مكة ليست مكة

من المهارات العجيبة التي يتقنها الكثير من التنويريين الجدد ذلك التلاعب بالحروف والكلمات والجمل، حتى يهيأ لك أنك لم تعرف في يوم من الأيام لغتك العربية الجميلة الواضحة، وأنك لم تقرأ في يوم من الأيام كتاب ربك، ولا فهمته، ولا تدبرته، مع كونه ـ كما يصف الله تعالى ـ {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 195]
بل يحيلونه في عينيك كتابا من كتب الطلاسم، الممتلئ بالحروف العجيبة، واللغة الغريبة، والجمل التي لا يمكن فك أسرارها ورموزها.. وكأن الله تعالى عندما قال: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 17]، والتي كررت أربع مرات في سورة القمر، لم يكن يقصد التيسير، بل كان يقصد عكسه.
فمن أمثلة ذلك ما قرأته عن بعضهم أن مكة المكرمة ليست هي مكة التي نعرفها.. بل هي مكة أخرى.. والدليل على ذلك أن الميم تفيد كذا وكذا.. والكاف تفيد كذا وكذا.. وهكذا يركب من خلال تلك الحروف جملة عجيبة تجعل من مكة المكرمة بلدة في الشام، أو في إفريقية، أو في أي مكان آخر إلا المكان الذي توجد فيه.. ويصبح حينها كل الحجاج على مدار التاريخ ـ والذين قصدوها بقلوبهم وأجسادهم، وتحملوا كل ألوان العناء في سبيل ذلك ـ مجرد مضللين ومخدوعين وتائهين.. لأنهم لم يعيشوا للزمن الذي تعرف فيه مكة الحقيقية.
ويذهب آخر إلى اسم الله العظيم [الرحمن]، فيربطه بالآرامية أو السريانية أو العبرية ليحوله إلى معنى جديد لم يسمع به لا الخلف، ولا السلف، حتى يهيأ لك أنه لولا ذلك المفسر العجيب، لبقي هذا الاسم العظيم مجهولا إلى يوم الدين.
وهكذا يذهب آخر إلى لفظة [كتاب].. فتتحول إلى كل شيء ما عدا الكتاب.. وآخر يذهب إلى كلمة البقرة.. فتتحول من الحيوان المعروف الذي نشرب لبنه، ونأكل لحمه إلى كائن آخر.. مختلف تماما.
والمشكلة ليست في الكلمات، بل في المعاني حيث يتحول المعنى القرآني الواضح الدقيق إلى معنى ممتلئ بالغرابة، ليصبح بعدها مطية لكل دجل وخرافة وأسطورة.
حتى صار الذي يريد أن يؤيد نظرية التطور يذهب إلى قوله تعالى: {سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون: 12]، فيحولها إلى [سلالة من قردة]، ويحول الطين إلى ما يسميه علماء التطور بـ [الحساء البدائي]، ويفرق بين البشر والإنسان.. ليجعل من القرآن الكريم مطية لقبول تلك النظرية البائسة، والخرافات المرتبطة بها.
وهكذا نجد التلاعب بالقيم القرآنية، وحقائقها المقدسة الواضحة، حيث تتحول إلى معان أخرى، مختلفة تماما.. وكل ذلك من خلال التلاعب بالحروف والكلمات والتراكيب، مستثمرين قوة العربية، وسعتها، ومستثمرين تلك المناهج التي تجعل من النصوص المقدسة نصوصا مطاطة يمكن لأي شخص أن يتلاعب بها، ويحرفها إلى الجهة التي يريد.
ولعل القرآن الكريم أشار إلى هذا المعنى عن اليهود، وما كانوا يفعلونه من تلاعب بالألفاظ، حين قال: { فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [البقرة: 59]
وللأسف، فقد صار القرآن الكريم عند هؤلاء لا نورا للهداية، ولا دستورا للصراط المستقيم، ولا كلمات الله المقدسة التي أنزلها لعباده لينقذهم من نفوسهم وأهوائهم والشياطين التي تتربص بهم، بل أصبح وسيلة للتضليل والتمويه والتلاعب.