أغلقوا مساجد الضرار

أغلقوا مساجد الضرار

الأصل في المساجد أن تكون مدارس لتربية العقل، وتهذيب الروح، وبث السكينة والطمأنينة في النفس، وبث المودة والأخوة بين المؤمنين.. والأصل في الإمام القائم عليها أن يكون ممتلئا إيمانا وورعا وحرصا على رعيته الذين يتركون كل شيء لأجل الاستماع إليه.. والأصل في خطبة الجمعة أن تكون رسائل وحدة بين المسلمين، تجمع صفهم، وتبث فيهم من القوى ما يملؤهم بالطاقة التي تحركهم نحو كل الأدوار الإيجابية المناطة بهم..

هذا هو دور المساجد التي تؤسس على التقوى، والتي يقوم عليها الصادقون المخلصون، الناضجون عقليا، والمرتقون روحيا، والمؤهلون علميا، الذين لا يبيعون دينهم لأي جهة، فلا يعملون إلا بما يرضي الله، وما يصلح مجتمعاتهم.

أما غيرها من المساجد، والتي سماها القرآن الكريم مساجد ضرار، فهي التي تنشر التكفير والتضليل والفرقة بين المؤمنين، وتكون منصة لكل أعداء الأمة، كما قال تعالى يصفها، ويحذر منها ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ [التوبة: 107]

وهو وصف ينطبق تماما على كل تلك المساجد التي أمسك بزمامها الكثير من الإسلاميين سلفيهم وحركيهم.. والذين لا يهدأ لهم بال إلا إذا أمسكوا بسكاكين حقدهم ليمزقوا الأمة طوائف وشيعا، يكفرون بعضها، ويبدعون بعضها.. ويجعلون من الشجاعة أن تحرض الرعية على حكامها، ومن الورع أن تساهم الرعية في خراب بلدها.

ولا يمكنني أن أحيط بالواقع الإسلامي، والآثار الحزينة التي أحدثتها فيه خطب الجمعة، والتي تحولت إلى شبكات لتشكيل الجماعات الإرهابية، ومدارس لإلغاء العقول، ومحاضن للعنف.. فعد ذلك مستحيل.

بل إننا يمكننا أن نعتبر من أكبر أسباب الخلل الذي حصل في أمتنا في العصر الحديث هي تلك الخطب النارية، التي يصدح بها أولئك المراهقون فكريا ودينيا، ولا حظ لهم من العلم إلا تلك المطويات والقصاصات التي يحفظونها، ولا يعدو تصورهم لحقيقة الدين تصورهم لأفلام الرعب والإثارة.. فالدين عندهم ليس سوى رعب وإثارة.

ولهذا لم يكتف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعدم القيام في مسجد الضرار، بل راح يحرقه، فقد قال في شأنه بعد أن نزلت عليه الآيات التي توضح الهدف من إقامته: (انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه)([1])

وصدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فالمسجد الذي ينشر الفرقة، ويدعو إلى الفتنة، ويحرض على قتل المسلمين بعضهم لبعض ليس مسجدا، بل هو عرش من عروش الشيطان، ومركز من مراكزه.. فالمسجد ليس بمآذنه، ولا بقبابه، وإنما بالروح التي تسكنه.. والعلم الذي يبث فيه.

وللأسف نرى في بلادنا كبار رجال الأعمال يضعون الكثير من أموالهم في بناء المساجد وزخرفتها.. وبعد أن ينتهوا من كل ذلك.. يذهبون إلى صعلوك من الصعاليك، ومتشرد من المتشردين، ومراهق من المراهقين فكريا، يعجبهم صوتهم، قبل أن يعجبهم عقله، فيسلموه المسجد، ويسلموه معه آلاف العقول التي تستقبل كل ما يطرح عليها، وكأنه وحي من السماء.

ولذلك كان إحياء سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا النوع من المساجد هو الدين الحقيقي الصحيح الأصيل.. فالمسجد الذي لا يؤدي دوره التربوي والأخلاقي.. أو يؤدي عكس الدور المناط به.. ليس مسجدا، ولذلك لا يصح أن يجتمع فيه الناس، ولا أن يجلسوا إلى ذلك الخطيب الذي يثير فيهم الفتنة، ويحجبهم عن دين الله.

وما حصل في سوريا من مآس كان السبب الأكبر فيها هو تلك المساجد.. وأولئك الخطباء.. وتلك الجمعات..

وإن نسينا، فلن ننسى أبدا تلك الجمعات التي كانت تهيأ لها مساحات كبيرة في وسائل الإعلام، والتي كان يحرض فيها الخطباء على الفتنة.. ويلقنون فيها أولئك المغرر بهم ما عساهم يقولون.. لتصبح لكل جمعة اسمها الخاص بها.. والذي حضر له في الدوائر التي تخطط الفتن، ويقوم الأغبياء بتنفيذها.

ومن تلك الجمعات التي انطلقت منها شرارة الفتة: جمعة الكرامة 2011/03/18.. جمعة العزة 2011/03/25.. جمعة الشهداء 2011/04/01.. جمعة الصمود 2011/04/08.. جمعة الإصرار 2011/04/15.. الجمعة العظيمة 2011/04/22.. جمعة الغضب 2011/04/29.. جمعة التحدي 2011/05/06.. جمعة الحرائر 2011/05/13..

ثم راح المحرضون يزيدون في تحريضهم بعد أن لقوا التجاوب الكافي من الخطباء، والمغرر بهم.. فجاءت جمعة سقوط الشرعية 2011/06/24.. وجمعة ارحل 2011/07/01.. وجمعة لا للحوار 2011/07/08.. وجمعة أسرى الحرية 2011/07/15.

ولم يكتف دعاة الفتنة بذلك.. بل راحوا يزيدون التحريض بتهيئة المغرر بهم، ليتحولوا إلى إرهابيين، فجاءت جمعة أحفاد خالد 2011/07/22.. وجمعة صمتكم يقتلنا 2011/07/29.. و21 جمعة الله معنا 2011/08/05.. وجمعة لن نركع إلا لله 2011/08/12.. وجمعة بشائر النصر 2011/08/19.. وجمعة الصبر والثبات 2011/08/26.. وجمعة الموت ولا مذلة 2011/09/02.

ثم راح المخططون يرفعون الوتيرة.. ويطالبون بالتدخل الدولي.. ولذلك أخرجوا جمعة الحماية الدولية 2011/09/09.. وجمعة ماضون حتى إسقاط نظام 2011/09/16.. وجمعة وحدة معارضة 2011/09/23.. وجمعة أحرار الجيش 2011/10/14.. وجمعة شهداء المهلة العربية 2011/10/21.. وجمعة الحظر الجوي 2011/10/28.. وجمعة تجميد العضوية مطلبنا 2011/11/11.. وجمعة طرد السفراء 2011/11/18..

وزاد التحريض.. فظهرت جمعة الجيش الحر يحميني 2011/11/25.. وجمعة المنطقة العازلة مطلبنا 2011/12/02.. وجمعة بروتوكول الموت 2011/12/23..

وغيرها من الجامعات التي لا يمكن أبدا للعوام أن يفكروا في أسمائها، ولا أن يفهموا المعاني المرادة منها، ولكنهم كانوا ضحايا مساجد الضرار، وخطباء الفتنة.. وأولئك الشياطين المختبئون وراء المآذن والقباب.


([1])  السيرة النبوية لابن هشام (2/530)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *