إلى الزوجة الوفية

سيدتي الطاهرة الوفية المظلومة خديجة..
يا أم كل الطاهرين الشهداء الذين تزينت بهم الأرض، وتضمخت بعطرهم السماء.. يا أم الزهراء، وجدة الحسن والحسين، وجدة كل أولئك الذين ملأوا الأرض سلاما وجمالا وطهرا.. يا زوجة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. يا من بشرك جبريل بالجنان.. وألقى إليك تحيات السماء..
يا من ملأت قلوبنا أشواقا ورقة.. فكلما نتذكرك، ونتذكر تضحياتك، تنهمر الدموع من مآقينا، لا نستطيع كفكفتها، وكيف نستطيع، ومشهدك وأنت تعانين في رمال الشعب، محاصرة جائعة ظمآنة، مثلما حوصر حفيدك الحسين، وأهل بيته الذين هم من نسلك الطاهر.. لا يغادر أبصارنا ولا بصائرنا.
اسمحي لي أيتها الزوجة الوفية.. والأم الغالية.. والشهيدة الصديقة.. أن أحدث قومي بشأنك، فقد رأيت فيهم من الغفلة عنك، ما جعلهم لا يكادون يذكرونك بين زوجات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع أنك كنت زوجته الوحيدة في أكثر سني عمره، وفي السنين التي لم يكن فيها إلا معك، قبل أن تزدحم عليه تكاليف الرسالة وأعباءها في المدينة المنورة؛ فلا يكاد يمكث في بيته إلا قليلا.
ومع ذلك، وبعد فراقك الحزين له، بقي يحن إليك، ويذكرك كل حين، لأنك لم تغادري قلبه، ولا حياته، بل كان يحن للأيام التي كنت فيها سنده، وكنت فيها المثال الأعلى للمرأة الصديقة الطاهرة المجاهدة التي لم يكن لأي امرأة غيرها، أن توضع معها، أو تقارن بها.
ولم يكن ذلك نتيجة عاطفة من عواطف البشر العاديين؛ فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معصوم العاطفة، فلم يكن ينظر إليك جسدا، وإنما كان ينظر إليك روحا شفافة مملوءة بقيم الجمال؛ فلذلك كان يحدث عنك أمته، لتجعلك رمزا من رموزها، وقيمة من قيمها، ومعنى من معانيها النبيلة.
لقد كان يقول عنك وعن فاطمة التي هي بضعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ابنتك، ومريم، وامرأة فرعون: (حسبك من نساء العالمين: مريم ابنة عمران وخديجة بنت خويلد. وفاطمة بنت محمد، وآسية امرأة فرعون)([1])
وكان يكرر ذلك لأمته لتملأ قلوبها بمحبتك، ومحبة القيم النبيلة التي تحملينها، والتي أهلتك لذلك الشريف الرفيع في مراتب الإنسانية، ومن الأمثلة على ذلك ما رواه ابن عباس قال: خط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الأرض أربعة خطوط. فقال: أتدرون ما هذا؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم. فقال: (أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد وفاطمة ابنة محمد صلى الله عليه وآله وسلمومريم ابنة عمران وآسية ابنة مزاحم امرأة فرعون)([2])
وهذا الفضل ـ أيتها الوفية الصديقة ـ ليس فضلا اعتباطيا ـ كما يتوهم المغلفون ـ ولا عاطفيا، فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أكبر من أن يحكم بعاطفته، وقد قال تعالى عنه: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم: 3، 4]، وإنما كان صلى الله عليه وآله وسلم يعبر عن الحقائق الكبرى للوجود، ومنها وجودك الممتلئ بالطهر والقداسة، فأنت ركن من أركان الجمال الأنثوي في معانيه السامية التي لا تراها العيون المحبوسة في قيود الكثافة.
ولذلك لا نستطيع نحن ولا غيرنا أن نعرفك، أو نعرف معنى كونك أحد أولئك الأربع الذين تأسس عليهم الجمال الملكوتي للمرأة.. وإنما يمكننا أن نعرفك فقط من خلال ما روي عنك، وهو قليل جدا بجانب حقيقتك التي امتلأت بها جوانحك، حتى يختارك الله لنبيه، وفي أحرج الفترات التي تمر بحياته.
ونحن نحسب، بل نوقن أن تلك المعاني النبيلة التي كان قلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمتلئ بها، حين يذهب إلى حراء أو قبلها أو بعدها، كان يبثها إليك، فيستحيل على الزوجة ألا تسأل زوجها، ويستحيل عليك وأنت من امتلأت بحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ألا تعرفيه، وتعرفي الأسرار التي كان يمتلئ بها، ولذلك كنت أول المؤمنين إيمانا.
ولم تكوني في حاجة للذهاب إلى ورقة بن نوفل أو غيره، ليثبت لك ذلك.. فكل ذلك من رواياة البغاة الذين أرادوا تشويهك وتشويه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ومن العجيب أنهم يذكرون أن موسى عليه السلام عرف كونه نبيا، بل طلب النبوة لأخيه، عند كلام الله له، ثم يجعلون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم محتاجا إلى ورقة وغيره ليثبت له نبوته..
وكل ذلك تضليلات من الفئة الباغية لتصور رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالصورة التي يرغبون فيها.. ولذلك نحن نوقن بأن معرفتك بشأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكونه محلا للنظر الإلهي، ومحلا لارتباط الأرض بالسماء، لم يكن وليد بعثته فقط، وإنما كان قبل ذلك بكثير..
وقد روى الرواة أن سبب زواجك به، وتركك للزواج من غيره، رغم كثر من طلب يدك، هو انتظارك لذلك اليوم الذي تتحقق فيه أمنيتك، فقد روي أن نساء أهل مكة احتفلن في عيد كان لهن في رجب، فلم يتركن شيئا من إكبار ذلك العيد إلا أتينه، فبينما هن في عيدهن تمثل لهن رجل، فلما صار منهن قريبا نادى بأعلى صوته: (يا نساء مكة إنه سيكون في بلدكن نبي يقال له أحمد، يبعث برسالة الله، فأيما امرأة استطاعت أن تكون له زوجا فلتفعل؛ فحصبته النساء وقبحنه وأغلظن له، وأغضت خديجة على قوله، ولم تعرض له فيما عرض فيه النساء)([3])
ومن ذلك اليوم، وأنت تبحثين عن ذلك الزوج الكريم.. وعندما علم الله صدقك، دلك عليه، فلم يكن حديث ذلك الرجل الذي سمعته كما سمعه النسوة معك سوى دعوة إلهية لك، لتلتحقي بقافلة الطهر، التي كانت تهيأ ذلك الحين.
ونحن لا نستغرب هذا، ولا نتعجب منه، فكما هيأ الله تعالى للمسيح أما من صغرها الباكر، فأنت أيضا قد هيئت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تهيئة خاصة، ولذلك كنت ومريم في درجة واحدة.
وقد أشار ابن عمك ورقة بن نوفل إلى كثرة ذكرك له صلى الله عليه وآله وسلم، وكثرة بحثك عنه، فقال بعد أن وصفت له ما ذكره لك ميسرة: (لئن كان هذا حقا يا خديجة، فإن محمدا لنبي هذه الأمة، وقد عرفت أنه كائن لهذه الأمة نبي ينتظر هذا زمانه)([4])
ثم أخذ أمامك يذكر أشواقه إلى هذا النبي الموعود، وكأنه يعبر عن أشواقك أنت أيضا؛ فقد قال:
لججت وكنت في الذكرى لجوجا |
لهم طالما بعث النشيجا | |
ووصف من خديجة بعد وصف |
فقد طال انتظاري يا خديجا | |
ببطن المكتين على رجائي |
حديثك أن أرى منه خروجا | |
بما خبرتنا من قول قس |
من الرهبان أكره أن يعوجا | |
بأن محمدا سيسود فينا |
ويخصم من يكون له حجيجا | |
ويظهر في البلاد ضياء نور |
يقيم به البرية أن تموجا | |
فيلقى من يحاربه خسارا |
ويلقى من يسالمه فلوجا | |
فيا ليتي إذا ما كان ذاكم |
شهدت فكنت أولهم ولوجا ولوجا | |
في الذي كرهت قريش |
ولو عجت بمكتها عجيجا | |
أرجي بالذي كرهوا جميعا |
إلى ذي العرش إن سفلوا عروجا | |
وهل أمر السفالة غير كفر |
بمن يختار من سمك البروجا | |
فإن يبقوا وأبق تكن أمور |
يضج الكافرون لها ضجيجا | |
وإن أهلك فكل فتى سيلقى |
من الأقدار متلفة حروجا |
وهكذا وردت الروايات الكثيرة تخبر عن علمك بالشأن الذي كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مثلما كانت تعلم أمه وعمه وجده، والذين كانوا يحرصون عليه، ويعلمون أن له شأنا عظيما عند الله تعالى.
ولذلك نحن نكذب كل الروايات التي تسيء إليك، وتصورك بصورة المرأة الجاهلية العادية التي تعبد الأصنام، وتمارس ما يمارسه أهل الجاهلية من طقوس، ذلك أن تلك المنزلة الرفيعة التي أهلت لها، لم تكن لتسمح بذلك، فعقلك لم يكن أقل نضجا من عقل أولئك الحنفاء، ولا من عقل أولئك الموحدين المحافظين على دين إبراهيم..
وكيف يكون الأمر كذلك، وأنت لم تذكري زواجك لسدنة الأصنام المحيطة بالكعبة، وإنما ذكرتها لابن عمك لعلمك بتوحيده وإيمانه وانتظاره للنبي الموعود، والذي لم يكن يختلف عن انتظارك.
لكن المشاغبين من الفئة الباغية راحوا يصورونك بصورة أخرى، بل إنهم في بعض ما يروونه يذكرون أنك سقيت أباك أو عمك خمرا حتى يوافق على زواجك، بل إن بعضها يذكر أنه كان ثملا عندما حدثته عن ذلك.
وكل ذلك زور وبهتان وتلفيق من أعدائك الذين لم يجدوا في حياتك ما يمكن أن يسيء إليك، فراحوا ـ بعد وفاتك ـ يستحلون الكذب عليك، كما استحلوه على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكل الأنبياء والصالحين.
لقد رووا عن الزهري، وأنت تعرفين تدليسه، وصلته بالفئة الباغية من بني أمية، أنه قال يحدث عن كيفية زواجك من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (.. فانطلقت إلى أبيها خويلد بن أسد، وهو ثمل من الشراب، فقالت: هذا ابن أخيك محمَّد بن عبد الله يخطب خديجة، وقد رضيت خديجة، فدعاه، فسأله عن ذلك، فخطب إليه، فأنكحه، قال: فخَلَّقته خديجة، وحَلَّت عليه حلة، فدخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بها، فلما أصبح، صحا الشيخ من سكره، فقال: ما هذا الخلوق، وما هذه الحُلَّة؟ قالت أخت خديجة: هذه حلَّة كساكها ابن أخيك محمد بن عبد الله أنكحته خديجة، وقد بنى بها، فأنكر الشيخ، ثم سلَّم إلى أن صار ذلك واستحيي، وطفقت رُجاز من رُجَّاز قريش تقول:
لا تزهدي خديجُ في محمَّد.. جلد يضيء كضياء الفرقد)([5])
ولم يكتفوا بذلك، بل راحوا يصورون أنك التي قمت بذلك، لأنك لم تستطيعي إقناعهم بالقبول بزواجك من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ فرحت تحتالين عليهم بالخمر.. وكل ذلك ليشوهوك، ويشوهوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويذكروا أنه لم تكن له أي مكانة بين قومه على الرغم من كل الروايات التي تشيد به، وتذكر أن قومه جميعا كانوا يصفونه بأنه الصادق الأمين([6]).
وهم يعلمون أن الخمر لم يكن يشربها في ذلك العصر إلا الصعاليك، أما أصحاب المروءات، فلم يكونوا يقربونها، بل كانوا يعتبرونها من الرجس الذي يسيء إليهم، وقد رووا أن العباس بن مرداس السلمي، والذي لم يكن أكثر مرؤة من والدك، قال: (لا أشرب شرابا أصبح سيد قومي، وأمسي سفيههم)([7])
وهكذا يذكرون أن الشاعر المعروف طرفة بن العبد تحاشاه قومه بسبب معاقرته الخمر، كما يفعلون بالبعير الأجرب، فراح يعبر عن ذلك بقوله([8]):
ومازال
تشرابي الخمور ولذتي |
وبيعي وإنفاقي طريفي وملبدي | |
الى أن تحامتني العشيرة كلها |
وأفردت أفراد البعير المبعد | |
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى |
وإن أشهد اللذات هل أنت مخلدي | |
فإن كنت لا تستطيع دفع منيتي |
فدعني أبادرها بما ملكت يدي |
والعجيب أن هؤلاء الذين يذكرون هذا، هم أنفسهم الذين يذكرون أنك كبيرة السن، وسبق لك الزواج قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنك لم تكتف قبله بزوج واحد، وإنما تزوجت بزوجين، وكل ذلك، حتى يثبتوا أنك لست أكثر شأنا من غيرك، ولا أفضل منهم.. وكل ذلك كذب وزور وبهتان ينفيه العقل والنقل.
أما العقل، فالكل، وفي جميع العالم يعلم أن الزواج الأول لأي شخص، وخاصة في مرحلة الشباب، يكون من البكر، لا من الثيب، ويكون من المرأة التي تدانيه في السن، لا التي تكبر عليه.. وهذا من المتفق عليه بين طباع البشر جميعا، وخصوصا بين العرب الذين كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واحدا منهم.
ولم يدر هؤلاء أن ذلك التبرير الخطير الذي وضعوه، وهو كونك غنية مع فقر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يسيء لا لك فقط، وإنما يسيء إليه أيضا، لأن العادة جارية على أن الشخص لا يتزوج المرأة التي تكبره سنا إلا لطمعه في مالها، أو في بعض المصالح التي يقضيها من وراء زواجه منها.
ولو أن هؤلاء الذين أشاعوا هذا راحوا يستعملون عقولهم في الروايات التي تؤرخ لعمرك، لعرفوا أنك لم تكوني إلا تربا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفي نفس عمره، وقد ذكر البيهقي ذلك، وصححه، وأورد غيره الأدلة عليه([9]).
لكنهم أبوا إلا أن يجعلوك ـ حين تقدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لخطبتك ـ بنت ست وأربعين سنة، أو في سنّ الأربعين([10])، ومن العجيب أنهم يذكرون أن أهلك مع ذلك كانوا مترددين في زواجك من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان حينها لا يزال شابا يافعا لا يجاوز الإحدى وعشرين سنة ([11]).
ولو أنهم رجعوا لما ذكروه في تاريخ وفاتك، وعمرك حينها، لعرفوا ذلك، فقد ذكر البيهقي في دلائل النبوة أن عمرك حين الوفاة كان خمسين سنة، فقال: (لقد بلغت خديجة خمساً وستين سنة، ويقال خمسين وهو أصح)([12])، وهكذا اعتمد ابن كثير على رواية البيهقي، فذهب إلى أن عمرك حين الوفاة كان خمسين سنة ([13]).
وهم يتفقون على أن زواجك برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان قبل البعثة بخمس عشرة سنة، وأنك مكثت معه في بيته زوجة له خمسا وعشرين سنة.. وهذه الحسابات وحدها كافية لرد تلك الأباطيل التي يشيعونها عنك قصد تشويهك، وتشويه النبوة معك.
ولم يكتفوا بذلك، بل راحوا يذكرون زواجك قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حتى يهونوا من شأنك، وقد كان الكذب واضحا في تلك الروايات، فبينما هم يذكرون تنافس أشراف قريش على طلب يدك، بل يذكرون تردد أهلك في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين طلبك، إذا بهم يذكرون أن الذي تزوجك لم يكن سوى شخصين عاديين لم يكن لهما أي قيمة اجتماعية، وقد تناقضوا فيهما كما تناقضوا في كل ما يدلسونه عليك([14])، لأنهم يعرفون أن هناك الكثير ممن لا يقرأ، ولا يحقق، بل يكتفي فقط بأن يستمع، ويردد ما يقال له.
لم تقتصر إساءاتهم إليك على ذلك فقط، بل إنهم راحوا يتلاعبون بتلك النصوص المقدسة الكثيرة التي وردت في فضلك، يؤولونها ليصرفوا عنك الأفضلية لتصبح لغيرك، مع أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يخبر كل حين أنك أنت الأفضل، لا باعتبارك جسدا، وإنما باعتبارك ممثلة لكل القيم النبيلة التي لم تجتمع إلا في النساء الأربع.
ومن ذلك ما حدثت به عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة؛ فيحسن الثناء عليها، فذكرها يوماً من الأيام فأدركتني الغيرة، فقلت: هل كانت إلا عجوزاً، فقد أبدلك الله خيراً منها، فغضب، ثم قال: (لا والله ما أبدلني الله خيراً منها، آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني في مالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها أولاداً إذ حرمني أولاد النساء)، قالت عائشة: (فقلت في نفسي لا أذكرها بسيئة أبداً)([15])
فذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لك بين الناس يدل على أنك من أولئك الذين أمرنا بذكرهم والثناء عليهم، لا لذواتهم، وإنما لتحولهم إلى قيم نبيلة، يمكن أن يتخذها الناس أسوة لهم في حياتهم.
وكيف لا يفعل ذلك، وقد أمره الله تعالى بذكر صاحبتك مريم عندما قال: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا﴾ [مريم: 16]، فأنت ومريم في مرتبة واحدة، وفي محل واحد، ولذلك كان ذكرك مطلوبا مثل ذكرها.. ذلك أنه بذكركما تذكر المعاني الطاهرة.
ولذلك كان صلى الله عليه وآله وسلم يذكرك أمام النساء، لا باعتبارك زوجة له، وإنما باعتبارك رمزا عمليا لكل القيم النبيلة التي تمثلت فيك.. وكيف لا تتمثلينها، وأنت التي أخرت زواجك حتى تلتقي به صلى الله عليه وآله وسلم، وبقيت أشواق قلبك معلقة إلى أن وصلت إليه، ثم ضحيت بعد ذلك بكل ما تملكين، وآثرت الحصار والجوع والآلام على تلك العزة التي كان يمكن لأموالك أن توفرها لك.
ولكن مع ذلك كله نظر الباغون إليك نظرة أخرى، غير تلك التي كنت عليها، والتي رسمها صلى الله عليه وآله وسلم عنك.. حيث تصوروا أن الأمر مرتبط بالأهواء لا بالدين.. فلذلك راحوا يستعملون كل الحيل التي تجعلهم يصورون أن الله تعالى أبدلك بمن هو خير منك.. مع أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يردد كل حين: (لا والله ما أبدلني الله خيراً منها)، وهي كلمة عظيمة من الذي لا ينطق عن الهوى، ومشفوعة بقسم.. وما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقسم عن هوى، أو يتحدث عن هوى.
والعاقلون يدركون ذلك، ولا يحتاجون لقسم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فالفطرة السليمة تدل على ذلك، فكيف يوضع معك غيرك، وأنت التي قدمت من الخدمات للإسلام في تلك الفترة الحرجة ما تنوء به الجبال.. ويكفي من ذلك أنك كنت أول النساء إسلاما، وبذلت كل مالك في سبيل الله إلى أن مت في الشعب فقيرة محاصرة لا تجدين شيئا تأكلينه.
وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بركات مالك على الدعوة الإسلامية في مهدها، ففي الحديث، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ما نفعني مالٌ قطُّ، ما نفعني مالُ خديجة)([16])، وقد كنت تساهمين به في عتق الرقيق، وأداء الديون عن الغارمين، ومساعدة الفقراء، ومدّ يد العون إلى المحتاجين، وكنت أنت وأبو طالب مصدر الإنفاق في ذلك الحصار الجائر.
ومما روي في ذلك أن أبا جهل بن هشام كان قد لقي حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد، ومعه غلام يحمل قمحاً، فتعلّق به وقال: أ تذهب بالطعام إلى بني هاشم؟ والله لا تبرح أنت وطعامك حتى أفضحك بمكة؛ فجاءه أبو البختري ابن هاشم بن الحارث بن أسد، فقال: مالك وله؟ فقال: يحمل الطعام إلى بني هاشم، فقال له أبو البختري: (طعام كان لعمّته ـ أي خديجة ـ عنده بعثت إليه فيه، أفتمنعه أن يأتيها بطعامها! خل سبيل الرجل)([17])
وكيف يوضع غيرك معك، وقد روي بالأسانيد الكثيرة المتواترة ما يدل على الصبر الذي أبديته في حياتك مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مكة المكرمة، وفي أوقات الشدة العظيمة، وأنت التي كنت غنية عن ذلك.. في نفس الوقت الذي يذكر القرآن الكريم والسنة الصحيحة أن نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة اشتكين حياة الشظف التي يعشنها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الدرجة التي نزل القرآن الكريم يخيرن فيها بين صحبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والصبر على حياته، أو أن يملكن أمرهن بالافتراق عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما قال تعالى يذكر ذلك: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الله وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ الله أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 28، 29]
وقد أورد المحدثون في سبب نزولها أن عائشة أخبرت: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلمجاءها حين أمره الله أن يخير أزواجه، فبدأ بي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (إني ذاكر لك أمرا، فلا عليك أن لا تستعجلي حتى تستأمري أبويك)، وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه. قالت: ثم قال: (وإن الله قال: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ﴾ إلى تمام الآيتين، فقلت له: ففي أي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة)([18])
نعم هذا موقف طيب من عائشة، والباغون يفخرون به كثيرا، وينسون أن يذكروا معه في غمرة فخرهم واستعلائهم أن كل ذلك لم يخطر على بالك أصلا.. وهل يمكن لمن هو في مرتبتك من الزهد والتقوى أن يطالب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمثل هذا أو غيره؟
لقد كنت ترين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كل شيء.. فلم يكن يهمك سواه.. فلذلك ضحيت بمالك كله في سبيل الله.. ولم تشتكي أي شكوى.. بل بذلت ذلك برضا وطمأنينة وسعادة.
لكن البغاة يأبون إلا أن يتلاعبون بكل ما ورد في حقك من فضل، باعتبارك المثال الأعلى للمرأة المسلمة، ليستبدلوا غيرك بصنوف الحيل التي تعلموها في تمييع النصوص المقدسة والتلاعب بها.
ومن الأمثلة على ذلك إيراد الخلاف في التفاضل بينك وبين عائشة، فقد قال بعضهم: (وفاطمة أفضل بناته على الإطلاق، وقيل إنها أفضل نساء العالمين، وقيل بل أمها خديجة، وقيل بل عائشة، وقيل بل بالوقف في ذلك)([19])
ولست أدري كيف يطرح هذا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذكرك وابنتك فاطمة، ولم يذكر معك عائشة، ولكنهم أبوا إلا أن يدخلوها، وأبوا إلا أن يزيدوا فيفضلوها.. من غير دليل إلا الأهواء، ولم يعلموا أن الأمر مرتبط بالدين، لا بالأشخاص، وأن الله هو الذي يختار، لا رسوله، ولا غيره من البشر، وقد قال تعالى: ﴿ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ الله وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [القصص: 68]، فقد اعتبر الله في الآية الكريمة الاختيار مع اختيار الله شرك، لأن المشرك هو الذي يجعل نفسه أو غيره ندا لله.
وهكذا قال آخر، لاشك أنك تعرفينه، إنه من يطلقون عليه كذبا وزورا [شيخ الإسلام]، ذلك الذي امتلأ نصبا وعداوة لكل من يمت لأهل النبوة بصلة، فقد قال تلميذه النجيب يذكر ذلك: (ومنها أنها خير نساء الأمة واختلف في تفضيلها على عائشة على ثلاثة أقوال، ثالثها الوقف، وسألت شيخنا ابن تيمية فقال: اختص كل واحدة منها بخاصة، فخديجة كان تأثيرها في أول الإسلام، وكانت تسلي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتثبته وتسكنه وتبذل دونه مالها فأدركت عزة الإسلام، واحتملت الأذى في الله وفي رسوله، وكانت نصرتها للرسول في أعظم أوقات الحاجة فلها من النصرة والبذل ما ليس لغيرها، وعائشة تأثيرها في آخر الإسلام فلها من التفقه في الدين وتبليغه إلى الأمة وانتفاع نبيها بما أدت إليهم من العلم ما ليس لغيرها هذا معنى كلامه)([20])
ولو قرأ هذا الذي يسمونه شيخ الإسلام القرآن الكريم، وسلم لقوله تعالى: ﴿ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا﴾ [الحديد: 10]، لعرف أن الفضل لا يرتبط بالرواية، وإنما يرتبط بالمواقف، وفي الأوقات الحرجة.
ولو كان الأمر مرتبطا بالرواية، لكان أبو هريرة أفضل الصحابة، فهم يروون عنه ما لا يروون عن غيره، مع العلم أنه أسلم بعد الفتح.. وهم لا يقولون بذلك.
ولو كان الأمر مرتبطا بالرواية، فإن جميع أمهات المؤمنين بلغن الإسلام بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأدين ما رأينه واجبا عليهن، فلم تخص بذلك زوجة دون زوجة.
ولم يكتفوا بذلك حتى يصرفوا النظر عنك، وإنما راحوا يدرجون في النصوص المقدسة ما ليس منها، ثم يجعلون المدرج أصلا، ليلغوا به متن الحديث.. فقد زادوا في الحديث الذي ذكر فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم النسوة الأربع التي تمثلن بجميع القيم النبيلة حتى صرن نماذج صالحة للاقتداء هذه الزيادة: (وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام)([21])
وقد رووا ذلك، وهم يعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أكرم من أن يشبه البشر بالطعام، ويشبه زوجته بالثريد.. وهذا لا يكون إلا من أولئك الذين يحتقرون المرأة، ويتصورون أنها مجرد متعة من المتع مثل الطعام الذي يستمتعون به، وليست إنسانا محترما له رسالته في الحياة الدنيا مثله مثل الرجل تماما.
ورووه، وهم يعلمون أن الثريد لم يكن في يوم من الأيام سيد الطعام، بل قد ورد في النصوص ما يبين فضل اللبن والتمر والعسل، وغيرها، والتي لا يساوي الثريد أمامها شيئا، حتى أن بعض المحدثين راح يبرر الحديث بطريقته الخاصة في التبرير الذي يتنافى مع جلال النبوة، فقال: (والظاهر أن فضل الثريد على سائر الطعام إنما كان في زمنهم لأنهم قلما كانوا يجدون الطبيخ، ولا سيما إذا كان باللحم، وأما في هذا الزمان فأطعمة معمولة من أشياء كثيرة متنوعة فيها من أنواع اللحوم ومعها أنواع من الخبز الحواري، فلا يقال: إن مجرد اللحم مع الخبز المكسور أفضل من هذه الأطعمة المختلفة الأجناس والأنواع، وهذا ظاهر لا يخفى)([22])، ولو أنه رفض الحديث لتنافيه مع بلاغة النبوة، لكان أسهل عليه وأجمل من ذلك التعليل.
وهكذا راح آخر يحتال لذلك بقوله: (فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام.. ضرب به مثلا ليؤذن بأنها أعطيت مع حسن الخلق والخلق وحلاوة النطق وفصاحة اللهجة وجودة القريحة ورزانة الرأي ورصانة العقل والتحبب إلى البعل، فهي تصلح للتبعل والتحدث والاستئناس بها والإصغاء إليها وحسبك أنها عقلت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما لم تعقل غيرها من النساء وروت ما لم يرو مثلها من الرجال)([23])
وكل ذلك تكلف ممقوت تأباه لغة العرب، فالكريم لا يوصف بكونه ثريدا، ولا أي طعام من الأطعمة، بل يوصف بما يتناسب مع إنسانيته وكرامتها.
ولذلك أنكر ابن حجر كل هذه التعليلات التي لم تكتف بتفضيل عائشة على النساء، وإنما راحت تفضل الثريد على سائر الطعام، فقال: (وكل هذه الخصال لا تستلزم ثبوت الأفضلية له من كل جهة فقد يكون مفضولاً بالنسبة لغيره من جهات أخرى)([24])
لكن من يسمونه شيخ الإسلام.. راح يستعمل ذلك النص ليلغي كل تلك الأحاديث التي وردت في فضلك.. وليكون ذلك مقدمة لتنساك الأمة.. ولهذا صرنا إذا سألنا أي عامي عن زوجة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يذكر عائشة، ولا يذكرك.. وكأن كل تلك المناقب التي وردت في حقك لم تصدر من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
لقد قال ابن تيمية عند بيانه لتفضيل عائشة في كتابه (منهاج السنة النبوية)، الذي حشاه بكل ألوان التعصب على أهل بيت النبوة: (والجواب أولا أن يقال إن أهل السنة ليسوا مجمعين على أن عائشة أفضل نسائه، بل قد ذهب إلى ذلك كثير من أهل السنة، واحتجوا بما في الصحيحين عن أبي موسى وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلمقال: (فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام)، والثريد هو أفضل الأطعمة لأنه خبز ولحم.. وذلك أن البر أفضل الأقوات، واللحم أفضل الإدام.. فإذا كان اللحم سيد الإدام، والبر سيد الأقوات، ومجموعهما الثريد، كان الثريد أفضل الطعام. وقد صح من غير وجه عن الصادق المصدوق أنه قال: (فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام)([25])
وقد تبعه على هذا الاستدلالات العجيبة تلاميذه من المعاصرين لنا، والذين أنسوا الأجيال ذكرك، وكلما ذكرت ذكر معك الثريد، وبما أنك لست ثريدا فأنت لست سيدة النساء، ولا النموذج المثالي للمرأة المسلمة.
وكل ذلك إعراض عن النصوص الواضحة الكثيرة التي تحدد مكانتك ومنزلتك وفضلك على نساء العالمين.. وهي نصوص صريحة لا تحتاج أي تأويل أو تكلف في الشرح والتوضيح، وتتناسب فوق ذلك مع بلاغة النبوة، وكرامة الإنسان.. فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليثبت فضل شيء أن يدخل أي واسطة لذلك الفضل.
بالإضافة إلى ذلك، فقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعائشة عندما ذكرت له أن الله أبدله خيرا من خديجة: (لا والله ما أبدلني الله خيرا منها؟)، وهو دليل واضح قطعي في فضل خديجة.. لكن مع ذلك ما أسهل أن تؤول النصوص ويتلاعب بها، وقد سمعت بعضهم يقول في هذا الحديث بعد محاولة التشكيك في سنده: (حتى لو صحت فهي ليست نصاً، لأن من الممكن أن يكون المعنى: أن الله ما أبدلني خيراً منها، لكن أبدلني مثلها)
وهكذا الأمر في الاحتيال على الأحاديث الصحيحة الكثيرة التي تدل على فضل ابنتك فاطمة الزهراء على نساء العالمين، ففي كتب أولئك الذين يحاولون تغييبك وتغييبها نجد تفضيلا لعائشة على فاطمة مع أن البخاري روى في صحيحه قوله صلى الله عليه وآله وسلم في حق فاطمة الزهراء: (أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة أو نساء المؤمنين)([26])، وروى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (فاطمة سيدة نساء أهل الجنة) ([27])، وروى في باب مناقب فاطمة قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (فاطمة سيدة نساء أهل الجنة)([28])، وروى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلمقوله: (يا فاطمة أما ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين أو سيدة نساء هذه الأمة) ([29])
لكن أولئك الذين يقدسون البخاري ويجلونه يشترطون عليه ألا يعارض الأصول التي يعتمدون عليها، فهم يقيمون الدنيا ولا يقعدوها لمن نقد حديثا في البخاري.. لكنهم يعطون لأنفسهم الحرية المطلقة في إنكار ما يشاءون إذا تعارض ذلك مع الأصول التي تعتمد عليها سنتهم.
اعذريني أيتها الأم الطاهرة، والزوجة الوفية أن ذكرت لك كيف يتعاملون معك.. فهم لم يقصدوا فقط إنزالك من مرتبتك التي أنزلك فيها ربك، وإنما يقصدون إلغاءك تماما، لهذا لا نراهم يذكرونك إلا قليلا، مع أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يذكرك كثيرا.
ولذلك كانت السنة أن نذكرك ونشيد بك، لتكوني النموذج المثالي أنت والنساء الأربع.. هكذا ورد النص المقدس، وما كان لنا أن نختار مع النص المقدس، أو نذكر آراءنا أو نحتال بما نشاء من حيل.
بعد هذا اسمحي لي أن أردد على مسامعك في ختام هذه الرسالة تلك الكلمات العذبة التي قيلت لك، وقلتها في خاتمة حياتك المملوءة بالتضحية والوفاء وكل قيم الجمال..
لقد ورد في الحديث أن الملاك العظيم روح الله جبريل أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (يا رسول الله، هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها، ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب.. لا صخب فيه ولا نصب) ([30])
وقد روى المحدثون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما بلغ هذه التحيات الزكيات الطاهرات، قلت كلمات تنبئ عما في قلبك من معان نبيلة رقيقة: (هو السلام، ومنه السلام، وعلى جبريل السلام، وعليك يا رسول الله السلام ورحمة الله وبركاته)
لله ما أجمل هذه الكلمات وأعظمها.. إنها تختصر حياتك اختصارا.. فأنت وفي ظل تلك الظروف الشديدة القاسية، وبعد ثلاث سنوات من الجوع والحصار.. لم تتأثر علاقتك بربك، ولا اهتزت، ولا بلغ قلبك الحناجر، مع أن الكل كان يتربص بك وبزوجك العظيم.. ولكنك مع كل تلك الزلازل التي عشت فيها واقعة الأحزاب كل يوم، كنت تشعرين بالسلام.. السلام الذي لا يشعر به إلا القديسون.. وأنت سيدة القديسين.
ولذلك حزن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على فراقك حزنا شديدا، بل سمى العام الذي فارقته فيه عام الحزن، وبقي ذلك الحزن يتابعه إلى أن لحق بك.. وقد كان من محبته لك في الله.. أنه كان يكرم كل من له صلة بك، وقد ورد في الحديث عن عائشة قالت: ما غرت على نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إلا على خديجة، وإني لم أدركها.. وكان رسول الله r، إذا ذبح الشاة يقول: (أرسلوا بها إلى صدائق خديجة)، قالت: فأغضبته يوما، فقلت: خديجة، فقال رسول الله r: (إني رزقت حبها)([31])
وقالت: استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله r، فعرف استئذان خديجة وتذكره، فارتاع لذلك، فقال: (اللهم هالة بنت خويلد)، فغرت، فقلت: وما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين([32]) هلكت في الدهر، فأبدلك الله خيرا منها، فغضب النبي r حتى قالت له: لا أذكرها بعد هذا إلا بخير ([33]).
وفي حديث آخر روته عائشة، قالت: جاءت عجوز إلى النبي r، وهو عندي، فقال لها رسول الله r: من أنت؟ قالت: أنا جثامة المزنية فقال: بل أنت حسانة المزنية، كيف كنتم؟ كيف حالكم؟ كيف أنتم بعدنا؟ قالت: بخير بأبي أنت وأمي يا رسول الله، فلما خرجت قلت: يا رسول الله تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال فقال:(إنها كانت تأتينا زمن خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان)([34])
هل رأيت وفاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لك أيتها الصديقة الوفية.. فرسول صلى الله عليه وآله وسلم يعبر بكل رقة عن حبه لك، وأنت ميتة.. ولا ينسى ـ وفاء لك ـ أن يحسن لكل من له علاقة بك، بل يغضب زوجه لأجلك.
هذه كلماتي لك سيدتي مضمخة بدموعي التي لا أستطيع كفكفتها، وكيف أستطيع وأنا أراك كل حين في تلك الشعاب محاصرة جائعة ظمآنة.. لم تشهدي ذلك العز الذي آل إليه المسلمون، ولا تلك الذلة التي نزلت بمن ناوأك..
لكن حسبي أن أعلم أنك لم تغادري رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم لحظة واحدة.. فأنت كنت معه في كل المحال.. والله تعالى الذي أكرم
الشهداء بالحياة، وبمعرفة إخوانهم من المؤمنين أكرمك أنت أيضا.. فأنت كنت رمزا
للتضحية والفداء.. ولذلك لم تكن خاتمتك المباركة أقل من خاتمة الشهداء، يا من
ارتوت الأرض بدم أحفادها من الشهداء.
([1]) رواه الترمذي بسند صحيح والنسائي والحاكم (التاج الجامع للأصول 379 / 3)
([2]) رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح (الزوائد 223 / 9)
([3]) رواه المدائني، عن ابن عباس، انظر:شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية (4/ 365)
([4]) السيرة النبوية لابن كثير (1/ 268)
([5]) المغازي النبوية لابن شهاب الزهري ص 43..
([6]) وقد كانت هذه الروايات التي لفقوها سببا في طعون المستشرقين، فقد قال دورمنغم: (ولم يتم لخديجة ما عزمت عليه بغير مقاومة، فلم يرق أسرتها وهي غنية حليفة لبني مخزوم، أن تتزوج يتيما فقيرا غامض الأمر دون بني مخزوم قدرا) [حياة محمد، ص43]، وهذا غريب، فلم يكن بنو أسد حلفاء لبني مخزوم، وهكذا علق بودلي على هذا الأمر فقال: (لو أن محمدا كان من علية القوم الأربعمائة، ولو أنه كان من أعضاء الندوة الأغنياء أو بني المطلب، الذين عاشوا حول الكعبة..بل كان نقيض ذلك) [الرسول، ص46]، وقال: (وقامت خديجة في نفس الوقت، تمسح رأس عمها بالزعفران والعنبر، ودوت في أركان بيت خديجة أصوات التهليل، وصار زواج محمد من خديجة أمرا واقعا، وما كانت خديجة بالمندفعة في هذه الفرصة السانحة فقد تعلم فعل الخمر في النفوس، وحين كان كل يربت على كتف صاحبه ويتقارعون الكؤوس ويتفاخرون، جاء من يكتب العقد وفي هذا الجو الذي يغلب عليه الصفاء، أتفق على الصداق وتم عقد القران وانتهى الأمر، وصار محمد يعد بعلا لخديجة بحسب شريعة مكة) [الرسول، ص35]
([7]) أبو علي القالي، الأمالي، 1/205.
([8]) الزوزني، شرح المعلقات السبع، ص86 ـ.
([9]) انظر: دلائل النبوة للبيهقي ج2 ص71 والبداية والنهاية ج2 ص294 و295، السيرة النبوية لابن كثير ج1 ص265.
([10]) انظر: ابن اثير، الكامل، ج2، ص39؛ ابن سعد، الطبقات الكبرى، ج8،ص174؛ ابن اثير الجزري، أسد الغابة في معرفة الصحابة، ج1، ص23.
([11]) هكذا روى الزهري، فقد روي عنه أنه قال: كان عمر رسول الله a إحدى وعشرين سنة، وهو يتناسب مع عمر الزواج في ذلك الوقت، وقيل: خمساًوعشرين سنة، زمان بنيت الكعبة، وفي الاستيعاب لابن عبد البر أنّ عمر النبي a عند الزواج بخديجة خمس وعشرون سنة، ونقل ابن الأثير أقوالاً مختلفة في ذلك وهي: (۲۱، ۲۲، ۲۵، ۲۸، ۳۰، ۳۷)سنة[انظر: ابن کثير، البداية والنهاية، ج5، ص314، ابن عبدالبر، الاستيعاب، ج۱، ص۳5].
([12]) دلائل النبوة: ج2، ص71.
([13]) سيرة ابن كثير: ج1 ص264.
([14]) بعض المصادر تسمي أحدهما أبا شهاب عمرو الکندي، وتسميه اُخري مالک بن النباش بن زرارة التميمي، واُخري تسميه هند بن النباش، واُخري تسميه النباش بن زرارة، وأما من دعي بعتيق بن عائذ المخزومي، وهو الزوج الثاني المفترض، فقد سمته بعض المصادر عتيق بن عابد التميمي إلي غيرذلک..
([15]) رواه أحمد وإسناده حسن (مجمع الزوائد 224 / 9)
([16]) بحارالانوار، ج19، ص 63..
([17]) سيرة ابن هشام (2/ 5).
([18]) رواه البخاري برقم (4785)
([19]) زاد المعاد ج: 1 ص: 104.
([20]) جلاء الأفهام ج: 1 ص: 234.
([21]) رواه البخاري (3411) ، ومسلم (2431)
([22]) عمدة القاري ج 16 ص 251.
([23]) تحفة الأحوذي ج10 ص260.
([24]) فتح الباري ج 6 ص 321.
([25]) منهاج السنة النبوية ج: 4 ص: 301.
([26]) البخاري (4/183)
([27]) البخاري (4/209)
([28]) البخاري (4/219)
([29]) البخاري (7/142)
([30]) رواه البخاري 7 / 104 ، ومسلم رقم (2433).
([31]) رواه مسلم: 6431..
([32]) حمراء الشدقين: أي سقطت أسنانها وبقيت حمرة اللثاث.
([33]) رواه البخاري: 3821، ومسلم: 6435.
([34]) رواه أحمد: 1/134، المعجم الكبير:23/14، شعب الإيمان:6/517، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين على الاحتجاج برواته في أحاديث كثيرة وليس له علة، الحاكم:1/62.