل من الآخرين، بل يتميّز بعزّته واقتداره وإصراره على اتّخاذ القرار؛ فهو متى ما شخَّص موطن صلاحه سعى إليه وشقّ طريقه إلى الأمام.

7. العمل والنشاط والتقدّم المطّرد: فلا مجال للتوقّف في النظام النبويّ، بل الحركة الدؤوبة والتقدّم الدائم. ولا معنى لدى أبنائه للقول إنّ كلّ شيء قد انتهى فلنركن إلى الدّعة! وهذا العمل – بطبيعة الحال – مبعث لذّة وسرور وليس مدعاة للكسل والملل والإرهاق، بل هو عمل يمنح الإنسان النشاط والطاقة والاندفاع.

هذه مجرد نماذج عن الرؤية الشمولية للسنة النبوية في مشروع إيران الحضاري الجديد، وهي ما يجعلها أداة للنهوض والتحضر والتحلي بجميع القيم التي جاء القرآن الكريم للدعوة إليها، فالسنة الحقيقية هي التي تحول المؤمن إلى إنسان قرآني، لا إلى إنسان طائفي مستكبر مغرور مملوء بكل أنواع السلبية.


([1])  التوحيد: 174 / 3.

([2])  رواه الترمذي (3775) وابن ماجه (144) وأحمد (17111)

([3])  يذكر السيد علي الخامنئي سبب طرح فكرة أسبوع الوحدة بقوله: (أنا شخصياً كنت منفيّاً إلى بلوشستان. لم تكن الأجهزة الأمنية تريد أن نمارس أي مسعى؛ لكن في الوقت ذاته قلنا فلنَقُم بعمل نظهر من خلاله الوحدة بين الشيعة والسنّة في هذه المدينة؛ فخطرت على بالنا قضية أسبوع الوحدة – ولادة النبي الأكرم في 12 ربيع الأول حسب رواية أهل السنّة وفي 17 ربيع الأول حسب رواية الشّيعة- وقُمنا بإجرائها بشكل عملي في إيران شهر؛ أي أنّنا احتفلنا من الثاني عشر حتى السابع عشر من ربيع الأول. لقد كان هذا فكراً عميقاً، ليس وليد اليوم والبارحة)[إطلاق (أسبوع الوحدة) خلال أيام النفي إلى إيرانشهر، موقع مكتب السيد علي خامنئي، 17 أكتوبر 2010 ]، وبعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران طرحت هذه القضية من قبل الجمهورية الإسلامية في إيران وتم اتخاذ القرار بإقامة مؤتمر الوحدة الإسلامية في هذا الأسبوع.

([4])  الصحيفة السجادية، ص31.

([5])  إحياء علوم الدين، ج‏3، ص: 96.

([6])  إحياء علوم الدين، ج‏3، ص: 96.

([7])  سعدي الشيرازي (القرن السابع الهجري) هو شاعر ومتصوف فارسي، تميزت كتاباته بأسلوبها الجزل الواضح وقيم أخلاقية رفيعة، مما جعله أكثر كُتاب الفرس شعبية، فتخطت سمعته حدود البلدان الناطقة بالفارسية إلى عدد من مناطق وأقاليم العالم الإسلامي، وبلغت الغرب أيضاً، حيث صنف كأحد أبرز الشعراء الكلاسيكيين.. ومن أشهر آثاره: (الگلستان) و(البوستان). وكان من شدة تأثر سعدي باللغة العربية أن اعتبره بعض النقاد الأدبيين أحد أبرز المؤثرين بالقصيدة العربية من ناحية ما أدخلته أشعاره من نظم موسيقية جديدة عبر اقتباس النظم العروضية الفارسية.

([8])  انظر: الإنسان الكامل، مرتضى مطهري، نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، مركز نون للتأليف والترجمة، ص.

([9])  سرّ الصلاة، الإمام الخمينيّ، ص 89 ـ 90..

([10])  آداب الصلاة، الإمام الخمينيّ، ص 10..

([11])  من خطبة القاها بمناسبة ذكرى مولد المهدي في 15/شعبان /1400 هـ، انظر كتاب نهج خميني ص46.

([12])  البخاري ح (1586)، ومسلم ح (1333)، والترمذي ح (875)، والنسائي ح (2900)، وابن ماجه ح (2955)

([13])  فتح الباري (1/ 225)

([14])  الجمع بين الصحيحين (2/ 54)

([15])  انظر: شرح كتاب رياض الصالحين، د. خالد بن عثمان السبت.

([16])  وهو من رامهرمز وهي مدينة في محافظة خوزستان، وتنتهي من الجهة الغربية إلى مدينة أهواز مركز المحافظة المذكورة..

([17])  تذكرة الحفاظ = طبقات الحفاظ للذهبي (3/ 81)

([18])  خراسان قديمي ترين پايگاه علوم اسلامي، مولوي عبد الحميد.

([19])  لم ينص مسلم -في كتابه الصحيح- على تسميته ولذلك وقع الاختلاف في اسمه، فذُكرت له عدة تسميات، منها [الجامع]: ذكره الفيروزآبادي وابن حجر العسقلاني وحاجي خليفة والقنوجي وغيرهم، ومنها [المسند الصحيح]: هكذا سمّاه الإمام مسلم، ومنها [المسند الصحيح المختصر من السنن بنقل العدل عن العدل عن رسول الله a] وغيرها..

([20])  تهذيب التهذيب، ابن حجر العسقلاني، ج10 ص127.

([21])  انظر هذه النصوص وغيرها في: صيانة صحيح مسلم من الإخلال والغلط وحمايته من الإسقاط والسقط – عثمان بن عبد الرحمن، أبو عمرو، تقي الدين المعروف بابن الصلاح (طبعة دار الغرب الإسلامي: ج1 ص62)

([22])  سير أعلام النبلاء 14/372.

([23])  طبقات  الشافعية، (3/109).

([24])  الثقات لإبن حبان، 9/156.

([25])  تذكرة الحفاظ، 2/720.

([26])  سير أعلام النبلاء 17/163).

([27])  مقدمة صحيح ابن حبان ص 6-7.

([28])  قال الحاكم النيسابوري: (أول ما ورد البخاري نيسابور سنة تسع ومائتين، ووردها في الأخير سنة خمسين ومائتين، فأقام بها خمس سنين يحدث على الدوام) [تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام – شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي (طبعة دار الغرب الإسلامي:ج6 ص140)]

([29])  سير أعلام المحدثين ص 298.

([30])  بيهق من نواحي نيسابور، قد خرج منها ـ كما يذكر المؤرخون ـ ما لا يحصی من الفضلاء المحدثين والأدباء الفقهاء..

([31])  السبكي في الطبقات 4/9.

([32])  سير أعلام النبلاء 18/163.

([33])  انظر: طبقات الشافعية الكبری 4/10-11، سير أعلام النبلاء 18/168.

([34])  دلائل النبوة للبيهقي محققا (المقدمة/ 5).

([35])  دلائل النبوة للبيهقي محققا (المقدمة/ 6).

([36])  سير أعلام النبلاء 10/512.

([37])  انظر: تذكرة الحفاظ للذهبي (ج4 ص51)؛ سير أعلام النبلاء أيضا للذهبي (ج20 ص81)

([38])  الأنساب للسمعاني (ج2 ص120)

([39])  التقييد لابن نقطة (ج1 ص252)

([40])  تاريخ الإسلام للذهبي (ج36 ص368 و371)، وتذكرة الحفاظ له (ج4 ص51)

([41])  طبقات الفقهاء الشافعيين لابن كثير (ج2 ص591)

([42])  تذكرة الحفاظ 3/915.

([43])  الأنساب ( 3/ 25)

([44])  ( الانساب للسمعاني 3/ 26.

([45])  انظر: الجرح و التعديل لابن أبي حاتم، وسير أعلام النبلاء للذهبي.

([46])  انظر ترجمته بتفصيل في: سير اعلام النبلاء الرقم 2073، 8/292.

([47])  الأنساب 3/ 26.

([48])  معجم البلدان 3/ 121.

([49])  انظر ترجمته والثناء عليه في : الكليني والكافي، ص 264 – 267..

([50])  الطوسي، رجال الطوسي، ص 429.

([51])  النجاشي، رجال النجاشي، ص 377..

([52])  اعتقادات الامامية، ص 70.

([53])  الكافي، ج 1، ص 27.

([54])  موسوعة الاسئلة العقائدية، مركز الأبحاث العقائدية، (بتصرف)

([55])  منهم أبو الحسن الدارقطني، وأبو علي النيسابوري، وأبو الفضل بن عمار، وأبو علي الغساني، وأبو الحسين العطار، وأبو مسعود الدشقي وأبو عبد الله الذهبي، انظر :  كتاب الإلزامات والتتبع  لأبي الحسن الدارقطني،  ميزان الاعتدال  (4/39-40)،  مقدمة الفتح  (344)،  شرح مسلم للنووي  (1/27)،  سلسلة الأحاديث الضعيفة  (1/142) (2/471-475) (5/218)

([56])  محاسن التأويل (9/ 577)

([57])  قزوين هي عاصمة محافظة قزوين، بإيران، وأكبر مدنها. تبعد حوالي 130كيلومتراً غرب مدينة طهران، لها مناخ بارد وجاف، بها أكثر من 2000 معلم معماري تاريخي.

([58])  انظر: تذكرة الحفاظ 2/ 536، وتهذيب التهذيب 6/ 60.

([59])  سير أعلام النبلاء (10/ 41)

([60])  انظر في ترجمته: ترجمته في الأنساب للسمعاني  8/ 264، والمنتظم لابن الجوزي  6/ 379، وتذكرة الحفاظ  3/ ترجمة رقم 861، والعبر  2/ 264، والنجوم الزاهرة لابن تغري بردي  3/ 313، وشذرات الذهب لابن العماد  2/ 368 .

([61])  العلامة الحلي، خلاصة الأقوال، ص 249..

([62])  طبقات الشافعية الكبرى للسبكي (4/ 126)

([63])  تقع مدينة شيراز  عاصمة محافظة فارس من حيث الموقع الجغرافي، في الجنوب الغربي من إيران، وهي بمساحة 340 كم، ثالث مدن إيران من حيث المساحة حيث تأتي مرتبتها بعد طهران ومشهد، وتنتهي من ناحية الشمال بأصفهان، ومن الجانب الشرقي محاطة بيزد وكرمان، ومن الجنوب تجاور محافظة هرمزكان، كما هي منتهية من الجهة الغربية ببوشهر.

([64])  تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، شمس الدين الذهبي:ج8 ص532.

([65])  تذكرة الحفاظ للذهبي (3/ 161)

([66])  ومنهم من المدرسة الشيعية الشهيد العاملي الأول والعاملي الثاني والشيخ البهائي والأنصاري، وقبلهم ابن فهد الحلّي، ومنهم من لم يجوز العمل بالخبر الضعيف مطلقًا، ومنهم صاحب المدارك السيد محمد العاملي، حيث قال: (وما قيل من أنّ أدلّة السنن يتسامح فيها بما لا يتسامح في غيرها فمنظور فيه، لأنّ الإستحباب حكم شرعي فيتوقف على الدليل الشرعي كسائر الأحكام)

وهكذا وقع الخلاف بين أهل السنّة في المسألة، فمنهم من جوز العمل بالخبر الضعيف في خصوص فضائل الأعمال، والترغيب والترهيب، ومنهم سفيان الثوري، و الخطيب البغدادي، و ابن صلاح.. ومنهم من رفض العمل بالخبر الضعيف مطلقًا، مثل ابن حزم الأندلسي الظاهري.

([67])  رواه أبو داود [2/ 611] حديث [4607]، والترمذي [5/ 44] حديث [2676]

([68])  قراءة في كتب العقائد المذهب الحنبلي نموذجاً (184)

([69])  شرح السنة، ص86.

([70])  نهج البلاغة، خطبة 214..

([71])  آداب الصلاة، الإمام الخمينيّ، ص 110..

([72])  صفة صلاة النبي a الألباني (ص: 40).

([73])  صفة صلاة النبي a الألباني (ص: 40).

([74])  صحيفة الإمام، ج 14، ص 391 ـ 389.

([75])  صحيفة الإمام، ج 14، ص 391 ـ 389.

([76])  صحيفة الإمام، ج 2، ص 32.

([77])  صحيفة الإمام، ح 13، ص 435 ـ 434.

([78])  صحيفة الإمام، ج13، ص 233.

([79])  الأربعون حديثاً، الإمام الخمينيّ، ص242.

([80])  الأربعون حديثاً، الإمام الخمينيّ قدس سره، ص 95 ـ 96..

([81])  الأربعون حديثاً، الإمام الخمينيّ قدس سره، ص 95 ـ 96..

([82])  صحيفة الإمام، ج 16، ص 451..

([83])  صحيفة الإمام، ج 17، ص 373 ـ 474..

([84])  الحكومة الإسلامية، الإمام الخميني، ص 103 ـ 104.

([85])  صحيفة الإمام، ج 17، ص 185..

([86])  سمات المعصومين في فكر الإمام الخميني، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام، ص 99 ـ 100.

([87])  صحيفة الإمام، ج 8، ص 456 ـ 457.

([88])  خطاب قائد الثورة في صلاة الجمعة، 7 صفر، 1421هـ.

([89])  النبي الأعظم a في كلام الولي دام ظله، شبكة المعارف الإسلامية.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *