إلى خير عم في الدنيا

إلى خير عم في الدنيا

سيدي أبا طالب.. يا عم رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم وحاميه وناصره..

يا من جعلك الله كفيلا لنبيه وسندا له منذ ولادته إلى آخر يوم من حياتك.. يا من رأيت المعجزات الباهرات.. وتشرفت برؤية الأنوار الساطعات.. وسمعت من فم الحبيب الكلمات النيرات..

ماذا عساي أقول لك.. لقد عدت خاوي الوفاض.. فلم ينفعهم ما ذكرته لهم من فضلك وجهدك في خدمة الإسلام ونبيه.. ولم ينفعهم ما ذكرته لهم من عقلك وطهارتك وإيمانك.. ولم ينفعهم ذلك الجدل الذي استعملته معهم لأخاطب عقولهم.. ولم تنفعهم تلك الخطب الحزينة التي خاطبت بها عواطفهم..

لقد رفضوا كل ذلك.. ولو كنتُ معهم حين أوردت عليهم ما أوردت لأوسعوني ضربا، أو لرموني بالحجارة، أو لحاصروني في الشعب كما حاصروك مع ابنك وابن أخيك محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

وأنا لا أبالي في سبيلك سيدي كل ما يقولون.. لأني أعلم أن القلوب إذا طبعت، والعقول إذا ختمت، لا تكاد تبصر أو تسمع، ﴿ أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ [الأعراف: 179]

لقد قلت لهم بكل صدق وإخلاص: يا قوم.. أين عقولكم؟.. هل تتصورون هذا الرجل العظيم الذي قدم كل هذه الخدمات، والذي عاش كل هذا العمر مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبخل الله عليه بهداية قلبه..

ألم ترووا في كتبكم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يضع يده على صدر المنافق، فيسلم، وكان لا يراه أحد ـ وكان صادقاـ إلا أحبه وآمن به.. أفيكون كل الناس مرحومين برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، تتنزل عليهم بركاته ـ حتى أعداؤه الذين قاتلوه ـ إلا أبا طالب؟

ألم ترووا بأسانيدكم التي تعتبرونها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعا لأم أبي هريرة التي لم تكتف بشركها بالله فقط، وإنما أضافت إليه سب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومع ذلك، بمجرد أن طلب أبا هريرة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يدعو لأمه، تحولت من النقيض إلى النقيض.. لقد رويتم أن أبا هريرة قال: كنت أدعو أمي إلى الإسلام وهي مشركة، فدعوتها يوما.. فأتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا أبكي قلت: يا رسول الله، إنى كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى على فدعوتها اليوم فأسمعتنى فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهم اهد أم أبي هريرة).. ففتحت الباب ثم قالت: يا أبا هريرة: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله)([1])

أنا لا أنكر الحديث، فأنا أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مستجاب الدعوة، ولكني أعجب من عقولكم التي قبلت أن يدعو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالهداية لأم أبي هريرة التي كانت تسبه، فتحولت مباشرة إلى الإيمان، ثم يسكت عن الدعاء لعمه، أو يدعو ولا يستجاب له، مع أنه قضى حياته كلها في مدحه ونصرته، على خلاف أم أبي هريرة التي لم تكن تكتفي بالشرك بل أضافت إليه سب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ولم تكتفوا بأم أبي هريرة، بل أدخلتم قوم أبي هريرة جميعا إلى الإسلام بدعوة واحدة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد حدث أبو هريرة نفسه، قال: (جاء الطفيل بن عمرو إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: إن دوسا قد عصت وأبت، فادع الله عليهم، فقال: (اللهم اهد دوسا، وأت بهم)([2])

بل رويتم أن المنافقين الذين وصفهم الله بما وصفهم به في القرآن الكريم من الخداع والمكر والتذبذب، ومع ذلك استطاعت دعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن تدركهم، فقد حدثتم عن ابن عمر. قال: (كنت عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ جاءه حرملة بن زيد، فجلس بين يديه، فقال: يا رسول الله الإيمان هاهنا، وأشار بيده إلى لسانه، والنفاق هاهنا، وأشار بيده إلى قلبه، فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فردد عليه مرارا، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بطرف لسان حرملة، وقال: (اللهم ارزقه لسانا صادقا، وقلبا شاكرا، وارزقه حبي وحب من يحبني وصير أمره إلى الخير، فقال: يارسول الله إن لي إخوانا منافقين كنت رأسا فيهم أفلا أدذلك عليهم؟ فقال: من جاءنا منهم استغفرنا له كما استغفرنا لك، ومن مات منهم على دينه فالله أولى به، ولا تخرق على أحد سترا)([3])

هكذا رويتم أن هذا المنافق تحول إلى الإيمان بدعوة واحدة، بل تحول مباشرة من منافق في الدرك الأسفل من النار إلى أحد الصحابة الذين تجلونهم ([4])، وتعتقدون أنه لا يمكن لأحد من الناس أن يدرك عملهم حتى لو قام فلم يفتر، وصام ولم يفطر.. بل حتى لو قضى حياته جميعا في سجدة واحدة.

بل رويتم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبر أن أي منافق يأتيه يمكنه أن يتحول إلى الإيمان في لحظة واحدة.. فهل كان جدار الهداية التي حجب عنها أبو طالب ـ كما تذكرون ـ أسمك من جدار المنافقين، وهو الذي عاش حياته كلها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

لقد قلت لهم كل ذلك.. وقلت لهم: ألم ترووا في سيركم ما يدل على أن أبا طالب آمن بنبوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل مبعثه الشريف، بل آمن به، وهو غلام صغير..

ألم ترووا فيها أن أبا طالب أراد المسير في ركب إلى الشام فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أي عم إلى من تخلفني ها هنا؟ وصب به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرق له أبو طالب، فلما سارا أردفه خلفه، فخرج به فنزلوا على صاحب دير فقال صاحب الدير: ما هذا الغلام منك؟ قال: ابني. قال: ما هو بابنك وما ينبغي أن يكون له أب حي. قال: ولم؟ قال: لأن وجهه وجه نبي وعينه عين نبي. قال: وما النبي؟ قال: الذي يوحى إليه من السماء فينبئ أهل الأرض([5]).. وقال له: (ارجع بابن أخيك إلى بلدك واحذر عليه اليهود فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغنه شرا فإنه كائن لابن أخيك شأن. فأسرع به إلى بلاده ولا تذهب به إلى الروم فإن الروم إذا رأوه عرفوه بالصفة فيقتلونه)([6])

وقلت لهم: تأملوا في هذه النصوص التي تروونها جيدا، واقرأوا بعقولكم لا بألسنتكم فقط لتروا فيها الدلائل الواضحات على إيمانك العظيم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

فمن الدلائل البينات على إيمانك سيدي بنبوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو فتى صغير تصديقك للراهب، وعودتك بابن أخيك إلى بلده، بعد أن قطعت كل تلك المسافة..

في ذلك الوقت الذي عدت فيه مصدقا الراهب لم ينزل القرآن بعد.. ولم ينشق القمر بعد.. ولم تر تلك المعجزات الباهرات بعد.. أفيمكن أن تؤمن به صغيرا، وتجحده كبيرا؟.. أو تؤمن به وأنت لم تر منه ما يستدعي الإيمان، وتجحد به، وأنت ترى كل شيء يدل عليه؟

لقد قلت لهم: اقرأوا الرواية جيدا.. وانظروا فيها إلى تلك الرحمة والشفقة التي كان تملأ قلب أبي طالب على ابن أخيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. ألم تروا كيف كان يدعوه ابني؟

ولم يكن ذلك إلا تعبيرا عن حقيقة مشاعره.. والتي كان يبادله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مثلها مثلما يبادل زوجه فاطمة بنت أسد التي كانت بمثابة أم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فقد رويتم في كتبكم التي تقدسونها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال عندما دفنها: (يرحمك الله يا أمّي، كنت أمّي بعد أمّي، تجوعين وتشبعيني وتعرين وتكسيني، وتمنعين نفسك طيبا، وتطعميني، تريدين بذلك وجه الله تعالى والدّار الآخرة)([7])

وقلت لهم: ارجعوا إلى كتب السنة والسيرة، وستجدون الأشعار الرقيقة التي قالها أبو طالب، والتي جمعها بعض محققيكم.. اقرأوها بتدبر، وسترون روح الإيمان الصادق تنبعث من كل كلمة من كلماتها.

وقلت لهم: لا بأس.. لعلكم لا تجدون الوقت الذي تبحثون عنها.. ولهذا سأرتل عليكم بعض آياتها([8]) والتي قالها ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صبي صغير بعد أن رجع به من الشام.. لقد ذكرت لهم من قصائدك قولك ([9]):

إن ابن آمنة الأمين محمدا

   عندي بمثل منازل الأولاد

لما تعلق بالزمام رحمته

   والعيس قد قلصن بالأزواد

وفيها تقول:

حتى إذا ما القوم بصرى عاينوا

   لاقوا على شرك من المرصاد

حبرا فأخبرهم حديثاً صادقا

   عنه ورد معاشر الحساد

قوما يهودا قد رأوا ما قد رأى

   ظل الغمامة ثاغري الأكباد

ساروا لفتك محمد فنهاهم

   عنه وأجهد أحسن الإجهاد

فثنى زبيراء بحير فانثنى

   في القوم بعد تجادل وتعاد

ونهى دريسا فانتهى لما نهي

   عن قول حبر ناطق بسداد

وأنشدتهم بعدها قصائدك الكثيرة في مساندة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والذب عنه، والتي رواها المحققون من المحدثين الذين يعتبرونهم، ويرجعون إليهم، كالحافظ ابن حجر العسقلاني الذي يسمونه خاتمة الحفاظ، والذي قال مخبرا عنك: (وأخباره في حياطته والذب عنه صلى الله عليه وآله وسلم معروفة مشهورة، ومما اشتهر من شعره في ذلك قوله: والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسـد في التراب دفينــا وقوله: كذبتم وبيت الله نبزي محمداً ولما نقاتل حـوله ونناضـل)([10])

وأنشدتهم قولك:

والله لن يصلوا إليك بجمعهم

   حتى أوسد في التراب دفينا

فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة

   وابشر بذاك وقر منك عيونا

ودعوتني وعلمت أنك صادق

   ولقد صدقت وكنت ثَمَّ أمينا

ولقد علمت بأن دين محمد

  من خير أديان البرية دينا([11])

وأنشدتهم قولك:

لعمري لقد كلّفت وجدا بأحمد

   وإخوته دأب المحبّ المواصل

فلا زال في الدّنيا جمالا بأحمد

   وإخوته دأب المحبّ المواصل

فلا زال في الدّنيا جمالا لأهلها

   وزينا على رغم العدو المخاتل

فمن مثله في النّاس أيّ مؤمّل

   إذا قاسه الحكّام عند التّفاضل

حليمٌ رشيدٌ عادلٌ غير طائش

   يوالي إلهاً ليس عنه بغافل

فأيّده ربّ العباد بنصره

   وأظهر دينا حقّه غير ناصل([12])

وأنشدتهم ذلك البيت المعروف الذي لا يزالون ينشدونه من غير أن يعرفوا أن قائله هو أنت:

وأبيض يستسقي الغمام بوجهه

   ثمال اليتامى عصمة للأرامل

يلوذ به الهلاك من آل هاشمٍ

   فهم عنده في نعمة وفواضل

ثم قصصت لهم ما رواه علماء السيرة عن سبب قولك له، فذكرت لهم أن ابن عساكر حدث عن جلهمة بن عرفطة قال: قدمت مكة وقريش في قحط، فقائل منهم يقول: اعتمدوا واللات والعزى. وقائل منهم يقول: اعتمدوا مناة الثالثة الأخرى فقال شيخ وسيم حسن الوجه جيد الرأي: أنى تؤفكون وفيكم بقية إبراهيم وسلالة إسماعيل. قالوا: كأنك عنيت أبا طالب؟ قال: إيها. فقاموا بأجمعهم وقمت معهم فدققنا عليه بابه فخرج إلينا رجل حسن الوجه عليه إزار قد اتشح به فثاروا إليه فقالوا: يا أبا طالب أقحط الوادي وأجدب العيال فهلم فاستسق لنا فخرج أبو طالب ومعه غلام كأنه شمس دجنة تجلت عليه سحابة قتماء وحوله أغيلمة فأخذه أبو طالب فألصق ظهره بالكعبة ولاذ بإصبعه الغلام وما في السماء قزعة فأقبل السحاب من هاهنا وها هنا وأغدق واغدودق وانفجر له الوادي وأخصب النادي والبادي([13]).

وقلت لهم، وأنا متعجب من عقولهم وانسدادها: هل تتصورون أن الذي توسل برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو صبي صغير، لا يتوسل به وهو كهل كبير..

وهل تتصورون أن الذي توسل به للسقيا، لا يتوسل به للحياة الأبدية؟

بل رويت لهم ما هو أخطر من ذلك مما يدل على معرفتك به وبنبوته منذ ولد إلى أن توفاك الله.. لقد حكيت لهم ما رواه ابن سعد والخطيب وابن عساكر: عن عمرو بن سعيد أن أبا طالب قال: كنت بذي المجاز مع ابن أخي، يعني النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأدركني العطش فشكوت إليه فقلت: يا ابن أخي قد عطشت. وما قلت له ذلك وأنا أرى عنده شيئاً إلا الجزع قال: فثنى وركه ثم قال: يا عم عطشت؟ قلت: نعم. فأهوى بعقبه إلى الأرض فإذا أنا بالماء فقال: اشرب فشربت([14]).

وقلت لهم بعد أن رويت لهم هذه الرواية وغيرها: هل ترون أن الذي عاين هذه المعجزة سيكون جاهلا كافرا من أجل حرصه على إرضاء أبي جهل وأبي لهب؟

وهكذا ذكرت لهم سيدي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان متعلقا بك إلى درجة لا يمكن تصورها حتى أنه سمى عاما كاملا عام الحزن حدادا عليك، وعلى السيدة العظيمة المظلومة خديجة..

تصور سيدي أني بعد أن ذكرت لهم هذا راحوا يسخرون مني، ويقولون: ما دمت قد أثبت لنا أن أبا طالب مؤمن، وأنه من أهل الجنة.. فاذهب وابحث لعلك تجد ما يدلك على أن أبا جهل وأبا لهب مؤمنان وفي الجنة.

تصور سيدي كيف يضعانك مع أعدائك وأعداء نبيك في خندق واحد.. لقد أعماهم التعصب عن إدراك الحق.. فتصوروا أننا ندافع عنك فقط لكونك عما لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ونسوا أننا ندافع عن الجبل الذي واجه كل المعتدين.. وعن السيد الذي حمى ذمامه من كل المنحرفين.. في نفس الوقت الذي لا يستحيون فيه عن الدفاع عن كل أعداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأعداء دينه، وأعداء أمته.

لقد راحوا ـ سيدي ـ يواجهونني ببعض الروايات التي رواها البخاري ومسلم.. وهم في نفوسهم ينتقدون الكثير من أحاديث البخاري ومسلم، بل لا يقبلون منهما إلا ما يتناسب مع أهوائهم.. ولو كانوا يقبلون بهما لكانوا قد وجدوا فيهما ما يدلهم على ضلالة الفئة الباغية التي ينتصرون لها، ويعلنون ولاءهم كل حين لمن يواليها.. ولو بحثوا فيهما لوجدوا من أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنهم سيغيرون السنن، ويحرفون الدين، وينحرفون بالأمة نحو الهاوية السحيقة التي وقعت فيها.

سأذكر لك سيدي بعض ما راحوا يستدلون به زورا وبهتانا..

 لقد نقلوا ما رواه البخاري ومسلم أن عمك العباس سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم: هل أغنيت عن عمك شيئا؟، فقال: (لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه)([15])

انظر إلى لغة الحقد التي عبروا بها عن العذاب الذي أوهمتهم شياطينهم أنه ينزل بك.. ولو أنهم عرضوا هذا الحديث على القرآن الكريم لوجدوا فيه الدلالة الصريحة القاطعة على عدم جواز الشفاعة في الكفار.. فقد أخبر الله تعالى عن الكفار بأنهم ﴿لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا﴾ [فاطر: 36]، وأنهم لا ﴿ تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ﴾ [المدثر: 48]

ولو أنهم عرضوا هذه الرواية على روايات أخرى أكثر عقلانية وانسجاما مع الواقع والقرآن لحلوا المعضلة بكل سهولة، فقد روى هذا الحديث ابن سعد عن العباس أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما ترجو لأبي طالب؟ قال: (كل الخير أرجو من ربي)([16])

وهذا اللفظ يعكر على اللفظ السابق، ويجعل الحديث مضطربا على حسب القواعد التي يعتمدون عليها في الحديث.

ولو أنهم راجعوا سند الحديث لوجدوا العجب العجاب.. لو راجعوه لوجدوا في سنده (عبد الله بن الحارث بن نوفل)، وهو أموي المشرب، أمه هند بنت أبي سفيان أخت معاوية، وقد اصطلح عليه أهل البصرة حين مات يزيد بن معاوية.. وقد روى هذا الأموي الكثير من الروايات المنكرة الممتلئة بالتجسيم، وكان من أساتذته في التجسيم كعب الأحبار اليهودي([17]).

لكنهم سيدي لا يقرؤون إلا ما يتناسب مع أمزجتهم.. بل إنهم سيدي راحوا يؤولون القرآن الكريم، ويفسرونه بغير ما أنزل الله بغية مواجهتك وإعلان الحرب عليك..

لقد رووا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخل عليك لما حضرتك الوفاة، وعندك أبو جهل، فقال لك: (أي عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله).. فقال أبو جهل وعبدالله بن أبي أمية لك: (يا أبا طالب ترغب عن ملة عبدالمطلب)، وأنهما لم يزالا يكلمانك حتى كان آخر شيء كلمتهم به، هو (على ملة عبدالمطلب)، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لك: (لاستغفــرن لك مـا لـم أنه عنه)([18])، وأنه نزل فيك قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ [التوبة: 113]، ونزل فيك: ﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ الله يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ [القصص: 56]

ومن العجب أن يوردوا مثل هذا البهتان العظيم.. ومن العجب أن يذكروا أن أولئك الطغاة الظلمة المشركين ينالون في آخر لحظة من الحظوة عندك ما لا ينالها ابن أخيك الذي عشت حياتك كلها من أجله، وضحيت بكل شيء في سبيله..

وهل يمكن لعاقل أن يصدق خضوع شيخ كبير للذين وحاصروه واستحلوا كل الحرمات في حقه؟.. هل يمكن أن يخضع لهم ويرضيهم؟.. أليست الفطرة السليمة تدعو لمواجهة أمثال هؤلاء بما يكرهونه حتى بما لا نعتقده؟

لكن حديث الفطرة والعقل لم يقنعهم، فرحت أخاطبهم بما تعودوا.. لقد ذكرت لهم أن المحققين من المحدثين ـ كابن حجر ـ رأوا أن في نزولها فيك نظر، وهذا طعن صريح في هذا الحديث المروي في الصحيحين، فقد قال في معلقا على هذا: (هذا فيه إشكال، لأن وفاة أبي طالب كانت بمكة قبل الهجرة اتفاقاً، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتى قبر أمه لما اعتمر فاستأذن ربه أن يستغفر لها فنزلت هذه الآية، والأصل عدم تكرر النزول)([19]) بل روي في سبب نزول الآية أن رجلاً استغفر لوالديه وهما مشركان فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فأنزل الله الآية ([20]).

وهذه الروايات تدل على الاضطراب في سبب نزول الآية، وعدم صحة الاستدلال بها على أنها نزلت فيك أو في والدة النبي آمنة بنت وهب عليها السلام.

ثم إن من العجيب أنهم يروون عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه صلى على أبي بن سلول المنافق مع أن الله تعالى قال في شأنهم: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا ﴾ [النساء: 145]، بل يروون أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استغفر له، وكفنه بقميصه، وقد رووا ذلك في الصحيحين وغيرهما، فإذا كان الله قد نهى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم قبل ذلك بسنين عن أن يستغفر للكفار ـ الذين يعتبرونك منهم ـ فكيف يستغفر بعد ذلك لأبي بن سلول، ويخالف ما أمره الله تعالى به؟!

وفي الأخير سيدي بعد أن خاطبت عقولهم وقلوبهم ودينهم.. لم يجدوا إلا أن يواجهوني بالحقيقة التي تختفي وراء كل ذلك الحقد الذي يكنونه لك.. وكل ذلك الولاء الذي يهدونه لأعدائك.. إنه حقدهم على الشيعة.. ولأن الشيعة يدافعون عنك ويحترمونك ويقدرون جهودك العظيمة، ويعتبرونك من الصحابة الكبار المنتجبين، فإن ذلك لا يرضيهم.. لأن مبدأهم ليس الحقيقة مهما كان القائل بها، وإنما الحقيقة التي تأتي من طرفهم.. وطرف الجماعة التي يعطونها كل ولائهم.

لقد راح بعضهم يقول لي، وكأنه يهددني: لقد ذكر المحققون كابن كثير وغيره أن القول بهذا هو قول الشيعة.. وأنني إن لم أكف عن الدفاع عنك، فسأرمى بالرفض والتشيع..

فقلت لهم: ارموني بما شئتم.. ليس بالرفض والتشيع فقط.. بل بالزندقة والكفر والضلالة.. وارموني في أي جحيم يحلو لكم.. لأني أعلم أن الجنة بيد الله.. والنار بيد الله.. وأعلم أن قلبي الذي يحبك سيدي سيشفع لي عند ربي..

ولو أنهم تخلوا عن غرورهم، ودرسوا العلم عن أهله لعرفوا أن الصالحين من هذه الأمة كلهم يحترمونك ويعظمونك مهما اختلفت مذاهبهم.

فهل كان مفتي الشافعية في مكة المكرمة في وقته السيد أحمد زيني دحـلان الذي آلمته الأحقاد الموجهة لك. فكتب كتابا في نصرتك سماه (أسنى المطالب في نجاة أبي طالب) شيعيا.. وهل الشافعية شيعة.. وهل مفتيهم يقول بقول الشيعة؟

وهل كان العلامة البرزنجي الذي تألم هو الآخر لما قيل فيك، فكتب كتابا في نصرتك سماه (بغية الطالب لإيمان أبي طالب وحسن خاتمته) هو الآخر شيعيا؟

وهل كان مولانا محمد معين الهندي السندي التتوي الحنفي الذي كتب كتابا في نصرتك سماه (إثبات إسلام أبي طالب) شيعيا.. وهل الحنفية شيعة؟

وهل كان أبو الهدى محمد أفندي بن حسن الصيادي الرفاعي، الذي ألف كتابا في نصرتك سماه (السهم الصائب لكبد من آذى أبا طالب) شيعا.. وهل رجال الطريقة الرفاعية الصوفية شيعة؟

وهل كان السيد علي كبير بن علي جعفر الحسيني الهندي الإله أبادي الذي ألف كتابا في نصرتك سماه (غاية المطالب في بحث إيمان أبي طالب) شيعيا؟

وهل كان الشيخ أحمد فيضي بن علي عارف الجورومي الخالدي الرومي الحنفي الذي ألف في الانتصار لك (فيض الواهب في نجاة أبي طالب) شيعيا؟

وهل كان القاضي الفاضل السيد حيدر ابن العلامة السيد محمد سعيد العرفي الذي ألف في نصرتك كتابا سماه (أبو طالب بطل الإسلام) شيعيا؟

ليس هؤلاء فقط من قالوا هذا، بل المفتون والعلماء من جميع المذاهب الإسلامية ذكروا فضلك وحرمتك، لأن حرمتك من حرمة أعظم إنسان في التاريخ، بل أعظم مخلوق على الإطلاق محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. لقد قال بهذا: الأجهوري، والتلمساني، والحافظ السيوطي، وأحمد بن الحسين الموصلي الحنفي، ومحمد بن سلامة القضاعي، والقرطبي، والسبكي، والشعراني.. وغيرهم كثير.

بعد هذا سيدي ما عساي أقول لك.. أعلم أني أضعف من أن أؤدي الرسالة التي تطلبها الحقيقة مني.. ولكني مع ذلك موقن أن الحق سيظهر لا محالة، وأن هؤلاء الذين يجادلون عن أبي سفيان وهند ومعاوية وكل الطلقاء الذين حبسوك وحبسوا ابن أخيك في الشعب سيدركون الحقيقة التي يحاولون الهروب منها.

إن الحقائق تحاصرهم من كل ناحية.. وهم يواجهونها بمثل ما كانوا يواجهونك به من الحصار والتضييق والتكفير والرمي بالعذاب الشديد.. وينسون أن نور الله لا تطفئه أفواه البشر، ﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾ [الصف: 8]


([1])  رواه مسلم (2491)

([2])  رواه البخاري (2937) ومسلم (2524)

([3])  المعجم الكبير للطبراني: 4/5، وقال ابن حجر في الإصابة: إسناده لا بأس به، وأخرجه ابن منده أيضاً. وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح ولم يذكر من أخرج الخبر. مجمع الزوائد: 9/410..

([4])  انظر: أسد الغابة: 1/475؛ والإصابة: 1/330..

([5]) سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد (2/ 140)

([6]) المرجع السابق، (2/ 141)

([7]) رواه الطبراني في الكبير والأوسط برجال الصحيح وفي الأوسط، انظر: سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد (11/ 287)

([8]) سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد (2/ 142)

([9])  دلائل النبوة للبيهقي (2/ 29)

([10]) فتح الباري، (7/194)

([11]) هذه الأبيات ذكرها القرطبي في ( تفسيره ) (6/406) ، وأورد الحافظ ابن حجـر البيتين الأخيريـن في ( الإصابة ) (7/236)، وانظر: دلائل النبوة للبيهقي (2/ 188)

([12]) سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد (2/ 381)

([13]) المرجع السابق، (2/ 137)

([14]) المرجع السابق، (2/ 137)

([15])  رواه البخاري 7 / 149 ، ومسلم رقم (210)

([16]) طبقات ابن سعد:1/ 125 .

([17]) تهذيب الكمال: 14/ 396.

([18]) البخاري (3884) ومسلم (24)

([19]) فتح الباري (8/508)

([20]) رواه أحمد (1/99و130)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *