هل نحن معرضون عن النبوة؟

هناك جانبان في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي وظائفه الدعوية، أحدهما يمكن التعبير عنه بالرسالة، وهو تلك التعاليم العقدية والسلوكية التي بلغها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ربه، والتي اتفقت الأمة على قبولها، والأخذ بها.. وإن اختلفت في درجة ذلك.
والجانب الثاني، هو ما يمكن التعبير عنه بالنبوة.. أو هو معنى من معاني النبوة.. وهو كونه صلى الله عليه وآله وسلم مخبرا عن مستقبل هذه الأمة، وما ستمتحن به من أنواع الامتحان، وكيف تخرج منها سالمة، وهذا للأسف لقي إعراضا كبيرا من لدن الكثير من الناس.. وخصوصا الباحثين منهم، مع أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أدى ذلك على أحسن وجه وأكمله، ومع أن الكثير من ذلك قد بلغنا بوضوح ودقة لا يمكن الشك فيها.. ولكن مع ذلك كله نرى الأمة في هذا الجانب تعرض عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فتذكر من العلل غير ما ذكره، بل تتهرب مما ذكره، وتحتال عليه بصنوف الحيل.
ومن أمثلة ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الذي اتفق عليه الشيخان البخاري ومسلم، وهو ما رواه سعيد بن عمرو بن العاص قال: كنت مع مروان وأبي هريرة في مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فسمعت أبا هريرة يقول: سمعت الصادق المصدوق يقول: (هلاك أمتي على يدي أغيلمة من قريش، فقال مروان: غلمة، قال أبو هريرة: (إن شئت أن أسميهم بني فلان وبني فلان)([1])
فمع صحة الحديث، ومع كونه إخبارا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن دور أولئك الأغيلمة من قريش، والذين ورد في تفسيرهم في روايات أخرى بكونهم من بني أمية الذين يشملون معاوية ومن بعده.. ولكن مع ذلك لا نرى اهتماما بالبحث عن هؤلاء الأغيلمة، ولا عن أسرار إهلاكهم للأمة، ولا إفسادهم لها، في نفس الوقت الذي نجري فيه وراء روايات كاذبة عن شخص يهودي اسمه عبد الله بن سبأ لنستبدل به أولئك الأغيلمة الذين رفعنا من شأنهم، وحولهم سلفنا إلى أئمة وهداة.. وحول ملكهم المستبد إلى خلافة راشدة تمثل الإسلام.
وهكذا نتعامل مع إخباره صلى الله عليه وآله وسلم عن مواطن الفتن والزلازل، والذي حدده بدقة في قوله: (اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا)، فقالوا: وفي نجدنا يا رسول الله، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا)، فقال الناس: وفي نجدنا يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (الزلازل والفتن هناك: وهناك يطلع قرن الشيطان) ([2])
فمع صحة الحديث، ووضوحه، وانطباقه تماما على المنطقة التي ظهرت فيها الوهابية، وآل سعود.. ومع الدلائل التاريخية والواقعية الكثيرة التي تبرهن على ذلك، إلا أن الحيل الشرعية التي تعلمناها جعلتنا ننصرف عن ذلك كله.. فنسمي بلاد الفتن ومركزها [بلاد التوحيد]، ونسمي الملوك الذين دنسوا الحرمين بـ [خدام الحرمين]
وهكذا نتعامل مع قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن بعدي من أمتي ـ أو سيكون بعدي من أمتي ـ قومٌ يقرؤون القرآن، لا يجاوز حلاقيمهم، يخرجون من الدِّين كما يخرج السهم من الرميِّة، ثم لا يعودون فيه، هم شرُّ الخلق والخليقة) ([3])، وكان ابن عمر ـ أحد رواة الحديث ـ يصفهم، فيقول: (إنهم انطلقوا إلى آيات الله نزلت في الكفار، فجعلوها على المؤمنين)([4])
وهذا لا ينطبق إلا على فئة محدودة معلومة، هي وحدها من ترمي المسلمين بالشرك، وهي وحدها من تشبههم بالمشركين، بل تفضل المشركين عليهم، ومع ذلك نظل ندافع عنها، بل نعتبرها تمثل السنة، وكأن نبوءة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حولها كانت كنبوءات سجاح ومسيلمة تفسر بعكسها.
وهكذا نظل نتلاعب بكل نبوءاته صلى الله عليه وآله وسلم.. التي لم تترك شيئا.. حتى ما يحصل الآن في بلاد الشام واليمن وغيرها كله مذكور وبتفاصيله في كتب الدلائل وغيرها.. وكان الأولى به أن يدرس ويحقق فيه، لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحريص على هذه الأمة ما كان ليترك شيئا يؤذيها إلا ذكره وحذر منه..
لكن أولئك الذين يقتدون ببني إسرائيل في
الكتمان لا يزالون يحيون تلك السنة، ويتهربون من كل النبوءات التي تلاحقهم.. فإن
جاء باحث أو محقق وأخرج لهم تلك النبوءات ودعاهم إلى تفعيلها رموه بالرفض وما
تشتهيه نفوسهم من ألقاب.. مع أن الكتب التي وردت فيها تلك الأحاديث هي كتبهم..
والعلماء الذين صححوها هم علماؤهم الذين ملأوا الدنيا ضجيجا بالدعوة إليهم.
([1]) أحمد (2/324) والبخاري (4/242).
([2]) رواه البخاري ومسلم وغيرهما
([3]) رواه مسلم.
([4]) رواه البخاري.