مسجد ضرار

مسجد ضرار

الأصل في المساجد التي أقيمت على أسس من تقوى الله أن تكون ملاذا لأصحاب النفوس المشتتة لتطمئن، ولأصحاب العقول الحائرة لتهتدي، ولأصحاب الأرواح المسجونة في سجون الأهواء لتتحرر وتسمو.

والأصل فيها أن تكون صماما لأمن المجتمع ووحدته.. فلا يرتفع فيها صوت إلا صوت الوحدة والسلام والسكينة.

وعلى عكسها مساجد الضرار التي وصفها القرآن الكريم أدق وصف، فقال: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة: 107]

ومساجد الضرار لا تتوقف على ذلك المسجد الوحيد الذي بناه المنافقون بمعونة المشركين في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليكون وسيلة لخلط القيم الشيطانية بالقيم الإسلامية، بل هو مسجد قد يبنى في أي مكان، وقد يوجد في أي زمان، بشرط واحد ما أسهل توفره، وهو أن يصبح محلا للفتنة، لا للسلام.. ولتشتيت القلوب، لا لطمأنينتها.. ولتفريق الأمة، لا لتوحيدها.

والمساجد التي تتوفر على هذا الوصف في عصرنا أكثر من أن تحصى.. بل إنها تكاد تزاحم المساجد المؤسسة على التقوى، وتنافسها، وتلغيها..

فما أكثر الفتن التي انطلقت بأسماء مختلفة من المساجد، وبعد صلاة الجمعة، لتشعل نيران الفتن في المجتمع، وتحرق وتقتل وتكفر وتبدع وتضلل وتهدم باسم الله، وباسم الدين، وتعطي صورة عن التدين القاسي الغليظ الممتلئ بكل القيم الشيطانية.

ربما أكون مخطئا في هذه الأحكام.. لكني سأذكر لكم مشهدا من المشاهد عن مسجد من المساجد، ولكم أن تحكموا عليه بما شئتم.. لكن فقط.. لا تخضعوا للعقل الجمعي في أحكامكم.. بل انطلقوا من كتاب الله تعالى الذي فرق بين مساجد الضرار ومساجد التقوى.. فجعل للأولى الفرقة والفتنة والتضليل والتشويه.. وجعل للثانية الوحدة والسلام والطمأنينة والسكينة.

وتبدأ قصتي مع ذلك المسجد من سفر حملت فيه بعض أهلي للتداوي.. وقد كان مرضه شديدا، والحمى تغرز فيه أنيابها السامة لتجعله يتلظى من حرها وسمها.. لكني لورعي الشديد، والممتلئ بالبرودة، وبعد مروري ببعض المساجد، وسماعي لآذانها، طلبت من السائق أن يتوقف بنا لأداء الصلاة، لنكمل بعدها مسيرنا للمستشفى.

وقد كان في نيتي أن أدخل، وأصلي مباشرة من دون انتظار الجماعة.. لكن الأمر بعد دخولي إلى المسجد خرج من يدي، وأصبح في يد أولئك الذين لست أدري ما أسميهم.

فبعد أدائي والسائق للصلاة فرادى، وعزمنا على الخروج، لاقانا رجل من الذين تعرفون.. لست أدري هل كلفته إدارة المسجد بالحجابة.. أم أنه تولى ذلك تطوعا، فقد لاقانا، وقال لنا بلغة غليظة: إلى أين.. الصلاة لم تقم بعد؟

قلت: لقد صليناها فرادى.. ونحن الآن مستعجلون.. نريد الخروج.

أوقفنا، وقال: يا أخي.. هذا لا يصح.. ما بالكم.. ألم تقرؤوا كتب الفقه.. ألم تسمعوا إلى المشايخ.. بعد سماع الآذان لا يحق لكم أن تخرجوا من المسجد إلا بعد أداء صلاة الجماعة فيه؟

قال ذلك، ثم أخرج لنا مطوية، وراح يقرأ لنا فتاوى العلماء في ذلك.. لكنني تجرأت، وقلت: ولكن..

فقاطعني بغضب شديد، وقال: يا الله.. هل هناك من يعقب على أحكام الشريعة.. ما بالك يا رجل.. ألا تفهم.. صلاة الجماعة واجبة حسب الأدلة الكثيرة الصحيحة.. ولا يحق لكم أن تتركوا الواجب..

قلت متوسلا: أرجوك اسمعني فقط..

قال بغلظة: كيف أسمعك، وأنت تتحدى أوامر الله، ولا تقيم دينه.. هل تحسب أن المسجد ملعب، تدخله متى تشاء، وتخرج منه متى تشاء.. المسجد بيت الله، وله حرمته..

أردت أن أتكلم، لكن صاحبي السائق، أخذ بيدي، وقال: صدقني.. لا جدوى للحديث معه.. فلنصبر، ولننتظر صلاة الجماعة.. فنكسب التخلص منه، ونكسب أجر الجماعة.

لم أجد إلا أن أسلم له فيما قال، ولو أن كل ثانية كانت تمر علي في ذلك المسجد، وكأنها سنة كاملة، لأن قلبي كان مع ذلك المريض الذي تكاد الحمى تفتك به.

انتحيت ناحية من المسجد، ورحت أحمل مصحفا، وأخذت أقرأ القرآن الكريم.. لكن غليظا آخر.. ولست أدري كيف سمع قراءتي الخافتة.. اقترب مني، وقال: لقد ارتكبت أخطاء كثيرة فاحشة في قراءتك لهذه الآية..

قلت: شكرا جزيلا.. أرجو أن توضح لي.

قال: لقد حولت المد اللازم إلى مد طبيعي.. وفوق ذلك لم تؤد الغنة جيدا في النون الساكنة.. ورققت الراء مع أنها لا ترقق في ذلك المحل..

وأخذ يعد علي أخطائي الكثيرة من قراءتي لآية واحدة.. فقلت له معتذرا: شكرا جزيلا على المعلومات.. أنا في الحقيقة نسيت بعض الأحكام التي ذكرتها.

غضب الرجل، وقال: وهل تحسب أن أحكام الترتيل لعبة لك أن تنساها متى تشاء، وتتذكرها متى تشاء.. أحكام الترتيل هي المدخل الذي تدخل به إلى القرآن.. وإلا فلا يصح لك أن تحمله ولا أن تقرأه.. أنت بقراءتك هذه تحرف القرآن من حيث لا تشعر.

قال ذلك، ثم أخرج من جيبه مطوية، وراح يقرأ لي فتاوى العلماء في ذلك.. وأنا أكاد أنفجر.. لكني لم أملك إلا أن أستسلم له، وأقول ـ والغيظ قد أخذ مني كل مأخذ ـ: شكرا جزيلا على النصيحة الغالية، وسأعمل بها.

أخرج ورقة وقلما من جيبه، وقال: بورك فيك.. لاشك أنك رجل صالح.. ولهذا سأضمك إلى الفريق الذي أدرّسه أحكام الترتيل.. أعطني بطاقتك لأسجل اسمك في القائمة.. فلدي دورة هذا الأسبوع.

قلت: ولكن أنا..

قاطعني، وقال: لا تخف يا رجل.. فالدورة مجانية.. ولم نقمها إلا لوجه الله.. أعطني بطاقتك فقط.

أردت أن أتكلم، فقال: ما بك يا رجل.. هل تتصور أنني سأسلب مالك.. أقسم لك أن الدورة مجانية.. أعطني بطاقتك فقط.

التفت إلى السائق الذي وضعني في هذه الورطة، فرأيته يخرج بطاقته، ويسلمها مستسلما لغليظ مثل الغليظ الذي بجانبي، فلم أجد سوى أن أفعل ما فعل.. وليتني ما فعلت، فقد قام بمجرد أخذها، وقال: سأقوم بتسجيل بياناتك في الدفتر المخصص لذلك، وسنلتقي بعد الصلاة.. وسأسلمك حينها البطاقة.

أخذت بيده، وقلت: أنا مستعجل الآن.. ولدي مريض.. أرجوك أرجع لي بطاقتي.

نظر إلي بغلظة، وقال: أراك تتكبر على العلم الشرعي.. ألا تعلم الأجور المعدة لطلبة العلم.. ألا تعلم ما ورد في الحديث الذي رواه البخاري بسنده عن..

وأخذ يذكر لي الكثير من الأحاديث بأسانيدها، وأنا كالمرجل الذي يغلي، ولكني خفت إن اعترضت عليه، أن يعتبرني معترضا على الأحاديث التي كان يرددها.. فلذلك لم أجد إلا الصمت والاستسلام.

بعد أن انصرف عني، نظرت إلى الساعة قلقا مضطربا، فتقدم إلي أحدهم، وقال: أراك مضطربا قلقا.. هل حصل شيء؟

طمعت في أن يجعل الله فرجي على يديه، فقلت: أجل.. وددت لو أذن لي أن أخرج لأن لدي حاجة ضرورية..

وضع يده على عيني، وراح يفتحها، كما يفعل الأطباء، ثم راح يقول بصوت خافت: العلامات كلها متوفرة فيك.. فأنت مضطرب في المسجد.. وتريد الخروج منه.. وتتحيل لذلك بكل أنواع الحيل.. وهذه كلها علامات على أنك مسكون..

اندهشت من قوله هذا، وقلت: مسكون.. من طرف من؟

قال: من طرف الجن.. أنت الآن مسكون من طرف عفاريت كفرة.. كل الأدلة تدل على ذلك..

أخرج بطاقة صغيرة من جيبه، وقال: هذه بطاقتي.. وفيها أرقام هواتفي، وعيادتي، يمكنك أن تزورني في أي وقت تشاء.. لكن عجل حتى لا تتفاقم حالتك..

قال ذلك.. ثم انصرف عني.. فجاءني غليظ آخر، وجلس بجانبي، ثم أخذ يحدق في وجهي، فظننت أنه يعرفني.. أردت أن أسأله عن شأنه، فقال لي بكل برودة: ألا تستحيي من نفسك؟

تعجبت من هذا الصلف والوقاحة، لكني لم أشأ أن أدخل معه في صراع، فقلت له بكل هدوء: لم؟.. هل تراني فعلت شيئا؟

قال: ألا ترى الفرق بينك وبين جميع من في المسجد؟

قلت: معاذ الله أن أرى فرقا بيني وبين إخواني المؤمنين.. ما بالك يا رجل أنا مسلم موحد.. وأؤمن بأن المؤمنين جميعا إخوة.

قال: لا تخرج عن الموضوع.. أخبرني.. ألا ترى أنك تختلف جذريا عن هؤلاء الذين تزعم أنهم إخوانك؟

قلت: في أي شيء؟ فأنا لا أرى أي فرق بيني وبينهم.

أخرج مرآة من جيبه، وقال: انظر إلى وجهك، فلعل نسيته.

نظرت إلى وجهي في المرآة، ثم قلت: وجهي هو وجهي الذي أعرفه منذ سنوات.. لم يتغير.. فما الذي تراه أنت، ولا أراه أنا؟

أخذ المرآة بقوة، وأعادها إلى جيبه، وقال: ما أغباك وأشد غفلتك.. ألا ترى أن جميع أهل المسجد ملتحين إلا أنت؟

قلت: ألا ترى لحيتي.. نعم هي قصيرة.. ولكن مع ذلك يمكنك أن تعتبرها لحية.

مد يده إلى لحيتي، وأخذ يشدها بقوة، ويقول: هل تعتبر هذه الشعرات لحية.. قارن بين طولها وطول لحيتي.. أو بينها وبين لحى من تراه من المصلين.

كدت أنفجر من الغضب.. لكن الجبن حملني على أن أداريه قدر المستطاع، فقلت: شكرا جزيلا على النصيحة..

أخرج من جيبه مطوية، وقال: ما دمت قلت ذلك.. فاسمع لما أقرؤه عليك من فتاوى كبار العلماء في تحريم حلق اللحية أو تهذيبها..

قال ذلك، ثم أخذ يقرأ لي الفتاوى الكثيرة.. ويرددها علي بصوت مرتفع.. وهو في كل حين ينظر إلي، ويقول: هل اقتنعت.. ألا يكفيك هذا؟

وأنا أقول: بلى.. اكتفيت.. يكفيني هذا.

فيرد علي بصلافته ووقاحته: إن لم تكفك تلك الفتوى.. فاستمع لهذه..

وهكذا بقي يردد علي أمثال ذلك إلى أن قام قيم المسجد، وطلب من الناس الاصطفاف للصلاة، فتنفست الصعداء.. لكني لم أعلم المصائب التي كانت تنتظرني.

بقينا مدة واقفين منتظرين إقامة الصلاة.. لكن لا الإمام ولا القيم ولا غيرهما أقدم على ذلك.. ولعلهم خشوا إن صلى الناس أن ينفضوا عنهم.. ولذلك راحوا يستغلون كل لحظة..

أخذ الإمام مكبر الصوت، وقدم خطبة طويلة حول أحوال المسلمين وضعفهم وفقرهم وتعرضهم للإبادة في جميع أنحاء الأرض، ثم وضح غرضه من تلك الخطبة الطويلة، وقال: بناء على هذا سنقوم الآن بجمع تبرعاتكم لإنقاذ المسلمين.. فأنفقوا ما استطعتم.. وكلما كان أكثر كان أفضل.

ثم أخذ يرتل الآيات القرآنية المرتبطة بالإنفاق في الوقت الذي حمل فيه بعض المصلين أكياسا، وراحوا يمرون بها على المصلين..

مددت يدي إلى جيبي أبحث عن بعض المال الذي أخرج به المسلمين من المصائب التي يعيشون فيها، فلم أجد إلا المبلغ الذي أريد تقديمه للسائق والمستشفى.. فأصابني حياء شديد.. وطأطأت رأسي رجاء أن يمر من يجمع المال علي من دون أن يلتفت، لكن ذلك لم يحصل.. فقد كان المكلف بجمع المال أكثر صلافة من الجميع.. بل كان أكثر غلظة وشدة من جامعي المكوس والضرائب.. فقد مد يده إلي، وقال: يا رجل.. ضع ما عندك هنا.. ألا تريد أن تنقذ المسلمين؟

قلت: أرجو المعذرة.. لم أحضر معي أي مال.

نظر إلي بغلظة، وقال: أنت تكذب.. وفي المسجد.. أنا أعلم أن في جيبك مالا، ولكنك بخيل.. ولا تخاف الله.. وليس في قلبك رحمة.

التفت للمصلين حولي، فوجدتهم جميعا يستعيذون مني ومن بخلي، بل إن الذي كان بجواري همس في أذني قائلا: ألا تخاف الله.. كيف تلقى الله وأنت ترى ما نزل بالمسلمين من مصائب، ومع ذلك لا تمد يدك إليهم بالمعونة؟

شعرت بتأنيب كبير من نفسي، وشعرت حقا بأني بخيل كما يقولون.. ومددت يدي لجيبي، لكني تذكرت السائق والمستشفى والمريض.. فقلت في نفسي مطمئنا لها: هؤلاء أيضا مسلمون.. وهم أيضا محتاجون إلى مالي..

 بعد أن انتهوا من جمع المال، قامت الصلاة، فتنفست الصعداء، لكن الإمام بعد إقامة الصلاة قال: ننبه إلى أننا سندعو في الصلاة بقنوت النوازل ليخرج المسلمون من أزمتهم، وليفرج الله عليهم، ويقمع أعداءهم، ويجمد الدماء في عروقهم.

قلت في نفسي: لا بأس.. ما دامت الصلاة قد بدأت، فسرعان ما تنتهي، فقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بتخفيف صلاة الجماعة.. ولا شك أن هؤلاء حريصون على تطبيق هذه السنة.

لكن الأمر لم يكن كما تصورت.. فقد راح يصلي صلاة طويلة، لست أدري ما كان يقرأ في كل ركعة، ولا ما يقول في كل ركوع وسجود.. والذي آذاني أكثر أن الذي أصلي بينهما خنقاني خنقا شديدا، فكلما أبعدت كتفي راحا يضغطان عليها، وكلما أبعدت قدمي راحا يلصقان فيهما قدميهما بقوة.. ويشهد الله أني لم أخشع في تلك الصلاة ولم يحضر قلبي فيها، لأن الصراع الذي بيني وبين جاري فيها شغلاني عن القراءة والتسبيح والتكبير، ولم أستفق إلا بدعاء القنوت.. وما أدراك ما دعاء القنوت..

لقد راح الإمام يستعرض فيه جميع مناوئيه وأعدائه.. ويدعو عليهم واحدا واحدا.. يسميهم بأسمائهم.. ولم يكتف بذلك بل راح إلى جميع طوائف المسلمين يدعو عليهم بالويل والثبور وعظائم الأمور.. ولما فرغ منهم راح لليهود، فدعا الله أن يزلزل أرضهم، ويحرق مصانعهم، ويجمد الدماء في عروقهم.. ولما فرغ منهم راح للنصاري، ودعا عليهم بالجنون والبرص والجذام وسيء الأسقام.. ولما فرغ منهم راح للبوذيين، فدعا عليهم بهمزات الشياطين ونفثهم ونفخهم وهمزهم.. ولما فرغ منهم راح للشيوعين، ودعا عليهم بالخسف والمسخ والكسوف والخسوف..

وهكذا لم يترك دينا ولا ملة ولا شعبا إلا دعا عليهم، وأنزل أحقاده فيهم..

وبعد أن انتهى، وانتهت الصلاة، أردت الخروج، فأخذ بيدي مجاوري في الصلاة، وقال: ويلك يا رجل.. ما هذه العجلة.. أين التسبيحات.. هل ضاقت نفسك من الصلاة إلى هذا الحد؟

قال ذلك، ثم أخرج مطوية، وراح يقول: انظر ما ورد فيها من فضل.. وأخذ يقرأ لي بعض الأحاديث الواردة في ذلك مشفوعة بأقوال السلف والخلف.

ولما انتهيت منها ومنه قمت أريد الخروج.. لكني وجدت المصلين مبعثرين على أنحاء المسجد، ولم أجد ممرا آمنا أمر منه، فقلت في نفسي: لا بأس.. أنا الآن مضطر.. وليس علي من حرج في أن أمر عليهم وهم يصلون..

قلت ذلك، وأنا متصور بأن الأمر يسير، وأن الحرج فيه مرفوع.. لكني لم أحاول المرور أمام المصلي الأول حتى ضربني على صدري ضربة شديدة كدت أسقط أرضا، لولا أن أحدهم أمسك بي، وقال بكل غلظة: له الحق في ذلك.. فكيف تتجرأ على المرور بين يديه وهو يصلي.. ألا تعلم عقوبة ذلك؟

قلت: ولكن لم ضربني بكل تلك القسوة.. كان يمكنه أن يمنعني بهدوء.

قال: وكان يمكن أن يضربك ضربة قاتلة.. ألا تعلم فتاوى العلماء في ذلك؟

قال ذلك، ثم أخرج لي مطوية، وقال: انظر ما قال العلماء في المار بين يدي المصلي.

لم أنج منه، ومن فتاواه إلا بعد معاناة شديدة، وبعد أن كادت تخرج روحي.

بعد أن تخلصت منه، وبعد أن كاد يفرغ المسجد من المصلين أسرعت إلى الباب، لأنجو بنفسي، لكني فوجئت بمكبر الصوت، وهو ينادي على اسمي من جملة أسماء كثيرة، ويدعونا بعدها للاقتراب من محراب المسجد، للتسجيل في الدورة المرتبطة بأحكام الترتيل.. فتذكرت بطاقتي.. ورحت أسرع إلى المحراب مع جمع من المصلين، بينهم السائق.

وأمام المحراب.. وقف الإمام، وراح يشكرنا لأننا تقدمنا لهذه الدورة، ثم راح يشرح لنا أهمية أحكام الترتيل، وأنه لا يمكن قراءة القرآن الكريم ولا فهمه من دونها.. وراح يطنب في ذلك، ثم وزع لنا مطوية فيها فتاوى العلماء المرتبطة بذلك.. وطلب منا أن ندفع مبلغا رمزيا مقابلها..

وكنت كلما رفعت يدي لأستأذن، وأخبره بالمريض الذي ينتظرني في الخارج، كان يقول: سأترك لكم مجال الأسئلة بعد أن أنتهي.. فلا تستعجل.

بعد أن كدت ألفظ آخر أنفاسي، سلم لنا البطاقات بعد أن سجل كل البيانات الموجودة فيها، وبعد أن أرغمنا بكل الوسائل على الإمضاء على الحضور اليومي، وبعد أن استل منا بعض المال الذي زعم أنه سيوزع للمسلمين الذين يتآمر العالم عليهم.

بعد أن أخذت بطاقتي، وتنفست الصعداء، رحت أهرول فارا من المسجد، وكأنني فار من أسد هصور يريد أن يلتهمني.

ركبت السيارة، وركب السائق معي، والتفت إلى المريض، فوجدته يرتعش بشدة، وقد أخذت الحمى منه كل مأخذ حتى أنه لم يستطع أن يتكلم.

طلبت من السائق أن يسرع بنا.. فأسرع.. وما هي إلا فترة وجيزة حتى كنا بجانب المستشفى.. فطلبت من السائق أن يخبرني عن المبلغ الذي يستحقه.. فنظر في العداد، وقال: لقد بقيت معك زهاء ساعتين.. وعليك أن تدفع لي حقهما..

قلت مستغربا: لكن المسافة بين بيتي وبين المستشفى لا تتجاوز ربع ساعة.

قال: وهل نسيت ذهابك إلى المسجد.. وحضورك للدورة.. أم أنك تحسبني متفرغا لك.. وليس لي أسرة ولا أولاد.

قلت: ولكنك كنت معي.. وأنت الذي طلبت مني أن نبقى.

أخرج مطوية من جيبه، وقال: لن أجادلك.. فهذه فتاوى العلماء في هذا الشأن.. وأنا أعمل كل يوم بهذه الطريقة.. ولم يجادلني أحد غيرك.. ما أشد بخلك.

لم أجد ما أقول له، لأن لساني انعقد، وعقلي غاب، ولم أصحو إلا بعد فترة طويلة.. وعندما صحوت وجدت المريض الذي أحضرته واقفا على رأسي، ويقول لي: هل أنت بخير.. لقد قلقنا عليك كثيرا؟

قلت: وأنت.. كيف حالك.. فأنا ما جئت هنا إلا لأجلك.

قال: مشكلتي بسيطة.. فقد أعطاني الطبيب الدواء، وحقنني بحقنة.. وها أنا كما تراني بصحة جيدة..

قلت: وأنا؟

قال: لقد طلب الطبيب أن تبقى في المستشفى أياما.. لأن حالتك تستدعي مراقبة خاصة.

بينما أنا كذلك إذ دخل علي إمام المسجد الذي صليت فيه، وعانيت منه، وكان يمسك بيده كيسا، ثم اقترب مني، وقال: بمجرد أن أخبروني بما حصل لك أسرعت إليك، لأقدم لك آخر المواعظ والنصائح.. فلا تنس أن تنطق الشهادتين قبل أن تلفظ أنفاسك.. ولا تنس أن توصي بمالك للمسلمين الذين يتآمر عليهم العالم.. وقد أحضرت لك هدية قيمة أرجو أن تعجبك.

قال ذلك، ثم أخرج لي من الكيس صندوقا صغيرا مكتوب عليه [أكفان السعادة]، وأعطاني معه مطوية بعنوان [كيف تطبق السنة عند موتك؟]

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *