التصوف: بين المدح والقدح

التصوف: بين المدح والقدح

من الاعتراضات التي اعترض بها علي بعض الفضلاء اعتباره أني متناقض مع نفسي حين أجمع بين الدفاع عن الصوفية، وذكر محاسنهم، والرد الشديد على السلفية وغيرهم ممن يكفرونهم، في نفس الوقت الذي أكتب فيه المقالات والكتب في نقدهم.

وسر هذا الاعتراض هو الوهم الكبير الذي أوقعنا فيه أنفسنا، وبسببه تسلط الشيطان علينا، وهو تحويلنا الحقائق من عالم المعاني المجردة إلى عالم الأشخاص والجماعات والانتماءات.. وليس شيئا مجردا مقدسا يمكننا أن نقترب منه أو نبتعد.

وهكذا الأمر مع التصوف.. فهو في ذاته قيم نبيلة ظهرت في هذه الأمة بفعل تفاعلها الطيب مع القرآن الكريم، ومع الأولياء والصالحين.. ونتيجة لذلك ظهر تراث عريض، وطرق كثيرة، منها ما يقترب من الجوهر الصوفي الحقيقي، ومنها ما يبتعد.

والجوهر الصوفي الذي يمثل حقيقة التصوف، والذي نستعمله معيارا لمدح الصوفية أو نقدهم هو تلك القيم والأخلاق التي عبر عنها الشيخ محمد بن علي القصاب بقوله: (التصوف أخلاق كريمة ظهرت في زمان كريم من رجل كريم مع قوم كرام)([1])

وعبر عنها آخر، وهو رويم بن أحمد البغدادي بقوله: (التصوف مبني على ثلاث خصال: التمسك الفقر والافتقار، والتحقق بالبذل والإيثار، وترك التعرض والاختيار)([2])

وعبر عنها معروف الكرخي مؤسس التصوف الأول، وتلميذ الإمام الصادق، بقوله: (التصوف الأخذ بالحقائق واليأس مما في أيدي الخلائق)([3])

وغيرها من النصوص الكثيرة التي تبين أهداف التصوف، ووسائله وأساليبه وحقائقه ونحو ذلك.. وكلها مما يعرض على القرآن الكريم ليعرف نسبته للدين اقترابا أو ابتعادا.

لكن هذا لم يستمر طويلا.. أو لم يستمر عند جميع الصوفية.. فقد ظهرت الطامات، وظهر معها انحراف كبير عن ظواهر الشريعة.. وأصبحت العقيدة تؤخذ بالكشف والإلهام والمنامات.. وأصبح كمال الإنسان وولايته أن يرطن بعبارات غريبة عن الدين وحقائقه القطعية.

ولذلك ظهر نقد التصوف.. ليس عندي.. ولا عند المخالفين للصوفية.. وإنما عند كبار الصوفية أنفسهم.. فلا نجد مصدرا من مصادر التصوف الكبرى إلا ونجد فيه نقد ما أحدثه الصوفية، وانحرفوا به عن القيم الأولى للتصوف.

فالقشيري (ت465هـ) ـ صاحب الرسالة التي تعتبر دستورا للتصوف ـ يقول في مقدمة رسالته: (اعلموا، رحمكم الله، أن المحققين من هذه الطائفة انقرض أكثرهم ولم يبق في زماننا من هذه الطائفة إلا أثرهم، كما قيل:

أما الخيام فإنها كخيامهم… وأرى نساء الحي غير نسائها

حصلت الفترة في هذه الطريقة.. لا، بل إندرست الطريقة بالحقيقة: مضى الشيوخ الذين كان بهم اهتداء، وقل الشباب الذين كان لهم بسيرتهم وسنتهم اقتداء، وزال الورع وطوى بساطه، واشتد الطمع وقوى رباطه. وارتحل عن القلوب حرمة الشريعة، فعدوا قلة المبالاة بالدين أوثق ذريعة ورفضوا التمييز بين الحلال والحرام. ودانوا بترك الإحترام. وطرح الاحتشام، واستخفوا بأداء العبادات، واستهانوا بالصوم والصلاة، وركضوا في ميدان الغفلات وركنوا إلى انباع الشهوات، وقلة المبالاة بتعاطي المحظورات، والارتفاق بما يأخذونه من السوقة، والنسوان، وأصحاب السلطان. ثم لم يرضوا بما تعاطوه من سوء هذه الأفعال، حتى أشاروا إلى أعلى الحقائق والأحوال، وادعوا أنهم تحروا من رق الأغلال وتحققوا بحقائق الوصال وأنهم قائمون بالحق، تجري عليهم أحكامه، وهم محو، وليس لله عليهم فيما يؤثرونه أو يذرونه عتب ولا لوم، وأنهم كوشفوا بأسرار الأحدية، واختطفوا عنهم بالكلية، وزالت عنهم أحكامه للبشرية. وبقوا بعد فنائهم عنهم بأنوار الصمدية، والقائل عنهم غيرهم إذا نطقوا، والنائب عنهم سواهم فيما تصرفوا، بل صرفوا)([4])

مع العلم أنه هو نفسه القائل قبل هذا الكلام: (جعل الله هذه الطائفة [أي الصوفية] صفوة أوليائه، وفضلهم على الكافة من عباده، بعد رسله وأنبيائه، صلوات الله وسلامه عليهم، وجعل قلوبهم معادن أسراره، واختصهم من بين الأمة بطوالع أنواره. فهم الغياث للخلق، والدائرون في عموم أحوالهم مع الحق بالحق. صفاهم من كدورات البشرية، ورقاهم إلى محال المشاهدات بما تجلى لهم من حقائق الأحدية. ووفقهم للقيام بآداب العبودية، وأشهد مجارى أحكام الربوبية. فقاموا بأداء ما عليهم من واجبات تكليف، وتحققوا بما منه سبحانه لهم من التقليب والتصريف. ثم رجعوا إلى الله، سبحانه وتعالى، بصدق الافتقار، ونعت الانكسار، ولم يتكلوا على ما حصل منهم من الأعمال، أو صفا لهم من الأحوال. علما منهم بأنه جل وعلا يفعل ما يريد، ويختار من يشاء من العبيد)([5])

وهكذا وقف قبله السُلمي (ت412هـ) الذي يعتبر مرجعا كبيرا للصوفية من خلال كتبه المعتمدة لديهم، وخاصة كتابه المشهور [اللمع]، فهو لم يكتف بما ذكره القشيري، وإنما راح يؤلف رسالة كاملة في نقد الصوفية سماها[رسالة في غلطات الصوفية]، ومما جاء في مقدمتها قوله: (واعلم أن في زماننا هذا قد كثر الخائضون في علوم هذه الطائفة، وقد كثر أيضا المتشبهون بأهل التصوف والمشيرون إليها والمجيبون عنها وعن مسائلها، وكل واحد منهم يضيف إلى نفسه كتابا قد زخرفه، وكلاما ألفه، وليس بمستحسَن منهم ذلك؛ لأن الأوائل والمشايخ الذين تكلموا في هذه المسائل وأشاروا إلى هذه الإشارات ونطقوا بهذه الحِكَم، إنما تكلموا بعد قطع العلائق، وإماتة النفوس بالمجاهدات والرياضات والمنازلات والوجد والاحتراق، والمبادرة والاشتياق إلى قطع كل علاقة قطعتهم عن الله -عزَّ وجلَّ- طرفة عين، وقاموا بشرط العلم، ثم عملوا به، ثم تحققوا في العمل فجمعوا بين العلم والحقيقة والعمل)([6])

ثم راح يفصل أصناف الأخطاء التي وقعوا فيها، والتي انحرفت بهم عن المنهج الأصيل الذي هو السلوك التحققي والتخلقي.. فقال: (فطبقة منهم غلطوا في الأصول: من قلة إحكامهم لأصول الشريعة، وضعف دعائمهم في الصدق والإخلاص، وقلة معرفتهم بذلك.. وطبقة ثانية: منهم غلطوا في الفروع، وهي: الآداب، والأخلاق، والمقامات، والأحوال، والأفعال، والأقوال؛ فكان ذلك من قلة معرفتهم بالأصول، ومتابعتهم لحظوظ النفوس ومزاج الطبع؛ لأنهم لم يدنوا ممن يُروضهم، ويجرعهم المرارات، ويُوقفهم على المنهج الذي يؤديهم إلى مطلوبهم.. والطبقة الثالثة، كان غلطهم فيما غلطوا فيه: زلة وهفوة، لا علة وجفوة؛ فإذا تبين ذلك عادوا إلى مكارم الأخلاق، ومعالي الأمور، فسدُّوا الخلل، ولَمُّوا الشَّعَث، وتركوا العناد، وأذعنوا للحق، وأقروا بالعجز؛ فعادوا إلى الأحوال الرضية والأفعال السنية والدرجات الرفيعة، فلم تنقص مراتبهم هفوتُهم، ولم تظلم الوقتَ عليهم جفوتُهم، ولم تمتزج بالكدورة صفوتُهم)([7])

ومن انتقاداته لهم مبالغتهم في (السماع والرقص، واتخاذ الدعوات، وطلب الإرفاق، والتكلف للاجتماعات على الطعام، وعند سماع القصائد والتواجد والرقص، ومعرفة صياغة الألحان بالأصوات الطيبة، والنغمات الشجية، والاختراع من الأشعار الغزلية، بما يشبه أحوال القوم، على نحو ما رأوا من بعض الصادقين، أو بلغهم ذلك عن المتحققين)([8])

وقد وصف بدقة حال بعض هؤلاء كما عاصرهم، وكأنه يصف واقعنا المشهود، فقال: (وطائفة توهَّمَت أن التصوف هو القول والرقص وسماع النغم والقصائد واتخاذ الدعوات والتّكلّف للاجتماعات لما رأوا من بعض الصادقين انبساطا في السماع في بعض الأوقات. وغلطت في ذلك ولم تعلم أن كل قلب تلوّث بشيء من الدنيا وكل نفس فيها شيء من البطالة والغفلة لا يصح لها السماع، بل لا يحل لها السماع)([9])

وهكذا راح يذكر أخطاءهم في تصورهم للإخلاص والتجرد، ثم يعقب عليه بذكره (أن العبد المطلوب بدرجة الإخلاص هو: العبد المهذب المؤدب، الذي هجر السيئات، وجرَّد الطاعات، وعمل في الإرادات، ونازل الأحوال والمقامات، حتَّى أدَّاه ذلك إلى صفاء الإخلاص)([10])

هذه مجرد نماذج عن انتقادات الطوسي صاحب اللمع للصوفية، مع العلم أن كتبه تعتبر مصادر أساسية للتصوف.

وهكذا نجد أبا حامد الغزالي (ت 505 هـ)، فهو مع ثنائه على الصوفية، وانتسابه إليهم إلا أنه انتقد بعض سلوكاتهم ودعاواهم، وحذر منها تحذيرا شديدا وصل إلى درجة الدعوة إلى إقامة الحد الشرعي على كل من يخلط على المؤمنين عقائدهم الواضحة البينة.

فقد قال في الإحياء: (وأما الشطح فنعني به صنفين من الكلام أحدثه بعض الصوفية: أحدهما- الدعاوي الطويلة العريضة في العشق‏ مع الله تعالى، والوصال المغني عن الأعمال الظاهرة، حتى ينتهى قوم إلى دعوى الاتحاد وارتفاع الحجاب، والمشاهدة بالرؤية والمشافهة بالخطاب، فيقولون: قيل لنا كذا وقلنا كذا، ويتشبهون فيه بالحسين بن منصور الحلاج الذي صلب لأجل إطلاقه كلمات من هذا الجنس، ويستشهدون بقوله: أنا الحق. وبما حكى عن أبي‏ يزيد البسطامي أنه قال: سبحانى سبحانى، وهذا فن من الكلام عظيم ضرره في العوام، حتى ترك جماعة من أهل الفلاحة فلاحتهم، وأظهروا مثل هذه الدعاوي، فان هذا الكلام يستلذه الطبع، إذ فيه البطالة من الأعمال مع تزكية النفس بدرك المقامات والأحوال، فلا تعجز الأغبياء عن دعوى ذلك لأنفسهم، ولا عن تلقف كلمات مخبطة مزخرفة، ومهما أنكر عليهم ذلك لم يعجزوا عن أن يقولوا: هذا إنكار مصدره العلم والجدل، والعلم حجاب، والجدل عمل النفس. وهذا الحديث لا يلوح إلا من الباطن بمكاشفة نور الحق. فهذا ومثله مما قد استطار في البلاد شرره وعظم في العوام ضرره حتى من نطق بشي‏ء منه فقتله أفضل في دين الله من إحياء عشرة)([11])

هذه مجرد نماذج بسيطة أردنا من خلالها أن نبين أن نقد التصوف لا يعني الوقوف ضده، ولا يعني تجاهل محاسنه وقيمه، ولا يعني الحكم على الصوفية جميعا، ولا يعني أننا نؤيد أولئك الجهلة المتطرفين الذين يحكمون عليه بأحكامهم الجائرة.

وإنما يعني أننا ـ وحرصا على جمال الحقيقة ـ نحتاج كل حين لإزاحة الغبار عنها، وتصفيتها، من باب النصيحة للمؤمنين، ولقيم الدين.. والمؤمن هو الذي يدور مع الحق حيثما دار.


([1]) الرسالة القشيرية (2/ 441)

([2]) الرسالة القشيرية (2/ 441)

([3]) الرسالة القشيرية (2/ 441)

([4]) الرسالة القشيرية (1/ 16)

([5]) الرسالة القشيرية (1/ 15)

([6]) اللمع، ص19.

([7]) اللمع، ص518-519.

([8]) اللمع، ص530.

([9]) رسالة في غلطات الصوفية، ص473، 474.

([10]) اللمع، ص533.

([11]) إحياء علوم الدين: 1/61.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *