وأخيرا.. صار هوكينغ شهيدا

وأخيرا.. صار هوكينغ شهيدا

لم يكتف التنويريون الجدد.. أولئك المستلبون فكريا وحضاريا وإيمانيا.. بالترحم على هوكينغ، وسكب الدموع عليه وإقامة المآتم والتابينيات عنه وعن روحه.. وإنما راح بعضهم يحوله شهيدا.. بل يحوله آية من آيات الله التي يباهي الله بها عباده.. ووليا من أوليائه القديسين.. ويوشك أن يأتي بعض رجال الأعمال ليبني له قبة، ويؤسس له مزار.. وقد تتحول بسببه واشنطن أو نيويورك أو أي مدينة تحظى بجسده، أو ببعض آثاره إلى مدينة مقدسة.

هذا الكلام ليس مبالغة، بل هو حقيقة.. وقد أفرزها ـ للأسف ـ من لم نتوقع منه إلا ذلك.. وهو [محمد شحرور] ذلك الذي يزعم أنه تنويري وقرآني، وهو يخرج لنا كل حين ما يثبت المسافات الهائلة بينه وبين كليهما.. فالحقائق القرآنية واضحة جدا، ولا تحتاج إلى كل تلك التلاعبات اللفظية التي يمارسها هو وأمثاله، وهي ما جعلتهم يلوون أعناق النصوص المقدسة لتنسجم مع كل ما يريدونه، أو ما تفرزه أهواؤهم.

كتب محمد شحرور في مقال له تحت عنوان [إني جاعل في الأرض خليفة].. وهو مقال يغزو الشبكات الاجتماعية، وينتشر بينها انتشار النار في الهشيم.. يقول: (رغم أني كمؤمن موقن بوجود الله، أختلف مع هوكينغ في هذه الجزئية تحديداً، إلا أنه بنظري شهيد، بغض النظر عن إيمانه أو عدمه، فالهدف من وجودنا يحققه أمثاله، وبدونهم سنبقى غافلين)

ونلاحظ شحرور من خلال هذه الكلمات كيف يهون من [وجود الله] الذي هو أساس العقائد، حيث أصبح عنده مجرد جزئية بسيطة يمكن التنازل عنها.. وذلك يعني ـ حسبما يصور ـ أن الإنسان يمكن أن يمارس دوره في الخلافة من غير أن يعتقد وجود الله.. ومن غير أن يؤمن به طبعا.. فالوجود هو الأساس لكل العقائد.

بل إنه رفعه إلى رتبة الشهادة، وهي ليست شهادة التضحية ـ بحسب قصد شحرور ـ وإنما هي تلك الشهادة التي وصف الله بها رسله عليهم الصلاة والسلام فقال عن المسيح: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا } [النساء: 159]، وقال عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا } [النساء: 41]

وبذلك تحول هوكينغ ـ عند شحرور ـ إلى ما يشبه الأنبياء عليهم السلام، ذلك أنه لا فرق بينه وبينهم سوى في تلك الجزئية البسيطة التي لا قيمة لها في موازين الحياة.. جزئية الإيمان بالله.

ثم يترقى شحرور في الرفع من مكانة هوكينغ ليذكر أنه غاية الغايات.. وأنه لولاه ما خلقت الأفلاك.. (فالهدف من وجودنا ـ كما يقول ـ يحققه أمثاله، وبدونهم سنبقى غافلين)

ثم يورد ـ للتلاعب بمشاعر القراء ـ مقارنة بين إبراهيم عليه السلام ذلك الأواه المنيب، وهوكينغ.. فكلاهما في نظره واحد.. وليس من فرق بينهما سوى في جزئية الإيمان..

والدليل على ذلك ـ كما يصوره هو أن (الإنسان هو وجود فيزيولوجي (بشر) مضافاً له كم معرفي (الروح)، وهذه الروح هي التي ميزته عن باقي المخلوقات، فكلما زاد الكم المعرفي زادت إنسانية الإنسان وابتعد عن المملكة الحيوانية)، وبما أن هوكينغ له كم معرفي كبير ـ كما يذكر شحرور ـ مقارنة بغيره، فهو صاحب روحانية أكبر، ووظيفته في الكون تابعة للمدى الذي وصلت إليه روحانيته.

هذه مجرد قصاصات من الغثاء الذي وقع فيه المستلبون فكريا وحضاريا وإيمانيا.. أولئك الذين يتلاعبون بالقرآن الكريم، وبكل المقدسات لأجل إرضاء نزوات الهوى التي ينفخها الشيطان فيهم.

وأنا شخصيا أفضل الملحد الجاد، أو اللاديني الواضح على أمثال هؤلاء المتلاعبين الذين لا يختلفون عن أولئك الشعراء الذين يتبعهم الغاوون، وفي كل واد يهيمون..

فالوضوح علامة الصدق.. والصدق قد يكون مركبا للوصول إلى الحقيقة.. أما الغموض، فهو وسيلة النفاق والخداع.. وهما في الدرك الأسفل من النار.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *