لا تتخطوا رقاب الصديقين

لا تتخطوا رقاب الصديقين

على الرغم من أن الصوفية مثلوا القيم الدينية في أرقى صورها فترة طويلة، بما حرصوا عليه من الاهتمام بالسلوك والأخلاق والترقي في معارج القرب والاتصال بالله تعالى..

وعلى الرغم من أنهم استطاعوا أن يمثلوا الإسلام في الكثير من المجتمعات، بل استطاعوا أن يصلوا به إلى أماكن كثيرة، لم يكن ليصل إليها لولا جهودهم وصدقهم وسماحتهم وأخلاقهم العالية.

على الرغم من كل ذلك إلا أننا لا نستطيع أن ننكر أن الدجل قد ولج إليهم، أو إلى بعضهم، كما ولج إلى سائر طوائف المسلمين، فما كان الشيطان ليترك تلك الثلة التي آمنت بأرقى القيم الدينية لتؤدي رسالتها على هذه الأرض من غير أن يعكر صفوها، ويفسد عليها أمرها، ويدخل فيها ما ليس منها.

والخلل الأكبر الذي أحدثه الشيطان في هذه الطائفة، والذي لا نزال نراه بين أعيننا هو ما أشار إليه الطوسي في اللمع، فقال: (واعلم أن في زماننا هذا قد كثر الخائضون في علوم هذه الطائفة، وقد كثر أيضا المتشبهون بأهل التصوف والمشيرون إليها والمجيبون عنها وعن مسائلها، وكل واحد منهم يضيف إلى نفسه كتابا قد زخرفه، وكلاما ألفه، وليس بمستحسَن منهم ذلك؛ لأن الأوائل والمشايخ الذين تكلموا في هذه المسائل وأشاروا إلى هذه الإشارات ونطقوا بهذه الحِكَم، إنما تكلموا بعد قطع العلائق، وإماتة النفوس بالمجاهدات والرياضات والمنازلات والوجد والاحتراق، والمبادرة والاشتياق إلى قطع كل علاقة قطعتهم عن الله -عزَّ وجلَّ- طرفة عين، وقاموا بشرط العلم، ثم عملوا به، ثم تحققوا في العمل فجمعوا بين العلم والحقيقة والعمل)([1])

وهو وصف دقيق لأولئك الذين راحوا يقرؤون كتب ابن عربي أو الجيلي أو القونوي أو غيرهم من الصوفية.. وتصوروا أنهم بقراءتهم لها صاروا محققين، بل أولياء وصديقين، من غير أن يجهدوا أنفسهم لا برياضة ولا بسلوك ولا بمجاهدة ولا بذكر ولا بخلوة، ولا بأي شيء مما كان يمارسه الصوفية الصادقون المحققون.

وليتهم اكتفوا بذلك، بل راحوا إلى أعلام الصوفية الكبار أمثال أبي حامد الغزالي يسخرون منه، وينتقصون من قدره.. ويقولون عنه: (من دلك على العمل فقد غشك.. ومن دلك على الله، فقد نصحك)

ولم يكتفوا بهذا، بل راحوا يرطنون بالشطحات، يفسرون بها القرآن، ويخرجون بها عن ظواهره الواضحة القطعية.. كما وصفهم بذلك، وبدقة الغزالي، عند حديثه عن الشطح، فقال: (وهذا فن من الكلام عظيم ضرره في العوام، حتى ترك جماعة من أهل الفلاحة فلاحتهم، وأظهروا مثل هذه الدعاوي، فان هذا الكلام يستلذه الطبع، إذ فيه البطالة من الأعمال مع تزكية النفس بدرك المقامات والأحوال، فلا تعجز الأغبياء عن دعوى ذلك لأنفسهم، ولا عن تلقف كلمات مخبطة مزخرفة)([2])

بل إنه أشار إلى اللغة المستكبرة التي يستعملها هؤلاء مع من ينتقدهم، أو ينصحهم، فقال: (ومهما أنكر عليهم ذلك لم يعجزوا عن أن يقولوا: هذا إنكار مصدره العلم والجدل، والعلم حجاب، والجدل عمل النفس. وهذا الحديث لا يلوح إلا من الباطن بمكاشفة نور الحق)

ثم ذكر الغزالي مدى انتشار هذه الظاهرة في عصره، فقال: (فهذا ومثله مما قد استطار في البلاد شرره وعظم في العوام ضرره حتى من نطق بشي‏ء منه فقتله أفضل في دين الله من إحياء عشرة)

ومثله ذكر في رسالته المعروفة بـ [أيها الولد المحب]، والتي أشار فيها إلى هذه الظاهرة، وقال: (أيها الولد.. ينبغي لك أن يكون قولك وفعلك موافقا للشرع، إذ العلم والعمل بلا اقتداء الشرع ضلال. وينبغي لك ألا تغترّ بشطح الصوفية وطاماتهم؛ لأن سلوك هذا الطريق يكون بالمجاهدة وقطع شهوة النفس وقتل هواها بسيف الرياضة، لا بالطامات والترهات. واعلم أن اللسان المطلق والقلب المطبق المملوء بالغفلة والشهوة علامة الشقاوة، حتى لا تقتل النفس بصدق المجاهدة لن يحيى قلبك بأنوار المعرفة)([3])

وقال: (أيها الولد.. لا تكن من الأعمال مفلسا، ولا من الأحوال خاليا، وتيقّن أن العلم المجرد لا يأخذ باليد. مثاله لو كان على رجل في برية عشرة أسياف هندية مع أسلحة أخرى، وكان الرجل شجاعا وأهل حرب، فحمل عليه أسد [عظيم] مهيب، فما ظنّك؟ هل تدفع الأسلحة شره عنه بلا استعمالها وضربها؟! ومن المعلوم أنها لا تدفع إلا بالتحريك والضرب. فكذا لو قرأ رجل مائة ألف مسألة علمية وتعلمها، ولم يعمل بها، لا تفيده إلا بالعمل) ([4])

وهو يعود إلى المصادر المقدسة ليؤكد هذا المعنى، فيقول: (أيها الولد.. لو قرأت العلم مائة سنة، وجمعت ألف كتاب، لا تكون مستعدا لرحمة الله تعالى إلا بالعمل لقوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} [النجم:39]، وقوله تعالى: { فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]، وقوله تعالى: {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُون} [التوبة:82]، وقوله تعالى: { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (107) خالِدِينَ فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً} [الكهف:107-108]، وقوله تعالى: {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا } [الفرقان:70].. ودليل الأعمال أكثر من أن يحصى، وإن كان العبد يبلغ الجنة بفضل الله تعالى وكرمه، لكن بعد أن يستعد بطاعته وعبادته؛ لأن رحمة الله قريب من المحسنين) ([5])

وما ذكره الغزالي وحذر منه ـ للأسف ـ هو ما نراه في واقعنا، حيث رغب أمثال هؤلاء عن ذلك التصوف القيمي الموافق للقرآن الكريم، والذي ذكره الغزالي في [إحياء علوم الدين]، ونقله عن كبار الصوفية ممن سبقوه.

وراحوا إلى تصوف آخر، ابتدعه من يسمونه الشيخ الأكبر، والممتلئ بالطامات والشطحات العجيبة التي تتناقض تماما مع كل القيم القرآنية.. بل حتى مع القيم العقلية.

فقد عمد هذا النوع من التصوف إلى قبول كل الخرافات والأكاذيث والدجل والأساطير.. وراح يتكلف تأويلها ليجعل منها عقائد مقبولة صحيحة.. لا حرج على القائلين بها.. بل الحرج على المنكرين عليهم.

وراح هذا النوع من التصوف إلى تلك الأساطير الفلكية التي كان يؤمن بها اليونان والرومان والبدائيون، والتي أثبت العلم الحديث فسادها وبطلانها، يقبلونها، وينكرون على العلم الحديث ما قاله.. لأن الأساطير عندهم مصدر للدين، لا يقل عن القرآن نفسه.. بل إن القرآن يؤول لينسجم مع الأساطير.

ولم يكتفوا بهذا.. بل راحوا إلى القيم الدينية نفسها يعبثون بها.. ويصورون أن كل الترهيبات القرآنية لا مبرر لها.. ولا وجود لها في الواقع.. لأن العذاب ليس سوى العذوبة.. والنار ليست سوى النور.

وراحو إلى من يذكر لهم أنه يخاف من عذاب الله، ويخشى عقابه، يضحكون عليه، ويسخرون منه.. ويغفلون عن أن أكبر أولياء هذه الأمة ـ على حسب ما يؤمنون ـ وهو الإمام علي لم تكن تخلو خطبة من خطبه من التحذير من النار.. ولم يكن يخلو دعاء من أدعيته من الاستعاذة منها.

فهو الذي يقول: (لو تعلمون ما أعلم مما طوي عنكم غيبه، إذا لخرجتم إلى الصعدات تبكون على أعمالكم، وتلتدمون على أنفسكم. ولتركتم أموالكم لا حارس لها ولا خالف عليها، ولهمت كل امرى‏ء منكم نفسه، لا يلتفت إلى غيرها، ولكنكم نسيتم ما ذكرتم، وأمنتم ما حذرتم، فتاه عنكم رأيكم، وتشتت عليكم أمركم)([6])

ويقول في خطبة أخرى: (فاتقوا الله عباد الله تقية ذي لب شغل التفكر قلبه، وأنصب الخوف بدنه، وأسهر التهجد غرار نومه، وأظمأ الرجاء هواجر يومه… وقدم الخوف لأمانه، وراقب في يومه غده، ونظر قدما أمامه)([7])  

ويقول في وصف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا ذكر الله هملت أعينهم… خوفا من العقاب، ورجاء للثواب)([8])

ويقول في وصف المتقين: (لو لا الأجل الذي كتب عليهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين، شوقا إلى الثواب، وخوفا من العقاب… فهم والجنة كمن قد رآها فهم فيها منعمون، وهم والنار كمن قد رآها، فهم فيها معذبون.. فإذا مروا بآية فيها تشويق، ركنوا إليها طمعا، وتطلعت نفوسهم إليها شوقا، وظنوا أنها نصب أعينهم. وإذا مروا بآية فيها تخويف، أصغوا إليها مسامع قلوبهم، وظنوا أن زفير جهنم وشهيقها في أصول آذانهم، فهم حانون على أوساطهم، مفترشون لجباههم وأكفهم وركبهم، وأطراف أقدامهم، يطلبون إلى الله تعالى في فكاك رقابهم… قد براهم الخوف بري القداح، ينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضى، وما بالقوم من مرض، ويقول: لقد خولطوا ولقد خالطهم أمر عظيم لا يرضون من أعمالهم القليل، ولا يستكثرون الكثير. فهم لأنفسهم متهمون، ومن أعمالهم مشفقون… فمن علامة أحدهم… يعمل الأعمال الصالحة وهو على وجل… يبيت حذرا ويصبح فرحا، حذرا لما حذرا من الغفلة، وفرحا لما أصاب من الفضل والرحمة)([9])

وليس ذلك خاصا بحديثه مع عامة الناس، كما قد يؤوله أمثال هؤلاء.. بل كان مع نفسه.. ومع مناجياته وأدعيته لربه.. فأشهر أدعيته ذلك الذي نقله كميل نجده مملوءا بذكر النار، وخشية الله، ودعاء الله، والتضرع إلى الله.. وليس فيه أي حرف من تلك الطامات التي يجاهر بها من يريدون تخطي رقاب الصديقين.

فمما ورد في دعاء كميل قوله: (اللهم عظم بلائي، وأفرط بي سوء حالي، وقصرت بي أعمالي، وقعدت بي أغلالي وحبسني عن نفعي بعد أملي، وخدعتني الدنيا بغرورها، ونفسي بخيانتها، ومطالي يا سيدي فأسألك بعزتك أن لا يحجب عنك دعائي سوء عملي وفعالي، ولا تفضحني بخفي ما اطلعت عليه من سري، ولا تعاجلني بالعقوبة على ما عملته في خلواتي من سوء فعلي وإساءتي، ودوام تفريطي وجهالتي، وكثرة شهواتي وغفلتي، وكن اللهم بعزتك لي في كل الأحوال رؤوفا، وعلي في جميع الأمور عطوفا. إلهي وربي من لي غيرك أسأله كشف ضري والنظر في أمري. إلهي ومولاي أجريت علي حكما اتبعت فيه هوى نفسي، ولم أحترس فيه من تزيين عدوي، فغرني بما أهوى وأسعده على ذلك القضاء، فتجاوزت بما جرى علي من ذلك بعض حدودك، وخالفت بعض أوامرك، فلك الحمد علي في جميع ذلك ولا حجة لي فيما جرى علي فيه قضاؤك، وألزمني حكمك وبلاؤك، وقد أتيتك يا إلهي بعد تقصيري وإسرافي على نفسي معتذرا نادما منكسرا مستقيلا مستغفرا منيبا مقرا مذعنا معترفا، لا أجد مفرا مما كان مني ولا مفزعا أتوجه إليه في أمري، غير قبولك عذري وإدخالك إياي في سعة من رحمتك. اللهم فاقبل عذري، وارحم شدة ضري وفكني من شد وثاقي، يا رب ارحم ضعف بدني، ورقة جلدي ودقة عظمي، يامن بدأ خلقي وذكري وتربيتي وبري وتغذيتي، هبني لابتداء كرمك وسالف برك بي)

وفيه يقول: (إلهي وسيدي وربي، أتراك معذبي بنارك بعد توحيدك، وبعدما انطوى عليه قلبي من معرفتك، ولهج به لساني من ذكرك، واعتقده ضميري من حبك، وبعد صدق اعترافي ودعائي خاضعا لربوبيتك، هيهات! أنت أكرم من أن تضيع من ربيته، أو تبعد من أدنيته، أو تشرد من آويته، أو تسلم إلى البلاء من كفيته ورحمته، وليت شعري يا سيدي وإلهي ومولاي! أتسلط النار على وجوه خرت لعظمتك ساجدة، وعلى ألسن نطقت بتوحيدك صادقة وبشكرك مادحة، وعلى قلوب اعترفت بإلهيتك محققة، وعلى ضمائر حوت من العلم بك حتى صارت خاشعة، وعلى جوارح سعت إلى أوطان تعبدك طائعة، وأشارت باستغفارك مذعنة؟! ما هكذا الظن بك ولا أخبرنا بفضلك عنك يا كريم)

إلى آخر الدعاء الممتلئ بكل قيم العبودية.. والمتفق تماما مع ما ذكره القرآن الكريم من أدعية الصالحين وأولياء الله المقربين الذين وصفهم الله تعالى، فقال: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66)} [الفرقان: 63 – 66]

لكن كل هذه المعاني الأخلاقية والعرفانية ذات المصادر المعصومة أهيلت عليها كل ألوان الحجب والتأويل والتحريف الصوفي، حتى أصبحوا يسخرون ممن يذكر النار وعذابها، أو يذكر الجنة ونعيمها.. ويتصورون أنهم قد ملكوا مفاتيح الوجود بكلمات حفظوها، وغرور تزينوا به.. مع أن أحدهم قد يقتل أخاه من أجل دينار أو درهم، ثم هو يكذب على نفسه وعلى الناس، ويزعم أنه زاهد في الجنة جميعا.. وليته قبل أن يزهد في الجنة زهد في تلك الدنانير القليلة التي يتكالب عليها.


([1]) اللمع، ص19.

([2]) إحياء علوم الدين، 1/61.

([3]) رسالة أيها الولد.

([4]) رسالة أيها الولد.

([5]) رسالة أيها الولد.

([6]) نهج البلاغة: الخطبة 116.

([7]) نهج البلاغة: الخطبة 83.

([8]) نهج البلاغة: الخطبة 97.

([9]) نهج البلاغة: الخطبة 193.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *