فأنت بالروح.. لا بالجسم إنسان

الطين وحده، وما نشأ عنه من لحم وعظام وخلايا وأعضاء وأنسجة لا يكفي ليحول من الإنسان إنسانا..
بل هو في أحسن أحواله ليس سوى آلة من آلات الروح تستعمله لتعبر من هذا العالم إلى عالم أسمى وأجمل وأرفع..
وهو في أحسن أحواله ليس سوى تجل من تجليات الروح، ومظهر من مظاهرها، وخادم من خدمها.. والحقيقة وراء ذلك كله.
لذلك لا يمكن لدعاة العنصرية أن يفهموا الإنسان مهما استعملوا من وسائل.. وكيف يفهمونه، وهم ينظرون إلى ألوان الجسد لا إلى ألوان الروح، ويسمعون لغة اللسان، ولا يسمعون إلى لغة الحقيقة المختفية وراءه، تلك الحقيقة العلوية الرفيعة التي لولاها ما سجد الملائكة للإنسان، قال تعالى: { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} (الحجر:29)
لذلك فإن الدعوة العنصرية تصطدم بالحقيقة الإنسانية قبل أن تصطدم بأي شيء آخر، لأنها تميز الناس على حسب أجسادهم لا على حسب أرواحهم، ومثلها في ذلك مثل من يميز مراتب الناس على حسب ألوان ثيابهم، أو أنواع سياراتهم، أو عدد غرف منازلهم..
وكل ذلك خلاف ما تقتضيه الفطرة السليمة التي عبر عنها أبو الفتح البستي بقوله:
يا خادم الجسم كم تشقى
بخدمته |
أتطلب الربح فيما فيه خسران؟ | |
أقبل على النفس واستكمل فضائلها |
فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان |
وعبر عنها الفلاسفة بلسان ابن سينا في عينيته التي تحدث فيها عن الروح، وهبوطها إلى الجسم الإنساني، وبقائها بداخله حتى موعد مغادرتها له متى حان وقت المغادرة، والتي يقول فيها:
هبطت إليك من المحل الأرفع |
ورقاء ذات تعزُّزٍ وتمنعِ | |
محجوبةٍ عن كلِّ مقلة ناظٍر |
وهي التي سفرت ولم تتبرقعِ | |
وصلت على كرهٍ إليك وربما |
كرهت فراقك وهي ذات توجُّع |
ثم تحدث بألم عن إلف الروح للبدن، وتثاقلها إلى الأرض، فقال:
أنفت وما أنست ولما واصلت |
ألفت مجاورة الخراب البلقع | |
وأظنها نسيت عهودا بالحمى |
ومنازلا بفراقها لم تقنع | |
حتى إذا حصلت بهاء ثبوتها |
في ميم مركزها بذات الأجرع | |
علقت بها ثاء الثقيل فأصبحت |
بين المنازل والطلوع الخضَّع | |
تبكي إذا ذكرت عهودا بالحمى |
بمدامعٍ تهمي ولما تقلع | |
وتظلُّ ساجعة على الدمن التي |
درست بتكرار الرياح الأربع | |
إذ عاقها الشكل الكثيف وصدها |
نقصٌ عن الأوج الفسيح الأرفع | |
وغدت مفارقِةٌ لكل مخلِّفٍ |
عنها خليف الترب غير مشيِّع |
ولم ينس ابن سينا الحكمة العلوية الرفيعة لذلك الهبوط، فقال:
إن كان أهبطها الإله لحكمةٍ |
طويت عن الغزِّ اللبيب الأروع | |
فهبوطها لاشكَّ ضربة لازبٍ |
لتعود سامعةً لما لم تسمع | |
وتكون عالمةً بكلِّ خفيَّةٍ |
في العالمين وخرقها لم يرقع | |
وهي التي قطع الزمان طريقها |
حتى لقد غربت بعين المطلع | |
فكأنها برقٌ تألَّق بالحمى |
ثمَّ انطوى فكأنه لم يلمع |
وهكذا راح الصوفية بلسان شيخهم الأكبر يدعون إلى نبذ النظر إلى الجسد، والنظر بدله إلى الحقيقة الإنسانية الرفيعة المتمثلة في الروح، صاحبة الجمال العظيم الذي لا يمكن وصفه، فيقول:
حقيقتي همت بها |
وما رآها بصري | |
ولو رآها لغدا |
قتيل ذاك الحور | |
فعند ما أبصرتها |
صرت بحكم النظر | |
فبت مسحورا بها |
أهيم حتى السحر | |
يا حذري من حذري |
لو كان يغني حذري | |
والله ما هيمني |
جمال ذاك الخفر | |
يا حسنها من ظبية |
ترعى بذات الخمر | |
إذا رنت أو عطفت |
تسبي عقول البشر | |
كأنما أنفاسها |
أعراف مسك عطر | |
كأنها شمس الضحى |
في النور أو كالقمر | |
إن سفرت أبرزها |
نور صباح مسفر | |
أو سدلت غيبها |
ظلام ذاك الشعر | |
يا قمر تحت دجى |
خذي فؤادي أو ذري |
هذه هي الحقيقة الإنسانية الرفيعة بلسان المصادر المقدسة، ولسان الفطرة السليمة، والفلسفة النبيلة، والتصوف العميق.. فأين من هؤلاء جميعا أولئك الغارقون في متاهات الطين والحمأ المسنون؟