مدد يا رسول الله..

من العبارات التي نجدها في المجتمعات الصوفية أو المحافظة هذه العبارة التي لقيت جدلا واسعا، ونقدا شديدا [مدد يا رسول الله] أو [مدد يا أولياء الله] أو [مدد يا سيدي فلان]
وأنا لست مفتيا حتى أبين الخلاف الوارد في المسألة ووجوه القول فيها وأدلة كل قول، وترجيح القول المتناسب مع الدليل..ولست قاضيا حتى أصدر حكمي حول القائلين بهذا.. وإنما أنا مجرد قاص وحكواتي يريد أن يذكر حكاية ترتبط بهذه الكلمة.. وتصور واقع قائليها.. وللمفتين والقضاة بعد ذلك أن يحكموا على قائل تلك العبارة بما شاءوا.. وما أكثر المفتين.. وما أكثر القضاة.
وبطل قصتنا هذه ليس رجلا.. وإنما هو امرأة.. كان اسمها أميرة.. وهي حقا كانت في ذلك اليوم أميرة، بل ملكة لا يضاهيها الملوك ولا الأمراء.. فقد كان لها من قوة الشخصية والهيبة والوقار والصدق ما جعلها تعتلي في قلوبنا وعقولنا أعلى عروشها، وأكرم مجالسها.
وتبدأ القصة من ذلك الإعلان الذي نشرته الجرائد، وعلق في المساجد، وتداوله الناس فيما بينهم، وهو عن دورة تكوينية لا تعطي شهادات للمتكونين فيها، وإنما تمنحهم تذكرة وتأشيرة ورحلة مجانية للأراضي المقدسة للقيام بالعمرة والزيارة..
وبما أنني كنت متلهفا لتلك الزيارة، فقد أسرعت للتسجيل فيها، وأسرع معي الكثير من أمثالي ممن تمتلئ قلوبهم بالأشواق لتلك البقاع الطاهرة، ولا يجدون في جيوبهم ما يلبي رغبات قلوبهم.
ولكننا جميعا لم نكن نعلم الأغراض التي كانت تراد من تلك التبرعات المجانية.. فقد حسبناها مجرد عمل خيري من بعض الصالحين.. ولم نكن نعلم أن الهدف منها أن تغسل عقولنا، وتسلب منا فطرتنا، وتزاح منها تلك الأشواق الطاهرة، ليحل بدلها التدين العقيم الممتلئ بالغلظة والقسوة.
في أول درس لنا في تلك الدورة قدم شيخ من المشايخ ممن تعرفون هيئتهم وسمتهم.. وبدأ بالتعريف بنفسه، ومشايخه، وأثنى عليهم جميعا، ودعانا إلى الارتباط بهم والتمسك بحبلهم.. وقد قبلنا منه كل ذلك.. ولم نعتب عليه في شيء منه مع مبالغته الشديدة.
ثم أخذ يحدثنا عن المدرسة التي ينتمي إليها، وكان من حديثه قوله ـ بنبرة يختلط فيها اللين بالشدة، والخطابة بالتدريس ـ: إنهم السلف.. أولئك الطاهرون الذين نستمد منهم كل شيء.. فهم مصابيح الهداية.. وهم النور الذي من فقده عمي.. وهم الحياة التي من لم يعشها مات قلبه وتهدمت أركان دينه..
(أيها المسلمون.. إن الحضارة الإنسانية بمكتشفاتها ومخترعاتها غالبا ما يكون آخرها خيرا من أولها بخلاف أديان الناس ومعتقداتهم؛ فإن متديني كل دين صحيح يكون أولهم خيرا من آخرهم، وسلفهم أهدى من آخرهم، ذلك أن الحضارة بدأت تحبو، في حين أن الأديان ولدت واقفة، والحضارة تراكم معرفي، أما الدين فهو وحي منزل وهدي محكم.. والفرق بين الأتباع الأوائل لكل دين صحيح وبين متأخريهم كمثل الفرق بين الماء عند منبعه والماء عند مصبه بعدما جرى وخالط ما خالط من الشوائب.. لذا فإن خير يهود: أنبياؤهم وأحبارهم الأولون، وخير النصارى: عيسى ابن مريم وحواريوه، وخير المسلمين: محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصحابته المرضيون ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)([1])
ولهذا، فإن (شئتم أن تعرفوا قرب أهل دين من دينهم فانظروا إلى قربهم من سلفهم، فكلما اقتربوا اهتدوا، وكلما جفوا ضلوا)
وهكذا بقي فترة من الزمن يحثنا بالترغيب والترهيب على التمسك بالسلف والاهتداء بهديهم والاستمداد من مددهم إلى أن صرنا نراهم، وكأنهم بيننا يتحركون، ومعنا يتحدثون.
وفي ظل ذلك الجو الذي عشناه صاحت أميرة بما قلب كل شيء رأسا على عقب.. لقد راحت ترفع صوتها بقولها: (مدد يا رسول الله)
وهنا ثار زلزال عنيف في القاعة التي كنا فيها، وصاح الشيخ بهستيرية وجنون: أخرجوا المشركة من بيننا.. من أذن لها بالدخول.. إلى متى يظل هؤلاء المشركون يلاحقوننا في كل مكان.. ألم تسمعوا بالفتاوى المبيحة لدمائهم.. ألم تقرؤوا ما قال سلفنا الصالح في حقهم؟
حاول بعض الناس تهدئته.. لكنه لم يستطع أن يستعيد هدوءه.. وكأن تلك الكلمة كانت حقنة جنون حقنته بها أميرة لتبرزه على حقيقته التي كان يحاول إخفاءها بإظهاره اللطف والوقار والهدوء.
بعد ذلك الصياح الهستيري سقط الشيخ.. والتف حوله بعض الحضور، يقومون بإسعافه بما تتطلبه حالته من إسعاف.
وقد كان ما حصل له من إغماء وارتباك فرصة لنسمع أميرة، وهي تنسخ كل تلك المعاني التي حاول الشيخ أن يغسل بها عقولنا.. فقد طلب المنظمون للدورة من أميرة أن تخرج.. فتقدمت إلى الباب بكل هدوء، ثم أخذت تخاطب الجمع بقولها: اعذروني أيها السادة، فربما كنت سببا في تعكير صفوكم.. أو تكدير الجو الذي كنتم تعيشونه.. ولكن ائذنوا لي فقط أن أعبر لكم عن نفسي وعن حقيقتي وعن حقيقة هذا الذي حكم علي بالشرك.. وحكم علي معه بالردة والقتل..
نعم أنا أتيت هنا معكم طمعا في زيارة لتلك البقاع الطاهرة، ولكن قدر الله وما شاء فعل.. ولكن اعلموا أن حبيب الله الذي تريدون زيارته لم يغب عنكم.. بل هو معكم، ويمكنكم أن تعيشوا معه في كل لحظة، وأن تستمدوا منه كل ما تريدون.. وأنا ما خاطبته بما خاطبته به إلا بعد شعوري بحياته وحضوره.. ولذلك مددت يدي وقلبي إليه، وطلبت منه أن يمدني بما كان يمد به من كان يعيش معه من بركاته وخيره وفضله.
هل نسيتم حلمية تلك التي عاشت بركاته صلى الله عليه وآله وسلم ولاحظتها بعينها.. فتحولت من تلك البدوية الفقيرة الجائعة التي تكسب قوتها من الإرضاع إلى حليمة السعدية تلك المرأة التي تحن لها القلوب.. وتشتاق لها الأرواح..
يمكنكم أن تصبحوا مثلها تماما.. بشرط واحد هو أن تعيشوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وتحملوه في قلوبكم مثلما حملته حليمة في حجرها.. حينها سترون صحاريكم تتحول إلى جنان.. ومآتمكم تتحول إلى ولائم.. وأحزانكم تتحول إلى مسرات.
هل نسيتم أولئك الذين أجدبوا وقحطت أرضهم، وماتت مواشيهم.. لكنهم بمجرد استغاثتهم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أغيثوا([2]).. فهل ترون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكرمهم ويبخل عليكم.. استغيثوا به كما استغاثوا.. وستجدونه بينكم يرفع يديه الطاهرتين إلى السماء يدعو لكم.. فقط قطعوا حجاب الوهم الذي جعلكم تنصرفون عنه، وسترونه بينكم.
هل نسيتم ذلك الأعمى الذي قصد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وطلب منه أن يرد عليه بصره.. وفعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك.. وعلمه ذلك الدعاء الذي نتوجه به إلى الله بجاه نبينا صلى الله عليه وآله وسلم.. وتحقق للأعمى مراده([3]).. ويمكن أن يتحقق لكل أحد مراده.. لأن جود رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعظم من أن ينحصر في أعمى.
هل تذكرون أولئك الذين شملتهم بركة ملمس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. حينما امتدت يده الطاهرة لأمراضهم فشفيت.. أو إلى آلامهم فزالت([4]).. يمكنكم جميعا أن يحصل لكم ذلك وأكثر منه..
فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي فعل كل ذلك لا يزال حيا بيننا.. لا يحجبنا عنه إلا حجاب الوهم.. وعندما تزيلونه فسترون بينكم يحدثكم، وتحدثونه، ويصافحكم وتصافحونه.. وحينها سترون من بركاته ما لا يمكن لخواطركم أن تدركه.
لا تتوهموا أبدا أنكم بذلك ستقعون في الشرك، أو تخرجون من التوحيد كما يزعم هذا المحجوب.. فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو رمز الوحدة والتوحيد.. ومحبته والهيام فيه والتواصل معه هو علامة الإخلاص والصدق والتوحيد..
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكرمه وجوده ورحمته ليسوا سوى مظهر من مظاهر العظمة الإلهية التي لا تحد ولا تعد ولا توصف.. ومن احترم المظاهر، فقد احترم مظاهرها.. ومن عظم الوسائل وراعاها، فقد عظم الحكيم الذي وضعها، والقدير الذي قدرها.. وقد قال تعالى داعيا لنا إلى مراعاة الوسائل وطلبها: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35]، وقال واصفا عباده المقربين: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} [الإسراء: 57]
لذلك لا تخافوا من الشرك.. فكل محبة تبدونها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنما هي تتوجه إلى الله قبل أن تتوجه إليه.. بل عين محبتكم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هي محبة لله تعالى.. هكذا يقول العارفون الغارقون في بحار التوحيد.. فاسلكوا سبلهم لتنجوا من همزات الشياطين الذين احتقروا آدم وأبوا السجود له.. وهم الآن يحتقرون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويصورونه لكم بصورة الصنم الذي يمكن أن يعبد من دون الله.
أيها الجمع الكريم.. لقد ذكر الله تعالى أن رسول الله رحمة للعالمين.. والعالمون أكثر من أن ينحصروا في قرن دون قرن أو زمان دون زمان.. ولذلك يمكنكم أن تكونوا مثل الذين كان هذا الشيخ يثني عليهم.. بل يمكنكم أن تكونوا أفضل منهم.. فجل عطاء الله أن ينحصر في الأزمنة أو الأمكنة..
عطاء الله مرتبط بقلوبكم وأرواحكم.. فهي المعارج التي تعرجون بها إليه..
لقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك، فقال: (إن أشدَّ أمتي لي حبا قوم يخرجون بعدي يود ّأحدهم أنه أعطى أهله وماله وأنه رآني)([5])
ولا أحسب إلا أنكم من هؤلاء الذين حركتهم الأشواق إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ولذلك راحوا يلتسمون كل السبل لزيارته..
وأنا أقول لكم: يمكنكم أن تزوروه وأنتم هنا بين أهليكم.. زوروه بمشاعركم ووجدانكم وقلوبكم وأرواحكم.. وسترون الله العظيم كيف يملأ بصائركم، بل أبصاركم بطلعته البهية، وجماله المقدس.
ما قالت ذلك حتى صاح الجميع: يا رسول الله.. مدد.. نظرة إلينا.. نحن على بابك.. على أعتابك.. صافحنا بيمينك.. قربنا منك.
حتى أولئك المنظمون الذين كانوا يسعفون الشيخ تركوه وراحوا يرددون أمثال تلك العبارات.. وقد أفاق الشيخ على صياحهم.. فراح يقول بهستيرية وجنون: مشركون.. كلكم مشركون.. كلكم مرتدون.. كلكم في النار.
لم ينتبه إليه أحد.. فقد كانت بصائرهم جميعا تنظر إلى لجمال الذي لا
يفنى.. وتستمد من السراج الذي لا ينطفي نوره.
([1]) من خطبة جمعة ألقاها الشيخ صالح بن محمد آل طالب بالمسجد الحرام، ببعض تصرف.
([2]) الأحاديث في ذلك كثيرة جدا، وقد ذكرنا أمثلة منها في كتابنا [معجزات حسية]، ومن تلك الروايات: ما روي أن وفد سلامان قدموا في شوال سنة عشر فقال لهم رسول الله a: (كيف البلاد عندكم؟) قالوا: مجدبة، فادع الله أن يسقينا في أوطاننا، فقال a: (اللهم اسقهم الغيث في بلادهم) فقالوا: يا رسول الله ارفع يديك، فإنه أكثر وأطيب. فتبسم، ورفع يديه حتى بدا بياض إبطيه، ثم رجعوا إلى بلادهم، فوجدوها قد مطرت في اليوم الذي دعا فيه رسول الله a في تلك الساعة (رواه أبو نعيم)
([3]) الحديث روي برويات متعدده منها أن أن رجلا ضرير البصر أتى النبي a، فقال: ادع الله أن يعافيني، فقال: إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت، فهو خير لك، قال: فادعه، قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن الوضوء، ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد: نبي الرحمة، إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى لي، اللهم فشفعه في. رواه الترمذي وغيره.
([4]) من الروايات الواردة في ذلك ما روي أنه يوم خيبر، سأل النبي a، فقال: (أين علي؟)، فقيل: يا رسول الله، يشتكي عينيه، قال: (فأرسلوا إليه)، فأتى به فبصق رسول الله a في عينيه ودعا له فبرئ، حتى كأنه لم يكن به وجع، فأعطاه الراية(رواه البخاري ومسلم)، ومنها ما روي عن حبيب بن فديك أن أباه خرج به إلى رسول الله a وعيناه مبيضتان لا يبصر بهما شيئا، فسأله: (ما أصابك؟) فقال: وقعت رجلي على بيضة حية فأصيب بصري، فنفث رسول الله a في عينيه فأبصر، فرأيته وهو يدخل الخيط في الإبرة، وانه لابن الثمانين سنة، وإن عينيه لمبيضتان(رواه ابن أبي شيبة والبيهقي وابو نعيم.).. ومن ذلك ما روي عن رفاعة بن رافع بن مالك قال: رميت بسهم يوم بدر، ففقئت عيني، فبصق فيها رسول الله a ودعا لي، فما آذاني منها شئ(رواه الحاكم والبيهقي وابو نعيم).. ومن ذلك ما روي أنه أصيبت عين أبي ذر يوم أحد، فبزق فيها رسول الله a فكانت أصح عينيه(رواه أبو نعيم)
([5]) رواه أحمد.