ما كان محمد أبا أحد من رجالكم

لا أتألم لشيء كما أتألم لقول بعضهم: قال جدي رسول الله.. وكان جدي رسول الله.. وليس ذلك تكذيبا له في نسبه، فمعاذ الله أن أكذب مسلما، ولكني أشعر بنوع من الخيلاء والفخر تفوح وراء تلك الكلمات.. والفخر والخيلاء محرمان حتى لو ارتبطا بالانتساب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
والذي يردد أمثال تلك العبارات يطلب من حيث لا يشعر من المحيطين به تقديرا زائدا، لا لذاته، ولا لعمله، ولا للقيم التي يحملها، وإنما لمجرد كونه ينتسب لبيت النبوة.
وهو نسب عظيم وشريف وحقيق أن يفرح به، ولكنه لن يغني عن صاحبه شيئا إن لم يقدم العمل الصالح الذي ينفعه عند الله.. فالله تعالى لا تضيع عنده الموازين، وقد قال في كلماته المقدسة: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا } [النساء: 123]
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مخاطبا أقاربه الأقربين: (يا معشر قريش اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئا، يا بني عبد مناف، لا أغني عنكم من الله شيئا. يا عباس بن عبد المطلب، لا أغني عنك من الله شيئا. ويا صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا أغني عنك من الله شيئا. ويا فاطمة بنت محمد، سليني ما شئت من مالي، لا أغني عنك من الله شيئا)([1])
بل إن الله تعالى ضرب لنا المثل على ذلك بابن نوح عليه السلام الذي عاتب الله فيه نوحا لكونه أراد التوسط لابنه، فقال له: {يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِين} [هود:46]
هذا هو العدل الإلهي الذي ينسجم مع الكون جميعا، والذي نص عليه بصراحة ليس فوقها صراحة قوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} [النجم:39]
وهو الذي فهمه أولياء الله وربانيو هذه الأمة، وقد قال الشيخ محمد الغزالي معبرا عن ذلك: (أيها الولد.. لو قرأت العلم مائة سنة، وجمعت ألف كتاب، لا تكون مستعدا لرحمة الله تعالى إلا بالعمل لقوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} [النجم:39]، وقوله تعالى: { فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110].. ودليل الأعمال أكثر من أن يحصى، وإن كان العبد يبلغ الجنة بفضل الله تعالى وكرمه، لكن بعد أن يستعد بطاعته وعبادته؛ لأن رحمة الله قريب من المحسنين)([2])
لكن النظرة العنصرية التي راحت تفرق بين الأمم والشعوب، راحت تستعمل هذا النسب الشريف وسيلة للكبر والفخر والتعالي، بل إلى ما هو أكثر من ذلك.. وقد رأيت بعضهم يمسك كتابا بعنوان (منار الإشراف على فضل عصاة الأشراف ومواليهم من الأطراف)، وهو يرد به على من نهاه عن بعض الجرائم التي يرتكبها، قائلا له: الزم أدبك، فأنت تتحدث مع أبناء محمد.. وهم يأمرون ولا يؤمرون.. وينصحون، ولا يُنصحون..
ثم راح يقرأ له من الكتاب ما أقنعه بأن القلم رفع عن الصبي والمجنون والنائم والمنتسب لآل بيت النبوة.
وأحسن ما يجاب به هؤلاء ما
ورد في الإنجيل عن المسيح عليه السلام، وهو يوبخ اليهود الذين راحوا يتيهون على
الناس بقرابتهم لإبراهيم عليه السلام، فقال لهم: (يا أولاد الأفاعي، من أراكم أن
تهربوا من الغضب الآتي، فاصنعوا أثمارا تليق بالتوبة. ولا تبتدئوا تقولون في
أنفسكم: لنا إبراهيم أبا. لأني أقول لكم: إن الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة
أولادا لإبراهيم) [لوقا: 3/7-8]
([1]) رواه البخاري 8 / 386 ، ومسلم رقم (206)
([2]) رسالة أيها الولد.