الإلحاد.. والإشكالات الدينية

الإلحاد.. والإشكالات الدينية

ربما تكون الإشكالات الكثيرة التي يطرحها الملاحدة حول الدين هي السبب الأكبر في كل ما نراه من مظاهر الإلحاد، ذلك أن أكثر المدارس الإلحادية وفلسفاتها نشأت في ظل الصراع مع رجال الدين، وخصوصا المسيحية منه، باعتبارها وقفت مع السلطات الزمنية المستبدة، أو قامت هي نفسها بالاستبداد، ومثل ذلك تبنيها لبعض المعارف والعلوم التي لم تثبت علميا، وبذلك أصبح رجال الدين يفرضون الخرافة والشعوذة، وكل أصناف الجهل على متابعيهم، أو يتهمونهم في حال رفض ذلك بالزندقة والهرطقة والبدعة، أو يكفرونهم، ويحرمونهم من الجنان التي يعدون بها متابعيهم.

ومثل ذلك تلك المدارس الإلحادية الجديدة التي استثمرت في التطرف والإرهاب وإدارة التوحش التي مارسها المتطرفون من المسلمين، وانطلقوا فيها من منتجات تاريخية أو تراثية يزعمون أنها تمثل الإسلام.

وكان الأصل في هؤلاء الملاحدة، إن كانوا حقا يُعملون عقولهم أن يفرقوا بين الدين والله.. فالله هو خالق الكون الذي دلت عليه كل الأدلة العقلية، بل الذي دلت عليه الفطرة نفسها.. أما الأديان، ففيها ما يقبله العقل، وفيها ما يرفضه.

ولذلك كان الخيار السليم التفريق بين الإيمان بالله كقضية عقلية علمية، والموقف من الأديان كواقع موجود، وهذا الواقع يستدعي البحث والتحري للوصول إلى الدين الحقيقي الذي تثبته الأدلة والبراهين العقلية والعلمية.

لكن ذلك لم يحدث لأن الطابع الثوري هو الذي كان سائدا على تلك الحركات والشخصيات التي واجهت الأديان، والطابع الثوري ـ كما هو معروف ـ ينحو جهة الاستئصال والإلغاء، لا جهة التريث والبحث والتحقيق والتفريق بين ما يقبله العقل وما يرفضه.

وبناء على هذا نحاول في هذا الفصل بيان الإشكالات التي يطرحها الملاحدة حول الأديان، وتمييز المقبول منها من المرفوض، ومنهج نقد ما يمكن أن يرفض منها.

ونحب أن ننبه هنا إلى أن المناظر الناجح هو المناظر الذي يعتمد الإسلام المحمدي الأصيل الذي يعتمد بالدرجة الأولى على مصادر الدين المقدسة، وأولها القرآن الكريم، باعتباره الحكم الأكبر عند التنازع، أما الذي يقدس التراث والتاريخ، ويدافع عن الأخطاء التي وقعت فيهما؛ فإنه يستحيل عليه أن ينتصر على هؤلاء الملاحدة، ذلك أن في التراث الديني والتاريخ المرتبط به أخطاء كثيرة كان على المتدينين أن يتخلصوا منها حتى لا تصير عبئا على الدين، وحجابا بين الخلق وربهم.

وبناء على استقراء الإشكالات التي يطرحها الملاحدة في هذا الجانب رأينا أنها تنحصر في أربع مجامع كبرى:

أولها: الإشكالات المرتبطة بمصدر الدين: وهل هو الوحي الإلهي، أم هي الخيالات النفسية، وغيرها.. وفي حال كونه وحيا إلهيا، هل هناك براهين تدل عليه، أم أنه يخلو من تلك البراهين؟

ثانيها: الإشكالات المرتبطة بتاريخ الأديان: وهو التاريخ الذي كان للدين فيه علاقة إما مباشرة بالحكم الديني، أو كان فيه علاقة لرجال الدين برجال السياسة.

ثالثا ـ الإشكالات المرتبطة بالحقائق الدينية: وهي الحقائق الغيبية العقدية التي جاءت الأديان لتقريرها ومدى حظها من العقلانية والعلمية.

رابعا ـ الإشكالات المرتبطة بالقيم الدينية: وهي المعاني السلوكية والأخلاقية التي جاءت الأديان للدعوة إليها، وحظها من القبول والرفض.

وبما أننا أشرنا إلى الإشكال الثاني، وعدم علاقة الدين بكل ما حصل في تاريخه من انحرافات في الفصل الخاص بالإلحاد والتنوير الاجتماعي.

وأشرنا إلى الإشكال الثالث في الفصول الأولى من الكتاب، تلك التي تقرر مدى علمية وعقلانية الحقائق الغيبية التي جاء بها الدين.

وأشرنا إلى الإشكال الرابع عند حديثنا عن القيم الأخلاقية والتحرر النفسي.

فسنكتفي هنا بالإشكال الأساسي الأكبر، والذي عليه تنبني الأديان، وهو مصدرها، وهل هي رسائل إلهية أعلن الله بها عن نفسه من باب رعايته بخلقه ولطفه بهم، أم أنها نتاج حالات نفسية وبيئة اجتماعية.

ونحب أن ننبه هنا إلى أننا سنخصص جزءا خاصا في التدريب على المناظرة في إثبات نبوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وسنطرح كل هذه الإشكالات بطريقة أكثر تفصيلا ودقة.

بناء على هذا، فسنتناول في هذا الفصل مبحثين: أولهما حول رؤية الملاحدة لمصدر الدين، وثانيهما حول رؤية المؤمنين لمصدره.

أولا ـ الرؤية الإلحادية لمصدر الدين:

بناء على مادية النظرة الإلحادية للكون والحياة، فإن التفسير الطبيعي لمصدر الدين عند كل الملاحدة هو الإنسان، والعوامل النفسية والاجتماعية والاقتصادية المؤثرة فيه أو في حياته أو المجتمع الذي يعيش فيه.

وسنحاول أن نلخص باختصار هنا أهم تلك النظريات التي اعتمد عليها الملاحدة في تفسير نشأة الدين، مثلما فعلنا في النظريات المرتبطة بتفسير نشأة الكون والحياة، ونعقب عليها بما يبين تهافتها، والمغالطات التي تعتمد عليها، معتمدين في ذلك على ما كتبه العلامة جعفر الهادي في كتابه القيم [الله خالق الكون: دراسةٌ علميّةٌ حديثة للمناهج والنظريّات المختلفةِ حولَ نشأةِ الكونِ ومسألةِ الخالقِ]([1])، فهو كتاب طرح هذه النظريات طرحا علميا مبسطا، وذكر كل ما يرتبط بها من انتقادات، بطريقة مبسطة واضحة.

1 ـ نظرية الخوف من الحوادث الطبيعية:

وهي نظرة معتمدة كثيرا لدى الملاحدة الجدد، وهي تعتمد على تفسير نشأة التديّن وتعليل ظهور الاعتقاد بوجود الله بين البشر بعامل نفسي، كما قال [ويل ديورانت] معبرا عن هذا الاتجاه: (الخوف ـ كما قال [لو كريشس] ـ أوّل أُمّهات الآلهة وخصوصاً الخوف من الموت، فقد كانت الحياة البدائية محاطة بمئات الأخطار وقلّما جاءتها المنيّة عن طريق الشيخوخة الطبيعية، فقبل أن تدبّ الشيخوخة في الأجسام بزمن طويل كانت كثرة الناس تقضي بعامل من عوامل الاعتداء العنيف، أو بمرض غريب يفتك بها فتكاً، ومن هنا لم يصدق الإنسان البدائي أنّ الموت ظاهرة طبيعية وعزاه إلى فعل الكائنات الخارقة للطبيعة، وتعاونت عدّة عوامل على خلق العقيدة الدينية، فمنها الخوف من الموت، ومنها كذلك الدهشة لما يسبب الحوادث التي تأتي مصادفة أو الاحداث الّتي ليس في مقدور الإنسان فهمها، ومنها الأمل في معونة الآلهـة والشكـر علـى مـا يصيـب الإنسـان مـن حـظ سعيـد)([2])

ثم جاء [برتراند راسل]، وتوسّع في هذه النظرية وردّ نشوء العقيدة إلى ثلاثة أسباب هي: (الخوف من القوى الطبيعية القاهرة، كالرعد والبرق والزلازل والسيول الّتي تهدّد حياة الإنسان، بل وتقضي عليها أحياناً.. والأضرار الّتي تلحق به من أبناء جنسه في ميادين القتال، أو حالات الهجوم والغزو.. والخوف الحاصل له بعد الإقدام على بعض الأعمال الجنسية عند فورة الشهوة وهيجان الغريزة الجنسية، وما يتبع ذلك من الاستيحاش ممّا فعل والندم ممّا ارتكب)

فهذه الأُمور ـ في نظر راسل ـ هي التي جعلت الإنسان يلوذ إلى (قوة عليا) اخترعها ليسكن إلى حمايتها، ويرتاح في كنفها.

وما ذكره يوقفنا على ثلاثة إشكالات أساسية في هذه النظرية، وما قيل في تقريرها وتبريرها:

أولها: هو أن أصحاب هذه النظرية اتّفقوا على الغفلة عن أنّ هناك عللاً طبيعية روحية كالفطرة، أو منطقية وعقلية، هي التي دعت العقول والفطر إلى إثبات وجود قوة عليا عندما يواجه هذا النظام البديع، وهذه العلل الّتي تكشف عن أنّ للاعتقاد جذوراً واقعية في النفس والعقل الإنسانيّين غير عامل الخوف من الحوادث الطبيعية المرعبة.

والعقل يدل على أنّ مجال نحت التعليلات الفرضية يختص بالعادات والحالات الّتي لا يوجد لها جذور واقعية في النفس أو العقل الإنسانيّين، كالتشاؤم لرؤية الغراب أو سماع نعيبه، أو الاعتقاد بنحوسة الرقم 13، وغير ذلك من التقاليد والعادات الخرافية السائدة في بعض الأُمم والشعوب على اختلاف مسالكها وعقائدها.

وأمّا ما كان له جذور واقعية في النفس الإنسانية بأن كان له علّة طبيعية، أو سبب منطقي في فطرة الإنسان وعقله، فإنه لا يكون موضعاً للفرضيات المنحوتة والتعليلات الاحتمالية، بل يكون تجاهل تلك العلّة الواقعية الطبيعية والسبب المنطقي ظلماً فضيعاً بحق العلم والفلسفة، وهو ما ارتكبه أصحاب هذه النظرية ومؤيدوها، وذلك عندما رفضوا أوتجاهلوا (فطرية التديّن) أو (الرابطة العقلية بين مشاهدة النظام والاعتقاد بوجود منظم للكون)، وعمدوا إلى اختراع هذه النظرية وتفسير نشوء العقيدة بها.

ثانيا: إنّ هذه التعليلات فرضيات ذهنية لا يدعمها أيُّ دليل يفيد يقيناً، ويوجب اطمئناناً، وهي تبقى كذلك فرضيات ليس لها أيّ قيمة علمية مهما ألبسوا عليها من حلل الألفاظ، وأفاضوا عليها من الأصباغ والألوان الزاهية.. فهل يمكن للعقل أن يقتنع بشيء لا يدعمه دليل، ولا يؤيّده برهان.

ولأجل ذلك لا يتّفق أمثال هؤلاء المحلّلين في تحليلهم على أساس واحد، ولا ينطلقون من منطلق واحد، بل يحلّل كل واحد منهم هذه الظاهرة حسب مزاجه ومتأثراً بما يتعاطاه من العلوم ويتبّناه من أفكار، فالعالم النفسي يسنده إلى عامل نفسي، والعالم الاجتماعي يسنده إلى عوامل اجتماعية، وثالث يسنده إلى أسباب اقتصادية، ورابع ينحت له فروضاً جنسية تشمئز منها الطباع السليمة، وهكذا.

ثالثا: أنه من الظلم الفاحش أن ينسب اعتقاد الشخصيات العظيمة من كبار العباقرة وأساطين العلم والفكر الذين برعوا في إلجام الطبيعة، وتسخير بعض قواها، وكبح جماحها ودرء أخطارها عن البشر، إلى عامل الخوف من الحوادث الطبيعية المرعبة؛ أفيصح أن ننسب اعتقاد سقراط وإفلاطون وأرسطو، وغيرهم من كبار الفلاسفة الاغريق، والفارابي وابن سينا والرازي وابن الهيثم ونصير الدين الطوسي وجابر بن حيان وغيرهم من عمالقة الشرق، وغاليلو وديكارت ونيوتن وباستور وغيرهم من رجالات الغرب، إلى عامل الخوف من الحوادث الطبيعية، وهم أهل عقل وفهم، ورجال علم واستدلال؟

فلم لا يكون اعتقاد الإنسان البدائي ـ على غرار اعتقاد هؤلاء العلماء ـ مبنيّاً على الاستدلال العقلي المتناسب مع مداركه، وناشئاً من فطرته النقية.

ثم إنّ المادّيين يتذرّعون ـ أحياناً لتبرير هذه النظرية بما تبعثه العقائد الدينية في النفس من السكون والطمأنينة، وبما يكون لها من أثر في طرد الوحشة والقلق والاضطراب عن الإنسان.

والجواب هو: إنّ العقائد الدينية والإيمان بالله القادر الحكيم العادل الرحيم، تخفّف ـ بلا شك ـ من القلق، وتبعث على الطمأنينة والسكون، إلاّ انّ هذا لا يعني أنّهم اخترعوا فكرة وجود الله لتحقّق لهم مثل هذه الحالة، فهناك فرق بين (دوافع) نشأة العقيدة وبين (آثارها) الطبيعية.

وقد خلط أصحاب هذه النظرية بين الدوافع والآثار حيث تصوّروا أنّ طلب الطمأنينة والأمن هو الّذي دفع بالبشر إلى اختراع وافتعال فكرة (القوة العليا) ليكتسبوا في ظلّها هذه الحالة، في حين أنّ حصول الطمأنينة وما شاكلها إنّما هو من الآثار المترتّبة على العقيدة لامن دوافع إيجادها، فمن آمن بالله قويت عزيمته وسكنت نفسه، لأنّه ربطها بقدرته المطلقة، وحصول هذه الأُمور إنّما يكون بعد الاعتقاد بوجود ذلك الفاعل القادر لا باعثاً على تصوّره واختراعه.

رابعا: إنّ ادّعاء المادّيين بأنّ الاعتقاد بالله وعبادته والخضوع له جاء نتيجة خوف الإنسان من الحوادث الطبيعية الرهيبة ليس مبنيّاً على أيّ أساس صحيح، إذ لا ملازمة عقلية أو عادية بين (الخوف) (واختراع فكرة الإله) في الذهن، فإنّه لابدّ من وجود ملازمة عقلية أو عرفية بين (المقدّمة) و(النتيجة) حتّى يكون تصوّر المقدّمة موجباً للانتقال إلى النتيجة، وليس هاهنا أيّة ملازمة من هذا النمط بين الخوف من الحوادث الطبيعية المرعبة، وبين تصوّر خالق للكون قادر على دفع البلايا.

فإنّ فكرة (الخالق الإله) ليست هي نفس الخوف من الحوادث المرعبة، ولا تلازم بين وجود الخوف في الذهن الإنساني من تلك الحوادث وهذه الفكرة، فكيف ـ والحال هذه ـ يمكن أن تستنتج فكرة الإله الخالق من حالة الخوف؟!

وذلك لأنّ التداعي بين الأمرين النفسيّين لا يتحقّق إلاّ أن يكون بينهما نوع ملازمة عقلية أو عرفية، والحال انّه لا وجود لمثل هذه الملازمة لدى الإنسان الذي يعيش في العصور الأُولى، الّذي يسند المادّيون اعتقاده بالإله الخالق إلى خوفه من الحوادث الطبيعية الرهيبة.

فلو لم تكن فكرة الخالق الإله أمراً قد فطر عليه الإنسان وحقيقة يميل إليها في أعماق قلبه وضميره، أو لم يكن برهان وجوده مركوزاً في عقله وإدراكه، لاستحال أن ينتقل في (حالة الخوف من الحوادث الطبيعية المخيفة) إلى فكرة الخالق الإله، وهذا بخلاف ما إذا كانت فكرة الخالق الإله أمراً ارتكازياً للإنسان أو ثابتاً بالبرهان في ذهنه، فانّ هذا يكون وسيلة للانتقال ـ عند مواجهة الحوادث المخيفة ـ إلى وجود الخالق الاله القادر على دفع الشر عنه.

2 ـ نظرية الجهل بالعلل الطبيعية:

وتنص هذه النظرية التي تلقى أيضا رواجا كبيرا لدى الملاحدة الجدد على أن الإنسان البدائي عندما واجه الحوادث الطبيعية كالزلازل والسيول والكسوف والخسوف، الّتي تحيط به ولم يعرف عللها الطبيعية الواقعية لجأ لجهله إلى اختراع فاعل لها، واعتبره العلّة الوحيدة لكلّ شيء مباشرة، وكلّما تكامل فكرياً، واستطاع من خلال اكتشافاته وتحليلاته أن يقف على السبب الطبيعي المادي لكل حادثة، أسند كل ظاهرة إلى عاملها الطبيعي الحقيقي، وتخلّى عن إسنادها إلى تلك (القوة الوحيدة)، وهكذا كان الاعتقاد بوجود الله وليد الجهل بأسباب الحوادث الكونية الطبيعية.

وقد أُطلق مصطلح [إله الفراغات] أو [إله الفجوات] على ما تنص عليه هذه النظرية، وكان أول من أطلقه [هينري دروموند] في القرن التاسع عشر.

وقد قال [ويل ديورانت] معبرا عن هذه النظرية: (تعاونت عدّة عوامل على خلق العقيدة الدينية، منها الدهشة لما يسبب الحوادث الّتي تأتي مصادفة، أو الأحداث الّتي ليس في مقدور الإنسان فهمها)([3])

وقال بعض علماء الاجتماع: (إنّ العلم وإن وقف على جملة من علل الحوادث إلاّ أنّه لازالت هناك حوادث لم تقع في إطار هذا العلم، ولا زالت تعاني من الإبهام والغموض، وهذا هو الّذي سبب نشوء العقيدة الدينية)

ومن هنا نجد الملاحدة ينادون بتنافي العلم والدين، لأنّ (العلم) عندهم يسند الأُمور إلى عللها الطبيعية، ويكشف عن العلاقات المادية بين الظواهر الطبيعية ومناشئها، بينما يسند (الدين) كلّ تلك الظواهر والحوادث إلى علّة واحدة يقيمها مكان جميع العلل الواقعية.

ولهذا أيضاً ذهبوا إلى أنّ تقدّم العلوم ونجاحها في كشف الموضوعات الطبيعية، والسنن الحاكمة في الكون يزعزع مكانة الدين، ويوجب انحسار الاعتقاد بالخالق، وتراجعه إلى زاوية النسيان.

ومن الانتقادات الموجهة لهذه النظرية:

أولا ـ ما ذكرناه سابقا من أنّ افتعال مثل هذه الفروض والاحتمالات إنّما يصحّ في الأُمور والعادات التي لم يكن لها علّة واقعية ـ روحية أومنطقية ـ عند البشر، أمّا عندما يكون للعادة أو الحالة سبب واضح ـ كما هو الحال في مسألة الاعتقاد بالله ـ فلا مجال لمثل هذه التعليلات، بل هي حينئذ تكون ضربا من الخيال الّذي تأباه العقول السليمة، ويرفضه المنطق السوي.

ثانياً: انّ هذا التحليل ينمّ عن جهل صاحبه باعتقاد الإلهيّين ومنطقهم على اختلاف مسالكهم ومشاربهم؛ فإنّ الاعتقاد بخالق للكون باعتباره العلّة العليا ـ عند الإلهيّين ـ لا يعني تجاهل العلل الطبيعية، وإنكار الروابط المادية بينها وبين معاليلها، ليكون انكشاف العلل والروابط في ضوء العلم سبباً لتزعزع الاعتقاد بوجود الله وانحساره.

ونسبة هذا الإمر إلى الإلهيّين محض كذب وافتراء، وعين الظلم والجفاء، وأيّ ظلم أشد من أن ننسب إلى طائفة كبرى من البشر ما لا يقولون به، بل وما هم بريئون منه، فانّ الاعتقاد بالله ليس ـ عندهم ـ بمعنى إنكار العلل، بل هو بمعنى أنّهم يعتقدون بأنّ النظام العلّي السببي السائد في الكون، يرجع في مآله إلى قوة عليا، وينتهي إلى مبدأ أعلى هو علّة العلل، وهو مسبب الأسباب، وهو موجد ذلك النظام العلّي.

فالإنسان إذا أطلّ على هذا الكون، وشاهد مافيه من أنظمة بسيطة وأُخرى معقدة تنظم ظواهر الطبيعة، وتسير على وفقها جميع الحوادث بانتظام، ودون فوضى أو عبثية جرته هذه النظرة الفاحصة، إلى الاعتقاد بقوة مدبّرة منظمة خالقة وراء هذا الكون العظيم، ونظامه البديع، هو الّذي أوجد الكون، وأرسى فيه السنن.

فالاعتقاد بذلك الخالق القادر المدبّر وليد الاعتقاد بالنظام السببي العلّي، والإيمان بالعلل الطبيعية لا إنكارها وتجاهلها كما زعم أوتوهّم أصحاب هذه الفرضية من الماديّين، واتّهموا به الإلهيّين.

وبعبارة أُخرى: انّ الإلهي لا يثبت وجود الله عند عدم العلم بعلل الحوادث وعند المبهمات والغوامض، بل يعتقد به عندما يقف على النظم الكونية السائدة، والأُمور الواضحة السياق، البيّنة النظام، فطريقه إلى الإذعان والإيمان بوجوده هو ما يشاهده من التنسيق والانسجام، والترابط والنظام، لا ما قد يصادفه من الفوضى والعشوائية.

ولذلك نرى المشتغل بدراسة الطبيعة المهتم بعالم الأحياء كلّما ازداد علماً بأسرار الكون، ووعياً وإدراكاً لقوانينه ازداد إيماناً ويقيناً بوجود الخالق، الموجد لتلك القوانين، الخالق لتلك السنن، فتقدّم العلم والإدراك والاكتشاف يخدم هذا الاعتقاد لا أنّه يهدده أو يزعزعه لأنّه كان ولا يزال الطريق المنطقي إلى هذا الإيمان.

ولهذا فليس الإلهي هو من يبحث عن وجود الإله فيما يجهل علله وأسبابه، وهو الّذي لم يزل ـ منذ أوّل الهي وإلى الآن ـ يستدلّ على وجود الخالق المدبّر بالأنظمة السائدة في الكون من دقيقها إلى جليلها، فكيف يعزى إليه أنّه يثبت وجود الله ويعتقد به بما يجهل فيه الأسباب والعلل الطبيعية من الظواهر الكونية؟

ويكفي لمعرفة هذه الحقيقة والتأكد منها الرجوع إلى منطق الإلهيّين واستدلالهم منذ أقدم العصور إلى الآن، فهذا سقراط يستدلّ في محاورته مع اريستوديم بالنظام على وجود الخالق، فمما جاء فيها قول سقراط: (ألا ترى (يا اريستوديم) أنّ من دلائل التدبير والحكمة أن تمتّع العين ـ وهي ضعيفة ـ بجفون تنفتح وتنغلق عند الحاجة وتنطبق عند النّوم طول الليل، وأن توهب تلك العين غربالاً من أهداب لتقيها فعل الرياح الثائرة، وأن تمنح لها تلك الحواجب كميزاب يمنع عنها غوائل العرق المتساقط من الرأس، وأن تصنع الأُذن على صورة لا تكلُّ عن سماع الأصوات ولا يعتاض الحس بها، وأن تعطى جميع الحيوانات أسناناً أمامية لقطع الأغذية، وأضراساً جانبية لسحقها، وأن يكون الفم الّذي تدخل منه الحيوانات الأغذية الصالحة لها إلى أجوافها موضوعاً قريباً من العينين والمناخير.. أترى نفسك بازاء كل هذه الأعمال الّتي تدلّ على تدبير وحكمة، لا تزال متردّداً بين عزوها إلى الصدفة والاتّفاق، وبين اسنادها للحكمة والعلم؟)

فأجابه [أريستوديم]: (لا والإله فانّ أقلّ نظر في الكائنات الحية يدلّنا على أنّ هنالك ذات عالم رحيم خلقها وعدّلها)([4])

بل إن القرآن الكريم يستدلّ على وجوده سبحانه بالنظم السائدة في شتّى مجالات الطبيعة، فالله تعالى يقول: { أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ } [الطور: 35، 36]، ويقول: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) } [الروم: 20 – 24]

فهذه الآيات الكريمة وغيرها كثير جعلت النظام السائد في الكون ـ الّذي يوقف الإنسان على الانسجام والترابط والنظام ـ دليلاً على وجود منظم لهذا الكون، وليست (الآية) في هذه الآيات إلاّ بمعنى (العلامة) فهي علامات على دخالة الشعور والعقل في ابتداع هذا النظام.

ثالثاً: أنّ هذه الفرضية تقوم على أساس كون البشر كانوا يعتقدون بقانون العلّية، وهذا يعني أنّ الإنسان البدائي لمّا كان يجهل العلل الواقعية للظواهر الطبيعية آل به هذا الاعتقاد إلى اختراع فكرة (خالق الكون) وإحلالها محل العلل الطبيعية الّتي كان يجهلها، حتّى يرضي وجدانه الّذي يلحُّ عليه بنسبة كلّ ظاهرة إلى علّة، فلوكان البشر البدائي مدركاً ـ بهذه المنزلة ـ لقانون العلّية فلِمَ لا يكون اعتقاده بالله، ناشئاً عن إذعانه بأنّ النظام الرائع السائد في الكون الّذي لا ينفك عن تأثير بعض أجزائه في بعض، وانسجام بعضه مع بعض، قد وجد بفعل قوّة عالمة، وعارفة بالسنن والقوانين الكونية اللازمة.

رابعا ـ أنهم لو نظروا في المصادر المقدسة للأديان، وخاصة لما لم يحرف منها، فسيجدونها تدعو إلى البحث للتعرف على حقائق الأشياء، ويروا أنّ القرآن الكريم كيف يحارب الجهل أشدّ المحاربة، ويمنع أتباعه من الاعتقاد بشيء بدون علم، كما قال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا } [الإسراء: 36]

بل إنه يضيف إلى ذلك، فيستدلّ على وجوده سبحانه بالنظام السائد في الطبيعة والكون، ويطلب من المؤمنين النظر في الطبيعة واستجلاء أسرارها وفهم قوانينها إذ يقول: { أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ } [الغاشية: 17 – 20]

ويخبر عن المؤمنين وتفكرهم في الكون، فيقول: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164

فكيف يجوز لأصحاب هذه النظرية ـ والحال هذه ـ أن يفتروا على أصحاب الرسالات الإلهية بأنّ دعوتهم إلى الله سبحانه لم تكن إلاّ بسبب جهلهم بالعلل الطبيعية، والأسباب الواقعية للظواهر الكونية.

بل إن القرآن الكريم يصرّح بأنّ العلماء هم الذين يخشون الله دون غيرهم، إذ يقول: { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } [فاطر: 28]، فالآية الكريمة تصف العلماء بالخشية والخوف منه سبحانه، لا الجبن الّذي هو في مقابل الشجاعة، فإنّ الجبن أمر مذموم، لأنّه حالة تسيطر على الإنسان لأجل تجنّبه للأُمور المرعبة غير الواقعية كالخوف من الغول، أو الظلمة الموجودة في قبو مع العلم بعدم وجود ما يخيف حقيقة.

وأمّا الخشية فهي عبارة عن إحساس الإنسان بالعظمة الإلهية الّتي تملأ الصدور والنفوس مهابة عند مشاهدة عظيم خلقه، وجليل فعله.

وهذا الأمر مسبّب عن علم الإنسان بالعظمة الإلهية لا جهله، ووعيه، لا توهّمه وتخيّله، وأمّا الخوف منه سبحانه، فلأجل أنّ الإنسان العاقل يخاف في قرارة نفسه أن لا يقوم بما عليه من وظائف العبودية تجاه ذلك الرب العظيم.

 خامسا ـ أنه لو كانت فكرة الإله وعبادته والخضوع له والإيثار في سبيله والاعتقاد بالمسؤولية تجاهه من ولائد الجهل البشري بالأسباب الطبيعية والخوف من الحوادث الكونية المرعبة، فلماذا نجد هذه الفكرة قائمة حتّى في المجتمعات الحاضرة رغم انتفاء دواعيها من الجهل والخوف، حيث لاجهل بسبب ما اكتشفته العلوم من العلل الطبيعية، ولا خوف بسبب تغلب الإنسان الحديث على أكثر حوادث الطبيعة، وتمكّنه من تجنب أضرارها وأخطارها.

فما الّذي يفسّر بقاء فكرة (الإله المعبود المقدّس) بين المجتمعات الحاضرة، والإحساس بالمسؤولية تجاهه والسعي لتحصيل رضاه، وما يلحق كلّ ذلك من الاعتقادات والممارسات العملية الدينية وقد زال الجهل والخوف؟

أليس بقاء هذا الأمر ـ مع زوال ما قيل عن علّته ـ يعدّ دليلاً واضحاً وبرهاناً ساطعاً على أنّ هناك عاملاً آخر، غير عامل الجهل والخوف، وراء نشأة فكرة (الإله المعبود) هو الّذي دفع الذهن الإنساني إلى الالتزام بهذه الفكرة والمعتقد إلى اليوم؟

ولو قيل: صحيح انّ العلماء والمفكّرين في هذا العصر تغلّبوا على الطبيعة وكبحوا جماحها، وعرفوا أسرارها وعللها وتحرّروا من الجهل والخوف، ولكنّهم ورثوا فكرة (الإله المعبود) من آبائهم وأسلافهم، ولم يستطيعوا التخلّص منها والتحرر من رواسبها.

فإنّنا نقول: وهل هذا إلاّ ازدراء بمثل هؤلاء العلماء والمفكّرين، واحتقار لشأنهم، وتجاهل لما هم عليه من سداد الفكر، ورشادة العقل، وقوة التحليل الّتي تأبى التقليد الأعمى، وترفض التبعية الجاهلة.

سادسا ـ أن أصحاب هاته الفرضية والتي قبلها لم يميّزوا بين الدافع للعقيدة، وبين ما يترتّب على ذلك الدافع، في القيمة، فلا يمكن أن تكون (الدوافع) لشيء و(ما يترتب عليها من الآثار والنتائج) ذات قيمة واحدة، فقد يكون الدافع نحو الشيء أمراً تافهاً لاقيمة له، بينما تكون النتائج والقضايا الحاصلة من ذلك الدافع ذات قيمة عالية جداً كما في المقام.

فعلاقة الإنسان بالثروة والشهرة هي الّتي تدفع إلى الاكتشاف والاختراع، ومن المعلوم أنّ الدافع هنا أمر رخيص، ولكنّ الأثر الناتج عنه ذو قيمة عالية.

كما أنّ الحرب وراء أكثر الاكتشافات والاختراعات، والحال انّ الحرب ـ كما نعلم ـ دافع رخيص، بينما يكون ما ينشأ على أثرها من التحوّلات العلمية والصناعية ذا قيمة عالية.

ولهذا لابدّ من الفرز والتفريق بين (الدافع) و(الآثار)، وعدم الخلط بينهما في تفسير ظاهرة من الظواهر.

سابعا ـ أنّ هؤلاء المحلّلين قد افترضوا أمراً من عند أنفسهم وهو (انّ الاعتقاد بالله اعتقاد بأمر موهوم وباطل)، وبعد أن اعتبروا ذلك أمراً مسلّماً لا نقاش فيه عمدوا إلى البحث عن أسباب نشوء هذا الأمر الباطل الموهوم فنحتوا ما نحتوا، والحال أنّ هذا نفس المدّعى، إذ لو لم يكن نفس الاعتقاد بوجود الله أمراً باطلاً ـ في نظرهم ـ بل كان ممّا يدعمه الدليل الصحيح والبرهان الواضح لما نحتوا هذه الفرضيات لتفسير نشوئه، فإن الإنسان العاقل لا يتحرّى عن أسباب الاعتقاد بالمعادلة الحسابية التالية: 2×2 = 4 مثلاً، لأنّ هذا الاعتقاد بهذه المعادلة يستند إلى أمر واقعي، فلا مجال فيه لاختلاق أسباب، ونحت علل وفرضيات.

ثامنا ـ أن هؤلاء الذين احتقروا الإيمان، واعتبروه مجرد هروب من الحقيقة العلمية، راحوا يكذبون على أنفسهم بإله جديد بدل إله الفراغات، وهو إله لا دليل عليه إلا الهوى، والذي يمكن تسميته [ملايين السنين]، فهم يستخدمون هذه العبارة في في كل المعضلات العلمية الصعبة التي يواجهون بها، حيث نسمع قولهم دائما: (نحتاج فقط إلى ملايين السنين ليخرج نظام حيّ ذكي من عبثية عشوائية غبية)

وقولهم: (تحولت الخلايا البسيطة إلى مخلوقات معقدة بعدملايين السنين وليس بشكل مباشر كما تظنون)

وقولهم: ((الجهاز التناسلي كان بسيط جدًا وبعد ملايين السنين أصبح جهاز كامل الوظائف)

وقولهم: ((الديناصورات لم تتحول إلى طيور فجأة.. بل استغرق ذلك ملايين السنين)

والمشكلة العويصة هو أنّ [ملايين السنين] التي يفرون بها من الله، لا تعني ملايين من السنين المنتظمة وإنما تعني ملايين من السنين العشوائية والعبثية، والتي تخرج في الأخير كونا في منتهى الدقة والإحكام.

مع أنّ العشوائية تزداد فوضويتها وعبثيتها كلما منحناها المزيد من الوقت.. وكلما زاد الوقت ابتعدت العشوائية عن النظام واتجهت إلى الخراب والفوضى أكثر. وليس العكس!

3 ـ نظرية العامل الاقتصادي:

وهي النظرية التي تنص على أن العامل اقتصادي هو السبب في ظهور الدين، ومثله كلّ ما في المجتمع من علم وفلسفة وفن وثقافة، وآداب وتقاليد وسنن دينية، فالأفكار الدينية والفلسفة الميتافيزيقية ـ حسب تحليلهم ـ ليست إلاّ ردة فعل للأوضاع الاقتصادية السائدة في المجتمع، تماماً مثل بقية الظواهر الاجتماعية المذكورة من غير فرق بين ظاهرة وأُخرى.

ونص بعض أصحاب هذه النظرية على أن الدين والمفاهيم الدينيّة كانت آلة طيّعة بيد المستغِلِّين لإخماد ثورة المستغَلِّين، من الفلاّحين والعمال، ونص آخرون على أنّ الدين بلسم مسكن كان يلجأ إليه المحرومون والمضطهدون أنفسهم للتخفيف من آلامهم، وتبرير أوضاعهم، وعجزهم عن إصلاحها.

وأصحاب هذه النظرية هم الشيوعيون الذين ذهبوا إلى أنّ كلّ ما في المجتمع البشري ينقسم إلى بنية تحتية، وبنية فوقية، والبنية التحتية عبارة عن الوضع الاقتصادي وتطور وسائل الإنتاج وتكاملها، وما ينشأ ـ بتبعها ـ من العلاقات الاقتصادية، والبنية الفوقية عبارة عن الأفكار الاجتماعية والسياسية والثقافية والأدب والفن والدين والفلسفة، فكل هذه الأُمور تتبع في شكلها ونوعيتها الوضع الاقتصادي ونوعيّة العلاقات الاقتصادية الناجمة بدورها عن تطور وسائل الإنتاج وتكاملها.

وقد قال (كونستانيتوف) معبرا عن ذلك: (ينبغي البحث عن منبع الأفكار الاجتماعية والسيـاسيـة والحقوقية والدينية في الاقتصاد قبل كل شيء)([5])

هذا هو الأصل الّذي اخترعه الماركسيّون لتعليل جميع الظواهر الاجتماعية، وبذلك أرادوا تقسيم الأشياء إلى نوعين: أصيل، وغير أصيل. والأوّل متبوع والثاني تابع، يتغير بتغيّر الأوّل، ويتكامل بتكامله وتطوّره.

وهكذا فسّروا ظاهرة العقيدة الدينية فزعموا انّها تابعة للظروف والعلاقات الاقتصادية، وانّ المفاهيم الدينية ليست سوى ردة فعل للأوضاع الاقتصادية المتدهورة.

ولأجل ذلك فإنّ أصحاب الرق والاقطاعيّين والرأسماليّين في عهود (الرق والاقطاع والرأسمالية) كلّما خشوا ثورة العبيد والفلاحين والعمال في وجه المستغِلِّين لهم بسبب ما يلاقونه من الضغوط، عمدوا إلى التوسّل بالمفاهيم الدينية والروحية وروّجوها بين المحرومين والكادحين الناقمين بهدف تخديرهم والتخفيف من غضبهم، وصرفهم عن الانتفاضة والثورة، وبهدف تكريس خضوعهم واستسلامهم لإرادة الأسياد والاقطاعيّين والرأسماليّين واستغلالهم، وكان من ذلك الدعوة إلى الصبر، وبأنّ التذرع به يستعقب أجراً عظيماً في اليوم الآخر، ووعدهم بالجنة ونعيمها المقيم.

وهذا التحليل المفتعل هو الّذي قصده ماركس وانجلز بقولهما: (وما القوانين والقواعد الأخلاقية، والأديان بالنسبة إلى العامل إلاّ أوهام برجوازية تستتر خلفها مصالح برجوازية)([6])

ومن الانتقادات الموجهة لهذه النظرية:

أولا ـ أن معلومات هذا الفريق من المادّيين عن الدين ومفاهيمه، وجذوره وأفكاره، يرجع إلى انطباعاتهم عن سلوك آبائهم، أو ما وجدوه في المجتمع من غث وسمين منسوب إلى الدين، ولا شك أنّ الكثير من هذه التصرفات والمواقف والتصوّرات لا تمثّل حقيقة الدين الناصعة، وجوهره الصافي، فقد طرأ على الأُمور الدينية من التشويه والمسخ والاعوجاج ما غيّب تلك النصاعة والصفاء خلف غيوم من الإبهام والانحراف.

ولو أن هؤلاء المادّيين اعتمدوا المنابع الدينية الأصيلة لدراسة الدين، وجعلوا سيرة قادته المخلصين وسلوكهم النقي من الشوائب والانحرافات ملاكاً لحكمهم على العقيدة والأفكار الدينية لقضوا بغير ما قضوا، هذا إن كانوا غير متأثرين بأفكار مسبقة وغير مندفعين بنيّات مبيّتة.

ثانياً: أن هؤلاء تغافلوا عمّا للدين والعقيدة الدينية من الآثار الإيجابية البنّاءة في حياة الإنسان، وكيف أنّها من أهم عوامل التحرك والتقدّم والرقي والصعود لا الجمود والركود.

فالعقيدة الدينية هي التي تساهم في التقدّم العلمي، ذلك أن المتديّن يسند وجود العالم إلى فعل قوة عليا عالمة قادرة، والمادي يسنده إلى التصادف الأعمى.. ومن الطبيعي أن تكون العقيدة الأُولى هي الباعثة على اكتشاف السنن والأنظمة دون الثانية، لأنّ إقبال العالم على اكتشاف الروابط والنواميس الكونية فرع علمه بوجود سنن قطعية على سبيل الإجمال، وهو لا يحصل إلاّ مع العلم بأنّ الكون من صنع الخالق العالم القادر المدبّر الحكيم، وهذا ممّا لا يتوفّر عند من يقول بوجود الكون عن طريق الصدفة، إذ الصدفة تعني الفوضى واللانظام.

والدين دعامة الأخلاق بخلاف الإلحاد، ذلك أنّ اعتقاد الإنسان بالله سبحانه، وانّه خلقه لغاية وهدف، وانّ الموت ليس نهاية الحياة؛ يولّد في الإنسان رادعاً قوياً، يردعه عن الانسياق وراء شهواته الرخيصة وأهوائه ونزواته، كما أنّه يولّد فيه مثلاً أخلاقية، وتوجب نموّ السجايا الخيّرة في كيانه، فلا يرتكب كل ما تمليه عليه مصالحه الشخصية كما هو دأب المادّي غير المؤمن بالله.

ولذلك فإنّ العالم الكيمياوي إذا اقترح عليه بأن يصنع سلاحاً مدمّراً، أو قنبلة سامة فتّاكة لقاء عرض مادي مغر، لا ينفذ هذا الطلب إذا كان مؤمناً بالله، بخلاف العالم المادّي الّذي لا يعتقد برقابة إلهية ولا بجنة ولا نار.

والدين عامل التحرك والاستمرارية، ذلك أن الإنسان الّذي يعتقد بأنّ وراء هذا الكون قوة عليا قادرة على دفع الشدائد ودرء المصائب عنه، إذا توجه إليه واستعان به فإنّ اعتقاده هذا يساعده على الاستمرارية والاستقامة، بل والتحرك والتقدّم لأنّه يرى نفسه معتمداً على تلك القوة وآملاً بنصرها وتأييدها، بخلاف المادي الّذي لا يركن إلى ركن وثيق، وهذا يعني انّ الدين أكبر محفّز، وأشدّ ما يحتاج إليه الإنسان هي الحوافز.

وفوق ذلك كله، فإن الدين من أكبر الدوافع على الالتزام بالقوانين؛ فالإنسان الّذي يرى نفسه في محضر الله سبحانه، ويعتقد بأنّه يحصي عليه حركاته وسكناته، بل ويضبط خطرات قلبه وأوهام فكره، ونوايا ضميره، لن يرتكب أيّة مخالفة قانونية، خاصة إذا عرف بأنّ تطبيقه للقانون يستتبع الثواب الأُخروي الجزيل والأجر الإلهي الجميل وتمرّده عليه يستتبع العقاب الإليم، بخلاف المادي الّذي يتحايل على القانون بألف حيلة وحيلة، ولا يرتدع عن مخالفته والتملّص منه كلّما سنحت له الفرصة، لأنّه لا يؤمن بأيّة نظارة ورقابة، ولا يخشى عقاباً، ولا يرجو ثواباً.

إلى غير ذلك من الآثار الفردية والاجتماعية البنّاءة الّتي لا غنى للفرد والمجتمع عنها؛ فكيف يصف الماركسيّون الدين بأنّه مخدّر وأنّه أُفيون وأنّه يوجب الركود والجمود؟!

ثالثاً: أنّ البحث في علّة نشوء العقيدة انّما هو في نشأتها في العصور الأُولى من حياة الإنسان على الأرض، في حين انّ ما يذكره الشيوعيون ومن يقول بهذه النظرية يرتبط بالأدوار المتأخرة جداً عن تلك العصور، أي قبل أن توجد ظاهرة الرق والاقطاع والرأسمالية، فإنّ ما يذكرونه يرجع إلى عصور الأغارقة أو ما جرى في أُوروبا في القرون الوسطى، فتعليل العقيدة الدينية بهذه الظواهر المتأخّرة عن الحياة البشرية الأُولى جداً، خطأ فضيع، أو تعمّد مفضوح، إذ ما الّذي يفسر نشوء العقيدة الدينية ووجودها في العهود الأُولى من حياة الإنسان على الأرض، وقبل وجود هذه الظواهر (أي الرق والاقطاع والرأسمالية)

رابعاً: أنّ تقسيم الظواهر الاجتماعية إلى بنية تحتية وأُخرى فوقية، وتصوّر أنّ الثقافة والفن والعلم والدين كلّها من البنية الفوقية التابعة للبنية التحتية (أي الاقتصاد) من شأنه إبطال كلّ نظرات الماركسيّين في مجال الفلسفة والتاريخ والاقتصاد، وكلّ تحليلاتهم وآرائهم، فإنّ هذه القاعدة التي اخترعها ماركس تستلزم أن يكون مجموع مناهجها في المجالات المختلفة نابعة من الحالة الاقتصادية وما كانت عليه وسائل الإنتاج يوم أطلق ماركس وانجلز نظريتهما، وعلى ذلك فلو تغيّرت وسائل الإنتاج، وتغيّر الوضع الاقتصادي انتهى دور المناهج الماركسية في المجالات المختلفة، فلابدّ أن تتخذ مناهج أُخرى تضادد تلك المناهج، تبعاً لمتغيّرات الاقتصاد، وتطوّر وسائل الإنتاج، والعلاقات الاقتصادية.

وعلى ذلك فنفس ما يقوله الماركسيون، أي: (الدين أُفيون الشعوب، وأنّه عامل الركود)، هو من نتائج الأوضاع الاقتصادية الّتي كانت تسود البيئة التي أطلق فيها ماركس كلمته هذه، فحيث تطوّر الوضع الاقتصادي، وتغيّر إلى وضع آخر تغيّرت النظرية إلى نظرية أُخرى، فربّما يمكن أن تكون النتيجة هي أنّ الدين محفز للعمل، ومحرك للأُمّة، وعامل من عوامل المقاومة والتقدّم، وهذا يعني انّ ماركس قضى على جميع أفكاره بنفسه، وخاصة هذه النظرية حول الدين.

خامساً: أنّ تعليل هذه الظواهر الاجتماعية على سعتها وتنوّعها وتشعّب أطرافها (كالعلم والفلسفة، والدين والثقافة، والفن والآداب) بعامل اقتصادي أشبه ما يكون بتعليل زلزال هائل دمر مدينة عظمى، بانهيار سقف خشبي في إحدى ضواحي تلك المدينة.

صحيح أنّ الاقتصاد يلعب دوراً هامّاً في مجالات الفكر والظواهر الاجتماعية إلاّ أنّ الاقتصاد ليس هو العامل الوحيد الّذي له مثل هذا الدور والتأثير، فليس الاقتصاد هو القوة الوحيدة المحركة للتاريخ، وليست وسائل الإنتاج هي القوة الكبرى الّتي تصنع تاريخ الناس، وتطورهم وتنظمهم، بل هناك عوامل محركة أُخرى للتاريخ، وقد أقر بها كل الباحثين والمفكرين.

فمنها الغرائز التي جبل عليها الإنسان، فإنّ لها دوراً مؤثراً لا يمكن إنكاره في نشوء الحوادث الاجتماعية، فقد أثبت الروحيون أنّ الإنسان ينطوى على غرائز خاصّة تفعل كل واحدة منها أثرها الخاص في الحياة والمجتمع، مثل غريزة طلب العلم، والجاه، والجمال. وغيرها، وما يتولد عنها من تطوّرات اجتماعية.

ومنها تأثير الشخصيات البارزة؛ فإنّ لها أثراً كبيراً في صناعة الظواهر الاجتماعية، لأن هذه الشخصيات لا تكتفي بالتفرج على الأوضاع، بل تلعب أدواراً، وتصنع أحداثاً، وتوجد تغييرات، وتاريخ الأُمم بما فيها من صفحات مشرقة خير شاهد على أنّ هذه الشخصيات قد أشعلت شرارة الكثير من الثورات الاجتماعية، وأوجدت الكثير من التحولات، وانّه لولاهم لما حدث مثل تلك التحولات، ولما تفجّرت تلك الثورات.

ومنها الفكرة القومية، فقد كان لها أثرها الخاص في التطوّرات الاجتماعية لدى الامم المختلفة، فهذا هو هتلر الألماني أشعل الحرب العالمية الثانية بفكرة القومية النازية، ولهذا عمد بعض المفكّرين في بعض البلاد إلى التوسّل بالقومية، وإحياء روحها، وإلهاب مشاعر الناس بها، للوقوف في وجه الاعداء أو تحقيق النهضة فيها.

ومع ملاحظة هذا العوامل وغيرها من العوامل المحركة للتاريخ المبحوثة في محلها وتأثيرها البالغ في الظواهر الاجتماعية كيف يصحّ للماركسيّين أن يسندوا كل ما في المجتمع من مظاهر علمية وفلسفية وفنية وثقافية وأدبية ودينية إلى عامل اقتصادي فقط؟!

سادساً: لو لم تكن للعقيدة الدينية جذور فطرية أو لم تكن هناك رابطة بين مشاهدة النظام والاعتقاد بوجود المنظم، فلماذا يتفق المستغَلّون جميعاً على أفكار كثيرة لا قيمة علمية لها، مثل فكرة القومية مع كونها فكرة خاطئة ومرفوضة، لأنّها تستند إلى رفع بعض الشعوب على بعض، وحصر جميع الخدمات بشعب خاص على حساب شعـوب أُخرى، والحال انّ الواجب هو صرف الخدمات لصالح الإنسانية جمعاء دون تمييز ولا استثناء.

وهذا يعني أنّ المستغلّين للطبقات المحرومة كانوا يستخدمون الدين في سبيل مصالحهم وهم يعتمدون على واقعية مقبولة لدى المستغلين ذاتياً، فلو لم يكن الديّن والتدين أمراً فطرياً عند المحرومين، أولم يكن أمراً منطقياً لديهم فلماذا لم يرفضوا هذه الآلة الّتي تستخدم ضدهم؟!

ألم يكن بين جماهير الطبقات الفلاحية والعمالية طوال القرون المتمادية من يميز بين ما هو في مصلحتهم وما هو ضد مصلحتهم؟!

إنّ هذا الأمر يجعلنا لا نثق بهذه النظرية، بل يدفعنا إلى أن نذعن بأنّ للعقيدة الدينية جذوراً وخلفيات أعمق في كيان الإنسان وحياته، غير ما ذكره الماركسيون.

سابعاً: إنّ ما ذكروه يستلزم أن لا يوجد بين الطبقات المرفّهة، وأصحاب الثروة والمكنة أيّ متديّن، لعلمهم بأنّ الدين ليس سوى وسيلة تستخدم لإخماد الثورات وجلب المنافع، والحال أنّنا نجد طول التاريخ أصحاب ثروة وقفوا أعمارهم وثرواتهم في سبيل تحقيق الأهداف الدينية المقدّسة بحيث صار الغني والفقير والظالم والمظلوم، والمضطهِد والمضهَد، في هذه الظاهرة سواء، أي أنّنا نجد متديّنين ليس بين الفقراء والمحرومين فقط بل بين الأغنياء وأصحاب الثروة أيضاً، وهذا يعني أنّ قضية الإيمان بالله ليست ناشئة من عوامل اقتصادية كما ذكروا، بل هي قضية روحية فطرية، ومسألة عقلية يقود إليها الفكر السليم.

ثامناً: أنّ ما استشهدوا به لتبرير نظريتهم (وهو أنّه كلّما انتعش حال الطبقات المحرومة اقتصادياً انحسرت العقيدة عن حياتهم، وكلّما تردّت، راجت العقيدة الدينية) جهل من هؤلاء المحلّلين بمجريات التاريخ.

ذلك أننا نجد في الحضارة اليونانية والإسلامية كيف ازدهرت الحالة الاقتصادية العامة، وتحسّنت جنباً إلى جنب مع ازدهار العقيدة الدينية، وكان لمعرفة الله والإيمان به دور بارز ومكانة كبرى في هذه المدنيات والحضارات.

وهذه حقيقة يقف عليها كلّ من راجع تاريخ هذه الحضارات الكبرى، بل هي من الثبوت والجلاء ما لا نحتاج معه إلى ذكر الشواهد والنماذج.

تاسعاً: أنّ تدهور أمر العقيدة الدينية وانحسارها في بعض المجالات والفترات الّتي نشط فيها الاقتصاد العام وانتشر الرفاه لا يعود إلى ما ذكروه من النسبة التعاكسية بين (انتعاش الحالة الاقتصادية العامة) و(انحسار العقيدة الدينية) بحيث يكون انتعاش الحالة الاقتصادية العامة للكادحين سبباً في الإعراض عن العقيدة والمفاهيم الدينية، وتردّيها سبباً لرواج العقيدة الدينية، بل يعود إلى أنّ طغيان غريزة من الغرائز من شأنه أن يغطي على الجوانب الأُخرى في الحياة الإنسانية، وهذا لا يختص بغريزة حب المال والثروة، بل يعمّ غريزة حب الجاه والجنس وغير ذلك من الغرائز، فإذا زادت الاستفادة من غريزة معيّنة كما لو تمادى المرء في غريزة حب المال وجمعه أو الجنس نسي سائر ما عنده من الغرائز، بل وحتّى ما اعتقده من أفكار ثبتت لديه بالأدلّة القاطعة كالدين وماشاكل ذلك.

عاشراً: انّ استخدام المستغِلّين للعقيدة الدينية في سبيل مصالحهم شيء، والدوافع الموجدة للعقيدة الدينية شيء آخر، والبحث انّما هو في الثاني دون الأوّل، وما قاله الماركسيون يرجع إلى الأوّل دون الثاني، فالعقيدة حقيقة موجودة في طبيعة الإنسان ومختمرة بفطرته، وقد استغلّها بعض الأشخاص لمصلحته، وهذا واقع في أشياء أُخرى أيضاً، كما في الطب وأشباهه، فلا يصحّ أن يقال: انّ الطب قضيّة مخترعة لا واقع لها ولا ضرورة، لأنّ بعض الأشخاص أو بعض الأطباء استخدم الطب لاستدرار الأرباح، واستجرار المنافع من ورائها.

أو كما عبر عن ذلك [ويل ديورانت] بقوله: (إنّ الكاهن لم يخلق الدين خلقاً لكن استخدمه لأغراضه فقط كما يستخدم السياسي ما للإنسان من دوافع فطرية وعادات، فلم تنشأ العقيدة الدينية من تلفيقات وألاعيب كهنوتية انّما نشأت عن فطرة الإنسان بما فيها من تساؤل لا ينقطع)([7])

حادي عشر: لو سلّمنا جدلا بما ذكره الماركسيون من أنّ الدين كان يستخدم كوسيلة لمصلحة الأثرياء وإضعاف الفقراء، فإنّ ذلك إنّما يصحّ بالنسبة للمذاهب الّتي طالتها أيدي التحريف، أو الّتي أوجدها الاستعمار، ولا يصلح ذلك دليلاً لتعميم هذا الحكم على كافة الشرائع.

حيث أننا نجد في القرآن الكريم يزخر بتصريحات هامّة وواضحة للأنبياء السابقين ضد المستغِلّين، ونجد أيضاً كيف أنّ دعواتهم كانت ملجأ للمحرومين والمظلومين وسبيلاً إلى كسر شوكة الظالمين ودحر المستغِلّين، وإعادة الحقوق إلى أصحابها.

حيث نجد فيه عند ذكر الهدف من إرسال موسى عليه السلام قوله تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 4، 5]

ونجد فيه احتجاج موسى(عليه السلام) على فرعون استعباده لبني إسرائيل إذ يقول: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ } [الشعراء: 22]

وهكذا نجد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يتبعهم بسطاء الناس وفقراءهم، كما قال تعالى: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ } [الشعراء: 111]، وغيرها من الآيات التي تفيد أنّ الدعوات الإلهية كانت موجّهة ضد الطغاة والمستكبرين والظالمين، وضد المعتدين والمستغلين، ولهذا كان المحرومون يبادرون إلى تأييدها قبل أيّ جماعة أُخرى.

كما نجد القرآن الكريم يحثّ أتباعه على الإعداد العسكري لمواجهة أعدائهم من الذين لا ترضيهم تعاليم الإسلام العادلة، إذ يقول تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60]

كما هاجم المرابين الذين يستغلون حاجة الناس ويمتصون جهودهم بقوله: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة: 276]، وقوله: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ } [البقرة: 278، 279]

وندد بكانزي الثروة إذ قال: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ } [التوبة: 34، 35]

وغيرها من الآيات الكريمة التي تنهى عن الاستغلال والاستعباد، والّتي تدلّ على أنّ دعوات الأنبياء وجهودهم ركزت اهتماماً كبيراً على استنقاذ حقوق المحرومين وتخليصهم من الحرمان وحتّى باستعمال القوّة في بعض الحالات.

ثاني عشر: انّ الماركسيّين الذين ذهبوا إلى تعليل العقيدة الدينية بأنّها كانت آلة طيّعة لإخماد ثورة المستضعفين والكادحين، لعلّهم قصدوا بعض المفاهيم الخلقية في الدين الّتي ربّما تقع وسيلة بأيدي أصحاب الثروة لإخماد نائرة العمال والفلاحين المحرومين المضطهدين مثل:

أ ـ القضاء والقدر بمعنى الاستسلام والخنوع.

ب ـ الصبر بمعنى السكوت والخضوع للعدو.

ج ـ الزهد بمعنى الرغبة عن الدنيا وترك الفعاليات.

د ـ التوكل بمعنى ترك الأخذ بالأسباب الطبيعية.

غير أنّ تفسير هذه المفاهيم بما ذكروه ينمّ عن جهلهم بمعانيها الحقيقية أو تعاميهم عنها، فانّ لها من المعاني ما يجعلها خير وسيلة للتحرك والانطلاق، والثورة والانعتاق، لا الخمود والركود، والخضوع والعبودية كما زعموا.

4 ـ نظرية استمرار الحالة الطفولية:

وهي النظرية التي جاء بها (فرويد) وتنص على أن الإنسان عندما كان طفلاً كان يحس بالحاجة الشديدة إلى الحماية تجاه الأخطار المحيطة به بسبب ضعفه وعجزه، فكان يجد هذه الحماية عند أُمّه، ولمّا أدرك تفوّق الأب لجأ إليه، ولمّا أحسّ بعجز أبيه أيضاً تجاه الأخطار الكبرى مضى يبحث عن قوة أكبر أقدر على حمايته تجاه الحوادث حتّى يحلّه محلّ أبيه، وهكذا نشأت عنده فكرة الإله.

وهي ترى أن المجتمع وإن تخلّص اليوم من بعض ما يعلق بضمير الطفل من الحاجة في اللجوء إلى الأُم أو الأب حيث إنّه قد بلغ مرتبة كبيرة من البلوغ العقلي والفكري إلاّ أنّ اعتقاده بالله استمر لاستمرار الحالة الطفولية الّتي كانت تعلق بضمير المجتمعات الغابرة الّتي كانت من حيث العقل والفهم بمنزلة الطفل.

ومن الانتقادات التي وجهت لهذه النظرية بالإضافة لبعض الانتقادات السابقة التي يمكن أن يستفاد منها هنا:

أوّلاً: انّ صاحب هذا التحليل خلط بين (الدافع) والنتيجة المتحصّلة من ذلك الدافع من حيث القيمة، فلو أنّنا فرضنا صحة هذا التحليل وارتضينا ما يقول من أنّ الحالة الطفولية هي الّتي دفعت البشر إلى اتّخاذ العقيدة الدينية، ولكن ذلك لا يقلّل من أهمية العقيدة الدينية وإن كان الدافع إليها أمراً تافهاً، وذلك لما قلنا من أنّ الدافع وما يندفع إليه ليسا سواء ولا متحدين في القيمة، فربّما يكون الدافع أمراً تافهاً، ولكنّه يدفع الإنسان إلى أمر ذي بال، كما لو دفعت الحرب إلى اختراع أجهزة مفيدة، أو دفعت غريزة طلب الجاه أو الشهرة أو الثروة إلى ابتداع مكتشفات نافعة.

ثانياً: أنّ هذه النظرية وسابقاتها من قبيل التحليل القائم على أمر غير ثابت أبداً، بل ممّا ثبت خلافه، وهو أنّ العقيدة الدينية أمر موهوم لا علّة له من فطرة أو عقل، ولمّا كانت العقيدة عندهم أمراً موهوماً أخذ يشرّق أصحاب هذه النظريات ويغربون، ويحاولون ان ينحتوا لنشوء هذا الأمر الموهوم علّة، وهم يرون بأنّ نشوء العقيدة الدينية من قبيل الاعتقاد بنحوسة العدد 13، ونعيب الغراب، وما شا كل ذلك.

ولكن وصف (العقيدة الدينية) بذلك وجعلها في عداد الأوهام والخرافات من أسوأ المواقف تجاه الحقائق، فإنّ للعقيدة الدينية علّة فطرية، وأُخرى منطقية، ولهذا لا مجال لنحت الفرضيات لتفسير وجودها ونشوئها والسماح للخيال بابتداع التبريرات والعلل.

ثالثاً: أنّ هذا التحليل سيف ذو حدّين، لأنّ الظاهر منه هو أنّ صاحبه يعيد عقائد الناس إلى العقد الروحية الّتي تعلق بالنفس الإنسانية في فترات من عمر الإنسان، فلو صحّ ذلك فلماذا لا تصحّ هذه النظرية بالنسبة إلى نفس هذه العقيدة التي اختارها المحلّل تجاه الدين ومفاهيمه، حيث ذكر أن العقيدة الدينية ترجع في ابتدائها إلى عقدة روحية، فلماذا لا يكون إلحاد هذا المحلّل (وهو فرويد) وخصومته مع الله سبحانه راجع إلى عقدة روحية أُصيب بها في فترة معيّنة من فترات عمره؟!

والناظر في أمثال هذه التحليلات لا يشك في أنّ كل واحد من المحلّلين قد نظر إلى العقيدة السائدة في عصره وبيئته فجعلها مقياساً لتحليله، ومعياراً لتقييمه.

ولم يكن أُولئك المحلّلون ذوي خبرة وإلمام بالشرائع والعقائد السماوية حتّى يميّزوا المحرّف عن غيره والصحيح عن السقيم، كما عرفت.

رابعاً: انّ هناك شخصيات بارزة في التاريخ الغابرو كذا في العصر الحاضر يعتقدون بالله سبحانه، ويعبدونه لكونه المثل الأعلى للكمال والجمال، وغير ذلك من الصفات العليا لا لكونه يقوم مقام الأب في إزالة الخوف عنهم، وتوفير الحماية اللازمة لهم.

5 ـ نظرية توارث العقيدة:

وهي النظرية التي تفسر وجود العقيدة الدينية في الحياة البشرية بكون العقيدة الدينية أمرا فكريا ورثته الأجيال اللاحقة من الأجيال السابقة حتّى وصلت إلى عصرنا الحاضر، وبهذا أراح أصحاب هذه النظرية أنفسهم، وظنّوا بأنّهم اهتدوا إلى تحليل سليم في هذا المجال.

ومن الانتقادات التي وجهت لهذه النظرية:

أوّلاً: انّ غاية ما تفيده، وتثبته هذه النظرية ـ على فرض صحّتها ـ هو أنّ علّة انتقال العقيدة من الأجيال السابقة إلى اللاحقة، وتواجدها في جميع العصور هو (التوارث الفكري) وهو أمر لا يرتبط بتفسير (نشوء العقيدة الدينية) أساساً، فما ذكروه يعلّل وجود العقيدة الدينية في الأجيال المتلاحقة، لا نشوء العقيدة ابتداءً.

ثانياً: أنّ سريان العقيدة الدينية وسيادتها في جميع الأجيال يكشف عن أنّ العقيدة الدينية من الأُمور الملازمة للروح والفكر البشري بحيث لا يعقل انفكاكها عنهما، فهي تماماً مثل الأكل والشرب والملبس وغيرها من الفعاليات والحاجات الجسدية الّتي لا تفارق البشر ولا تنفك عنهم.

ومثل هذا الحضور الدائم للعقيدة الدينية في الفكر البشري والحياة العقلية الإنسانية منذ العصر الحجري وإلى عصر الفضاء هذا يكشف عن واقعية هذا الأمر، إذ لا يمكن أن يكون لشيء ما مثل ذلك الحضور الشامل لولا كونه كذلك.

ثانيا ـ الرؤية الإيمانية لمصدر الدين:

على خلاف النظرة الإلحادية التي اضطربت في تفسير سر نشوء الأديان وانتشارها، نرى الرؤية الدينية واضحة في هذا المجال، ومتفق عليها في أكثر الأديان، وهي كونها نتيجة لتواصل الله مع عباده لهدايتهم وتعريفهم بحقيقة الكون الذي يعيشون فيه، وحقيقة الوظائف التي تناط بهم في هذه النشأة، مع تعريفهم بحقائق الوجود ومصيرهم، وكل الأسئلة التي تسألها عقولهم وفطرهم، ولم يستطيعوا الإجابة عنها.

وللاستدلال لهذا المصدر جانبان:

جانب عقلي مجرد: يراد منه إثباب إمكانية النبوة ووجوبها، وأن الله الذي خلق هذا الكون ووفر فيه كل أصناف الحاجات يستحيل أن يترك خلقه من دون هداية، ويبحث هذا عادة فيما يسمى بالنبوة العامة، أي البحث عن مطلق النبوة، من دون تخصيص بنبيٍّ دون نبي.

جانب عقلي واقعي: يراد منه إثبات وجود النبوة واقعا، والاستدلال لها بالأدلة العقلية المثبتة لذلك، مع وضع الضوابط المميزة للنبوة الكاذبة من النبوة الصادقة، ويبحث هذا عادة فيما يسمى النبوة الخاصة، أي إثبات نبي خاص، كنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

وسنتحدث هنا باختصار بعض ما ذكره المتكلمون في هذه الأنواع من الاستدلالات مع العلم أننا خصصنا لها سلسلة كاملة، وهي سلسلة [حقائق ورقائق] التي وضعنا فيها البراهين المختلفة لإثبات النبوة، والرد على الشبهات المختلفة المرتبطة بها، وذلك في قالب روائي حواري مبسط ([8]).

وقد اعتمدنا بالدرجة الأولى في هذا المبحث على ما كتبه العلامة الكبير الشيخ جعفر السبحاني في كتابه القيم [الالهيات على هدى الكتاب والسنة والعقل]([9])، فهو كتاب طرح في جزئه الثالث أصناف الأدلة التي قررها المتكلمون بأحسن طريقة، بالإضافة إلى تبسيطها وربطها بالواقع، وبالقرآن الكريم، كعادته في جميع مؤلفاته القيمة.

1 ـ الأدلة العقلية العامة:

وهي الأدلة التي استعملها المتكلمون في مواجهة منكري النبوة، وخصوصا من المؤمنين منهم بالله، أو أولئك الذين يطلق عليهم [الربوبيون ([10])]، والذين يتبنون الفلسفة الربوبية، وهي مذهب فكري لا ديني يؤمن بوجود خالق عظيم خلق الكون، وأنه يمكن التعرف عليه باستخدام العقل ومراقبة العالم الطبيعي وحده دون الحاجة إلى أي دين.

ومعظم الربوبيين يميلون إلى رفض فكرة التدخل الإلهي في الشؤون الإنسانية كالمعجزات والوحي، ولذلك لا يؤمنون بالمسيحية واليهودية والإسلام وباقي الديانات التي تستند على المعجزات والوحي، بل يرفضون فكرة أن الاله كشف نفسه للإنسانية عن طريق كتب مقدسة.

وهم يذكرون أن الله أو [الإله] أو [المهندس العظيم الذي بنى الكون] لديه خطة لهذا الكون لا تغيير سواء بتدخل الله في شؤون الحياة البشرية أو من خلال تعليق القوانين الطبيعية للكون.

ولذلك يتفق الربوبيون مع الملاحدة في كون الأديان مجرد تفسيرات صادرة عن البشر بدلا من مصادر موثوقة.

والرد على هؤلاء يستدعي بحوثا كثيرة ذكرها المتكلمون لا علاقة كبيرة لها بما نحن فيه، لأن غرضنا من هذا الكتاب هو الرد على الإلحاد، الذي هو إنكار وجود الله.

ولكنا مع ذلك سنختصر ما ذكره المتكلمون هنا، باعتباره أيضا من الأدلة على وجود الله، فمن أعظم أدلة وجود الله إعلان الله عن نفسه عن طريق أنبيائه وكتبه المقدسة.

وبناء على هذا، فإن المتكلمين ردوا على كل تلك الشبهات الي يثيرها الربوبيون حول الحاجة إلى النبي، ومنها ادعاؤهم أن (الرسول إما أن يأتي بما يوافق العقول أو بما يخالفها. فإن جاء بما يوافق العقول، لم يكن إليه حاجة، ولا فائدة فيه. وإن جاء بما يخالف العقول، وجب ردّ قوله)، أو بعبارة أخرى: (إنّ الّذي يأتي به الرسول لا يخلو من أحد أمرين: إمّا أن يكون معقولاً، وإمّا أن لا يكون معقولاً.. فإن كان معقولاً، فقد كفانا العقل التام بإدراكه والوصول إليه، فأي حاجة لنا إلى الرسول. وإن لم يكن معقولاً، فلا يكون مقبولاً. إذ قبول ماليس بمعقول، خروجٌ عن حد الإِنسانية ودخولٌ في حريم البهيمية)

والجواب على هذا هو أن حصر ما يأتي به الرسول بموافق العقول ومخالفها، حصر غير حاصر، ذلك أن هنالك شقاً ثالثاً وهو إتيانهم بما لا يصل إليه العقل بالطاقات الميسورة له، فعقل الإنسان وتفكّره قاصر عن نيل الكثير من المسائل.

ومن الشبهات التي ذكرها الربوبيون أيضا ادعاؤهم أن (العقل قد دل على أن الله تعالى حكيم، والحكيم لا يتعبّد الخلق الاّ بما تدل عليه عقولهم، وقد دلّت الدلائل العقلية على أن للعالم صانعاً عالماً قادراً حكيماً، وأنه أنعم على عباده نعماً توجب الشكر. فننظر في آيات خلقه بعقولنا، ونشكره بآلائه علينا. وإذا عرفناه وشكرنا له، إستوجبنا ثوابه. وإذا أنكرناه وكفرنا به، إستوجبنا عقابه. فما بالنا نّتبع بشراً مثلنا؟)

والجواب على هذا هو ـ بالإضافة إلى ما ذكر في رد الشبهة الأولى ـ هو أن كثيراً من الناس لا يعرفون كيفية الشكر، فربما يتصورون أن عبادة المقرَّبين نوع شكر لله سبحانه. فلأجل ذلك ترى عبدة الأصنام والأوثان يعتقدون أن عبادتهم للمخلوق شيئاً موجباً للتقرّب.

بالإضافة إلى أن تخصيص برامج الأنبياء بالأمر بالشكر والنهي عن كفران النعمة، غفلة عن أهدافهم السامية، ذلك أنهم جاءوا لإسعاد البشر في حياتهم الفردية والاجتماعية، ولا تختص رسالتهم بالأوراد والأذكار، وإنما لأهداف أخرى أكبر بكثير.

ومن الشبهات التي ذكرها الربوبيون أيضا ادعاؤهم أن (العقل دل على أن للعالم صانعاً حكيماً، والحكيم لا يتعبدّ الخلق بما يَقْبُح في عقولهم، وقد وردت أصحاب الشرائع بمستقبحات من حيث العقول، كالتوجه إلى بيت مخصوص في العبادة، والطواف حوله، والسعي، ورمي الجمار، والإِحرام، والتلبية، وتقبيل الحجر الأصمّ. وكذلك ذبح الحيوان، وتحريم ما يكون غذاءً للإنسان، وتحليل ما يُنقص من بنيته)

والجواب على هذا هو ـ بالإضافة إلى ما ذكر في رد الشبهات السابقة ـ هو أن هذا الدليل مبني على الجهل بمصالح الأحكام ومفاسدها، ولذلك فإن زعم هذا المنكر أن ما جاء في شريعة الإسلام من حج بيت الله الحرام بآدابه الكثيرة، أمر على خلاف العقل، ولكن الدارس لفلسفة الحج، يقف على عظيم المصالح والمنافع الّتي يتضمنها، والمجال لا يسمح باستقصائها.

فالتوجه إلى البيت ـ مثلا ـ رمز الوحدة بين المسلمين في جميع أقطار المعمورة، ولو تعددت وجهاتهم في أداء مراسمهم العبادية، لسادت الفوضى فيهم ووقع الإِنشقاق بينهم في القطر الواحد فضلاً عن سائر الأقطار.

وهكذا الحال في بقية المراسم العبادية، والواجبات والمنهيات الشرعية. وقد كشف العلم الحديث عن الفوائد العظيمة الّتي تشتمل عليها بعض الواجبات الشرعية كالصوم. والمضار الكبيرة الّتي تشتمل عليها بعض المنهيات الشرعية كأكل لحم الخنزير وشرب الخمر وغيرهما.

بناء على هذا، فإن العناية الإلهية التي وفرت لكل شيء حاجاته التي يعتمد عليها، وأضافت إلى ذلك الكثير من الكماليات التي تُسهِّل عليه معيشتَه وتكاملَه في الحياة، تقتضي توفير هذا النوع من الهداية، بل هو أولى من الكثير من الكماليات.. فهل يمكن لخالق الإنسان أن يسهَل له كل طرق التكامل الظاهرية، ثم يترك ما هو دخيل في تكامله الروحي والمعنوي؟.. وهل يمكن لأحد أن ينكر دور الأنبياء في تكامل الإنسان، ولو على وزان دور الخطوط في بواطن الأنامل على الأقل؟.. أو يصح من الخالق الحكيم أن يهب له تلك الأجهزة المُؤَثِّرة في كمالاته المادية، ويترك ما هو مؤثر في تكامل روحه وفكره؟.

وقد أشار إلى هذا البرهان ابن سينا، فقال: (الحاجة إلى هذا (بعث النبي) في أن يبقى نوع الإنسان ويتحصَّل وجوده، أشدّ من الحاجة إلى نبات الشعر على الأشفار وعلى الحاجبين، وتقصير الأخمص من القدمين، وأشياء أُخرى من المنافع الّتي لا ضرورة إليها في البقاء… فلا يجوز أن تكون العناية الأُولى تقضي تلك المنافع، ولا تقضي هذه الّتي هي أُسُّها)([11])

وأشار إليه صدر المتألهين بقوله: (إن ذاته سبحانه منبع الخيرات ومنشأ الكمالات، فيصدر منه كل ما يصدر على أقصى ما يتصور في حقه من الخير والكمال، والزينة والجمال، سواء أكان ضرورياً له، كوجود العقل للإنسان والنبي للأُمة. وغير ضروري، كإنبات الشعر على الأشفار والحاجبين، وتقصير الأخمص من القدمين)([12])

واستدل القاضي عبد الجبار لهذا بقوله: (إنه تعالى كلّف المكّلف، وكان غرضه بذلك تعريضه إلى درجة الثواب، وعلم أن في مقدوره ما لو فعل به لاختار عنده الواجب، واجتنب القبيح، فلا بد من أن يفعل به ذلك الفعل وإلا عاد بالنقض على غرضه، وصار الحال فيه كالحال في أحدنا إذا أراد من بعض أصدقائه أن يجيبه إلى طعام قد أتخذه، وعلم من حاله أنه لا يجيبه، إلا إذا بعث إليه بعض أعزته من ولد أو غيره، فإنه يجب عليه أن يبعث، حتى إذا لم يفعل عاد بالنقض على غرضه. وكذلك ها هنا)([13])

وقال الفاضل المقداد: (إنا بيَّنّا أنه تعالى مريد للطاعة وكاره للمعصية، فإذا علم أن المكلف لا يختار الطاعة، أو لا يترك المعصية، أو لا يكون أقرب إلى ذلك إلا عند فعل يفعله به، وذلك الفعل ليس فيه مشقة ولا غضاضة، فإنه يجب في حكمته أن يفعله، إذا لو لم يفعله لكشف ذلك: إما عدم إرادته لذلك الفعل، وهو باطل لما تقدم، أو عن نقض غرضه، إذا كان مريداً له، لكن ثبت كونه مريداً له فيكون ناقضاً لغرضه.. ويجري ذلك في الشاهد مجرى من أراد حضور شخص إلى وليمة، وعرف أو غلب على ظنه أن ذلك الشخص لا يحضر إلا مع فعل يفعله، من إرسال رسول أو نوع أدب أو بشاشة أو غير ذلك من الأفعال، ولا غضاضة عليه في فعل ذلك فمتى لم يفعل عُدّ ناقضاً لغرضه.. ونقض الغرض باطل، لأنه نقص، والنقص عليه تعالى محال، ولأن العقلاء يعدونه سَفَهاً وهو ينافي الحكمة)([14])

وأشار إليه قبل ذلك كله الإمام علي، فقال: (أيها الناس، إن الله تبارك وتعالى لما خلق خلقه أراد أن يكونوا على آداب رفيعة وأخلاق شريفة، فعلم أنهم لم يكونوا كذلك إلا بأَن يعرّفهم مالهم وما عليهم، والتعريف لا يكون إلا بالأمر والنهي، والأمر والنهي لا يجتمعان إلا بالوعد والوعيد، والوعد لا يكون إلا بالترغيب، والوعيد لا يكون إلا بالترهيب، والترغيب لا يكون إلا بما تشتهيه أنفسهم وتلذه أعينهم، والترهيب لا يكون إلا بضد ذلك..)([15])

بناء على هذا؛ فإن هناك ثلاث حاجات أساسية لا يمكن تحقيقها من دون تواصل الله تعالى مع خلقه عبر أنبيائه، وهي:

أ ـ الحاجة إلى معرفة حقائق الوجود:

فالإنسان رغم التقدم الّذي أحرزه في الكثير من العلوم إلا أن ما أحرزه ضئيل جداً أمام أسرار الكون العظيم، وممّا يوضح قصور العلم البشري في هذا المجال أننا نجد ملايين البشر على مستوى راق في الصناعات والعلوم الطبيعية، إلى حد أوقعوا العالم في إسارة استهلاك مصنوعاتهم، ومع ذلك فهم في الدرجة السفلى في المعارف الالهية.

وقد بلغ الحد في اليابان أن جعلوا لكل حادثة ربّاً، حتى أن هناك رباً باسم (رب الزواج)، يتوسل إليه البنات الذين تأخروا في الزواج، ليؤمن لهم الأزواج المناسبين، وبالهند مئات الملايين يقدسون (البقر)

فإذا كان هذا هو حال المعارف الإلهية في عصر الفضاء والذرة، وبعد ما جاءت الرسل تترى لهداية البشر، فما هو حالها لولا الهداية الإلهية عن طريق الرسل؟

نعم، هناك نوابغ في التاريخ عرفوا الحق وتعرفوا عليه عن طريق التفكير والتعقل، كسقراط وأفلاطون وأرسطو، لكنهم أُناس استثنائيون، لا يعدون معياراً في البحث، ولا ميزاناً في نفي لزوم البعثة، وكونهم عارفين بالتوحيد، لا يكون دليلاً على مقدرة الآخرين عليه، على أنه من المحتمل جداً أن يكون وقوفهم على هذه المعارف في ظل ما وصل اليهم من التعاليم السماوية عن طريق رسله سبحانه وأنبيائه.

ب ـ الحاجة إلى معرفة سنن الكون ونواميسه ونظامه:

لا يقتصر دور الأنبياء على تعريف البشر بحقائق الوجود، بل من أهدافهم الكبرى تعريفهم بالسنن والنواميس والقوانين التي يسير الكون على أساسها، والتي لا يمكن للعقل المجرد أن يصل إليها بدون سند إلهي.

فالمجتمع الإنساني ـ مع ما بلغه من الغرور العلمي ـ لم يقف بعد على ألفباء الأقتصاد. فقد انقسم العالم الحديث إلى طائفتين: واحدة تزعم أن سعادة البشرية في نظام الرأسمالية والإقتصاد الحر المطلق، وانه هو العامل الوحيد لرفاه المجتمعات وتفجّر الطاقات. والأخرى تدّعي أنّ سعادة البشر في النظام الاشتراكي بدءً والشيوعي غايةً، فالسعادة كلها في سلب الملكية عن أدوات الإنتاج وتفويضها إلى الدولة الحاكمة.

فلو كان الإنسان قادراً بحق على تشخيص المصالح والمفاسد، وما ينفعه وما يضره، لما حصل هذا الإختلاف، الّذي انجر إلى انقسام خطير بين دول العالم.

وكما أن الإنسان لم يصل إلى النظام الاقتصادي النافع له، فهو كذلك لم يصل إلى وفاق في مجال الأخلاق وقد تعددت المناهج الأخلاقية في العصر الأخير إلى حد التضاد فيما بينها.

وكمثال على ذلك نرى الشيوعية تدعي لنفسها منهجاً أخلاقياً من أُصوله أن الإنسان لا يكون شيوعياً إلا بالتضحية بكل شيء لبناء صرح حكومة العمال في العالم، وكل ما كان يصبّ في هذا المنحى فهو من الأخلاق الفاضلة، وإن كان ذلك إعداماً، وتدميراً وسرقة واختلاساً، كما عبر لينين عن ذلك بقوله: (إن الشيوعي هو من يتحمل كل التضحيات ويلجأ إلى انواع الحيل والأفعال غير المشروعة، ليجد لنفسه موضعاً، وموطيء قدم في الإِتحاديات التجارية)([16])

فإذا كان هذا حال الإنسان في معرفة المسائل الابتدائية في الاقتصاد والأخلاق، فما ظنك بحاله في المسائل المبنية على أُسس تلك العلوم. أفبعد هذا الجهل المطبق يصح لنا أن نقول إن الانسان غني عن الوحي في سلوك طريق الحياة؟

وبناء على هذا، فإن البشر يحتاجون إلى من ينظم لهم حياتهم، ويكشف لهم عن القوانين والنظم التي يسير عليها الكون والحياة، والتي يحققون بموجبها غاية خلقهم، والهدف من إيجادهم.

ج ـ الحاجة إلى الهداية والتزكية:

ذلك أنه لا تكتمل ولا تتوازن حياة الإنسان إلا إذا عاش على مقتضى متطلبات الفطرة ومتوخيات الغرائز، بل العيش على خلاف هذه المتقضيات يؤدي بالحياة البشرية إلى الهلاك، وما مثل هذا إلا كالسابح في عكس تيار الماء، لن تكون عاقبته إلا الإرهاق وانهيار القوى فيتوقف عن السباحة ويبتلعه الماء.

ومن جملة الأمور الفطرية المودعة في وجود الإنسان، والّتي تتفجر في أوائل البلوغ والتمييز معرفةُ الله سبحانه، والميل إلى الأمور الحسنة، والانزجار عن الأمور السيئة، ولأجل ذلك لاترى إنساناً ـ لم يقع تحت تأثير الأهواء وعوامل الانحراف ـ يَعُدُّ ردّ الامانة قبيحاً، والخيانة بها كرامة، كما لا يعد العمل بالعهد أمراً سيئاً، ونقضه أمراً حسناً، وهكذا الكثير من الأمور كالميل إلى العفة والعدالة والإنزجار عن الدناسة والخيانة.. وكل ذلك ممّا يلمسه الإنسان في حياته ويعايشه في وجدانه، وقد كشف عنه العلم الحديث وأيّده.

لكن هذه الغرائز ـ وإن كان بها قوام الحياة ـ قد تخرج عن فطريتها، وتحتاج إلى تهذيب وتزكية وتربية، مثلها مثل الثلوج المتراكمة على قمم الجبال إنما يمكن الإنتفاع بها إذا كان هناك جداول وقنوات تمتد من رأس كلّ جبل إلى السهول المحيطة به، فتسيل فيها مياه الثلوج الذائبة بالتدريج. وفي غير تلك الصورة يسيل الماء كيف كان، جارفاً في طريقه الاحجار والصخور، وربما أنقلب إلى سيل جارف يدمّر كلَّ شيء أمامه.

وكذلك الفِضَل المغروسة، أو البذور المنثورة على الأرض، تحمل في ذواتها قوى واستعدادات، إلا أنَّ تفجُّر تلك الطاقات يحتاج إلى من يتعهدها حراسةً وسقايةً وعنايةً على النحو المأنوس، وعندها تصير الفِصل أشجاراً مثمرة، والبذور سنابل ذهبية.

فإذا كانت الإستفادة من الثلوج المتراكمة على الجبال، والفصل المغروسة والبذور المنثورة على الأرض، متوقفاً على هداية خاصّة، حتى تصب في مجراها الصحيح، وتَرْشُدَ على نهجها الطبيعي، فكذلك الأمر في السجايا الإنسانية والغرائز البشرية الكامنة في وجود الإنسان، فإنها لن تعود عليه بالنفع والصلاح إلا في ظل هداية تمنعها من الإفراط والتفريط، وتسيّرها في ما هو صالح البدن والروح.

وكمثال على ذلك غريزة الميل إلى عوالم الغيبية، فان لها جذوراً في عمق وجود الإنسان، ولم يزل كل انسان من صباه إلى كهولته ميّالاً إلى تلك العوالم، شغوفاً بحب الاطلاع عليها، والخضوع لها، لكن هذا الميل إذا لم يقع في إطار الهداية والتوجيه الإلهي، يسفّ بالإنسان إلى الحضيض، ويصنع منه عابداً للحجر والخشب والعجماوات، خاضعاً للشمس والقمر والنار.

لكنها إذا كانت تحت ظل هداية إلهية، تتجلى بمظهر التوحيد، وأَنّ للعالم بأسره إلها واحداً أحداً عالماً، قادراً، محيطاً بكل شيء، جامعاً لكل صفات الكمال والجمال.

وهكذا الحال مع الميول الطبيعية، كالميل إلى الزواج والتسلط على المناصب والتكاثر في الأموال، فلو تركت هذه الغرائز من غير تهذيب، لتحول الإنسان إلى حيوان ضار، مدمر لكل شيء بغية تحصيل المال والاستبداد بالمناصب.

وأما لو كبح جماحها، وعدّلت ميولها بهداية تحدد مجاريها وتُرشد صاحبها إلى كيفية الإستفادة منها، لصار موجوداً عاقلاً متكاملاً سعيداً في حياته، متآلفاً ومتآزراً مع سائر بني نوعه، لبناء المجتمع الصالح.

وبناء على هاتين المقدمتين احتاجت البشرية إلى من يقوم بهذه المهمة؛ فالعقل، مع الإعتراف بأنه يضيء الطريق أمام الإنسان، ويأخذ بيده في المزلاّت والمزالق، إلا أنه قاصر عن مصارعة الغرائز المتفجرة وكبح ثورانها، فإن كلَّ إِنسان يعلم من نفسه أن غرائزه وميوله الشهوية إذا تفجرت، لم تترك للعقل ضياءً ولا للفكر نوراً، بل كان مثل العقل حينذاك مثل الإنسان المبصر إذا وقع في مهب الرياح والزوابع الرملية، فإنها تَكُفُّ بَصَرَه عن الرؤية وتُعَرْقِل مسيرهُ.

وفي تلك الحالات، لا ينفك العقل عن خداع صاحبه لتبرير عمله، وإيجاد الذرائع لارتكابه، بحيث لوكان هذا الإنسان في موقف عادي خال عن ذلك الثوران في العواطف والغرائز لما اعتنى بشي من تلك التسويلات، ولذلك لا تجد مجرماً يقوم بجناية إلاّ وهو يلقي لنفسه الأعذار والتبريرات حين إقدامه عليها.

وكيثراً ما يستهين الإنسان في تلك الحالات ـ على فرض التفاته إلى خطورة وقبح ما يقوم به ـ بما يترتب عليه من الذم واللوم والعقاب، قضاءً لوَطره منه، وإشباعاً لشهوته ممّا يناله من اللذائذ المادية.

وأما رجالات الأخلاق والإجتماع، فمع أنّ لهم دوراً في تهذيب النفوس ودفعها إلى الكمال، وكبح جماح غرائزها على الإجمال، إلا أَنّ عملهم لا يخلو عن نقائص ربما تَذْهَبُ بأعمالهم أدراج الرياح.

أما أولاً، فلأنَّ شرط التربية، الوقوف على رموز الخلقة، والتعرف على خصوصيات من ترجى تربيته. وليس لهذه الشخصيات، العلم المحيط بخصوصيات الإنسان، لا لقلة عملهم وضيق أَفكارهم، بل لعظمة الإنسان في روحه ومعنوياته، وغرائزه وفطرياته، وهو أشبه ببحر كبير لا يرى ساحله، ولا يضاء محيطه. وقد خفيت كثير من جوانب حياته ورموز وجوده، حتى لقُّب بـ (الموجود المجهول)

ويُصدِّق ضالة هذه المعرفة، تزايدُ الفساد وارتفاع نسبته في أقطار العالم عبر نفس المناهج التربوية الّتي تصّوبها تلك الشخصيات المرموقة في عالم التربية.

وأما ثانياً، فَلأن الحجر الأساس لتأثير التربية، أنْ يكون المربي إنساناً كاملاً وموجوداً مثالياً، يتمتع بسمو الأخلاق والملكات، فيجذب بها القلوب، ويشد إليها النفوس.

ومن المعلوم أن واضعي المناهج التربوية في العالم، وإن كانوا خبراء في مجال تخصُّصِّهم، إلا أنّهم فاقدون لهذا الشرط الأساس، فهم يوصون ببسط العدل، وحماية المستضعف، وترك الخمر والقمار، ومع ذلك هم مرتكبون لها، واقعون فيها.

ولا يشذ عنهم إلا من كان مراعياً للدين متمسكاً بأهدابه، ولكن الفضل حيئنذ لا يعود إليه بل إلى صاحب الشريعة الّذي سَنَّ تلك البرامج والمناهج.

وأما ثالثاً، فلأن المناهج التربوية لا تؤتي ثمارها إلا إذا كانت منتسبة إلى الخالق سبحانه، فإنّ هذا يمنحها ضمان الإجراء والتجسّد في المجتمع لارتباطهابعوامل التشويق إلى الثواب والتحذير من العقاب، وإلا فلن تعدو مجموعة نصائح شخصية أو مدرسية، ما أسرع ما تتهاوى أمام ضربات معاول الشهوة الثائرة.

ومجموع ما ذكرناه يدلنا على أن مهمة هداية الغرائز والفطريات، الّتي تصنع من الإنسان موجوداً عارفاً بالنُّظُام، مؤمناً بالمناهج، مجرياً لها في ليله ونهاره، وسّره وإعلانه، لا تتم إلا بيد رسل مبعوثين من جانب خالق البشر، بمناهج كاملة أنزلها إليهم، وحفّها بدوافع الطاعة من المغريات بالثواب والمحذّرات من العقاب.

2 ـ الأدلة العقلية الخاصة:

بناء على ما سبق؛ فقد ظهرت الحاجة إلى البحث عن المصاديق الذين تتوفر فيهم الخصائص الكافية للقيام بهذا الدور، وطبعا فإن أي إنسان لا يمكنه أن يقبل ادعاءات الآخرين بلا دليل يثبتها، وإلا خالف فطرته، كما قال ابن سينا: (من قبل دعوى المدعي بلا بيّنة وبرهان، فقد خرج عن الفطرة الإنسانية)

وبناء على هذه ظهرت الحاجة إلى وضع ضوابط تحمي هذه الوظيفة الخطيرة التي يتوقف عليها فهم كل حقائق الوجود وأنظمته وقوانينه وقيمه، ثم تطبيقها على جميع من يدعي النبوة، لتمييز الصادق من الكاذب، والمحق من المبطل.

والفرق بين المؤمنين في هذا وبين غيرهم، هو أن المؤمنين التمسوا طرقا علمية للتحقيق، يوافق عليها العقل والفطرة، بينما راح الملاحد والربوبيون يحكمون حكما عاما على كل مدعي النبوة بناء على أخطاء وجدوها، وهذا خلاف ما يقتضيه المنهج العلمي.

ومن الضوابط التي وضعها العلماء لإثبات صحة النبوة:

أ ـ ادعاء النبوة:

فلا يكفي أن يكون الشخص مشهورا أو عظيما في عيون الناس حتى نعتبره واسطة هداية من الله لعباده، بل يجب أن يقترن ذلك بادعائه لهذه الوساطة، لننظر بعدها في إمكانية توفره على شروط هذه الوساطة.

وهذا الضابط يخرج أكثر من عرفتهم البشرية من شخصيات عظيمة مشهورة، قد يتوهم أن لها دورا في تعريف الخلق بحقائق الوجود، أو هدايتهم إلى سننه ونواميسه.

فيخرج بهذا الضابط كل الملوك الجبابرة، وكل قادة الجيوش، وكل الحكماء والفلاسفة وكل الشعراء والأدباء، ذلك أنهم جميعا لم يدعو النبوة، ولم يذكروا أن ما جاءوا به من عند الله([17]).

ب ـ الإتيان بالمعجزة:

وهو من الضوابط التي اتفقت عليها الفطر، ودل عليها العقل، وأثبتها القرآن الكريم، فقد ورد فيه النصوص الكثيرة الدالة على أن من معايير وضوابط تمييز النبي عن المتنبي تَجهّز المدّعي بالإعجاز، وإتيانه بخوارق العادة، متحدياً بها غيره على وجه لايقدر أحد على مقاومته، حتى نوابغ البشر.

ولأجل ذلك لمّا ادّعى صالح ـ عليه السَّلام ـ النبوّة، قوبل بجواب قومه: {مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } [الشعراء: 154]، فأجابهم صالح ـ عليه السَّلام ـ لطلبهم، ولو كان طلبهم غير معقول لما أجابهم، فقد قال تعالى تعقيبا على الآية السابقة: {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء: 155، 156]

وهكذا ذكر القرآن الكريم أن الأنبياء عليهم السلام يخبرون الناس بتجهيزهم بالمعجزات عند طرحهم دعوى النبوة، قبل أن يطلبها الناس منهم، كما قال موسى عليه السلام مخاطباً فرعون: {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ } [الأعراف: 105]

وقد ورد في القرآن الكريم أن فرعون طالب بالبينة، وهو دليل على أن الفطر والعقول تقتضي ذلك، قال تعالى: { قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الأعراف: 106]

وهكذا أخبر الله تعالى عن المسيح ـ عليه السَّلام ـ أنه جاء بالمعجزات الدالة على صدقه، قال تعالى: {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 49]

والمراد من المعجزة ـ كما عرفها المتكلمون ـ: (أمر خارق للعادة، مقرون بالتحدي، مع عدم المعارضة) ([18]).

فالمعجزة ـ حسب هذا التعريف ـ أمر خارق للعادة، وليس خارقاً للعقل، فالمعجزة لا تضاد حكم العقل الباتّ، كاجتماع النقيضين وارتفاعهما، ووجود المعلول بلا علّة، وانقسام الثلاثة إلى عددين صحيحين، لأن هذه أمور يحكم العقل باستحالتها وامتناع تحققها، وإنما هي خارقة للقواعد العادية، أي أنّها تعدّ محالاً حسب الأدوات والأجهزة العادية، والمجاري الطبيعية.

وكمثال تقريبي على هذا ما جرت العادة عليه من أنّ حركة جسم من مكان إلى مكان آخر تتحقق في إطار عوامل وأسباب طبيعية بدائية أو وسائل صناعية متحضرة، ولكن لم تعرف العادة أبداً حركة جسم كبير من مكان إلى مكان آخر بعيد عنه، في فترة زمانية لا تزيد على طرفة العين، بلا تلك الوسائط العادية، ولكن هذا غير ممتنع عقلاً، إذ لا يمتنع أن تكون هناك أسباب أخرى لتحريك هذا الجسم الكبير، لم يقف عليها العلم بعد.

ومن الأمثلة على هذا أنّ معالجة الأمراض الصعبة كالسِّل والعَمَى، أمر ممكن لذاته عقلاً، ولكنه كان أمراً محالاً عادة في القرون السالفة، لقصور علم البشر عن الوقوف على الأجهزة والأدوية الّتي تعيد الصحة إلى المسلول، والبصر إلى الأعمى، ومع تقدم العلم تذلّلت الصعاب أمام معالجة هذه الأمراض، فصار بإمكان الطبيب الماهر القيام بالمعالجة عن طريق الأدوية والعمليات الجراحية، وفي المقابل هناك طريقة أخرى للعلاج، وهي الدعاء والتوسّل إلى الخالق تعالى.

والعلاج ـ بكلا الطريقتين ـ يشترك في كونه أمراً ممكناً عقلاً، غير أنّه يختلف في الطريقة الأولى عن الثانية، بالطريق والسبب، فالطبيب الماهر يصل إلى غايته بالأجهزة العادية، فلا يعد عمله معجزة ولا كرامة، والنبي ـ كالمسيح وغيره ـ يصل إلى نفس تلك الغاية عن طريق غير عادي، فيسمى معجزة.

فالعمل في كلتا الصورتين غير خارق لأحكام العقل، إلاّ أنّه موافق للعادة في الأولى دون الثانية، ويقاس على هذا كل معجزات الأنبياء عليهم السلام التي تتميز بكونها خارقة للعادة غير خارقة للعقل.

والقيد الثاني في التعريف هو ارتباط الإعجاز بالدعوى، فإذا لم يرتبط بذلك لم يعتبر صاحبه نبيا، كما ذكرنا ذلك في الضابط الأول، ويخرج بهذا الضابط الكرامات والخوارق التي أجراها الله على لسان أوليائه أو غيرهم.

والقيد الثاني في التعريف هو عجز الناس عن مقابلته، وهو يتحقق بدعوة الناس إلى المقابلة والمعارضة، وطلب القيام بمثله، وعجز الناس كلهم عن الإتيان بمثله.

وإلى كلا الأمرين أشير في التعريف بلفظ (التحدي)، ويترتب على هذا أنّ ما يقومُ به كبارُ الاطباء والمخترعين من الأمور المعجبة، خارجٌ عن إطار الإعجاز، لانتفاء الأمرين فيهما. كما أنّ ما يقومُ به السحرة والمرتاضون من الأعمال المدهشة، لا يُعَدّ معجزاً لانتفائهما أيضاً، خصوصاً الأمر الثاني، لقيام المرتاض الثاني بمثل ما قام به المرتاض الأول، بل بأعظم منه.

والقيد الرابع أن يكون عمله مطابقاً لدعواه، فلو خالف ما ادّعاه ما سمّي معجزة، وإن كان أمراً خارقاً للعادة، وذلك كما حصل مع مسيلمة الكذّاب عندما ادّعى أنّه نبي، وآية نبوته أنّه إذا تفل في بئر قليلة الماء، يكثر ماؤها: فتفل فغار جميع مائها، وأمَرَّ يده على رؤوس صبيان بني حنيفة، وحنّكهم، فأصاب القرع كلّ صبيٍّ مَسَحَ على رأسه، ولَثَغَ كُلُّ صبيٍّ حَنَّكَهُ([19]).

ومن الشبهات المرتبطة بهذا اعتبار المعجزة دليلا إقناعيا الغرض منه أن يرضي عامة الناس وسوادهم ويجلب اعتقادهم بصدق دعوى المدّعي، لا كونه دليلا عقليا منطقيا.

ويستدلّ هؤلاء على مقالتهم، بأنّ الدليل البرهاني يتوقف على وجود رابطة منطقية بين المّدَّعَي والدليل، وتلك الرابطة غير موجودة في هذا المحل، إذ كيف يكون خرق العادة وعجز الناس عن المقابلة، دليلاً على صدق المدّعي في كونه نبيّاً وحاملاً لشريعة إلهية، إذ لو صحّ ذلك لصحّ أن يقال: إنّ قيام الطبيب بعملية جراحية بديعة، دليلٌ على صدق مقاله في المسائل النجومية والفلكية. أو صدق تخطيطاته السياسية والاجتماعية. ومن المعلوم، انتفاء الرابطة المنطقية بينها.

ومن الانتقادات التي يمكن توجيهها لهذه الشبهة:

أولا ـ أننا عندما نلاحظ الأمور التالية، الّتي يسلمها صاحب الشبهة نصل إلى الدلالة العقلية المنطقية للمعجزة، وهي:

1. أنّ الخالق عادلٌ لا يجور، وحكيمٌ لا يفعل ما يناقض الحكمة.

2. أنّه سبحانه يريد هداية الناس، ولا يرضى بضلالتهم وكفرهم.

3. أنّ المعجزة إنّما تعدّ سنداً لصدق دعوى النبوة إذا كان حاملها صاحب سيرة نقية لم يُسَوِّدها شيء من الأعمال المشينة، وأن تكون شريعته مطابقة للعقل، وموافقة للفطرة. أو على الأقل، لا يرى فيها ما يخالف العقل والفطرة.

فلو انتفى الشرط الأول، بأن كانت سوابقه سيئة، لكفى ذلك في تنفر الناس عنه، ومثله لو انتفى الشرط الثاني، بأن كانت شريعته مخالفة للعقل والفطرة، لما تَقَبَّلها أصحاب العقول السليمة.

أمّا لو توفّر الشرطان فيه، فتتطاول إليه الأعناق، وتنقاد له القلوب، ولشرعه العقول، فيسلّمون ما يقول، ويطيعون ما أمر، وهنا نقول: لو كانت دعوة هذا المدّعي، صادقة، فإعطاؤه القدرة على الإتيان بالعجائب والخوارق، مطابق للحكمة الإلهية.

وأمّا لو كانت دعواه كاذبة، فإعطاؤه تلك القدرة، وتسخير عالم التكوين له، في تلك الظروف، على خلاف الحكمة، وعلى خلاف الأصل الثاني المتقدم أعني أنّه تعالى يريد هداية الناس، ولا يرضى بإضلالهم، وذلك لأنّه تعالى يعلم أنّ الظروف تُوجِدُ في الناس خضوعاً لهذا الشخص، فيكون إقداره على الاعجاز، مع كونه كاذباً، إغراءً بالضلالة، وصدّاً عن الهداية، والله تعالى حكيم لا يفعل ما يناقض غرضه وينافي إرادته، فأي دلالة منطقية أوضح من ذلك؟.

ولتقرير هذا في قالب القياس المنطقي، نقول: إنّه سبحانه حكيم، والحكيمُ لا يجعل الكون ولا بعضَه مُسَخَّراً للكاذب، فالله سبحانه لا يجعل الكون ولا بعضه مسخراً للكاذب. ولكن المفروض أنّ هذا المدّعي مُسَخِّر للكون، فينتج أنّه ليس بكاذب بل صادق.

وقد أشار القرآن الكريم إلى أنّه سبحانه أوجب على نفسه معاقبة النبي وإهلاكه إذا كذب على الله تعالى، قال تعالى: { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } [الحاقة: 44 – 47]

قال المحقق الخوئي ـ معلقا على الآية الكريمة ـ: (المراد من الآية الكريمة أنّ محمداً الّذي أثبتنا نبوّته، وأظهرنا المعجزة لتصديقه، لا يمكن أن يَتَقَوَّل علينا بعض الأقاويل ولو صنع ذلك، لأخذنا منه باليمين، ولقطعنا منه الوتين، فإنّ سكوتنا عن هذه الأقاويل، إمضاءٌ منّا لها، وإدخال للباطل في شريعة الهدى، فيجب علينا حفظ الشريعة في مرحلة البقاء، كما وجب علينا في مرحلة الحدوث)([20]).

ثانيا ـ أن نَفْي الرابطة المنطقية بين الإتيان بالمعجزة وصدق الدعوى، أمر يحتاج إلى التحليل، فهو باطل على وجه، وصحيح على وجه آخر.

فإن كان المراد من قلب العصا ثعباناً ـ مثلاً ـ أنّه كالأوسط في القياس، دليلٌ على صدق ما يدّعيه النبي من أنّه سبحانه واحدٌ عالمٌ قادرٌ، ليس كمثله شيء.. فلا ريب في عدم صحته. إذ لا يمكن الإستدلال على صحّة هذه الأصول بالتصرف في الكون.

ولأجل ذلك لم يطرح القرآن أصول الإسلام مجردةً عن البرهنة، بل قَرَنَها بلطائف الدلائل والإشارات، يقف عليها كلُّ متدبّر في الذكر الحكيم، فَيَسْتِدلُّ في البرهنة على وجوده سبحانه بقوله: { أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [إبراهيم: 10]، وفي البرهنة على وحدة المدبّر، بقوله: { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، وفي البرهنة على إبطال أُلوهيِة الأصنام، بقوله: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا } [الفرقان: 3]، وفي إبطال أُلوهية المسيح، بقوله: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } [المائدة: 75]، وغيرها من الآيات الكريمة.

وإنْ كان الُمرادُ أنّ خرق العادة الملموسة دليلٌ على أنّهم قادرون على خرق عادة أخرى غير ملموسة، وهي الإتصال بعالم الوحي وكون إدراكات النبي خارجة عن إطار الإدراكات العادية المتعارفة، فهو صحيح.

ذلك أن الأنبياء ـ عليهم السَّلام ـ كانوا يواجهون في تبليغ رسالاتهم إشكالين عظيمين في أعين الناس:

أولهما: أنّهم كانوا يتخيّلون أنّ النبي المرسل من عالم الغيب، يجب أن يكون من جنس الملائكة، ولا يصحّ أن يكون إنساناً مثلهم، كما قال تعالى يحكي عنهم هذا الاعتراض: {قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [إبراهيم: 10]

وكان الأنبياء يجيبون سؤالهم بأنّ المماثلة أساس التبليغ، والوحدة النوعية غير مانعة منه، لإمكان أن يتفضل فرد من نوع على فرد من ذاك النوع، فيكون الفاضل مُرْسلاً، والمفضول مُرْسَلاً إليه، كما قال تعالى يحكي عنهم هذا الجواب: {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [إبراهيم: 11]

وثانيهما: أنّ الإنبياء ـ عليهم السَّلام ـ كانوا يَدَّعون أنّهم يتلقون الأصول والمعارف والأحكام والفروع من الله سبحانه عن طريق الوحي، وهو إدراك خاص يوجد فيهم ولا يوجد في غيرهم، وليس من قبيل الإدراكات العادية الّتي يجدها كل إنسان في صميم ذاته من طريق الإبصار بالعين، والسمع بالأُذن، والتفكّر والإستدلال بالعقل، وبذلك، فإن ادّعاء الإدراك عن طريق الوحي، إدعاءُ أمر خارق للعادة، لأن الإدراكات الإنسانية لا تخرج عن إطار الحسيّات والخياليات والعقليات.

وهذه الدعوى كانت تدعو أقوامهم إلى طلب شاهد يثبت لهم القدرة على خرق العادة، حتى يماثل ما يدّعون، وحتى يستدلّ بخرق عادة مرئية، على وجود نظيرها في باطن وجودهم، وصميم حقيقتهم.

ومن منطلق إجابة هذا الطلب، كان الانبياء يفعلون الخوارق، ويأتون بالمعجزات، حتى يدللوا بذلك على تمكنهم من خرق العادة مطلقاً، سواء أكانت مرئية ـ كقلب العصا إلى الثعبان، وتسبيح الحصى ـ أو غير مرئية ـ كالإدراك غير المشابه للإدراكات العادية، الّذي هو الوحي، أو أنهم كانوا يستدلون بخرق العادة الملموسة، على غير الملموسة منها.

ج ـ النبوءات والبشارات:

وهي من الأدلة المعتمدة، التي يقر بها العقل، ذلك أنه إذا ثبتت نبوة نبي بدلائل مفيدة للعلم بنبوته، ثم نصّ هذا النبي على نبوة نبي لاحق يأتي من بعده، كان ذلك حجة قطعية على نبوة اللاحق، لا تقل في دلالتها عن المعجزة.

ذلك لأنّ النبي الأول، إذا ثبتت نبوته، ثبت كونه معصوماً عن الخطأ والزلل، لا يكذب ولا يسهو، فإذا قال ـ والحال هذه ـ: سيأتي بعدي نبي اسمه كذا، وأوصافه كذا وكذا، ثم ادّعى النبوّة بعده شخص يحمل عين تلك الأوصاف والسمات، يحصل القطع بنبوته.

ولا بدّ أن يكون الإستدلال بعد كون التنصيص واصلاً من طريق قطعي، وكون الأمارات والسمات واضحة، منطبقة تمام الإنطباق على النبي اللاحق، وإلا يكون الدليل عقيماً غير منتج.

ومن هذا الباب تنصيص المسيح على نبوة النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ } [الصف: 6]

وقد ذكرت التفاصيل الكثيرة المرتبطة بهذا في كتابي [أنبياء يبشرون بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم]، وفيه النصوص الكثيرة الواردة في الكتاب المقدس، والتي تذكر الأوصاف الدقيقة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والتي لا تنطبق إلا عليه، كما عبر عن ذلك قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146] بناءً على رجوع الضمير إلى النبي، المعلوم من القرائن، لا إلى الكتاب.

وقال: { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157]

وقد آمن كثير من اليهود والنصارى بنبوة النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم في حياته وبعد مماته، لصراحة التباشير الواردة في العهدين.

ونرى أن هذا النوع من الأدلة له من القوة بحيث يمكن اعتباره من الأدلة الحسية ليس على نبوة النبي فقط، وإنما على وجود الله أيضا، خاصة لأولئك الذين يطلبون أدلة حسية واضحة ودقيقة.

ذلك أن تبشير كتب قديمة لا تزال مخطوطاتها القديمة قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم موجودة، وفيها نصوص صريحة واضحة بالتبشير به والدعوة إلى اتباعه، دليل لا يمكن التغاضي عنه.

ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحتجّ على اليهود والنصارى، بأنّه قد بُشِّر به في العهدين، وأنّ الكليم والمسيح بشَّرا برسالته، وأنّ أهل الكتاب لو رجعوا إلى كتبهم ـ حتى بعد التحريف ـ لوجدوا بشائره فيها، وتعرّفوا عليه، كتعرّفهم على أبنائهم.

كان يحتجّ بهذه الكلمات، ولم يكن هناك أيّ ردّ من الأحبار والرهبان في مقابله، بل غاية جوابهم كان السكوت وإخفاء الكتب، وعدم نشرها بين أتباعهم.

ولو كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم غير صادق ـ والعياذ بالله ـ في هذا الادّعاء، لثارت ثورتهم عليه، ولملأوا الأجواء والطوامير بنقده وردّه، غير أنّ صراحة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصموده أمام علمائهم بشدّة، يكشف عن انهزام العدو أمام ذلك الادّعاء.

ومن تلك البشارات التي لا تزال موجودة في كتبهم الحالية، ما ورد في إنجيل يوحنا في الإصحاحات: الرابع عشر، والخامس عشر، والسادس عشر.. وهذه نصوصها من الإنجيل الحالي المترجم إلى اللغة العربية:

1 ـ (إِنّ كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي، وأنا أطلب من الأب فيعطيكم مُعَزِّياً آخر ليمكث معكم إلى الأبد)([21]).

2 ـ (وأمّا المُعزِّي، الروح القدس الّذي سيرسله الأب باسمي، فهو يعلّمكم كل شيء، ويذكّركم بكل ما قُلتُه لكم)([22]).

3 ـ (وَمتى جاءَ المُعَزِّي الّذي سأرسله أنا إليكم من الأب روح الحق الّذي من عند الأب ينبثق، فهو يشهد لي وتشهدون أنتم أيضاً لأنّكم معي من الابتداء)([23]).

4 ـ لكني أقول لكم الحق، إنّه خير لكم أن أنطلق لأنّه إن لم أنطلق لا يأتيكم المُعَزِّي، ولكن إنّ ذهبت أُرسله إليكم ومتى جاء ذاك يُبَكِّتُ العالم على خَطِيَّة وعلى بِرٍّ وعلى دينونة)([24]).

5 ـ (وأمّا متى جاء ذاك، روح الحق، فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنّه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يَسْمَع، يتكلّم به، ويخبركم بأُمور آتية)([25]).

ووجه الاستدلال يتوقف على معرفة كون المسيح عليه السَّلام كان يتكلم العبرية، وكان يعظ تلاميذه بهذا اللسان، لأنه وُلِد وشَبّ بين ظهرانيهم، وأُمُّه أيضاً كانت عبرانية، وقد ذكر جميع المُؤَرِّخين أنّ الأناجيل الثلاثة غير متى، كتبت من أوّل يومها باللغة اليونانية، وأمّا إنجيل متى فكان عبرياً من أوّل إنشائه.

وعلى هذا، فالمسيحُ بَشَّر بما بَشَّر باللغة العبرية أولاً، وإنّما نقله إلى اليونانية، كاتب الإنجيل الرابع (يوحنا) وكان عليه التحفّظ على لفظ المسيح في مورد المُبَشَّر به، لأنّ القاعدة الصحيحة، عدم تغيير الأعلام، والإتيان بنصِّها الأَصلي، لا ترجمة معناها. ولكن (يوحنا) لم يراع هذا الأصل، وترجمه إلى اليونانية، فضاع لفظه الأصلي الّذي تكلّم به المسيح، وفي غِبّ ذلك حصل الإختلاف في المراد منه.

وأمّا اللفظ اليوناني الّذي وضعه الكاتب (يوحنا) مكان اللفظ العبري، فهو مردد بين كونه (باراقْلِيطوس)([26]) الّذي هو بمعنى المُعَزِّي والمُسَلِّي والمُعين والوكيل، أو (بِرِيقْلِيطوس)([27]) الّذي هو بمعنى المحمود، الّذي يرادف أحمد. ولأجل تقارب الكلمتين في الكتابة والتلفظ والسماع، حصل التردد في المُبَشَّر به. ومُفَسِّروا ومترجموا إنجيل يوحنا، يصرّون على الأول، ولأجل ذلك ترجموه إلى العربية بـ(المعزّي)، وإلى اللغات الأُخرى بما يعادله ويرادفه، وادّعوا أنّ المراد منه هو روح القدس، وأنّه نزل على الحواريين في اليوم الخمسين بعد فقدان المسيح.

ومع ذلك، فهناك قرائن تلقي الضوء على أنّ المُبَشَّر به هو الرسول الأعظم، لا روح القدس، ومنها.

1 ـ إنّ المسيح بدأ خطابه إلى تلاميذه بقوله: (إِن كنتم تحبونني، فاحفظوا وصاياي، وأنا أطلب من الأب فيعطيكم (معزياً) آخر، ليمكث معكم إلى الأبد)، وهذا الخطاب يناسب أن يكون المُبَشَّر به نبياً، لأنّ المسيح يحتمل ـ في هذا الكلام أن يتخلّف عدّة منهم عن اقتفاء أثره ودينه، ولذلك أثار عواطفهم في هذا المجال لئلا يتخلّفوا. ولو كان المراد منه روح القدس لما احتاج إلى تلك المقدمة، لأنّ تأثيره في القلوب تأثير تكويني لا يمكن لأحد التخلّف عنه، ولا يبقى في القلوب معه شكٌّ، وهذا بخلاف تأثير النبي فإنّه يؤثر ببيانه وكلامه في القلوب والأرواح، وهو يختلف حسب اختلاف طبائع المخاطبين واستعدادهم.

ولأجل ذلك أصرّ على إيمانهم به في بعض خطاباته وقال: (وقلت لكم الآن قبل أن يكون، حتى متى كان تؤمنون)([28]).

2 ـ إنّه وصف المُبَشَّر به بلفظ (آخر)، وهذا لا يناسب كون المبشر به نظير روح القدس لعدم تعدده، وانحصاره في واحد، بخلاف الأنبياء فإنّهم يجيئون واحداً بعد الآخر، في فترة بعد فترة.

3 ـ إنّه ينعت ذلك المبشر به بقوله: (لِيَمْكُثَ معكم إلى الأبد) وهذا يناسب نبوة النبي الخاتم الّتي لا تُنْسخ.

4 ـ إنّه يقول: (وأَمّا (المعزّي الروح القدس) الّذي سيرسله الأب باسمي، فهو يعلمكم كل شيء، ويذكّركم بكل ما قلته لكم) وهذه الجملة تناسب أن يكون المبشر به نبيّاً يأتي بعد فترة من رسالة النبي السابق بعد أن تصير الشريعة السابقة على وشك الاضمحلال والاندثار. فيأتي النبي اللاحق، يذكّر بالمنسيّ ويزيل الصدأ عن الدين.

وأمّا لو كان المراد هو روح القدس فقد نزل على الحواريين بعد خمسين يوماً من فَقْد المسيح، حسب ما ينصّ عليه كتاب أعمال الرسل([29]). أفيظن أنّ الحواريين نسوا في هذه المدة اليسيرة معالم المسيح وتعاليمه حتى يكون النازل هو الموعود به؟!

5 ـ ويصف المسيح المبشر به، بقوله: (فهو يشهد لي). وهذه العبارة تناسب أن يكون المبشر به هو النبي الخاتم حيث بُعِثَ مصدِّقاً للشرائع السابقة والكتب السالفة، وقد أمره سبحانه أن يخاطب أهل الكتاب بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ)([30])، وغير ذلك. ومن المعلوم أنّ الرسول الأكرم شهد برسالة المسيح، ونَزَّه أُمَّه وابنها، عن كل عيب وشين، وردّ كلَّ ما أُلصق بهما من جهلة اليهود من التهم التافهة. وهذا بخلاف ما إذا فُسِّر بروح القدس، إذ لم يكن للمسيح يومذاك أي حاجة لشهادته، ودينُه وشريعتُه بَعْدُ غضّانِ طريّان.

6 ـ إنّه يقول: (لأنّه إن لم انطلق، لا يأتيكم (المعزي)، ولكن إن ذهبت أرسله إليكم). وهذا يناسب أن يكون المُبَشّر به نبياً، حيث علّق مجيئه بذهابه، لأنّه جاء بشريعة عالمية، ولا تصحّ سيادة شريعتين مختلفتين على أُمة واحدة.

ولو كان المُبَشَّر به هو روح القدس، لما كان لهذا التعليق معنى، لأنّ روح القدس حسب تصريح إنجيلَيْ متى ولوقا، نزل على الحواريين عندما بعثهم المسيح للتبشير والتبليغ([31]).

7 ـ ويقول: (ومتى جاء ذاك يُبكّت العالم على خَطِيَّة، وعلى بِرّ، وعلى دينونة…). وهذا يؤيّد أن يكون المُبشَّر به نبيّاً، إذ لو كان المراد هو روح القدس، فهو نزل في يوم الدار على الحواريين حسب زعمهم، فما وَبَّخ اليهود الذين لم يؤمنوا به أصلاً، لعدم رؤيتهم إيّاه. ولم يوبخ الحواريين، لأنّهم كانوا مؤمنين به.

8 ـ ويقول: (ومتى جاء ذاك، روح الحق، فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنّه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به، ويخبركم بأُمور آتية).

وهذا يتناسب مع كون المُبَشَّر به نبيّاً خاتماً، صاحب شريعة متكاملة، لا يتكلم إلاّ بما يوحى إليه، وهذه كلّها صفات الرسول الأكرم محمد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ.

فجميع هذه القرائن تشهد بوضوح على أنّ المراد من (المعزِّي) المُبَشّر به، هو النبي الأكرم لا روح القدس، ولو أمعنت النظر في سائر القرائن الّتي ذكرها المحقّقون من المسلمين في تفسير هذا اللفظ، لعالت القرائن.

هذا مجرد نموذج لواحدة من البشارات، وهي كثيرة جدا، وهي موجودة في العهدين، وقد ذكرنا الكثير منها مع أدلتها والشواهد المثبتة لها في كتاب [أنبياء يبشرون بمحمد]

د ـ القرائن والشواهد:

وهي من الأدلة المعتمدة، التي يقر بها العقل، وهي مستعملة في المحاكم، ومعتَمَدٌ عليه في حَلّ الدعاوى والنزاعات، يسلكها القضاة في إصدار أحكامهم، ويستند إليها المحامون في إبراء موكليهم خاصة في المحاكم الّتي تفتقد إلى القضاء على الأيمان والبَيّنات.

وهذا الدليل يستدعي جمع كلّ القرائن والشواهد الّتي يمكن أن تؤيّد دعوى المدّعي، أو إنكار المنكر، وضمّها إلى بعضها حتى يحصل القطع بصحة دعواه أو إنكاره.

وقد اعتمد العلماء هذه القرائن في إثبات نبوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والتي يشهد لها كل شيء، كما ذكرنا التفاصيل الكثيرة المرتبطة بذلك في سلسلة [حقائق ورقائق]

ومن تلك القرائن المعتمدة، والتي يدل التحقيق فيها على صدق النبي من عدمه دارسة شخصية مدعي النبوة وتحليلها، فإن كان مدّعي النبوة صادقاً أمينا، يتحلى بروحيات كمالية عالية، وأخلاق إنسانية فاضلة، غير منكب على الدنيا وزخرفها، ولا طالب للرئاسة والزعامة، لم ير له في حياته منقصة، ودناسة، بل عرف بكل خلق كريم، واشتهر بالنزاهة والطهارة.. فإن كل هذه الصفات تدلّ على صفائه في روحه وباطنه، وذلك ما يزيد في حظ التأكد من صدقه في دعواه.

ومنها ما يتعلق بالبيئة التي ظهر فيها مدعي النبوة؛ فإن ظهر في مجتمع أُمِّيٍّ، لا يعرف الكتابة، بعيدا عن مظاهر الحضارة والتمدّن، ثم جاء بشريعة تَحْمِلُ الدعوةَ إلى التعلّم ونبذ الأميّة، وتشرّع القوانين الاجتماعية، والاقتصادية بل تحمل في تعاليمها نظام الدولة والتقنين والقضاء والروابط السياسية.. ويكون في كل ذلك متناقضا مع البيئة التي عاش فيها، ومع المعارف والنظم التي تؤمن بها.. كل ذلك يرجح دعواه بل يؤكدها.

ومنها ما يتعلق بمضمون الدعوة التي جاء بها؛ فإذا كانت العقيدة الّتي يحملها، والمعارف الّتي يدعو إلى اعتناقها، معارف تبحث في خالق الكون وصفاته وأفعاله، وكانت دعوته العملية مرشدةً إلى التحلّي بالُمُثل الأخلاقية، والفضائل الإنسانية، وناهيةً عن الرذائل النفسية وركوبِ الشهوات المنحرفة والفسقِ والمجونِ كانت هذه قرائن على اتصال دعوته بخالق الكون، ومبدء الخير والجمال.

ومنها ثباته على دعوته، فإن كان لا يبتغي صاحبها شيئاً من الأعراض المادية، والمناصب الدنيوية، وكان ثابتا في طريق دعوته، وتضحيته بنفسه وأعزّ أقربائه في ذاك السبيل، أكد ذلك كونه صادقا في دعواه، فما كان له أن يضحي بكل شيء في سبيل لا شيء.

ومنها منهجه في تبليغ دعوته؛ فإذا كان اعتماده في دعوته على أساليب إنسانية، موافقة للفطرة والطهارة، فإنّ لذلك دلالات على إلهية دعواه.. وأمّا لو اعتمد في نشر وتبليغ ما يدّعيه على وسائل إجرامية، وأساليب وحشية غير إنسانية، كان هذا دليلاً على كون دعواه شخصية محضة، لا صلة لها بالعالم الربوبي.

ومنها دراسة نفسيات المؤمنين به، ذلك أنّ أقرباء المدّعي وبطانته إذا آمنوا به، واتّبعوا دعوته، وبلغوا فيها مراتب عالية من التقوى والورع، كان هذا دلاًّ على صدق المدعي في ظاهره وباطنه، وعدم التوائه وكذبه، لأنّ الباطل لا يمكن أن يخفى عن الأقرباء والبطانة.

ومنها أمور أخرى كثيرة، كالثمار التي أنتجتها دعوته، والعلوم التي خرج بها للناس، وهل تتوافق مع ما جاءت به العصول التالية أم لا.. وهل تأثر بمعارف عصره، ونقلها مع خطئها أم لا.. كل ذلك قرائن يمكن من خلالها التعرف على صدق الدعوى.

وهذه القرائن جميعا وغيرها إذا اجتمعت في مدّعي النبوة، ودعواه الّتي يدّعيها، كانت دليلاً قاطعاً على صدقه، فإنّ كلّ واحدة من القرائن، وإن كانت قاصرة عن إفادة اليقين، إلاّ أنّها بمجموعها تفيده.

ولعل أول من استعمل هذا الأسلوب في جمع القرائن قيصر الروم، ذلك أنه عندما كتب إليه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم رسالة يدعوه فيها إلى اعتناق دينه الّذي أتى به، أخذ ـ بعد استلامه الرسالة ـ يتأمّل في عبارات الرسول، وكيفية الكتابة، حتى وقع في نفسه احتمال صدق الدعوى، فأمر جماعة من حاشيته بالتجول في الشام والبحث عمّن يعرف الرسول عن قرب، ومطّلع على أخلاقه وروحياته، فانتهى البحث إلى العثور على أبي سفيان وعدّة كانوا معه في تجارة إلى الشام، فأحضروا إلى مجلس قيصر، فراح يسألهم قائلا: (أيّكم أقرب نسبا لهذا الرّجل؟ الذي يزعم- أنه نبيّ؟ فقال أبو سفيان: أنا أقربهم نسبا، فقال: ادنوه مني، وقرّبوا أصحابه، فاجعلوهم خلف ظهره ثم قال لترجمانه: قل لهم: إني سائل هذا الرجل عن هذا الرجل فإن كذبني فكذّبوه، قال أبو سفيان: فو الله، لولا أن يؤثر عنّي الكذب لكذبت عليه ثم كان أول ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: هو فينا ذو نسب. قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قبله؟ قلت: لا، قال: فهل كان من آبائه ملك قلت: لا، قال: فأشراف النّاس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقلت: بل ضعفاؤهم، قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون، قال: فهل يرتدّ أحد منكم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت: لا، قال: فهل كنتم تتّهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا، قال: فهل يغدر قلت: لا، ونحن الآن معه في مدّة لا ندري ما هو فاعل فيها قال: فما كلّمني كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه الكلمة، قال: فهل قاتلتموه قلت: نعم، قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال ينال منا وننال منه، قال: ماذا يأمركم؟ قلت: يقول: اعبدوا الله وحده، ولا تشركوا به شيئا، واتركوا ما كان يعبد آباؤكم، ويأمرنا بالصّلاة والزّكاة والصّدق والعفاف، والصّلة)

وبعد أن انتهى من أسئلته وتحقيق راح يذكر النتائج التي وصل إليها، فقال لترجمانه: (قل له: سألتك عن نسبه، فذكرت أنّه فيكم ذو نسب، وكذلك الرسل تبعث في نسب قومها، وسألتك: هل قال أحد منكم هذا القول قبله؟ فذكرت أن لا، فقلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت: رجل تأسّى بقول قيل قبله، وسألتك: هل من آبائه من ملك؟ فذكرت أن لا، قلت: فلو كان من آبائه من ملك، قلت: رجل يطلب ملك آبائه، وسألتك: هل كنتم تتّهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على النّاس، ويكذب على الله، وسألتك: أشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أنّ ضعفاءهم اتّبعوه، وهم أتباع الرّسل، وسألتك: أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت أنّهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتّى يتمّ، وسألتك: أيرتد أحد منكم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخلط بشاشته القلوب، وسألتك: هل يغدر؟ فذكرت أن لا، وكذلك الرّسل لا يغدرون وسألتك: بم يأمركم؟ فذكرت أنّه يأمركم أن تعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئا، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والزكاة والصّدق والعفاف والصلة، فإن كان ما تقول حقّا، فسيملك موضع قدميّ هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظنّه منكم، فلو أعلم أني أخلص إليه لتجشّمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت قدميه) ([32])


([1])  الله خالق الكون: دراسةٌ علميّةٌ حديثة للمناهج والنظريّات المختلفةِ حولَ نشأةِ الكونِ ومسألةِ الخالقِ ، جعفر الهادي، اشراف جعفر السبحاني، قم: موسسه الامام الصادق عليه السلام، 1424 ق. = 1382، ص 18، فما بعدها.

([2])  قصة الحضارة: 1 / 99 ـ 100..

([3])  قصة الحضارة: 1 / 100.

([4])  انظر: الإسلام وعصر العلم لفريد وجدي: 163 ـ 164.

([5])  دور الأفكار التقدمية في تطوير المجتمع: 4.

([6])  النظام الشيوعي: 52.

([7])  قصة الحضارة: 1 / 177.

([8])  وسنتحدث عنها بتفصيل في كتاب خاص مثل هذا الكتاب، يعلم كيفية مناظرة منكري النبوة، ويرد على جميع الشبهات المرتبطة بها..

([9])  انظر: الالهيات على هدى الكتاب والسنة والعقل، تأليف: الشيخ جعفر السبحاني، بقلم: الشيخ حسن محمد مكي العاملي، مؤسسة الامام الصادق عليه السلام، الطبعة: السابعة 1388.

([10])  برزت الربوبية في القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر خصوصاً خلال عصر التنوير، لا سيما في ما يعرف الآن بالمملكة المتحدة وفرنسا والولايات المتحدة وأيرلندا. معظمهم الربوبيون في ذلك الوقت كانوا قد ولدوا مسيحيين ولكن تركوا المسيحية بسبب عدة قضايا مثيرة للجدل ووجدوا أنهم لا يمكنهم الإيمان بالثالوث أوإلوهية سيد المسيح أو المعجزات ثم انتشروا في العالم، انظر: المسيحية عبر العصور، إيريل كيرنز، ص 441.

([11]) الهيات الشفاء، بحث النبوة، ص 557 طبعة طهران. وأورده بعينه في كتاب النجاة، ص 304، طبعة 1357 هـ.

([12]) المبدأ والمعاد، لصدر المتألهين، ص 103، طبعة طهران.

([13]) شرح الاصول الخمسة، ص 521.

([14])  ارشاد الطالبين، ص 277 ـ 278.

([15])  بحار الانوار، ج5، ص 316.

([16])  موسوعة نيقولاي لينين، ج 17، ص142، طبعة 1923.

([17])  انظر (الرسالة المحمدية) للسيد سليمان الندوي.

([18])  وقد عرّف المحقق الطوسي الإعجاز بقوله: «هو ثبوت ما ليس بمعتاد، أو نفي ما هو معتاد، مع خرق العادة ومطابقة الدعوى»، (كشف المراد ص 218، طبعة صيدا ـ 1353 هـ)

([19])  لاحظ تفصيل هذه الوقائع في تاريخ الطبري، ج 2، ص 507.

([20])  البيان في تفسير القرآن، ص 36، الطبعة الثامنة، 1401 هـ ـ بيروت.

([21]).إنجيل يوحنا، الأصحاح الرابع عشر: الجملتان 15 و16، ط دار الكتاب المقدس.

([22]).إنجيل يوحنا، الأصحاح الرابع عشر: الجملة 26، ط دار الكتاب المقدس.

([23]).إنجيل يوحنا، الأصحاح الخامس عشر: الجملة 26، ط دار الكتاب المقدس.

([24]).إنجيل يوحنا، الأصحاح السادس عشر: الجملتان 7 و8، ط دار الكتاب المقدس.

([25]).إنجيل يوحنا، الأصحاح السادس عشر: الجملة 13، ط دار الكتاب المقدس.

([26]).في اليونانية هكذا: llAPAKAHTOE. وبالأفرنجية هكذا Paracletos.

([27]).في اليونانية هكذا llEPIKAHOTE. وبالأفرنجية هكذاPericletos.

([28]).إنجيل يوحنا، الأصحاح الرابع عشر: الجملة 29، ط دار الكتاب المقدس.

([29]).أعمال الرسل، الأصحاح الأول: الجملة 5. والأصحاح الثاني: الجملات 1 ـ 4، ط دار الكتاب المقدس.

([30]).سورة النساء: الآية 47.

([31]).لاحظ إنجيل متى: الأصحاح العاشر، الجملة الأُولى فما بعدها. وإنجيل لوقا: الأصحاح العاشر، الجملة 11، وفيها: (ولكن إعلموا هذا: إنّه قد اقترب منكم ملكوت الله).

([32])  سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد (11/ 353).

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *