أنظمة الحكم.. والإسلام

أنظمة الحكم.. والإسلام

من المغالطات الكثيرة التي نسمعها في الحرب الكونية على سورية اعتبار النظام السوري نظاما محاربا للإسلام ومؤسساته.. وهذه كذبة كبرى لا يمكن لعاقل أن يقبلها.

وربما يكون السبب في انتشارها هو مقارنة موقف النظام السوري من المؤسسات والشخصيات الدينية بالموقف السعودي، أو بغيره من المواقف، وهذا ما يتطلب منا معرفة مواقف الأنظمة المختلفة من الإسلام، وكيفية التعامل معه ومع مؤسساته والشخصيات التي تمثله.

ومن خلال استقراء الواقع الإسلامي نجد ثلاثة أنواع من العلاقات، كلها مبنية على رؤية الدولة للإسلام، ودوره في الحياة، وهذه العلاقات الثلاثة هي:

أولا ـ استقلالية المؤسسات الدينية عن مؤسسات الحكم: وهو ما تطبقه النظم العلمانية عادة، سواء تلك المغالية في علمانيتها، بحيث ترفض اعتبار الدين أصلا من أصول التشريع، أو تلك التي تقبله، ولكن في نواح محددة كالأحوال الشخصية ونحوها.

ويمكننا اعتبار أكثر الأنظمة التي تتبناها الدول الإسلامية من هذا النوع، حيث نجد الأزهر في مصر ـ مثلا ـ مستقلا في نواح كثيرة، فله علماؤه وهيئة بحوثه ومفتيه ومدارسه ومعاهده، وكلها مستقلة تماما عن السلطة الحاكمة؛ فلا السلطة تفرض على الأزهر ما يقول، ولا الأزهر أيضا يستطيع أن يفرض على الدولة ما تفعل.

وهكذا الأمر في سورية ـ والتي تتهم من طرف مناوئيها بالعلمانية ـ مع كونها لا تختلف عن مصر وسائر الدولة الإسلامية في هذا المجال، بل إننا نرى أن المساحة المتاحة للمتدينين في سورية وخصوصا الصوفية أو مقلدة المذاهب منهم، مساحة كبيرة جدا، بل هي أكثر من المساحة المتاحة في كثير من البلاد الإسلامية.

وهي لم تحد من حركة الحركات الإسلامية والجماعات السلفية إلا بسبب مواقفها العدائية وخصوصا بعد أحداث حماة، والتي اتفق فيها السلفيون والحركيون على اعتبار النظام السوري كافرا، ويجب حربه، حينها اتخذت الحكومة السورية مواقفها المتشددة مع هذا الصنف من التدين، متيحة المجال الكبير للمخالفين له.

وهكذا الأمر في الجزائر، والتي كويت هي الأخرى بنيران الإرهاب التي صدرت لها من طرف الحركيين والسلفيين.. ولذلك نرى البغض الشديد من هؤلاء للجزائر باعتبارها النظام الجزائري محاربا للإسلام، بينما هو في الحقيقة لم يحارب سوى التطرف والعنف والإرهاب والفكر الذي يتبناه.. أما سائر المتدينين، حتى السلفيون المسالمون منهم، فهم يتحركون بحرية، ويقيمون الدروس في المساجد وغيرها من غير أن يمنعهم أحد.

وهذا لا يمنع من قيام بعض العلاقة التي تربط بين كلا السلطتين الدينية والزمنية، فالرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد مثلا كان متأثرا بالشيخ محمد الغزالي، ويستشيره في أمور كثيرة، وكان الشيخ الغزالي يثني عليه كثيرا، ويذكر أنه إنسان صاف على الفطرة، وكان ينصح الإسلاميين بأن يستفيدوا من وجوده، لكنهم طبعا لم يفعلوا.

وهكذا كان الشيخ البوطي مع النظام السوري، والذي كان مقربا جدا من كلا الرئيسين حافظ الأسد، وابنه بشار الأسد، فكلاهما يكن احتراما كبيرا للشيخ البوطي، وقد استثمر البوطي تلك المحبة والتقريب في خدمة الإسلام والتدين في بلده خير استثمار.

وهكذا أيضا كانت العلاقة الودية بين الطرق الصوفية وجمال عبد الناصر، والتي وصلت إلى حد أن قال شعراوي جمعة وزير الداخلية في ذلك الحين في مقال بعنوان [شعراوي جمعة وشهادته للتاريخ]: (حينما مات عبد الناصر كان علينا وسط مشاهد الحزن ومشاعره الفياضة أن نعمل على وضع ترتيبات خاصة لحماية الجثمان بعد أن وصلتنا معلومات تفيد بأن الطرق الصوفية ستتكالب على النعش وتخطفه لتطوف به مساجد وأضرحة أولياء الله الصالحين في القاهرة)

ثانيا ـ التحالف بين المؤسسات الدينية ومؤسسات الحكم: وربما لا يوجد لهذا الصنف من العلاقة سوى نموذج واحد هو تلك العلاقة التي تربط بين آل سعود باعتبارهم ممثلين للسلطة الزمنية، مع آل الشيخ محمد بن عبد الوهاب باعتبارهم ممثلين للسلطة الدينية.

والعلاقة القائمة بين هذين الحليفين ليست كالعلاقة السابقة، المبنية على استقلال كل طرف بالمجال المتاح له، وإنما هي علاقة تحالف؛ فكلاهما يخدم الآخر، ويلبي مطالبه.

أما مطالب آل سعود من آل الشيخ، فهي أن يعطوهم الشرعية الدينية لحكمهم، بحيث يشيعون بين المجتمعات ـ لا السعودية وحدها، وإنما في جميع العالم الإسلامي ـ أن الحكم السعودي حكم إسلامي، ولا يجوز الخروج عليه، بل لا يجوز نقده، وإنما يكتفي فيه بالبيعة المطلقة، والتسليم المطلق، من غير استعمال أي وسيلة للتغيير السلمي.

ولم يكتف آل الشيخ ومن تبعهم من رجال الدين في السعودية بتنفيذ هذه المطالب، بل راحوا يشيعون أن السعودية هي النموذج الأمثل للنظام الإسلامي، ولذلك يعتبرونها الدولة الإسلامية الوحيدة، وما عداها دول علمانية، بل يعتبرونها دولة التوحيد، ومن عداها دول للشرك.

ومن الأمثلة على ذلك([1]) قوله الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: (الحكومة دستورها الذي تحكم به هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد فتحت المحاكم الشرعية من أجل ذلك.. وما عدا ذلك فهو من حكم الجاهلية)

وقال: (محاكم هذه المملكة لا تتقيد بأي قانون وضعي، وإنما تسير في أحكامها وفق ما تأمر به الشريعة الإسلامية.. حكومتنا – بحمد الله – شرعية دستورها كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم)

وقال الشيخ تقي الدين الهلالي: (الشعب السعودي والمملكة السعودية بقيادة ملكها الإمام المصلح جلالة الملك فيصل والأئمة السابقين من أسلافه رحمهم الله لم يزالوا يحكمون شريعة الله، ويتخذون القرآن إماما والسنة سراجا، يضيئان لهم ظلمات الحياة الدنيا بانتشار الأمن على الأنفس والأموال والأعراض في بلادهم إلى حد لا يوجد له نظير في الدنيا.. ولا يحكم حاكم في جميع أرجائه إلا بشريعة القرآن، فكيف يستطيع مسلم أو منصف أن يسوي بينهما وبين من يحل ما حرم الله، ويحكم بغير ما أنزل الله)

وقال الشيخ عبد العزيز ابن باز: (آل سعود – جزاهم الله خيرا – نصروا هذه الدعوة، هؤلاء لهم اليد الطولى في نصر هذا الحق – جزاهم الله خيرا – ساعدوا، نصروا، فالواجب محبتهم في الله، والدعاء لهم بالتوفيق، محبتهم في الله)

وقال: (العداء لهذه الدولة عداء للحق، عداء للتوحيد، أي دولة تقوم بالتوحيد الآن من حولنا: مصر، الشام، العراق، من يدعو إلى التوحيد الآن ويحكم شريعة الله ويهدم القبور التي تعبد من دون الله من؟ أين هم؟ أين الدولة التي تقوم بهذه الشريعة؟ غير هذه الدولة اسأل الله لنا ولها الهداية والتوفيق والصلاح ونسأل الله أن يعينها على كل خير ونسأل الله أن يوفقها؛ لإزالة كل شر وكل نقص علينا أن ندعو الله لها بالتوحيد والإعانة والتسديد والنصح لها في كل حال)

بل ذكر ما هو أخطر من ذلك، فقال: (بعض المؤرخين لهذه الدعوة يقول: إن التاريخ الإسلامي بعد عهد الرسالة والراشدين لم يشهد التزاما تاما بأحكام الإسلام كما شهدته الجزيرة العربية في ظل الدولة السعودية التي أيدت هذه الدعوة ودافعت عنها.. والمملكة العربية السعودية حكاما وعلماء يهمهم أمر المسلمين في العالم كله ويحرصون على نشر الإسلام في ربوع الدنيا لتنعم بما تنعم به هذه البلاد)

وغيرها من الشهادات الكثيرة، والتي استثمرتها السلطات السعودية في تمرير الكثير من المشاريع الكبرى مثل إعانة أمريكا في حربها الباردة على الاتحاد السوفيتي، عندما تولى رجال الدين في السعودية الدعوة للجهاد في أفغانستان والشيشان وغيرها من البلاد.

ومثل ذلك استثمروهم في تمددهم في إفريقيا وآسيا وغيرها حتى يستفيدوا من اعتبار السعودية عاصمة القرار في العالم الإسلامي، وقد أقر ولي العهد السعودي الحالي بذلك كله.

ومثل ذلك استثمروهم في المواقف السلبية من البلاد التي يختلفون معها مثل إيران وليبيا وسورية والعراق والتي نجد الفتاوى الكثيرة من رجال الدين السعوديين الرسميين، والتي تساير تماما مواقف الحكام السعوديين.

ثالثا ـ الجمع بين السلطتين الدينية والزمنية: أي أن السلطة الدينية تمارس مهام السلطة الزمنية، والسلطة الزمنية تكون تحت رقابة وهيمنة السلطة الدينية، وهذا أيضا لا ينطبق إلا على نموذج واحد هو نموذج [ولاية الفقيه]، والذي تبنته الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ابتداء من مرشدها الأول آية الله الخميني، والذي قال معبرا عن الضرورة الشرعية لهذا النوع من الولاية: (مجموعة القوانين لا تكفي لإصلاح المجتمع، ولكي يكون القانون مادة لإصلاح وإسعاد البشر فإنه يحتاج إلى السلطة التنفيذية، لذا فإن اللَّه عزَّ وجلّ قد جعل في الأرض إلى جانب مجموعة القوانين حكومة وجهاز تنفيذ وإدارة، والرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم كان يترأس جميع أجهزة التنفيذ في إدارة المجتمع الإسلامي… والحق أن القوانين والأنظمة الاجتماعية بحاجة إلى منفذ)([2])

ولهذا لم تكتف الجمهورية الإسلامية الإيرانية بتكليف العلماء بالبحث والدراسة واستخراج المشاريع المرتبطة بالنواحي المختلفة، وإنما كلفتهم أيضا بإدارة شؤون الدولة، ومراقبة كل ما يجري فيها، حتى يتفق تماما مع الشريعة الإسلامية.

ولذلك صار القرار الأكبر والنهائي في الجمهورية الإسلامية الإيرانية خاضعا للفقيه، فهو الذي يتدخل في جميع السلطات، ويراقب مواقفها ومدى علاقتها بالشريعة الإسلامية، فيقر ما وافقها، ويرفض ما خالفها.

وبناء على ذلك يوجد في إيران جميع السلطات المنتخبة، ولكنها جميعا لا تتصرف إلا وفق مقتضيات الشريعة الإسلامية، بحسب اجتهادات الولي الفقيه.

فالسلطة التشريعية، أو مجلس النواب، والذي له أهمية كبرى في إيران، والذي ينتخب عليه الشعب الإيراني، مع أهميته الكبرى، لا يمتلك صلاحية التشريع المطلق، بل هو خاضع لرقابة الفقيه، ولذا تكون وظيفة السلطة التشريعية ترسيم خطوط إدارة البلاد ضمن الإطار الشرعي الذي يحدده الولي الفقيه ولو ضمن آليات ومجالس معينة، فالولي الفقيه يمضي القوانين التي يصدرها مجلس النواب، وهي لا تملك شرعيتها إلا بذلك.

ومثل ذلك السلطة التنفيذية، فهي لا تتحقق بالشرعية إلا عبر الانتخاب من قبل الشعب أو التعيين من قبل رئيس الجمهورية أو غير ذلك، بالإضافة إلى أنها لا تملك سلطتها الشرعية إلا من خلال الولي الفقيه لأنه هو الذي بيده شؤون إدارة الدولة.

وهكذا السلطة القضائية، التي هي سلطة مستقلة عن سابقتيها، فتعيين القضاة ونصبهم إنما هو للفقيه الولي.

وربما يكون العيب الأكبر في هذا النوع من الأنظمة هو كونه ـ وبالصورة الحالية المطبقة في إيران ـ لا يمكن تطبيقه إلا في البيئات الشيعية، باعتبارها تؤمن بحياة المهدي، وكونه الحاكم الأول للمسلمين، وأنه ولي أمرهم الحقيقي، وأنه في فترة غيبته وكل الفقهاء ليكونوا نواب عنه، كما يروون عنه قوله: (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة اللَّه)([3])

ولهذا نراهم يعتبرون مرشد الثورة الإسلامية نائبا للإمام المهدي، ويؤمنون بوجوب طاعته المطلقة، وهذا ما لا يمكن أن يتوفر في البيئات السنية، التي يرى الناس الفقهاء فيها بشرا عاديين، لا دور لهم إلا التعريف بالأحكام الشرعية، دون أن تكون لهم أي سلطة روحية.

وهذا ما وفر لإيران خصوصا القدرة على مواجهة الاستكبار العالمي، فلولا ذلك الإيمان العقدي الذي يربط الشعب بمرشده ما استطاع أن يقدم تلك التضحيات الكثيرة، ويصبر على ذلك الحصار الطويل.


([1])  انظر هذه النصوص وغيرها في مقال بعنوان: المملكة العربية السعودية مملكة التوحيد بشهادة العلماء، الشيخ أحمد بازمول.

([2])  الحكومة الإسلامية، ص‏33.

([3])  وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج‏27، ص‏140، ح‏9.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *