هند.. وزنيرة

هند.. وزنيرة

لم يحدث في التاريخ انقلاب في الموازين مثلما حدث في عصرنا هذا، وبين المسلمين خصوصا، وبين من يزعمون أنهم الفرقة الناجية والطائفة المنصورة، والذين يعتبرون أنفسهم قد خصوا وحدهم دون من عداهم بمعرفة الحقائق وسلوك سبيلها.

فقد صار كل الظلمة والعتاة والطغاة والمستبدين في عيونهم عدولا وصالحين ومتقين.. وأقيمت لأجل الدفاع عنهم المحافل، ونظمت المؤتمرات.. بل حتى المساجد ومنبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صار مرقاة لكل من ينافح عمن كان همهم تشويه الدين وتحويله من دين الله إلى دين البشر.. ومن دين العدالة إلى دين الطغيان.. ومن دين الرحمة إلى دين القسوة.

وهكذا صرنا نرى الكتب التي تدافع عن الحجاج، وتعتبره نموذجا مثاليا للقائد المسلم الذي استطاع أن يوحد الدولة، ويقضي على كل بؤر الفتن فيها..

وصرنا نرى من يدافع عن المتوكل ذلك الطاغية المستبد الذي مارس كل وسائل التعذيب للمخالفين والمعارضين، بل صار مثالا للخليفة السني العادل.. بل صار يلقب بناصر السنة وقامع البدعة.

وهكذا صرنا نرى من يدافع عن يزيد، بل يترضى عنه، ويتكلف تأويل النصوص ليثبت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه استغفر له، وأخبر أنه من أهل الجنة..

وصرنا نرى من يدافع عن الطلقاء، ويسميهم صحابة أجلاء، بل يعتبر كل ما ورد في فضل الصحابة والسابقين منهم مرتبطا بهم.

في هذا الوقت الذي قامت فيه سوق الطلقاء والظلمة والمستبدين نرى كساد أسواق السابقين الذي ضحوا بأنفسهم في سبيل قيام الإسلام.. فلا أحد يذكر بلالا، ولا الصخرة التي كانت تجثم على صدره، وهو ينادي أحد أحد.. ولا أحد يعرف المصير الذي صار إليه، ولا الحياة التي عاشها بعد وفاة حبيبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ولا أحد يذكر سمية تلك التي كانت أول شهيدة في الإسلام.. ولا أحد يذكر زوجها ياسر الذي كان أول الرجال استشهادا في سبيل الله.. ولا أحد يذكر ابنهما عمارا.. لأن ذكره سيشوه الطلقاء، وسيقلب صفحاتهم المنتنة، وسيبعث في جماهير المغفلين السؤال عمن قتله، ولم قتله، وكيف قتله؟ وكل ذلك سيحول الطلقاء من صحابة أجلاء إلى ظلمة وطواغيت.

ولا أحد يذكر لبينة جارية بني المؤمل المستضعفة المعذبة([1])، وقد كانت من السابقين إلى الإسلام، وأوذيت إيذاء شديدا.. لأن في ذكرهم لها ولكيفية تعذيبها إحراجا كبيرا لمن قدمناهم بأهوائنا وأذواقنا ومعاييرنا البشرية القاصرة.

ولا أحد يذكر أم عبيس، وهي أمة لبني زهرة([2])، كانت قريش ـ التي صرنا نعظمها ـ تعذبها عذابا شديدا هي وزوجها أبو عبيس.. ولا زلنا إلى الآن نجهل نسبهما كما نجهل كل ما يرتبط بهما.

ولا أحد يذكر النهدية تلك الجارية اليمنية المستضعفة التي كانت من السابقين إلى الإسلام، فكانت سيدتها تعذبها، وتقول: والله لا أقلعت عنك([3]).. وهكذا كان حال ابنتها التي عذبت معها، ولا نزال إلى الآن لا نعرف اسمها ولا اسم ابنتها، ولا أي تفاصيل عنها في نفس الوقت الذي نعرف فيه أنساب الطلقاء، ونعتز بها.

ولا أحد يذكر زنيرة([4]) تلك الجارية المستضعفة التي كانت يتداول المشركون على تعذيبها بكل صنوف العذاب الحسي والمعنوي، حتى أن أحدهم كان يقول ساخرا منها: ألا تعجبون لهؤلاء واتباعهم محمدا؟ فلو كان أمر محمد خير اً وحق اً ما سبقونا إليه؟ أفسبقتنا زنيرة إلى رشد، وهي من ترون؟

ويذكر المؤرخون أنها عذبت حتى عميت، فقال لها أبو جهل: إن اللات والعزى فعلتا بك ما ترين، فقالت، وهي لا تبصره: وما تدري اللات والعزى، من يعبدهما ممن لا يعبدهما؟ ولكن هذا أمر من السماء، وربي قادر على أن يرد بصري، فأصبحت من تلك الليلة وقد رد الله عليها بصرها، فقالت قريش: هذا من سحر محمد.

وبمناسبة الحديث عن زنيرة.. فسأقص عليكم قصة ترتبط بها.. وترتبط بعدوتها اللدود هند زوج أبي سفيان لنرى كيف نسيت الأمة زنيرة.. وكيف عظمت هندا.. أو كيف نسيت الضحية، في نفس الوقت الذي كرمت فيه الجلاد.

وهذه القصة ليست غريبة، بل ربما عشنا الكثير من أمثالها من حيث لا نشعر.. وهي تعبر تعبيرا رمزيا وواقعيا عن تلك المقاييس المنتكسة التي صرنا نصور بها الحقائق، ونقوم بها أهلها.

في ذلك اليوم لاحظت إعلانا إشهاريا في الجامعة التي أعمل بها شدني إليه، فقد كان عن محاضرة بعنوان [علو الهمة]، وهو من سلسلة محاضرات بعنوان [صناعة القيادة في الإسلام]

وبما أني في ذلك الحين كنت أعيش انتكاسة في همتي، ودناءة في مطالبي، فقد عزمت على الحضور إليها، ولم أكتف بذلك، بل رحت إلى طلبتي أحثهم على الحضور، وأبين لهم أنه لا يمكن أن يتقدموا في أي شيء دون أن يكون لهم همة تدفعهم، وطموح يرتفع بهم.

وقد ندمت على ذلك الإشهار المجاني الذي قدمته للمحاضرة ندما شديدا، لأني رأيت طلبتي وجميع الحضور قد انتكست مفاهيمهم للحياة وللدين، وتخلخلت معاييرهم تخلخلا لا يمكن ترقيعه.

بدأت المحاضرة التي تجمعت لها الجموع الكثيرة من الطلبة والطالبات.. وخرج المحاضر مزهوا بنفسه كالطاووس، يتحرك في المنصة حركات سريعة يستعمل معها كل لغات الجسد التي تعلمها وتدرب عليها..

وفي بداية المحاضرة، قال ممتنا على الحاضرين: هذه محاضرة مجانية أقدمها لكم خصوصا لوجه الله.. لا أريد منكم جزاء ولا شكورا.. فقط أرجو منكم الاهتمام بها، والعمل بمقتضاها، وأنا أضمن لكم أنكم بعد فترة وجيزة بعد تخرجكم ستصبحون قادة في مجتمعاتكم.. لا تشكوا أبدا في ذلك.. فالحلم الذي تحلم به اليوم سيصبح حقيقة غدا.

وأول ذلك هو الهمة العالية.. تذكروا جيدا هذه الكلمة.. فالله يعطينا بحسب هممنا العالية..

وإلى هنا كان كلامه مقبولا عندي.. وكنت فرحا أني أحضرت طلبتي لأني كنت أتصور أنه سيحثهم على الترفع عن الدنايا والتطلع إلى الأهداف العظمى التي يؤدون بها الرسالة التي كلفهم الله بها.

لكن كل ذلك نسخ بعد أن سمعت بقية محاضرته..

كان يتجول في المنصة.. يحرك يديه بكل قوة، ويقول بصوت جهوري: سأقص عليكم الآن قصة امرأة عظيمة من الصحابة الأجلاء الذين نزل فيهم قوله تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [التوبة: 100]

أولئك الصحابة العظام الذين استطاعوا أن يقضوا على أكبر الامبراطوريات في ذلك العصر.. ويؤسسوا بدلها دولة كبيرة ضخمة امتدت من مشرق الأرض إلى مغربها.

قال ذلك، ثم التفت للحضور، وقال لهم: أنبئوني ما اسم هذه المرأة؟

سكت الجميع، وهم محتارون في هذه المعلومة الجديدة التي قصر أساتذتهم في تعليمهم إياها..

عندما رأى المحاضر وجوم الحاضرين، قال: لا بأس.. سأختصر الأمر لكم.. إنها من الصحابيات الجليلات.. وهي من مكة المكرمة..

قامت امرأة يبدو عليها الوقار المختلط بالاستضعاف، وقالت: لاشك أنك تقصد زينرة..

ضحك الجميع من جوابها.. وكان المحاضر أكثرهم ضحكا، وقد رد عليها، وهو لا يكاد يملك نفسه من الضحك: ومن زينرة هذه؟.. لأول مرة أسمع أن هناك امرأة بهذا الاسم.. لعلك شاهدتها في بعض الأفلام والمسلسلات.. أو لعلها مطربة أو راقصة..

كانت المرأة تريد أن تتكلم لتشرح له، لكنه تعمد ألا يلتفت إليها، بل التفت للحضور، وقال: هل رأيتم ما فعل بنا الإعلام الحديث؟.. هل رأيتم ما فعلت بنا السينما والدراما والمسلسلات والكليبات؟.. لقد نسينا أسماء الصحابة الأجلاء، وصرنا نذكر أسماء المغنيات والممثلات والراقصات..

غضبت المرأة، وراحت ترفع صوتها بقولها: عجبا لك يا شيخ.. ألا تعرف زنيرة تلك الصحابية التي ضحت بنفسها في سبيل قيام الإسلام.. وقد تعرضت لكل صنوف الأذى النفسي والجسدي.. ولكنها لم تستسلم.. وفيها وفي إخوانها وأخواتها نزلت تلك الآيات الكريمة التي كنت تقرؤها.

أحس المحاضر بحرج كبير عندما ذكرت المرأة هذا، لكنه استطاع أن يتخلص منه بنوع من الحيل التي تعلمها من ابن تيمية وغيره من أصحاب مدرسته، وقال: لا بأس.. لم تنفعلين هكذا؟.. وكأنك زنيرة بعينها..

ضحك الحضور، فزاد ذلك في زهو المحاضر الطاووس، وقال: فلنتنازل.. ولنفرض أنها صحابية.. وأنها من السابقين.. لكن هل ذلك يكفي.. تذكري جيدا.. نحن الآن في موضوع بعنوان [الهمة العالية]، ونحن نريد صناعة قيادات، لا صناعة جنود.. والمرأة التي ذكرتها ـ في حال صحة ما ذكرت من معلومات، لأن هناك خلافا كبيرا في أمثال هذه المسائل ـ تصلح مثالا للجندية والتضحية.. لا مثالا للقيادة.. والهمة العالية..

ولهذا فإن المرأة التي نريد أن نتحدث عنها، ونضرب المثل بها أكبر بكثير.. لأنها استطاعت مع تأخر إسلامها أن تتحول مباشرة من الجندية إلى القيادة.. وهذا ما نريده.. وهذه هي الهمة العالية التي نطلب منكم أن تترفعوا لها.

هذه المرأة استطاعت أن تجعل المؤرخين منشغلين بها، متناسين كل الأسماء التي سبقتها بما فيها ذلك الاسم الغريب الذي ذكرته هذه المرأة..

ولهذا فإن من يريد أن يكون فاعلا ومؤثرا وقائدا، فإن عليه أن يبحث عن هذه الأسماء التي خلدها التاريخ.. لا التي تغافل عنها، واحتقرها.

قامت امرأة من الحضور، وقالت بكل قوة: أجل.. لقد عرفتها.. إن كل كلمة من كلماتها تشير إليها.. إنها هند..

كبر المحاضر تكبيرات كثيرة، وقال: بورك فيك.. أجل.. إنها هند بنت عتبة بن ربيعة، وزوج أبي سفيان.. لكن كيف عرفت ذلك؟

قالت المرأة: لقد عرفت ذلك بسهولة.. فأنا اسمي هند.. وقد أخبرني والدي أنه سماني باسم هذه الصحابية الجليلة.. وذكر لي الكثير من أخبارها التي رفعت همتي، وجعلتني أنال الكثير من المراتب والمناصب التي لا يحلم بمثلها من هم في سني.

قال المحاضر، وهو يلتفت للمرأة الأولى: أرأيت تأثير الاسم في المسمى.. لقد جعلها اسم هند ترتقي في سلم الرقي.. فما اسمك أنت؟

قالت المرأة: زنيرة..

ضحك الجميع، فقال المحاضر، وهو يوجه كلامه لها: فما المناصب التي تبوأتها في حياتك يا ست زنيرة؟

قالت: أنا مسلمة.. ويكفيني ذلك وشرفا.

ضحك المحاضر، وقال، وهو يوجه كلامه للحضور: هل رأيتم همة أدنى من هذه.. لا يكفي أن تكونوا مسلمين.. فهذه همة دنية.. لابد أن تكونوا مؤثرين وفاعلين.. هل رأيتم هندا وماذا فعلت؟.. قارنوا بينها وبين زنيرة كما هما في الواقع، وكما هما في التاريخ.

قامت زنيرة، وقالت: ولكن كيف تقول هذا؟.. وكيف تستبدل زنيرة بهند؟ وأنت تعلم أن هندا كانت وأبوها وزوجها من ألد أعداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فزوجها أبو سفيان قضى أكثر عمره في حرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وكانت هي شريكة له في ذلك.. ولعلك تعرف قصتها يوم أحد، يوم كانت تحرض المشركين على قتال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ولعلك تذكر قصتها عند قتلها لحمزة، وعند أكلها لكبده..

ابتسم المحاضر، وقال: وكل ذلك من همتها العالية.. فهي عندما كانت مشركة لم ترتض لنفسها أن تكون مشركة بسيطة.. بل كانت مشركة قائدة وموجهة ومحرضة.. أي أنها كانت صاحبة همة عالية في كل مراحل حياتها.. وقد أكسبتها تلك القوة في الجاهلية قوة في الإسلام.. فراحت تربي أبناءها على ألا يكتفوا بأن يكونوا جنودا بسطاء، بل تربيهم ليصيروا قادة وفاعلين ومؤثرين.

تعجب الحضور من هذه المفاهيم الجديدة التي يطرحها الشيخ عليهم.. وقد لاحظ ذلك، فقال: لاشك أنكم تستغربون هذا.. ولكن هذه هي الحقيقة.. الهمة العالية تبقى همة عالية كانت في الجاهلية أم في الإسلام.. لقد ورد في الحديث الصحيح ما يشير إلى ذلك، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (الناس تبع لقريش في هذا الشأن، مسلمهم تبع لمسلمهم، وكافرهم تبع لكافرهم. الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا)([5])

هل رأيتم هذا الحديث العظيم.. وكيف يشير إلى هذا المعنى بكل وضوح ودقة.. إنه يذكر أن الناس تبع لقريش.. لأن قريشا كانت صاحبة همة عالية.. ولهذا نرى الذكر الكثير لهم، والإشادة الكبيرة بهم.. حتى أن الصحابة الذين من غير قريش نسوا وغفل عنهم التاريخ.. بينما الصحابة من قريش لا زالت أسماؤهم تملأ كل مكان.. حتى المبشرون بالجنة كلهم من قريش.. وكل الناس يحفظون أسماءهم.. بينما غيرهم لا يذكرهم الناس حتى لو بشروا بالجنة.

هذه نبوءة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي حققها التاريخ..ووقعت كما ذكر..

ولهذا تذكر الناس هندا، ونسوا كل من عداها من الأسماء نسوا سمية.. ونسوا زنيرة ـ في حال صحة ما ذكرت المرأة عنها ـ ونسوا أم عمارة.. لأن هندا كانت من قريش.. وقريش كانت تمثل القيادة بجانب سائر القبائل.. وكانت لها تلك القيادة بسبب همتها العالية..

هكذا ترون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعونا من خلال ذلك الحديث إلى البحث عن كل الأسباب التي تؤدي إلى الهمة العالية.

قامت المرأة الأولى، وقالت: ولكن ألم تسمع بما ورد في الحديث أنه صلى الله عليه وآله وسلم مر على رجل، فقال لأصحابه: ما تقولون في هذا الرجل؟ قالوا: نقول هو من أشرف الناس، هذا حري إن خطب أن يخطب، وإن شفع أن يشفع، وإن قال أن يسمع لقوله، فسكت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومرَّ رجل آخر فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:ما تقولون في هذا؟ قالوا: نقول والله يا رسول الله، هذا من فقراء المسلمين، هذا حري إن خطب لم ينكح، وإن شفع لا يشفع، وإن قال لا يسمع لقوله، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:(لهذا خير من ملء الأرض مثل هذا)([6])

ابتسم المحاضر ابتسامة صفراء، وقال موجها كلامه للحضور: لست أدري من الذي ينشر مثل هذه الأحاديث التي تصور لنا دائما الفقر والضعف والعجر بصور جميلة.. إن هذه الأحاديث هي السبب فيما حصل للمسلمين من تخلف..

ثم التفت للمرأة، وقال: لتفهمي هذا الحديث تحتاجين إلى التعرف على الكثير من العلوم، وأهمها مورد الحديث.. فلعل ذلك مرتبط بحالة خاصة، وفي زمان خاص.. فهل تعلمت هذا العلم.. أم أنك فقط ترددين ما تسمعين، دون أن تفهميه أو تعيه.

ثم التفت للحضور، وقال: فلنعد إلى هند.. تلك المرأة العظيمة صاحبة الهمة العالية في الجاهلية والإسلام.. لأقص عليكم قصة من قصصها تثبت لكم دور الهمة العالية في التحقق بكل مقتضيات القيادة.

لقد روى المؤرخون الثقاة أن (هندا بنت عتبة زوجة أبي سفيان وأم معاوية رضي الله تعالى عنهم أجمعين حين أتاها نعي يزيد بن أبي سفيان وقال لها بعض المعزين: إنا نرجو أن يكون في معاوية خلف من يزيد.. يعني يواسونها ويعزونها، فقالت: أو مثل معاوية يكون خلفاً من أحد؟! والله لو جمعت العرب من أقطارها، ثم رمي به فيهم لخرج من أي أعراضها شاء.. وقيل لها أيضاً ـ ومعاوية وليد بين يديها ـ: إن عاش معاوية ساد قومه، فقالت: ثكلته إن لم يسد إلا قومه!.. وهذه العبارة لها معان عظيمة جداً بعيدة المرمى؛ لأن معنى ذلك أنها رغم أن وليدها بضعة لحم لا يظهر عليه أي أمر مما يقطع بأن هذا سيكون إنسان له شأن، ولكن هذا معناه أنها تنوي أن تربي هذا الولد وتوجهه حتى إنها لتأنف من أن يسود قومه فقط، بل غضبت حينما قالوا لها: إن عاش معاوية ساد قومه، فقالت: ثكلته. يعني: الأفضل أن يموت إن لم يسد إلا قومه.. ومعروف أن معاوية من أكثر العرب سيادة وسياسة وحكمة كما عرف أثناء إمارته في الشام أو أثناء خلافته)([7])

قال ذلك، ثم كبر، وطلب من الحضور أن يكبروا معه، ثم قال: هل رأيتم مثل هذه الهمة العالية.. لقد استطاعت هند بفضلها أن تنجب ذلك البطل العظيم من أبطال الإسلام معاوية.. ذلك الذي أسس الدولة الأموية العظيمة.. تلك الدولة التي استطاعت بفعل حكمة حكامها الكثيرين أن تتربع على عرش قيادة العالم قرنا من الزمان.

إن تلك الدولة وحكامها هم أكبر النماذج الدالة على قوة الإسلام، وأنه ـ لو توفرت الهمم العالية لأبنائه ـ يستطيع أن يصبح القوة الكبرى والوحيدة في العالم.

هل تعلمون ـ أيها الحضور الكريم ـ أن الحكام في ذلك العصر.. عصر قوة الإسلام.. كانوا يخاطبون السحابة قائلين: أمطري حيث شئت.. فإن خراجك سيأتينا؟

هل تعلمون ـ أيها الحضور ـ أن خدم المسلمين في ذلك الحين لم يكونوا من العبيد السود فقط.. بل كان فيهم جميع الألوان.. لأن جيوش المسلمين استطاعت أن تدخل كل البلاد، وأن تجلب منها جميع أنواع الغنائم، وأن تحول أولئك المستكبرين إلى عبيد وخدم للمسلمين.

كبر الجميع إلا تلك المرأة التي تحدثت عن زنيرة، فقد استبدلت تكبيرها بالبكاء، ثم خرجت، والحزن يبدو على ملامحها، فتبعتها لأسألها عنها، وكيف بدا لها أن تذكر زنيرة، لكني لم أجدها، وعندما سألت البواب، وذكرت له ملامحها، قال: أجل.. أتذكر جيدا أن امرأة دخلت إلى القاعة من غير أن تكون لها أي بطاقة دعوة، ولا بطاقة طالب.. وعندما طلبت منها إظهار الدعوة أو البطاقة أخبرتني أنك أنت الذي دعوتها..

قلت: لا.. أنا لا أعرفها، بل إني لم أرها في حياتي إلا هذا اليوم.. فهل قالت لك شيئا غير هذا؟

قال: أجل.. لقد تذكرت.. لقد تركت لي رسالة طلبت مني تسليمها لك.

استعجلته في أن يحضرها لي.. وبعد عناء شديد في بحثه عنها، أخرجها، وسلمها لي.. وقد أصابني عند قراءتي لها عجب شديد.. لن أحكي لكم ما كتبت لأني أعلم أنكم لن تصدقوني، فأنتم ـ أصحاب الهمم العالية ـ لا تؤمنون إلا بالمحسوس..

لكني مع ذلك أذكر لكم أن تلك المرأة لم تكن سوى زنيرة تلك التي عذبتها قريش حتى عميت، وأعاد الله بصرها.. لكن كيف جاءت، وكيف تحدثت.. وكيف تركت رسالتها لي.. وماذا قالت فيها.. ذلك شأن آخر لا يطيق عقلي ولا عقولكم فهمه.


([1]) أنساب الأشراف: 1/84.

([2]) أنساب الأشراف 1/84.

([3]) أنساب الأشراف: 1/84.

([4]) أنساب الأشراف 1/84.

([5]) رواه البخاري ومسلم.

([6]) رواه ابن ماجة.

([7]) هذا النص الحرفي من محاضرة بعنوان [علو الهمة] للشيخ محمد إسماعيل المقدم، وهي متوفرة للنت للاستماع والتحميل الصوتي والنصي.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *