الدين الوراثي

الدين الوراثي

من أعظم الحجب الحائلة بين ملايير الناس في واقعنا، وفي جميع التاريخ، وبين دين الله الأقوم، ما يمكن تسميته [الدين الوراثي].. وهو دين ينطلق من الأنا وكبريائها، ليرسم لصاحبها أنه ومن ولد معه في تلك البيئة، أو من شاركه في ذلك الدين، ومارس معه تلك الطقوس.. وحدهم فقط على الحق المجرد، وغيرهم على ضلالة.  

وقد كان هذا الدين هو الذين اعتنقته عاد وثمود وقوم فرعون.. الذين رددوا جميعا، ـ وهم يواجهون أنبياءهم بكل كبرياء ـ ما ذكره القرآن الكريم عنهم، قال تعالى: {قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِين} [الأنبياء:53]، وقال: {قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُون} [الشعراء:74]، وقال: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُون} [الزخرف:22].

وهكذا أعطى القاعدة العامة لهؤلاء جميعا، فقال: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُون} [الزخرف:23]

وما ذكره الله عن سنته في الأمم السالفة هو نفسه الذي وجد في هذه الأمة.. فما كان لهذه الأمة أن تتخلف عن سنن الله.. ولذلك دب فيها هذا النوع من الدين.. وكان سببا لصراعات كثيرة بينها وبين نفسها، وبينها وبين الأمم الأخرى.. وحل هذا الدين في الأخير بديلا لدين الله الأقوم الذي لم يختلط بالبيئات ولم تؤثر فيه الأجيال.

وأول علامات هذا الدين هو الكبرياء والفخر والتباهي.. مع أن دين الله الأقوم هو الذي يملأ صاحبه بالتواضع والمحبة والإحساس بالحزن والألم على كل المخلوقات، كما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صاحب الدين الأقوم الذي قال له ربه: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6]، وقال له: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِين} [الشعراء:3]

وثاني علامات هذا الدين أن صاحبه يعتقد أن الجنة خلقت له، ولطائفته، لأنهم شعب الله المختار، وأنهم لا يدخلون النار في حال دخلوها إلا أياما معدودات.. وما بعدها لن يدخلوا الجنة فقط.. وإنما سيدخلون الفردوس الأعلى.. وسيتكلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه بأن يسقيهم.

هذه هي الأماني التي يتعلق بها أصحاب الدين الوراثي، ولذلك ينحجبون بها عن كل مكرمة، ويندفعون بها إلى كل مثلبة.

وثالث علامات هؤلاء.. وهي علامة عجيبة.. أنك تجد أحدهم أميا غارقا في جهله إلى أذنيه، لكنه إن رأى أحدا يصلي خلافا صلاته، أو يتوضأ خلاف وضوئه أقام الدنيا عليه.. وطالبه بالدليل، مع أن كل عقائده وعباداته ومعاملاته مبنية على التقليد المجرد.. بل على أسوأ أنواع التقليد، وهي تقليد جاره أو صديقه.. لكنه إن رأى خلاف ما علمه صديقه أو جاره تصور أن الدين قد قوض من أساسه.. وكأن الدين هو دين جاره أو صديقه أو جهله المركب.

ورابع علامات هؤلاء أنك تجد أحدهم يسمع كل ألوان السبب لله ورسوله، فلا يتحرك له جفن، ولا ينتفض له عرق.. لكنه إن رأى عالما أو محققا أو باحثا يدقق في بعض مسائل العلم التي لا يطيقها عقله، راح يتهمه بالمروق والزندقة والضلال.. وكأن الذين يسبون الله ورسوله أمامه صباح مساء عابدون في محاربيهم، أو ناسكون في خلواتهم.

لكن الدين الوراثي هو الذي فعل به ذلك.. وهو الذي جعله يردد ما ردده فرعون: { مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَاد} [غافر:29]

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *