عقل عجيب

عقل عجيب

كان الكل يتحدث عن قدراته العقلية العجيبة إلى الدرجة التي جعلتني أنبهر به قبل أن أراه أو أسمعه أو أقرأ له.. وقد جعلني ذلك، ولفترة محترمة من عمري أزكيه وأثني عليه مع أني لم أعرفه.. لا من قريب ولا من بعيد..

لا تلوموني على ذلك.. فلست وحدي في هذا.. فالعقل الجمعي يسيطر أحيانا علينا من حيث لا نشعر.. فنقف المواقف الخطيرة ثقة منا بتلك العقول الكثيرة التي اجتمعت وقررت وحكمت.. ولم يبق لغيرها من العقول سوى أن تخضع لها وتسلم، اقتنعت أو لم تقتنع.. فيكفي أن يكون الجمهور هو الذي تحدث، وهو الذي حكم، وهو الذي قرر.. وهل توازي عقولنا المفردة عقول الجماهير؟

لكني، وبسبب موقف محرج وقع لي مع بعض طلبتي قررت أن أتمرد على العقل الذي فرضه علي الجمهور..

وقد كان سبب الموقف أني ذكرت صاحب ذلك العقل العجيب عند ذكري لأسماء المفكرين المعاصرين.. ويعلم الله أن نيتي لم تكن صادقة في ذلك.. بل كان قصدي هو أن يعرف طلبتي أنني أحيط بكثير من الأسماء، وأعرف الكثير من المفكرين، وأن ذلك نتيجة لاطلاعي الواسع..

نعم زينت لي نفسي الأمارة بالسوء حينها أن مقصدي نبيل.. فالطلبة يحتاجون إلى ثقة مطلقة في أستاذهم ليستفيدوا منه.. ولذلك فلا حرج عليه ـ كما تفتي نفسي الأمارة ـ أن يتكلف ـ في بعض الأحيان ـ أمثال تلك الحيل.

لكن الحفرة التي حفرتها لهم وقعت فيها، إذ برزت طالبة ذكية نجيبة لي كما يبرز الأسد لضحاياه الجرحى، وقالت لي بكل أدب: هل تعرف هذا العقل العجيب يا أستاذ؟

لم أجد ما أقول، لكني احتلت لذلك بما تعلمته في فنون التعليم من حيل، فقلت لها: الكل يتحدث عنه.. والكل يزكيه.. والكل يثني عليه.. ولا يخفى تأثيره في الجماهير العريضة في وطننا العربي الكبير.. بل وصل تأثيره للعالم.

قالت: أنا لا أريد الكل.. أريدك أنت.. أريد أحكام عقلك أنت.

لم أجد مع هذه الجسارة، سوى أن قلت لها – وأنا أمارس حيلي البيداغوجية حتى لا تكتشف الطالبة تلك الثغرة الأمنية الخطيرة التي أوقعتني نفسي فيها -: أشكرك أيتها الطالبة المحترمة على هذا السؤال الوجيه.. وبما أن الوقت لا يكفي للحديث عن أفكاره التي جعلته محلا لإعجاب الجميع، فأعدكم أن نخصص غدا حصة خاصة به..

قلت ذلك، وأنا على ثقة من أنني قد قد تخلصت من المأزق الخطير الذي أرادت الطالبة الذكية أن توقعني فيه.. لكني لم أعلم أنني – بذلك الموقف – زدت من طينتي بلة.. بل رحت إلى الحفرة التي أوقعتني فيها، فزدت فيها أمتارا جديدة، لأنغمس فيها انغماسا كليا.

فبعد خروجي من الجامعة مباشرة ذهبت إلى المكتبة، وسألت الكتبي عن أعمال ذلك العقل العجيب، فأجابني، وهو يبتسم: عجبا.. هل يمكن أن تكون هناك مكتبة في الدنيا، ولا يوجد فيها أعمال ذلك العقل العبقري العجيب؟.. إننا معشر الكتبيين من دونها سنغلق متاجرنا، ونتوقف عن العمل، فليس هناك أعمال تسوق مثل أعماله.. بورك له في شفتيه.. وبورك في تلك الكاميرات وأجهزة التسجيل التي تتسابق على تسجيل صوته، والتقاط صوره..

تعجبت من قوله هذا، لأني كنت أطلب كتبه.. وقد احترت في علاقة كتبه بشفتيه وبأجهزة التسجيل والتصوير.. إلا أني خشيت أن يضحك علي صاحب المكتبة.. ويضحك معه عقل الجمهور الذي صرت مقيدا بقيوده.

ما هي إلا لحظات حتى أحضر لي صاحب المكتبة مجموعة أقراص مضغوطة.. وهو يقول: تجد هنا كل أعمال ذلك العقل العجيب.. وصدقني فإنك ستنبهر بها انبهارا كليا.. وسترى عيناك ما لم تر مثله في حياتك.

تعجبت من قوله ذلك.. وتعجبت قبله من تلك الأقراص المضغوطة.. لأني كنت أتصور أنه سيأتيني بكتب.. لكني لم أستطع أن أسأله خشية أن يضحك علي.. وقد قلت لنفسي مسليا: لعل كتبه موجودة بصيغة مصورة.. لا بأس..

دفعت الثمن، وأنا أقول للكتبي: شكرا جزيلا.. سأحاول أن أقرأ ما استطعت منها هذه الليلة.

ضحك الكتبي ملء فيه، وهو يقول: تقرؤها..عجبا لك.. في أي عصر تعيش أنت؟

قلت: الكتب تقرأ في كل العصور.. أم أنك أعطيتني كتبا مسموعة؟

عاد الكتبي للضحك، وهو يقول: ومن ذكر لك بأن العقل العجيب يكتب كتبا.. لقد تجاوزنا ذلك الزمان.. نحن في زمان الملتميديا أيها العقل القديم.

ابتسمت له، وأنا أحاول أن أظهر له بأني لا أزال أعيش هذا العصر: حتى الملتميديا نحتاج أن نقرأها.. فالأفكار تقرأ مكتوبة أو مسموعة أو مرئية.

شعر الكتبي بالخجل، وقال: معذرة لم أفهم قصدك.

وهكذا تخلصت من الطالبة والكتبي.. وذهبت إلى بيتي لأكتشف أني لم أكن أخادعهما، بل كنت أخادع نفسي.

لقد رحت لتلك الأقراص المضغوطة أشغلها، فوجدت ما انبهرت له..

لقد اكتشفت سر العبقرية في ذلك العقل العجيب.. واكتشفت معه سر ذلك الانبهار الذي أصاب الجماهير، فراحوا يسلمون له، ويخضعون.. واكتشفت مع ذلك كله سر تخلفنا عن ديننا وواقعنا.

لقد أمضيت سبع ساعات كاملة أتفرج على تلك الأقراص المضغوطة – وأنا أحمل قلمي ودفتري – بحثا عن فكرة واحدة أنتجها ذلك العقل العجيب، لعلي أطلع بها طلبتي وفاء بوعدي، فلم أجد، ولا نصف فكرة.

فقد كان ذلك العقل العجيب في كل تلك اللقاءات التي عقدت له لا يستعمل سوى ذاكرته القوية العجيبة التي انبهرت لها الجماهير..

حتى أنه كان في ذكره للأحاديث لا يكتفي بأن يذكر نص الحديث بحروفه، بل يضم إليه ذكر من خرجه من المحدثين، وذكر سنده، وأحوال الرواة، وما قال فيهم علماء الجرح والتعديل، والاتصال والانقطاع.. ونحو ذلك، وكأنه يقرأ من كتاب..

ولذلك يمضي مع كل حديث يرويه ما يقارب ربع الحصة التي عقدت له..

أما ربعها الثاني، فيذكر فيه كلام إسحق بن راهوية وسفيان الثوري والبربهاري وابن بطة وابن بطال وغيرهم ليشرح به الحديث، أو ليؤكده، أو ليذكر فيه من المعاني الجديدة ما لم يتطرق له.

أما ربعها الثالث، فكان يذكر فيه ما يحفظه من قصائد السلف والخلف برنة جميلة تهتز لها العقول والقلوب.. فقد وهب مع الذاكرة العجيبة صوتا جميلا حول به نونية القحطاني ونونية ابن القيم إلى أغنية جميلة، وسمفونية لذيذة.

وأما ربعها الرابع، فكان يخصصه لتلك الخطب الراقية التي يحفظها هي الأخرى، والممتلئة بأنواع الاستعارات والكنايات والمحسنات البديعية.. وكان يرددها بسرعة وبصوت جهوري تمتلئ له لذة وطربا، ولو لم تفهم منه حرفا واحدا.

هكذا كانت كل حصصه تمضي.. فلا يشعر المستمع لها بأي سآمة وملل.. بل يظل فاغرا فاه منبهرا به إلى آخر لحظة..

وهكذا مضت سبع ساعات قضيتها في الاستماع إليه.. لكن دفتري ظل فارغا لم أسجل فيه حرفا واحدا.. لأني لم أجد كلمة واحدة من بنات فكره يمكنني أن أقوّله إياها، فهو يبدأ كلامه بالمنقول، وينتهي بالمنقول.. ولا حظ بينهما للمعقول.

لعلكم لم تصدقوني.. أو لعلكم تريدون نماذج عن ذلك.. لا بأس.. سأنقل لكم مشهدا يختصر وصفي، وهو عن حصة خصصها العقل العجيب لأسئلة النساء، وقد قدم لها بقوله: هذه الحصة مخصصة لأسئلة النساء استنانا فيها بما ورد في الحديث الذي حدث به أبو صالح السمان – واسمه ذكوان – عن أبي سعيد قال: قال النساء للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: (غلبنا عليك الرجال، فاجعل لنا يوما من نفسك)، فوعدهن يوما لقيهن فيه، فوعظهن وأمرهن.. وفي رواية مسدد عن أبي عوانة قال: جاءت امرأة إلى رسول الله، فقالت: يا رسول الله، ذهب الرجال بحديثك، فاجعل لنا من نفسك يوما نأتي فيه تعلمنا مما علمك الله، فقال: (اجتمعن في يوم كذا وكذا، في مكان كذا وكذا)، فاجتمعن، فأتاهن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعلمهن مما علمه الله.. وقال البخاري: قال شريك عن ابن الأصبهاني قال: حدثني أبو صالح عن أبي سعيد وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم..)([1])

وهكذا أخذ يسرد الكثير من الأسانيد والروايات المتقاربة للحديث.. وبعدها أخذ يتلقى الاتصالات.. والعجيب أنها كانت من مناطق مختلفة من العالم.. وكأن تأثيره عقله العجيب قد بلغ أقاصي الأرض، ولم يكن قاصرا على البلد الذي يقيم فيه.

وكان أول اتصال ورده من أمريكا، ومن امرأة أبدت – في مقدمة كلامها – إعجابها الكبير به، ثم أخبرته أنها مقبلة على الزفاف، وأن العادة هناك أن تلبس المرأة لباسا أبيض.. وأنها تريد أن تفصل لباسا محتشما بذلك اللون.

فأجاب مباشرة – وكأنه يقلب صحفا أمامه – بقوله: لقد أفتى في ذلك العالم الجليل، والمربي الكبير، والقدوة الصالح، والطود الشامخ في العلم والزهد والصدق والإخلاص والتواضع والورع والفتوى، شيخ التفسير والعقيدة والفقه والسيرة والأصول والنحو وسائر العلوم.. الداعي إلى الله على بصيرة المشهود له بصدق العمل، ومواقف الخير والدعوة والارشاد والإفتاء، الذي أجمعت القلوب على قبوله ومحبته وفضله وعلو مرتبته فضيلة شيخنا العلامة أبو عبد الله محمد بن صالح بن محمد بن سليمان بن عبد الرحمن العثيمين الوهيبي التميمي المولود في ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان المبارك عام 1347هـ، في مدينة عنيزة إحدى مدن القصيم.. بقوله: (إن الأبيض في الحقيقة من التبرج بالزينة فإن اللباس الأبيض للمرأة يكسوها جمالاً ويوجب انطلاق النظر إليها، لذلك كونها تلبس اللباس الأسود مع العباءة أفضل لها وأكمل)([2])

قال ذلك، ثم ردد العبارة اللازمة التي يكررها بعد إجابته على كل سؤال: مرروا اتصالا آخر..

فاتصلت فتاة من ألمانيا، وقالت: أنا فتاة أقيم في ألمانيا.. وأريد الانضمام للدراسة في بعض جامعاتها.. وقد طلبوا مني شهادة تثبت قدرتي على اللغة الألمانية.. فهل يجوز لي تعلمها؟

فأجاب مباشرة من غير تريث: سؤالك يحوي على شقين..

أما أولهما، فقد أجاب عليه الشيخ محمد صالح المنجد التلميذ النجيب لكبار العلماء الربانيين في هذا العصر من أمثال الشيخ صالح بن فوزان آل فوزان، والشيخ عبد الله بن محمد الغنيمان، والشيخ محمد ولد سيدي الحبيب الشنقيطي، والشيخ عبد المحسن الزامل، والشيخ عبد الرحمن بن صالح المحمود.. وهو فوق ذلك يعتبر التلميذ النجيب للشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، وكانت علاقته به ممتدة على مدى خمس عشرة سنة، وهو الذي دفعه إلى التدريس وكتب إلى مركز الدعوة والارشاد بالدمام باعتماد التعاون معه في المحاضرات والخطب والدروس العلمية وبسبب الشيخ عبد العزيز بن باز أصبح خطيباً وإماماً ومحاضراً.

لقد أجاب هذا الشيخ الجليل تلميذ مشايخ الإسلام الكبار على سؤال شبيه بسؤالك، فقال: (وجودك – أختي السائلة – في مدرسة مختلطة حرام في الشرع؛ لأن الخلطة التي وصفتيها تكون عُرضة وسبباً للفساد المفضي إلى الفواحش المنكرة، وقد حذر الرسول k في كثير من أحاديثه الرجال من فتنة النساء، وعظم أمرهن حتى جعل فتنتهن أشد الفتن وأشد المضرات.. وفي الخلطة التي ذكرتها عدم التمكن من غض البصر، وفيه مدخل كبير لشهوة النساء للرجال وشهوتهم لهن وهذا لا يجوز بل هو رأس الفساد.. فكيف بنا نسمح لنساء هذا الزمان الذي انتشرت فيه أمراض القلوب وقلَّ الوازع الديني أن تجلس المرأة مع الرجل في مكان واحد مع عدم وجود المحرم وفي كل يوم لساعات طوال.. فاتقي الله تعالى يا أختي ولا تلتحقي بهذه المدرسة مهما كلف الأمر.. وليس هناك ضرورة تدعو إلى الخلطة، فالدراسة في هذه المدرسة ليست ضرورة ما دام أن المرأة تستطيع القراءة والكتابة، وتعلم أمور دينها فهذا يكفي؛ لأنها خلقت لهذا، أي: لعبادة الله تعالى وليس الذي بعد هذا ضرورة)([3])

أما الشق الثاني، فقد أجاب عليه العلامة الجليل أبو عبد الله محمد بن صالح بن محمد بن سليمان بن عبد الرحمن العثيمين الوهيبي التميمي المولود في ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان المبارك عام 1347هـ بقوله في شرحه لزاد المستقنع: (.. ومعلوم أن اعتياد التكلم بغير العربية حتى يكون عادة أمر غير مشروع لأن يورث محبة أهل تلك اللغة من الكفرة وهو مخالف لعقيدة الولاء والبراء من الكفار. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (واعلم أن اعتياد اللغة يؤثر في العقل والخلق والدين تأثيرًا قـويًا بينًا، ويـؤثر أيضاً في مشابهة صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين، ومشابهتهم تزيد في العقل والدين والخلق).. والذي أراه أن الذي يعلم صبيّه اللغة الإنجليزية منذ الصغر سوف يُحاسب عليه يوم القيامة؛ لأنه يؤدي إلى محبة الطفل لهذه اللغة، ثم محبة من ينطق بها من الناس؛ هذا من أدخل أولاده منذ الصغر لتعلم اللغة الإنجليزية أو غيرها من اللغات، فليتق الله من يريد جلب هذه اللغة إلى أبناء المسلمين، والله الله أن يضيع من يعول، وليتذكر قوله k: (ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاشٌ لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة) رواه مسلم. اللهم هل بلغت؟ اللهم فاشهد)([4])

وقياسا على ما ذكره الشيخ من حرمة تعلم اللغة الإنجليزية، فإني أفتي بحرمة تعلم اللغة الألمانية، لاستوائهما في العلة، فكلاهما يكتب بالحروف اللاتينية، التي هي حروف صليبية في الأساس.. مرروا سؤالا آخر..

فاتصلت امرأة من بلدة عربية لا أذكرها.. وسألته عن جواز استعمال بعض المساحيق في البيت، ولزوجها لطلبه ذلك منها، فقال الشيخ مباشرة، ومن غير تفكير ولا تأمل، فقد كان عقله يملك معالجا قويا، ويملك معه ذاكرة عجيبة.. لقد قال مجيبا لها: لقد أجاب عن سؤالك هذا العلامة الجهبذ والمحدث الكبير، ناصر السنة، وقامع البدعة، فضيلة الشيخ محمد ناصر الدين بن نوح نجاتي الألباني المولود عام 1332هـ في مدينة اشقودرة عاصمة ألبانيا آنذاك.. والفائز بجائزة الملك فيصل العالمية لعام 1419هـ في فرع الدراسات الإسلامية، نظير جهده واجتهاده وتفانيه في خدمة الإسلام والعناية بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فقال: (لا يجوز للمرأة غير المتحجبة فضلا عن المتحجبة أن تستعمل المكياج الكافر، المكياج الفاسق، متى عرفتم شيء من زينة النساء يسمى باسم ماأنزل الله به من سلطان [المكياج] هذه لغة مانعرفها لا نحن ولا أباؤكم من قبل، وإنما هو لفظة أجنبية تعبر عن زينة لفساق، نساء فاسقات، نساء أوربا، فتشبهت نساؤنا مع الأسف إلا من عصم الله منهن بالتزين بهذه الزينة التي تأثر المجتمع الإسلامي بها ألا وهي المكياج فلا يجوز للمرأة)([5]).. مرروا اتصالا آخر..

اتصلت امرأة من فرنسا تسأل عن الحقائب اليدوية التي تحملها النساء في العادة، فقال من غير حاجة للتكفير: لقد أجاب عن هذه المسألة الخطيرة، والتي تعم بها البلوى شيخنا العلامة المحدث مقبل بن هادي بن قايدة الهمداني الوادعي الخلالي من قبيلة آل راشد بسؤال فحواه: (شاع في هذه الأيام بين النساء عند خروجهن حمل حقائب يدوية وأحيانا لا يكون فيها شيء وليست بحاجة إليها، فما حكم هذه العادة، وهل يكن متشبهات بالكافرات أم لا؟)، فأجاب بقوله: (إذا كان هذا الأمر جاء من قبل أعداء الإسلام فهو تشبه بأعداء الإسلام، ومن تشبه بقوم فهو منهم)([6]).. مرروا اتصالا آخر..

اتصلت امرأة من كندا تسأل عن حكم لبس المرأة الكعب العالي، فأجاب العقل العجيب بقوله: لقد سئلت بمثل هذا السؤال اللجنة الدائمة للفتوى والمشكلة من كبار العلماء السلفيين من أمثال عبد الله بن قعود، وعبد الله بن غديان، وعبد الرزاق عفيفي، وعبد العزيز بن عبد الله بن باز، وذلك في السؤال الذي يحمل رقم (1678)، فأجابت بقولها: (لبس الكعب العالي لا يجوز؛ لأنه يعرض المرأة للسقوط، والإنسان مأمور شرعا بتجنب الأخطار)([7]).. مرروا اتصالا آخر..

اتصلت امرأة من جنوب إفريقيا، وسألت: (هل يجوز للمرأة شرعا أن تقص شعرها؟)، فأجاب العقل العجيب بقوله: لقد سئلت بمثل هذا السؤال اللجنة الدائمة للفتوى والمشكلة من كبار العلماء السلفيين من أمثال عبد الله بن قعود، وعبد الله بن غديان، وعبد الرزاق عفيفي، وعبد العزيز بن عبد الله بن باز، وذلك في السؤال الذي يحمل رقم (5007) فأجابت بقولها: (لا يجوز لها أن تقص أو تحلق شعر حواجبها أو شعر رأسها إلا لضرورة تدعو إلى ذلك كعلاج جروح بالرأس أو الحاجب يتوقف علاجها على قص الشعر أو بعضه فيجوز ذلك بقدر الحاجة، ويجب لها أن تزيل شعر وجهها وسائر جسدها بنتف أو نورة أو نحو ذلك ما عدا الرأس والحاجبين)([8]).. مرروا اتصالا آخر..

اتصلت امرأة من السودان، وسألت: (ما حكم زغاريد النساء في الأفراح؟)، فأجاب العقل العجيب من غير تردد: لقد أجاب على ذلك فضيلة صالح بن فوزان بن عبد الله من آل فوزان من أهل الشماسية الوداعين من قبيلة الدواسر، المولود عام 1354 هـ، والذي توفي والده وهو صغير، فتربى في أسرته، وتعلم القرآن الكريم، وتعلم مبادىء القراءة والكتابة على يد فضيلة الشيخ: حمود بن سليمان التلال، الذي تولى القضاء أخيرا في بلدة ضرية في منطقة القصيم.. بقوله: (لا يجوز للمرأة رفع صوتها بحضرة الرجال؛ لأن في صوتها فتنة؛ لا بالزغردة، ولا غيرها، ثم إن الزغردة ليست معروفة عند كثير من المسلمين لا قديمًا ولا حديثًا؛ فهي من العادات السيئة التي ينبغي تركها، ولما تدل عليه أيضًا من قلة الحياء)([9])

هذا مجرد مشهد من المشاهد التي ظللت ساهرا معها تلك الليلة، وأنا ممتلئ إعجابا بذلك العقل الذي يحوي أكبر ذاكرة تخزين في الدنيا، ويحمل معها أكبر برسيسور.. عفوا.. معالج في الدنيا.. ويحمل معهما أكبر رام.. عفوا.. ذاكرة عشوائية في العالم أجمع..

لكني في الصباح وبعد استيقاظي أخذتني الحيرة كل مأخذ، فما عساي أقول لتلك الطالبة، وكيف أواجه إلحاحها الشديد.. وما عساي أقول لزملائها، وقد وعدتهم أن أخصص لهم حصة حول ذلك العقل العجيب..

لكني الفنون التي تعلمتها من زملائي من الأساتذة راحت تتداركني.. وقد نجحت في تطيبقها أيما نجاح..

لقد ذهبت إلى الحصة، وأنا مرفوع الرأس، مع أنه لم يكن في عقلي أي معلومة أقدمها لهم عن ذلك العقل العجيب، ولا عن غيره من العقول..

وبمجرد دخولي إلى القاعة طلبت من الطالبة صاحبة السؤال أن تصعد، ثم قلت لزملائها: إن التعليم الجامعي لا يعتمد على التلقين بقدر ما يعتمد على تكوين القدرات، وتشكيل الكفاءات.. ولذلك فقد اخترت أحسن عضو في هذا القسم ليقدم لكم درسا، وتناقشوه فيه.. وهو حول العقل العجيب الذي وعدتكم بتخصيص حصة عنه.. وقد آثرت أن يكون الحديث عنه من طرف زميلتكم الباحثة العبقرية التي أعتقد جازما أن لها قدرات لا تقل عن أعجب العقول..

قلت ذلك.. ثم جلست مكان الطالبة.. وتركتها تقع في الحفرة التي حفرتها لي.


([1]) الجمع بين الصحيحين (2/ 447)

([2])  مجموع فتاوى ورسائل العثيمين(22/180)

([3])  موقع الإسلام سؤال وجواب.

([4])  شرح زاد المستقنع – كتاب النكاح – الشريط الثاني الوجه الثاني، وهو في الكتاب المطبوع مع بعض التغيير، انظر: الشرح الممتع على زاد المستقنع (12/ 43)

([5])  سلسلة الهدى والنور شريط (697)

([6])  غارة الأشرطة (1/102)

([7])  فتاوى اللجنة الدائمة (17/ 123)

([8])  فتاوى اللجنة الدائمة (5/ 201)

([9])  المنتقى من فتاوى الفوزان (60 / 10)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *