عالم الأفكار وعالم الأشخاص

عالم الأفكار وعالم الأشخاص

من خلال مساجلاتي السابقة حول هوكينغ رأيت أكثر المنبهرين به لا ينطلقون من حقائق علمية، ولا من دراسة متأنية لأطروحاته وأفكاره، بل بعضهم لا يعرفها أصلا، ولم يسمع بها أبدا.. وربما لم يعرف الشخص إلا من خلال ذلك التهويل الإعلامي المرتبط به.

وعندما أتيحت له الفرصة للنظر إليه اكتفي بالنظر إلى شخصه وإعاقته، وانشغل بمشاعره الأليمة نحو إعاقته الجسدية عن الألم على إعاقته الفكرية التي هي أحوج إلى الحزن منها من الإعاقة الجسدية.

وهذا ما يبين مدى التخلف الذي نعيش فيه.. فنحن ننبهر بالأشخاص، لا بالأفكار، ونعيش عالم الأجساد، لا عالم الأرواح.. ولذلك يستعمل الغرب معنا وسائل الإثار الجسدية أكثر مما يستعمل وسائل الإقناع الفكري.. لأننا ببساطة نستعمل مشاعرنا أكثر مما نستعمل عقولنا.

ولهذا راح يعزف بواسطة شخص هوكينغ على الكثير من الأوتار..

أولها هو انبهارنا بالغرب وخصوصا أمريكا وتطورها العلمي الذي جعلها تحول من إنسان معاق لا قدرة له على الكلام ولا الحركة إلى باحث وكاتب وفيزيائي ورياضي وفليسوف.. وعبقري زمانه.. والانبهار بأمريكا هو المقدمة للسقوط في مشاريعها، والتحول إلى أداة من أدواتها.

وثانيها هو الانبهار بالشخص نفسه.. بإعاقته وعبقريته وتحديه.. والغفلة عن أفكاره الخطيرة جدا.. فلذلك يقدمون له الدعاية المجانية.. التي هي مقدمة للدعاية لأفكاره.

وثالثها.. وهو أخطر الجميع هو تهوين أمر الإيمان بالله.. واعتباره قضية ثانوية لا قيمة لها.. فالإنسان عندهم هو الذي يلبي شهواتهم ويقدم لهم الكثير من اللعب التي ينشغلون بها، حتى لو حطم إيمان الملايين من الناس.

فمشكلة هوكينغ ليس في كونه ملحدا.. وإنما في استغلاله لمجال تخصصه للدعوة للإلحاد.. فقد كان يخاطب الجماهير المعجبة بشخصة قائلا: لا حاجة لكم للإيمان بالله.. فقد دل العلم على أنه يمكن وعن طريق قوى بسيطة كالجاذبية أن تتخلق الأشياء من غير حاجة إلى خالق.. وهذا ما خالفه فيه كل الفيزيائيين الذين لم تتح لهم فرصة الإعاقة حتى يسمع الناس أفكارهم، ويقتنعوا بها.

وهو في ذلك يشبه الطبيب الذي يغري المرضى بالسموم التي تقتلهم.. والمرضى لا يملكون إلا طاعته.. لكونه طبيبا ومتخصصا.. ولا يتكلم في الظاهر إلا على ضوء تخصصه.

هذه هي مشكلتنا.. ولذلك استطاع الغرب أن يملي علينا حربه الناعمة.. التي لا تشمل فقط تخريب البنيان، بل تتعداه إلى تخريب الإنسان.

أرجو من الصادقين الذين جربوا عواطفهم أن يجربوا عقولهم.. وأن ينظروا إلى المسألة من زاوية أعمق.. فأنا لا أتحدث عن هوكينغ المعاق.. وإنما أتحدث عن هوكينغ الذي تحدى الله.. وراح يلغيه من الوجود.. واتبعه على ذلك الجماهير الكثيرة من الناس.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *