الشياطين.. والجوار المقدس

الشياطين.. والجوار المقدس

من أعظم الأماكن التي تحن لها القلوب، وتشتاق لها الأرواح، وتتطلع لها الأفئدة ذلك المكان المقدس الذي يأوي الجسد الطاهر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. والذي قال عنه ابن عقيل: (سألني سائل أيما أفضل حجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو الكعبة؟ فقلت: إن أردت مجرد الحجرة، فالكعبة أفضل، وإن أردت وهو فيها فلا والله ولا العرش وحملته ولا جنة عدن ولا الأفلاك الدائرة، لأن بالحجرة جسداً لو وزن بالكونين لرجح)([1])

وقال الشاعر معبرا عن ذلك:

وبقعته التي ضمته حلقاً

  رياض من جنان تستطيل

وأفضل من سموات وأرض

   وأملاك بأفلاك تجول

ومن عرش ومن جنات عدن

   وفردوس بها خير جزيل

بل نقل القسطلاني في [المواهب اللدنية] الإجماع على ذلك، فقال: (وأجمعوا على أن الموضع الذي ضم أعضاءه الشريفة صلى الله عليه وآله وسلم أفضل بقاع الأرض حتى موضع الكعبة، بل نقل التاج السبكي عن ابن عقيل الحنبلي أنها – أي البقعة التي قبر فيها صلى الله عليه وآله وسلم – أفضل من العرش. وصرح الفاكهاني بتفضيلها على السموات)([2])

وقال الإمام الحصفكي الحنفي في [الدر المختار]، وهو من أشهر كتب الحنفية: (لا حرم للمدينة عندنا ومكة أفضل منها على الراجح إلا ما ضم أعضاءه صلى الله عليه وآله وسلم فإنه أفضل مطلقا حتى من الكعبة والعرش والكرسي)([3])

وقال الشيخ عليش المالكي في شرحه على مختصر الخليل: (ومحل الخلاف في غير الموضع الذي ضمه صلى الله عليه وآله وسلم فإنه أفضل من الكعبة والسماء والعرش والكرسي واللوح والقلم والبيت المعمور)([4])

وقال الإمام السخاوي الشافعي في [التحفة اللطيفة] معمما ذلك: (مع الإجماع على أفضلية البقعة التي ضمته صلى الله عليه وآله وسلم، حتى على الكعبة المفضلة على أصل المدينة، بل على العرش، فيما صرح به ابن عقيل من الحنابلة، ولا شك أن مواضع الأنبياء وأرواحهم أشرف مما سواها من الأرض والسماء، والقبر الشريف أفضلها، لما تتنزل عليه من الرحمة والرضوان والملائكة، التي لا يعملها إلا مانحها، ولساكنه عند الله من المحبة والاصطفاء ما تقصر العقول عن إدراكه)([5])

هذا ما نص عليه أعلام المذاهب الفقهية المختلفة، ولم يخالف في هذا إلا السلفية، وخصوصا التيميون منهم، الذين اعتبروا زيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بدعة، والسفر المؤدي لتلك الزيارة سفر معصية..

وليتهم اكتفوا بذلك.. بل إنهم راحوا في الأيام التي جعلهم الله فيها سدنة لذلك المقام المقدس لا يراعون له أي حرمة، ولا لبلدته المقدسة أي تعظيم.

فقد صارت المدينة المنورة في أيامهم مركزا لكل متطرف ومتشدد ومكفر ومفرق لصف الأمة.. وأصبحت جامعتها هي المدرسة الكبرى التي تخرج منها كبار إرهابيي العالم([6]).

وفي المدينة المنورة صدرت الكثير من الفتاوى التكفيرية والتضليلية لجميع الأمة.

وأمام قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقف أولئك الجامدون الغلاظ العتاة ينتهرون كل باك أو خاشع أو داع أو متوسل أو معبر عن مشاعره أمام ذلك القبر الطاهر المحفوف بكل ألوان القداسة.

انطلاقا من هذه الحقائق التي نطق بها الواقع، والتي يعرفها كل صادق، بل كل من زار ذلك الجوار المقدس، سأحكي لكم قصة تصور بعض ما يحصل في تلك المجالس العلمية التي لا يفصل بينها وبين القبر الشريف سوى أمتار محدودة.

ففي ذلك اليوم الذي تشرفت فيه بزيارة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في روضته الشريفة.. وبعد أن أغلق بابها، ومنعنا من الدخول.. حدثتني نفسي أو شيطاني أو كلاهما بأن أجلس في بعض مجالس العلم التي يمتلئ بها المسجد النبوي الشريف.

فلما أبيت عليهما حرصا على تلك المشاعر الطيبة التي امتلأت بها روحي جراء ذلك الجوار المبارك، أخذا يسردان علي كل ما ورد من النصوص المقدسة في فضل مجالس العلم.. وأخذا يقولان لي: لعلك ستجلس في نفس المكان الذي جلس فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معلما، ولعلك بذلك تنال من بركات ذلك المجلس ما لم تكن تحلم به في حياتك.

لست أدري كيف استطاعت نفسي أو شيطاني أن يقنعاني، فذهبت وأنا ممتلئ خوفا من أن يتحول ذلك المذاق الحلو اللذيذ الذي شربته من كأس القرب من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى حنظل وعلقم وغسلين.. وبالفعل كان ما خفت منه، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

لقد حول ذلك المجلس قلبي إلى حجارة قاسية، بل إن من ﴿مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة: 74]

بل إنني بعد مغادرتي لتلك المجالس، لم أذهب إلى الروضة الشريفة مع أن أبوابها قد فتحت.. وإنما ذهبت إلى الفندق الذي كنت أقيم فيه..

وعندما عدت في المساء للزيارة ذهبت بغير الطريقة التي كنت أذهب بها.. لقد ذهبت متثاقلا أجر قدمي جرا.. وعندما وقفت بين يديه صلى الله عليه وآله وسلم لم أشعر بتلك السعادة التي كنت أشعر بها.. بل كنت بليد المشاعر، قاسي الوجدان، وكأنني أبو لهب أو أبو جهل أو أبو سفيان.. وحينها لم ألم أولئك الغلاظ الذين شرفوا بحراسة ذلك المقام المقدس.. وكيف ألومهم، وهم يعيشون ذلك الغثاء والدنس صباح مساء.

قد ترون أن ذلك راجع لي.. وأن سببه سآمتي.. وأن هذا شيء طبيعي يحصل لكل الناس.. ولكني أقول لكم: ليس الأمر كما تظنون.. الأمر أخطر من ذلك.. إنه يكمن في تلك المجالس التي تحيط برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتزعم أنها تجاوره، وهي تحاربه وتحارب كل القيم النبيلة والمشاعر الطاهرة التي جاء بها..

وسأقص عليكم الآن بعض المشاهد التي عشتها ورأيتها، ولم يستطع عقلي ولا قلبي أن ينساها.. وليته استطاع..

اقتربت من بعض المجالس، قبل أن يبدأ الدرس، فجلست إلى سارية من السواري، بحيث أسمع الشيخ وتلاميذه من حيث لا يروني.. وكان الشيخ جالسا أمام كرسيه الفخم، وكان يجلس تلاميذه المقربون أمامه وبين يديه بحسب مراتبهم.. كانوا جميعا ينتظرون الوقت الذي يبدأ فيه الدرس.

قال الشيخ لتلاميذه: أخبروني.. هل من جديد.. فإحياء علم الجرح والتعديل في عصرنا الحاضر يستدعي منا بذل جهود مكثفة.. لابد أن نتحرك في كل الميادين.. والحمد لله نحن في هذه المدينة يفد إلينا كل الناس، ومن كل البلدان، ومعهم من يزعمون لأنفسهم العلم.. وهي فرصة للتعرف على مثالبهم التي تتيح لنا فضحهم والتحذير منهم.

رفع تلميذ من تلاميذه يده مستأذنا للحديث، فأذن له، قائلا: ما وراءك.. هل نفذت كل ما طلبته منك؟

قال: أجل.. لقد رأيته يا شيخ قبل قليل، أمام قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو يقوم بكل ما يقوم به المشركون من طقوس.. لقد رأيته يرفع يديه إليه بالدعاء.. ورأيته يحاول لمس الشباك.. بل يحاول تقبيله.. ولولا أن الحرس منعوه بشدة لكان قبله.

وقد تبعته بعد ذلك إلى البقيع، فوجدته مشركا جلدا.. يدعو أصحاب القبور، ويتوسل بهم، ويستغيث.. بل ويبكي، وهو يخاطبهم.. وقد رأيته يخرج كتابا من كتب الشرك يقرأ فيه، ويدعو..

قال الشيخ: بورك فيك يا بني.. لقد كنت متأكدا تماما أنه مشرك.. وأن ادعاءه التسنن كذب واحتيال..

قال ذلك، ثم التفت لتلاميذه، وراح يقول، والفرحة تملأ أسارير وجهه: ها هو ابني وتلميذي النجيب، قد أتاكم بالخبر اليقين.. ففلان الذي زعمتم وزعم الكثير أنه على خير، وأنه على السنة، وأنه يعظم السلف، تبين أخيرا أنه ليس سوى مشرك دجال.. فلا تنوا في التحذير منه ومن ضلالاته وكفره.

قال تلميذ آخر: بورك فيك شيخنا.. لقد كنت أشم ذلك في كتبه.. خاصة في كتابه حول سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. لقد كان يبالغ إلى درجة كبيرة في مدحه وإطرائه متناسيا أنه بشر كسائر البشر.

قال آخر: صدقت شيخنا.. وقد انتبهت إلى ذلك قبل فترة طويلة، فمفهوم الولاء والبراء عنده فيه ضبابية كبيرة.. فهو يدعو دائما إلى الوحدة الإسلامية.. وذلك ما يثير فيه الشبهات، لأنه لا يدعو إلى الوحدة إلا من يدعوا إلا التنازل عن التحذير من الشرك والبدع والضلالات..

بعد أن أكلوا من لحم الشيخ ما أكلوا.. قال الشيخ: دعونا منه، فقد وضح أمره.. فهل هناك غيره؟

قال أحد التلاميذ: أجل.. فقد أتيتكم اليوم بمعلومة تساوي وزنها ذهبا..أنتم تعرفون ذلك القريب الذي يعمل في المطار.. والذي أخبرتكم عنه كثيرا.

قال الشيخ: أجل.. ولا تنس أن تسلم عليه.. فهو رجل صالح ومن كبار الثقاة الذين نعتمدهم في تجريح المجروحين.

قال التلميذ: لقد أخبرني البارحة أنه شاهد مفتي الهند يتحدث مع امرأة باكستانية لم تكن تقربه.. وكان في خلوة معها من غير أن يكون بينهما محرم.. وقد تأكد بنفسه عندما ذهب وطلب من الهندية أوراقها زاعما أنه من الأمن، وقد عرف من خلال الوثائق أنه لا صلة بينهما.

قال الشيخ فرحا: بورك فيك وفي قريبك.. هل رأيتم الفاسق ماذا يفعل.. إنها فرصتكم لتردوا له الصاع صاعين.. لقد كتب في تلك الأيام مقالة حول الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب، يتهمه فيها بتفريق صف المسلمين.. وها قد حانت الفرصة لكم لإعلان فسقه وفجوره للناس.. هل من جديد؟

قال آخر: لقد أتيتكم اليوم بخبر مهم جدا يتعلق برأس من رؤوس جماعة التبليغ التي سمعنا بعض من يدافع عنها.. فقد أخبرني أحد الثقات السعوديين أنه شهد على سعيد أحمد الهندي رئيس جماعة التبليغ في المملكة أنه ماتريدي، وأنه ينكر علوَّ الله على خلقه.. (وقد حصلت لي مع الشاهد المذكور قصة، وهي أنه جاءني مستنكراً الكلام في جماعة التبليغ! فقلت له: إنهم متصوفة وماتريدية لا يصفون الله بصفة العلو. فقال: وما الدليل على ذلك؟ فقلت له: اذهب بنفسك، وحاول أن تقف على الواقع. فذهب الرجل، وبعد أيام عاد إليَّ وهو يقول: إن ما ذكرته من كونهم لا يعترفون بعلوِّ الله واستوائه على عرشه صحيح. فقلت له: وكيف عرفت ذلك؟ قال: ذهبت إلى رئيس الجماعة سعيد أحمد الذي كان يثق بي تمام الثقة؛ لأني من تلاميذه ومريديه، فقلت له: إني لست في شك من عقيدتنا، وهي أن الله في كل مكان، وليس هو في السماء، ولكن؛ بماذا نردُّ على الذين يقولون: إن الله في السماء. فقال: اتركهم واثبت على عقيدتك؛ فهي الحق)([7])

صاح الشيخ: الله أكبر.. الله أكبر.. فقد صدق إذا حكمنا عليهم بالكفر.. فلا يقول هذا إلا الكفرة.. وقد قال العلامة ابن القيم في الكافية الشافية:

ولقد تقلد كفرهم خمسون في

   عشر من العلماء في البلدان

واللالكائي الإمام حكاه عن

   هم بل حكاه قبله الطبراني

يعني: أن خمس مئة من العلماء صرَّحوا بتكفير الجهمية.

وقد ذكر عبد الله بن الإِمام أحمد في كتاب السنة كثيراً من أقوال العلماء في تكفيرهم، وذكرها غيره من الأئمة الذين صنَّفوا في السنة والردِّ على الجهميَّة.

قال ذلك، ثم راح يصيح بأعلى صوته: (ليعتبر المسارعون إلى الانضمام إلى جماعة التبليغ بما ذُكر عن رئيس جماعتهم في المملكة العربية السعودية أنه يعتقد أن الله في كل مكان وليس هو في السماء! وهذا كفر صريح؛ لمناقضته للأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة وإجماع المسلمين على أن الله تعالى مستوٍ على عرشه، فوق جميع المخلوقات، وأنه مع الخلق بعلمه واطلاعه وإحاطته.. فليحذر المؤمن الناصح لنفسه من الانضمام إلى التبليغيين الذين ينكرون علوَّ الله على خلقه، ويزعمون أنه في كل مكان، تعالى الله عمَّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً) ([8])

أخذ التلاميذ ينظر بعضهم إلى بعض معجبين ببطولة الشيخ، وقال أحدهم مخاطبا زملاءه: هل رأيتم علما بطلا وشجاعا ومقداما مثل شيخنا الجليل.. هو يعلم أن هذا المسجد لا يخلو من هذه الجماعة، ومع ذلك راح بكل جرأة يواجههم ويذكر حقيقتهم باذلا نفسه في سبيل الله.

كبر الجميع، وراحوا يدعون للشيخ بأن يجعله ناصرا للسنة، قامعا للبدعة، وأن يدخله الفردوس الأعلى بصحبة ابن تيمية وابن عبد الوهاب وابن بطة والبربهاري وغيرهم من أعمدة وأقطاب وأوتاد وأغواث الإسلام.

بعد أن عاد الهدوء للحلقة رفع بعض التلاميذ يده مستأذنا الشيخ، فأذن له، فقال: بمناسبة حديثكم عن جماعة التبليغ، سأذكر لكم قصة ذكرها لي رجل من طلبة العلم في (المدينة المنورة خرج مع التبليغيِّين إلى الحناكية، وأميرهم أحد رؤساء جماعة التبليغ، وفي أثناء الليل رأى طالب العلم أحد الجماعة من الهنود يهتزُّ ويقول: هُو! هُو! هُو! فأمسكه، فترك الحركة وسكت، وفي الصباح أخبر طالب العلم أمير الجماعة بما فعله الهندي التبليغي – ظانّاً أن الأمير سينكر على الهندي – فأنكر الأمير على طالب العلم إنكاره على الهندي! وقال له بغضب شديد: أنت صِرْتَ وهابيّاً! والله؛ لو كان لي من الأمر شيء؛ لأحرقت كتب ابن تيمية وابن القيم وابن عبد الوهاب، ولم أترك على وجه الأرض منها شيئاً! ففارقهم طالب العلم حين سمع هذا الكلام السيئ من أميرهم؛ لأنه عرف عداوتهم لأئمة العلم والهدى من أهل التوحيد والدعوة إليه وإلى إخلاص العبادة لله وحده، والنهي عن الشرك والبدع والخرافات وأنواع الضلالات والمنكرات والتحذير منها ومن أهلها) ([9])

صاح الشيخ مكبرا، ثم قال: بورك فيك يا بني هذه هي الأخبار التي نريدها.. لا تنس أن تسجلها لي لأضعها في كتابي الذي عزمت على كتابته حول تكفير جماعة التبليغ.. وأنا الآن أجمع الأدلة العلمية القطعية حول ذلك.. والقصة التي ذكرتها من أبلغ الأدلة.

قال بعض التلاميذ: بورك فيك شيخنا على نصرتك للسنة، وحربك للمبتدعة، فما تريد أن تسمي هذا الكتاب.

قال الشيخ: أريد أن أسميه [القول البليغ في التحذير من جماعة التبليغ]

كبر التلاميذ، وقالوا: ليتك تؤلف لنا مثله عن سائر الجماعات والحركات والمذاهب والطوائف..

قال الشيخ: لكم ذلك.. لكن لا بد أن تعينيني عليه، فأنا لا أكتفي بالأدلة النظرية، بل أضم إليها الأدلة الواقعية.. وخير مكان يمكن أن نجمع فيه الأدلة الواقعية هو هذه البلدة، وهذا المسجد، وخصوصا موقع الروضة منه، فهو أحسن مكان للتعرف على رؤوس المبتدعة.

رفع بعض التلاميذ يده مستأذنا، فأذن له، فقال: ليس ذلك فقط ما يذمون عليه.. بل يضاف إلى ذلك تثبيطهم للمجاهدين الذين أرسلهم شيخنا ابن باز وغيره من هيئة كبار العلماء لمواجهة الملاحدة الشيوعيين في أفغانستان.. ففي الوقت الذي كنت هناك أخبرني (أحد الثقات الأثبات السعوديين على مجموعة من دعاة جماعة التبليغ أنهم دخلوا في معسكر لتدريب المجاهدين الأفغان، وكان هذا المعسكر في الباكستان، بقرب مدينة بشاور، وهو تحت قيادة محمد ياسر خريج الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، فاستقبلهم القائد ظانّاً أنهم قد جاؤوا ليشاركوهم في الجهاد، ولكنه فوجئ بقولهم: إنما جئنا ليخرج معنا المجاهدون ويسيحوا معنا في الأرض من أجل الدعوة، وليتعلَّموا الإِيمان، وطلبوا من القائد أن يسمح للمجاهدين بالخروج معهم، وتردَّدوا إليه أياماً، فأصدر أوامره بمنعهم من دخول المعسكر) ([10])

قال الشيخ: الله أكبر.. الله أكبر.. هذا وحده كاف لإقناع ولي الأمر بحربهم وطردهم من المملكة.. فهم يقفون بهذا في وجه أولياء الأمور من أهل العلم والسياسة الذين يديرون تلك الحرب، ويوشك أن ينتصروا فيها، لتعود للإسلام أمجاده، ويقهر الشرك والإلحاد وأهله.

استأذن تلميذ آخر، وقال: ليس ذلك فقط شيخنا الجليل، فقد رويت بسندي (عن عدد كثير من الرجال أنهم سمعوا جماعة من التبليغيين الهنود وهم في بيت في شارع المنصور بمكة يكررون كلمة (لا إله) نحواً من ست مئة مرة، ثم بعد ذلك يكررون كلمة (إلا الله) نحواً من مئتي مرة، ويقولون ذلك بصوت جماعي مرتفع، يسمعه من كان في الشارع، وذلك بحضرة شيخ من كبار مشايخهم الهنود، وقد استمر فعلهم هذا مدة طويلة، وكانوا يفعلون ذلك في الشهر مرتين: مرة في نصفه، ومرة في آخره) ([11])

صاح الشيخ: الله أكبر.. الله أكبر.. وهذا دليل آخر على كفر هذه الجماعة.. لا تنس أن تكتبه لي حتى أضعه في كتابي فـ (لا شك أن هذا من الاستهزاء بالله وبذكره، ولا يخفى على من له علم وفهم أن فعلهم هذا يتضمن الكفر ست مئة مرة؛ لأن فصل النفي عن الإثبات في قول (لا إله إلا الله) بزمن متراخ بين أول الكلمة وآخرها على وجه الاختيار يقتضي نفي الألوهية عن الله تعالى ست مئة مرة، وذلك صريح الكفر، ولوأن ذلك وقع من أحد مرة واحدة؛ لكان كفرَا صريحَا؛ فكيف بمن يفعل ذلك ست مئة مرة في مجلس واحد؟!)([12])

بقي الشيخ وتلاميذه يتحدثون في جماعة التبليغ مدة من الزمن إلى أن ضاقت نفسي، والتجأت إلى مجلس آخر، فوجدتهم مجتمعون على أكل الصوفية.. فهربت إلى مجلس آخر، فوجدتهم منهمكون في تشريح الشيعة وبعض الحركات الإسلامية.. فهربت إلى مجلس آخر، فوجدتهم منهمكون في أكل لحم بعضهم بعضا..

وهكذا ظللت وقتا طويلا أشم تلك الروائح المنتنة، وأستمع إلى تلك الأحاديث الممتلئة بكل ما نهى الله عنه من الغيبة والنميمة والتجسس والتحسس..

وقد أصابتني حينها بعض الحمية، فرحت إلى هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأخبرتهم بما رأيت.. وقلت لهم: إن أول من يحتاج منكم إلى تأديب ونهر وطرد هم أولئك المشايخ الجالسون في المسجد، هم وتلاميذهم إنهم لا يراعون قوله تعالى:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)} (الحجرات)، ولا قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من أكل لحم أخيه في الدّنيا قرّب له يوم القيامة فيقال له كله ميتا كما أكلته حيّا فيأكله ويكلح ويصيح)([13])، ولا قوله: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبّعوا عوراتهم، فإنّه من اتّبع عوراتهم يتّبع اللّه عورته، ومن يتّبع اللّه عورته يفضحه في بيته)([14])

إن الروائح المنتنة المنطلقة من أحاديثهم ملأت المسجد، وتكاد تنفر الناس منه..

ضحك أعضاء الهيئة الذين تحدثت إليهم كثيرا، ثم قالوا لي: لاشك أن معلوماتك في الدين بسيطة جدا.. فالغيبة والنميمة والتجسس والتحسس حرام على كل الناس، ما عدا أولئك المشايخ، فلولاهم ولولا تلاميذهم لحرف الدين، وضل الناس..

قال آخر: لعلك لم تسمع بما رواه البيهقي من طريق الحسن بن ربيع قال: قال ابن المبارك: المعلى بن هلال هو (كذا) إلا أنه إذا جاء الحديث يكذب، فقال له بعض الصوفية: يا أبا عبد الرحمن تغتاب؟ قال: اسكت، إذا لم تبين كيف يُعرف الحق من الباطل.. أو نحو هذا.

وهكذا راحوا يرددون علي ما ورد عن سلفهم من النصوص في إباحة الغيبة.. فسألتهم عن التجسس.. فذكروا لي أضعافها من النصوص.. وهكذا لم أذكر جريمة من الجرائم ولا كبيرة من الكبائر التي نهى الله عنها إلا ووجدت عندهم من الأسانيد ما يرفع الحرج فيها عنهم.

شكرتهم وخرجت متثاقلا.. وكأن الشياطين قد وضعت أغلالها على قدمي.. وبدل أن أذهب إلى الروضة الشريفة والزيارة المباركة عدت إلى الفندق.. ولم أتخلص من تلك الوساوس إلا بعد فترة من الزمن.

وقد صرت بعدها كلما مررت على تلك المجالس أغلق أذني، وعيني، حتى لا تصطادني شياطين الإنس والجن المحيطة بذلك الجوار المقدس.


([1]) انظر الشفا للقاضي عياض (2/91)

([2]) نقلا عن الذخائر ( ص 44- 49)

([3]) الدر المختار ج 2 ص 689.

([4]) منح الجليل شرح مختصر الخليل ج5 ص 481.

([5]) التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة السخاوي الصفحة 12.

([6]) كمحمد زهران علوش وغيره.

([7]) هذه القصة من كتاب: القول البليغ في التحذير من جماعة التبليغ، ص42، وهو مملوء بأمثال هذه القصص التي بنى عليها التويجري تكفيره لجماعة التبليغ.

([8]) القول البليغ في التحذير من جماعة التبليغ، ص42.

([9]) القول البليغ في التحذير من جماعة التبليغ، ص44.

([10]) القول البليغ في التحذير من جماعة التبليغ، ص44.

([11]) القول البليغ في التحذير من جماعة التبليغ، ص9.

([12]) القول البليغ في التحذير من جماعة التبليغ، ص9.

([13]) قال ابن حجر: سنده حسن.

([14]) رواه أبو داود.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *