ومن يبتغ غير الإسلام دينا.. فسيقبل منه!

ومن يبتغ غير الإسلام دينا.. فسيقبل منه !

من أخطر الطروحات التي يطرحها بعض التنويريين الجدد، والتي يمكن أن تقضي على الإسلام ـ كدين يحمل عقيدة وشريعة ـ قضاء نهائيا، ذلك التمييع لمفهومه، أو تطبيق معناه العام على معناه الخاص، وذلك مما يفقده حقيقته ولوازمه.

وهؤلاء يفعلون مثلما يفعل ذلك الكسول الذي تدعوه للتسبيح والذكر والسجود، فيقول لك: أوليس كل شيء يسبح الله ويذكره ويسجد له؟.. فإن قلت له: أجل.. قال: فأنا من تلك الأشياء، وكل أعضائي وخلاياي وذراتي تذكر الله، وتسبح بحمده، وتسجد له.

وهكذا مفهوم الإسلام.. فالمفهوم العام للإسلام يتناول كل شيء.. فكل شيء طوع لإرادة الله، وملك لمشيئته، من شاء ذلك، أو من كره، كما قال تعالى: { أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران: 83]

والذي يزعم أنه مسلم بهذا الاعتبار مع التقصير في حق الله، وفي الإيمان بما يقتضيه الإسلام الخاص، لا يمكن أن نطلق عليه لقب [المسلم]، ولذلك لا يصدق فيه قوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]

ذلك أن هذا النوع من الإسلام مرتبط بعقائد وشرائع تضبطه، وتحميه من أن يصبح مجرد دعاوى لا دليل يدل عليها.. فإذا ما جاء أحد من الناس إلى تلك الضوابط التي تحمي حمى الإسلام، فراح يتساهل فيها أو يتلاعب بها؛ فإنه بذلك لن يبقي من الإسلام إلا اسمه، أما حقيقته، والتي تشكلها المعاني التي يتكون منها، فإنها تزول بزوالها.

فهل يمكن أن يكون هناك إسلام من دون أن يكون فيه صلاة ولا صيام ولا حج ولا تلاوة ولا ذكر؟.. وهل يمكن أن يكون هناك إسلام لا تحرم فيه الخمر ولا الخنزير ولا القمار ولا الربا، ولا الفواحش، ولا كل ما ورد في الشريعة تحريمه؟.. وهل يمكن أن يكون هناك إسلام لمن يعتقد في الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر خلاف ما ورد في القرآن الكريم من عقائد واضحة صريحة، تثبت الكفر لمن جحدها وعاندها بعد أن سمع بها؟

هذه أمور واضحة جدا، والنصوص المقدسة كلها من القرآن الكريم والسنة المطهرة المتفق عليها عند المدارس الإسلامية جميعا تدل عليها، لكن مع ذلك يأتي من التنويريين من يشكك في ذلك كله، ويزعم أنه يمكن للمسيحي أو اليهودي أو البوذي أو على أي دين شاء أن يحتفظ بدينه، وبشعائره وشرائعة وعقائده حتى لو كانت مناقضة للإسلام بشرط واحد، وهو أن يؤمن برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إيمانا علميا ذهنيا لا علاقة له بسلوك ولا بعقائد.

ولست أدري ما الذي دعاه إلى هذا؟.. وهل آلمه أن يدخل الناس في دين الله أفواجا، حتى راح يقول لهم: لا داعي لأن تسلموا.. فأنتم مسلمون أصلا، يكفي فقط أن يصدر منكم اعتراف بأن محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا يختلف عن إرميا وإشعيا وبوذا.. وأن الإيمان به وحده يكفي، كما أن الإيمان بالمسيح وحده يكفي.. فلا حاجة لأن ترهقوا أنفسكم بالتكاليف الشرعية، التي هي خاصة فقط بتلك الأمة التي لم ترفع عنها الأغلال التي رفعت عنكم.

وهذا الذي أقوله هو الذي راح ينشره ـ للأسف ـ من سمي رئيسا لجمعية لقاء الحضارات في النَّمسا، وهو عدنان إبراهيم، الذي قدم لهذا الفكر التنويري الجديد والخطير بقوله: (ما انتهى إليه اجتهادي في هذه المسألة المشْكِلة جدًّا، وطبعا أعرف أن هذا الاجتهاد حقيق أن أكفر عليه، وبسببه من كثير من المسلمين الذين ينتظرون فرصة كهذه)

ولست أدري لم يحصر مخاطر المسألة في شخصه، وكونه سيصير محلا للتفكير.. لم لا ينظر لأولئك المسلمين الذين يعبدون الله على حرف، وكيف سيستقبلون مثل هذه الفتوى، والتي تتيح لهم أن يصبحوا مسيحيين أو يهودا، في نفس الوقت الذي يحافظون فيه على مزايا الإسلام، وامتيازاته؛ فليس عليهم سوى أن يعترفوا بأن محمدا رسول الله.. أما اتباعه؛ فليس ضروريا.

ولم لا ينظر كذلك إلى تلك الانحرافات التي ملأت الأديان؛ فأبعدتها عن كل القيم العقدية والسلوكية، لتتحول إلى أديان بشرية محضة.. ثم يأتي سعادة الأستاذ ليضيف إليها شيئا بسيطا، وهو الاعتقاد بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لتتحول مباشرة إلى دين لله، وليس دينا من صنع البشر.. وليس على أصحابها إن أرادوا الهداية أن يتحولوا إلى الإسلام؛ فهم مسلمون أصلا.

والأمر الأعجب من كل ذلك هو زعمه أن المسلمين ينتظرون منه هذه الفرصة ليكفروه، ولست أدري ما الذي ينفعهم تكفيرهم له.. وهو الذي راح يميع اسم الإسلام أصلا ليحول منه مجالا رحبا لا ضوابط تحكمه، ولا شرائع يعرف بها، ولا عقائد ثابتة يمكن اعتقادها.

هو لا يعلم أنه بموقفه هذا لا تختلف عن ذلك الذي: [يبني قصرا، ويهدم مصرا]؛ فهو يريد أن يرضي سائر الأمم، وينسى أنه يحطم الإسلام بذلك.. بل ينسى أنه يضع الحجب بين الأمم والإسلام؟.. بل يضع الحجب بين المسلمين والإسلام؛ فالمسلم الذي يرى أنه يمكن أن يتحقق بإسلامه من غير أن يلتزم بشرائعه، يكون قد ترك الإسلام من حيث لا يشعر.

لقد قال عدنان معبرا عن هذه الفكرة الخطيرة، والتي عبر عنها في محال كثيرة، وراح يستعمل كل الوسائل للدعاية لها: (لكن باختصار: الذي بان لي أن الكتابي ـ يهوديا أو نصرانيا ـ ليس ملزما بأكثر من أن يقر بنبوة محمد، يقول: نعم هذا نبي. لكنه ليس ملزما بأن يتبعه، وأن يتدين بشرعه)

بناء على هذا كله، وجب الرد على هذه الشبهة الخطيرة بكل صنوف الرد، والتحذير منها؛ فهي تتدحرج كل حين كما تتدحرج كرة الثلج، خاصة وأن الذي يتولى أمرها قوم مراهقون فكريا، يبحثون عن كل جديد غريب، من دون عرضه على الأمة، أو على مصادرها المقدسة.

ويوشك ـ لو استمر الوضع على ما هو عليه الآن ـ أن يأتي اليوم الذي يدعى فيه غير المسلمين إلى البقاء على أديانهم، باعتبارها أفضل عند الله لهم.. وما أسهل أن تُركب بعض النصوص، أو توضع بعض المفاهيم والتصورات والهلوسات لتحول من ذلك كله حقيقة ملموسة.

بناء على هذا سنذكر هنا ـ باختصار ـ مجامع الأدلة على هذه الشبهة، وهي الأدلة الخمسة التالية:

1 ـ احتمالية النصوص التي أوردوها لمعان متعددة.

2. تعارض المعاني التي فهموها مع عالمية رسالة رسول الله.

3 ـ تعارض المعاني التي فهموها مع الأمر باتباع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مطلقا.

4 ـ تعارض المعاني التي فهموها بالنصوص الدالة على ضلال أهل الكتاب.

5 ـ تعارض المعاني التي فهموها مع إجماع الأمة.

وسنتحدث عن كل واحد منها هنا، وقبل ذلك نحب أن ننبه إلى أن تمنينا لو كان ما يذكره عدنان إبراهيم مكتوبا في كتب أو مقالات علمية، حتى نستطيع توثيقه، وحتى نرى وجوه الاستدلال التي يعتمدونها.

لكن هؤلاء للأسف ليس لديهم الوقت الكافي للكتابة، ولا البحث المرتبط بها، بل يدلون بتصريحات فقط، كتصريحات الساسة، وإلا فإن دعوى كونه اجتهد في المسألة اجتهادا لم يسبق إليه، أو يخاف على نفسه أن يكفر بسببه كان يدعوه إلى وضع كتاب فيها، يجمع فيه الأدلة، ويناقش فيه الاحتمالات المختلفة، ولكنه لم يفعل.. لأن التصريح أيسر من الكتابة، والإثارة أهم من الأناة والبحث العلمي الدقيق والموضوعي.

 1 ـ احتمالية النصوص التي أوردوها لمعان متعددة:

فقد تعلق هؤلاء كما تعلق المجسمة وغيرهم بنصوص متشابهة تحتمل معاني متعدد، وراحوا يفرضون عليها المعنى الذي يريدون، من دون أن يحاولوا الجمع بين النصوص كما هي العادة المعمول بها عند التعارض.

ومن خلال استقراء استدلالتهم في هذا الجانب يمكن أن نجد موضعين من القرآن الكريم، كانا محل شبهة لديهم:

أ ـ ما ورد في القرآن الكريم من النصوص الدالة على الدعوة لإقامة التوراة والإنجيل، كقوله تعالى: { قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ } [المائدة: 68]، والتي علق عليها عدنان إبراهيم بقوله: (لا تقل: لي القرآن. الله قال: {ما أنزل إليكم} انتبه)

وقد غفل هذا الأستاذ وغيره ممن اتبعه فيها أو قلده عن أن تلك الآية الكريمة قد عقبت مباشرة بما يزيل الفهم السيء الذي قد يفهم منها؛ فالله تعالى عقب ذلك بقوله: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [المائدة: 68]، حيث اعتبرهم كافرين لإعراضهم عما أنزل من القرآن الكريم.

وبذلك فإن الذي يقيم التوراة والإنجيل مضطر معهما لإقامة القرآن الكريم، حتى لا يكون من الذين قال الله تعالى فيهم: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} [البقرة: 85]

فإذا فعلوا ذلك، وأقاموا القرآن الكريم نتيجة إيمانهم به مثل إيمانهم بكتبهم، ونتيجة إيمانهم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ذلك أنه لا يمكن الإيمان برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دون الإيمان بما أنزل عليه.. حينها يصبح الإيمان المجرد عن الاتباع لغوا، وهو ما ينقض أصل الأطروحة التي طرحوها.

بالإضافة إلى ذلك، فقد أخبر القرآن الكريم في مواضع كثيرة عن نوع الإقامة التي طلبها منهم، ومنها ما ورد في الكتاب المقدس من البشارات به صلى الله عليه وآله وسلم، ووجوب اتباعه، وهي كثيرة جدا، وقد أشار إليها القرآن الكريم في مواضع منه، كقوله تعالى: { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157]

بل أخبر أنه قد ورد في الكتاب المقدس من التفاصيل المرتبطة به صلى الله عليه وآله وسلم ما يجعلهم موقنين به، غير شاكين فيه، كما قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [البقرة: 146]

ومنها ما ورد فيها من الوصايا الأخلاقية كالوصايا العشر، ونحوها، والتي وردت جميعا في القرآن الكريم الذي هو المهيمن على الكتب، والحاوي لكل ما فيها من قيم نبيلة، ومعارف سامية.

بالإضافة إلى هذا، فقد أخبر القرآن الكريم أن هناك تحريفات حصلت في هذه الكتب، وأن أهل الكتاب كانوا يشترون بتحريفها ثمنا قليلا، فهل يعقل أن يأمر الله تعالى أهل الكتاب بأن يقيموا ما حرف من كتابهم: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 75]

فإذا كان ذلك حقيقة مقررة، فكيف نجيز لأحد من أهل الكتاب أن يظل على دينه، بل يعتقد بما ورد فيه من تجسيمات وخرافات وأباطيل.. ونعتبره مسلما بسبب ذلك.

لا يقول ذلك إلا من لا يعرف الكتاب المقدس، وما يحتوي عليه من أنواع الضلالة والانحراف والدجل، والتي كانت سببا في ظهور الإلحاد وغيره.. فهل يمكن أن نعتبر هذه المصادر بعد ذلك، ثم نطلب من أهل الكتاب إقامتها، وأن يضيفوا إليها فقط الاعتراف بكون محمد صلى الله عليه وآله وسلم مجرد رسول لا يجب اتباعه؟

والخلاصة التي ننتهي إليها من مفهوم الآية هي أن هذه الآية الكريمة تدعو أهل الكتاب للعودة لكتابهم المقدس ليتمثلوا القيم النبيلة الموجودة فيه، ويتمثلوا ما ورد فيه من أوامر باتباع الرسول الخاتم الذي تكاد الكثير من الأسفار تصرح به.. وهي لا تعني بذلك اكتفاءهم بما فيها عن اتباع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

بل إن مثل ذلك مثل من يخاطب سياسيا يراه قد انحرف عن مشروعه السياسي الذي طرحه، بالعودة إلى مشروعه والعمل بما فيه، مما كان قد وعد به، وذلك لا يعني أن مشروعه معصوم، أو أنه كاف، وإنما هو نوع من التنزل في مخاطبة الآخر.

وهو منهج قرآني في الحوار، فقد قال تعالى في مخاطبة المشركين: {قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [سبأ: 25]، فهل يمكن الاستدلال بهذه الآية الكريمة على أن المسلمين كانوا مجرمين.

ب ـ ما ورد في القرآن الكريم من النصوص الدالة على نجاة غير المسلمين، كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62]، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [المائدة: 69]

فهذه الآيات الكريمة لا يمكن أن تفهم إلا في ضوء النصوص الأخرى الكثيرة الدالة على كفر من أشرك بالله من اليهود والنصارى كقوله تعالى: { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ } [المائدة: 17]، وقوله: { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } [المائدة: 72]، وقوله: { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 73]، وغيرها من الآيات الكريمة التي تنص على كفر من أشرك بالله تعالى، أو لم يتبع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أو كذبه، كما سنرى في الدليل الثالث.

والإيمان بجميع الآيات يدعونا إلى التساؤل عن الفهم الصحيح لتلك الآيات التي يوردونها، وهو بسيط جدا لمن يعرف لغة القرآن الكريم.. فالقرآن الكريم لا يتحدث عمن رأوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسمعوا به، فأولئك يجب عليهم الإيمان به واتباعه، وإنما يتحدث عمن لم يروه، ولم يسمعوا به إما لأسباب زمانية أو مكانية.

أما الزمانية؛ فلكونهم في أزمنة سبقت الإسلام، ولم يعرفوا دينا إلا تلك الديانات، فهم غير مكلفين إلا بها، وأما المكانية؛ فهو كونهم في أقصى الأرض، ولم يتهيأ لهم أن يسمعوا بالإسلام، فهم غير مؤاخذين بسبب ذلك.

ومما يدل على هذا الأسلوب القرآني في التعبير قوله تعالى ـ عند الحديث عن بني إسرائيل ـ: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 159]، فهو لا يقصد وجودهم في كل الأزمنة، وإنما يقصد وجودهم في الأزمنة السابقة قبل رسالة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لأنه بعد إرسال الله له صار على الجميع وجوب اتباعه كما سنرى.

وإن شاء هؤلاء التنويريون أن يجادلونا؛ فيذكروا أن تلك الآيات الكريمة ذكرت نجاة غير المسلمين ممن عاصروا الإسلام ولم يتبعوه، حينها سيعترضون على آيات كثيرة جدا في القرآن الكريم، والتي تنص على كفر من لم يتبع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يؤمن بما جاء به.

بل حينها تعتبر دعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لليهود والنصارى لغوا، وإرساله الكتب لملوك النصارى وتحذيره لهم مجرد تصرف لا معنى له.

وكيف يستقيم ذلك، وقد ورد في القرآن الكريم في نصارى نجران المسالمين الذي تعامل معهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكل سماحة ولطف، ولكن مع ذلك لم يسكت عن كفرهم وجحودهم عن اتباعه، بل دعاهم إلى المباهلة، فقال: { فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ } [آل عمران: 61]

وقال لهم: { يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} [آل عمران: 70]، وقال لهم: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [آل عمران: 71]

وهكذا ورد في القرآن الكريم الآيات الكثيرة التي تخبر عن الموقف الحقيقي من أهل الكتاب، وهو الموقف الذي يبين ضلالهم عن الحق، وكفرهم بسبب عدم اتباعهم له، وفي نفس الوقت يأمر بالسماحة معهم، وتأليف قلوبهم.

ولا تعارض بين الأمرين، ذلك أن البعض يتصور أن القول بكفرهم وجحودهم للحق، يقتضي المعاملة السيئة، وهذا غير صحيح، فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تعامل مع وفد نجران بكل سماحة وأدب، ولكنه في نفس الوقت لم يداهنهم ولم يجاملهم، ولم ينزل إلى رغباتهم، بل بين لهم حقيقة ضلالهم، ودعاهم إلى المباهلة عند جحودهم لها.

وهذا ما ينص عليه قوله تعالى: { لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8]

2 ـ تعارض المعاني التي فهموها مع عالمية رسالة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

ذلك أن أول مقتضيات قولهم بعدم شرطية اتباع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والاكتفاء بمجرد الإقرار بكونه رسولا من الله تعالى، دون التزام ما جاء به من عقائد وشرائع، هو عدم عالمية رسالة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ذلك أن أول مستلزمات العالمية وجوب الاتباع الكامل لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من لدن جميع الأمم، كما ورد في الحديث الصحيح المتفق عليه: (والذي نفسي بيده، لا يسمع بي رجلٌ من هذه الأمة، ولا يهودي ولا نصراني، ثم لم يؤمن بي، إلا كان من أهل النار)([1])

وفي حديث آخر، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي.. [وذكر منها]: وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة)([2])

بل هذا الذي دل عليه القرآن الكريم في مواضع كثيرة، فالله تعالى أخبر أن رسالة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى كافة الناس بخلاف رسائل سائر الرسل، والتي ذكر أنها لأقوامهم خاصة، ومن تلك النصوص قوله تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُون } [سبأ: 28]، وقوله: { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (لأعراف:158)، وقوله: { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} (الفرقان:1)، وقوله: { إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} (الأنعام: 90)، وقوله: { وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} (القلم:52)، وقوله: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]

وغيرها من الآيات الكريمة التي لا يفهم منها إلا كون رسالة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شاملة للعالمين جميعا.. وكيف يتحقق ذلك إذا قلنا بمقولة أولئك التنويريين الذين يذكرون أنه يمكن أن يحافظ كل شخص على دينه، وأنه ليس ملزما بالاتباع الكامل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه يكفيه أن يعترف به فقط؟

مع أنه لو عدنا للكتاب المقدس، فإننا نجد كل البشارات التي تبشر برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تخبر أن رسالته للعالمين، وأن على اليهود والنصارى وغيرهم وجوب اتباعه، ذلك أن كل الشرائع تنسخ بشريعته، كما ورد في [متى 5/17-18]: (لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء، ما جئت لأنقض بل لأكمل، فإني الحق أقول لكم: إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل)، فهذا المبشر به هو الكل الذي له الكل، وهو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

في نفس الوقت الذي يقول فيه المسيح عليه السلام عن نفسه كما جاء في [متى 15 / 24]: (لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة)؟

وهكذا ورد في نبوة النبي حزقيال عليه السلام، كما في [حزقيال 21/27]: (يأتي الذي له الحكم فأعطيه إياه)

ولهذا جاء اليهود إلى المدينة المنورة، لأنهم كانوا يترقبون مجيئه صلى الله عليه وآله وسلم إليها بحسب ما تدل عليه كتبهم، والتي تأمرهم بوجوب اتباعه، كما قال تعالى مخبرا عن ذلك: { وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} (البقرة:89)

فهذه الآية الكريمة تنص على أن اليهود كانوا من قبل مجيء هذا الرسول بهذا الكتاب يستنصرون بمجيئه على أعدائهم من المشركين إذا قاتلوهم، وقد نقل لنا المؤرخون ـ بالأسانيد الصحيحة ـ أقوالهم الدالة على ذلك.. فقد كانوا يقولون: إنه سيبعث نبي في آخر الزمان نقتلكم معه قتل عاد وإرم.

وقد نقل بعضهم شهادة عنه في ذلك، فقال: فينا والله، وفيهم ـ يعني في الأنصاروفي اليهود الذين كانوا جيرانهم ـ نزلت هذه الآية ـ يقصد الاية السابقة ـ كنا قد علوناهم دهرًا في الجاهلية، ونحن أهل شرك، وهم أهل كتاب، فكانوا يقولون: (إن نبيًا من الأنبياء يبعث الآن نتبعه، قد أظل زمانه، نقتلكم معه قتل عاد وإرم)، فلما بعث الله رسوله من قريش واتبعناه كفروا به.. فذلك قوله تعالى:{ فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ }(النساء: 155)

وقد ذكر المؤرخون بعض المحاجة التي أقامها أهل المدينة على جيرانهم من اليهود، فذكروا أن معاذ بن جبل، وبشر بن البراء بن مَعْرُور، قالا: (يامعشر يهود، اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ونحن أهل شرك، وتخبروننا بأنه مبعوث، وتصفُونه لنا بصفته)، فقال سَلام بن مِشْكم أخو بني النضير: (ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكر لكم فأنزل الله في ذلك من قولهم:{ وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ }(البقرة:89)([3])

وبهذا الوجه أيضا يفسر ذلك النص الذي فهم منه التنويريون خلاف مقصوده؛ فإقامة الكتاب في هذه الناحية هو لزوم اتباع الرسول الجديد الذي تنسخ برسالته جميع الشرائع.

وهذا ما فعله النصارى أيضا؛ فعندما جاء وفد نجران طولبوا بالإسلام، ولم يطالبوا بالاعتراف المجرد برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دون اتباعه، وقد نزلت آيات كثيرة في ذلك، ومنها آية المباهلة المعروفة.

بالإضافة إلى ذلك كله، فإن كل النصوص الواردة في الكتاب المقدس لدى اليهود والنصارى، تخبر أن كل أنبيائهم بما فيهم المسيح عليه السلام خاص ببني إسرائيل، وهم شعب محدود العدد جدا، فكيف نجيز لهؤلاء الذين يتبعونه في أصقاع الأرض، وهم ليسوا من بني إسرائيل في نفس الوقت الذي لا نطالبهم فيه باتباع الرسول الذي أرسل للناس كافة.

فقد ورد في [متى:2: 6]: (وأنت يا بيت لحم أرض يهوذا لست الصغرى بين رؤساء يهوذا، لأن منك يخرج مدبر يرعى شعبي إسرائيل)

بل حدث المسيح عليه السلام عن نفسه، فقال، كما في متى (15: 24):(لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة)

وعندما جاءته المرأة الكنعانية أعرض عنها، لكونها ليست من القوم الذين كلف بهم، كما في [متى 15: 23 ـ 27]: (ثم غادر يسوع تلك المنطقة، وذهب إلى نواحي صور وصيدا، فإذا امرأة كنعانية من تلك النواحي، قد تقدمت إليه صارخة: (ارحمني ياسيد، ياابن داود! ابنتي معذبة جدا، يسكنها شيطان) لكنه لم يجبها بكلمة، فجاء تلاميذه يلحون عليه قائلين: (اقض لها حاجتها. فهي تصرخ في إثرنا!)، فأجاب: (ما أرسلت إلا إلى الخراف الضالة، إلى بيت إسرائيل!)، ولكن المرأة اقتربت إليه، وسجدت له، وقالت: (أعني ياسيد!)، فأجاب: (ليس من الصواب أن يؤخذ خبز البنين ويطرح لجراء الكلاب!)، فقالت: (صحيح ياسيد؛ ولكن جراء الكلاب تأكل من الفتات الذي يسقط من موائد أصحابها!)

وفي مقابل هذا نجد النصوص القرآنية بالإضافة إلى ما ورد من بشارات في الكتاب المقدس تنص على وجوب اتباع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بل فيها ما ينص على وجوب اتباع الأنبياء أنفسهم له، كما في قوله تعالى: { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ } [آل عمران: 81]

وفي الحديث الصحيح المعروف: أن عمر بن الخطاب أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتب، فقرأه فغضب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم قال: (أمتهوكون فيها يا بن الخطاب، والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى صلى الله عليه وسلم كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني)([4])

فكيف يطالب الأنبياء عليهم السلام بوجوب اتباعه صلى الله عليه وآله وسلم، ثم لا تؤمر أممهم بذلك؟

3 ـ تعارض المعاني التي فهموها مع الأمر باتباع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم:

فقد وردت النصوص المقدسة الكثيرة تأمر باتباع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اتباعا مطلقا، وتعتبر ذلك الاتباع علامة على صدق الإيمان؛ فلا قيمة لإيمان لا يتجاوز حدود الذهن، وكيف يمكن لعقل أن يقبل بأن شخصا ما هو رسول رب العالمين، وهو خاتم الرسل، وأن رسالته هي المهيمنة والناسخة لجميع الشرائع والأديان، ثم بعد ذلك يكتفي بهذه المعرفة دون أن يكون لها أي مفاعيل في الواقع.

إن من يقول هذا يشبه ذلك المريض الذي يكتفي بمعرفة اسم طبيبه والشهادة له بكونه طبيبا، وطبيبا كبيرا، ومختصا في مجاله، ثم بعد ذلك لا يأبه للدواء الذي يصفه له، ولا يقر به، ولا يذعن له.. فهل يمكن اعتبار هذا المريض صادقا فيما يزعمه؟

وهذا ليس خاصا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بل هو عام لكل الرسل، فكل الرسل أطباء، ولهذا قال الله تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ } [النساء: 64]

ولهذا نجد في القرآن الكريم ربط الاتباع بالإيمان، فأول علامات الإيمان برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو ذلك الخضوع المطلق لكل ما يأمر به أو يدعو له؛ فكلامه صلى الله عليه وآله وسلم وحده حجة، ولا يحتاج المؤمن بعده أي دليل، وكيف يحتاج إلى دليل، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الناطق باسم الحقيقة المطلقة، كما قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4]

ومن الآيات الواردة في هذا المجال قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36]

فهذه الآية الكريمة تخبر عن موقف المؤمنين من كل حكم يحكم به الله ورسوله، وهو الإذعان المطلق الذي لا مجال فيه لأي تفكير أو تدبر أو اختيار.

وكل النصوص المقدسة التي تأمر بطاعة الله ورسوله تربط ذلك بالإيمان، وهو علامة على أن تلك الطاعة من مستلزمات الإيمان، قال تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} [الأنفال: 20]

بل إن الله تعالى ربط بين عدم الطاعة والكفر، فقال: { قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ } [آل عمران: 32]

واعتبر عدم الطاعة توليا، فقال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [المائدة: 92]، وقال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [التغابن: 12]

وحذر مَن يخالف أمره بالفتنة والعذاب، فقال: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [النور: 63]

واعتبر اتباعه المطلقة علامة على محبة الله وشرطا لها؛ فقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31]

وهكذا ورد في الأحاديث الكثيرة الصحيحة الصريحة المتفق عليها بين المدارس الإسلامية جميعا، ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (كلُّ أمتي يَدْخلون الجنة إلاَّ من أبى)، قيل: ومَن يأبى يا رسول الله؟! قال: (من أطاعني دخلَ الجنَّة، ومن عصاني فقد أبَى)([5])

فقد اعتبر طاعته شرطا للإيمان، وليس مجرد المعرفة الذهنية أو الإيمان العقلي الخالي من أي ارتباط أو تبعية أو تبعة عملية.

4 ـ تعارض فهومهم مع النصوص الدالة على ضلال أهل الكتاب:

وهي كثيرة جدا، فقد ذكر القرآن الكريم ما فعله بنو إسرائيل في كتبهم من تحريف، وما أضافوه من إضافات ما أنزل الله بها من سلطان، سواء في العقائد، أو في الأحكام، أو في القيم وغيرها؛ فكيف يمكن بعد ذلك أن نذكر بأن القرآن الكريم نفسه يجيز لهم أن يعتقدوا بما في كتبهم من ضلالة، ويمارسوا ما ابتدعوه من بدع، ويكتفوا من إسلامهم بالاعتراف برسالة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ذلك الاعتراف الخالي من أي مضمون عملي.

لا يمكننا هنا ذكر كل ما ورد في النصوص المقدسة للدلالة على ذلك؛ فقد ذكرنا بتفصيل في سلسلة [حقائق ورقائق]؛ فلذلك نكتفي هنا ببعضها من باب الإشارة.

فمنها ما ورد فيه من تحريفهم لكتبهم، كما في قوله تعالى:{ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ }(البقرة: 79)، وقوله: لقد ورد فيه:{ فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } (المائدة: 13)

وما نص عليه القرآن الكريم هو نفسه ما نص عليه الكتاب المقدس، حيث نجد الأنبياء عليهم السلام المذكورين فيه، ينصون على وقوع التحريف، ففي (إرميا: 23 /31 ـ 32):(وأقاوم الأنبياء الذين يسخرون ألسنتهم قائلين: الرب يقول هذا. ها أنا أقاوم المتنبئين بأحلام كاذبة ويقصونها مضلين شعبي بأكاذيبهم واستخفافهم)

وفي المزامير، في (مزمور:56/ 5):(اليوم كله يحرفون كلامي.عليّ كل افكارهم بالشر)

وفي (حزقيال:7 / 26):(ستاتي مصيبة على مصيبة.ويكون خبر على خبر.. فيطلبون رؤيا من النبي.. والشريعة تباد عن الكاهن والمشورة عن الشيوخ)

وفي (إشعياء:10 /1-2):(ويل للذين يقضون أقضية الباطل وللكتبة الذين يسجلون جورا ليصدوا الضعفاء عن الحكم ويسلبوا حق بائسي شعبي لتكون الارامل غنيمتهم وينهبوا الايتام)؛ فإشعيا ـ في هذا النص ـ يتحدث عن المطامع التي جرت القضاة والكتبة إلى التحريف.. وهو يتحدث عن بيع كتاب الله بثمن بخس، بل هو يصرح بذلك قطعا لكل تأويل، فيقول:(ويل للذين يتعمقون ليكتموا رأيهم عن الرب فتصير اعمالهم في الظلمة ويقولون من يبصرنا ومن يعرفنا. يا لتحريفكم. هل يحسب الجابل كالطين حتى يقول المصنوع عن صانعه لم يصنعني. أو تقول الجبلة عن جابلها لم يفهم)(إشعياء: 29 /15-16)، ويقول:(ويل للبنين المتمردين يقول الرب حتى انهم يجرون رأيا وليس مني ويسكبون سكيبا وليس بروحي ليزيدوا خطيئة على خطيئة) (إشعياء: 30 /1)

وهكذا نجد القرآن الكريم يصف ما ذكروه في كتبهم من عقائد لا تتناسب مع جلال الله وجماله، كقوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا } [المائدة: 64]

وما أشار إليه القرآن الكريم من هذه العقائد الفاسدة لا يزال يوجد ما يدل عليها في الكتاب المقدس، فهل يمكن أن نقبل ذلك منهم؟.. وهل يمكن أن يسلم شخص يتصور الله بتلك الصورة البشعة التي يرسمها الكتاب المقدس، ثم لا يكتفى من إيمانه إلا بالاعتراف برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟

وهل يطالب التنويريون اليهود والنصارى بأن يقيموا أمثال هذه النصوص التي لا تزال توجد في كتبهم المقدسة المشتركة ([6])، والتي تصف الله ككائن يتصف بصفات البشر، فهو يأكل ويشرب ويتعب ويستريح ويضحك ويبكي، غضوب متعطش للدماء، يحب ويبغض، متقلب الأطوار، يُلحق العذاب بكل من ارتكب ذنباً سواء ارتكبه عن قصد أو ارتكبه عن غير قصد، ويأخذ الأبناء والأحفاد بذنوب الآباء، بل يحس بالندم ووخز الضمير (خروج 32/10 ـ 14)، وينسى ويتذكر (خروج 2/23 ـ 24)، وهو ليس عالماً بكل شيء، ولذا فهو يطلب من أعضاء جماعة إسرائيل أن يرشدوه بأن يصبغوا أبواب بيوتهم بالدم حتى لا يهلكهم مع أعدائهم من المصريين عن طريق الخطأ (خروج 12/13 ـ 14)..

وهو إله متجرِّد، ولكنه في الوقت نفسه يأخذ أشكالاً حسية محددة، فهو يطلب إلى اليهود (جماعة يسرائيل) أن يصنعوا له مكاناً مقدَّساً ليسكن في وسطهم (خروج 25/8)، كما يسير أمام جماعة يسرائيل على شكل عمود دخان في النهار كي يهديهم الطريق، أما في الليل فكان يتحول إلى عمود نار كي يضيء لهم (خروج 13/21/22).

وهو إله الحروب (خروج 15/3 ـ 4) يعلِّم يدي داود القتال (صمويل ثاني 22/30 ـ 35)، يأمر اليهود بقتل الذكور، بل الأطفال والنساء (عدد 31/1 ـ 12)، وهو إله قوي الذراع يأمر شعبه بألا يرحم أحداً (تثنية 7/16 ـ 18)، وهو يعرف أن الأرض لا تُنال إلا بحد السيف. ولذا، فهو يأمر شعبه المختار بقتل جميع الذكور في المدن البعيدة عن أرض الميعاد، (أما سكان الأرض نفسها فمصيرهم الإبادة ذكوراً كانوا أم إناثاً أم أطفالاً) (تثنية 20/10 ـ 18) وذلك لأسباب سكانية عملية مفهومة.

والمقاييس الأخلاقية لهذا الإله تختلف باختلاف الزمان والمكان، ولذا فهي تتغيَّر بتغير الاعتبارات العملية، فهو يأمر اليهود (جماعة يسرائيل) بالسرقة، ويطلب من كل امرأة يهودية في مصر أن تطلب من جارتها ومن نزيلة بيتها (أمتعة فضة وأمتعة ذهب وثياباً وتضعونها على بنيكم وبناتكم فتسلبون المصريين) (خروج 3/22)

ماذا يفعل التنويريون بعد هذه النصوص وغيرها كثير جدا، وهي تشمل العقائد والعبادات والمعاملات والقيم وكل مناحي الحياة.. فهل يرضون من أهل الكتاب أن يقيموا كتابهم، ويلتزموا بما فيه.. ويكتفون منهم بالإيمان برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ليصبحوا من خلال ذلك الإيمان المجرد من كل مقتضيات مسلمين، قد صبغوا الإسلام صبغة كاملة.

5 ـ تعارض المعاني التي فهموها مع إجماع الأمة:

لا نقصد هنا ذلك الإجماع المختلف فيه، والذي قال فيه أحمد بن حنبل: (ما يَدَّعي فيه الرجلُ الإجماعَ فهو كذب، من ادعى الإجماع فهو كاذب، لعل الناس اختلفوا)([7])

وهو إجماع المدرس والطائفة والفرقة دون سائر المسلمين، بل نقصد إجماع المسلمين جميعا بفرقهم المختلفة، وهو إجماع معتبر؛ فالأمة لا يمكن عقلا أو نقلا أن تجمع على ضلالة.

وهذا الإجماع يمكننا أن نجده بسهولة في كتب العقائد والفقه والتفسير والحديث وغيرها، وعند جميع المدارس الإسلامية؛ فهي جميعا تنص على كفر من استحل عدم اتباع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو أحل حراما قطعيا، أو حرم حلالا قطعيا، أو قال بشريعة لم تنزل في كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

ولهذا فإن اليهودي أو النصراني الذي يكتفي بالاعتراف المجرد برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دون الاتباع؛ فإنه يكون قد أحسن بذلك الاعتراف، وهو أحسن حالا من الجاحد، ولكن لا يمكن اعتباره مسلما، ولا يمكن إقراره على ذلك.. بل يطالب بالاتباع الكامل، كما نصت على ذلك النصوص المقدسة التي سبق ذكرها، والتي اتفق علماء الأمة بمدارسهم جميعا على القول بمقتضياتها.

بل إن القرآن الكريم اعتبر اليقين المجرد عن الاتباع جحودا، فقال:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل: 14]

وممن نقل إجماع الأمة في المسألة ابن حزم فقد قال في كتابه [مراتب الإجماع]: (واتفقوا على تسمية اليهود والنصارى كفاراً)([8])

وقال: (ولا يختلف اثنان من أهل الأرض ـ لا نقول: من المسلمين، بل من كلِّ ملةٍ ـ في أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قطع بالكفر على أهل كلِّ ملةٍ غير الإسلام الذين تبَّرأ أهلُه من كل ملةٍ حاشى التي أتاهم بها عليه السلام فقط)([9])

وقال: (وقد نصَّ الله عزَّ وجلَّ على أن اليهود يعرفون النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم كما يعرفون أبناءَهم، وأنهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل، وقال تعالى: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33]، وأخبر تعالى عن الكفار فقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزُّخرُف:87]، فأخبر تعالى أنهم يعرفون صِدْقه ولا يكذِّبونه، وهم اليهود والنصارى، وهم كفار بلا خلافٍ من أحد من الأمة، ومن أنكر كفرهم فلا خلاف من أحدٍ من الأمة في كُفره وخروجه عن الإسلام)([10])

وقال: (ذكَرَ بعضُ من جمع مقالات المنتمين إلى الإسلام أن فرقة من الإباضية رئيسهم رجل يدعى يزيد بن أبي أنيسة ـ وهو غير المحدث المشهور ـ كان يقول: إنَّ من كان من اليهود والنصارى يقول: «لا إله إلا الله محمد رسول الله إلى العرب لا إلينا»؛ كما تقول العيسوية من اليهود؛ قال: فإنهم مؤمنون أولياء الله تعالى، وإن ماتوا على هذا العقد، وعلى التزام شرائع اليهود والنصارى… قال أبو محمد [ابن حزم]: إلا أنَّ جميع الإباضية يكفِّرون من قال بشيء من هذه المقالات، ويبْرَؤون منه، ويستحلُّون دمه وماله)([11])

وقد علق النووي على قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار) ([12])، فقال: (أما الحديث ففيه نسخ الملل كلها برسالة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم.. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يسمع بي أحد من هذه الأمة): أي ممن هو موجود في زمني وبعدي إلى يوم القيامة فكلهم يجب عليه الدخول في طاعته وإنما ذكر اليهودي والنصراني تنبيها على من سواهما، وذلك لأن اليهود والنصارى لهم كتاب ؛ فإذا كان هذا شأنهم مع أن لهم كتابا، فغيرهم ممن لا كتاب له أولى. والله أعلم)([13])

وقال القاضي عياض: (ولهذا نكفر من دان بغير ملة المسلمين من الملل، أو وقف فيهم، أو شك، أو صحح مذهبهم، وإن أظهر مع ذلك الإسلام، واعتقده، واعتقد إبطال كل مذهب سواه: فهو كافر بإظهار ما أظهره من خلاف ذلك)([14])

وقال الباقلاني، وهو من كبار أئمة الأشاعرة: (باب الكلام على العيسوية منهم الذين يزعمون أن محمدا وعيسى عليهما السلام إنما بعثا إلى قومهما، ولم يبعثا بنسخ شريعة موسى عليه السلام. يقال لهم: إذا أوجبتم تصديق محمد وعيسى عليهما السلام في قولهما إنهما نبيان من عند الله؛ فما أنكرتم من وجوب تصديقهما في قولهما: إنهما قد بعثا إلى كل أسود وأبيض، وأنثى وذكر، وبنسخ شريعة موسى وكل صاحب شرع قبلهما؟! فإن كان قد كذبا في هذا القول مع ظهور المعجزات على أيديهما فما أنكرتم أن يكونا كاذبين في سائر أخبارهما، وهذا يبطل النبوة جملة، فإن قالوا: نحن لا نكذب محمدًا وعيسى عليهما السلام في هذا القول لو قالاه، لأنهما لو كذبا في بعض ما يخبران به عن الله سبحانه لم يكونا نبيين، ولكننا نكذب النصارى والمسلمين في ادعائهم ذلك عليهما، فالكذب واقع من ناحية أمتيهما، ولم يقع من جهتهما! يقال لهم: إذا جاز الكذب على النصارى والمسلمين في هذا الخبر الذي يدعونه على محمد وعيسى عليهما السلام فلم لا يجوز عليهم الكذب في جميع ما نقلوه عنهما، وفي نقلهم أعلامهما، ولم لا يجوز مثل ذلك على اليهود أيضًا؟! ونقله البلدان والسير، وهذا يعود إلى إبطال القول بالأخبار جملة، وفي إطباقنا وإياهم على فساد ما أدى إلى ذلك دليل على فساد قولهم، وصحة قول المسلمين والنصارى في هذا الباب)([15])

وقال أبو حامد الغزالي في كتابه: (الاقتصاد في الاعتقاد): (العيسوية: حيث ذهبوا إلى أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم رسولٌ إلى العرب فقط لا إلى غيرهم، وهذا ظاهر البطلان فإنَّهم اعترفوا بكونه رسولاً حقًّا، ومعلومٌ أنَّ الرسول لا يكذب، وقد ادعى هو أنه رسول مبعوث إلى الثقلين، وبعث رُسُلَه إلى كسرى وقيصر وسائر ملوك العجم، وتواتر ذلك منه، فما قالوه محال متناقض)([16])

وقال فخر الدين الرازي في [التفسير الكبير] في تفسير قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158]: (وقال طائفة من اليهود ـ يقال لهم العيسوية، وهم أتباع عيسى الأصفهاني ـ: إن محمدًا رسول صادق مبعوث إلى العرب، وغير مبعوث إلى بني إسرائيل. ودليلنا على إبطال قولهم هذه الآيةُ. لأنَّ قوله: {يا أيها الناس} خطاب يتناول كل الناس، ثم قال: {إني رسول الله إليكم جميعًا}، وهذا يقتضي كونه مبعوثًا إلى جميع الناس، وأيضًا: فما يعلم بالتواتر من دينه أنه كان يدعي أنه مبعوث إلى كل العالمين. فإما أن يقال: إنه كان رسولاً حقًّا أو ما كان كذلك، فإن كان رسولًا حقًّا، امتنع الكذب عليه. ووجب الجزم بكونه صادقًا في كل ما يدعيه، فلما ثبت بالتواتر وبظاهر هذه الآية أنه كان يدعي كونه مبعوثًا إلى جميع الخلق؛ وجب كونه صادقًا في هذا القول، وذلك يبطل قول من يقول: إنه كان مبعوثًا إلى العرب فقط، لا إلى بني إسرائيل)([17])

وقال الآمدي الأشعري الشافعي في كتابه [غاية المرام في علم الكلام]: (وأما العيسوية فيمتنع عليهم ـ بعد التسليم بصحة رسالته وصدقه في دعوته ـ إلا الإذعان لكلمته، إذ لا سبيل إلى القول بتخصيص بعثته إلى العرب دون غيرها من الأمم، مع ما اشتهر عنه، وعُلم بالضرورة والنقل المتواتر من دعوته إلى كلمته طوائف الجبابرة وغيرهم من الأكاسرة، وتنفيذه إلى أقاصي البلاد وملوك العباد، وقتال من عانده، ونزال من جاحده، ثم ذلك معتمد على سند الصدر الأول من المسلمين، مع علمنا بأن ذلك الجم الغفير، والجمع الكثير، ممن لا يتصوَّر عليهم التواطؤ على الباطل عادةً، لا سيما لما كانوا عليه من شدة اليقين، ومراعاة الدين، فلو لم يعلموا منه ضرورةً أنه مبعوث إلى الناس كافة، وإلى الأمم عامة، من الأسود والأبيض، وإلا لما نقلوا ذلك، رعاية للدين، مع أنه ترك الدين، وكذلك أيضًا: من جاء من بعدهم على سنتهم، وهلم جرًّا إلى زمننا هذا، ولو لم يكن نبيًّا على العموم لزم أن يكون قد كذب في دعواه، وأبطل فيما أتاه، وذلك محال في حق الأنبياء، وحقِّ من ثبت عصمتهم بالمعجزات وقواطع الآيات)([18])

هذه مجرد نماذج عن بعض مقولاتهم في المسألة، وإلا فإن النصوص في ذلك أكثر من أن تحصر، وهي موجودة في كل أبواب الفقه التي تبين كفر من جحد معلوما من الدين بالضرورة، أو تكفر من استحل حراما، أو حرم حلالا، وغيرها.


([1])  رواه مسلم: ج ١، ص 134، ح 240.

([2])  رواه البخاري 1 / 369 و 370 ، ومسلم رقم (521)

([3]) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (1/547) وتفسير الطبري (2/233).

([4])  رواه أحمد (3/387).

([5])  البخاري،ح6737.

([6])  انظر: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، للمسيري.

([7])  إعلام الموقعين عن رب العالمين ت مشهور (2/ 54).

([8])  مراتب الإجماع ( ص 119 )

([9])  الفصل في الملل والأهواء والنحل: 3/142.

([10]) المرجع السابق،  3/237.

([11])المرجع السابق،  4/144.

([12])  رواه أحمد (2/350)، ومسلم (1/93).

([13])  شرح النووي على مسلم (2/ 188)

([14])  الشفا في أحوال المصطفى  ( 2 / 610 ) ..

([15])  التمهيد،  ص 218.

([16])  الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي (ص: 111)

([17])  مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (15/ 383)

([18])  غاية المرام في علم الكلام (ص: 359)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *