هذه التجربة النازية.. فلا تعيدوا إحياءها

هذه التجربة النازية.. فلا تعيدوا إحياءها

عند التأمل المحايد للأطروحات العنصرية مهما كان مصدرها، نجد أنها تشترك في تضخيم الأنا الجمعي المرتبط بالقومية، وتقزيم غيره، واعتباره أقل شأنا من ذلك الأنا الجمعي المنطلق أصلا من تضخم الأنا الفردي.

فالفرد الذي يصيح في قرارة قلبه قائلا: { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24]، هو نفسه الذي يرى أن غير قومه أدنى بكثير من قومه، لسبب بسيط وهو أنهم ليسوا من قومه.

ولذلك كانت العنصرية مظهرا من مظاهر الكبر، وتجل من تجليات العجب، ونباتا من بذرة الغرور، وكل ذلك نتاج لتضخم الأنا وتعاظمها وتعاليها على حقيقتها وماهيتها.

ومظاهر هذا التضخم تختلف بحسب الظروف، فإن كان الظرف صعبا، تحلى العنصري والقومي ببعض مظاهر التسامح التي تسمح له بالبقاء والاستمرارية، لكنه إن أتيحت له الفرصة، وتمكن في الأرض، راح يمارس كل ما يمليه عليه ذلك الكبر من مظاهر الاستعلاء والظلم والاستبداد.

وقد ذكر الله تعالى نموذجا لذلك بفرعون الطاغية الذي راح يفسد في الأرض بسبب كبره واستعلائه، قال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 4]

وهكذا كان الطغاة في كل الأزمنة عربا كانوا أو عجما، يمارسون باسم عنصريتهم البغيضة كل أساليب العدوان على غيرهم من الشعوب التي ينعتونها بالبربرية والتخلف، ثم يستولون عليها وعلى خيراتها، ويستغلونها أبشع استغلال.

ولعل أقرب الأمثلة وضوحا على هذه النزعة العنصرية البغيضة، وتمكنها في الأرض، النزعة النازية، وهي نزعة عنصرية، راحت تستعمل الطين والحمأ المسنون وسيلة لتصنيف البشر، والتسلط عليهم.

يقول المسيري معبرا عن أثر العنصرية في ظهور النازية: (مع تَزايُد معدلات العلمنة الشاملة، لم يَعُد من الممكن تصنيف البشر على أساس ديني، فلم يكن ثمة مفر من تصنيفهم على أساس مادي موضوعي طبيعي كامن فيهم، وليس مفارقاً لهم. ولهذا، طُرح الأساس البيولوجي العرْقي أساساً وحيداً وأكيداً لتصنيفهم. وتم المزج بين هذه النظرية شبه العلمية ونظرية أخرى شبه علمية وهي الداروينية الاجتماعية، وكانت الثمرة هي النظرية الغربية في التفاوت بين الأعراق ذات الطابع الدارويني)([1])

وهذا الطرح النازي ـ كما عبر عنه المسيري ـ هو نفسه الطرح الذي ينادي به العنصريون الذين يتصورون أن لهم عرقا خاصا ومميزا، وأنهم مصنفون بيولوجيا تصنيفا يختلف بهم عن سائر الإنسانية.

ثم ذكر كيف استخدم النازيون ذلك الطرح العلمي في ظاهره العنصري في باطنه، فقال: (وتُقسِّم هذه النظرية الجنس البشري بأسره إلى أعراق لكلٍ منها سماته التي يمكن تحديدها علمياً، ومن ثم يمكن تصنيف البشر إلى أعراق راقية عليا: الآريون وبخاصة النورديون، وأعراق دنيا: الزنوج والعرب واليهود)

ثم ذكر أن ذلك التصنيف لم يكن تصنيفا علميا مجردا، وإنما كان له تبعاته على الواقع العملي، فذكر أن العنصر الآري الأبيض الذي تصور أن له نوعا من التفوق على كل الشعوب الأخرى راح يملي عليه مواقف سلبية من تلك الشعوب (تتجاوز أية منظومات قيمية، وأي حديث عن المساواة)

ثم ذكر أن هذه العنصرية العلمية راحت تبحث في الأعراق لتحدد المناطق التي يتواجد فيها هذا العنصر المميز، مثلما يفعل دعاة الأمازيغية تماما، يقول المسيري: (وقام المفكرون العرْقيون الغربيون بتطوير المفهوم، فذهبوا إلى أن هذا الجنس الآري انتشر من شمال الهند وإيران عبر الإستبس، إلى أوربا، وهو جنس يتسم ـ حسب نظريتهم ـ بالجمال والذكاء والشجاعة وعمق التفكير والمقدرة على التنظيم السياسي، وبأنه المؤسس الحقيقي للحضارة وبتفوقه على الساميين والصفر والسود)

ثم نقل عن [هيوستون ستيوارت تشامبرلين] (1855 ـ 1927) أن (النورديين هم أرقى الآريين، فهم الجنس السيد، أما اليهود والسود والعرب فيشغلون أدنى درجات السلم العرْقي)

وذكر المسيري الكثير من مظاهر الاعتداء على تلك الأعراق الدنيا، ومن أمثلة ذلك أن المواطن النازي [جوزيف كرامر] ذكر عن نفسه أنه سمَّم ثمانين امرأة بالغاز أثناء خدمته في أوشفيتس.. وحين سُئل عن مشاعره، صرح ببرود أنه لم تكن لديه أية مشاعر على الإطلاق، وقال للقضاة: (لقد تلقيت أمراً بقتل ثمانين من النزلاء بالطريقة التي قلتها لكم.. وبالمناسبة هذا هو الأسلوب الذي تدربت عليه)([2])

وذكر أن هذا الموقف المتلبس بالعلم، والمنفصل عن كل القيم الإنسانية، أخرج ما يطلق عليه (الصحة العرْقية)، والذي ينطلق من ضرورة الحفاظ على صفاء العرق، والتخلص من العناصر الضارة أو غير النافعة، سواء بما يُسمَّى (القتل الرحيم)، أو (القتل العلمي) أو (القتل المحايد) أو (القتل الأداتي) أو (القتل الموضوعي).. أي التخلص من المعوقين وغيرهم من المرضى بأمراض مزمنة عن طريق التصفية الجسدية.

وذكر أن النخبة النازية أصدرت عدة قوانين لضمان الصحة العرْقية، فوضعوا البشر تحت تصنيفات مختلفة.. منهم المستهلكون الذين لا نفع اقتصادي لهم: مثل المعتوهين والمتخلفين عقلياً والأطفال المعوقين والأفراد المتقدمين في السن والمصابين بالسل، والمرضى الميئوس من شفائهم.

ومنهم أعضاء الأجناس الدنيا مثل السلاف والغجر واليهود والأقزام، فهم (غرباء داخل الفولك الألماني ولا يوجد مبرر قوي لوجودهم إلا باعتبارهم مادة خاماً تُوظَّف لصالح الجنس الآري الأرقى، خاصةً أن بعضهم، مثل البولنديين، يشغلون المجال الحيوي لألمانيا)

وذكر أن النازيين أصدروا في 14 يوليه 1933 قانوناً يُسمَّى (قانون التعقيم) لمنع بعض القطاعات البشرية من المعوقين من التكاثر، وبموجبه تم تعقيم أربعمائة ألف مواطن ألماني.

وأُعلن عام 1939 عاماً يراعي فيه المواطن واجب التمتع بصحة جيدة وطُلب من كل طبيب أو داية أن تُبلغ عن أي مولود جديد معوق، وبدأت عملية القتل الموضوعي أو العلمي أو المحايد لهؤلاء الذين لا يمكن شفاؤهم.

وقد صُنِّف اليهود حينها باعتبارهم مرضى، وذلك نظراً لعدم نقائهم العرْقي، ومن ثم أصبح من الضروري إبادتهم، شأنهم شأن العناصر الألمانية غير النافعة ([3]).

ولم يتوقف الأمر عند ذلك القتل الذي يعتبرونه رحيما، بل تعداه إلى استعمال البشر وسيلة لأبشع التجارب العلمية، حيث كان النازيون يختارون بعض العناصر التي لها أهمية تجريبية خاصة لإجراء التجارب عليها. (وكان هذا يتم بسهولة ويسر وسلاسة؛ لأن البشر تحولوا إلى موضوع أو مادة محايدة في عقول القائمين على هذه التجارب)([4])

ومن الأمثلة التي ضربها المسيري على ذلك (الدكتور هانس إيسيل) الذي كان يقوم بعمليات استئصال دون تخدير ليدرس أثرها.

ومنها تجارب أجريت على نزلاء معسكرات الاعتقال، حيث كان بعضهم يُطلَق عليه الرصاص لاختبار فعاليته في الحرب، وعُرّض آخرون لغازات سامة في عمليات اختبارية.. وكان البعض يوضعون في غرفة مفرغة من الهواء لمعرفة المدة التي يستطيع الإنسان خلالها أن يظل حياً، وهو على ارتفاعات عالية أو بدون أوكسجين.. وكان الأوكسجين يُقلل تدريجياً ويخفض الضغط، حتى تنفجر رئاتهم.. كما كان الضغط الداخلي على أغشية طبلات الآذان يسبب لهم عذاباً يوصلهم إلى حد الجنون.

وذكر أن [الدكتور راشر]، وهو عالم نازي، قام بتزويد غرف الضغط في النهاية بمبردات تجبر عيناته على مواجهة شروط أقرب ما تكون إلى الارتفاعات العالية.. وكان يجري تجارب التجميد التي يتعرض فيها الأشخاص إلى البرد الشديد المستمر حتى الموت.. والهدف من ذلك معرفة مدة مقاومتهم، وبقائهم أحياء، وما الذي يمكن صنعه لإطالة حياة الطيارين الذين يسقطون في مياه متجمدة. ([5])

وذكر أن الطبيب النازي الشهير الدكتور منجل كان يقوم باختيار التوائم وإرسالهم لإجراء تجارب علمية فريدة عليهم، ومن أمثلتها أنه كان يفصل التوأمين ويضعهما في غرفتين منفصلتين، ثم يعذب أحدهما أحياناً ليدرس أثر عملية التعذيب على الآخر، بل كان يقتل أحدهما لدراسة أثر هذه العملية على الآخر.

وذكر عن [بريمو ليفي] قوله: (إن ألمانيا النازية هي المكان الوحيد الذي كان بوسع العلماء أن يدرسوا فيه جثتى توأمين قُتلا في نفس اللحظة) ([6])

وذكر عن [البروفسور هاليروفوردن] أنه سمع عن أنباء عن إبادة بعض العناصر البشرية التي لا تستحق الحياة، فقال للموظف المسئول بشكل تلقائي: إن كنتم ستقتلون كل هؤلاء، فلماذا لا تعطوننا أمخاخهم حتى يمكن استخدامها؟، فسأله: كم تريد؟ فأجاب: عدد لا يحصى، كلما زاد العدد كان أفضل.

ويذكر أن هذا البروفسور أعطاهم بعد ذلك الأحماض اللازمة والقوارير الخاصة بحفظ الأمخاخ.. وذكر أنه فرح فرحا شديدا حينما وجد أمخاخ معوقين عقليين (في غاية الجمال، على حد قوله) و(أمخاخ أطفال مصابة بأمراض الطفولة أو تشوهات خلقية)([7])

هذه مجرد نماذج عن حركة من الحركات العنصرية، والتي لم تنطلق إلا من ذلك التضخيم للأنا.. ثم استدرجها الشيطان رويدا رويدا لتمارس كل هذه السلوكات البشعة، وبمنتهى البرودة..

ولذلك، فإن من يريد أن يقطع دابر الشيطان، يحتاج إلى التخفيف من غلوائه، واعتبار نفسه بشرا كسائر البشر، ويمتلئ بالتواضع، وحينها ربما يضمن لنفسه أنه لن يحل به من الكبر والاستعلاء ما حل بفرعون وهتلر وزبانيتهما.


([1])  موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (5/ 143)

([2])  موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية: 5/ 240.

([3])  موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (5/ 243)

([4])  موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (5/ 243)

([5])  موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (5/ 244)

([6])  موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (5/ 245)

([7])  موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (5/ 246)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *