موازين العنصرية والطائفية

كلنا يزعم أنه ليس عنصريا ولا طائفيا ولا أنانيا ولا صاحب أثرة.. وكلنا يزعم أنه إنسان متجرد للحقيقة، ولا يدعو إلا للحقيقة، ويمتلئ فرحا بذلك، لأنه يزعم أنه المركز الذي تطوف حوله كواكب الحقائق.
لكن العاقل منا هو الذي يتهم نفسه، ويحاسبها، ويسألها عن البينات المثبتة لدعاوها، ولذلك لا يكتفي برؤية موقفه، وإنما يعرضه على موازين الله..
وموازين الله في هذا الجانب بحسب المصادر المقدسة اثنان.. أولهما التجرد مع الحقيقة، والدوران معها حيث دارت.. والثاني التعامل بما يقتضه العدل مع كل البشر، بل مع كل الكون.
الميزان الأول ـ التجرد مع الحقيقة:
وهو يعني أن المتجرد للحقيقة المخلص لها لا يبالي هل قبلها قومه، أم لم يقبلوها، وهل هي متناغمة مع قومه، أم ليست متناغمة معهم.. بل هو يطلب الحق لذات الحق، لا لأنه وجد قومه عليه.. فمعيار الحقيقة عنده هو كونها حقيقة، لا لكون قومه اعتقدوها أو فعلوها.
ويلزم من هذا الميزان أن المتجرد للحق يسمعه من أي كان، ويأخذ الحكمة من أي فم خرجت، ومن أي بلد صدرت.. فهمه الحكمة لا قائلها، ولا مصدرها.
ويلزم منه أيضا أن يدور المتجرد مع الحق حيثما دارت الحقيقة، فبوصلته هي الحقيقة، لا من يزعم أنه يمثلها.
وقد عبر القرآن الكريم عن تخلف هذا الميزان في عقول ونفوس أقوام الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الممتلئين بالعنصرية، فقال: { بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} (الزخرف:22)
ويخبرنا عن ذلك الموقف السلبي الذي وقفه العنصرون من دعوات الأنبياء بسبب أنانيتهم حرصهم على هويتهم وهوية أجدادهم، فقال: { قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} (الزخرف:24)
ولذلك، فإن الميزان الذي الذي يضعه القرآن الكريم للدلالة على التجرد للحق، والتخلص من الأنانية والقومية والعصبية هو ما عبر عنه قوله تعالى:{ لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ}(المجادلة:22)
ويعقب القرآن الكريم مبينا العوض الإلهي لهؤلاء الذين باعوا الفرح والزهو بالقومية والشعوبية والعشائرية بفرح الانتماء لله رب العالمين، جزاء لا يمكن تصوره، وعوضا لا يفقه إلا من ذاقوه، قال تعالى:{ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (المجادلة:22)
ولا بأس أن نقرب هنا بعض ما ذكر من بدائل إيمانية تعوض المضحين بالقومية والعشائرية، فأول ما يرزقون هو الإيمان الذي عبر عنه القرآن الكريم بالكتابة، فهو إيمان مكتوب في قلوبهم لا تمحوه المياه، ولا يؤثر فيه المناخ.
والجزاء الثاني هو تأييدهم بروح منه.
والجزاء الثالث هو إدخالهم الجنات التي تجري تحتها الأنهار خالدين فيها.
والجزاء الرابع هو رضى الله عنهم، وهو الرضى الذي لا يساويه أي جزاء.
والجزاء الخامس هو رضاهم عن الله.
والجزاء السادس هو أنهم لا ينسبون إلى عشائر أو أقوام بل ينسبون إلى الله.
والجزاء السابع، وهو خاتمة كل هذه الجوائز الربانية هو الفلاح المستقر المستمر الذي لا تقرره لجان بشرية يغلب عليها الهوى، وتتحكم فيها الأمزجة، وتكثر حوله الطعون، بل هو نجاح بتقرير رباني يحمل موشور السعادة الدائمة الخالدة.
وقد عبر عن هذا الميزان قوله تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8]
فالآية الكريمة تعتبر العدالة ركنا من أركان التقوى، ثم تطالب بتعميم العدالة على الجميع حتى على من يبدون العداوة لنا.
لذلك فإن الميزان الذي نزن به أنفسنا هو تعاملنا بالعدالة في كل شيء مع كل البشر، سواء في أحكامنا أو مواقفنا أو سلوكنا.. فالخلق الحسن واحد مع الجميع، ومن ميز في سلوكه، فتعامل مع قوم بالرحمة، ومع آخرين بالعنف، فقد وضع نفسه في حزب الطائفيين والعنصريين الممتلئ بالنتانة.
ولذلك وبخ الله اليهود لتمييزهم بين البشر، فقال: { وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [آل عمران: 75]
ويدخل في هذا الباب أولئك الذين يرمون الأحفاد بجرم الأجداد، فيحملونهم أوزار أسلافهم، مع أن الله تعالى يقول: {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]
ويدخل فيهم أيضا أولئك العنصريين الذين يرددون من غير شعور مع الشاعر الجاهلي قوله:
وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت |
وإن ترشد غزية أرشد |
أو ذلك الذي كان يحمل سيفه، ويقاتل به، لا لكونه رأى ظلم من يقاتلهم، وإنما لأن قومه دعوه لذلك، فقومه في تصورهم هم مركز الحقيقة والعدالة ومنبعها ومقياسها، وقد عبر عن ذلك شاعرهم بقوله:
قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم |
طاروا إليه زرافات ووحدانا |
وقال آخر:
لا يسألون أخاهم حين يندبهم |
في النائبات على ما قال برهانا |
أي أنهم لا يسألون أخاهم: (لماذا نحارب؟)، وإنما يحاربون بلا سبب، ولأي سبب، فالحمية الرعناء تدفعهم للقتال بلا سبب.
وهكذا لو طبقنا هذه المقاييس على كثير من القوميين والشعوبيين لوجدناهم يمثلون الجاهلية في أجلى صورها وأوضحها وأدقها، وأنه لا فارق بينهم وبين أولئك الذين واجههم الأنبياء إلا في التلاعب بالأسماء، كما ورد في الحديث: (إن أمتى يشربون الخمر فى آخر الزمان يسمونها بغير اسمها)([1])
وهكذا شربت خمرة الطائفية
والعنصرية والعرقية، وسميت بأسماء كثيرة.. والأسماء الطيبة مهما كثرت لن تحلل
المسميات الخبيثة، ولن تطيبها، ولن ترفع رائحتها المنتنة.
([1]) رواه الطبرانى (11/118، رقم 11228) . قال الهيثمى (5/57) : رجاله ثقات.