أنصفوا العلويين

لا أريد أن أقوم هنا ببحث تفصيلي خاص بهذه الطائفة الكريمة من طوائف المسلمين، والتي يصل عدد المنتسبين لها إلى عشرات الملايين، وهي تتواجد في كل من سورية وتركيا بالإضافة إلى تواجدها في مناطق متفرقة أخرى من العالم.
ولكني أريد أن أدعو إلى التعامل المبني على التقوى والورع معها، ذلك أن الكثير ممن يتحدث عنها يكتفي بفتاوى ابن تيمية أو غيره ممن تبعه فيها، ويتصور أن كلام ابن تيمية وحي منزل، وأنه كما يصدق على أول العلويين يصدق على آخرهم، وهذا بهتان عظيم.
ففتاوى ابن تيمية لو طبقناها في هذا المجال، فلن يبقى على الأرض مسلم واحد، فكتبه كلها دعوة للتكفير والقتل ورمي الرؤوس في المزابل، وهي تصدق على الأشاعرة والماتريدية والمعتزلة والصوفية وغيرهم من طوائف المسلمين.. ولذلك كانت السند الرئيسي لكل الإرهابيين الذين استحلوا دماء المسلمين كما استحلوا دماء غيرهم.
والعجيب أن القرضاوي الذي وصل به التسامح إلى درجة الترحم على البابا، واعتقاد أن رحمة الله تسعه كما تسع كل أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ضاق تسامحه عن هذه الطائفة الكريمة، فراح يفتي فيها بقول ابن تيمية، وينشر تلك الفتوى على المنابر ووسائل الإعلام ليحرض الإرهابيين في سورية على قتل كل علوي باعتباره كافرا مرتدا.
وكان في إمكانه ـ وهو الداعية إلى فقه الواقع ـ إلى استعمال فتوى مفتي فلسطين الأكبر، ورئيس المؤتمر الإسلامي العام، الحاج أمين الحسيني، والتي أصدرها عام 1936، وقال فيها: (إن هؤلاء العلويين مسلمون، ويجب على عامة المسلمين أن يتعاونوا معهم على البر والتقوى ويتناهوا عن الإثم والعدوان، وأن يتناصروا جميعا ويتظافروا، ويكونوا قلبا واحدا في نصرة الدين، ويدا واحدة في مصالح الدين، لأنهم إخوان في الملة، ولأن أصولهم في الدين واحدة ومصالحهم مشتركة)
وكان في إمكانه أن يعود إلى الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، والذي كان يحبهم ويحبونه، وكان من أعظم المنصفين لهم، فقد عاينهم عن كثب، ورأى مدى صدقهم وحبهم للتدين، ورأى أن تقصيرهم فيه ليس بسبب عقائد حلولية، ولكن بسبب الجهل والمظلومية التي وقعت عليهم طوال التاريخ، ولذلك كان يرشدهم، وكانوا يستمعون إليه ويستفيدون منه، مثلما يستفيدون من غيره من علماء المسلمين المتسامحين.
وكان في إمكانه ـ ما دام يدعي الاجتهاد ـ أن يعود لبيانات هذه الطائفة نفسها، وهي كثيرة جدا، وكلها تقر بالإسلام، وتذكر نسبتها له، وإيمانها بكل مصادره وعقائده وشرائعه، ومنها ذلك البيان الذي أصدره شيوخ العلويين عام 1938، والذي جاء فيه: (إن صفوة عقيدتنا ما جاء في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، {بسم الله الرحمن الرحيم قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} [الإخلاص: 1 – 4]، وأن مذهبنا في الإسلام هو مذهب الإمام جعفر الصادق، والأئمة الطاهرين، سالكين بذلك ما أمرنا به خاتم النبيين سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، حيث أوصى بالتمسك بكتاب الله وعترته أهل البيت. هذه هي عقيدتنا نحن العلويين، أهل التوحيد، وفي ذلك كفاية لقوم يعقلون)
وفي نفس العام أصدروا بيانا آخر جاء فيه: (نحن الموقعون الشيوخ الروحيون المسلمون العلويون، دحضا لما يشاع عن أن المسلمين العلويين غير مسلمين، وبعد التداول بالرأي والرجوع إلى النصوص الشرعية، قررنا البندين التاليين: كل علوي فهو مسلم يقول ويعتقد بالشهادتين، ويقيم أركان الإسلام الخمسة. كل علوي لا يعترف بإسلاميته، وينكر أن القرآن الشريف كتابه، وأن محمدا نبيه، فلا يعد بنظر الشرع علويا)([1])
وكان في إمكانه ـ إن أراد أن يتحقق أكثر ـ أن يعود للمواقع الالكترونية الرسمية لهذه الطائفة وهي كثيرة، وكلها تمتلئ بالعقائد الإسلامية المبنية على التوحيد والشهادة لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة، ذلك أن عقائد العلويين ومصادرهم الفقهية والسلوكية والحديثية كلها تعود إلى مصادر الشيعية الاثناعشرية، والخلاف بينهم بسيط جدا، وقد تلاشى أكثرها مع التاريخ، ذلك أن للزمن دوره الكبير في توجيه العقائد وتصحيحها.
وكان في إمكانه ـ إن لم يرتض تلك المواقع الالكترونية أو لم يؤمن بها ـ أن يعود لرؤساء الطائفة المتواجدين حاليا، والمتحدثين باسمها، والذين يقرون جميعا بكل عقائد الإسلام وشرائعه، وأذكر أن بعض القنوات الفضائية أجرت مناظرة بين بعض مشايخ العلوية مع بعض مشايخ السلفية، وكان الشيخ العلوي يذكر كل حين أنه مسلم يشهد الشهادتين ويعتقد بجميع عقائد الإسلام وشرائعه، لكن الشيخ السلفي كان ينظر إليه بشزر، ويتهمه بكونه لم يقر بذلك إلا من باب التقية.
وكان في إمكانه ـ وهو الذي يتبوأ ذلك المنصف الرفيع ومعه تلك الأموال الكثيرة ـ أن يكلف فريقا من الباحثين ليذهب إلى المناطق التي يتواجد بها العلويون، ويستفسر عنهم، ويسأل عن مدى صحة ما يشاع عنهم..
لكنه لم يفعل، بل اكتفى بفتوى ابن تيمية، وراح يبرر ذلك بتقصيرهم في الدين والصلاة، وهو يعلم أن أكثر المسلمين مقصرون في الصلاة والدين، والأصل في التعامل مع هؤلاء المقصرين هو دعوتهم إلى الالتزام بالدين، والأخذ بأيديهم لتحقيق ذلك، لا تكفيرهم والدعوة إلى قتلهم.
وليت الأمر اقتصر على القرضاوي، إذن لهان.. بل كلهم راح يفتي بكفرهم واعتبارهم أكفر من اليهود والنصارى، وقد جاء في فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالسعودية هذه الفتوى الخطيرة: (وهؤلاء الدرزية والنصيرية كفار باتفاق المسلمين، لا يحل أكل ذبائحهم ولا نكاح نسائهم، بل ولا يقرون بالجزية فإنهم مرتدون عن دين الإسلام ليسوا مسلمين ولا يهود ولا نصارى)([2])
أما فتاوى التكفيريين الذين لبوا نداء النفير العام للجهاد في سورية، فحدث ولا حرج، فهذا أحدهم، وهو الشيخ أبو عبيدة عبد الله العدم، يصدر بيانا بعنوان (لا تشاور أحداً في قتل العلويين)، يذكر فيه أنه (ليس لهذه الطائفة المحاربة الممتنعة بالشوكة والقوة عند أهل الإسلام الحق سوى السيف والسيف وحده، فلا تُشاورْ، أخي المسلم السُّني، أحداً في قتل العلويين وسلب أموالهم، بل قتلهم هو حق وواجب عليك للدفع عن أهل السنة المستضعفين في الأرض، فاقتلوهم حيث ثقفتموهم واقعدوا لهم كل مرصد ولا تأخذكم بهم رأفة ولا رحمة فإن دماءهم وأموالهم مباحة.. وأن دماءهم قربة نتقرب بها إلى الله)
وفي الأخير لا أريد من هذا الطرح إلا الدعوة إلى استعمال سنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في التعامل مع الأمة، فلا نكفر أحدا شهد لله بالوحدانية، ولمحمد صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة، وهو في نفس الوقت يذكر أنه مسلم، ويحب أن يلتزم بالإسلام، وقد يفعل ذلك أو يقصر فيه.
وأذكر كذلك أننا إن أبينا إلا أن نكفر هؤلاء، فعلينا ألا نطفف في الموازين، فنسكت عمن يسكنون تلك الأرض الواسعة التي يطلق عليها منطقة أهل السنة والجماعة، والذين نعتبرهم شعب الله المختار، مع أنهم لا يختلفون عن غيرهم في التقصير في الدين، بل فيهم من يسب الله ورسوله، ولا يعرف للدين ركنا من الأركان؛ فإن دافعنا عنهم، وانتصرنا لهم، وكفرنا غيرهم، نكون من المطففين في الميزان، والذين يشهدون شهادة الزور، ولا يتقون الله، ولا يلتزمون حدوده.
فأنصفوا العلويين والدروز والإسماعيلية
وكل طوائف المسلمين.. وكونوا دعاة لا قضاة، واعلموا أن الله وحده هو الديان.. وما
نحن إلا عبيد من عبيده.
([1]) انظر مقالا بعنوان: لا للتكفير، أحمد عدنان، موقع العرب، السبت 2015/03/28، والعلويون: رحلتهم إلى سوريا ورحلتهم منها، إياد العبدالله، موقع الجمهورية..
([2]) فتاوى اللجنة (4|28)